الانحياز لإسرائيل .
د. عصمت سيف الدولة .
العربي العدد 742 بتاريخ 28 يناير 2001 .
فيما وراء حدود مصر الدولة ، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، عالم كامل من
الدول والشعوب والأمم المتراصة .. ويصدق هذا على كل دولة في الأرض . فإلى أي مدى
يمكن أن تمتد سيادة وإرادة أي دولة ؟ ..
تمتد سيادتها الى حدود اقليمها البري والبحري فقط لا تتجاوزه . وتمتد
ارادتها الى رعاياها فقط لا تتجاوزهم . وأقصى ما يمكن أن تطمح اليه طموحا شرعيا أن
تكون لها – وحدها – السيادة الكاملة على اقليمها كله ، وأن تكون ارادتها وحدها هي
المؤثرة في شؤون رعاياها كلهم ، حينئذ تكون دولة مستقلة ذات سيادة . أما اذا مدت
سيادتها الى ما وراء حدودها أو مدت ارادتها الى غير رعاياها فهو تجاوز تختلف
أوضاعه تبعا لمضمونه وجسامته . فقد يكون تدخلا في شؤون الدول الأخرى ، وقد يكون
اعتداء ، وقد يكون احتلالا ، وقد يكون حربا .. وفي كل هذه الحالات يكون عدوانا غير
مشروع .
على أساس ما تقدم كان الذين قبلوا ووقعوا اتفاق 26 مارس 1979 يستطيعون
الاحتجاج على أي نقد يأتي من خارج مصر بأن مصر قد تصرفت في حدود اقليمها ، وأن من
حقها كدولة مستقلة ذات سيادة أن تختار لنفسها ، وأن ليس للدول العربية ولا لغيرها
، أن تتدخل في شؤونها الداخلية أو أن تفرض عليها مواقف لا تريدها ، وأنها اذا نقضت
الاتفاقات والمواثيق والقرارات الجماعية التي كانت تربطها بالدول العربية لم تفعل
شيئا أكثر من ممارسة سيادتها والتعبير عن استقلالها بإرادتها . اذ لا يخفى على أحد
أن التزام أية دولة بمواثيق أو اتفاقات أو معاهدات أو علاقات لمدة غير محدودة ،
وحرمانها من المقدرة على التحلل منها بإرادتها المنفردة ، يمس صميم استقلالها
وحريتها في أن تختار لنفسها ما تريد في الوقت الذي تريده .
وكان من الممكن أن يكون هذا المنطق قابلا للدفاع عنه دفاعا تسانده الشرعية
الدولية والشرعية الدستورية معا . وكل ما يمكن مطالبة الذين قبلوا ووقعوا اتفاق 26
مارس 1979 حينئذ هو ألا يغضبوا اذا استعملت الدول العربية أو اية دولة أخرى ذات
المنطق في تحديد مواقفهم من مصر الدولة فقطعوا علاقاتهم بها سياسيا أو اقتصاديا أو
ثقافيا . ولسنا نشك لحظة في أن دولا عربية كثيرة كانت ستبقى "صامتة" أو
ستعود بعد الانقطاع الى "وصل" علاقات جديدة مع مصر الدولة وستردد حججا
يبدو عليها وقار "الحكمة والتعقل" : .. والله نحن لا نتدخل في شؤون مصر
الداخلية ، ولقد اختارت مصر لنفسها ما لم نكن نتمناه لها ولكنها – والحق يقال – لم
تتدخل في شؤوننا .. صحيح أنه لم يكن هذا هو المنتظر من مصر "الشقيقة
الكبرى" ولكن قد وقع ما وقع فلا داعي للقطيعة . ثم ان مصر قد خرجت
"من" الاجماع العربي ولكنها لم تخرج "على" الاجماع العربي .
فلماذا طال عمرك ، لا نعاملها ونتعامل معها كما نعامل ونتعامل مع دول كثيرة سبقت
الى الاعتراف بإسرائيل ؟.. ولماذا نحمّل مصر أو نتوقع منها البقاء في الصف العربي
دائما ؟ لا تنسوا – يا اخوان – ان مصر حديثة العهد بالعروبة ، بل لم نكن ندخلها
ضمن الدولة العربية التي قامت من أجلها الثورة العربية الكبرى عام 1919 .. وحتى لو
كانت مصر عربية ، وهي بالقطع عربية - هكذا يقول فريق اخر – فان الوعي القومي في
مصر يفتقد للعمق ، ولقد فجره حديثا المرحوم جمال عبد الناصر ولم تمتد جذوره الى أبعد
مما سمحت فترة حكمه ، وبالتالي فان جدارة مصر بالقيادة العربية تفتقد الأسباب
الموضوعية والوعي العقائدي والحس الثوري الذي تتطلبه معركة العروبة . ولقد قدم
اتفاق 26 مارس 1979 ذاته دليلا من الواقع بصحة هذا الذي نقول . بل لعله اذ كشف
للأمة العربية بالرغم من مرارة الكشف انها كانت تتبع قيادة غير مؤهلة موضوعيا ، قد
صحح المسيرة العربية أو أتاح فرصة "تاريخية" لتصحيحها ليقودها في نضالها
القومي المؤهلون الحقيقيون لقيادتها .. ومن ثم فلا داعي لاستمرار القطيعة ، ومن
أجل شعبنا العربي في مصر فان الامة العربية بخير ولم تخسر شيئا كثيرا بخروج مصر من
الاجماع العربي الى اخره ..
لا شك لحظة في ان شيئا مثل هذا كان سيقال تمهيدا للعودة الى وصل ما انقطع
من علاقات مصر الدولة بالدول العربية او بعض الدول العربية ، لا لأن مثل هذا قد
قيل علنا على اثر زيارة رئيس الجمهورية للقدس المحتلة ولكن لأنه يقال خفية على
نطاق أوسع من ساحات الدول التي يقال لها "معتدلة" ومصدر العلم بما هو خاف
ما نعرفه من تاريخ قريب وهو أن حكومات عربية كثيرة أبعد ما تكون عن
"البراءة" ، ممّا مهّد وساعد على أن تنتهي الأمور الى قبول وتوقيع رئيس
جمهورية مصر العربية اتفاق 26 مارس 1979 .
وسنعود الى هذا الموضوع الخطير فيما بعد ، نحن نتابع الان منطق الإقليمية
المصرية .
المهم أن لو حدث هذا لما خسرت مصر الدولة كثيرا مما كانت تحصل عليه من بعض
الدول العربية ولكنها لم تفعل ، فقد تجاوز اتفاق 26 مارس 1979 حدود مصر وامتدت
إرادة الذين وقعوه الى ما يتجاوز الحدود المشروعة لإرادة مصر الدولة وذلك على
الوجه التالي:
الاعتراف
تنص المادة الأولى فقرة 2 من الاتفاقية الرئيسية على أنه "عند إتمام
الانسحاب المبدئي المنصوص عليه في الملحق الأول (بعد ستة اشهر من تبادل وثائق
التصديق على المعاهدة) يقيم الطرفان علاقات طبيعية وودية بينهما طبقا للمادة
الثالثة فقرة 3" وتقول المادة الثالثة فقرة 3 : "يتفق الطرفان على أن
العلاقات الطبيعية التي ستقام بينهما ستتضمن الاعتراف الكامل " .
هذا النص يتضمن ردا نرجو أن يكون مقنعا لكثيرين ممن هاجموا او دافعوا عن
مواقف وقرارات رئيس الجمهورية قبل توقيع اتفاق 26 مارس 1979 ، ولنبدأ بالذين
هاجموه .
لقد قيل وتردد بكل الصيغ ـ ان رئيس الجمهورية اذ قبل فض الاشتباك الأول
والثاني ، وإذ زار القدس ، وإذ فاوض إسرائيل في كامب دايفيد ، وإذ وقع اتفاق 26
مارس 1979 تكون مصر قد اعترفت بإسرائيل . هذا النص يقدم ردا على ما قيل وتردّد فهو
اتفاق الطرفين أي بإقرار من إسرائيل نفسها ، يؤجل الاعتراف الكامل بها الى ما بعد
تسعة اشهر من تبادل وثائق التصديق على المعاهدة ويعلقه على شرط إتمام الانسحاب
المبدئي . وهذا يعني أنه الى ان يتم الانسحاب المبدئي في موعده لا تكون مصر قد
اعترفت بإسرائيل ولو كانت الولايات المتحدة الامريكية أو الصهاينة يعرفون أن مصر قد
اعترفت بإسرائيل قبل 26 مارس 1979 لما همّهم ولما أصرّوا على أن تلتزم مصر
بالاعتراف بإسرائيل بنص صريح في الاتفاق . ولو كانت حكومة مصر تعرف انها قد سبق
لها أن اعترفت بإسرائيل قبل 26 مارس 1979 لما علقت اعترافها - بنص صريح – على شرط
وحدّدت له موعدا في المستقبل . كل ما يمكن أن يقال الان ان ما حدث قبل 26 مارس
1979 كان اعترافا "واقعيا" أي اعتراف بواقع ، او اعترافا
"ضمنيا" ، اعترافا قانونيا "ضمنيا" وأن إسرائيل كانت تريد
الاعتراف القانوني الصريح وقد حصلت عليه أخيرا . ومع ذلك فان مثل هذا القول يمكن
الرد عليه بالإضافة الى أنه لم يعد مفيدا الان . لقد كان نقد الاعتراف
"الضمني" مقيدا للتحذير من مخاطر الاستدراج الى الاعتراف الصريح .. أما
وقد أصبح الأمر أمر اعتراف كامل صريح فلا فائدة في إعادة المناقشة في الدلالة
القانونية للتصرفات السابقة وقد نعود الى دلالتها السياسية فيما بعد .
ولكن هذا النص يردّ ردّا أكثر اقناعا على الذين دافعوا ويدافعون عن "الاعتراف"
بإسرائيل . يقولون أن إسرائيل أمر واقع لا يستطيع عربي أو غير عربي أن ينكره . والا
فضد من كان يناضل العرب ويحاربون منذ 1948 ؟ .. ومن الذي طرد العرب من فلسطين ومن
الذي يمنعهم من العودة ؟ ومن الذي هزم الجيوش العربية أعوام 1948 و1956 و1967 ؟
ومن الذي احتل سيناء والضفة الغربية والمرتفعات السورية ؟ ومن الذي كان يفاوض
العرب في رودس ؟ ومن الذي اعترف به أغلب دول العالم ؟ ومن الذي يجادل العرب في
هيئة الأمم المتحدة ويشتكيهم فيدافعون أو يشتكونه فيدافع أمام مجلس الأمن الدولي ؟
ومن هو الطرف الاخر في قرار 242 ؟ .. الى اخره .. ليس ثمة أية أوهام في شأن وجود
إسرائيل فان العرب لم يتعاملوا خلال ثلاثين عاما مع أشباح . وما دامت موجودة
فليعترف العرب بها . بل ان العرب قد اعترفوا بها في الحقيقة منذ أن وجدت وكان أول
اعتراف بها في اتفاقيات الهدنة في رودس . ثم انهم يعترفون بها كل يوم عندما
يتحدثون عن "الحرب" مع إسرائيل ، وحالة الحرب مع إسرائيل ، بل هم يملأون
الدنيا صراخا لأن مصر انهت "حالة الحرب" مع إسرائيل لأن حالة الحرب لا تقوم الا بين دول
.. الى اخره ..
الواقع ان الرد على كل هذا قد جاء في اتفاق 26 مارس 1979 . اذ كان مجرد أن
إسرائيل موجودة كأمر واقع وأن أغلب دول العالم قد اعترفت بها .. الى اخره ، يعني
أو يقتضي اعتراف مصر بها ، فلماذا الالتزام بالاعتراف بها في موعد محدد في
المستقبل وبالشروط الواردة في اتفاق 26 مارس 1979 ؟ .. واذا حدث ما يحول دون تنفيذ
هذا الاتفاق قبل أن يتم الانسحاب المبدئي فهل يقال أيضا أن مصر – على أي حال –
معترفة بإسرائيل لأنها أمر واقع أو لأن أغلب الدول معترفة بها ، أو لأنها كانت
معها في "حالة حرب" .. أو حتى لأنها وقعت معها "معاهدة" وان كانت
لم تنفذ .
أين الحقيقة وأين المغالطة في كل هذا الذي يقال اتهاما ودفاعا ؟
الحقيقة أن إسرائيل موجودة على أرض فلسطين كأمر واقع لا يمكن انكاره أو
تجاهله . بل لعل تجاهله هو السبب الأساسي في كل ما أصاب العرب من كوارث منذ أن
وجدت إسرائيل . أما المغالطة فهي في القول بأنها ما دامت موجودة فيجب
"الاعتراف" بها . ذلك لأن "الاعتراف" تصرف قانوني تكسب به
الدولة المعترف بها شرعية الوجود في مواجهة من اعترف بها فقط . نقول من اعترف بها
فقط لأن الاعتراف مثله مثل كافة التصرفات الدولية لا يلزم الا الدولة التي يصدر
منها ، ولا تترتب عليه اثار الا في مواجهتها ولا يضار منه الذين لم يصدر عنهم .
ونقول "تكسب به الدولة المعترف بها شرعية الوجود" لان التعامل السياسي
والاقتصادي والتجاري والمالي والثقافي .. الخ ممكن بدون اعتراف ، ولقد بقيت مجموعة
من الدول دهرا تتعامل مع جمهورية الصين الشعبية بدون أن تعترف بها . انه ما يسمى
"الاعتراف الواقعي" أي التعامل مع أمر واقع غير منكور ولكن بدون
"الاعتراف" بشرعية وجوده . كما أن "الاعتراف" بشرعية الوجود
لدولة ما لا يستتبع بالضرورة التعامل معها سياسيا أو اقتصاديا أو تجاريا أو ماليا
أو ثقافيا وذلك في حالة قطع العلاقات . ومثالها مصر الان ، ان علاقاتها مقطوعة مع
أغلب الدول العربية ولكن الاعتراف بها ما يزال قائما ونعتقد أنها ما تزال تعترف
بالدول العربية التي قطعت علاقاتها معها .
على هذا الأساس نستطيع أن نعرف الدلالة الحقيقية لما جاء في اتفاق 26 مارس
1979 من التزام مصر بالاعتراف بإسرائيل . ان الاتفاق يلزم مصر بأن تعترف بشرعية
إسرائيل . وما معنى هذا ؟ .. معناه ان الاتفاق يلزم مصر بأن تعترف بأن إسرائيل هي
صاحبة الحق الشرعي في ارض فلسطين . وما الذي يهم العرب ما دام المسلّم أن إرادة
الدول لا تمتد الى ابعد من اقليمها ورعاياها وأنها لا تلزم الا نفسها وأنه لا أحد
يضار مما تفعل ما دام ليس طرفا فيه ؟ .. ما الذي يضير العرب من فعل لا تمتد اثاره
اليهم ؟
قلنا في البداية أننا لا نتحدث عما يضر أو ينفع أحدا خارج مصر . فلا مبرر
للحديث عما يضر العرب من اعتراف مصر بإسرائيل . وقلنا أننا سنحصر انتباهنا فيما
يضر أو ينفع مصر . فلنبق في هذه الدائرة مهما تكن ضيقة . ولنعرف الى أي موقع حمل
اتفاق 26 مارس 1979 مصر ، أي ما هي اثار الاعتراف بإسرائيل في موقف مصر من الصراع
العربي الصهيوني .
جوهر الصراع العربي الصهيوني هو لمن ارض فلسطين . منذ عشرات القرون وهي
للشعب العربي ثم غزاها الصهاينة بحجة أنها ارضهم وأقاموا عليها دولة اسموها
"إسرائيل" وما يزال الصراع دائرا بين العرب والصهاينة حول هذا الجوهر .
الشعب العربي الفلسطيني ثار وهُزم وطُرد وتشرّد ثم عاد فتجمّع وقاتل وما يزال
يقاتل من أجل "استرداد ارضه" فلسطين السليبة كما يعبرون عنها . والدول
العربية ، كل دولة عربية ، تدعم نضاله أو لا تدعم ولكنها تقر له بحقه المشروع في
ارضه فلسطين فلا تعترف بإسرائيل . وكل دولة اعترفت بإسرائيل أو تعترف بها تقر لها
بحق مشروع في ارض فلسطين ، وبالتالي تنكر على الشعب العربي الفلسطيني أي حق في أرض
فلسطين . ذلك لان الموقف لا يحتمل الحياد . فالصراع يدور حول ارض واحدة اسمها
فلسطين بين طرفين كل منهما يقول أنه صاحبها الشرعي . الشعب العربي الفلسطيني من
ناحية والصهاينة من ناحية أخرى . فمن يعترف بإسرائيل يحدد موقفه من كل من الطرفين
، اما مع هذا واما مع ذاك . اما مع الشعب العربي الفلسطيني واما مع الصهاينة .
ولما كان الصراع ما يزال قائما ، اذ لم "يعترف" الشعب العربي الفلسطيني
بإسرائيل ولم يقبل اية وثيقة أو قرار دولي أو عربي يتضمن هذا الاعتراف ، فان قرار
الاعتراف يتضمن تلقائيا وبالضرورة الانحياز الى الصهاينة ضد الشعب العربي
الفلسطيني في الصراع حول الأرض لمن تكون . ولما كانت الدول العربية الأخرى ، كل
الدول العربية الأخرى ، منحازة الى الشعب العربي الفلسطيني انحيازا حده الثابت
والمشترك عدم الاعتراف للصهاينة بحق مشروع في ارض فلسطين وهو ما يعني تلقائيا
وبالضرورة حق الشعب العربي الفلسطيني المشروع في أرضه فان الاعتراف بإسرائيل يمثل
بالنسبة الى الدول العربية موقفا معاديا . وليس بين الموقفين مساحة لموقف محايد
بحكم الطبيعة الخاصة للصراع ذاته .
ومن هنا لا يستطيع أحد أن ينكر على الذين قبلوا ووقعوا اتفاق 26 مارس 1979
أنهم ألزموا مصر ، ومصر فقط ، بالاعتراف بإسرائيل ، وأن على الفلسطينيين أو العرب
ان يقبلوا أو يرفضوا اتفاق ما جاء خاصا بهم في اتفاق كامب ديفيد التي يحيل عليها
اتفاق 26 مارس 1979 . لا يستطيع أحد أن ينكر عليهم هذا ، بالعكس ، ان أحدا في
العالم ، وبخاصة العرب الفلسطينيين ، لا يجهل أن اتفاق 26 مارس 1979 غير ذي أثر
الا بالنسبة الى من قبلوه ووقعوا عليه . ولكن أحدا أيضا لا يستطيع أن ينكر أن
الذين قبلوه ووقعوا عليه قد انتقلوا به من موقع الانحياز الى الشعب العربي
الفلسطيني ضد الصهاينة الى موقع الانحياز الى الصهاينة ضد الشعب العربي الفلسطيني
انحيازا ثابتا حده الأدنى الاعتراف بإسرائيل .
هكذا نرى كيف أن اتفاق 26 مارس 1979 لم يقف عند حد الخروج "من"
الاجماع العربي ، بل تجاوزه الى الخروج "على" الاجماع العربي ، ومواجهته
في صف واحد مع الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل ..
وليس هذا هو كل ما في الانحياز من مواقف ..
الشروط :
قبل زيارة رئيس الجمهورية للقدس (19 نوفمبر 1977) كانت الضغوط الدولية التي
لم تتوقف منذ يونيو 1967 قد انتهت الى أسلوب "يحفظ ماء الوجه" ويجمعهم
على مائدة مفاوضات دولية تشترك فيها الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد
السوفياتي ويرأسها الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة تدور في جينيف تحت علم الأمم
المتحدة واسمه مؤتمر جينيف . وبينما رفضته دول عربية لم يكن مطلوبا منها حضوره كان
الإعلان المصري القاطع بان فض الاشتباك الثاني (اول سبتمبر 1975) هو اخر تحرك
منفرد وأن ليس بعد هذا الا العمل العربي الجماعي في جينيف مبررا لدى بعض الدول
العربية الأخرى لقبول صيغة مؤتمر جينيف أو عدم الاعتراض عليها . وبدأ جميع الأطراف
مرحلة "مناورات" سياسية تمهيدا لما يعتقدون أنه سيساعدهم على احراز
مكاسب في مؤتمر جنيف أو حتى قبل مؤتمر جينيف . وكان من بين هذه المناورات ما
اشترطته منظمة تحرير فلسطين من ضرورة أن تعترف بها إسرائيل أولا وأن توجه اليها
دعوة رسمية للحضور قبل أن تقرر ما اذا كانت ستحضر أم لا ، ومنها ما اذا كان العرب
يمثلون بوفد واحد أو بوفود متعددة بتعدد دول المواجهة .. وكان لإسرائيل شرطان لا
اكثر . الشرط الأول : عدم اشتراك منظمة تحرير فلسطين . وكان هذا متوقعا وتعرفه
المنظمة تماما . أما الشرط الثاني ، وهو ما يهمنا هنا ، فهو بدء المفاوضات في جنيف
"بدون شروط مسبقة" . تلك كانت امنية إسرائيل الى ما قبل شهر واحد من الموعد
الذي كان محددا لانعقاد مؤتمر جينيف . المفاوضة بدون شروط سابقة . وكان هذا الشرط
يفتح أمام المفاوض العربي في جينيف مجالات واسعة للرفض أو القبول تبعا لما تسفر
عنه المفاوضات .
وفجأة زار رئيس الجمهورية القدس المحتلة فقُبرت في القدس كل الجهود الدولية
التي بُذلت من أجل الوصول الى صيغة مؤتمر جينيف . وبدأت سلسلة المفاوضات
والاتفاقات المنفردة . وكان يمكن للمفاوض المصري أن يتمسك بأنه لا يملك حق وضع
شروط سابقة لحل مشكلة الصراع العربي الصهيوني ، وأن يحتج بأن إسرائيل نفسها قد
أعلنت قبولها المفاوضة بدون شروط سابقة ، وبالتالي أن اقصى ما يستطيع أن يوافق
عليه في اتفاقه مع إسرائيل هو تأكيد إسرائيل قبولها المفاوضة بدون شروط سابقة
ودعوة الأطراف العربية الأخرى الى قبول المفاوضة على هذا الأساس . ولم يكن أحد في
العالم غير العربي يستطيع أن يلومه على هذا الموقف .
ولكنه لم يفعل .
عاطفة عاصفة غريبة كانت تندفع الى النهاية ، ولم تترك الولايات المتحدة
الأمريكية ولا تركت إسرائيل هذه الفرصة فاستغلتها الى حد لم يكن يخطر على بال أحد
، ولم يكن لازما حتى لتأكيد العواطف العواصف . فجأة اتفاق كامب ديفيد الذي يحيل
عليه اتفاق 26 مارس 1979 متضمنا عديدا من الشروط السابقة التي يرى الموقعون أن
"على الدول العربية" قبولها مسبقا قبل اية مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة
مع إسرائيل .
تقول الوثيقة التي تحمل عنوان "اطار السلام في الشرق الأوسط" تحت
العنوان الفرعي "المبادئ المرتبطة" :
1 - تعلن مصر وإسرائيل أن المبادئ والنصوص المذكورة أدناه ينبغي أن تطبق
على معاهدات السلام بين إسرائيل وبين كل جيرانها مصر والأردن وسوريا ولبنان
..
2 – على الموقعين (.. الأردن وسورا ولبنان) أن يقيموا فيما بينهم علاقات
طبيعية كتلك القائمة بين الدول التي هي في حالة سلام كل منها مع الأخرى . وعند هذا
الحد ينبغي أن يتعهدوا بالالتزام بنصوص ميثاق هيئة الأمم ..
ويجب أن تشمل الخطوات التي تتخذ في هذا الشأن (أ) الاعتراف الكامل .(ب)
الغاء المقاطعة الاقتصادية .(ج) الضمان في ان يتمتع المواطنون في ظل السلطة
القضائية بحماية الإجراءات القانونية في اللجوء الى القضاء .
3 – يجب على الموقعين استكشاف إمكانية التطور الاقتصادي في اطار اتفاقية
السلام النهائية بهدف المساهمة في صنع جو السلام والتعاون والصداقة التي تعتبر
هدفا مشتركا لهم .
4 – يجب إقامة لجان للدعاوي القضائية للحسم المتبادل لجميع الدعاوي
القضائية المالية .
5 – يجري دعوة الولايات المتحدة للاشتراك في المحادثات بشأن موضوعات متعلقة
بشكليات تنفيذ الاتفاقيات واعداد جدول زمني لتنفيذ تعهدات الطرفين .
6 – سيطلب من مجلس الامن التابع للأمم المتحدة المصادقة على معاهدات السلام
وضمان عدم انتهاك نصوصها وسيطلب من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التوقيع على
معاهدات السلام وطمان احترام نصوصها كما سيطلب منهم مطابقة سياستهم وتصرفاتهم مع
التعهدات التي يحتويها هذا الاطار .
يا سلام !
مطلوب من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وانجلترا وفرنسا والصين أن
يطابقوا سياساتهم وتصرفاتهم مع المبادئ التي رأى رئيس مصر العربية ومناحيم بيجن في
كام ديفيد أنها "يجب" أن تحكم العلاقة بين إسرائيل والأردن وسوريا
ولبنان . وما الذي يحدث اذا "تنطعت" واحدة من هذه الدول الكبرى فلم
تطابق سياستها وتصرفاتها مع هذه المبادئ أو استعملت حقها في "الفيتو" عند
طلب التصديق على معاهدة السلام من مجلس الامن ..؟ !! ..
ما علينا نريد ان نبقى في حدود الجدية . وعلى أي حال فان أحد لم يتمسك
بالفقرة السادسة بجملتها في اتفاق 26 مارس 1979 . فلم يطلب أحد من مجلس الامن
المصادقة على "معاهدة السلام" بين مصر وإسرائيل ، ولم يطلب أحد أن يضمن
مجلس الامن عدم انتهاك نصوصها ، ولم يطلب أحد من الأعضاء الدائمين لا التوقيع
عليها وضمان احترام نصوصها ولا مطابقة سياستهم وتصرفاتهم مع التعهدات التي تحتويها
.. وحلت الولايات المتحدة الامريكية محل مجلس الامن وباقي الأعضاء الدائمين فيه ..
مع ان "المبادئ المرتبطة" كانت واجبة التطبيق في راي المتفقين في كانب
ديفيد على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية . لأنها – كما قالوا – مبادئ مشتركة
بين كل المعاهدات .
على أي حال نلاحظ في الوثيقة :
ان كل فقرة من فقراتها تبدأ بكلمة "يجب" أو ما يماثلها من صيغ
الامر والوجوب . والخطاب موجه الى الدول العربية التي "تبدي استعدادا للتفاوض
على السلام مع إسرائيل" كما تقول الوثيقة في موضع اخر . اذن فعلى الدول
العربية أن تبدي استعدادا للتفاوض على السلام مع إسرائيل ، على ان يكون مفهوما أنه
"يجب" عليها أن تقبل في المفاوضة إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل تشمل
الاعتراف الكامل بها وإلغاء المقاطعة الاقتصادية معها والمساهمة معها في صنع جو من
السلام والتعاون والصداقة .. حتى الصداقة أصبحت واجبة ..
هذه الشروط السابقة التي لم تصدر عن إسرائيل قبل زيارة القدس ، ولا بعد
زيارة القدس ، الى ان اشترك المفاوض المصري معها في اشتراطها على الدول العربية من
موقف واحد في كام ديفيد . فاذا لم تقبل اية دولة منها هذه الشروط يبقى الاحتلال
الإسرائيلي للمرتفعات السورية (الجولان) وفي جنوب لبنان أما من الضفة الغربية وغزة
فسنرى ما هو ادهى وامر .
ثم نلاحظ أن ليس في هذه المبادئ المرتبطة كلها ما "يجب" على
إسرائيل عمله . لم توجه كلمة "يجب" الى إسرائيل في اية فقرة أو جملة ،
فلم يُقل - مثلا – "يجب" على إسرائيل أن تنسحب من الجولان أو جنوب لبنان
فيما لو قبلت سوريا ولبنان هذه الشروط .
وهكذا نرى أن اتفاق 26 مارس 1979 ، الذي يحيل على اتفاقيات كامب ديفيد ، لم
يقف عند حد الخروج "من" الاجماع العربي ، ولا عند حد الخروج
"على" الاجماع العربي ومواجهته في صف الولايات المتحدة الامريكية
وإسرائيل ، بل تجاوز كل هذا الى المواجهة الإيجابية : الاشتراك مع إسرائيل في
توجيه شروط "يجب" على الدول العربية أن تقبلها مقدما اذا ارادت ان تسترد أراضيها
المحتلة .
فهل بعد هذا تجاوز ؟ ..
نعم ...
من كتاب
هذه المعاهدة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق