في الصميم

الصفحات

الثلاثاء، 13 مايو 2025

الاستراتيجية الإسرائيلية للثمانينات (2)

 الاستراتيجية الإسرائيلية للثمانينات

د.عصمت سيف الدولة

(2)

 من كتابه : دفاع عن ثورة مصر .

ملحق قدم الى المحكمة مع أصله العبري : استراتيجية لاسرائيل في الثمانينات .  

في مطلع الثمانينات تحتاج إسرائيل الى رؤية جديدة لوضعها ولأهدافها القومية في الداخل والخارج ، لقد بات ذلك ضروريا بسبب بعض الاحداث الرئيسية التي تمر بها الدولة والمنطقة والعالم .

اننا نعيش الان في المراحل الأولية لعصر جديد في تاريخ الإنسانية يختلف اختلافا تاما عن العصور السابقة ، كما أن الملامح الأساسية للمرحلة القادمة ، تختلف اختلافا جوهريا عن كل ما عرفنا حتى الان . لذلك فإننا في حاجة الى تفهم الأحداث الرئيسية والملامح الأساسية التي تتميز بها تلك المرحلة من ناحية ومن ناحية أخرى فإننا في حاجة الى تبني أفكار استراتيجية قابلة للتنفيذ وتتناسب مع الظروف الجديدة .

ان بقاء وازدهار وصمود الدولة اليهودية سوف يكون مرتبطا بقدرتها على تبني أسلوب جديد ومفهوم جديد لعملها في الداخل والخارج . ان هذا العصر يتسم ببعض السمات التي يمكننا أن نتبينها اليوم أيضا وهي تشكل تحوّلا حقيقيا عن نمط سلوكنا الحالي . ان السمة الرئيسية هي انهيار المبادئ الإنسانية والعقلانية التي لم تعد تشكل عنصرا أساسيا من عناصر بقاء ونجاح الحضارة الغربية منذ عصر النهضة . ان المبادئ السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ترتبت على هذه السمة المميزة لعالمنا قد تبنت بعض الحقائق التي أخذت اليوم في الزوال من ذلك مثلا القول بأن الفرد هو أساس الكون وأن كل ما عليه قد خصص لمواجهة متطلباته المادية . هذا القول لم يعد مقبولا في العصر الحالي لأنه من الواضح أن حجم الموارد في الكون لم يعد يفي بمتطلبات الانسان ولا باحتياجاته الاقتصادية ولا بظروفه السكانية القهرية .

في عالم يعيش به أربعة مليارات نسمة بينما موارده في مجال الاقتصاد والطاقة لا تنمو بالقدر الذي يتناسب مع زيادة متطلبات الانسانية ، في مثل هذا العالم ، لا يمكن في الواقع الوفاء بالشرط الاساسي للمجتمع الغربي . أي الرغبة في الاستهلاك غير المحدود . ان القول بأن الأخلاق لا تلعب أي دور في تحديد سلوك الانسان الا حينما يتعلق باحتياجاته المادية لم يعد له ما يبرره لأننا نرى بعض القيم في هذا العالم آخذة في التلاشي ، اننا نعتقد كل المعايير البسيطة جدا وخاصة فيما يتعلق بتحديد ماهية الخير والشر .

ان القول بأنه لا حدود لتطلعات ولا لقدرات الانسان لم يعد له ما يبرره بعدما رأينا انهيار نظام الكون من حولنا . ان الرأي القائل بحرية الفرد يبدو اليم مدعاة للضحك على ضوء الحقيقة المؤسفة بأن ثلاثة أرباع البشر يعيشون تحت حكم أنظمة شمولية وبذلك يتلاقى هذا الرأي مع الرأي الداعي الى المساواة والعدالة الاجتماعية الذي جعلت منه الاشتراكية الشيوعية مادة للسخرية والاستهزاء . وليس هناك شك في ايجابية هذه الآراء ولكن من الواضح أنها لم تحقق النجاح المطلوب وأن الغالبية العظمى من بني البشر قد فقدت الحرية والأمل في تحقيق المساواة والعدالة . وفي العالم الذي نعيش فيه في هدوء نسبي منذ ثلاثين سنة لم يعد هناك أي مغزى لمفاهيم الأخوة والسلام والتعايش بين الشعوب في وقت تتبنى فيه دولة عظمى مثل الاتحاد السوفياتي تلك المبادئ العسكرية والسياسية . وعليه فان حربا ذرية تصبح ممكنة وضرورية من أجل تحقيق الأهداف الماركسية . ليس هذا فحسب وانما يجب أيضا الخروج من هذه الحروب والانتصار فيها ..

ان المفاهيم الأساسية للمجتمع الانساني وخاصة في الغرب ، قد تغيرت اليوم على اثر التغيرات السياسية والعسكرية والاقتصادية الثورية ، وبذلك فان القوة الذرية وغير الذرية للاتحاد السوفييتي ، تجعل من هذ النصر مرحلة ما قبل العاصفة الكبرى التي من شأنها أن تدمر وتخرب القسم الأكبر من عالمنا في حرب شاملة تعد الحروب العالمية السابقة بالنسبة لها لعب أطفال . ان قوة السلاح الذري وغير الذري وما طرأ عليه من تطور ودقة من حيث نوعيته سوف يقلب الجزء الأكبر من عالمنا رأسا على عقب بكل ما للكلمة من معنى خلال سنوات معدودة ويجب أن نكون مستعدين لذلك في اسرائيل أيضا . ان هذا هو التهديد الرئيسي لوجودنا ولوجود سائر العالم الغربي . 

ان حرب الموارد في العالم وليس فقط احتكار العرب للبترول وحاجة الغرب كله لاستيراد معظم احتياجاته من المواد الخام من العالم الثالث ، كلها أمور قد تجعل عالمنا يختلف عن ذلك الذي عرفناه . ويتجلى لنا أن من بين الأهداف الرئيسية للاتحاد السوفييتي أن يتحكم في الغرب عن طريق السيطرة على موارد الطاقة الضخمة في الخليج الفارسي وفي جنوب القارة الافريقية حيث توجد أكبر كميات في العالم من المعادن . اننا نستطيع أن نتصور ونتخيل أبعاد المواجهة الشاملة التي تنتظرنا في المستقبل .

ان نظرية جورشكوف تدعو الى فرض السيطرة البحرية السوفييتية على المحيط الهادئ وعلى مناطق العالم الثالث الغنية بالمواد . والى جانب النظرية السوفييتية الذرية الحالية القائلة بأنه يمكن شن حرب ذرية والانتصار فيها والخلاص منها في الوقت الذي يتم فيه القضاء على القوة العسكرية الغربية وتسخير بقايا سكان الغرب لخدمة الأهداف الماركسية اللينينية هي أخطر ما يهدد سلام العالم ووجودنا نحن . 

لقد اتخذ السوفييت منذ عام 1967 من قول كلاوزوفيتش "ان الحرب هي استمرار للسياسة ولكن بالوسائل الذرية" الى شعار يتحكم في رسم كل سياساتهم . وهم اليوم ينفذون أهدافهم في منطقتنا وفي العالم كله ، وان ضرورة التصدي لهم قد اصبحت تشكل عنصرا اساسيا لدى رسمنا لأية سياسة أمنية لدولتنا ولسائر دول العالم الحر . ان هذا هو التحدي الخارجي الرئيسي الذي يواجهنا .

ان العالم العربي والاسلامي ليس اذن المشكلة الأساسية التي سوف تواجهنا في الثمانينات ولكنه أيضا يشكل أكبر تهديد لإسرائيل بسبب قوته العسكرية الاخذة في التعاظم . ان هذا العالم بطوائفه وأقلياته وتقسيماته ونزعاته الداخلية والتي تتسبب في دمار داخلي لا حدود له مثلما نشاهد في لبنان وايران غير العربية وفي سوريا أيضا لم يعد قادرا على مواجهة مشكلاته الاساسية الشاملة ، ولذلك فانه لا يشكل اي تهديد حقيقي لدولة اسرائيل على المدى البعيد ، بل على المدى القصير فقط بسبب تزايد قوته العسكرية ، على صورته الحالية في المناطق المحيطة بنا دون أن يتعرض لتقلبات حقيقية . ان العالم العربي الاسلامي هو بمثابة برج من الورق أمامه الأجانب (فرنسا وبريطانيا في العشرينات) دون أن توضع في الحسبان رغبات وتطلعات سكان هذا العالم . لقد قسم هذا العالم الى 19 دولة كلها تتكوّن من خليط من الأقليات والطوائف المختلفة والتي تعادي كل منها الأخرى وعليه فان كل دولة عربية اسلامية معرضة اليوم لخطر التفتت العرقي والاجتماعي في الداخل الى حد الحرب الداخلية كما هو الحال في بعض هذه الدول .

ان معظم العرب 118 مليون من أصل 170 مليون يعيشون الان في افريقيا والجزء الأكبر من هذا العدد (45 مليون) يعيشون في مصر . وبخلاف مصر فان جميع دول المغرب يتكون من خليط من العرب والبربر من غير العرب . ففي الجزائر هناك حرب أهلية في المناطق الجبلية بين الشعبين الذين يكونان هذا البلد ، كما في المغرب والجزائر بينهما حرب بسبب المستعمرة الصحراوية الاسبانية بالإضافة الى الصراعات الداخلية التي تعاني منها كل منهما . كما أن التطرف الاسلامي يهدد وحدة تونس ، والقذافي يشن حروبه المدمرة ضد العرب أنفسهم انطلاقا من دولة تكاد تخلو من وجود السكان يمكن أن يشكلوا قومية قوية وذات نفوذ ومن هنا جاءت محاولة لعقد اتفاقيات باتحاد مع دول حقيقية كما حدث في الماضي مع مصر ويحدث اليوم مع سوريا . وأما السودان أكثر دول العالم العربي الاسلامي تفككا فإنها تتكون من أربع مجموعات سكانية كل منها غريبة عن الأخرى ، فمن أقلية عربية مسلمة مقابل أقلية كبيرة من المسيحيين الذين يشكلون الأغلبية في مصر العليا ، حوالي 8 مليون نسمة . وكان السادات قد أعرب في خطابه في مايو عام 1980 عن خشيته من أن تطالب هذه الأقلية بقيام دولتها الخاصة أي دولة لبنانية مسيحية جديدة في مصر ..

ان جميع الدول العربية الموجودة الى الشرق من اسرائيل مقسمة ومفككة من الداخل أكثر من تلك التي في الغرب . ان سوريا لا تختلف اختلافا جوهريا عن لبنان الطائفية باستثناء النظام العسكري القوي الذي يحكمها ، ولكن الحرب الداخلية الحقيقية اليوم بين الأغلبية السنية والأقلية الحاكمة من الشيعة العلويين الذين يشكلون 12% فقط من عدد السكان تدل على مدى خطورة المشكلة الداخلية .

ان العراق لا تختلف كثيرا عن جاراتها ولكن الأغلبية فيها من الشيعة والأقلية من السنة . ان 65 % من السكان ليس لهم أي تأثير على الدولة التي تشكل الفئة الحاكمة فيها 20 % الى جانب الأقلية الكردية الكبيرة في الشمال . ولو لا القوة العسكرية للنظام الحاكم وأموال البترول لما كان بالإمكان أن يختلف مستقبل العراق عن ماضي لبنان وحاضر سوريا . ان بشائر الفرقة والحرب الأهلية تلوح فيها اليوم خاصة بعد تولي الخميني الحكم والذي يعتبر في نظر الشيعة العراقيين زعيمهم الحقيقي وليس صدام حسين . 

ان جميع امارات الخليج وكذلك السعودية قائمة على بناء هش ليس فيه سوى البترول . وأما في الكويت فان الكويتيين يشكلون ربع عدد السكان فقط ، وفي البحرين يشكل الشيعة أقلية السكان ولكن لا نفوذ لهم . وفي دولة الامارات العربية المتحدة يشكل الشيعة أغلبية السكان وكذلك الحال في عمان وفي اليمن الشمالية وكذلك في جنوب اليمن الماركسية توجد أقلية شيعية كبيرة . وفي السعودية نصف السكان من الأجانب المصريين واليمنيين وغيرهم بينما القوى الحاكمة هي اقلية من السعوديين .

والأردن هي في الواقع فلسطينية حيث الأقلية البدوية من الأردنيين هي المسيطرة ولكن غالبية الجيش من الفلسطينيين وكذلك الجهاز الاداري . وفي الواقع تعد عمان فلسطينية مثلها مثل نابلس . في جميع هذه الدول جيوش قوية وواسعة النفوذ . ان غالبية الجيش السوري اليوم من السنة بينما القيادة علوية وأما الجيش العراقي ففي معظمه يتكون من الشيعة بينما القيادة سنية . ان لهذه الحقيقة مغزى عظيم على المدى البعيد ، وعليه فلن يكون بالإمكان ضمان ولاء الجيش لفترة طويلة الا فيما يتعلق بالقاسم المشترك والعنصر الوحيد الذي يتفق عليه الجميع ، وهو العداء لإسرائيل ، وحتى هذا الأمر لم يعد كامنا اليوم .

والى جانب العرب المنقسمين أنفسهم فان الوضع هو نفسه في الدول الاسلامية . فايران تتكون من النصف المتحدث بالفارسية والنصف الاخر تركي من الناحية العرقية واللغوية وفي طباعه ايضا . وأما تركيا منقسمة الى النصف من المسلمين السنة أتراك الأصل واللغة ، والنصف الثاني اقليات كبيرة من 12 مليون شيعي علوي و6 مليون كردي سني . وفي أفغانستان خمسة ملايين من الشيعة يشكلون حوالي ثلث عدد السكان . وفي باكستان السنية حوالي 15 مليون شيعي يهددون كيان هذه الدولة .

ان هذا العرض للحالة القومية العرقية والطائفية الممتدة من المغرب وحتى الهند ومن الصومال وحتى تركيا يشير الى عدم الاستقرار والى التفتت السريع في جميع أرجاء المنطقة من حولنا . واذا ما أضفنا الى ذلك الوضع الاقتصادي يتبين لنا كيف أن المنطقة كلها في الواقع بناء مصطنع كبرج الورق لا يمكنه التصدي للمشكلات الخطيرة التي تواجهه .

في هذا هذا العالم الضخم ، والمشتت توجد جماعات قليلة من واسعي الثراء وجماهير غفيرة من الفقراء . ان معظم العرب متوسط دخلهم السنوي حوالي 300 دولار في العالم ، هكذا الحال في مصر وسائر دول المغرب باستثناء ليبيا وفي دول المشرق باستثناء العراق . أما لبنان فإنها مقسمة ومنهارة اقتصاديا لكونها دولة ليس بها سلطة موحدة بل خمس سلطات سيادية (مسيحية في الشمال تؤيدها سوريا وتتزعمها أسرة فرنجية ، وفي الشرق منطقة احتلال سوري مباشر وفي الوسط دولة مسيحية تسيطر عليها الكتائب والى الجنوب منها وحتى نهر الليطاني دولة لمنظمة التحرير الفلسطينية هي في معظمها من الفلسطينيين ثم دولة الرائد سعد حداد من المسيحيين وحوالي نصف مليون من الشيعة) . وأما سوريا فهي في وضع أكثر خطورة وحتى المساعدات التي سوف تقدم لها مستقبلا بعد الاتحاد مع ليبيا لن تكفي للتصدي لمشكلات المجتمع وللإنفاق على جيش بهذا الحجم واصلاح الاقتصاد المنهار . أما مصر فهي أخطر الحالات حيث الملايين من السكان على حافة الجوع نصفهم يعانون من البطالة وقلة السكن في ظروف تعد أعلى نسبة تكدس سكان في العالم . وبخلاف الجيش فليس هناك أي قطاع يتمتع بقدر من الانضباط والفعالية والدولة في حالة دائمة من الافلاس بدون المساعدات الخارجية الامريكية التي خصصت لها بعد اتفاقية السلام .

ان دول الخليج والسعودية وليبيا تعد أكبر مستودع في العالم للبترول والمال ولكن المستفيد بكل هذه الثروة هي اقليات محدودة لا تستند الى قاعدة عريضة وأمن داخلي وحتى الجيش ليس باستطاعته أن يضمن لها البقاء . وان الجيش السعودي بكل ما لديه من عناد لا يستطيع تأمين الحكم ضد الأخطار الفعلية من الداخل والخارج ، وما حدث في مكة عام 1980 ليس سوى مثال لما قد يحدث . ان هذه صورة قائمة وعاصفة جدا للوضع من حول اسرائيل وتشكل بالنسبة لإسرائيل تحديات ومشكلات وأخطار ولكنها تشكل أيضا فرصا عظيمة تتاح لأول مرة منذ عام 1967 .

ان الفرص والاحتمالات التي أهدرت آنذاك يمكن تحقيقها في الثمانينات بمعدلات لا يمكننا أن نتخيلها اليوم .

ان سياسة السلام واعادة المناطق والأراضي والارتباط بالولايات المتحدة تحول دون تحقيق واقتناص الفرص الجديدة التي ظهرت لنا . فمنذ عام 1967 أخضعت حكومات اسرائيل أهدافها القومية لمتطلبات الحكم المحدودة جدا وللتيارات الفكرية المدمرة في الداخل والتي حدّت من قدرتنا على التحرك على الصعيدين الداخلي والخارجي . ان عدم اتخاذ خطوات ازاء السكان العرب للمناطق الجديدة التي اكتسبناها في حرب فرضت علينا هو أكبر خطأ استراتيجي ارتكبته اسرائيل غداة حرب الايام الستة . وفي مقابل هذا الخطأ الذي كان تفاديه سيجنبنا كل هذا الصراع الحاد والخطير منذ نهاية الحرب وحتى الان فقد كان باستطاعتنا أيضا آنذاك أن نحسم هذا النزاع عن طريق اعطاء الاردن للفلسطينيين الذين أقاموا غربي نهر الأردن . وبذلك كنا سنتمكن من تحجيم المشكلة الفلسطينية التي تواجهنا اليوم والتي أوجدنا لها حلولا غير عملية مثل التنازل عن الارض مقابل السلام أو الحكم الذاتي . واليوم تلوح لنا فرصة عظيمة تمكننا من تغيير الوضع بشكل جوهري وهذا ما يجب أن نفعله في العقد القادم والا فإننا لن نستطيع الحفاظ على كياننا كدولة .

ان اسرائيل سوف تضطر في الثمانينات الى اجراء تغييرات جوهرية على بنائها السياسي والاقتصادي الداخلي الى جانب تغيرات راديكالية على سياستها الخارجية حتى تتمكن من الصمود في وجه التحديات الدولية الاقتصادية والاقليمية التي يتسم بها هذا العصر الجديد . ان فقداننا لحقول البترول الواقعة على خليج السويس وكذلك فقداننا للاحتياطي الهائل من البترول والغاز والخدمات الطبيعية التي تتمتع بها شبه جزيرة سيناء والتي يطابق تكوينها الجيولوجي تكوين دول نفطية غنية في المنطقة سوف يؤدي بنا الى الاختناق مستقبلا فيما يتعلق بمصادر الطاقة وكذلك الى تدمير الاقتصاد الداخلي وذلك لأن ما يعادل ربع الدخل القومي أو ثلث الميزانية سوف يخصص لشراء احتياجاتنا من البترول . كما أن الكشف عن خامات البترول في النقب والسهل الساحلي لن يؤدي على المدى القريب الى تغيير الوضع .

ان استعادة شبه جزيرة سيناء بما تحتويه من موارد طبيعية ومن احتياطي يجب اذن أن يكون هدفا اساسيا من الدرجة الاولى اليوم الا أن اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام تحول دون تحقيق هذا الهدف والسبب كما هو مفهوم هو حكومة اسرائيل الحالية وكذلك هؤلاء الذين مهدوا الطريق لسياسة اعادة السلام بعد اعادة سيناء ، واعني بذلك حكومات العمل منذ عام 1967 . ان المصريين لن يلتزموا باتفاقية السلام بعد اعادة سيناء ، وسوف يفعلون كل ما في وسعهم لكي يعودوا الى أحضان العالم العربي والاتحاد السوفياتي وذلك بسبب أهمية العالم العربي والمساعدات العسكرية السوفياتية لهم . ان المساعدات الأمريكية هي قصيرة المدى ، الى ان يتحقق السلام ، كما ان ضعف موقف الولايات المتحدة ذاتها على الصعيدين الداخلي والخارجي سوف يؤدي الى ذلك . وعليه فإننا بدون البترول وعائداته وبسبب المبالغ الطائلة التي ننفقها اليوم لتوفيره فإننا لن نستطيع الصمود على الوضع الحالي لأكثر من عام 1982 وسوف نضطر الى العمل لإعادة الاوضاع في سيناء الى ما كانت عليه قبل مجيء السادات واتفاقية السلام التي لم يكن هناك ما يبررها والتي تم التوقيع عليها معه في مارس من عام 1979 .

ان أمام اسرائيل طريقين لتحقيق هذا الهدف ، احداهما مباشرة والاخرى غير مباشرة . أما المباشرة فهي الاقل واقعية بسبب طبيعة اسرائيل وحكمة السادات الذي يعد انسحابنا من سيناء هو أهم انجاز له منذ اعتلاءه لسدة الحكم بعد حرب 1973 . ان اسرائيل لن تكون البادئة بالإخلال ببنود الاتفاقية لا اليوم ولا في عام 1982 الا اذا كانت واقعة تحت ضغوط شديدة اقتصادية وسياسية ، واذا اعطتها مصر ذريعة لكي تستولي على سيناء للمرة الرابعة في تاريخنا القصير . ويبقى اذن الخيار الثاني . ان الوضع الاقتصادي في مصر وطبيعة نظام الحكم وسياسة القومية العربية سوف تؤدي بعد أبريل 1982 الى وضع تجد فيه اسرائيل نفسها مضطرة للحل بشكل مباشر أو غير مباشر من اجل استعادة سيناء الى احضان اسرائيل لاحتياطي استراتيجي للمدى البعيد في مجال الاقتصاد والطاقة . ان مصر لا تشكل خطرا عسكريا استراتيجيا على المدى البعيد بسبب تفككها الداخلي ومن الممكن اعادتها الى الوضع الذي كانت عليه بعد حرب يونية 1967 بطرق عديدة .

ان اسطورة مصر القوية والزعيمة للدول العربية قد تبددت في عام 1956 وتأكد زوالها في عام 1967 . ولكن سياستنا المتمثلة في اعادة سيناء قد ادت الى تحول الاسطورة الى واقع اليوم . ولكن الحقيقة ان قوة مصر بالنسبة لإسرائيل وحدها أو بالنسبة لكل العالم العربي قد هبطت منذ عام 1967 بحوالي 50 % ولم تعد الزعيمة السياسية للعالم العربي ، كما أن بإمكانياتها الاقتصادية الواهنة وبدون المساعدات الاقتصادية الخارجية يمكن ان تنهار غدا وعلى المدى القصير . بعد اعادة سيناء ، استعادت مصر بعض قوتها على حسابنا ولكن ذلك لن يطول الى أبعد من عام 1982 . ان الأمر لا يغير الموازين لصالحها بل ربما يؤدي الى الدمار . ان مصر بطبيعتها وبتركيبتها السياسية الداخلية الحالية هي بمثابة جثة هامدة فعلا بعد سقوطها وذلك بسبب التفرقة بين المسلمين والمسيحيين والتي سوف تزداد حدتها في المستقبل . ان تفتيت مصر الى اقاليم جغرافية منفصلة هو هدف اسرائيل السياسي في الثمانينات على جبهتنا الغربية .

ان مصر المفككة والمقسمة الى عناصر سيادية متعددة ، على عكس ما هي عليه الان ، سوف لا تشكل اي تهديد لإسرائيل بل ستكون ضمانا للزمن والسلام لفترة طويلة ، وهذا الأمر هو اليوم في متناول ايدينا . ان دول مثل ليبيا والسودان والدول الأبعد منها سوف لا يكون لها وجود بصورتها الخالية ، بل ستنضم الى حالة التفكك والسقوط التي ستتعرض لها مصر . فاذا ما تفككت مصر فستتفكك سائر الدول الاخرى . ان فكرة انشاء دولة قبطية مسيحية في مصر العليا الى جانب عدد من الدويلات الضعيفة التي تتمتع بالسيادة الاقليمية في مصر بعكس السلطة والسيادة المركزية الموجودة اليوم ، هي وسيلتنا لإحداث هذا التطور التاريخي والذي أعاقت معاهدة السلام تحقيقه ، ولكن لا يبدو بعيد المنال على المدى البعيد .

ان الجبهة الغربية التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها مكمن الخطر هي في الحقيقة أقل خطورة من الجبهة الشرقية التي تتوافر فيها جميع الاشتراطات التي نتمنى وجودها في الجبهة الغربية ونراها تتداعى اليوم امام اعيننا . ان التفتت التام للبنان الى خمس مقاطعات اقليمية يجب ان يكون سابقة لكل العالم العربي بما في ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية . ان تفكك سوريا والعراق في وقت لاحق الى اقاليم ذات طابع قومي وديني مستقل كما هو الحال في لبنان هو هدف اسرائيل الاسمى في الجبهة الشرقية على المدى القصير فسوف تتفتت سوريا تبعا لتركيبها العرقي والطائفي الى دويلات عدة كما هو الحال الان في لبنان . وعليه فسوف تظهر على الشاطئ دويلة علوية وفي منطقة حلب دويلة سنية وفي منطقة دمشق دويلة سنية أخرى معادية لتلك التي في الشمال وأم الدروز فسوف يشكلون دويلة في الجولان التي نسيطر عليها وكذلك في حوران وشمال الاردن وسوف يكون ذلك ضمانا للأمن والسلام في المنطقة بكاملها على المدى القريب . وهذا الامر هو اليوم في متناول ايدينا .

ان العراق الغنية بالبترول والتي تكثر فيها الفرقة والعداء الداخلي هي المرشح المثالي لتحقيق اهداف اسرائيل . ان تفتيت العراق هو أهم بكثير من تفتيت سوريا وذلك لان العراق اقوى من سوريا . ان في قوة العراق خطورة على اسرائيل في المدى القريب اكبر من الخطورة النابعة من قوة اية دولة اخرى . ان قيام حرب عراقية سورية أو عراقية ايرانية من شأنه أن يفتت العراق ويؤدي بها الى انهيار داخلي قبل ان تتمكن من تشكيل جبهة صراع عريضة ضدنا . ان اي نوع من المواجهة بين دول عربية بعضا البعض سوف يساعدنا على الصمود على المدى القريب ويقصر الطريق المؤدي الى تحقيق الهدف الاسمى وهو تفكيك العراق الى عناصر كما هو الحال بالنسبة لسوريا ولبنان . وسوف يصبح بالإمكان تقسيم العراق الى مقاطعات اقليمية طائفية كما حدث في سوريا في العصر العثماني ، وبذلك يمكن اقامة ثلاث دويلات (او أكثر) حول المدن العراقية في البصرة وبغداد والموصل بينما تنفصل المناطق الشيعية في الجنوب عن الشمال السني الكردي في معظمه . ومن المحتمل ان تؤدي الحرب الايرانية العراقية الدائرة اليوم الى زيادة الاستقطاب .

ان شبه الجزيرة العربية بكاملها يمكن أن تكون خير مثال للانهيار والتفكك كنتيجة لضغوط من الداخل ومن الخارج ، وهذا الامر في مجمله ليس بمستحيل على الاخص بالنسبة للسعودية سواء دام الرخاء الاقتصادي المترتب على البترول أو قل في المدى القريب . ان الفوضى والانهيار الداخلي هي أمور حتمية وطبيعية على ضوء تكوين الدول القائمة على غير اساس . وكذلك الحال بالنسبة للاردن ، فهي هدف استراتيجي وعاجل للمدى القريب وليس للمدى البعيد وذلك لأنها لن تشكل أي تهديد حقيقي على المدى البعيد بعد تفتيتها ووضع نهاية لحكم الملك حسين الذي طال ، ونقل السلطة الى ايدي الفلسطينيين على المدى القصير .

ان من غير الممكن أن يبقى الاردن على حالته وتركيبته الحالية لفترة طويلة لأن سياسة اسرائيل - اما بالحرب أو بالسلم - يجب أن تؤدي الى تصفية الحكم الاردني الحالي ونقل السلطة الى الأغلبية الفلسطينية . ان تغيير السلطة شرق نهر الأردن سوف يؤدي ايضا الى حل مشكلة المناطق المكتظة بالسكان العرب غربي النهر سواء بالحرب أو في ظروف السلم . ان زيادة معدلات الهجرة من المناطق وتجميد النمو الاقتصادي والسكاني فيها هو الضمان لإحداث التغيير المنتظر على ضفتي نهر الاردن ويجب أن نكون نشطين لكي نجعل إحداث هذا التغيير في اقرب وقت ممكن . ويجب ايضا عدم الموافقة على مشروع الحكم الذاتي أو اي تسوية أو تقسيم للمناطق وذلك لأنه بعد اعلان خطة منظمة التحرير الفلسطينية وخطة عرب اسرائيل أنفسهم ومشروع شنا عمرو في سبتمبر من عام 1980 لم يعد بالإمكان العيش في هذه البلاد في الظروف الراهنة دون الفصل بين الشعبين بحيث يكون العرب في الاردن واليهود في المناطق الواقعة غربي النهر . ان التعايش والسلام الحقيقي سوف يسودان البلاد فقط اذا فهم العرب بانه لن يكون لهم وجود ولا أمن دون التسليم بوجود سيطرة يهودية على المناطق الممتدة من النهر الى البحر ، وان أمنهم وكيانهم سوف يكونان في الاردن فقط .

ان التمييز في دولة اسرائيل بين حدود عام 1967 وحدود عام 1948 لم يكن له أي مغزى بالنسبة لعرب اسرائيل ولم يعد له أي مغزى بالنسبة لنا ايضا . ويجب التعامل مع المشكلة كاملة دون تقسيم الحدود تبعا للمراحل الزمنية مثل حدود 1967 . وفي اي وضع سياسي أو عسكري مستقبلي يجب أن يكون واضحا بان حل مشكلة عرب اسرائيل سوف يأتي فقط عن طريق قبولهم لوجود اسرائيل ضمن حدود امنة حتى نهر الاردن وما بعده تبعا لمتطلبات وجودنا في العصر الصعب - العصر الذي ينتظرنا قريبا - فليس بالإمكان الاستمرار في وجود ثلاثة أرباع السكان اليهود على الشريط الساحلي الضيق والمكتظ بالسكان في العصر الذري .

 ان اعادة توزيع السكان هو اذن هدف استراتيجي داخلي من الدرجة الاولى وبدون ذلك فسوف لا نستطيع البقاء في المستقبل في اطار اي نوع من الحدود . ان مناطق يهودا والسامرة والجليل هي الضمان الوحيد لبقاء الدولة ، واذا لم نشكل اغلبية في المنطقة الجبلية فاننا لن نستطيع السيطرة على البلاد وسوف نصبح مثل الصليبيين الذين فقدوا هذه البلاد التي لم تكن ملكا لهم في الاصل وعاشوا غرباء فيها منذ البداية . ان اعادة التوازن السكاني الاستراتيجي والاقتصادي لسكان البلاد هو الهدف الرئيسي والاسمى لإسرائيل اليوم . ان السيطرة على المصادر المائية من بئر السبع وحتى الجليل الاعلى هي بمثابة الهدف القومي المنبثق من الهدف الاستراتيجي الاساسي والذي يقضي باستيطان المناطق الجبلية التي تخلو من اليهود اليوم .

ان تحقيق أهدافنا على الجبهة الشرقية مرتبط بتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي الداخلي كما ان تغيير البناء السياسي والاقتصادي الداخلي لكي يتطابق مع تحقيق الاهداف الاستراتيجية هو مفتاحنا لإنجاز التغيير المطلوب بكامله . ويجب أن يكون هناك تحول من اقتصاد مركزي تلعب الحكومة فيه دورا اساسيا الى اقتصاد منفتح وحر يصاحبه الانتقال من التبعية الاقتصادية لإسرائيل لدافع الضرائب الامريكي الى تطوير بنية اساسية حقيقية وخلاقة على الصعيد الاقتصادي الداخلي اعتمادا على قدراتنا الذاتية . واذا لم يكن بالإمكان تحقيق هذا التغيير بدافع وبمبادرة ذاتية فان الاحداث وخاصة التطورات السياسية والاقتصادية المتعلقة بمصادر الطاقة مضاف اليها عزلتنا على الصعيد الدولي ، كلها عوامل تؤدي الى ذلك .

ومن الناحية العسكرية والاستراتيجية لن يستطيع الغرب بشكل عام وعلى راسه الولايات المتحدة الصمود في وجه الضغوط السوفيتية في جميع ارجاء العالم . ولذلك فان على اسرائيل الصمود بمفردها في الثمانينات دون اية مساعدات خارجية عسكرية كانت او اقتصادية ، وهذا الامر هو في مقدورنا دون حلول وسط . ان المتغيرات السريعة في العالم سوف تؤدي بالضرورة الى تغيرات في اوضاع يهود الشتات الذين ستكون اسرائيل بالنسبة لهم ليست مجرد ملاذ أخير بل ايضا الخيار الوحيد للبقاء على قيد الحياة . ولا يمكن الافتراض بان يهود الولايات المتحدة والطوائف اليهودية الاخرى في أوروبا وأمريكا اللاتينية سوف تكون باستطاعتهم مواصلة حياتهم على نفس النمط الحالي مستقبلا .

ان وجودنا في هذه البلاد مأمون وليس باستطاعة أي قوة أن تجبرنا على الخروج منها سواء بالقوة أو بالحيلة (على طريقة السادات) ورغم الصعوبات المتعلقة بسياسة "السلام" الخاطئة ومشكلة عرب اسرائيل والمناطق فانه بالإمكان التصدي بفعالية لهذه الصعاب على المدى القريب .

الاستراتيجية الإسرائيلية للثمانينات (1)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق