بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

التعسف في استعمال حقوق الإنسان


التعسف في استعمال حقوق الإنسان .

دكتور / عصمت سيف الدولـــــــة .

كان جوزيف جوبلز ، وزير الدعاية والأعلام في ألمانيا النازية ، يحرض المواطنين الألمان على فتح نوافذ المساكن والأماكن حتى آخر مداها ، ورفع صوت المذياع حتى أقصى درجاته لكي تستطيع الأفكار التي يبثها عن طريق الإذاعة الوصول الى أذن كل ألماني واختراقها سواء كان راغبا في الاستماع أو راغبا عنه . من الممكن تصور أن كثيرا من الناس في ألمانيا لم يكونوا يرون فيما يحرص عليه جوبلز الا نوعا من الإزعاج الذي يؤذي السمع ويقلق الراحة . أما سيرجي تشاخوتين الكاتب التقدمي الألماني  ، فقد كان يرى غير ما يراه الكثير من مواطنيه ، فذهب يتابع ما يذاع ويرصده ويجمعه ويدرسه ، ذلك لآنه التفت منذ البداية الى أن جوبلز يصنع شيئا غير مسبوق في تاريخ البشرية بذلك الجهاز العبقري حديث النشأة : المذياع . كان يصنع ويصطنع ويصوغ مبادئ وأفكار وقيم أمة كاملة لتماثل مبادئه وأفكاره وقيمه . ليضع أقدام الملايين من أبنائها على الطريق الذي حدده . لتندفع عليه متقدمة الى الغاية التي أرادها . كل هذا بدون أن يعتني أقل عناية بالحوار المباشر مع أي فرد أو مجموعة من الأفراد من أولئك الملايين . وبدون أن يقيم وزنا ، أي وزن لما ينفرد به كل منهم من مبادئ وأفكار وآمال وآلام بحكم تفرد كل واحد منهم بملكاته الخاصة وموقفه الاجتماعي الخاص . وبدون أن يتوقف لحظة ليسألهم أو ليسأل أيا منهم عما يريدون . كان قد أراد " لهم " واختار " ، وكانت مهمته أن يحملهم على أن يريدوا لأنفسهم ويختاروا ما أراده هو نفسه واختاره .

ولقد صاحب سيرجي تشاخوتين تلك التجربة التاريخية المثيرة ورأى كيف أفلح جوبلز في صياغة ، أو إعادة صياغة ، أفكار أمة كثيفة العدد ، عريقة التاريخ متقدمة الحضارة ، متفوقة العلم ، على ما يريد الحزب النازي لتندفع كتلة واحدة تحت قيادة أدولف هتلر على طريق الحرب التي انتهت بهزيمتها ودمارها وانتحار قائدها . ويبدو أن جوبلز كان يدرك أن مسئوليته عما أصاب الأمة الألمانية  أكبر من مسئولية قائدها فلم يكفه قتل نفسه . بل قتل أطفاله الخمسة ثم قتلت زوجته نفسها قبل أن يقتل هو نفسه يوم أول مايو 1945 .

في عام 1938 ، أي قبل أن تبدأ الحرب الأوروبية الثانية ( 1939ـ1945) ويشهد أهوالها كان سيرجي تشاخوتين قد أنشأ مما رصد وتابع وجمع ودرس كتابا ( نشر عام 1939 خارج ألمانيا ) أعطاه عنوانا ذا دلالة مقززة :" اغتصاب الجماهير " . ولا يخفى ما في كلمة اغتصاب من دلالة الهتك القسري لحرمة العقل والتلويث المهين لطهارة الفكر ، والاستغلال البهيمي لملكات الناس .

ولقد استطاع الكاتب الفرنسي جان ماري دوميناش في كتابه"الدعاية السياسية " (1959) أن يستخلص من كتاب سيرجي تشاخوتين وما كتب عنه قوانين ما أسماه القهر الدعائي فهي خمسة . أولها التركيز على مقولة بسيطة ، مبدأ أو شعار ( ألمانيا فوق الجميع كما فعل جوبلز مثلا ) تبثه أجهزة الإعلام وتكرر بثه وتدعو إليه بدون تشتيت انتباه الجماهير إلي فرعياته أو تطبيقاته أو آثاره حتى يصبح جزءا لصيقا بالعقل الواعي أو العقل الباطن بحيث أن مجرد ذكره يضع المتأثر به في وضع نفسي وعصبي وفسيولوجي معين يجعله قابلا للتصرف المستهدف كما اكتشف بابلوف في نظريته عن الفعل المنعكس الشرطي . أما عن الفرعيات والتطبيقات والآثار التي لا بد أن تتوقع الجماهير الواعية الحديث عنها فتنصب ـ طبقا للقانون الثاني ـ على المبادئ أو الشعارات المضادة  . فيختار القهر الدعائي ، ويجسم ، ويبالغ في إبراز ما لا بد أن يكون فيها من قصور فكري أو ما صادفها من فشل تطبيقي ولو كان فشلا آنيا أو مرحليا أو جزئيا . وهكذا يبقى المبدأ الهدف آمنا بعيدا عن أي حوار جماهيري وتنصرف ملكات الجماهير في الحوار الى ما هو ضده . ولما كان الحوار ذاته يعني أن موضوعه ما يزال محل خلاف وبالتالي أنه ما يزال غير يقيني الثبوت أو الصحة فان عوامل الشك تتجمع حوله الى أن يحسم ، وتنحسر في الوقت ذاته عن " الشعار ـ المبدأ"  الذي أراد القهر الدعائي عن طريق إبعاده عن دائرة الحوار تحويله الى مقولة مسلمة . ثم يأتي القانون الثالث ليحاصر عقول الجماهير ويحصرها في ثنائية " الشعار وضده " فلا يسمح لها ، بكل وسائل الإغواء والإغراء الفكري والفني ، بأن تلتفت الى قضايا أو مبادئ أو شعارات أو مشكلات أو حتى آمال أخرى قد يؤدي الالتفات اليها الى الإفلات من الحصر والحصار الثنائي . ولما كانت المبادئ أو الأفكار المراد تلقيح عقول الجماهير بها لا تقذف في فراغ بل ترد الى رحم ملئ بتراث تاريخي متراكم من المعتقدات والتقاليد والخبرات فإن جهد القهر الدعائي يجب أن يتجه ـ طبقا للقانون الرابع ـ الى تفكيك المكونات الحضارية بالتشكيك في صحة المعتقدات وملاءمة التقاليد وصدق الخبرات التي تسد نوافذ العقول دون الطارئ الجديد . وليس أسهل من قياس الواقع الماضي على الأمل المستقبل ليصبح كل ما مضى مدينا . وأخيرا يأتي القانون الخامس وهو توجيه الدعاية بدون التعرض ـ لا سلبا ولا إيجابا ـ لما قد يكون بين الأفراد والجماعات من فروق روحية أو فكرية أو مادية أو اجتماعية لإخفاء واقع التمايز والتميز بين الأفراد والجماعات وما قد يثيره من خلاف أو صراع . إخفاؤه في جوف كتلة هائلة من أفراد نمطيين مجردين من واقعهم الاجتماعي فملتقين بالضرورة عندما يتوفر في كل منهم بالتساوي وهو الحد الأدنى من الوعي بالإضافة الى ما يصدق على كل منهم من أنه " إنسان " . حينئذ ستبدو محاولات طرح المشكلات الاجتماعية الواقعية خروجا على " الجماهير " يستحق الردع باسم "الجماهير" أو تنكرا مشينا لحقوق الإنسان .

4 ـ لم يكن جوبلز يملك من وسائل القهر الدعائي إلا الصحف والمذياع . ومع ذلك نجح جوبلز في أن يقنع ثمانين مليونا من الألمان بأن ألمانيا فوق الجميع ، وبأن الجنس الآري أرقى أجناس الأرض وبأن أوروبا الشرقية هي المجال الحيوي لدولة الرايخ الثالث ( الاسم الرسمي لألمانيا النازية ) وبأن أدولف هتلر قائد ملهم لا يخطئ . وبأن انتصار ألمانيا هو عين اليقين . وورث الغرب المنتصر بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية كل ثمار عبقرية الشعب الألماني المنهزم تحت قيادة النازية وكان من بين ما ورث علم صياغة عقول الجماهير وقوانينها الأساسية التي أسمي علم " الدعاية " أو " الإعلام " ، فلم يلبث حتى تعممت جذوره وامتدت فروعه وأينع وأزدهر وأثمر وأنشئت من أجله الجامعات والمعاهد المتخصصة وتفرغ لدراسته وتدريسه مئات الألوف ، وربما الملايين ، من خلاصة الفلاسفة وعلماء الإجماع ، وعلماء النفس ، والمفكرين ، والكتاب . وأصبحت له في كل دولة وزارة أو إدارة أو نظام أو منظمات . وزود التقدم العلمي بأدوات بالغة الكفاءة وبأسلحة خرافية المضاء . وزوده التقدم الفني بكل ذي جاذبية من أسباب الإغراء والإغواء ، فألغى المسافات ، ووحد اللغات واختصر الأزمنة حتى أحال الأرض إلي قرية على حد تعبير الماريشال ماك لوهان فيما كتبه عن " الإعلام " في كتابه " قرية الأرض " . وبدأت ظاهرة عالمية ليس للبشرية بها عهد . ظاهرة مطاردة عقول البشر أيا كانوا لاغتصابها بالكتب والنشرات والملصقات والمحاضرات والصحف والمجلات والإذاعة والتليفزيون ووسائل نقلها خرافية السرعة السلكية وغير السلكية ووسائطها العجيبة من الأقمار الصناعية . وحلت الجماعات والجمعيات والأحزاب التي تلبس ملابس وطنية محل بعثات التبشير التي انتشرت في الأرض خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدون أن تخفي ملابسها الكهنوتية . وبلغ الأمر حدا قال فيه ج . دوينكو  في كتابه " الدعاية قوة سياسية جديدة " أن سيادة الدعاية في هذا العصر حقيقة واقعية . أنها مميزا لحضارة جديدة . إن المؤرخين سيقولون في المستقبل إن القرن العشرين كان قرن الدعاية .

5 ـ في نطاق هذا التقدم المذهل في علم " الدعاية " موضوعا وأساليب اكتشف ثلاثة من الأمريكيين هم لازار سفيلد ، وبريسلون ، وجوديت في دراستهم المشتركة " اختيار الشعب " ، اكتشفوا أعمق أساليب الدعاية أثرا في صياغة أفكار الجماهير وهو ما أطلقوا عليه إسم " قادة الرأي " . وقادة الرأي هؤلاء هم أشخاص يتمتعون في محيطهم بمراكز اجتماعية تضفى عليهم مقدرة خاصة على التأثير في صياغة آراء وتحديد اتجاهات مواطنيهم . إما عن طريق التوجيه أو عن طريق التقليد . إنهم إن يجمعوا على أن يقودوا الناس إلي حيث يريدون ينقاد الناس لهم طائعين . كيف يجتمع هؤلاء ولماذا يجتمعون ؟.. يقول لوي بوكيت في كتابه ( مقدمة علم النفس ـ 1977 ) إنهم يجمعون . فوراء كل جماعة من قادة الرأي قد تكون جماعة أقل عددا وأقل مقدرة على التأثير ولكن أكثر تصميما على اغتصاب عقول الجماهير تقود " قادة الرؤى " وتؤثر فيهم بوسائل قد لا تجدي مع الجماهير . يستأجرونهم في مقابل مادي أو معنوي ليقدموا ، بالنيابة عنهم ولحسابهم ، بعملية التلقيح . وهذي هي فكرة تأسيس تلك الجماعات المفضوحة في الولايات المتحدة الأمريكية التي يسمونها " اللوبي " ، ولكنها غير مقصورة على الولايات المتحدة الأمريكية ، بل هي أكثر انتشارا واستشراء في مجتمعات العالم الثالث تنشط تحت أسماء غير مفضوحة وترفع شعارات قد تصل في طهارتها اللفظية حد شعار " الثورة ".

6 ـ يقول فرانسيس بال عميد المعهد الفرنسي للصحافة والأستاذ في جامعة باريس ، في دراسة كتبها للجمعية الفرنسية للقانون الدولي نشرت عام 1978 أنه منذ زمن طويل ودول العالم الثالث تشعر بالخطر المسلط على شعوبها من خلال وسائل الدعاية والإعلام التي تملكها وتوجهها القوى الاستعمارية بقصد الحفاظ على الهيمنة الإمبريالية . وكان على رأس قائمة المخاطر تشويه حقيقة مجتمعات العالم الثالث وتفكيك مكوناتها الحضارية التاريخية وإعادة بناء ثقافتها وأفكارها وتقاليدها وقيمها لتكون على ما يتفق مع مصالح دول الغرب مستغلة عدم التكافؤ بين مقدرتها الاقتصادية والتكنولوجية على غزو عقول شعوب العالم الثالث وبين التخلف الاقتصادي والتكنولوجي الذي يحول بين دول تلك الشعوب وبين الدفاع الدعائي لتحصين عقول الشعب أو لتحريرها .

والواقع أن فزع العالم الثالث من هذا الخطر الحديث قد عم فأصبح إدراكه جماعيا ، ولقد كان الوطن العربي مركز أول حشد لمقاومة هذا الخطر . ففي الجزائر انعقد المؤتمر الرابع لدول عدم الإنحياز في سبتمبر 1973 . وكان خطر الغزو الغربي لعقول الشعوب أحد الموضوعات الأساسية التي ناقشها المؤتمر وأوصى في إعلانه الختامي بتعاون الدول غير المنحازة في ميدان النشاط الإعلامي " لوضع حد لمحاولة إهدار خصائصهم الحضارية والثقافية "،  وفي تونس انعقد عام 1976 مؤتمر من خبراء الإعلام العرب والأفارقة استجابة لدعوة مؤتمر وزراء خارجية دول عدم الانحياز الذي انعقد عام 1975 . وقد جاء في قرارات المؤتمر أن دول عدم الإنحياز تعاني من هيمنة الدول المتقدمة  على وسائل الإتصال بالجماهير بحكم احتكارها لأغلب وسائل الإتصال في العالم واستغلالها هذه الهيمنة للتدخل في شئون الدول الأخرى الداخلية بقصد تحقيق أهداف النزوع الامبريالي والاستعماري الجديد . وفي يوليو 1976 انعقد في نيودلهي بالهند مؤتمر وزراء الإعلام في الدول غير المنحازة وفيه عبرت السيدة أنديرا غاندي رئيس وزراء الهند عما تقوم به الدول الاحتكارية من تزييف حقيقة العالم الثالث عن طريق الدعاية والإعلام بالكلام والأقلام والأفلام ثم قالت بمرارة :" إننا نريد أن نستمع إلي ما يقوله الأفريقيون عن الأحداث في إفريقيا وأن نقدم التفسير الهندي لما يحدث في الهند "؟.

وفى نوفمبر 1976 انعقد المؤتمر العام لمنظمة " يونسكو " في نيروبي وفيه عبر ممثلو دول العالم الثالث عن إدانتهم لهيمنة الدول المتقدمة على مقدرات الدول النامية ومصائر شعوبها عن طريق الإعلام بقصد إحلال الثقافة الغربية محل الثقافة الوطنية . ويشهد فرانسيس بال في كتابه " الإعلام والمجتمع " أن تألق في حلبة الدفاع عن عقول الجماهير في الدول النامية ، خلال هذا المؤتمر الوزير العربي مصطفى سعودي الذي كان يمثل تونس العربية .

بل أن الفزع قد ارتد إلي مصدريه . فنرى رئيس جمهورية فرنسا ، مهد إعلان حقوق الإنسان ، يصدر في 4 نوفمبر 1974 قرارا جمهوريا بتكليف وزير الداخلية بأن :" يقترح على الحكومة في خلال مدة لا تزيد عن ستة أشهر التدابير الكفيلة بضمان ألا يؤدى تقدم وسائل الإعلام في القطاع العام والمشترك والخاص إلي ما يمس حرمة الحياة الخاصة ، والحريات الفردية والحريات العامة ( أي حقوق الإنسان ذاتها ) ". وقد شكل وزير الداخلية لجنة برئاسة نائب رئيس مجلس الدولة تتبعها مجموعات عمل متخصصة وقدمت تقريرها في 27 نوفمبر 1975 . خلاصة التقرير ـ فيما يعنينا ـ أن خطر اغتصاب عقول الجماهير الفرنسية وحقوقهم لم يقع بعد ولكن مقدماته تنبئ بأنه وشيك الوقوع مما يقتضى أن تتخذ الدولة إجراءات وقائية تحول دون وقوعه . واقترحت اللجنة ما شاءت من إجراءات ملأت كتابا نشر مستقلا عام 1967 ..
….. الى آخره ..

8 ـ أقول قولي هذا لأنني أريد أن أحذر بكل ما أستطيع من قوة ، شعبنا العربي عامة ، والجيل الجديد منه خاصة ، مما في الحديث عن " حقوق الإنسان " من غواية أو إغراء . أو مما يمكن أن يكون وراءه من أهداف وغايات . ذلك لأنه منذ جوبلز حتى مخاطر تزييف الحقائق التاريخية الحضارية للدول النامية التي استفزت هذه الدول فعقدت المؤتمرات لترى كيف تحمي عقول جماهيرها من الغزو أو الإغتصاب ، كان الغزاة والمغتصبون يمارسون واحدا من تلك  الحقوق التي يسمونها " حقوق الإنسان " ويقولون أنها مقدسة وغير قابلة للسقوط أو التعطيل .

إنه " الحق " الذي نصت عليه المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من هيئة الأمم المتحدة يوم 10 ديسمبر 1948 . يقول النص :" لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل ، واستقاء وتلقي وإذاعة الأنباء والأفكار دون تقيد بالحدود الجغرافية وبأية وسيلة كانت ". 

9 ـ أرأيتم ؟ .. يمكن إذن أن تغتصب العقول وتشوه الأفكار وتفرض الثقافة باسم " حقوق الإنسان " وليست " حقوق الإنسان " إلا مثلا . إن مئات من الكلمات المجردة ذوات الدلالات النبيلة وهي مجردة ، قد تتحول عن " إنسان " واقعي قاهر الى أداة سحق " إنسان " واقعي مقهور . من قبل قالت فرنسية تخطو إلى المقصلة :" إيه أيتها الحرية كم من الجرائم ارتكبت باسمك ". أما الشعب العربي فقد لمس ، ويلمس كل يوم ، بدون حاجة الى قول كيف تكرس جريمة تجزئة الوطن الواحد باسم الاستقلال ، وكيف تجتث جذور الحضارة باسم المعاصرة ، وكيف يتحول بعض المسلمين الى " كهنة " باسم الدين ، وكيف يستسلم أصحاب الحق المغتصب باسم السلام , وكيف يقهر المستضعفون باسم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي . ولا يشك أحد ، ونحن لا نشك ، في نبل دلالة كلمات الاستقلال ، والمعاصرة ، والدين ، والسلام ، والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي مجردة وطالما بقيت مجردة ، أما دلالتها الواقعية في الزمان والمكان فلا يمكن التأكد من نبلها أو خبثها إلا بعد معرفة من هو قائلها ، ومتى قالها وأين قالها ، ولماذا قالها ، وكيف قالها . فالحذر لا يعني الرفض بدون معرفة . كذلك يكون الموقف من مقولة " حقوق الإنسان ".

10ـ لماذا قيل عن " حقوق الإنسان " أنها حقوق مقدسة ؟ إنه وصف اصطنعه أصحاب مصلحة فيه تناقض جل ما قيل أنه من حقوق الإنسان . فلنحرض الشباب العربي على أن ينضووا عن عقولهم هيبة القدسية التي أضفاها أصحابها على أفكارهم وأسموها " حقوق الإنسان " . كلمات الله وحدها هي المقدسة أما كلمات البشر فقابلة دائما للمناقشة والمعارضة والمناقضة .. وعندما نفقد القدرة على مناقشة أو معارضة أو مناقضة الأفكار التي يريد لها أصحابها أن تكون مقدسة تكون عقولنا قد اغتصبت على وجه اليقين .

فلا " يتهوش " الشباب العربي ( أصلها هاش أي اضطرب ) من مواجهة الكلمات الكبيرة التي يصوغها الفلاسفة ويرددها المثقفون والمتثاقفون وينشرها المؤلفون في كتبهم ، ويتلوها الأساتذة على منابر الجامعات . وقد تتخذ منها الدول عناوين لمواثيقها . و " حقوق الإنسان " من تلك الكلمات الكبيرة التي قد تصبح على لسان قوى معينة في مجتمع معين في زمان معين من الكلمات الكبائر . وقد أنكرها كثير من فلاسفة أوروبا نفسها . أما في العالم الثالث الذي ننتمي إليه فيكفي أن نضرب مثلا من المؤتمر الذي انعقد في كابول ، عاصمة أفغانستان ، ما بين 12و24 مايو 1964 لدراسة "حقوق الإنسان " في الدول النامية " حيث كاد الإجتماع أن ينعقد على أن المفهوم المجرد لحقوق الإنسان كما ترددها المواثيق الأوروبية يمثل على المستوى التطبيقي " ترفا " لا تستطيع أن تحققه إلا الدول المتقدمة . أما الدول النامية فهي في حاجة الى دولة " راعية " و"مسئولة " عن أن توظف مواردها المادية والبشرية لتحقيق التنمية اللازمة ليكون الإنسان إنسانا ( الإنسان لا يكون إنسانا إذا أخضعه الفقر والمرض والجهل لما تخضع له البهائم من قوانين غريزية ). والدولة الراعية المسئولة لا بد لها من أن تتمتع بالسلطات اللازمة للوفاء بتلك المسئولية حتى لو أدى ذلك إلى المساس بما يسمى حقوق الإنسان .

10/12/1984 .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق