بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

تنظيم قومي من أجل الوحدة الاشتراكية



تنظيم قومي من أجل الوحدة الاشتراكية .
 الدكتور عصمت سيف الدولة .

(1)

أيها الشباب العربي  : 

في الوطن العربي دعوة مستمرة إلى إقامة تنظيم قومي تقدمي يقود الجماهير العربية إلى غاياتها ”دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية “ . وقد كسبت الدعوة قوة دافعة من نداء وجهه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سنة ١٩٦٣ عندما أعلن أن ..الحركة العربية الواحدة … قد أصبحت ضرورة تاريخية . وكان نداء كالنذير عبر به القائد عن حصيلة خبرته في النضال العربي حتى ذلك الحين . كان مّد الحركة القومية العربية الذي بلغ ذروته بمولد الجمهورية العربية المتحدة قد بدأ في الانحسار . نجحت طغمة من الانفصاليين في اغتصاب الإقليم الشمالي سنة ١٩٦١ .. ووصل الصراع بين القوى العربية التقدمية ، وبين الرجعية العربية حد القتال المسلح في اليمن ، ودخلت الامبريالية المعركة سافرة بقوى من المرتزقة   .
وفشلت محاولات الوحدة الثلاثية بين الجمهورية العربية المتحدة ، والعراق ، وسوريا . وشنت القوى المعادية حرباً نفسية ، واقتصادية شعواء ضد الحركة العربية ، وقيادتها . 
في ذلك الوقت كانت القوى العربية التقدمية تحاول أن تجمع قواها لتصمد . كانت تناضل من مواقع المقاومة لتوقف المسيرة المتقهقرة منذ الانفصال .. وكان واضحاً أن كل أدوات المقاومة ، والصمود المتاحة غير كافية للحفاظ على المكاسب التي تحققت ، وإيقاف الهزائم التي بدأت . وكان واضحا أن ما تفتقده الحركة القومية حتى تصمد ، ثم تبدأ هجومها المضاد ليس عدالة القضية ، وليس صلابة القيادة ، وليس الجماهير المناضلة ، بل كانت تفتقد الأداة التي تجمع كل قواها في قوة ضاربة واحدة تواجه بها أعداءها في كل موقع  .
حينئذ أنذر جمال عبد الناصر بأن … الحركة العربية الواحدة … قد أصبحت ضرورة تاريخية  ….
(2)
ومنذ ذلك الحين ، والدعوة إلى إقامة تنظيم قومي تقدمي قائمة قوية لم تقطع استمرارها ، ولم تضعف من قوتها الأحداث العربية الإيجابية ، أو السلبية . فكلما تحّقق نصر في أية ساحة عربية اندفع دعاة التنظيم القومي يقيمّون ما تحقق ويكشفون ما يواجهه من مخاطر لينتهوا إلى أن وجود التنظيم القومي التقدمي هو وحده القادر على الحفاظ على النصر ، والانطلاق منه إلى نصر جديد . 
وكلما وقعت هزيمة ، ولو في حجم هزيمة ١٩٦٧ انطلقوا يحللوّنها ، ليردوها إلى أسبابها الموضوعية لينبهّوا إلى أن غيبة التنظيم القومي التقدمي كانت السبب الرئيسي في وقوع الهزيمة . حتى عندما أثبت الشباب العربي مقدرته الثورية في ساحة المقاومة ، وفي غمرة الانبهار الجماهيري بضوء المقاومة المتألق وسط ظلام ما بعد الهزيمة ، ذهب دعاة التنظيم القومي إلى أن مصدر الضوء في المقاومة أنها ظرف تاريخي ملائم لمولد التنظيم القومي ، ووجهوا إلى الشباب العربي نذراً صارمة بأن فصائل المقاومة أمام اختيار دقيق فإما أن تتحول إلى قوة ضاربة لتنظيم قومي ، وإما أن تواجه مخاطر الهزيمة .
الهزيمة تأتيها ، لا من أعدائها الصهاينة ، ولكن من الإقليمية فيها ،والإقليمية من حولها . ( ……….) . حتى الآن ، ونحن نرى ، ونلمس عبث ،الدول ، والمؤسسات ، والمنظمات الإقليمية ، بمصير الأمة العربية ، وهي تستهلك القوى العربية في صراعاتها الطفولية حول مطامعها الحقيرة تاركة الجبهة الشرقية مفتوحة للقوى المعادية …نقول ، لو أن ثمة تنظيماً قومياً تقدمياً حقاً ، لألزم العابثين في المشرق العربي أماكنهم في جبهة القتال أو لصّفاهم ليؤمّن ظهر المقاتلين على الجبهة . حتى الآن  ونحن ندخل مرحلة حاسمة في معركة التحرير نقول أن النصر لن يكون لمن يملك أقوى الأسلحة بل لمن يستطيع أن يتحمّل مشاق القتال إلى أن يعجز خصمه عن الاستمرار … في هذه الحرب التي سلاحها الأول الصبر الطويل على أهوالها ، حيث لا يمد المقاتلين بالطاقات المتجددة على القتال حتى النصر إلا التحام الجماهير وراءها في تنظيم قومي عربي تقدمي واحد  …
(3)  
ولقد قوبلت تلك الدعوة المستمرة ، الصامدة ، العنيدة ، المصّرة ، على بلوغ غايتها بكل أشكال المقاومة من أعداء المصير العربي التقدمي . ولم يكن ذلك غريباً . إذ لا يتوقع إلا الأغبياء أن يهادن أعداء الأمة العربية ، دعوة إلى حفر قبورهم  .
ولكنها قوبلت أيضا من قوى لا تنكر الهدف ، بل تشكك في سلامة الأداة . فقد قيل أن التنظيم القومي غير لازم ، وتغني عنه جبهة تجمع بين القوى التقدمية المنظمة في الوطن العربي . وأرادوا أن يمتصّوا الدعوة إلى التنظيم القومي ، فأضافوا أن الجبهة هي المدخل الصحيح ، والواقعي إلى وحدة التنظيم . وقلنا أن الجبهة قد تكون لازمة للنصر في معركة تخوضها قوى منظمة مختلفة المنطلقات ، متباينة الغايات ، تلتقي مؤقتاً ، ومرحلياً ضد عدو مشترك ، ولكنها لا تغني عن التنظيم القومي موحد المنطلق ، والقوى ، والغاية . إذ مآل الجبهة إلى الانفراط ، ولو بعد تحقيق النصر المشترك ليستأنف كل فريق مسيرته إلى غايته ، ولو عن طريق الصراع ضد الرفاق القدامى في الجبهة المؤقتة . أما التنظيم القومي فيجب أن يحتفظ بوحدته إلى أن يحقق غايته الاستراتيجية … دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية …. وقلنا أنه مهما تكن الأهداف المرحلية التي تجمع القوى في ساحة نضال واحدة ، فإن تجاهل الخلافات المبدئية التي أنشأتها متفرقة منذ البداية ، مثالية فاشلة . ففي قلب الجبهة ، ولو كانت موحدة القيادة يبقى تعدد القوى قائماً . وفي قلب وحدة العمل التي تجمعها يبقى الصراع بينها مستمراً . ومن هنا ، فليس صحيحاً ، وليس واقعيا أن تكون الجبهة مدخلاً إلى التنظيم القومي التقدمي الواحد . وطال الحوار حتى دخلنا جميعا محنة الممارسة . فإذا بالأحداث تثبت أن ما كان محسوباً من القوى القومية التقدمية ، لا هي قوة ، ولا هي قومية ، ولا هي تقدمية . وإذا بالقوى التي كانت تقّدم ”الجبهة“ فيما بينها بديلاً عن التنظيم القومي ، متفرقة ، متعادية ، متصارعة يواجه بعضها بعضاً بقوة السلاح ، أو بقوة التآمر . أكثر من هذا ما أصاب بعض تلك القوى من تمزق داخلي ، فلم تستطع أن تحافظ على وحدتها الذاتية ، وهي التي كانت تبشرّ بطول عمر الجبهة بينها ، وبين غيرها إلى أن تصبح قوة موحدة . إن الحزب الشيوعي السوداني ، أكثر الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي تعاطفا مع الحركة القومية ، وأكثر المنظمات جدية ، وإخلاصا في الدعوة إلى الجبهة كبديل ، أو مدخل ، إلى التنظيم القومي التقدمي ، قد انشق إلى حزبين حول قضية أبسط بكثير من قضية تحقيق الوحدة الاشتراكية . قضية ما إذا كان انقلاب السودان يستحق التأييد ، أم لا ؟… والواقع أن الجبهة قد تكون مفيدة ، ولكنها ليست بديلا عن التنظيم القومي التقدمي  …
(4)  
غير أن أقوى التحديات للدعوة إلى التنظيم القومي التقدمي جاءت من داخل الجماهير المؤمنة به ، المتطلعة إليه .. وكان تحدياً في صيغة سؤال متكرر …. كيف يقوم التنظيم القومي التقدمي ؟
إن طرح السؤال ذاته كان يعني أن الأسلوب التقليدي لإنشاء المنظمات الجماهيرية لا يوفي بمتطلبات إقامة تنظيم قومي تقدمي في الوطن العربي … والأسلوب التقليدي هو أن تجتمع قلة من الطلائع ، أو الصفوة كما يقال لتصوغ أهداف الجماهير التي تنتمي إليها في وثيقة فكرية تحدد منطلقات مسيرتها ، وأهدافها ، وأسلوبها ثم تدعوا الجماهير إليها فتقيم منها مؤسسة جماهيرية ملتزمة بمبادئها وتدخل بها ساحة الصراع حتى تحقق أهدافها ، أو تنهزم .. ولا شك أن كثيراً من القوميين التقدميين الذين يرون في أنفسهم طلائع مسؤولة عن إنشاء التنظيم القومي التقدمي ، قد فكروا بأن يتصدوا لإنشائه بهذا الأسلوب  .
ولعلهم أن يكونوا قد تبيّنوا أن الواقع العربي الذي يريدون إنشاء التنظيم القومي التقدمي فيه أكثر تعقيداً من أن يستجيب له الأسلوب التقليدي في إقامة المنظمات الجماهيرية . وأن مشكلة إنشاء تنظيم قومي في الوطن العربي الممزق أكثر صعوبة من أن تناسبها الحلول السهلة . يكفي دليلاً على هذا أن أصحاب هذا الحل السهل الذي لا يتطلب إلا قلة من …الصفوة .. ووثيقة فكرية لم يستطيعوا أن يحققوه . فإما أنهم غير جادين ، وأما أن الحل السهل فاشل . ونحن ندافع عنهم فنقول أنهم جادون ، ولكن إنشاء تنظيم قومي تقدمي في الواقع العربي المعاصر لا يتحقق بقلة من الصفوة ، ولو مجتمعة في التنظيم . إنها عندئذ لا تزيد عن أن تكون منظمة أخرى مضافة إلى المنظمات العديدة في الوطن العربي التي تسهتدف  فيما تعلن  دولة الوحدة الاشتراكية  .
 (5) 
ويمكننا أن نقدمّ سبباً على قدر كبير من الجدية ، أكثر الأسباب جدية في الواقع ، حال دون أن يقوم التنظيم القومي بالأسلوب التقليدي . ذلك هو أن الجماهير العربية العريضة التي هي قوة التنظيم القومي ، وقواعده لم تكن منظمة تماماً ، ولم تكن منفرطة تماماً .فعاشت فترة طويلة تنتظر ، وتتوقع أن تكتمل تنظيماً ، وبالتالي صّدت نفسها عن دعوة إنشائه بالأسلوب السهل . فمنذ سنة ١٩٥٥ ، والجماهير العربية ، أعرض الجماهير العربية ، التي لا شك في ولائها لهدف الوحدة الاشتراكية تخوض معارك التحرر العربي تحت قيادة جمال عبد الناصر . طوال هذه الفترة كانت الجماهير العربية تعتبر جمال عبد الناصر قائدها ، وتضع نفسها تحت قيادته  .
وطوال هذه الفترة كان جمال عبد الناصر يقودها فعلاً في معارك التحرر في كل مكان من الوطن العربي من مركز قيادته في القاهرة . هذا واقع لا شك فيه  .
ومنه نشأت تلك العلاقة شبه المنظمة بين الجماهير العربية في أنحاء الوطن العربي ، وبين قائد معركة التحرر العربي في القاهرة . وقد كانت تلك العلاقة من القوة بحيث نستطيع أن نقول  بدون خطأ  أن كثيراً من القيادات في الوطن العربي كانت تستمد مواقعها الجماهيرية من صلتها بالرئيس عبد الناصر ، أو في بعض الأوقات ادعائها أن ثمة صلة بينها ، وبين عبد الناصر . ولكن هذه العلاقة القوية لم تصل أبداً إلى مرحلة الالتحام بين القائد ، وجماهيره في تنظيم واحد  
لماذا ، مع أن جمال عبد الناصر كان أقوى صوت دعا إلى التنظيم القومي سنة  ١٩٦٣…؟
هذا سؤال أصبح تاريخيا بدخول جمال عبد الناصر في ذمة التاريخ . ما يمكن أن نقوله الآن أن قطاعاً من أنقى العناصر القومية التقدمية ، وأكثرها وعياً كانت تتردد في أن تتصدى لمسؤولية إنشاء التنظيم القومي ، بدون أن يكون عبد الناصر في قيادته . وكانت تنتظر ، وتتوقع أن تسمح الظروف المحلية ، والقومية ، والدولية الصعبة التي كان عبد الناصر يقود فيها معركة التحرر العربي بأن يكمل الرئيس عملية الالتحام التنظيمي بين القيادة ، والجماهير .
(6)
وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر أصبحت الحاجة إلى التنظيم القومي أكثر حّدة ، وذلك من نواح عّدة .. 
فمن ناحية أولى تجد الجماهير العربية العريضة التي خاضت معارك التحرير تحت قيادة عبد الناصر أنها ، وقد فقدت قائدها ، مهددة  جدياً ، بالانفراط ، بكل ما تعنيه الكلمة إذا لم تلتحم في تنظيم قومي يحفظ وحدتها . وهي تدرك تماماً ـ لا شك تدرك تماماً ـ أن وفاة جمال عبد الناصر قد وضعتها وجهاً لوجه أمام مسؤولياتها القومية . وأنها تمر بمرحلة اختبار حاسمة لتثبت فيها ما إذا كان ترددها في إنشاء تنظيم قومي تقدمي كان حقاً انتظاراً لمبادرة جمال عبد الناصر ، أم كان استغناء بالنضال شبه المنظم ، وشبه المسؤول ، عن النضال المنظمّ المسؤول . وأكبر خطأ تقع فيه هذه الجماهير أن تحاول خلق قائد آخر من طراز عبد الناصر . إنها إذ تخلقه ، تختلقه . وعبد الناصر لم يخلقه أحد ، ولم يختلقه . فقد كان إفرازاً فذاً لمرحلة تاريخية لا تتكرر . يكفي أننا لا نعرف ، في كل ما عرفنا في التاريخ ، قائداً واحدا استطاع أن يقود جماهير عريضة لا سلطة له عليها ، وبدون تنظيم ، ولفترة طويلة في معارك ضارية ضد قوى شرسة ، كما فعل عبد الناصر . إن غياب القائد فجأة قد أحال غيبته مأساة يفتقد فيها رأيه في كيف تكون القيادة بعده . (….) . وبقي على جماهيره  كقائد حركة قومية  أن يجدوا الإجابة على ذات السؤال في مستواه القومي . وهم واجدوها بسهولة لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد أجاب عليه  .
ففي ٧ يناير ”كانون الثاني“ ١٩٥٨ سأله الوزير ، والأديب الفرنسي ”بنوا ميشان“ عما إذا كان يتوقع انهيار الحركة القومية العربية ، فيما لو توفي فجأة فقال رحمه الله . ( لا . إن القومية العربية هي التي خلقتني . لست أنا الذي حركتهّا بل …..هي التي حملتني . إنها قوة هائلة ، ولست أنا إلا أداتها المنفذة …..ولو لم أكن موجوداً لأوجدت غيري ، واحداً ، عشرة ، آلافاً آخرين ليحّلوا محلي ، إن القومية العربية لا يجسّدها رجل واحد ، أو مجموعة من الرجال …. إنها لا تتوقف على جمال عبد الناصر ، ولا على الذين يعملون معه ……إنها كامنة في ملايين العرب الذين يحمل كل منهم قبساً من شعلة القومية … إنها تيار لا يقاوم ، ولا تستطيع أية قوة في العالم تحطيمّها …. طالما بقيت محتفظة بثقتها في ذاتها ….) . هذا هو رأي عبد الناصر ، وتلك هي إجابته  
إن البديل عنه كأداة منّفذة للحركة القومية العربية متاح في ملايين العرب القوميين ، وعليهم  إن غاب  أن يحتفظوا بثقتهم في أنفسهم ، وأن يقيموا أداتهم من بينهم . ولا شك في أن الجماهير العربية واعية هذه الإجابة . هذا أنها  منذ وفاة الرئيس عبد الناصر  ونشاطها الفكري ، والحركي متجهة بقوة إلى إنشاء التنظيم القومي التقدمي  .
 (7)
ومن ناحية ثانية ، فإن كل القوى العربية ، من كان منها في مواقع القيادة ، ومن كان خارجها ،تواجه الآن ، وتلمس ذلك الفرق النوعي في ثقل القوة وفعاليتها بين الحركة العربية الواحدة ، والحركات العربية المتعددة . ويدركون بسهولة أن القوي العربية … موحدة … تستطيع أن تقدّم أكثر ، بكثير من…مجموع … ما تقدمه ذات القوى …مجتمعه … ففي ميزان الصراع ، على المستوى الدولي مثلاً ، كانت كل دولة عربية تمّثل ثقلاً واقعيا معروفاً ، حتى لو بالغت هي فيه ، أو أخفت حقيقته . ولم تكن أية دولة عربية قادرة على أن تكسب إلا بمقدار وزنها الحقيقي في موازين الصراع الدولي . إلى درجة أن استطاع الجنوب اليمني أن يهزم بريطانيا في معركة التحرر بقوة السلاح . إلى درجة آن استطاعت منظمات المقاومة أن تبقى في وسط محيط عدائي . إلى درجة أن تفقد الجمهورية العربية المتحدة قواتها المسلحة وتصبح حدودها مفتوحة للقوى المعادية فتندفع دول تضم أكثر من نصف البشر تحميها حتى تنهض من كبوتها . إلى درجة أن تنهزم الدول العربية في معركة صريحة ثم ترفض مذلة مفاوضة العدو فتعفيها أغلبية المجتمع الدولي من مذلة المفاوضة والاستسلام . وطوال خمسة عشر سنة كانت الدول العربية ، كل دولة عربية ، تعيش لا تحت حماية قواتها الذاتية ، بل تحت حماية قوة أخرى قادرة على أن تضرب في أي وقت في كل مكان من الوطن العربي . وان تدخل المعارك حماية لأية دولة عربية . تلك هي قوة الجماهير العربية شبه المنظمة تحت قيادتها في القاهرة . هذه القوة كانت هي الإضافة الهائلة إلى وزن أية دولة  .
ومن هذه القوة استمدت كل الدول العربية الثقل الذي جعلها أهلاً للصداقة ، يمنحها الأصدقاء أكثر مما تستحق بذاتها . وأهلاً للعداوة يخشاها الأعداء أكثر مما تقدر بقوتها  .
هذه القوة هي التي فرضت على أعتى القوى في العالم ألا تمس شعرة أي عربي أو تحفر بئرا ولو في الربع الخراب إلا بعد أن تدخل في حساباتها رد فعل الجماهير العربية ، أو أن تستأذن قيادتها في القاهرة . ولولا هذه القوة وثقلها لما استطاعت أية دولة عربية أن تكسب ربع ما كسبته ، ولخفتّ موازينها في الصراع الدولي إلى الحد الذي يتفق مع وزنها الخفيف  .
نقول أية دولة عربية ، لإنه لا توجد دولة عربية واحدة ، حتي الدول التي يسخرّها حكامها في مناهضة الحركة القومية التقدمية ، لم تتمتع فعلياً بحماية الجماهير العربية تحت قيادة عبد الناصر . ولا يوجد حاكم ، أو قائد عربي واحد ، حتى الذين عاشوا يناهضون عبد الناصر ، يستطيع أن يزعم أنه لم يكن يعتبر عبد الناصر ، والجماهير العربية تحت قيادته قوة ستتدخل حتما لحماية الشعب العربي في دولته ، أو تحت قيادته ضد أي عدوان أجنبي ، بصرف النظر عن موقفه المناهض  .
كل هذا يحملنا على الاعتقاد ، بإن الدول العربية ، كل الدول العربية ، تدرك الآن أنها مهددة بأن تفقد الثقل القومي من موازينها لو أدت غيبة قائد الجماهير العربية إلى غيبة ثقل تلك الجماهير . مهدّدة بأن تكون على قدر حقيقتها الإقليمية  ..
وبينما سينتهز كثير من العملاء هذه الفرصة ليكملوا تسليم دولهم إلى القوى المعادية ، فإن كل الواعين على حقيقة الصراع الدائر في الوطن العربي ، وموازين قواه ، سيقفون موقفاً إيجابياً من إنشاء تنظيم قومي تقدمي يحفظ وحدة الجماهير العربية ، ويحتفظ بالثقل القومي في موازين الصراع . ولعل من أهم دلالات هذا الاتجاه تلك الخطوة الحذرة إلى الأمام التي تمت في القاهرة يوم ٨ نوفمبر“ تشرين الثاني“ ١٩٧٠ بالاتفاق على العمل من أجل إقامة اتحاد بين الجمهورية العربية المتحدة ، والجمهورية العربية الليبية ، وجمهورية السودان الديمقراطية . وهي خطوة تتفق طبيعتها مع طبيعة الدول التي اتخذتها ، ولكنها تعبر عن اتجاه واضح الدلالة على وعي القادة فيها على مخاطر مواجهة المستقبل من مواقع التجزئة . وهي ذات المخاطر التي أصبحت فيها الحاجة إلى تنظيم قومي ملحة حتى مع الاعتراف بأن تلك الخطوة التي تمت بين الدول ليست الطريق إليه  .
(8) 
ليس من الغريب في ظل كل هذه الظروف أن يصبح السؤال …. كيف يقوم التنظيم القومي ؟ ملحّاً ، إلحاحاً عصبّياً ، وأن يكون محل حوار حّي دائر على أوسع نطاق في صفوف الشباب العربي . وقد كنا من قبل نطرح السؤال في آخر كل حديث عن الفكر القومي ، أو عن التنظيم القومي ، ثم نجيب …. غير أن هذا حديث آخر .
 ولم يكن ذلك هروباً من الإجابة ، أو جهلاً لها . بل كان تعبيراً عن اقتناع خاص ، بأن الحديث عن كيفية قيام التنظيم القومي ، ليس قضية فكرية مجردة أو معزولة عن المتحدثين ، والمتحدث إليهم عن الخطوات العملية لإنشاء تنظيم قومي تقدمي في الوطن العربي ، بل يجب أن يرتفع بجدّيته ، وبمسؤليته عن أن يكون استعراضاً للمقدرة على الحوار . يرضي غرور المتحدثيّن ، أو يشبع فضول الآخرين . وأنه على هذا الوجه حديث خاص بين قوى مفرزة ينتقل به أصحابه من مرحلة الاجتهاد الفكري ، إلى مرحلة الالتزام الثوري . وكنا ، وما نزال مقتنعين ، بإن كل ثوري مثقف ، ولكن ليس كل مثقف ثورياً ، وبالتالي فإنه من الخطأ الفادح أن يتوهم المثقفون الذين حملوا مسؤولية الدعوة إلى التنظيم القومي أنهم  بهذا وحده مسؤولين عن إنشائه ، أو قادرون عليه . أو أن نتوقع من كل قادر على معرفة المشكلة أن يكون قادراً على حلها . ولما كنا ننشط في مستوى الاجتهاد الفكري ، فقد كنا نقف في الحديث عند حدود الدعوة  .
غير أن الظروف العربية التي أشرنا إلى بعضها قد طرحت على دعاة التنظيم القومي التقدمي مسؤولية مواجهة الإلحاح المشروع الذي أصبح طابع السؤال …. كيف يقوم التنظيم القومي ؟ وكان لا بد من التوفيق بين ضرورة الإجابة ، ومسؤولية إبقاء الحوار في مستواه الفكري معاً . فقدمّنا شطراً من الإجابة في تعليق … حول إعلان العمل من أجل ” اتحاد عربي ثلاثي“ … نشر في مجلة الكاتب العدد ١١٧ ديسمبر ١٩٧٠ … قلنا فيه …
" إن ما يخص الرؤساء الثلاثة منه ، هو على وجه التحديد  :
أولاً ـ ألا يحاولوا إنشاء التنظيم القومي وهم في مواقع السلطة من دولهم حتى لا يأتي جهازاً من أجهزة الدولة مشدوداً بقيودها الدولية ، والدستورية ، فلا يقدر على ما لا تستطيع هي أن تقدر عليه .
ثانياً ـ أن يكفوّا الدول التي يحكمونها عن تعويق إنشائه ، ثم يتركوا للقوى القومية التقدمية في الوطن العربي أن تواجه مسؤولياتها بعد أن واجهوا هم مسؤولياتهم " .  
إجابة سلبية . نعم . ولكنها في رأينا إجابة على سؤال شائك كان مطروحاً دائماً في الحوار حول الإجابة الإيجابية . بقي أن تعرف القوي القومية التقدمية كيف توفي بمسؤولياتها . فإذا لم تستطع ، فإنها  برغم كل ادعاء  تكون غير ناضجة بالقدر الكافي لتحمّل تلك المسؤولية . ويكون من خير الأمة العربية ، ألا تستطيع قوى غير ناضجة ، إقامة تنظيم تجهض به مولد التنظيم القومي المنتظر . .
وإلى أن تعرف ، فتسطيع … لا نستطيع من جانبنا إلا أن نتقدم إليها ، ببعض الاجتهادات الفكرية التي نأمل أن تساعدها على معرفة الطريق إلى غايتها العظيمة  .
(9)
تنظيم قومي من أجل الوحدة الاشتراكية . هذه هي الغاية العظيمة . كيف يقوم ؟
…..  هذا هو السؤال الذي لم نجد صعوبة في الإجابة عليه . وقد نستطيع أن نلتقي بالإجابة الصحيحة ، بتقديم عديد من الإجابات اتكالاً على أن تصح واحدة منها مصادفة . وهو أسلوب تجريبي أضعنا فيه وقتاً طويلاً ، وهو كفيل بأن يستنفذ بقية أعمارنا في انتظار المصادفة السعيدة . فلماذا لا نحاول أسلوبا آخر ، فنؤجل الإجابة إلى أن نستولدها من مضمون السؤال ذاته ؟
فنحاول أولا أن نعرف خصائص التنظيم القومي فلعلنا ، عندما نعرف خصائصه ، أن نعرف الإجابة الصحيحة عن السؤال … كيف يقوم ؟ …
(10)
يتكون التنظيم القومي من ذات العناصر اللازمة لقيام تنظيم جماهيري . نظرية فكرية تحدد له المنطلقات ، والغايات ، والأسلوب . وجماهير تؤمن وتلتزم هذه النظرية ، تجمعها … مؤسسة …. وتمثلها قيادة يتم العمل فيها طبقاً لنظام داخلي يحدد حقوق ومسؤوليات القواعد والكوادر والقيادة . وما دمنا نستهدف الوحدة الاشتراكية ، فليس ثمة أية صعوبة جدية في توفير كل هذه العناصر . فصياغة وثيقة فكرية تربط بين الوجود القومي كمنطلق ، والوحدة الاشتراكية كغاية ، والثورة الجماهيرية كأسلوب ، أمر لا يحتاج إلا إلى الجهد اللازم ، لبلورة الفكر القومي التقدمي المتاح في وثيقة واحدة . والجماهير العربية المؤمنة الملتزمة بهذا الفكر القومي التقدمي تشكّل أعرض قطاع في الشعب العربي . أما عن القيادة فالقيادة الجماعية كفيلة بتوفيرها . نريد أن نقول أن المشغولين جّدياً  على الأقل  بإنشاء التنظيم القومي لا يعتقدون أن أياً من هذه العناصر غير متاح ، أو من الصعب توفيره  .
ولكن مصدر الصعوبة ، ليس هنا …. إن مثل هذا التنظيم ، أن قام ، فسيكون تنظيماً جماهيرياً من أجل الوحدة الاشتراكية . وفي الوطن العربي عشرات من الأحزاب ، والجماعات المنظمة تتوافر لها كل هذه العناصر بما فيها التزامها الوحدة الاشتراكية غاية . ونعرفها من شعارها المثلث … الحرية والوحدة والاشتراكية ، أو أيّاً ما كان ترتيب الكلمات ما دامت تعني التعبير عن الهدف النهائي … الوحدة الاشتراكية  .
ومع هذا فإن ضرورة إقامة تنظيم قومي قائمة مع وجود تلك المنظمات . بل ، منها ما يزيد ، ويعلن أن من غايات نضاله إقامة التنظيم القومي ، والإسهام في إقامته ، أو الدعوة إليه . وهو ما يعني أن ثمة تسليماً بأن التنظيم القومي … من أجل الوحدة الاشتراكية يتضمن شيئاً أكثر من مجرد التنظيم الجماهيري …. من أجل الوحدة الاشتراكية . يتضمن أنه مؤسسة قومية ، وليس مؤسسة إقليمية  .
نقول … مؤسسة .. وننبّه إلى هذا القول ، لأن التمييز القومي هنا ليس منصّباً على الغاية بل منصب على طبيعة المؤسسة الجماهيرية . ففي الوطن العربي المجزأ قد تكون المؤسسة الجماهيرية قومية الغاية ولا تكون  بالضرورة  قومية التكوين . وعندما نستطيع أن نعرف كيف يكون هذا ، وعلاقته بالواقع العربي ، نكون قد انتبهنا إلى أهم خصائص التنظيم القومي الذي ندعو إلى إقامته . فنستطيع  من ناحية ، أن نعرف لماذا لا تغني عن التنظيم القومي ، أية منظمة قائمة في الوطن العربي تحت شعار الحرية والاشتراكية والوحدة . وقد نعرف من ناحية أخرى أن المقدرة على إنشاء التنظيم القومي متوقفة إلى حد كبير على المقدرة على التمييز بين التنظيم القومي اللازم لتحقيق الوحدة الاشتراكية ، وبين المنظمات الإقليمية التي تعلن التزامها بذات الهدف  .
(11)
فلنسترجع أولا تلك الحقائق التي نعرفها ولا ننتبه كثيراً إلى دلالتها  ..
الشعب العربي ، الجماهير العربية ، هي ، هي ذاتها شعوب ، وجماهير الدول الإقليمية .الوطن العربي ، الوطن القومي ، هو ذاته المجزأ بين الدول الإقليمية . الإمكانيات القومية هي ذاتها المقسمّة إلى إمكانيات إقليمية . كل معركة تحرر في إقليم هي جزء من معركة التحرر القومي . كل خطوة تقدمية في إقليم هي خطوة إلى الاشتراكية العربية . كل منا قومي الانتماء إقليمي الهوية . في هذا الواقع ، لا يوجد شعب قومي مفرز . ولا أرض قومية خالصة . ولا يوجد شخص قومي متحرر تماماً من هويته الإقليمية ، بما تتضمنه تلك الهوية من قيود ، وحدود لا تتفق مع انتمائه القومي . في هذا الواقع العربي الذي نعيشه تختلط القومية ، بالإقليمية اختلاطاً يفرض على الإقليميين أن يخوضوا معارك قومية ويسمح للمؤسسات الإقليمية بان تمد نشاطها إلى خارج إقليمها ، ويسمح للفكر الإقليمي بأن يندس في الفكر القومي ، أو أن يرفع شعاراته  .
في هذا الواقع نريد أن نقيم تنظيماً قومياً . قومياً من حيث هو مؤسسة . نريد أن نجسّد الأمة العربية في مجتمع … مفرز ، ومطّهر تماماً من الإقليمية ، فكراً ، وبشراً ، وقيادة ، وحركة . تكون مهمته تجسيد مصير أمته في دولة الوحدة الاشتراكية . إن هذا يعني أننا في حاجة إلى مقاييس دقيقة للتحقق ، ما إذا كانت … مؤسسة جماهيرية … ، هي مؤسسة قومية ، أم لا …؟ .
إن القياس أسهل عندما تكون تلك … المؤسسة  إقليمية الغاية ، إقليمية القوى ، إقليمية القيادة ، فلا تثير أية صعوبة في التعرف على هويتها . ولكن هذه المؤسسة الجماهيرية تصبح مضللة إلى أقصى درجة عندما تطرح نفسها على الجماهير العربية على أنها مؤسسة قومية . لأنها  خلافا للدولة الإقليمية  غير مقيدة بأرض ، أو حدود ، أو قوانين دولية ، أو دستورية . فهي قادرة على أن تختار ما تشاء من أفكار ، وترفع ما تريد من شعارات ، وتنشط حيث تستطيع أن تنشط ، وتضم إليها ما تنتقي من أشخاص .
فكيف نعرف ، ما إذا كانت مؤسسة قومية ، أو إقليمية ؟؟.
لنستبعد أولاً ، المقاييس الذاتية . إن رفض ، أو قبول منظمة جماهيرية ، كتنظيم قومي على أساس الخبرة الذاتية ، بأحد قادتها ، أو ببعض العاملين في أجهزتها ، أو المنتمين إليها ، موقف غير موضوعي . لا يكشف من طبيعة المؤسسة ، بقدر ما يكشف من طبيعة صاحبه . فكما أن وجود القوميين في أجهزة الدولة الإقليمية ، وحتى في قيادتها ، لا يغير من طبيعتها شيئاً ، كذلك لا يغيّر من طبيعة المؤسسة الجماهيرية ، أن يتسلل إليها بعض الإقليميين . نحن نقيّم .. مؤسسة .. ولا نحاكم أفراداً . والمؤسسة ، أية مؤسسة ، ستلفظ ، أو تهضم في النهاية ، الذين أخطأوا الاختيار ، فانتموا إلى غير مؤسستهم  .
ولنستبعد ثانياً ، المقاييس الدعائية . إن مجرد صياغة وثائق مليئة بالحديث عن القومية ، والوحدة ، والاشتراكية ، وإعلانها ، أو حتى الالتقاء عليها ، والتزامها لا يعني أن الذين كتبوها ، وأعلنوها ، أو التقوا عليها ، والتزموها ، قد أصبحوا ، بهذا وحده ، مؤسسة جماهيرية قومية . إنهم  على أحسن الفروض  جماعة منظمة من القوميين التقدميين يريدون أن يتحولوا إلي تنظيم قومي . فهم … مشروع … مؤسسة قومية لن يصبحوا تلك المؤسسة ، إلا عندما يستكملون خصائص التنظيم القومي  .
هذا مع التسليم بان الالتزام العقائدي بتحقيق الوحدة الاشتراكية ، هو أول خصائص التنظيم القومي ، فيه يجسد التنظيم مصير أمته  .
ولنستبعد ثالثاً ، المقاييس الحركية . إن مجرد مد التنظيم إلي خارج حدود الإقليم ، لا يعني أن التنظيم ، بهذا وحده ، قد أصبح مؤسسة قومية . فقد عرفنا أن الواقع القومي يفرض على الإقليميين أن يخوضوا معارك قومية ، ويسمح لمؤسساتهم بإن تمّد نشاطها إلي خارج أقاليمها . وليس من المستبعد أن تأخذ القوى الإقليمية شكل التنظيم الجماهيري ، وأن تمتد إلى أكثر من إقليم ، وتدعيّ بهذا أنها قوى قومية . بل أن هذا غطاء جيد للنشاط الإقليمي في ظل الالتزام المتبادل باحترام استقلال الدول الإقليمية  إذن فمجرد الامتداد التنظيمي خارج الإقليم لا يكفي ليكوّن المنظمين مؤسسة قومية . إنهم  على أحسن الفروض جماعة منظمة من القوميين التقدميين يريدون أن يتحولوا إلى منظمة قومية عن طريق استقطاب الجماهير العربية خارج الحدود الإقليمية فهم … مشروع .. مؤسسة قومية لن يصبحوا تلك المؤسسة ، إلا عندما يستكملون خصائص التنظيم القومي  .
هذا مع التسليم بأن رفض تجزئة الشعب العربي ، وقبول الانتماء من أي مكان في الوطن العربي ، من أهم خصائص التنظيم القومي  فيه يجسّد التنظيم وحدة الشعب العربي ، بدون حاجة إلى أن يكون قد امتد فعلاً فشمل الأقاليم  .
إذن ، فتجسيد المصير القومي في التزام عقائدي بتحقيق دولة الوحدة الاشتراكية ، لازم لتكون المؤسسة الجماهيرية تنظيماً قومياً ، ولكنه لا يكفي للتمييز بينها ، وبين المؤسسة الإقليمية التي قد تلتزمه . وتجسيد وحدة الشعب العربي بقبول الانتماء إلى المؤسسة الجماهيرية بدون قيد من التجزئة الإقليمية لازم لتكون المؤسسة الجماهيرية تنظيماً قومياً ، ولكنه لا يكفي للتمييز بينها ، وبين المؤسسة الإقليمية التي قد تحاوله  .
ماذا بقى ؟
بقي تجسيد الوجود القومي ذاته . تجسيد الأمة العربية في الحقيقة الداخلية للمؤسسة الجماهيرية ذاتها . عندما تكون المؤسسة الجماهيرية هي الأمة العربية مبلورة فهي مؤسسة قومية ، وإن لم تمتد قواعدها إلى أكثر من إقليم . وإن كانت هي الإقليمية مصغّرة .. فهي مؤسسة إقليمية ، وإن امتدت قواعدها إلى كل الأقاليم . ونعرف هذا عادة من التركيب الداخلي للمؤسسة . فحيث تمتد الفروع ، وتشكل القيادات متبعة في هذا التمثيل الإقليمي على طريقة .. الجامعة العربية .. تقوم شبهة قوية على أننا في مواجهة منظمات إقليمية مجتمعة في مؤسسة مشتركة ذات شكل قومي . نقول شبهة قوية ، ولا نجزم بالإقليمية . لأنه من الممكن أن يحتج بان ذلك مبرر بضرورات  عملية … ونكون في حاجة  حتى نجزم  إلى معرفة العلاقات التي تحكم هذا التركيب الداخلي . علاقة المؤسسات القومية ( الأمة مبلورة ) ممثلة في قيادتها المركزية بأحد فروعها ( الإقليمية مصغرة ) ممثلاً في قيادته الإقليمية . فإذا كانت المؤسسة هي التي تقود الفروع ، وتحدّد لها مهماتها ، طبقاً لاستراتيجيتها القومية ، فهذه مؤسسة قومية تنشط في الأقاليم من خلال فروعها . وإن كان الفرع هو القائد طبقاً لمصالحه الإقليمية ، فتلك المؤسسة الإقليمية تنشط خارج الإقليم تحت غطاء قومي  .
هذا هو المقياس الإضافي الذي تكتمل به معرفة خصائص المؤسسة القومية . مفترضين طبعاً  أن تكون ثمة … مؤسسة … لها قواعد تمثلهّا قيادات ، وتحكمها علاقات تنظيمية ، وتحتكم فيما بينها ، إلى منطلقات ، وغايات ، وأساليب واضحة . أما عندما نكون في مواجهة تجمع جماهيري ، لا تمثل قيادته ، قواعده ، ولا تحكمه علاقات تنظيمية تكون بها القيادة ، قائدة فعلاً ، وتكون بها القواعد ملتزمة فعلاً ، ولا يملك الناس فيه ما يحتكمون إليه ، فإننا لا نكون أمام … مؤسسة .. لا قومية ، ولا إقليمية . وقد يكون من المفيد حينئذ أن نفتشّ عن القوة الحقيقية التي تختفي وراء شكل المؤسسة ، لتحرك الجماهير إلى غايتها ، هي ، وليس إلى غاية الجماهير .
وهو مقياس موضوعي ، لحقيقة المؤسسة الجماهيرية ، فهو غير قابل للتأثر بالمواقف الفردية . فلا ينال من صحته أن تتهم القيادات بالضعف ، أو تتهم الفروع بالانحراف ، فستبقى المؤسسة ذاتها مسؤولة عن قياداتها الضعيفة ، أو فروعها المنحرفة . كما لا ينال من صحته ، اتهام  قوى خارجية بتخريب المؤسسة داخلياً ، فستبقى المؤسسة ذاتها مسؤولة عن قابليتها للتخريب الذي مكّن منها من خربوها . وأخيراً لا ينال من صحته اتهام الظروف التاريخية لنشأة المؤسسة التي أدت إلى أن تكون فروعها ، أو أحد فروعها ، أقوى من قياداتها ، فستبقى المؤسسة حاملة في ذاتها خطأ تاريخياً  .
(12)
  هل قدّم هذا المقياس الإضافي إجابة على السؤال …كيف يقوم التنظيم القومي ؟
قدّم شطراً آخر من الإجابة هو … أن التنظيم القومي من أجل الوحدة ، لا يمكن أن يكون قومياً ، إلا إذا نشأ ديمقراطيا . إلا إذا تولتّ قواعده الملتزمة ، غايته ، مهمة إنشائه من القاعدة إلى القمة . وعندما ينشأ التنظيم القومي ديمقراطياً ، لا يبقى قومياً ، إلا بقدر ما يبقى ديمقراطيا . تختار قواعده قياداته ، وتحاسبها ، وتغيرّها ،وتتولى عن طريقها قيادة فروعه الإقليمية ، وردعها  .
(13)
لدينا الآن ، إذن ، عدة خصائص لا بد من أن تتوافر في التنظيم القومي من أجل الوحدة الاشتراكية  ..
أولا … أن يكون مؤسسة جماهيرية مستقلة عن كافة المؤسسات الرسمية ، والجماهيرية الإقليمية  .
ثانيا … أن يقوم ملتزماً ، بنظرية تحدد له المنطلق ، والغاية ، والأسلوب في مستواه الاستراتيجي  .
ثالثا … أن يكون الانتماء إليه غير مقيد بالانتماء السياسي لأية دولة عربية  .
رابعا … أن ينشأ ديمقراطيا من القاعدة إلى القمة ، ثم يبقى ديمقراطياً .
إن كل واحدة من هذه الخصائص تعتبر حداً غير قابل للتجاوز في إنشاء التنظيم القومي . وكل منها سيعطينا عدة إجابات واقعية عن الخطوات الفعلية اللازمة لقيام التنظيم القومي  .
الأولى أعطتنا الإجابة السلبية التي وجهّناها إلى رؤساء الدول الثلاث .
والثانية تعطينا الإجابة التي تفرز بها القوى التي تسهم في إنشائه ، أو تنتمي إليه . 
والثالثة تعطينا الإجابة كيف يتجسد تحرره من الانتماء الإقليمي .
والرابعة تحدد لنا المسؤولين عن إقامة التنظيم القومي  .
إنهم الشباب العربي الذين يرشحون أنفسهم ليكونوا قواعده وكوادره  .
(14)
أما عن المنظمات ، والجماعات المنظمة القائمة في الوطن العربي ، والتي تعلن أن غايتها الوحدة الاشتراكية ، ولا تتوافر لها واحدة أو أكثر من تلك الخصائص فعليها قبل كل شيء أن تتحرر من عقدة الذنب ، وهي تجد نفسها غير قادرة على الوفاء بمتطلبات غايتها . إنها إذ تتحرر من هذا الشعور المدمّر تكف  كما نأمل عن المحاولات العقيمة في الدفاع عن وجودها في مواجهة محاولات إنشاء التنظيم القومي التقدمي ، أو الدفاع عن المحاولات الساذجة لفرض وجودها على هذا التنظيم ، للتدليل على براءتها من تهمة الإقليمية . إنها إن كانت صادقة في غايتها المعلنة فيكفيها أنها قد حاولت ، ونجحت ، في أن يبقى شعار المستقبل العربي مرفوعاً ، ولو بدون تحقق ، وأن تبقى القوي القومية التقدمية متجمعة ، ولو بدون وحدة  .
وإن كانت قــد فشلــت في تحقيــق غايتهــا المعلنـــة فليــس من اللازم أن يكـون مـــرجع هــذا إلى  تقصــير في استخــدام قــواهــا المــتاحـــة بــل لعـــــل مرجعـــه أن يكـــون إلى أن قواهــا المتاحـــة قـاصـــرة ، بطبيعـــتها عن أن تـــوفــي بمتطلــبات الغاية العظيـــمة . وأهـــم أوجـه قصــورهـــا ، قياساً علـى خصـــائــص التنظيم القومي ، أنهـــا نشــــأت إقليـــميـــة ، ولــو كان الــــذين أنشأوهــــا قـــــوميين ، ومـا تـــزال تحمـــل ـ برغــم غــايتهــا القومية المعلنــة ـ ميـــراث نشــأتها الـــذي حـــال ، ويحـــول دون أن تتحــول إلـــى مؤســـســة قــومية . وكـــل مؤسسة منهــــــا حــاولــت هــــــذا ، لـــــــم تلــــبث أن مـــزقــــــهــا التــــناقـــض القائــــــم مـــــنذ مـــولدهــــــا بـــين طبـــيـعتـــها كمؤسسة إقليــمــيـة ، وبــــين غايتهـــا القـــــــوميـــة . فلا حقــــقت غــايتهــا ، ولا احتفـــظت بوحــــــدتها . وكـــان الشــباب القومي التقدمي ، القـــــواعـــد البريـــئـــة ، هــــم الضحــــايا في كــل مـــــرة . فلا يحــــاولـن أحـــد أن يكــــــرر أخـــطاء مــن سبقـــه فيـــــزعــــم أنـــــه أكـــثــر مـقــدرة مـــن غيــــره علـــى أن يتحــــــدى الحــــقائــق الموضوعيـــة . ولـــيـّــكـــــف ، الذيـــن لــــم يخطـــــئـــوا بعـــــــــد ، عــــــــن محــــــاولـــة الخــــــطـــأ  .
فإن كفــّــوا عــــن المحـــاولـــة ، والخـــطأ ، واعتـــرفــوا ، بأن مؤسســـاتهــم إقلـــيميـــة فــــــلا بـأس فـي أن يعـــترف لــــهم ، بأنـــهم قومــــيون تقــدميون مــن حــيث الغايـــة التي يستهدفونهـــا ، يعـــانون من مـــأزق انتمائهـــم إلي مؤسسات إقلــيميـــة . وتكون مشكلتهـــــم هـــــي كـيــفية الخـــروج مــــن هـــذا المأزق ٠ عندئـــــذ يتـــبـيّنـــون بوضـــوح أنــــنــا إذ ندعـــو إلى إنشاء تنظيــم قومي تقدمي إنمــــا ندعـــو إلــــى إنقــــاذهـــــم  .
لســـــتــم مــذنبـــين إذن إن كنـــتم صادقيـــن . بــــــل تلــــك مسؤوليــة تـاريخـــــية  .
وللــــــــصدق محـــّـكات لا تخـــطئ  .
أولهـــا اعـــتراف تلـــك المؤسسـات ، والجماعات المنظمـة القائمـــة في الوطـــن العربي ، أنـــــها ، بـــرغــم كل ما تقــدمــــه مـــن جهــــد ، ليـــــــست أدوات تحقيـــق الــــوحدة الاشتراكيــــة ، إنمــــا أداتهــــا التنـــظيـــم القومي التقدمي ، بكـــل خصائصـــــه . ذلك لأن تلــــك الخصـــائص ليــــــست ابتكــــاراً مثـــاليــــاً ، بـــــل هــــي متطلبــــات موضوعــــية يفرضهــــا الواقـــع العـــربــي ـ كمــــا هــــو ـ حتـــى تكـــون الأداة مناســـبة لتحقيـــق الغايـــة . وإن كـــان لا بـــد مـــن دلـيــل تعرفــــه تلك المؤسسات معـــرفــة اليـــقـين فـــهو نجاحـــــها ذاتـــــه  .
إن أي مؤسسة منهــــا تنــــجح فـــي استــقــطاب الجمــاهير في إقليمـــها ستـــجــد نفســها فــي مواقــع السلطــة من دولـــتها الإقليمـــية . ويتــــبّيــن لهــا بوضوح قاطــــع أنهـــا عندمـــا تبلـــغ أقصـــى قوتهـــا تنـــتهي إلى نهايــــة الطريـــق المســــدود ، دون الوحدة الاشتراكية ، لأنــــها تنـــتــهــي إلـى أن تكـــون حاكــمة لدولـــة إقليميــــة ، أو شريكــــة في حكـــــمها . فتصبـــح ـ بهذا وحــده ـ أكثر عجـــزاً من ذي قبـــل ، لا عـــن تحقيق الوحدة الاشتراكية ، فحســـب ، بـــل حتــى عــــن الامتـــداد التنظيمي خارج الدولـــة التي تحكمهـــا ، والذي سيعتـــبر حـــينئـذ تــدخــــــلاً في شئــــــون الدول الأخــــرى الداخليـــة ، إن لــم تردعـــه السلطـــة فيها ، يردعــــه مجلس الأمـــن الدولي  .
ثــــم يأتــي المـــحــك النهائـــي ، لصدقهـــا فيمـــا تعلـــن ، من أنهـــــا تستـــــهدف الوحدة الاشتراكيـة . بإعلان موقفها الأيجابي من التنظيــم القومي التقدمـــي ، ومحاولات بنائـــــه  .
إنها إن تكـــن صادقـــة ، فـــلا بـــــد من أن تكون مــدركـة وجودها ، إن كان يتــفــق مـــع ضرورات مـــا قبـــل التنـــظيـــم القومــي ، فإنــه ليس بديلاً عنـــه ، ولا طريقـــاً إليـــه  .
وعليهــــا إن صـــدقت أن تعلــن ، ثـــم تبدأ مـــن الآن في تحضـــير أعضائها لمرحلـــة الانتقــال من منظمـــات الضــــرورة ، إلى التنظيم القومي . ولعـــل أفضـــل ما تعبـــر بــه عن هذا الصـــدق هــــو أن تسمــــح لـــدعــــوة التنظيم القومــي ، بــــأن تــــطـــرح على قواعـــدهــا ، وكوادرهـــا ، وأن تبـــــيح لمـــن يشـــاء من تلــك الكوادر أن يســـهم في الدعــوة إليــــه ، أو الإسهــام فــي بنـــائه . لأنهــــــا حينــــئذ ، ستكـــــون مــدركـة الحقيقـــة ، حقيــقتها ، وحقيقـــة التنظيم القومــي . إنــــــها ليســـت منظمــــات موازيـــة لـــــه ، لا فــي المنطلقات ، ولا في الغايات ، ولا فــي القــوى ، ولا في التركيب ، فهــــــو لا يناقــــض وجــــــودهــــا ، ولكــــن يتجاوزه  .
فهـــــي منظـــــمـــات الماضـــي ، وهـــــو أداة المستقبـــــــل  .
 (15)
ثــــم يبــــقــــى أن نعـــرف كيــــف ينشــأ التنظيـم القومي ، مــــنـــبثـــقا مـــن قواعـــده ، محتــــفظــا ـ مــــنذ المـــولــــد ـ بكافــــة خصائصــــه …؟؟ .
لكل سؤال جــــواب …. غير أن هـــذا حديــــث آخـــــر  .


محاضرة في جامعة القاهرة ـ بتاريخ  ٨ / ١ / ١٩٧١ .

                      
                                 ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة   



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق