عصمت سيف
الدولة وحتمية الكفاح المسلح
حوار مع جريدة السفير بتاريخ :
6 / 8 / 1986 .
القاهرة – السفير .
الدكتور عصمت سيف الدولة واحد من هؤلاء
المناضلين الذين قدموا لهذه الامة مدرسة فكرية متكاملة على المستوى الفلسفي
والنظري صاغها في "نظرية الثورة العربية" التي زوّدت الشباب العربي
بسلاح فكري مكنه من التقدم في مسيرة الثورة العربية ، وهو ليس مفكرا قوميا فحسب
انما هو مناضل سياسي صلب واضح الرؤية متماسك المنطق ، ففي أعقاب العدوان الأمريكي
على الجماهيرية الليبية في فبراير – شباط الماضي تحدث في أحد المؤتمرات الجماهيرية
بشأن التنديد بالعدوان ، فطرح مشروعية الكفاح المسلح ضد العدو الأمريكي والصهيوني
وطالب بضرورة ممارسة ذلك لأنه الرد الوحيد على الإرهاب الأمريكي والصهيوني وربما
كانت تلك المرة الأولى التي تطرح فيها مسألة الكفاح المسلح في مؤتمر جماهيري مما
أدى الى ارباك المتحدثين الذين تلوه في حديثه فقد وضع الجميع على مفرز واضح ، اما
أن يكونوا معه ، واما أن يكونوا ضده . لكنهم مروا جميعا من البوابة التي رسم
حدودها . وفي الندوة التي نظمتها دار المستقبل العربي ، كانت الجلسة التي ألقى
فيها الدكتور عصمت سيف الدولة بحثه عن الديمقراطية من أكثر الجلسات سخونة وحيوية
لما تميز به طرحه من الوضوح والصراحة .
السفير التقته في القاهرة وكان هذا الحديث :
- متى اختمرت فكرة الكفاح المسلح في ذهنكم ؟وهل ضد أمريكا
وإسرائيل أم ضد عملاء أمريكا وإسرائيل أم ضد عملاء أمريكا ومؤيدي الاتفاقيات ؟
- لم تختمر فكرة الكفاح المسلح في ذهني قط . فأنا – ان
كنت لا تعلمين – أكره العنف كراهية شديدة كما يكرهه كل الاسوياء من بني الانسان .
بهذا شهد الله تعالى في كتابه الكريم حينما قال : "كتب عليكم القتال وهو كره
لكم" . وبالتالي فاني كانسان ومؤمن لا أقبل أن يكون الكفاح المسلح من بنات
أفكاري . انه قد "كتب" على العرب منذ سنين وأراه مكتوبا بوضوح حتى أكاد
أقرأه على الجيل العربي الجديد ولقد قراته اخر مرة مكتوبا بلغة عربية ومنشورا في
جريدة "الاهرام" يوم 30 مارس (اذار) 1979 على وجه التحديد . كان أنور
السادات قد وقع على معاهدة سلام مع الصهاينة يوم 26 مارس (اذار) 1979 بعدما كانت
الولايات المتحدة قد أبلغته في اليوم السابق على التوقيع أي يوم 25 مارس (اذار)
1979 وثيقة أصدرتها بعنوان "مذكرة تفاهم" ، طبقا لقواعد القانون الدولي
المنظم للمعاهدات والاتفاقيات الدولية وتعتبر هذه الوثيقة ملحقا وجزءا مكملا
للاتفاق مع الصهاينة ما دامت سابقة على التوقيع مثلها مثل الملاحق الأخرى
والبروتوكولات والخرائط والخطابات المتبادلة ، وبقيت تلك الوثيقة سرية الى أن
بادرت المؤسسة الصهيونية المسماة إسرائيل الى اذاعتها فاضطرت صحف القاهرة الى
نشرها يوم 30 مارس (اذار) 1979 وفيها :
1 – حق الولايات المتحدة في اتخاذ ما تعتبره ملائما من
إجراءات في حالة حدوث انتهاك لمعاهدة السلام أو تهديد الانتهاك بما في ذلك
الإجراءات الدبلوماسية والعسكرية .
2 – تقدم الولايات المتحدة ما تراه لازما من مساندة لما تقوم
به إسرائيل من أعمال لمواجهة هذه الانتهاكات خصوصا اذا ما رأت ان الانتهاك يهدد
أمن إسرائيل بما في ذلك على سبيل المثال تعرض إسرائيل لحصار يمنعها من استخدام
الممرات الدولية وانتهاك بنود معاهدة السلام بشأن الحد من القوات أو شن هجوم مسلح
على إسرائيل . وفي هذه الحالة فان الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد للنظر
بعين الاعتبار وبصورة عاجلة في اتخاذ إجراءات مثل تعزيز وجود الولايات المتحدة
الامريكية في المنطقة وتزويد إسرائيل بالشحنات العاجلة وممارسة حقوقها البحرية
لوضع حد للانتهاك .
3 – سوف تعمل الولايات المتحدة بتصريح ومصادقة الكونغرس على
النظر بعين الرعاية لمتطلبات المساعدة العسكرية والاقتصادية لإسرائيل وتسعى
لتلبيتها .
منذ أن نُشرت هذه الوثيقة تغيرت في نظري
مواقع قوى الصراع العربي – الصهيوني وساحته وأهدافه ووسائله . فمن حيث مواقع القوى
كان الصراع يدور أساسا ما بين قوى الثورة الفلسطينية ومن ورائها الدول العربية
بدرجات متفاوتة من المشاركة والتأييد ، وبين المؤسسة الصهيونية المسماة إسرائيل ومن
ورائها الولايات المتحدة الامريكية . ولم يكن كثير من العرب يسمونها باسمها بل
يقولون : نحن ضد إسرائيل ومن "ورائها إسرائيل" محتفظين لأنفسهم بحرية
التعامل معها على اعتبار أنها ليست العدو ولكن حليف العدو ، وبعد التعهد الأمريكي
الذي ذكرناه اختلف الأمر ، لقد قفزت أمريكا من وراء إسرائيل لتكون أمامها في
مواجهة مباشرة للعرب بحيث لم يعد من الممكن الوصول الى مقتل الوجود الصهيوني الا
بعد تصفية الوجود الأمريكي الحاجز بين العرب والصهاينة . وهو حاجز متجسد ماديا في
القوات الأمريكية المرابطة في أرض سيناء .
اختلفت أيضا ساحة الصراع فلم تعد على حدود أو
داخل فلسطين المحتلة فقط كما كانت من قبل . بل أصبحت بشكل أساسي ومحدد على أرض مصر
العربية . واختلفت أهدافه المرحلية ، فلم يعد تحرير فلسطين من الاستعمار الاستيطاني
بل أصبح تحرير مصر من الهيمنة الامريكية في الطريق الى تحرير فلسطين ، واختلفت
وسائله ، فقد أعلنت الولايات المتحدة في 16 أبريل (نيسان) 1984 عن تشكيل جيش سري بملابس
مدنية وارساله أفرادا أفرادا أو جماعات جماعات لتصفية كل المناضلين من أجل الحرية
الذين تسميهم أمريكا إرهابيين . أي أن ساحة الحرب أصبحت المدن والقرى والشوارع
والبيوت والمركبات ، وأسلحتها من أول الخنق باليدين الى الدهس بالسيارات الى القتل
بالمسدسات . بالإضافة الى المواجهة العسكرية بالجيوش النظامية ، بين القوات
المسلحة الأمريكية ، اذا طلبت إسرائيل ، وبين القوات المسلحة العربية من مصر .
كل هذا ليس من أفكاري ولا تمنياتي ولكنه
الواقع الموضوعي الذي فرضته الولايات المتحدة الامريكية التي كانت الى عهد قريب
تستحي أن تمد إسرائيل بالأسلحة فتوعز الى ألمانيا الغربية بأن تمدها بما تريد .
الان هي تواجهنا بإرادة معلنة . انها ستلجأ الى القوة المسلحة ، قوتها هي ، اذا ما
خطر لنا أن نفعل ما تعتبره هي انتهاكا لاتفاقية السادات مع الصهاينة .
وهكذا أصبح الكفاح المسلح محتوما ، لأن إرادة
التحرر غير قابلة للإلغاء أو التلاشي . وكل ما فعلته انني دعوت الى الاعداد
والاستعداد للكفاح المسلح ضد الوجود الأمريكي في كل رموزه وأشكاله . ومن بين أهم
عناصر الاعداد والاستعداد ، الوعي الشعبي على حتمية الكفاح المسلح ضد أمريكا وإسرائيل
وعملائهما . أما عن مؤيدي اتفاقات كامب ديفد فمنهم الجهلة ، ومنهم حسنو النية ،
ومنهم البائسون ، ومنهم الخائفون ، ومنهم الخونة . الخونة وحدهم هم الذين
سيستهدفهم الكفاح المسلح باعتباره قوة معادية تبعا لمواقفهم الفعلية حينما يبدأ
الكفاح المسلح الذي أعرف أن بدايته قريبة ولكن لا أعرف متى أو كيف يبدأ أو من الذي
يبدأه .
- الرد على التطبيع مع إسرائيل جاوز الرفض الى الكفاح
المسلح (منظمة ثورة مصر) ما رأيكم ؟
- لست أعرف أن ثمة منظمة تدعي "ثورة مصر" تجاوزت
رفض التطبيع الى الكفاح المسلح . أما الأحداث والنشرات التي تحمل هذا الاسم فقد
تكون من فعل قوى تختفي تحت اسم "ثورة مصر" . وقد تعلمنا من التجارب الطويلة
والمريرة عن المنظمات الثورية والاسماء التي تنسب اليها العمليات أنه لا يجوز
افتراض صحتها . ولكن خلاصة هذه التجارب مع الثورة الفلسطينية ومنظماتها العديدة ،
وما يؤكده علم الثورة أيضا ، أنه في الوقت الذي تعرف فيه المنظمة الثورية من خلال الإعلان
عن ذاتها وأعمالها تكون قد انزلقت الى مداخل السياسة الدعائية الأكثر اغراء وارضاء
وأقل خطرا . ورويدا رويدا تتحول المنظمة التي نشأت ثورية الى منظمة دعائية أو
سياسية . وتحل المظهرية الكاذبة محل الصدق الثوري فتنتهي . أعني تنتهي كمنظمة
ثورية . وقد تبقى حزبا سياسيا أو مؤسسة للدعاية والاعلان . أما عن رفض التطبيع فهو
يتعاظم في مصر العربية ويتجاوز بكثير ما كان متوقعا . ويحطم في طريقه أوهام
الصهاينة . ولكنه رفض شعبي في الأساس . وحتى الأحزاب لا تلعب فيه الا أدوارا ثانوية
. ان الشعب العربي يتخذ مواقفه على السجية فتأتي معبرة عن انتمائه العربي فيقطع
بهدوء ولكن يحسم كل خيوط الاتصال بأعدائه التي حاولوا فرضها عليه في اتفاقية
السادات .
- ما رأيكم في الجدل الذي أحدثته تجربة السودان الديمقراطية
الأخيرة في مصر ؟
- مصر مشغولة ليل نهار تفكيرا وتدبيرا ونشاطا في البحث عن
مخرج من الأزمة الطاحنة التي تمر بها . وفي هذا تستوي كل القوى الحزبية والإعلامية
المؤيدة والمعارضة . وهي كلها أيضا تستوي في "عدم معرفتهم" كيفية الخروج
من الأزمة فتدعو كل قوة منها الى ما تعتقد أنه المخرج الصحيح . ولكن لا أحد على
يقين مما يقول . ولم يكن الجدل الذي أحدثته تجربة السودان الديمقراطية الأخيرة في
مصر جدلا حول شؤون السودان ، بل جدلا حول شؤون مصر . بمعنى ان السؤال موضوع الجدل
هو هل يمكن أن تتكرر التجربة في مصر كحل للأزمة كما حلت أزمة السودان . الجواب بالنفي
قطعا . اذ ليس حسني مبارك من عينه النميري ، وليس الحكم في مصر مثل ما كان الحكم
في السودان . وليست القوات المسلحة في مصر مثلها في السودان . التكرار اذن محال .
فهل تكون حركة السودان نموذجا ؟ أنصح الجميع بأن ينتظروا على السودان وقواه
الحاكمة الجديدة ولا يشاركوا بحسن نية – ربما – في استعجال انقلاب عسكري جديد في
السودان يطيح بالتجربة التي يعجبون بها . ذلك لأنني أعتقد أن المصدر الأساسي للخطر
على التجربة الديمقراطية في السودان هو المبالغة في التفاؤل بها . ان هذا التفاؤل
يترجم لدى الشعب في تصورات عينية يتوقعها ويرتبط تأييده لنظام الحكم الجديد بمدى
توفيقه في تحقيقها . أهمها تصور حل جذري للمشكلات الاقتصادية المرتبطة الى حد ما
بحل نهائي لحرب الاستنزاف القائمة في الجنوب ، المرتبطة الى حد اخر بعلاقات
السودان بدول مجاورة ذات أهداف متناقضة ، وعلاقات خارجية بالغة التعقيد . لو أن
القوى السياسية والثقافية والحكومية الجديدة بادرت منذ الان ، وقبل فوات الوقت ، بإصدار
بيان موثق يعلنون فيه للشعب العربي هناك أن بعد الالتزام بالجدية والطهارة والإخلاص
لن تحل الازمة الاقتصادية في السودان على الوجه الذي يحفظ الحياة ، مجرد حفظ
الحياة ، للشعب قبل عشر سنوات وبشرط الحفاظ على الأسلوب الديمقراطي في الحكم . فستنجو
التجربة الديمقراطية في السودان من الخطر المتربص وراء الأفق القريب . ويتمثل هذا
الخطر في خيبة أمل شعبي في حياة أفضل قدمتها اليه الوعود غير المسؤولة وربطت بينها
وبين الديمقراطية بما يسمح بانقلاب عسكري جديد يطيح بالتجربة ليعود السودان الى
الدوامة التي طحنت كثيرا من دول العالم الثالث : رفع ألوية الديمقراطية كشرط
للرخاء الاقتصادي القريب ، ففشل الوعود الاقتصادية ، فإدانة الديمقراطية ، فالديكتاتورية
.
فلننتظر ولندعو للتجربة الديمقراطية في
السودان بطول البقاء على الأقل الى أن تخرج مصر من أزمتها الطاحنة حيث تتوافر –
حينئذ – عوامل إضافية بالغة التأثير في تجاوز السودان أزمته الأكثر طحنا .
- والوضع المتردي قي العالم العربي كيف الطريق ؟
- باختصار شديد ، الوضع المتردي في العالم العربي نتيجة
طبيعية للوضع المتردي في مصر بعد اتفاقيات كامب ديفد . لقد عزلوا مصر أو انعزلت
مصر على أوراق الاتفاقات ومداولات المؤتمرات وألفاظ البيانات ، ولكن مصر غير قابلة
موضوعيا لأن تعزل ، وغير قادرة موضوعيا على أن تنعزل . لأن مصر العربية جزء من
الأمة العربية ، والأمة العربية ليست مجرد كتلة من البشر ، وعديدا من الأقطار والدول
. الأمة العربية كائن تاريخي حي يستحيل استحالة موضوعية مماثلة للاستحالة الفسيولوجية
، أن يبقى سليما وقادرا اذا عجزت بعض أعضائه ، فما بالك بالقلب . ان مثل مصر
والعالم العربي مثل المصاب بالذبحة الصدرية ، اذ تضيق الشرايين بين القلب وسائر
الأعضاء ، فتشل الأعضاء ويتلف القلب . لقد كانت بداية التردي في القاهرة في العام
1979 ، ولن تكون بداية النهوض الا من القاهرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق