بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

عن الناصريين … واليهم .



عن الناصريين … واليهم .
د . عصمت سيف الدولة .
مقدمة :
حينما كانت الحركة الجماهيرية القومية منتصرة تحت قيادة عبد الناصر كتبت ما كتبت حاثاً ومحرضاً جماهير الأمة العربية وقيادتها على عدم التوقف عند الوحدة الجزئية . وعدم الاكتفاء بوحدة القيادة ووحدة الحركة بدون وحدة التنظيم . وساندت بالدراسات المكتوبة التي لم تنسب إلىّ قط كثيراً من القوى القومية المناضلة ضد التجزئة في كثير من الأقطار العربية . ولم أكتب شيئا قط عن مصر تحت قيادة عبد الناصر التي كانت الأمة العربية قد كسبتها قاعدة قائدة . انصرفت فيها الى تأصيل الوحدة وتبرير التضحيات من أجلها والتوحيد بينها وبين النصر في كل معارك التحرر والتقدم .. وقد عوتبت أيامها على أنني لم أذكر في كتبي لا مصر . ولا الميثاق . ولا حتى عبد الناصر . وكان المعاتب صديقاً قديماً لي ومن أقرب الناس الى عبد الناصر . وكان جوابي اني أقاتل بما أكتب في سبيل أمتي ووحدتها القومية حيث تدور المعارك مع الأعداء واحتمالات النصر الآن أو الهزيمة . ولست معنياً . ولا أنا أجيد ترتيل أناشيد النصر للمنتصرين .. ومصر عبد الناصر ( 1966 ) منتصرة فهي في غير حاجة إلىّ وخسرت كثيراً وكثيرين لم يفهموا ذاك الموقف . ولكني لم أعبأ حتى بالتوقف لمعرفة ماذا ومن خسرت .. كان الأكثر استحقاقاً للانتباه مساندة الحركة المنتصرة حتى يتحقق النصر الأخير .. فرأى من رأى أنني استحق لقب ” قومي ” وكان ذلك بالنسبة إلى كسباً عظيماً ..
وقبل أن يغيب عبد الناصر فجأة يوم 28 سبتمبر 1970 كنت قد تلقيت دعوة من الإخوة في ليبيا لإلقاء سلسلة محاضرات في نطاق التحضير لإنشاء تنظيم ” الاتحاد الاشتراكي العربي ” في ليبيا وقبلت الدعوة وانشغلت بالتحضير للوفاء بما هو منتظر مني . ثم مات عبد الناصر قبل الموعد المحدد للزيارة بأيام فكتبت إلى صاحب الدعوة ( في 4 أكتوبر 1970 ) رسالة طويلة قلت فيها :
لست أنكر أن دعوتكم لي إلى ليبيا العربية ، واللقاء مع شبابها كانت التقاء طيباً مع رغبتي الكامنة في أن أزور ليبيا وألقاهم وأستمع لهم وأتحدث إليهم لعلنا نستطيع أن نهتدي جميعاً ألى كيفية الوفاء بمسئوليتنا القومية ، وقد كنت أنتظر أن يتحقق لي ذلك يوماً لم أكن أعرفه . حتى جاءت دعوتكم فظننت أنني قد عرفته . وأعددت نفسي للقاء كان يبدو قريباً . وبكل الحماس والغبطة كنت أحاور نفسي في : كيف سيكون اللقاء وفيم نتحدث ؟ . وما الذي عليّ ان افعله حتى تكون تلك الزيارة مثمرة . ولم يكن في كل هذا الحوار الذاتي مكان لأي موضوع غير الموضوع الذي أشغل نفسي به منذ أكثر من عشر سنوات : الدعوة الى قيام تنظيم قومي ثوري . ينتظم القوى القومية التقدمية ويفرض دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية على كل أعدائها . كنت سأحضر اليكم داعية كما كنت . وما كنت داعية – لأكثر – إلا لأنني كنت أقدر أن واجبنا الأول أن نجنب مولد التنظيم القومي مخاطر الاجهاض ، فلا نعجل بالإنشاء إلا بعد ان تنضج الدعوة ويعد الناس أنفسهم للحدث الكبير … الخ . ”
هكذا كنت أقدر ، وهكذا كنت أفكر وانا أعد نفسي للقائكم  ..
وكان وراء هذا التقدير والتفكير واقعة مسلمة . هي أن ثمة في الوطن العربي قوة قادرة على الصمود بالممكن إلى أن يتحقق ما يجب أن يكون ، كفيلة بأن تمنح الشباب القومي الوقت اللازم ليعد للمستقبل أداته الثورية ، كنا نقرأ وندرس ونفكر ونكتب وندعو ونلتقي في أناة المطمئن إلى أن له في تلك القوة .
* غير أن كل شيء قد تغير فجأة .
* فقدنا القوة القادرة على الصمود بالممكن .
* فقدنا الضمان ضد ملاحقة الزمان حتى نصنع ما يجب أن يكون .
فقد مات عبد الناصر .
وأصبحت صورة الواقع العربي بعده مختلفة نوعياً عنها وهو ركن منها . ومن هذا الواقع الذي تغير أن كل الشباب القومي الذين كانوا يتأنون أو يترددون أو يماطلون في الوفاء بمسئولياتهم القومية اعتذاراً بعبد الناصر ، قد فقدوا عذرهم ، ودخلوا الاختبار التاريخي الذي طالما تهيبوا دخوله ، وأصبح الزمان ، ذلك العنصر الأساسي في النضال الثوري نذيراً ضدهم . ولم يكن الإدراك الواعي لاحتمالات المستقبل الذي داهمنا قبل أوانه أقل مدعاة للجزع من الحزن الإنساني لوفاة عبد الناصر قبل الأوان .. الخ .. ”
نعم  ..
فمنذ اليوم الأول لوفاة عبد الناصر توقعت ما اصبح اليوم واقعاً ، أولاً لأنني كنت اعرف معرفة صحيحة الدور القومي الذي يقوم به عبد الناصر : وثانياً لأنني كنت اعرف معرفة صحيحة أنور السادات ( منذ 1946 ) . فقد كان أنور السادات إقليميا فرعونياً رأسمالياً مغامراً نرجسياً منذ بداية حياته العامة . ولم يكن يعبأ بالتقييم الاجتماعي للمواقع التي يختارها لنفسه ما دامت ترضيه ( استطاب معاشرة حاشية الملك والالتحاق بحرسه الحديدي مع أنه لم يكن ملكياً ) ، فهو لم يخدع أحداً إنما انخدع به من لم يعرفوه بعيداً عن عبد الناصر فلم يعبأ بانخداعهم ، أياما كان من أمر ذاته فإنه لم يلبث حتى ارتد عن الاتجاه القومي التقدمي لثورة يوليو الناصرية .. فانتقلت المعارك بالنسبة إليّ ، وبالنسبة الى كل قومي حقاً وصدقاً ، إلى القاهرة . وأصبحت مقاومة الردة والحفاظ على الانتماء القومي واسترداد مصر الى مركز القاعدة للحركة القومية هو القضية القومية المركزية . ولقد أخطأ الذين لم يستمعوا إلىّ من قادة منظمة التحرير الفلسطينية حين نبهتهم إلى أن قضية مصر ، وليست قضية فلسطين قد اصبحت القضية القومية المركزية بعد اتفاقية كامب دافيد . كما أخطأ خطأ فادحاً الذين أعماهم ولاؤهم الذاتي لشخص عبد الناصر حينما اتخذوا من اختياره نائباً حجة لاختياره رئيساً . على أي حال فقد استغرقتني المعارك في الساحة والزمان اللذان حددهما أنور السادات . وما زلت اكتب وانشر وأدافع عن كل المعارضين وادخل السجون وأخرج منها من أجل الدفاع عن امتي العربية في معركة تجري في مصر . حتى تلقيت عديداً من الرسائل من الشباب العربي في أقطار متعددة يتهمونني بأنني قد أصبحت إقليميا .. إلى أن سمحت الظروف بعد أنور السادات بأن أدخل معركة قومية شاملة كل الأقطار بآخر كتبي ” عن العروبة والاسلام ” .
إنني أكتب هذه المقدمة يوم 20 أغسطس 1987 . بانتهاء هذا اليوم تكون قد انقضت أربع وستون سنة من عمري . قد أصبحت اذن شيخاً . امتد البياض من شعر الرأس الى شعر الحاجبين على جبهة سمراء متغضنة وبهت سواد العين واصفر بياضها ، ولم أعد أضم فمي إلا على بضعة قليلة من الاسنان التي صاحبتني العمر الطويل تساندها أسنان مصنوعة ، ولم تعد أذني اليمنى تطيق الحديث الهامسي فهي لا تستقبله . ومنذ أشهر انحنيت ألتقط الصحف من أمام باب مسكني فانقضم ظهري وشدوني الى فراش خشبي ثلاثة أسابيع فلما استطعت النهوض لم أعد الى استقامة عودي من جديد . وأصبحت أمشي بطريقة مرحة ، فرجل تمشي كما اعتادت أما الأخرى فتلاحقها قفزاً كما لو كانت طفلاً يجري ليدرك أمه . ولم تعادل مرارة الشعور بالغيظ الذي يحرق الدم مما يدور في الوطن العربي ما يكاد يحرق أعصابي من سكر الدم . وأصبح جزءاً مفروضاً في كل وجبة حبوب مزوقة الألوان أكثر عدداً وألواناً من أعلام الدول العربية المفروضة على أمتنا . وضمرت عضلات الملاكم على عهد الشباب فكأن عظامي مشدودة بحبال واهنة من ليف النخيل .. وضعفت الشهية للطعام حتى كأنني أقوم بدون وعي ” بترشيد الانفاق ” في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة .. الخ ..
النتيجة : إحساس عميق بأنني أقترب من يوم لا بد منه مع إيماني بأن الأعمار بيد الله . ولست أخاف لقاءه ، سبحانه وتعالى ، فلم أكن في يوم إقليمياً ، ولا كنت رأسمالياً ، ولا كنت حاكماً في دولة عربية ، ولا موظفاً في إحدى حكوماتها ، ولم أوافق جهراً أو سراً على اتفاقية كامب ديفيد . وأنا أتطلع إلى جنته إتكالاً على مغفرته الصغائر من الذنوب أو اكتفاء بحياة العذاب يقضيها القوميين في وطنهم وقد قطع الإقليميون أجزاء وأقاموا في كل جزء منه دولة فاشلة .
وبعد ؟
وبعد فإن رأسي مليء حتى التخمة بما اختزنته فيه لأخرجه مكتوباً في أوانه ، ولم يعد العمر قابلاً للمراهنة على امتداده . لا بد إذن أن اكتب وأكتب ولو في غير معركة . ولن افتقد على أي حال معركة اشترك فيها بما اكتب ، فالعالم كله والوطن العربي مليء بالمعارك التي لا يعرف حتى المشاركون فيها كيف نشبت ولماذا ؟ .. وأينما وليّت الوجه فثمة معركة تتصل من قريب أو من بعيد بالأمة العربية . لقد قال المارشال ماك لوهان فيما كتبه عن ” الاعلام ” أن الأرض قد أصبحت بفعل تقدم وسائل الاتصال قرية . إذا كان هذا صحيحاً فإنها قرية يحكمها ملوك المال وملوك السلاح . وملوك الدعاية وملوك الصهاينة . والملوك إذا دخلوا قرية افسدوها ، هي إذن قرية يعيث فيها فساداً ذو القوة القادرين على البطش بالشعوب من أهلها . ونحن العرب ، لنا في هذه القرية دور ودروب وأغراض وأعراض لابد من الدفاع عنها . المعارك اذن . حتى العالمية تدور في دورنا ودروبنا فسنجد دائماً من يقاتلنا فنقاتله .. سقط العذر اذن . فلنكتب ولنستعن في المرحلة الأولى بما كتبنا من قبل ولم ننشره حتى لا نثير معارك في غير أوانها .. ولو لفترة قصيرة ..
ارتد أنور السادات بمصر الدولة عن الاتجاه القومي لثورة يوليو الناصرية . أصبح إيقاف الردة وإنقاذ مصر من التردي الإقليمي بعد أن كانت مركز قيادة الحركة القومية ، أصبح هدفاً قومياً وأصبحت به مصر القضية المركزية للنضال القومي . هذا قلناه . ما لم نقله ، أن تحقيق هذا الهدف أصبح متوقفاً على حجم وتنظيم ونشاط القوى الجماهيرية التي تناضل من أجل تحقيقه . وقد استطاع فعلاً أن يستقطب الى ساحته قوى شعبية كثيرة ومتنوعة وإن لم تكن منظمة . كما استطاع ان يكسب مواقف بعض الاحزاب الرسمية . ولم يكن ذلك كافياً لإيقاف اندفاع دولة السادات الى الهاوية الفرعونية . كانت أعرض القوى وأكثرها مقدرة على التأثير فيما لو التحمت تنظيمياً . فناضلت هي القوى الناصرية . كان لدى كل ناصري أكثر من سبب إيقاف ردة السادات . وكان السبب القومي واحداً سائداً من الأسباب التي تحرك الشريحة المثقفة وذوي الخبرة من الناصريين . ولكن الجموع الناصرية الشعبية ذات الأغلبية الكاسحة كانت تنفعل بدرجة اكبر للأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت لها في عهد عبد الناصر . المهم ان الناصريين كانوا ، وما يزالون على ما أعتقد . أكثر عدداً وأكثر انتشاراً على المستوى الشعبي من اية قوة اخرى .. وكان عليهم أن يتحولوا من تيار شعبي غير منظم الى قوى جماهيرية منظمة . إلى حزب . ولكنهم كانوا يواجهون في سبيل ذلك عدة عوائق ذات طبيعة نظامية وتاريخية لم يواجهها ولا يواجهها مجتمعة حتى الآن أي تيار آخر . منها عداء الدولة وإنكار شرعية التنظيم عليهم . ومنها غياب الخبرة بالتقاليد التنظيمية لدى الجيل الجديد . ومنها افتقاد قيادة محورية مقبولة من الجميع . ومنها الناصريون ” الرماديون ” الذين أرادوا أن يكونوا ساداتيين فعلاً جلباً للكسب الحالي وناصريين قولاً ليستحقوا الكسب المحتمل . فأضعفوا أثر الفرز الحاد الذي كان كفيلاً بان يخدم هدف التحام الناصريين قولاً وفعلاً في حزب ، ومنها اخيراً وليس آخراً عقبة كيفية التنظيم ، الصيغة التقليدية هي ان تلتقي أقلية من الصفوة على مباديء يصوغونها ثم يدعون الناس إلى الالتحاق بهم ، أو يستقطبونهم افراداً حتى يكون للهرم الذي بدا من قمته قاعدة جماهيرية كافية لحمل ثقل مبادئه فيستقر . مشكلة الناصريين انهم يكونون قاعدة ناصرية عريضة لا بد أن يبدأ منها بناء هرمهم التنظيمي . وهي مشكلة عويصة لأنها كانت تقتضي قبل أي بناء تنظيمي التحقق من أن كل فرد من القاعدة ناصري . وكل هذا التحقق يفتقد المعايير الموحدة كما يفتقد الحكم المقبول من الجميع أو حتى من الأغلبية ليتولى الفرز على ضوء تلك المعايير . باختصار كان مطلوباً لتسهيل مهمة تحول الناصريين أو اغلبهم إلى قوة منظمة الاجابة على سؤال : ” من هو الناصري ؟ ” ولم يكن ثمة إجابة على السؤال إلا قول الموجه إليه فرداً .. ولم يكن ما ينسبه كل فرد الى نفسه كافياً أو ملائماً لبناء تنظيم .. ولقد استطاع الناصريون أن يتحولوا عن طريق تفاعل قريب الشبه من التفاعل الكيماوي من أراد ( ذرات ) إلى جماعات ( بلورات ) وأن تتجمع البلورات في كتلة ( حزب تحت التأسيس ) يقاوم ذوبان كل أفرادها وجماعاتها أفراد وجماعات ، فأصبح محتوماً عليهم جميعاً أن يجيبوا على السؤال المؤجل : ” من هو الناصري ؟ ” .. وهم فاعلون إن شاء الله ..
أياً ما كان المستقبل ضمن منطلق الولاء القومي ووعي أبعاد وقوى المعركة القومية التي أصبحت مصر ساحتها ، رأى القوميون أنه واجب قومي عليهم نحو امتهم أن يبذلوا كل ما يستطيعون من جهد للاسهام أو المساعدة على أن يلتحم الناصريون في تنظيم هو القادر بجماهيره على ان يحسم المعركة ضد الردة لصالح مصر العربية كما يمكن أن يكون في مرحلة لاحقة وبعد النصر في الاقليم القاعدة قابلاً للنمو تنظيماً قومياً … وانخرط كل القوميين من الشباب في صفوف المشروع القومي ورفعوا مع غيرهم راية ” الناصرية ” .. وما يزالون ..
هنالك ، منذ البدايات المبشرة ، قدرت ان أوفي بواجب أعتقد أنني قادر على الوفاء به : أن أنشئ وانشر دراسة اجتهد في ان تكون علمية وموضوعية تجيب على السؤال : ” من هم الناصريون ” علّها تساعد الناشئة من الشباب على فرز قواهم واختيار رفاق نضالهم بدون مخاطر الاحتواء أو الاختراق أو بأقل قدر من تلك المخاطر .. فبدأت في إنشائه عام 1983 على ما أتذكر . فلما فرغت من كتابة جزء كاف منه أقرأته بعض الشباب الناصري الذين كانوا وما يزالون على صلة حوار مستمر معي . فاقترحوا تاجيل اتمامه ونشره متحججين بأنهم ، طبقاً لمقتضيات المرحلة ، وهم أعلم بها مني ، فيرون ان الكتابة في هذا الموضوع ستضيف الى متاعب اتفاق الناصريين متاعب الخلاف حول إجابة مطروحة على السؤال : ” من هو الناصري ” . وإن الوقت الملائم لمثل هذا الطرح لم يأت بعد ، فلم أستمر في الكتابة تقديراً لموقفهم من ظروف هم أعلم بها مني لأنها ظروفهم .. وقد ثبت صحة تقديرهم فعلاً ، إذ استطاعوا بدون إجابة على السؤال المؤجل أن يقفوا على أعتاب التنظيم الذي استهدفوه .
ولكن ، الآن يقرأ كل ناصري على المدخل الأخير إلى رحاب التنظيم لافتة من المستقبل تقول : ” من أجل سلامة التنظيم وانتصاره لا يدخل إلا الناصري ” ولا بد لهم من ” معيار ” لمن يدخل حتى لا تنتهي كل الجهود الشاقة الصادقة التي بذلت من أجل تنظيم القوة المرشحة تاريخياً وواقعياً لاسترداد مصر إلى الأمة العربية .. إلى الفشل .. أو الانشقاق ..
فعدت إلى ما بدأت أكمله .. لأنشره حديثاً ” عن الناصريين وإليهم ” .. إسهاما بقدر ما استطيع في حوار بدأ همساً ولا بد من أن ينتهي إلى ما يحقق الغاية القومية من التحام الناصريين في تنظيم يحقق الهدف القومي الملح الذي أشرنا إليه .
والله ولي التوفيق .
عصمت سيف الدولة
(1)
عن الناصريين ؟
ملخص ما لم ينشر :
 وكنت قد تلقيت قبيل وفاة عبد الناصر دعوة من قيادة الثورة في ليبيا إلى زيارتها وإلقاء سلسلة من المحاضرات بمناسبة البدء في تنظيم الجماهير على غرار الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر ، فلما غاب عبد الناصر اعتذرت عن عدم الوفاء بالزيارة لأسباب خلاصتها أن ما كان يمكن أن يقال في حياة عبد الناصر لم يعد قوله مجدياً بعد وفاته إذ أن الأمة العربية مقدمة على مرحلة مغايرة نوعياً لما كانت عليه . فجاءني رسول يحمل إلىّ تأكيداً للدعوة بحجة أن الزيارة قد أصبحت أكثر لزوماً من ذي قبل ، فزرت ليبيا لأول مرة في 20 اكتوبر 1970 ..
في أول لقاء مع أعضاء مجلس قيادة الثورة طرح عليّ سؤال لم أكن أتوقعه : كيف يمكن إنشاء التنظيم القومي الذي ما فتئت تدعو اليه مع التسليم بانه أصبح لازماً حيوياً بعد وفاة عبد الناصر ، فأجبت . والناصريون يسألون وأجيب ويسألون وأجيب إلى أن انتهى الحوار إلى اقتراح من جانبي بنقطة البداية : إعداد ” مشروع ” وثيقة فكرية تطرح على كل القوميين من الدارسين والمثقفين في الوطن العربي . ليبدوا آراءهم فيها مكتوبة خلال مدة معينة ، يقوم جهاز خاص بتلقي الردود وإعادة صياغة المشروع الأول على ضوء ملحوظات القوميين . ثم توجه اليهم دعوة لعقد مؤتمر تأسيسي تتم خلاله دراسة وبلورة وصياغة الوثيقة الفكرية لتعبر عن المبادئ التي يلتقي عليها القوميين ويتميزون بها عن غيرهم من القوى ، ثم يضع المؤتمر لوائحه الداخلية التي تكفل أن يكون التنظيم فوق قيادته في كل الظروف ، وينتخب القيادة . ثم تبدأ المسيرة .. الخ . وأضفت أنه من اجل اجتناب سلبيات الخلط ” العربي ” بين الذات والموضوع أقترح ألا تحمل ” الوثيقة – المشروع ” اسم أو أسماء واضعيها بالرغم مما في ذلك من حرمان من شرف إعلان مساهمتهم فيها . سئلت ، وكان السائل ، إذا لم تخني الذاكرة ، عبد السلام جلود : ومن يضع مشروع الوثيقة هذه ؟ .. قلت : لا ادري ومع ذلك فما دمت انا الذي اقترحت أن يحرم واضعوها من شرف إعلان مساهمتهم فيها فإني مستعد ان أضعها . وان أساهم في وضعها .. وافترقنا على عهد بأن أبدأ هذا المشروع . ثم .. جرت أحداث لا محل لها هنا . في يناير 1971 قابلت السيد شعراوي جمعة ، وزير الداخلية حينئذ ، بناء على طلبه . وبعد حديث طويل عن أفكار ومواقف وأشخاص يدور حول ” الحركة العربية الواحدة ” ( الاسم الذي أطلقه الرئيس عبد الناصر على التنظيم القومي ) . وأسباب فشل مشروع إنشائها عن طريق جهاز المخابرات . ورفضي منذ البداية المساهمة في مشروع فاشل بحكم بدايته .. الخ . سأل السيد شعراوي : إذن كيف يمكن تأسيس الحركة العربية الواحدة مع تلافي أسباب الفشل التي ذكرتها ؟ فأعدت عليه حرفياً الجواب التفصيلي الطويل الذي سمعه الناصريون في ليبيا والذي كانت بدايته ” مشروع وثيقة فكرية ” . وافترقنا متفقين على ان أضع مشروع الوثيقة من اربع نسخ أرسل واحدة منها الى طرابلس واحتفظ لنفسي بواحدة ، وأقدم إليه اثنين ، واحدة له ، وواحدة لقيادة تنظيم ” طليعة الاشتراكيين ” ، ولماذا طليعة الاشتراكيين ؟ .. قال لأنه قد انتهى الأمر في قيادته إلى البدء في بناء الحركة العربية الواحدة حتى تملأ الجماهير العربية المنظمة الفراغ الذي تركه الغياب المفاجئ لقائدها .
كانت أغلب ” المادة ” اللازمة لصياغة تلك الوثيقة متوافرة لديّ في شكل دراسات متفرقة ، ولم يكن ينقصها إلا أن تصاغ . وكان هذا جوهرياً – بعد ان تستوفى شكلاً ومضموناً ما تصح به نسبتها إلى الناصريين كمشروع يناقشه ناصريون كبداية لتأسيس ” حركة قومية ” ..
واعتزلت الناس وعملي سبعة أشهر بكل أيامها ولياليها وساعاتها ودقائقها إلى أن أكملت ” صياغة ” ما نشر بعد ذلك ( 1972 ) تحت عنوان ” نظرية الثورة العربية ” . كان ذلك في يوليو 1971 . ولكن في يوليو 1971 كان قد مضى شهران على انقلاب 15 مايو 1971 الذي أطاح فيه السادات بكل رموز الناصريين في مصر . وكان شعراوي جمعة ، الطرف الثالث في التوافق الذي تم ، مسجوناً فلم أقدم اليه نسخة ( الواقع أنني أرسلتها اليه خفية مع أحد حراس السجن الذي زعم انه سلمها اليه يداً بيد . وقد نفى السيد شعراوي جمعة – فيما بعد رواية الحادث . وهو اصدق قطعاً ) . لم يكن انقلاب السادات مفاجأة لي. ولكن المفاجأة الحقيقية كانت تصديق قيادة الثورة في ليبيا لمزاعم السادات الوحدوية وانحيازهم اليه في صراع مايو 1971 . لم أر من مبررات ذلك الانحياز إلا أنه تفضيل ” دولة ” التعامل مع الرئيس الشرعي ” لدولة ” . ولما كان هذا التفضيل يتناقض جملة وتفصيلاً ، مضموناً وصياغة . مع كل معنى وكلمة جاء في ” نظرية الثورة العربية ” فإنني لم أجد مبرراً لإرسال النسخة الموعودة الى طرابلس .
وحملت كتابي كما هو إلى الرقابة في القاهرة أطلب التصريح بنشره . رفض طلبي بعد محاورات ومناورات لم أعرف دلالتها إلا فيما بعد . فأرسلته الى بيروت موصياً بتسليمه الى دار الطليعة ، فذهب الصديق يحمله في يوم كان رب الدار فيه غائباً . فلم ينتظر الى الغد ، وعهد بنشره الى الدار التي تصادف ان كانت في ذات الطابق من البناية ذاتها ..
على أي حال ، قبل ان ينشر الكتاب ، قبض عليّ ( 16 فبراير 1972 ) وحملت عنوة الى سجن القلعة لأسباب مصطنعة كثيرة . ولكن حينما بدأت المحاكمة وأراد الذي ظلم نفسه وظلم غيره أن يخرج من الهاوية التي تردى فيها ، أقر أمام المحكمة بأنه كان مسخراً من أجهزة الأمن لمراقبتي منذ سنين . وانه سخر للإيقاع بي على وعد بألا يقع هو ، و .. و .. أن السبب الحقيقي وراء الاتهام والمحاكمة هي قصة ” إنشاء ونشر كتاب نظرية الثورة العربية ” وعلاقتها بإنشاء التنظيم القومي اتفاقاً مع الناصريين ..
أقول هذا في بداية الحديث ” عن الناصريين .. واليهم ” لأن هذا ذاته سيكون نهايته . أريد ان أقول ، بأكبر قدر من الوضوح ، انني كنت ولم أزل على يقين يتحدى أي شك بأن ” الناصرية ” هي ” نظرية الثورة العربية ” . وان الناصري هو من يقبلها ويلتزمها وينميها بخبرة ما انقضى من سنين الردة ولكن طبقاً لمنهجها . ومن منطلقاتها ، إلى غاياتها ، بأسلوبها . وان من يناقضها منهجاً أو منطلقاً أو غاية أو أسلوبا لا يستحق عندي على أي وجه أن ينسب الى الناصرية ولن تثبت نسبته اليها ولو كانت بيده شهادة موقعة من عبد الناصر شخصياً . كل ما في الأمر أنه لا يملك احد حق انكار الهوية الناصرية على من ينسب نفسه اليها . ولا يملك أحد حق منحها لمن لا ينتسب اليها . ولا أحد يملك الختم الرسمي للناصرية ليبصم به على رؤوس الآخرين من خارج الجماجم أو في داخلها . ولكن ليس معنى هذا أن الناصرية هواية شخصية وليست هوية فكرية . أو أن الأمر منها ما قاله احد كبار هواتها حينما سئل عنها فقال يوجد ناصريون ولكن لا توجد ناصرية . لقد آن الأوان لهذه الفوضى في التفكير أن تنتظم حتى تستطيع القوى الناصرية ان تلتحم . ولما كان التحام الناصريين ضرورة قومية فإنا نقدم هذا الحديث عنهم وإليهم وفاء منا بمسئوليتنا القومية عله يسهم ولو بقدر في ان يفرز الناصريين عن أدعيائهم. كشرط اولي لالتحام الناصريين في تنظيم .
لماذا الناصرية ..
الناصرية تعبير متداول على نطاق واسع في الوطن العربي وخارجه ، لا يستطيع أحد أن ينكره أو يتجاهله ، ولكننا لا نستطيع ان نتجاهل أو ننكر أن دلالته لم تتحدد بعد .. نعني بتحديد دلالة التعبير أن يكون مضمونه متميزاً بحيث يقطع سبل الخلط والاختلاط بالمضامين القريبة منه بصرف النظر عن قبوله أو رفضه ، ولسنا نعتقد ان أحداً يستطيع أن يجادل ” بحق ” في ان تعبير الناصرية المتداول على نطاق واسع في الوطن العربي وخارجه غير محدد الدلالة على الوجه الذي يمكنه من اداء وظيفة ” التميز ” و ” التمييز ” بدون فرض الامتياز . نعني ان يتميز مضمونه عن غيره من المضامين الفكرية خاصة القريبة منه وليس المناقضة له فقط . ونعني بالتمييز أن يكون ممكناً بالقياس إليه تمييز من يقبلونه عمن لا يقبلونه وليس عمن يرفضونه فقط .
كما اننا نعتقد أن أحداً لا يستطيع أن ينكر ” بحق ” ما هو واقع من أن تعبير الناصرية ” مطروح ” للدلالة على أفكار ومواقف بالغة الاختلاط والاختلاف والتناقض في بعض الحالات . طبيعي بعد هذا ، أن يكون متاحاً سهلاً لكل رافع لشعار ” الناصرية ” على أفكاره أو مواقفه أن يزعم أن تلك هي الناصرية الحقة وان يجادل بها وفيها غيره من الناصريين أو غيرهم وان يتحول الجدل إلى لجاجة فخصومة فقطيعة فعداء فتكاد تتخم الأرض العربية بالأفراد والشلل والجماعات والأحزاب كل يزعم انه ناصر ويحبس الناصرية عليه وحده ويحبسها عن غيره ولا يلتقون . انه أيضا واقع محسوس يؤكد ان ” تعبير ” الناصرية ” غير محدد الدلالة وإلا فما هي الناصرية ؟
إلى كل الذين يبحثون عن الجواب الصحيح نقول اجتهاداً . ان الجواب الصحيح على السؤال : ما هي الناصرية ؟ متوقف على الجواب الصحيح على سؤال قبله : لماذا الناصرية ؟ إن كانت الغاية من تحديد دلالة ” الناصرية ” التأريخ لفكر عبد الناصر فإن ” الناصرية ” هي مجمل الأفكار التي طرحها الرئيس الراحل عبد الناصر من أول ” فلسفة الثورة ” وما قبله إلى ” الميثاق ” وما بعده لا تستبعد منها فكرة . أو كل هذا بعد تبويبه وتحليله ، هذه الناصرية متاحة منذ وقت بعيد . وقد أنجز عبد الناصر قدراً كبيراً منها حين صاغه في ” الميثاق ” فما على الذين يريدون ” الناصرية ” بهذه الدلالة إلا أن يكملوا ما بدأ عبد الناصر ليضيفوا الى عشرات الكتب التي تناولت ” الناصرية ” بهذه الدلالة كتاباً او كتباً جديدة . وسيكون كل هذا مفيداً من حيث هو يحفظ التراث ويلبي حاجة المؤرخين والدارسين للتاريخ لا أكثر . أما إذا كانت الغاية من تحديد دلالة ” الناصرية ” الإعداد لمواجهة المستقبل وصنع تاريخه فإن عبئاً جسيماً يقع على عاتق أولئك الذين يتصدون لتحديد دلالة ” الناصرية ” وربما كانت جسامته هي السبب في ان احداً من القادرين لم يتصد له بعد وإن كان كثير منهم قد حاموا حوله وانتهى بهم المطاف الى ما أعجبهم من أفكار عبد الناصر فأسموها ” الناصرية ” .
فلماذا الناصرية ..
تحسب ان عشرات الألولف ، مئات الألولف ، وربما الملايين من البشر على امتدا الوطن العربي يريدون ان ” يكملوا المشوار ” .. مشوار عبد الناصر .. ينتمي القدر الأكبر من هؤلاء إلى الجيل العربي الجديد. منهم من لم يعرفوا عبد الناصر ولم يعاشروه ولم يصادقوه ولم يسهموا معه في ثورة 1952 . بعضهم التقى به موقفاً وبعضهم ناضل تحت قيادته ، وبعضهم تلقى عنه أو استمع اليه أو قرأ له أو عنه ولكنهم بحكم السن لم تتح لهم معرفته شخصياً ، أو لقاؤه موقفا ، او العمل تحت قيادته . وغير هؤلاء جميعاً عشرات الملايين من الفلاحين والعمال والبدو والفقراء الكادحين يتمنون لو أن قد ” أكمل المشوار ” .. أولئك لم يعرفوا عبد الناصر إلا من خلال المكاسب العينية من مأكل ومشرب ومسكن وعلم وتعليم وصحة وعلاج طورت حياتهم إلى أكثر مما كانوا يتوقعون وما تزال مرتبطة في أذهانهم بعبد الناصر وعهده . كل هؤلاء منثورون على الأرض العربية في المدن والقرى والكفور وفي البراري وفوق قمم الجبال .
ما كان كل أولئك في حاجة إلى ” ناصرية ” لو أن الحياة في الوطن العربي قد أطردت تقدماً في الاتجاه الذي سار فيه عبد الناصر . ما كان أولئك في حاجة إلى ” ناصرية ” لو أنهم التفوا بعد وفاة عبد الناصر بمزيد من الحرية . بمزيد من الاشتراكية . بمزيد من التقدم نحو الوحدة .
ولكن لأسباب كثيرة – قد نعرض بعضها – حدث في مصر أن أوقفت حركة التطور بعد غياب جمال عبد الناصر ثم ارتدت ثم انطلقت راجعة في اتجاه مضاد لاتجاهها قبل وفاته . كل القوى التي عجزت عن إسقاط قيادة عبد الناصر أو اتجاهها التقدمي أثناء حياته . وإن كانت قد عوقته . قبلت فرصة وفاته لتوقف الاتجاه التقدمي ثم ترتد به – قسراً – راجعة إلى ما قبل ثورة 1952 . مصفيّة في طريقها مكاسب المرحلة التاريخية التي بدأت عام 1952 . من القيادة الدولية لحركة عدم الانحياز والمركز المرموق بين قادة التحرر العالمي إلى التبعية للولايات المتحدة قائدة امبريالية الاستعمار الجديد . من القيادة الثورية للأمة العربية على طريق التحرر والوحدة العربية الشاملة ، الى الاعتراف بالاغتصاب الصهيوني لفلسطين العربية ثم الانحياز الى اسرائيل فالعزلة الإقليمية ثم العداء السافر لوحدة الأمة العربية .. من تحرير الفلاحين والعمال من الاستغلال وتحرير الفقراء الكادحين من العوز وفتح أبواب الممارسة الديمقراطية في صيغ شتى من الديمقراطية الشعبية إلى ليبرالية شائهة تحرم فيها الجماهير من كل صيغ الممارسة وتصطنع فيها الاحزاب اصطناعاً ثم تقيد بألوان مبتكرة من قيود القهر الفكري على كل فكر . والقهر الحركي على كل حركة . والقهر القانوني الذي يضفي الشرعية الشكلية على الاستبداد . من الاستقلال الاقتصادي الكامل والتخطيط الاشتراكي الشامل والتنمية مطردة التقدم إلى التبعية الاقتصادية وفتح أسواق مصر لقانون المنافسة المخرب ، والانفتاح على أزمة النظام الاقتصاد الرأسمالي المعاصر لتغرق مصر ببضائعها الاستهلاكية وأسعارها الخرافية وتصفيتها التدريجية لقاعدة الإنتاج الصناعي التي بنتها مصر حصناً لاستقلالها الاقتصادي ومنطلقاً لرخائها المنشود . من مجتمع يبذل من جهده ما يطيق وفوق ما يطيق ليعوض مراحل التخلف ويلحق بركب التقدم الإنساني . إلى مجتمع يبذل من جهده ما يطيق وفوق ما يطيق ليحفظ لنفسه الحياة . حتى لا يموت جوعاً .
ومصر ذات الثقل الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي أهلها ويؤهلها دائماً لقيادة الظروف العربية في الاتجاه الذي تختاره ، كانت قد اختارت الحرية فتحررت شعوب الدول العربية وكانت قد اختارت الوحدة فلم يستطع واحد ، أي واحد ، من ملايين الشعب العربي أن يجهر بعدائه للوحدة ولو كان عدواً لها ، ثم غير الثقل التاريخي اتجاهه هاوياً فجر معه الأمة العربية كلها وقادها الى التمزق الإقليمي ، والصراع الإقليمي . والعجز الإقليمي ، وأغرقها في الصراعات العشائرية والمنافسة القبلية ، والحروب المحلية . فمكن أعداء لها من العودة الى السيطرة على أجزاء منها . وأصبحت فيها قواعد عسكرية ، وحكام عملاء وأحزاب خائنة ، وتطلع يكاد يكون جماعياً إلى حماية أجنبية تحرس أو تحمي حكامه من مخاطر داخلية . ولم يحدث في التاريخ العربي كله أن تأكد أن ” مصر جزء من الأمة العربية ” كما تأكد حين انتكست مصر فانتكست الأمة العربية بالرغم من كل الجهود التي بذلت لمقاومة الانتكاس . كانت القوانين الموضوعية التي تحكم حركة أمة واحدة أقوى من كل الإرادات وكل النوايا .
وكان مثيراً للدهشة ثم للغضب أن قادة الردة هم ممن كانوا يحيطون بعبد الناصر ويذهبون في التعبير عن الولاء لشخصه إلى حد تحريم كلمة ” لا ” في مواجهته وتكفير نقده . نافقوه حياً حتى المذلة ونافقوه بعد مماته فركعوا أمام تماثيله الصماء ، ولبسوا قميصه الى حين . أولئك الذين لم يكن أحد ليجرؤ على إنكار أنهم هم ” الناصريون ” أياما كان مفهوم ” الناصرية ” في حياة عبد الناصر ، فقد كانوا حريصين على أن يجمعوا في أشخاصهم علاقة الولاء وعلاقة الانتماء وعلاقة الوفاء وعلاقة الرجاء . أولئك الذين كانوا يحتكرون كهانة معبد ” الناصرية ” ويقيمون من أنفسهم طبقة عازلة بين القائد والجماهير ويصدرون أحكام الحرمان وأحكام القبول إلى ساحة الثورة . أولئك الذين نثروا بأيديهم على ثياب الثورة ما علق بها من نقاط سود ثم عادوا يشيرون اليها بأصابعهم العشرة . هم الذين كانوا مع ” الديكتاتورية” منذ بداية الثورة . وهم الذين كانوا قضاة المحاكم الاستثنائية . وهم الذين أصدروا أحكام الإعدام ونفذوها.
وهم الذين حولوا زنازين المخابرات العامة والبوليس الحربي إلى أماكن تعذيب سجون . وهم الذين عفوا بعد ذلك عن المجرمين وسهلوا لهم الإفلات من نفاذ أحكام القضاء ، وهم الذين أنشأوا وقادوا هيئة التحرير وهم الذين أنشأوا وقادوا الاتحاد القومي وهم الذين أنشأوا وقادوا الاتحاد الاشتراكي العربي . وهم الذين نكصوا عن الإسهام في تنمية ” وطنهم ” فلم يستطع ان ينعم بخطة اقتصادية ثانية . وهم الذين كانوا مديرين للقطاع العام فنهبوه وأفشلوا ما استطاعوا من مؤسساته . وهم رجال الدولة التي انهزمت في ست ساعات عام 1967 . وهم الذين ألهوا القائد فمنحوه تفويضاً مطلقاً بأن يفعل ما يشاء بعد هزيمة 1967 . إلى آخره .
وكان أكثر ما آثار الاشمئزاز واستفز المشاعر أن المرتدين قد استجلبوا الهاربين من مخابئهم وكانوا هم الذين حملوا عليهم حتى هربوا ، ثم مكنوهم من إشفاء غليل الحقد على الرجل الذي قاد حركة تطهير المجتمع منهم . وحل فجر العداء لعبد الناصر الميت محل ذل الرياء لعبد الناصر الحي .
هنالك بدأ تصاعد ردة الفعل ضد الردة ، بدأت معارضة صامتة ثم معارضة ناطقة ، فعاد أبطال الردة إلى ما خلفه المستعمرون وأعداء الأمة العربية . استعاروا أسلوبهم ” الخبيث ” فأرادوا أن ” يقلبوا العملية كلها إلى شخص عبد الناصر ” ليخلصوا من تيار المعارضة كله . فأسموا كل معارض ” ناصرياً ” أو “مدعياً للناصرية ” . وأدين كثيرون بأنهم ” ناصريون ” وسجن كثيرون لأنهم ” ناصريون ” أو هكذا قيل عنهم ولو كانوا هم لا يعرفون ما هي ” الناصرية ” . وبدت حركة الردة منتصرة أو انتصرت فعلاً ولكنها من موقع انتصارها ذاته ، وبانتصارها ذاته . قد خلقت هي ذاتها الحاجة الملحة إلى ” الناصرية ” هكذا سيشهد التاريخ لا ريب فيه .
لم يكن انتصار الردة راجعاً إلى قوة المرتدين بل إلى ضعف المعارضة ، وعلى وجه خاص إلى ضعف الناصريين . ولم يكن ضعف الناصريين راجعا إلى أنهم أقلية فلقد كانوا بأنفسهم وبمن معهم أغلبية ساحقة من الشعب العربي في كل موقع . كان عجز الناصريين عن ” الوحدة ” التي يتحولون بها من أفراد وجماعات إلى ” قوة ” هو مقتلهم من ناحية ، وهو الذي مكن المرتدين من تحقيق نصر لا يستحقونه من الناحية الأخرى . وكما يشهد التاريخ بأن المرتدين قد خلقوا الحاجة إلى ” الناصرية ” سيشهد التاريخ بأن ” الناصريين ” قد أسهموا ، بعجزهم عن الوحدة ، في خلق الردة وانهم مسئولون تاريخياً عن انتصارها . ومنهم من يدركون الآن مسئولياتهم ويدركون أن وحدتهم لم تعد اختياراً خاضعاً لتقديرهم بل هي حياة او موت بالنسبة اليهم جميعاً . حياة تاريخية أو موت تاريخي . فلما برزت وألحت حاجاتهم برزت وألحت حاجتهم إلى ” الناصرية ” ذات المضمون المحدد الذي تصلح به لالتقائهم عليها والتزامهم بها واحتكامهم اليها عند الخلاف ، إذ بها يمكن أن تتحقق وحدتهم وبدونها لن تتحقق وحدتهم أبداً .
لماذا ” الناصرية ” .. إذن ؟ .. من اجل وحدة الناصريين .
متى الناصرية ؟
ولماذا وحدة الناصريين ؟ .. من أجل إيقاف الردة وتصفيتها ثم استئناف المسيرة التقدمية إلى المستقبل . لابد هنا من الانتباه إلى الفرق بين هدف إيقاف الردة وتصفيتها وبين هدف استئناف المسيرة إلى المستقبل . إن الهدف الأول رد على فعل الردة وهو غير مقصور على الناصريين .ولكن الناصريين لا يستطيعون ان يشاركوا في تحقيقه إلا بوحدتهم ، ونتيجته في النهاية دفاعية مؤقتة . وقد يمكن ان توجد ” ناصرية ” كافية لتوحيد الناصريين عليها كما وحدت الأهداف الستة قوى ثورة 23 يوليو 1952 . ولكنها وحدة ما ان تنتصر حتى تنفرط كما انفرطت وحدة ” الضباط الأحرار ” ومجلس قيادتهم بعد انتصار ثورة 23 يوليو 1952 . أما هدف استئناف المسيرة إلى المستقبل فهو فعل ايجابي لا تكون الردة بالنسبة اليه إلا عقبة يجب أن تزول لتفسح الطريق إلى بناء الحياة ايجابياً . إن ” الناصرية ” بهذه الدلالة تحقق وحدة الناصريين ، ثم تمكنهم من ان يوقفوا الردة ويصفوها ، ولكنها تتجاوز هذا إلى تسليحهم بما يحفظ وحدتهم إلى مستقبل أبعد . رؤية فكرية متكاملة للمجتمع كما يجب ان يكون . متى ؟ .. بعد إيقاف الردة وتصفيتها . إن ” الناصرية ” بهذه الدلالة ليست رؤية فكرية للمجتمع الذي قاد حركته عبد الناصر حتى سنة 1970 وليست إدانة فكرية لمجتمع ارتدت حركته بعد وفاة عبد الناصر عام 1970 ، ولكنها الرؤية الفكرية لمجتمع يناضل الناصريون من اجل تحقيقه في المستقبل .
الغاية من تحديد دلالة ” الناصرية ” إذن ، هي الإعداد لمواجهة المستقبل وصنع التاريخ وليس دراسة الماضي لكتابة التاريخ ، الغاية ” ناصرية ” المستقبل وليس ” ناصرية ” الماضي .
***
(2)
ناصريون … لا .
ناصرية مستحيلة  :
إن كان ما سبق صحيحاً ، وهو عندنا صحيح .. فقد كان مستحيلاً أن توجد ” ناصرية ” المستقبل في الماضي . كان مستحيلاً أن توجد ” ناصرية ” في حياة الرئيس جمال عبد الناصر وذلك لأسباب تاريخية كثيرة . قد لا يرضي هذا الذي نقول كثيراً من ” الناصريين ” أو ” أدعياء الناصرية ” . ولن يكون هذا غريباً . ذلك لأنه يجرد كثيرين من قميص عبد الناصر الذي لبسوه ليستروا عوراتهم . ولقد كانت أقبح عوراتهم الرغبة الجبانة في أن ينقض كل بناء اجتماعي تقدمي تم في عهد عبد الناصر ولكن بما ” للورثة ” من حق التصرف في التركة وليس بما للأعداء المتربصين من مقدرة على الهدم . إنها ” ناصرية ” 1970 – 1973 التي دخل بها الورثة إلى الشعب يحملون على صدورهم شارات الحداد على عبد الناصر ، ويرتلون قصائد الرثاء للقائد الفقيد ثم يتلون على مسامع الشعب الحزين وصايا ينسبونها إليه . كل هذا وهم يخفون تحت قميص عبد الناصر معاول هدم كل ما أنجز في حياة عبد الناصر . ولن يرضي هذا الذي نقوله فريقاً من هؤلاء ” الناصريين ” أو أدعياء الناصرية كانوا يودون – لو استطاعوا – أن يمتد العمر بناصرية 1970 –1973 حتى تتم تصفية مرحلة عبد الناصر بذكاء ولباقة وخفية بدلاً من التنطع والفظاظة والفجر في العداوة . ولقد كان غطاء ” تطوير الناصرية ” كفيلاً بأن يستر عوراتهم كما فعل بكثير من الذين ما زالوا يطورون الماركسية حتى قبروها واقاموا على قبرها نصب أفكارهم ” الماركسية ” .. نعم ، لن يرضي هذا الذي نقوله .. كثيراً من الذين تقدموا إلى الشعب ، بعد وفاة عبد الناصر ، يحملون شهادتين : شهادة وفاة عبد الناصر وشهادة من التاريخ بأنهم ” ناصريون ” فلننظر كيف شهد التاريخ ” بالناصرية ” لمن أصبح انتماؤهم إليها مستحيلاً ، لأنها – هي ذاتها – ناصرية مستحيلة .
في البدء أطلق تعبير ” الناصرية ” والناصريين من موقف العداء لعبد الناصر وللأمة العربية . وقد فطن الرئيس جمال عبد الناصر إلى الدلالة العدائية لتعبير الناصرية عندما يجيء من جانب القوى المعادية . قال يوم 20 مارس 1963 : ” .. خرجوا بعملية الناصريين . طلعوها بعد الانفصال ( 1961 ) . قبل الانفصال ماكانش فيه حاجة اسمها ناصريين . أعداؤنا ، عشان يمثلوا العملية بشخص ويركزوا عليه ، قلبوا العملية كلها إلى شخص عبد الناصر وبدأوا الحملة عليه وعلى اللي سموها الناصرية والناصريين . ما كانش فيه حاجة اسمها ناصرية ولا ناصريين ” . واستطرد شارحاً : ” أعداؤنا غرضهم ايه ؟ .. بيعتبروا أن عبد الناصر سار في الخط العربي . لازم يخلصوا منه .. لكي يخلصوا من التيار كله .. وهذا في الحقيقة ، عمل فيه نوع من التوجيه المعنوي والخبث في العمل السياسي ” .
هكذا أدان عبد الناصر الدلالة الذاتية ” لتعبير الناصرية ” وكشف عن البواعث العدائية لها حين يراد بها التعبير عن علاقة بشخص عبد الناصر ، علاقة انتماء او علاقة ولاء أو علاقة وفاء أو علاقة رجاء ، واعتبر استعمال ” الناصرية ” على هذا الوجه خبثاً سياسياً تمارسه القوى المعادية بقصد قلب الحقيقة ، بتحويل الانتماء من الموقف إلى الذات ، حتى إذا ما قضي على الذات انهزم الموقف .
ولقد انقضت هذه ” الناصرية ” برحيل عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970 ، إذ بوفاته غاب شخصه فلم يعد أعداء الأمة العربية قادرين على ان ” يقلبوا العملية كلها إلى شخص جمال عبد الناصر ” الغائب أبداً . وإن فعلوا ، وبعضهم يفعلون ، فإنه ليس خبثاً سياسياً بل هي سياسة ساذجة لا تخدع أحداً . وما يخدع إلا الذين توهموا ، أو يتوهمون ، إن الحملة على عبد الناصر الميت تستهدفه شخصياً ، ويغفلون عن انها حملة ضد الأحياء تستهدف تصفية ما اكتسبوه من منجزات تحققت لهم خلال المرحلة التاريخية التي قادها عبد الناصر ، كذلك ينخدع الذين توهموا ، او يتوهمون ، إن مجرد رد الحملة عن عبد الناصر الميت علاقة يسمونها ” ناصرية ” ينسبون أنفسهم اليها أو ينسبون اليها غيرهم ويغفلون عن انها إن لم تكن تصحيحاً للتاريخ مما يعنى به المؤرخون ، فهي دفاع عن مكتسبات الشعب التي يراد اختلاسها أو تصفيتها ، وإن الدفاع عن الموتى لا ينشيء بينهم وبين المدافعين من الأحياء أية علاقة شخصية . لا علاقة انتماء ولا علاقة ولاء ولا علاقة وفاء ولا علاقة رجاء . إنها ” ناصرية ” مستحيلة .
أضاف عبد الناصر إلى حديثه الذي ذكرناه قوله : ” .. حصل بعد كده على أي حال .. ناس تبنوا هذا الكلام وقالوا احنا ناصريين وضربوا أعداء القومية العربية بسلاحهم .. ده شيء مختلف ” . لم يقل على أي وجه كان ذلك مختلفاً . ربما لأنه كان واضحاً من سياق الحديث في تاريخه . فقد كان الحديث يدور عن مرحلة صعود المد القومي الوحدوي . وفيها كان عبد الناصر يقف موقف الدفاع عن الأمة العربية كلها ضد اعدائها كلهم ، مرحلة قال عنها عبد الناصر إن ثورة 23 يوليو 1952 قد تحولت خلالها من ثورة مصرية إقليمية إلى ثورة عربية . قال يوم 20 مارس 1963 : ” ايه اللي خلانا يعني بقينا ممثلين للعروبة ؟ .. اللي تعمل في هذا البلد . والثورة اللي قامت في 23 يوليو .. طلعت ثورة ولم تكتف بأنها ثورة مصرية اقليمية .. اكتشفت حقيقتها .. واتجهت لتكون ثورة عربية ” وهكذا حينما اتجهت ثورة 23 يوليو لتكون ثورة عربية اتجه قائدها ليكون قائداً عربياً وقبلته الجماهير العربية تؤيده وتقتدي به وتتبنى مواقفه وتدافع عنها فكانت ” الناصرية ” تعني موقفاً مماثلاً لموقف عبد الناصر أو مؤيداً له . علاقة لقاء.
ولقد بقيت ” للناصرية ” هذه الدلالة إلى ان توفى عبد الناصر . واتى حين من الدهر سادت الوطن العربي . وكان وراء ذلك أسباب تاريخية وحدت بين كثير من مواقف عبد الناصر ومواقف كثير من العرب التقدميين . ذلك لأن المرحلة التاريخية التي قادها عبد الناصر كانت تتميز أساساً بأنها مرحلة تحرر قومي . ومنها استمد جمال عبد الناصر أوضح مميزاته . كان فيها قائد معارك التحرر العربي ضد الاستعمار القديم والجديد والاستيطاني وبطل النضال القومي ضد التبعية بكل أنواعها . وخلالها خسرت حركة التحرر القومي المعركة العسكرية عام 1956 ثم استردت كل ما خسرته إلا القليل . انهزمت هزيمة قاصمة عام 1967 ولكنها لم تنقصم بل صمدت ثم صعدت لتستأنف المعارك في حرب الاستنزاف . ولكنها ، في مقابل هذا ، كسبت معركة الجلاء عن مصر عام 1956 ومعركة تحرير الجزائر ومعركة تحرير العراق ومعركة تحرير اليمن وأسهمت في كل معارك التحرير حتى خارج حدود الوطن العربي وكسبت حلفاء في معاركها التحررية من أطراف الأرض جميعاً ذادوا عن مصر القاعدة القائدة فلم يجهز عليها العدو بالرغم من انها كانت مباحة بعد هزيمة 1967 ، وامدوها بما استطاعت به أن تصمد حتى تحقق من النصر ما تحقق في معركة 1973 . إن كل تلك إنجازات غير منكورة تمت تحت قيادة عبد الناصر وبها كسب عبد الناصر عن جدارة مركزه العالمي كواحد من أبطال التحرر القومي في العالم كله .
ولما كانت معارك التحرر القومي قد تسمح بالتقاء قوى مختلفة المنابع الفكرية والاتجاهات السياسية والمصالح الاقتصادية والوعي الفكري ما دامت ملتقية في موقفها الموحد ضد الاستعمار فقد التقت مع عبد الناصر قوى وجماهير تتفق في موقفها التحرري وتذهب فيما عدا ذلك مذاهب شتى . واحتضنت حركة التحرر القومي بقيادة عبد الناصر كل تلك القوى والجماهير ووظفت – ما استطاعت – كل قادر فيما يقدر عليه . وتجاوزت عن نقاط الاختلاف مركزة على نقاط الالتقاء فقيل عنهم ” ناصريين ” . حيث ” الناصرية ” علاقة التقاء بموقف عبد الناصر التحرري . أما ما يتجاوز هذه الدلالة من مضامين اخرى ديمقراطية أو اشتراكية أو وحدوية فقد كان لكل واحد فهمه الخاص لها .
ولقد انقضت هذه ” الناصرية ” برحيل عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970 . إذ بوفاته انقطعت مواقفه فلم يعد أحد قادراً على ان يلتزم بموقف عبد الناصر أو يتبناه أو ينتصر له أو ينصره . ولم يعد في مقدور أولئك الذين التزموا تلك المواقف أو تبنوها أو انتصروا لها أو نصروها أن يتخذوا من مواقفهم الماضية مبرراً لإطلاق تعبير ” الناصرية ” على مواقفهم الحالية . وإن فعلوا وكثيراً ما يفعلون . فهو ابتزاز مخادع ، وما يخدعون إلا الذين يعتقدون بالثبات ويجحدون الحركة فينكرون التطور الذي تتغير به الاشياء والناس والظواهر ثم يتوهمون ان كل شيء قد توقف وبقى كما كان منذ توقف قلب عبد الناصر فيعتبرون المفردات من الرجال أو النساء . والجماعات من الناس الذين جمعت بينهم وبين عبد الناصر أثناء حياته علاقة لقاء مواقف أسميت ” ناصرية ” وكانوا بها ” ناصريين ” ، ما يزالون ” ناصريين ” وبها تكون مواقفهم ” ناصرية ” . كلا ، إن علاقة اللقاء بمواقف عبد الناصر أثناء حياته قد اصبحت بعد وفاته ” ناصرية ” مستحيلة .
ثم أنه من المسلم أن ثورة 23 يوليو 1952 قد قامت في زمانها ، تحت ضغط الحاجة الاجتماعية الملحة إلى تغيير نظام واضح الفساد . وقبل ان تكتمل لها رؤية فكرية محددة للنظام البديل ( نظرية ) . ولقد أقر قائد الثورة ، جمال عبد الناصر ، بذلك القصور الفكري وأشار إلى أسبابه حين قال يوم 25 نوفمبر 1961 : ” ناس كتير بيقولوا ما عندناش نظرية . بدنا والله تقول لنا نظرية ، فين النظرية اللي احنا ماشيين عليها ؟ .. يقول اشتراكية ديمقراطية تعاونية . ايه هي النظرية ايه هي حدود النظرية . أنا بسأل . ايه هي أهداف النظرية ، أنا باقول إني ما كنش مطلوب مني أبداً في يوم 23 يوليو إني اطلع يوم 23 يوليو معايا كتاب مطبوع واقول إن هذا الكتاب هو النظرية . مستحيل لو كنا قعدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ما كناش عملنا يوم 23 يوليو لأن ما كناش نقدر نعمل العمليتين مع بعض ” .
ان عبد الناصر لم يعبر بهذا القول عن القصور النظري في ثورة 23 يوليو فحسب بل كشف عن أسبابه .
خلاصة تلك الاسباب ان الظروف الاجتماعية والسياسية التي سادتمصر ما قبل ثورة 1952 كانت قد وفرت الشروط الموضوعية للثورة ( السيطرة المطلقة لتحالف الاستعمار والإقطاع والرأسمالية على الشعب وثرواته ) ولكنها لم تسمح باكتمال نضج الشروط الذاتية . كان لابد . موضوعياً . من الثورة في أوانها كمحصلة لمرحلة تاريخية سابقة عليها . ولكن من خصائص تلك المرحلة التاريخية ذاتها ، ومن دواعي الثورة عليها أيضاً ، انها لم تكن تسمح بالنمو الفكري إلى حد اكتمال نظرية ثورية . كان النظام الليبرالي تحت قيادة تحالف الاستعمار والاقطاع والرأسمالية يسمح بتداول ونمو كل الأفكار حتى الأفكار الصهيونية ( كانت الصهيونية تصدر في مصر عديداً من الصحف والمجلات خلال الفترة من 1920 حتى 1947 منها ” الاتجاه الاسرائيلي ” – ” اسرائيل ” – ” الفجر ” – ” الصوت اليهودي ” – ” الشمس ” – ” المنبر اليهودي ” . ولكن ذلك التحالف لم يكن يسمح أبداً بتداول او نمو الفكر الثوري . فكان لا بد من الثورة بالممكن إذ لم تكن الظروف الاجتماعية والسياسية ومعدل سرعة تدنيها تسمح بانتظار ما يجب ان يكون .
إن تلك الأسباب التاريخية التي تفسر لماذا قامت ثورة 23 يوليو 1952 قبل أن تكتمل لها نظرية ثورية هي ذاتها التي تفسر قيام الثورة بتنظيم وتدبير وفعل مجموعة من ضباط القوات المسلحة تحت قيادة عبد الناصر ( تنظيم الضباط الأحرار ) وليس بتنظيم وتدبير وفعل حزب جماهيري ثوري . ذلك لأنها لم تكن تسمح للممارسة الديمقراطية بان تتعمق وتنمو إلى الحد الذي تستطيع فيه الجماهير امتلاك المقدرة الشعبية على فرض إرادتها . في عام 1946 ثار الشعب ضد اتفاقية ” صدقي بيفن ” فلجأ اسماعيل صدقي إلى القانون الفاشي الذي أصدره موسوليني في ايطاليا عام 1930 واستعار منه نصاً أضافه إلى قانون العقوبات ( المادة 98 أ ) بفرض عقوبة جسيمة على كل من أنشأ أو اسس أو نظم او أدار جمعيات أو هيئات أو منظمات ترمي إلى ” هدم أي نظام من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية أو إلى تحبيذ شيء مما تقدم أو الترويج له متى كان استعمال القوة أو الارهاب وأية وسيلة أخرى غير مشروعة ملحوظاً في ذلك ” . وطبقاً له كانت كلمات مثل ” ثورة ” أو ” اشتراكية ” أو ” تقدمية ” وكل كلمة تدان بها الرأسمالية أو النظام الملكي تتضمن في ذات دلالتها ان استعمال القوة .. ملحوظ . أما الوسائل غير المشروعة فكان يكفي لها اتفاق شخصين أو أكثر على المساس بالنظام ولو لم يفعلوا شيئاً تنفيذاً لهذا الاتفاق ( المادة 48 من قانون العقوبات )  .
وهكذا جاءت ثورة 23 يوليو 1952 وهي تحمل من سمات القصور الفكري والتنظيمي ما يتفق مع كونها الوليد الشرعي لمجتمع ما قبل الثورة . جاءت مضادة له في الاتجاه ، وهذا ما كانت به ثورة تستهدف التغيير السياسي والاجتماعي وليس انقلاباً يستهدف مجرد الاستيلاء على السلطة ، ولكنها كانت مضادة له كما يضاد اتجاه رد الفعل اتجاه الفعل بدون ان يفقد صلته به أو نسبته إليه ، بل يمكن ان يقال ، بدون مخاطر الوقوع في خطأ كبير ، إن ثورة 23 يوليو 1952 كانت يوم ان قامت ” رد فعل ثوري ” على مجامع ما قبل 1952 أكثر مما كانت ” فعلاً ثورياً ” ضده . إن صح هذا التعبير ، وإن ثورة يقودها عبد الناصر ولكن بدون نظرية لا تنسب إليها أو تنسب إلى ” الناصرية ” تلك كانت ” ناصرية ” مستحيلة .
ثم إن القصور الفكري في ثورة 23 يوليو 1952 لم يكن مقصوراً على النظرية ( الرؤية الفكرية المحددة للمجتمع المستهدفة ) بل على ، وربما من باب أولى ، ” المنهج ” ( معرفة واستخدام القوانين الموضوعية لحركة التطور الاجتماعي ) . ولما كان تحديد خصائص الأهداف الاستراتيجية او توقعها مستحيلاً بدون الرجوع الى منهج علمي . فإن القائمين على ثورة 23 يوليو لم يكونوا قادرين على ان يحددوا مضموناً معيناً لأهدافها الستة ولو على المدى الاستراتيجي . كما لم يكن ممكناً لغير القائمين على الثورة أن يتوقعوا ما سيكون عليه مضمون تلك الأهداف الستة او لأي واحد منها . وقد ادى عجز الثورة عن الوعد والالتزام بمضمون محدد وعجز المثقفين عن توقع وتقييم مضمون محدد إلى خلاف كبير وصل الى حد المواجهة العدائية بين الثورة وبين كثير من المثقفين والقوى العقائدية ( الاخوان – المسلمون والماركسيين خاصة ) الثورة غير قادرة على تحديد مضمون وعودها الستة تحديداً واضحاً والمثقفون لا يجدون في تلك الوعود الستة ما يحدد مضمونها ولو في المدى الطويل ، والقوى العقائدية تسعى إلى ان تصوغ من عقائدها مضموناً لتلك الوعود . فاحتكموا جميعاً . وتحاكموا . على هدي مواقفهم من مرحلة قيام الثورة كواقع متعين بعد ان جرده كل منهم من الحركة المتطورة لعدم توافر العناصر التي تحدد اتجاه تلك الحركة وغاية تطورها ( المنهج والنظرية ) . ولقد بلغت الأزمة ذروتها في مارس 1953 وكادت أن توئد الثورة الوليدة وبعدها حدثت فرقة استمرت سنين طويلة . قيل أنها أزمة ثقة وقيل انها ازمة المثقفين .. ولقد كانت – فعلاً – أزمة ثقة المثقفين بالثورة إلا القليل ، وازمة ثقة الثورة بالمثقفين إلا القليل . وكان وراء الأزمة سبب على أكبر قدر من الجدية . الثوار يريدون أن يثق المثقفون بأشخاصهم ونواياهم ويقدمون الثورة ذاتها دليلاً على اهليتهم ، والمثقفون يريدون أن يلقوا بمستقبل الحياة في ظل الثورة فلا يجدون للثورة منهجاً أو نظرية تبرر تلك الثقة . من مواقع القطيعة تلك كانت الثورة تتطور تحت الرقابة النقدية والمتطورة أيضاً من جانب المثقفين إلى أن وجد الجميع أنفسهم – تبعاً لمراحل تطور الثورة وتطورهم – في مواقع واحدة أو متقاربة أو غير متناقضة واكتشفوا كم جنى القصور الفكري في ثورة 23 يوليو 1952 على الثورة حين حرمها من إسهام المثقفين في إكمال عنصرها الفكري وكم جنى على المثقفين انفسهم حين حال دون التحامهم بالثورة وإبداع نظريتها التي لم يكن ثمة ما يحول دون ان تكون ” ناصرية ” .
في عام 1964 أرسل الشيوعيون إلى جمال عبد الناصر رسالة طويلة قالوا فيها : ” إننا لا ننكر أننا لفترة محدودة فيما بين عامي 1953 و1955 قد وقفنا من الثورة موقف المعارضة . على ان هذا الموقف كان يعود في الواقع إلى خطئنا في فهم قيادة الثورة لا إلى إرتداد عن أهداف الثورة . ولهذا فإنه ما كادت الأحداث تكشف خطأ فهمنا حتى تغير موقفنا على الفور . واعترفنا علناً بخطئنا .. ” . وفي تلك الرسالة قالوا عن ” الميثاق ” : ” وإنا لنسمع في هذا الميثاق صوت آمالنا ونبض حياتنا ، فإذا ما تكلم غيرنا عن قبوله أو تأييده فإننا نتكلم نحن عن تحقيق وإنجاز اهدافه ” . وتبع ذلك أن أصدر الحزب الشيوعي المصري في 25 ابريل 1965 بياناً بحل نفسه تحت عنوان ” حزب اشتراكي واحد تحت قيادة عبد الناصر ” ..
والواقع إن عبد الناصر لم ينكر أبداً حق المثقفين ومسئوليتهم في إكمال القصور الفكري في الثورة ، قال يوم 25 نوفمبر 1961 ( بعد صدور الميثاق ) : ” ما نقدرش نقول إن احنا عملنا نظرية . ويا جمال اعمل لنا نظرية . انتم اللي عليكم تعملوا نظرية . المثقفين هم اللي عليهم يعملوا نظرية ” . وهو قول يردد بدهية ، ففي الوطن العربي وفي غير الوطن العربي لا يمتلك القدرة اللازمة للبناء الفكري إلا المثقفون بل إنهم يتميزون بصفتهم هذه تمييزاً لمقدرتهم تلك . على أي حال ، ففي ظروف تلك القطيعة بين الثورة والمثقفين كانت ” الناصرية ” كبناء فكري مستحيلة .
مع غياب المنهج والنظرية انتهجت الثورة ” الجربة والخطأ ” أسلوباً للحركة ، قال عبد الناصر وهو يقدم ميثاق العمل الوطني إلى ” المؤتمر الوطني للقوى الشعبية ” يوم 21 مايو 1961 : ” العشر سنوات اللي فاتت كانت فترة تجربة ، فترة ممارسة ، كانت فترة مشينا فيها بالتجربة والخطأ ” . وقال يوم 7 ابريل 1963 . خلال مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق : ” بالنسبة لنا .. تجربتنا قابلتنا اسئلة كثيرة بهذا الشكل كان لابد ان نوضحها في اول يوم لم يكن عندنا منهج ” .
جادل ، أو قد يجادل البعض بأن أسلوب ” التجربة والخطأ ” هو ذاته منهج علمي ويكادون يزعمون بأن ” الناصرية ” منهجاً . وهو زعم يخلط بين ” التجربة ” و ” التجريب ” . التجربة هي إحدى الخطوات الأساسية في أسلوب البحث العلمي . يبدأ البحث العلمي برصد وملاحظة حركة الظواهر والاشياء ثم استخلاص قانون تلك الحركة من إطرادها على قاعدة واحدة في الظروف المتماثلة . هذا القانون المستخلص يبقى ” فرضاً نظرياً ” إلى أن تختبر صحته وذلك عن طريق ” التجربة ” أي ” إعادة ” اختباره في الظواهر أو الاشياء ذاتها في الظروف ذاتها . فإن صدق صح وإن لم يصدق يصحح على ضوء ما اسفرت عنه ” التجربة ” ويعاد اختباره مصححاً في ” تجربة ” جديدة .. وهكذا إلى ان يصدق فيصبح قانوناً او ” نظرية ” بهذا تنتهي مرحلة البحث العلمي بما فيها ” التجربة ” . ونصبح على معرفة واثقة بقانون او نظرية موثوقة نستخدمها لتحقيق ما نريد بدون حاجة الى اختبارها في تجربة جديدة . وعلى ضوء النظرية ، وليس التجربة ، نستطيع ان نخطط لصنع المستقبل وان نتوقعه وان نصنعه .
هذه التجربة ” لا ترد إلا على الأشياء والظواهر القابلة للتكرار ، وهي الأشياء والظواهر المادية التي يحكمها قانون ( المادة لا تفنى ولا تتجدد ) بل تتحول . اما المجتمعات البشرية فلا تخضع ” للتجربة ” لأنها متطورة أبداً . والتطور الاجتماعي يعني أن المجتمع يتغير وينمو عن طريق الاضافة خلال حركته عبر التاريخ وبالتالي فهو لا يتكرر وليس قابلاً للتكرار . من هنا يصبح مستحيلاً إعادة المجتمع إلى ” ماكان عليه ” لنجري عليه ” تجربة ” نختبر فيها صحة ما كنا قد استخلصناه من ملاحظة حركته في مرحلة سابقة . لهذا حكم على ” المنهج التاريخي ” بأنه عقيم . ليس معنى هذا أن المجتمعات والظواهر الاجتماعية لا تخضع للبحث العلمي . هي تخضع ، ولكن على مستوى مفرداتها ( الانسان ) . فالانسان ، مفرد المجتمع ، متكرر وقابل للتكرار . إذ نستخلص من ملاحظته قانون حركته نستطيع ان نعود الى اختبار صحة القانون فيه ، أي نخضعه للتجربة . وعندما نكشف قانونه نستخدمه بدون تجربة اخرى . ونستطيع أن نكتشف قوانين المجتمع والظواهر الاجتماعية من خلال معرفة التأثير المتبادل بين فعالية قانون الانسان والقوانين التي تحكم المادة ، أي من خلال تفاعل قوانين ثبتت صحتها ولكن ليس من خلال اجراء ” تجربة ” على مجتمع .
كل هذا يدخل في نطاق البحث العلمي .
أما ” التجريب ” فهو محاولة تحقيق ما نريده بدون معرفة سابقة بقوانين الحركة وطرق استخدامها . إن مضمون ما نريده يتحدد على ضوء احتياجاتنا كماعرفناها من خبرتنا في ” الماضي ” . ولكنه لا يتحقق ولا يكون قابلاً للتحقق إلا في ” المستقبل ” . ولما كنا لا نعرف على وجه الدقة العلمية ” لغياب المنهج ” كيف يمكن تحقيقه في المستقبل فإننا ” نجرب ” أقرب الاساليب إلى أذهاننا . فإذا لم تنجح المحاولة نقول إن ثمة خطأ في الاسلوب الذي جربناه . أقرب إلى الصحة أن نقول ان ثمة خطأ في معرفتنا الاسلوب المناسب . ” فنجرب ” أسلوباً آخر .. وهكذا إلى أن يتحقق ما نريده أو يثبت لنا أنه غير قابل للتحقق او نيأس فنغير ما نريده . ومن المهم الانتباه إلى ان ما نريده قد يتحقق من خلال ” التجربة والخطأ ” . ان تحققه يعني ان الاسلوب الذي جربناه كان صحيحاً بمعنى انه كان متفقاً مع القوانين الموضوعية التي تضبط حركة الاشياء والظواهر التي تجرب فيها . ولكن لما كنا نجهل اصلاً تلك القوانين . وبالتالي لم نتعمد استخدامها ، فإن نجاح المحاولة يكون ” صدفة ” . وهنا يكمن الخطر في الاسلوب التجريبي خاصة حين يستعمل في حل المشكلات الاجتماعية . إذ كثيراً ما يغري ” نجاح الصدفة ” بالاصرار على اسلوب ” التجريب ” وبالرغم من تكرار الفشل فإن مصادفات النجاح قد تصرف الانتباه عن الجهود التي أهدرت والوقت الذي ضاع خلال ” التجريب ” وما اصاب المسيرة من تعثر او تردد او ارتداد . وإذ يكون المجتمع هو مجال التجريب تصبح المخاطر أفدح لأن ضحايا الخطأ هنا هم البشر انفسهم .
ومع ذلك فإن ” التجريب ” يكسب البشر خبرة بأساليب جربت ثم فشلت وبأساليب جربت ثم نجحت ويتوقف اتساع مساحة النجاح وتقلص هامش الفشل على المقدرة الذاتية على التعلم من الماضي وإثراء الخبرة الذاتية بمرجحات الفشل والنجاح عليها . ولقد كان عبد الناصر متمتعاً بمقدرة فذة على الاستفادة من الاخطاء والتعلم من التجربة وإضافة مضامين فكرية وتطبيقية متنامية إلى حركة الثورة . لم يكن مجرد قناة تمر منها الأفكار والخبرات السابقة في طريقها الى التنفيذ . بل كان عنصراً مضافاً الى الأفكار والخبرات التي سبقته يتفاعل معها فيؤثر فيها ويتأثر بها . فلا تتجاوزه إلى ساحة التطبيق إلا وقد حملت أثراً من خلاصة خبرته . كانت تجارب الثورة بأخطائها تعلم قائدها فيتعلم ليعود قائد الثورة فيصحح أخطاء تجارب الثورة . وهكذا في حركة جدلية لم تحفظ للثورة اتجاهها وتحصنها ضد الارتداد فحسب بل أغنتها فكراً فقومتها حركة . بدأت الثورة تجرب تحقق التحرر في إطار العزلة الاقليمية ، فلما اكتشفت الخطأ متجسداً في حلف بغداد بدأ عبد الناصر يدرك العلاقة الموضوعية بين تحرر الأمة ( العربية ) وتحرر جزء منها ( مصر ) ولم يرتد عن هذا أبداً . بدأت الثورة تعول في بناء الجيش الوطني الذي يحمي حرية مصر على السلاح يأتيها من الولايات المتحدة الأمريكية فلما اكتشفت الخطأ متجسداً في التبعية كشروط لتوريد السلاح الأمريكي بدأ عبد الناصر يدرك العلاقة الموضوعية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاستعمار الجديد ولم يرتد عن هذا أيضاً . بدات الثورة بإقامة التنمية على أسس رأسمالية فلما اكتشفت الخطأ متجسداً في نكوص الرأسمالية عن المساهمة في خطة التنمية بدأ عبد الناصر يدرك استحالة الرأسمالية بدون محركها الوحيد : الربح فلم يرتد عن هذا ابداً .. إلى آخره . هكذا أنضجت تجارب الثورة قائدها وأنضجها فاحتفظت باتجاهها التقدمي ثابتاً بالرغم من كل العثرات والأخطاء .
والحصيلة غير منكورة او غير قابلة للإنكار . إن الفرق بين ما بدأت به الثورة عام 1952 وما انتهت إليه عام 1970 فرق نوعي كبير . إنه الفرق – على المستوى التحرري – بين اتفاقية ” الجلاء ” التي وقعت مع بريطانيا يوم 19 اكتوبر 1954 والتي قبلت بها الثورة إبقاء القاعدة العسكرية البريطانية في منطقة القناة تحت رعاية فنيين مدنيين لتعود اليها بريطانيا إذا ما حدث اعتداء على ” مصر أو إحدى الدول العربية او تركيا ” وبين قيادة حركة عدم الانحياز والاشتراك في رد العدوان الاستعماري على حريات الشعوب في كل مكان في الأرض – الفرق بين الحماية والاستقلال – انه الفرق – على المستوى القومي – بين المبادرة إلى إتاحة الفرصة لانفصال السودان ( برنامج هيئة التحرير التي أنشئت يوم 16 يناير 1953 ) من اجل ان تتحرر مصر وبين النضال من اجل الوحدة العربية الشاملة لضمان حرية مصر . الفرق بين الاقليمية والقومية . إنه الفرق – على المستوى الاقتصادي – بين قانون الاستثمار رؤوس الأموال الأجنبية ( رقم 156 لسنة 1953 ) الذي فتح ابواب مصر لسيطرة الاقتصاد الأجنبي وبين قوانين يوليو 1961 – التي فتحت أمام مصر طريق التحول الاشتراكي . الفرق بين الرأسمالية والاشتراكية . إنه الفرق – على المستوى السياسي – بين دعوة الأحزاب إلى ” تطهير ” نفسها من بعض قادتها ( 31 يوليو 1952 ) وبين ” طليعة الاشتراكيين ” ( 1963 ) حزباً قائداً لتحالف قوى الشعب العاملة . الفرق بين المثالية والواقعية . إنه الفرق – على المستوى الفكري العام – بين الأهداف الستة ( 1952 ) وبين ” الميثاق ” ( 1962 ) وهو فرق هائل إلى درجة لا يكاد يصدق معها القول بأنهما ينتميان إلى ثورة واحدة ذات قيادة واحدة وأن الفاصل التجريبي بينهما عشر سنوات فقط .
تطورت إذن ثورة 1952 من خلال تجريبها وتقدمت بالرغم من عثراتها طوال المرحلة التاريخية التي قادها جمال عبد الناصر . على مدى ذلك التطور . وتبعاً لمضمون كل مرحلة منه – عملت مع عبد الناصر وتحت قيادته شخصيات وقوى عديدة . منها التحرريون حين بدا قائداً تحررياً . ومنها الوحدويون عندما بدا قائداً عربياً . ومنها الاشتراكيون عندما بدأ مرحلة التحول الاشتراكي . وكان كل من يعمل معه وتحت قيادته يستحق ان يسمى ” ناصرياً ” إلا إذا كان متميزاً بانتماء آخر ظاهر او حتى لو كان ذا انتماء آخر غير ظاهر او منكور . ولم تكن ” الناصرية ” تعني اكثر من الالتزام بالحركة تحت قيادة عبد الناصر . أما فيما يتجاوز هذا الالتزام فقد كان لكل واحد مفاهيمه الخاصة . لم يكن كل التحرريين وحدويين ولم يكن كل الوحدويين اشتراكيين . ولم يكن كل الاشتراكيين قوميين . وما كان كل من عمل مع عبد الناصر وتحت قيادته من وزراء وقادة موظفين سواء في فهمهم أو مواقفهم من الحرية أو الوحدة أو الاشتراكية . وسيثبت التاريخ ، بعد وفاة عبد الناصر , ان بعضاً منهم لم يكونوا تحرريين او وحدويين او اشتراكيين بأي معنى ، بل إن منهم من كان – في حياة عبد الناصر نفسه – عدواً متآمراً خفية ضد الحرية والوحدة والاشتراكية . ومع ذلك فقد كانوا كلهم ” ناصريين ” حيث ” الناصرية ” هي علاقة التزام حركة الجند أوامر القائد .
كما انقضت بوفاة عبد الناصر دلالة ” الناصرية ” على الانتماء اليه . ودلالة ” الناصرية ” على الالتقاء ومواقفه ، انقضت ايضاً بدلالتها على الحركة تحت قيادته . فقد غاب القائد وسيظل غائباً أبداً ، ولم يعد منذ وفاته يقود حركة احد . فلا تنسب حركة احد إلى ” الناصرية ” ولا تنسب ” الناصرية ” إلى حركة أحد . فإن تلك ” ناصرية ” مستحيلة .
إذن ..
فلا يكفي ، ليستحق أي شخص الانتساب إلى الناصرية ، وان يكون ناصرياً ، ان يكون مصدر ذلك ” النسب ” علاقة انتماء أو علاقة ولاء أو علاقة رجاء او علاقة لقاء مع عبد الناصر .. نقول لا تكفي لأن الشخص المنتمى إليه قد مات ، ولكنها – على سبيل القطع – لا تنتقص من ناصرية من يكون مصدر نسبته الى الناصرية موقفاً محدد المنطلقات والغايات والاساليب من مستقبل الأحياء .
(3)
عن الناصرية
الميثاق :
بعد ان صدر ” ميثاق العمل الوطني ” في يونيو 1962 قيل انه ينطوي على ” نظرية ” متكاملة ، وكان على رأس القائلين جماعة من المثقفين الذين أسموا انفسهم حينئذ ” الميثاقيون ” ولقد كذب عبد الناصر تلك الشائعة قبل ان تروج . قال وهو يقدم ” الميثاق ” إلى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية ” : ” … إن الميثاق للجيل .. وأنا كنت حريصاً على ألا أحدد حاجة فيه أكثر من 8 سنين ، يمكن حددت سنة 1970 او 1971 لأنه جايز بيجي بعد كده ناس عندهم تطور فكري تقدمي أكثر من الميثاق أو يحبوا يضيفوا عليه حاجات أو يعدلوه .
ولقد كان عبد الناصر يتوقع ان جيلاً جديداً سيأتي بعده قد لا يتوقف ، فكراً وحركة ، عند الميثاق وتجارب مرحلته . فنراه ، بعد خمس سنوات تقريباً من صدور الميثاق ، يتحدث عن هذا الجيل مركزاً بشكل اساسي على ضرورة امتناع جيله – جيل عبد الناصر – عن فرض وصايته على الجيل المنتظر . وصاية فكرية او وصاية حركية ، قال يوم 20 يناير 1965 أمام مجلس الأمة : ” إن المهمة الأساسية التي يجب أن نضعها نصب عيوننا في المرحلة القادمة هي ان نمهد الطريق لجيل جديد يقود الثورة في جميع مجالاتها السياسية والاقتصادية والفكرية . ولسنا نستطيع ان نقول إن جيلنا قد ادى واجبه إلا إذا كنا نستطيع ، قبل كل منجزاته وبعدها ، أن نطمئن إلى استمرار التقدم . وإلا فإن كل ما صنعناه مهدد بان يتحول – مهما كانت روعته – إلى فورة ومضت ثم توقفت . إن الأمل الحقيقي هو في استمرار النضال ويتأكد الاستمرار حين يكون هناك في كل وقت جيل جديد على أتم الاستعداد للقيادة ولحمل الأمانة ومواصلة التقدم بها . أكثر وعياً من جيل سبق . اكثر صلابة من جيل سبق ، وينبغي ان ندرك أن التمهيد لهذا الجيل واجبنا وإننا نستطيع بالتعالي والجمود أن نصده ونعقده وبالتالي نعرقل تقدمه وتقدم امتنا . إن علينا بالصبر أن نستشكفه دون مَنْ عليه أو وصاية . وعلينا بالفهم أن نقدم اليه تجاربنا دون ان نقمع حقه في تجربة ذاتية وعلينا في رضا أن نفسح الطريق له دون أنانية تتصور غروراً انها قادرة على شد وثائق المستقبل بأغلال الحاضر وعلينا ان نتيح له بفكره الحر ان يستكشف عصره دون ان نفرض عليه قسراً ان ينظر الى عالمه بعيون الماضي ” .
إن هذه الوصية لا تكتفي برفع الوصاية عمن ” عندهم تطور فكري تقدمي اكثر من الميثاق ” ، بل هي نداء الى الجيل الجديد – الذي أصبح جيل اليوم – بأن الميثاق للجيل الذي سبقه وإن عليه ان يقود الثورة في جمبع مجالاتها السياسية والاقتصادية والفكرية . وقد تحولت الوصية إلى تحريض اثناء التقاء جمال عبد الناصر بأعضاء المكاتب التنفيذية للاتحاد الاشتراكي العربي في محافظتي القاهرة والجيزة في العام التالي ( 1966 ) .. قال : ” إن الاجتهاد في الفكر الاشتراكي محبب .. ولو لم يكن عملي كثير .. لاستطعت الاجتهاد أكثر . ولكن قد تكون لديكم كمتفرغين الفرصة للاجتهاد ” .
رغم كل هذا فإن عبد الناصركان قد قال في عام 1963 إن الميثاق يتضمن نظرية ، وهو قول يستحق الانتباه خاصة إذا تذكرنا انه قال قبل ذلك بعامين ( 1961 ) : ” ما نقدرش نقول إن احنا عملنا نظرية “. قال متحدياً قادة حزب البعث العربي الاشتراكي خلال مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر و سوريا والعراق : ” .. أين هي نظرية حزب البعث .. احنا عندنا تجربة طلعنا منها بنظرية .. وطلعنا منها بوسيلة للتطبيق . عندنا الميثاق .. احنا كان عندنا الشجاعة في أول الثورة لنقول إن ما فيش نظرية . فيه مباديء محددة . مشينا في التجربة والخطأ وبقينا نقول إن احنا بنغلط 40% وبنغلط 50 % وبقينا نقول ما عندناش نظرية . وبعد كده قدرنا نعمل .. قدرنا نعمل تطبيق .. وبعدين عندنا تجربة تطبيق 11 سنة مستمرة ادت أساس للنظرية .. بالنسبة للاشتراكية وبالنسبة للوحدة كل شيء مبين في الميثاق ” . ( جلسة مساء يوم 6 ابريل 1963 )  .
هذا القول صحيح في نصه وفي دلالته . فقد فرق عبد الناصر بين مرحلة التجربة والخطأ ( الممارسة ) ومرحلة الميثاق . وهي تفرقة صحيحة . فلا شك في ان الميثاق أكثر تقدماً على المستوى الفكري من الافكار المرحلية المختلطة بالتجربة والخطأ . أكثر تقدماً بكثير . وما عناه عبد الناصر في بداية الحديث من انه قد خرج من التجربة بنظرية عاد فحدده في نهاية الحديث بان ما أسفرت عنه التجربة وتضمنه الميثاق هو أساس للنظرية . وهو صحيح فلا شك في أن الميثاق قد تضمن معطيات فكرية مبدئية تصلح أساساً لنظرية متكاملة . ولا ينقص الأساس إلا البناء عليه .
رأي مبكر ..
وقد كان لنا في هذا رأي مبكر ، ففي مايو 1967 كانت قد انقضت خمس سنوات على صدور الميثاق ووضعه موضع الاختبار في الممارسة . فذهبت بعض الصحف تسأل بعض الناس رأيهم في الميثاق والقضايا التي أثارها . ولسنا نريد الاشارة إلى الكلمات المصفقة التي قيلت حينئذ .. ومع ذلك استطعنا ان نقول رأياً نشر في مجلة غير متخصصة لا للفكر ولا للسياسة هي مجلة ” الاذاعة والتلفزيون ” ها نحن نعود اليه . قلنا : ” أعتقد أنه قبل طرح قضايا الميثاق للمناقشة ينبغي أن نطرح للمناقشة قضية الميثاق ذاته . إذ ان معرفة أبعاد هذه القضية ، التي تتصل بالميثاق ككل ، مقدمة ضرورية لفهم القضايا التفصيلية المتعلقة بالميثاق . والميثاق ككل يمكن النظر إليه من زاويتين : ” الزاوية الأولى : تكون بالنظر إليه على أساس أنه دليل عمل يتضمن قواعد ملزمة في النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لكل أعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي . ومعنى هذا ان مناقشته تدخل في نطاق النقد والنقد الذاتي . ولكنها لا يجوز ان تكون سبيلاً للتهرب من الالتزام به سواء اتفق حكمه مع رأي احد الأعضاء ام لم يتفق .. كان مناسباً لمقتضيات مرحلية ام لم يكن .. نريد ان نقول إن الميثاق كدليل عمل ملزم لكل المستويات إلى ان يصيبه التعديل بذات الطريقة الشعبية التي صدر بها ، والخروج عن الميثاق لأي سبب كان انحرافاً .
الزاوية الثانية : هي النظر الى الميثاق باعتباره يمثل مرحلة تاريخية .. والميثاق بهذه الصفة لن يكون مقصوراً على النص الذي أعلن عام 1962 بل يشمل النص وتفسيراته وحصيلة الممارسة في ظله حتى الآن ، والميثاق على هذا الوجه يجسد مرحلة انتقالية أكثر تقدمية من المرحلة التي سبقتها ولكنها ، بالضرورة ، تمهد لمرحلة أكثر تقدمية منه . بمعنى انه لابد أن تكون النظرة الى الميثاق على هذا الوجه قائمة على التسليم بان المستقبل سيتخطاه ، وان النظر فيه يكون على ضوء متطلبات ذلك المستقبل كما نعرفها من تجربة الميثاق ذاته .. إن الميثاق كدليل عمل وممارسة يكون قد نجح بقدر ما يسمح للمستقبل بأن يتخطاه فكراً وممارسة . أما تصور أن الميثاق غير قابل للتغير او التجاوز فهو في الواقع حكم على الميثاق بأنه لم يؤد مهمته كدليل عمل غايته تطوير الممكن إلى ما يجب ان يكون .
على ضوء هذه النظرة الأخيرة نلاحظ أن الميثاق قد عكس كل خصائص المراحل الانتقالية حيث توجد معاً كثير من الأفكار والظواهر لمجرد انها لم تتحدد وتتضح بعد .. وبالتالي لم تفرز .. فمثلاً الميثاق دليل عمل وبالتالي فهو وثيقة تحدد استراتيجية العمل السياسي في مرحلة معينة والمفروض ان يكون الميثاق مستنداً إلى نظرية سابقة عليه وان يكون مقدماً إلى تنظيم اشتراكي مدرب على العمل السياسي والاشتراكي التطبيقي . ولو كان هذا متوفراً لما احتاج الميثاق إلى أن يتضمن بعض المقولات النظرية وبعض القواعد التطبيقية . غير أن طبيعة المرحلة الانتقالية التي يجسدها الميثاق حتمت أن تضاف الى طبيعته الاستراتيجية بعض المقولات النظرية لأنه بدأ في قلب مرحلة لم تكن لنا فيها نظرية ، وان يتضمن كذلك بعض التفصيلات التطبيقية لأنه صدر ولم يكن لدينا تنظيم سياسي مدرب على مواجهة التطبيق والقدرة على تنويع التكتيك المناسب لكل موقف . وهكذا جاء الميثاق وفيه ما يمكن ان يبرر القول بانه يتضمن نظرية وفيه ما يمكن ان يبرر القول بأنه يتضمن خططاً تطبيقية إلى جانب انه دليل عمل استراتيجي .
كذلك نرى الطابع الانتقالي الذي يتسم بعدم التحديد في البعد الاجتماعي للميثاق ، فالميثاق صدر في ظل نكسة الانفصال المرحلية ، ولكنه ، أيضاً ، في ظل مرحلة تقدم ثوري عربي . وانعكس هذا في الميثاق فجاء وفيه ما يبرر أنه دليل عمل إقليمي وفيه ما يبرر أنه قابل للانتقال إلى الساحة القومية .
هذا الازدواج في المفاهيم ، والمدى الذي انعكس في الميثاق من طبيعة المرحلة التي يمثلها ، أشاع كثيراً من الغموض في فهم الميثاق نفسه . أهم مظاهر هذا الغموض هو ان طبيعته الملزمة كدليل عمل امتدت الى المنطلقات الفكرية المحضة التي تضمنها التطبيقات التفصيلية التي جاءت فيه . وأصبح من الشائع مواجهة أي اجتهاد فكري بأحكام من الميثاق والحيلولة دون مواجهة الواقع التطبيقي بأحكام من الميثاق . ومن ناحية أخرى ، نظراً للطبيعة غير المحددة للموضوعات الفكرية ، امتد عدم التحديد هذا من المنطلقات الفكرية التي احتواها الميثاق الى القواعد الملزمة فيه . وليس قليلاً من يحاولون الافلات من القواعد الملزمة عن طريق تأويل المقولات الفكرية التي جاءت في الميثاق على وجه يوجه الالتزام بالقواعد الملزمة في الميثاق وجهات فكرية خاصة .
هذه في رأيي هي القضية الاساسية بالنسبة ” للميثاق ” بمعنى أنه يجب أن تبدأ فوراً جهود منظمة لدراسة علمية جادة لفرز الميثاق كوثيقة وتراث تمهيداً لانتهاء المرحلة الانتقالية . وفي رأيي يجب ان تفرز الحصيلة كلها بحيث تخرج من الميثاق كل المقولات والمنطلقات الفكرية والعقائدية لتصاغ معاً كنظرية أو مشروع نظرية .. يعمق بدراسات متتالية بعيداً عن الالتزام الحركي ، أي في ظل جو اجتهادي لا تخشى المحاورة فيه ولا تتهم بأنها خروج أو مخالفة للميثاق . ومن ناحية أخرى يخرج من الميثاق كل ماله طبيعة تطبيقية او تكتيكية . فبعد ان وجد الكادر السياسي والاتحاد الاشتراكي يجب ان نمنح الجماهير المنظمة فيها المرونة والثقة الكافيين لتحميلها مسئولية ” التطبيق ” ثم يبقى الميثاق كدليل عمل يمثل الخط الاستراتيجي لمدة أخرى طويلة نسبياً .
وهنا لابد أن يحسم الميثاق الموقف ذا الطبيعة الانتقالية الذي يمثله بالنسبة إلى البعد القومي ، فإما ان يكون دليل عمل إقليمي محض وصريح وهو ما يحتم ان تكون طبيعته قابلة لأن تكمل بميثاق قومي لا تتناقض معه ولا تعوقه ، واما ان يأخذ بعده القومي كاملاً .. بحيث يكون دليلاً لكل القوى العربية في الجمهورية العربية المتحدة وباقي أجزاء الوطن العربي ، يحقق بينها الوحدة على المستوى الاستراتيجي ويرسم كل منها سياسته التكتيكية طبقاً له بدلاً من الاقتباس الناقص أو المعدل السائد الآن الذي يبقي على الموقف متأرجحاً ، فلا يمكن القول بان لنا ميثاقاً قومياً ولا يمكن القول بأنه إقليمي واعتقد ان هذا هو الاطار الشامل الذي يجب ان تدور في ظله الدراسات الجزئية للقضايا التي طرحها الميثاق بقصد تحقيق خطوة تستفيد من تجربة الميثاق كوثيقة وممارسة ( العدد الصادر يوم 20 مايو 1967 )  .
لست ألوم أحداً على انه لم يسمح ولم يع فلم يفعل . إذ لم يكد يمر اسبوعان على هذا الحديث حتى وقعت الطامة الكبرى وأوقعت المؤسسة الصهيونية المسماة ” إسرائيل ” بتأييد فعلي من الولايات المتحدة الامريكية ، هزيمة منكرة بالأمة العربية وإن كانت الضربة الصهيونية – الامريكية قد أصابت الأمة العربية في بعض أقطارها وفي رأسها مصر ( 5 يونية 1967 ) . فأضيفت إلى تجارب الممارسة في ظل الميثاق تجربة هزيمة الدولة التي أصدرته فكراً وصاغته دستوراً ومؤسسات شعبية . وتوالت التجارب المرة والتجارب السائغة إلى ان توفى صاحب الميثاق في 28 سبتمبر 1970 . وقبل ان ينقضي عام على وفاته حدثت تجربة أخرى ذات دلالة ثقيلة في ميزان تقييم الميثاق فكرياً والميثاق ممارسة ، ففي 15 مايو 1971 انقلبت الاقلية في اللجنة التنفيذية العليا على الاغلبية ثم لم تلبث الأوامر أن صدرت ” بفض ” تحالف قوى الشعب العاملة فانفض بدون ان يحرك أحد – الاقلية غير مؤثرة – أصبعاً يدل على أن الأفكار التي جاءت في الميثاق كانت قد أصبحت عقيدته التي تستاهل التضحية أو حتى دليل عمله الذي يرشد إلى الطريق في المحنة .
و رأي معاصر ..
لم يكن هذا يعني ، ولا يعني حتى الآن ، أنه ليس في الميثاق ما يصلح لالتقاء الناصريين عليه والاحتكام إليه عند الخلاف ، بالعكس . فإن المبادىء الاساسية التي تضمنها الميثاق مازالت كافية لهذا الالتقاء بل إنها – عندنا – أكثر من كافية كبداية في هذه المرحلة من تاريخ الناصريين . أما إنها كافية فلأنها لم تجرب أبداً في التطبيق منذ أن صدر الميثاق وحتى وفاة عبد الناصر . ولقد اوضحنا بالتفصيل كيف ان الميثاق لم ينفذ في أهم ما جاء به من مبادىء وما استحدثه من نظم ( الاحزاب ومشكلة الديموقراطية في مصر – 1977 ) وبالتالي فإن مهمة تطبيق الميثاق ماتزال تنتظر من يؤديها وهي مسئولية الناصريين . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إن الميثاق هو الوثيقة الفكرية التي لا يستطيع أحد ان يشكك في نسبتها إلى عبد الناصر ، وبالتالي فهو – بالقطع – يصلح كبداية على الأقل لالتقاء كل الناصريين بدون أن يحول بينهم وبين تنميته وتطويره على هدى المرحلة التاريخية التي انقضت منذ صدوره . ولقد استمع إلىّ كثيرون من شباب الناصريين وانا أردد هذا الرأي تحريضاً لهم على ألا يبددوا الوقت والجهد في صياغات واجتهادات تثير الخلاف قبل ان يملكوا ما يختلفون داخله ويختلفون اليه ليحكم فيما بينهم . ولكن كل من له إلمام ولو بسيط بألغاز النفوس يعلم أن اصطناع معارك فكرية بدون مبرر واقعي ، هي اصطناع مبرر للهروب من معارك الواقع . ولقد زدنا ونزيد أن الميثاق أكثر من كاف كبداية يلتحم فيها الناصريون حزباً . ذلك لأن الردة قد عادت بالواقع العربي إلى مرحلة التحرر القومي ، أي إلى معارك ما قبل 1952 ، حيث يكفي التحام القوى على هدف التحرر ، ويبقى في الميثاق فائض من الأهداف ( الاشتراكية والوحدة ) التي تعتبر استراتيجية بالنسبة للواقع الملح بمعنى ان الخلاف الفكري حولها الان عبث ، اما اشتراط تصفية هذا الخلاف قبل الالتحام في قوة تحررية فهو هروب صريح .
ومع ذلك فإذا كان ثمة من لا يرضيهم إلا جواب صريح عن ماهية الناصرية ، فما تزال التجارب الحية تتوالى حتى الآن لتضع تحت تصرفهم الجواب الصحيح على السؤال : ماهي ” الناصرية ” ؟ .. مصادر المعرفة أكثر مما تضمنه الميثاق . وسيكون غباء مطبقاً لا يفيد صاحبه شيئاً ، أن تكون البداية من “الميثاق” ثم قفزاً إلى المستقبل كأن لم يحدث شيء بعد الميثاق ، او كأن الميثاق فكراً لا يتحمل نصيبه من المسئولية عما وقع بعده من أول هزيمة 1967 حتى انتصار الردة ، حتى العجز عن توحيد الناصريين في قوة قادرة على قيادة ملايين البشر الذين عرفوا عبد الناصر من خلال ما حقق لهم عهده من منجزات تقدمية حية . على أي حال يبقى حل المشكلة الأساسية أمام الذين يبحثون عن الجواب الصحيح على السؤال : ما هي الناصرية ؟ . متوقفاً على معرفة كيف يستفيدون من مصادر المعرفة الغنية التي تقدمها إليهم مرحلة تاريخية طويلة كانت بقيادة عبد الناصر وما بعدها . إنهم إذ يحسنون الاستفادة منها قد يصلون إلى صيغة ، ولو أولية ” لناصرية ” المستقبل .
كيف الناصرية ؟
ليس أسهل من انتقاء الأفكار إلا صياغتها . ولو انتقى كل من يشاء ما يريد من أفكار عبد الناصر او من مصادر المعرفة التي تقدمها التجارب التاريخية وصاغها ” ناصرية ” لكان عليه ان يعد نفسه للإجابة على سؤال سيطرح عليه حتماً : كيف عرف ان ما يقول عنه إنه ” الناصرية ” هو ” الناصرية ” حقاً ؟ .. إنه سؤال تقليدي يفرض ذاته على كل الذين ينشئون الأفكار والنظريات . إن هذا يعني ، في رأينا . إن أية محاولة لبناء فكري يسمى ” ناصرية ” لا بد له من ان يكون مستنداً إلى منهج علمي في فهم التاريخ الماضي وتوقع مسيرته التلقائية إلى المستقبل حتى يمكن تحديد مضمون التناقض بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون ثم صياغة حل لهذا التناقض يتضمن رؤية فكرية محددة للمستقبل منطلقاً وغاية واسلوباً . حينئذ يصح لمن يريد ان يسمي هذه الرؤية ” ناصرية ” فيقال لأنها ستكون حصيلة تجربة تاريخية بدأت بثورة قادها عبد الناصر ونمت فكرياً وممارسة تحت قيادة عبد الناصر . وقد يقال لأن عبد الناصر كان ذا اتجاه تقدمي ثابت انقطع فجاة بوفاته المفاجئة فهي أي ” الناصرية ” ما كان سيصل إليها المجتمع العربي تحت قيادة عبد الناصر لو امتدت الحياة بالقائد . ويمكن ان يقال لأن ابطال الردة قد فرضوا عنوان نقيضها . فحين نكصوا راجعين رفعوا رايات ” ضد عبد الناصر والناصرية ” فكان محتوماً على الذين يختارون مواجهتهم وإيقاف ردتهم أن يرفعوا رايات ” مع عبد الناصر والناصرية ” وقد يقال غير هذا وقد يكون هذا أو ذاك محل خلاف مرجعه إلى أن عبد الناصر قد قدم التجربة الغنية فكراً ، التقدمية ممارسة ولكنه لم يصغ تجربته نظرية حتى نأخذ ألفاظها من اسمه . فنقول إن الأمر كله لا يستحق الخلاف إلا عند الذين بينهم وبين عبد الناصر الشخص قضية عداء او قضية ولاء . الذين يريدون ان يمحوا اسمه من ذاكرة الشعب او الذين يريدون ان يخلدوا اسمه في تاريخ الشعب . وكل هذه قضايا ذاتية لا تستحق التوقف عندها . فلتكن إذن ” ناصرية ” ولو تعبيراً عن حقيقة ان أسسها الأولى قد جاءت في ” الميثاق ” الذي صاغه عبد الناصر وان اتجاهها هو ذات اتجاه مرحلة عبد الناصر ، وان عبد الناصر الذي كان بطلاً قومياً في حياته يستحق ان يبقى رمزاً للحركة القومية بعد مماته . والعبرة – في النهاية – بالوصول إلى رؤية فكرية محددة لمجتمع المستقبل الذي كان يطمح اليه عبد الناصر بعد أن يزداد تحديداً ليتفق مع مجتمع المستقبل الذي يطمح إليه الشعب العربي .
نستعمل منهجنا فنقول أولاً ما قال لينين من قبل : ” من الواقع الى الفكر إلى الواقع هذا هو الجدل ” . وحتى لا تبقى حركة الجدل ثابتة في موقعها من الزمان صاعدة هابطة كما تفعل أقدام الجند وهي تسير في محلها لا تتقدم . نضعها في تيار الزمان الذي لا يتوقف لتصبح من الماضي إلى الفكر إلى المستقبل وهذا هو الجدل . جدل الانسان وقانون حركته وحركة المجتمعات . هذا المنهج بكامل قوانينه التي طرحناها في دراسات اخرى . هو الذي سنلتزمه في الوصول إلى معرفة الجواب الصحيح على السؤال : ما هي ” الناصرية ” ؟ .. إن كان المنهج صحيحاً فسيكون الجواب صحيحاً بقدر ما تصح معرفتنا بوقائع الماضي . وإذا لم يكن صحيحاً فلن يكون الجواب صحيحاً لو صحت معرفتنا بالماضي ووقائعه . ولما كنا لا نملك غيره فإنه – عندنا – البديل الوحيد عن انتقاء الأفكار التي تعجبنا من بين ما خلف عبد الناصر لندخل بها في زحام ” الناصريات ” المختارة .
ولكن ما هي تلك الوقائع الماضية التي تتوقف على صحة معرفتها صحة ما ننتهي إليه من جواب ؟ هنا تكمن الصعوبة الكبرى إذ أن الوقائع لا حصر لها . وقليلة قليلة هي التجارب التاريخية التي تقارب تجربة عبد الناصر طولاً وعرضاً وعمقاً وارتفاعاً وحركة ثورية عارمة . الانتقاء إذن وارد . وهو وارد حتماً فيما نقول . وقد انتقى من قبلنا كتاب ومؤلفون ما كاد يقنع القارئين بأن لولا أدوار قاموا بها او انتحلوها ما كانت الثورة وما كان عبد الناصر . ومنهم من انتقى من خزانة تراث عبد الناصر المعاصرة ما كاد يقنع به نفسه انه لو كان عبد الناصر قد استمع إليه وأخذ برأيه لتغير وجه التاريخ . تاريخ الثورة وتاريخ عبد الناصر . كلا لن ننتقي من وقائع التجربة إلا تلك الوقائع التي انقضت بانقضاء مرحلتها وظروفها غير القابلة للتكرار في المستقبل الذي يريد ان نتقدم إليه من الماضي .
وإن أول ما نستبعد لهو ” البطل ” جمال عبد الناصر .
لماذا نستبعد ” البطل ” اول ما نستبعد .
لأن البطل لا يتكرر ولا يصطنع . وقد كان عبد الناصر بطلاً بالمفهوم العلمي للكلمة . فما ان مات حتى اجتاحت الأجواء العربية رغبات ومحاولات تكراره او اصطناعه عن طريق ” خلافته ” بل إن وفاة البطل لم تكن عند البعض إلا إزالة من حجب عنهم البطولة التي استحقوها معه او استحقوها قبله . هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فإن الجيل الجديد من الشباب لم يخل ممن استهوته البطولة في شخص عبد الناصر فأصبح ” ناصرياً ” ولا شيء اكثر من هذا . وقد نرى نماذج كثيرة من الشباب يدخرون أنفسهم لملء مكان البطل الناصري القادم ، ويتطلبون من غيرهم أن ينتظروا ما يدخرون . باختصار إن وفاة البطل عبد الناصر قد تركت في كثيرين من الشيوخ والكهول والشباب آثار عبادة البطولة او انتظار عودتها فهم ناصريون لا انتساباً إلى البطل عبد الناصر ، بل انتساباً إلى بطل كان اسمه عبد الناصر .
وما كان كل هذا ليضير غير أصحابه ، لولا حقيقة اختلاف دلالة الفكر او الفعل يصدر من بطل عن دلالته لو أسند إلى إنسان عادي . وقد نرى فيما بعد نماذج من الأفكار والافعال ثابتة النسبة إلى عبد الناصر القائد البطل ولكنها لا يمكن ان تكون دائمة النسبة إلى الناصرية لتكون ملزمة فكراً وفعلاً لكل من ينتمي إليها .
بعداً للأبطال ..
في كتاب ” فلسفة الثورة ” الذي نشر بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 نص يقول فيه عبد الناصر ” إن ظروف التاريخ مليئة بالأبطال الذين صنعوا لأنفسهم أدوار بطولة مجيدة فقاموا بها في ظروف حاسمة على مسرحه وإن ظروف التاريخ أيضاً مليئة بأدوار البطولة المجيدة التي لم تجد بعد الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه ، ولست أدري لماذا يخيل إليّ أن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دوراً هائماً على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به ، ثم لست أدري لماذا يخيل إلىّ ان هذا الدور الذي أرهقه التجوال في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا ، قد استقر به المطاف متعباً منهوك القوى على حدود بلادنا يشير إلينا ان نتحرك ، وان ننهض بالدور ونرتدي ملابسه فإن أحداً غيرنا لا يستطيع القيام به ، وأبادر هنا فأقول إن الدور ليس دور زعامة . إنما هو دور تفاعل وتجارب مع كل هذه العوامل ، يكون من شأنه تفجير الطاقة الهائلة الكامنة في كل اتجاه من الاتجاهات المحيطة بها ، ويكون من شأنه تجربة لخلق قوة كبيرة في هذه المنطقة ترفع من شأن نفسها وتسهم بدور إيجابي في بناء مستقبل البشر
لقد تحدث عبد الناصر وكتب كثيراً بعد ” فلسفة الثورة ” ولكنه لم يستعمل قط مثل هذه الصيغة ” الرومانسية ” في التعبير عن أفكاره . ومع ذلك فإن أحداً لم يكن يستطيع في ذلك الوقت ، ولا بعده ، وإلى أن مات عبد الناصر ، ان ينسب إليه أفكارا غير أفكاره . نتجاوز ، إذن ، عن الصيغة الحالية لنصل إلى الفكرة اليقظة . فنعرف منها ان عبد الناصر كان يدرك ، منذ وقت مبكر ، الفرق بين “الزعامة ” و ” البطولة ” وأن البطولة دور يتحدد بفعل معطيات موضوعية تاريخية تسبق ” البطل ” وجوداً وتستدعيه وان تلك المعطيات الموضوعية كانت متحققة في الواقع التاريخي الذي سبق الثورة وبالتالي كان دور البطولة قد وجد ولم يبق إلا من يقوم به ، وإن عبد الناصر كان يعتقد أنه قادر على القيام بذلك الدور .
فترد ثلاثة أسئلة ، الأول : عن مدى صحة فكرة عبد الناصر عن دور البطولة ، الثاني : عن مدى وفاء عبد الناصر بهذا الدور . الثالث : عن مدى تأثير كل هذا في دلالة ” الناصرية ” .
اما عن السؤال الأول فإن ظاهرة ” البطل ” الفرد الذي يقوم بدور قيادي حاسم في حركة التطور في مجتمع معين ظاهرة متكررة في تاريخ الشعوب كافة . في هذه الظاهرة يقوم ” فرد بالذات ” بدفع حركة التطور إلى مواقع متقدمة كانت الجماهير بالرغم من كثرتها ، عاجزة بدونه عن الوصول إليها . في هذا يفترق البطل عن الزعيم ، إذ قصارى دور الزعيم ان تتوحد الجماهير تحت قيادته ولكنه لا ينجز بها أكثر مما تستطيعه الجماهير نفسها . في الزعامة يقوم الزعيم بتجميع القوى المتاحة . اما في البطولة فإن البطل يقدم من ذاته إضافة من ذاته إلى القوى المتاحة ما يعوض عجزها ولو كانت مجتمعة . ونعني بالقوى المتاحة في الحالتين المقدرة الذاتية ( البشرية ) ولا نعني بها الممكن موضوعياً . فلا الزعيم ولا البطل يستطيع ان يفعل المستحيل إنما يرتفع الزعيم بكفاءة اداء المقدرة الذاتية ، في حدود الممكن موضوعياً ، ، بقدر ما يتحقق من تكامل الجهود الموحدة . ويقوم البطل بإكمال كفاءة اداء المقدرة الذاتية بما يقدمه من ذاته ولكنه لا يتجاوز ولا يمكن ان يتجاوز الممكن موضوعياً . كل ما في الأمر إن ” الذات ” في البطولة تلعب دوراً حاسماً في الكشف عن حقيقة أن الممكن موضوعياً كان ممكناً دائماً بالرغم مما كان مستقراً في وعي الجماهير من انه كان مستحيلاً .
ولقد نعرف من الأدب الماركسي التقليدي ان قوانين التطور ( المادية الجدلية ) لا تسمح للذات التي تعكس الواقع المادي بان تسبق الواقع تطوراً فتطوره وتخلق واقعاً جديداً . لا تسمح بان يكون الحل الجدلي للتناقضات الكلية في المجتمع طفرة ” ذاتية ” يقوم بها فرد قائد للحياة الاجتماعية إلى طفرة ” نوعية ” . ولكن تواتر ظاهرة ” البطل ” في تاريخ الشعوب لم يسمح للماركسيين بإنكارها . ففسر المحدثون منهم ظاهرة البطولة تفسيراً صحيحاً في مجمله كما يفعلون دائماً كلما اعترفوا للانسان بقيادة حركة التطور عن طريق استخدامه الواعي للقوانين الموضوعية .
فمنذ وقت مبكر قال انجلز في رسالته الى ماركس : ” لأن يبرز هذا الرجل أو ذاك بالذات في زمان معين في بلد معين هو – طبعاً – مسألة حظ . ولكن إذا استبعد فستبقى الحاجة الى بديل عنه قائمة ، وسيوجد هذا البديل بشكل او بآخر ، ولكنه لا بد أن يوجد في المدى الطويلة . لقد كان من حظ نابليون ذلك الكورسيكي ان يكون هو بالذات الديكتاتور العسكري الذي استلزمت ظهوره الجمهورية الفرنسية المرهقة بحروبها الخاصة ، ولكن لو كان نابليون مفتقداً لحل شخص آخر محله . يؤكد هذا حقيقة أن ” الرجل ” كان يوجد دائماً حيث يكون وجوده ضرورياً : قيصر وأغسطس وكرومويل الخ ” يشير مؤلفو ” أسس الماركسية اللينينية ” إلى هذه الرسالة ثم يقولون : ” يوجد في المجتمع دائماً أشخاص ممتازون وموهوبون ، ولكن هؤلاء لا يبرزون إلى المقدمة إلا إذا ظهرت الحاجة الاجتماعية إلى أشخاص يمتلكون مقدرات خاصة ومواهب عقلية وخلقية خاصة فخلقت الشروط الضرورية لبروزهم . يلاحظ هذا بشكل خاص و لافت في زمان الثورات حيث يتصدى للنشاط العام تصدياً مباشراً مئات وألوف من الاشخاص الذين كانوا قبل الثورة مجهولين والذين لم يكونوا يجدون فرصة أعمال مواهبهم ومقدراتهم في ظل النظام القديم . على النحو ذاته تخلق الحاجة الاجتماعية في زمن الحرب الظروف اللازمة لتقدم الاشخاص ذوي الكفاءات القيادية . اما من هو الشخص الذي يبرز الى المقدمة في ظل ظروف اجتماعية معينة فإن هذا يبقى – طبعاً – مسألة حظ . ولكن بروز الاشخاص ذوي المواهب التي تلازم حاجات العصر هي حقيقة واقعة لها طابع القانون الطبيعي ” ( الطبعة الثانية – صفحة 182 )  .
عند هذا الحد يتوقف ما يعنينا من التفسير الماركسي لظاهرة البطل او ما يعبرون عنه ” الرجل العظيم ” وإن كنا قد نعود إليه لمحاولة تفسير ما قالوا عنه إنه ” طبعاً مسألة حظ ” .
(4)
البطل .. والمعبود
مضمون الدور ..
وجد البطل ووجد دور البطولة فكيف يلتقيان ليكون هذا الشخص أو ذاك أو شخص بعينه هو البطل ؟ . لا نقول كما قيل : ” هذا طبعاً – مسألة حظ محض ” إن كلمة ” طبعاً ” هنا تصدم الحس العلمي . إذ ان إحالة ما لا نعي الى الطبيعة التي لا تعي هو استبعاد لوعي الإنسان . على أي حال نجتهد مبتدئين من البداية . والبداية هي ان حركة المجتمعات محكومة بقوانين ( سنن ) موضوعية ذات فاعلية حتمية ( لا تتبدل ) ، وإنها قوانين ” جدلية ” طبقاً لتلك القوانين ” لابد ” لكل مجتمع من ان يتطور من خلال حل مشكلات الحياة فيه ( إشباع حاجات الناس المادية والمعنوية والروحية المتجددة أبداً ) . هذا التطور ضرورة موضوعية بالنسبة إلى أي مجتمع بحيث انه إذا ما قام مؤثر خارجي او داخلي يعطل حركة التطور الاجتماعي يصبح الصراع الاجتماعي محتوماً لإزاحة العائق حتى يستأنف التطور حركته . ويتم التطور الجدلي بمعرفة وعلم وعمل الإنسان ولا يتم بدون عمل إرادي . بمعرفة المشكلات الاجتماعية معرفة علمية أي بدون إخفاء أو اختلاق أو تزييف إذ العلم هو ” معرفة المعلوم على ما هو به ” كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني . والعلم بحلها الصحيح طبقاً لقوانينها النوعية . وتنفيذ هذا الحل في الواقع بالعمل المناسب . وبقدر ما يعرف الناس من مشكلات مجتمعاتهم معرفة علمية ، وبقدر ما يملكون من العلم بحلولها الصحيحة ، وبقدر ما يؤدون من عمل مناسب تنفيذاً لتلك الحلول ، تتسق الحركة الاجتماعية مع فاعلية قوانينها وتتطور المجتمعات . ( هذا المنطلق الفكري الذي يبدو غامضاً يحتاج الى مزيد من المعرفة بشروح منهج جدل الإنسان يضيق عنها هذا الحيز )  .
قد يحدث ، وقد حدث كثيراً أن تكون مقدرة الناس على تطوير مجتمعاتهم ( حل مشكلاتها ) أقل مما تقتضيه حلول تلك المشكلات . ويكون هذا – دائماً – نتيجة ظروف تاريخية أضعفت مقدرة الناس او الشعوب على التطور بقدر ما هو ممكن موضوعياً . قد يرجع العجز الى ضعف في معرفة المشكلات الاجتماعية معرفة علمية نتيجة شيوع الجهل والخرافات مثلاً ، أو قد يرجع الى التخلف العلمي الذي يضعف مقدرة الشعوب على معرفة الحلول الصحيحة لمشكلاتها . او قد يرجع الى ضعف في المقدرة على اداء الأعمال اللازمة لتنفيذ تلك الحلول ، وأخطر مصادره شيوع المذاهب الجبرية التي تربي الناس على توقع حل المشكلات الاجتماعية بدون تدخل عمل إرادي إنساني . أو قد يرجع إلى ضعف عام ( تخلف ) في كل هذا وهو الغالب في المجتمعات التي وقعت لفترة طويلة نسبياً تحت السيطرة الأجنبية حيث يضعف الاستعمار أو القهر مقدرة ضحاياه من الشعوب على التطور على جميع المستويات فيصبح هو مشكلة المشكلات جميعاً ، وتصبح الحرية الحل الأول لمشكلات التطور . على أي حال حين يصل مجتمع معين في زمان معين إلى عجز ذاتي عام عن حل المشكلات الاجتماعية تقوم الضرورة الموضوعية ( الحاجة الاجتماعية ) إلى ” من ” يعوض هذا العجز ويكون ذلك إيذاناً بوجود ” دور البطولة ” .. أما مضمون الدور فيتحدد في كل مجتمع تبعاً لمضمون المشكلة الاجتماعية التي ولدت الحاجة إلى البطل في زمانه .
ثلاثة أبطال ..
قد تكون الحاجة الاجتماعية منصبة على من يعرف أو من يعوض العجز العام عن معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية معرفة علمية صحيحة . حينئذ يبرز ” الابطال ” من العلماء ، او ” أبطال العلم ” ليطرحوا على المجتمعات تشخيصاً علمياً صحيحاً للمشكلات التي تعوق التطور . قد لا يعرف هؤلاء ” الابطال ” العلماء كيف تحل المشكلات التي اكتشفوها وقلما يكونون قادرين على اداء العمل الاجتماعي الذي يتطلبه حلها . من الامثلة البارزة لهذا النوع من الابطال العلماء كارل ماركس . كان عشرات من علماء الاقتصاد من قبله قد ادركوا ان ثمة مشكلة في النظام الرأسمالي تعوق تطور المجتمعات وتهدد بكارثة فقيل لهم مدرسة المتشائمين من امثال مالتس وريكاردو ولكنهم لم يعرفوا تلك المشكلة على حقيقتها العلمية فلم تفلح مقترحاتهم لحلها في انطلاق الطاقة البشرية إلى مزيد من التقدم الاقتصادي بدون ” كارثة ” الاستغلال . وكان كارل ماركس وحده وليس احد قبله هو الذي استطاع ان يكتشف حقيقة مشكلة النظام الرأسمالي . انه بحكم قوانينه الاقتصادية نظام استغلال قبل ان يكون نظام انتاج او توزيع . ومع ذلك فإنه طوال حياته لم يقل شيئاً يذكر عن حل مشكلة النظام الرأسمالي . قال إن النظام الرأسمالي سيؤدي ، طبقاً لقوانينه ، إلى ثورة البروليتاريا ( عمال المنشآت الصناعية ) وإلغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج ، اما عما بعد ذلك ، أي كيف يكون النظام البديل فإنه لم يقل شيئاً يمكن ان يعتبر حلاً اشتراكياً او شيوعياً لمشكلة النظام الرأسمالي . الواقع انه لم يكن يعرف وكان أكثر امانة من ان يدعي . ولكن هذا لم ينتقص من استحقاقه موقعاً بارزاً بين ابطال العلم أو العلماء الأبطال . فقد ادت نظريات ماركس في الاقتصاد إلى زيادة معدل سرعة التطور الاقتصادي والاجتماعي في كل المجتمعات المتحررة بما فيها المجتمعات الرأسمالية ذاتها عن اضعاف معدله قبل ماركس ، إذ ان الرأسماليين كانوا من بين الذين استفادوا من تلك المعرفة فحاولوا ويحاولون عن طريق التطور التكنولوجي في عمليات الانتاج خاصة ، الملائمة بين النظام الرأسمالي وبين حتمية التطور إلى ما يتجاوزه بدون ” كوارث ” ويمدون في عمر نظامهم مداً صناعياً وإن كانوا يعوقون التطور بما هو ممكن علمياً ولكن إلى حين .
وقد تكون المشكلات الاجتماعية معروفة معرفة علمية صحيحة ويكون العجز منصباً على معرفة الحل الصحيح فتقوم الحاجة الاجتماعية إلى ” من ” يعرف الحل الصحيح فيجيب السؤال الذي يطرحه مجتمعه : ” ما العمل ؟ ” . وهو دور بطولة ايضاً وإن اختلف مضمونه . حينئذ يبرز الابطال من رجال موهوبين بسعة الأفق ونفاذ البصيرة والمقدرة الفذة على اكتشاف المخارج الصحيحة من المآزق المحكمة التي لا يعرفها الجميع . من الأمثلة البارزة لهؤلاء الأبطال شارل ديجول بطل فرنسا . كانت فرنسا مهزومة مسحوقة مادياً ومعنوياً وروحياً تحت الاحتلال النازي . وكانت كل النظريات والمبادئ والأفكار والمذاهب والنظم والقيم التي سادت فرنسا قبل الاحتلال النازي قد فشلت في تعبئة وتوحيد قوى الشعب على الثقة ( مجرد الثقة ) بمقدرته على مواصلة القتال وجدواه في تحرير فرنسا . حتى بطل فرنسا في الحرب الأوروبية الأولى الماريشال بيتان أجرى حسابات الواقع ” المر ” فانتهى إلى عجز فرنسا عن المقاومة فاستسلم واصبح الماريشال العجوز رئيساً لفرنسا العاجزة يحكمها في ظل الاحتلال ويضعها في خدمة العدو الألماني . تلاشت فرنسا المستقلة من أمل الجميع كما يتلاشى المحال من الوعي فلم يجد القائد السياسي الانجليزي ونستون تشرشل مكاناً للإبقاء على ” ما كان ” فرنسا إلا بان تلحق بإنجلترا فعرض على الفرنسيين ” الوحدة ” من قاع ذلك العجز الكامل الشامل التقط ضابط اسمه شارل ديجول ، في آخر لحظة وهو يغادر فرنسا ، التقط الراية العتيدة المركونة في مخازن ضمير الأمة الفرنسية ، راية القومية . رفعها وهو يغادر الوطن القومي المحتل ، كان ديجول في فرنسا ضابطاً مثل غيره من بقايا الجيش المهزوم المسحوق ، ولكنه حين غادرها رافعاً راية القومية اصبح رمزاً للأمة الفرنسية ووحدة الفرنسيين فهاجروا إليه زرافات ووحدانا والتفوا حوله مذاهب وألواناً ، وقاتلوا تحت قيادته شيباً وشباناً عائدين إلى فرنسا الحرة يتقدمهم ” البطل ” شارل ديجول ( سيضطر ستالين أيضاً إلى رفع راية القومية في الحرب ضد ألمانيا النازية ، الراية التي كانت قد مزقتها الماركسية ، فتنتصر الجيوش السوفيتية ويصبح ستالين بطلاً )  .
وقد يكون الحل الصحيح للمشكلات معروفاً بل وشائع المعرفة ثم يعجز الناس فرادى ومجتمعين عن تحقيقه في الواقع بالرغم من محاولاتهم بأساليب شتى حتى يشيع في الأذهان أنه ” ما فيش فايدة ” ( قالها سعد زغلول باشا قائد ثورة 1919 في آخر حياته ) ، فيبرز من الرجال رجل ( أو رجلة مثل جان دارك بطلة فرنسا التاريخية ) موهوب بالثقة غير المحدودة بالنصر وبأسلوبه وبنفسه فيتولى القيادة مبادراً إليها بدون توقف على إذن أحد ، مؤمناً بالنصر بدون برهان ظاهر . معبئاً الاخرين بالثقة فيه وفي انفسهم وفي النصر ، لا عن طريق الحوار أو الدعوة او الدعاية او تاليف الكتب أو صياغة النظريات بل عن طريق ” الممارسة ” التي يرى فيها الناس صورة ” البطل ” الذي كانوا يحلمون به . فإذا بما كان يبدو غير قابل للتحقيق قد تحقق على وجه يبدو غرابة ” اللامعقول ” . فيقال إنها عبقرية القائد . وهذا صحيح . ويقال بل إن ما تحقق كان قابلاً للتحقق دائماً . وهذا صحيح ايضاً . كل مافي الأمر أن الوعي العام لم يكن يدرك انه كان قابلاً للتحقق دائماً إلا بعد ان قاد ” البطل ” ممارسة تحقيقه .
إن كل أبطال الثورات المنتصرة من هذا الطراز . أبطال الأداء المتميز الذي يطوّر الواقع الاجتماعي طفرة إلى الأمام ، او يزيح سداً ثقيلاً على طريق تطوره فيتطور . على وجه لم يكن أحد يتوقعه إلا ” البطل ” تسمى ثورة أو لا تسمى لا يهم فتلك ملهاة العاجزين إلا عن ” استغراب ” صنع التاريخ على غير ما يعرفون . المهم في التاريخ أن يكون البطل قد أنجز دوره .
قال ستالين فيما كتبه عن ” ثورة أكتوبر ” : ” كان وضع الحزب البلشفي وموقفه بالغ الضلال ذلك لأنه غرق في أوهام سلمية ، وتبنى الموقف الدفاعي . وعرقل وضلل وعي الجماهير الثوري . وفي تلك الأيام كنت أشارك في هذا الخطأ مع الآخرين من رفاق الحزب ثم ما لبثت أن اقلعت عنه تماماً في منتصف أبريل عندما أيدت ودعمت نظرية لينين ” . والواقع أن حزب البلاشفة كان أقلية تافهة العدد في روسيا القيصرية ، وإلى أن عاد لينين إلى روسيا في 3 أبريل 1917 كان الحزب وجريدته يؤيدون الحكومة المؤقتة التي يرأسها كيرنيسكي ، وكان البلاشفة الروس يبحثون فكرة الاندماج كلياً في حزب المنشفيك . كانوا في يأس كامل وشامل من قيادة الثورة فهم يبحثون عن مكان فيها ولو قريباً من الذيل . ثم جاء ” لينين ” وأعلن بحزم برنامج الحزب : إنهاء الحرب ضد ألمانيا ، وتحويلها إلى حرب اهلية وإسقاط حكومة كيرنيسكي بالقوة . قيادة الثورة للحزب البلشفي وكل السلطات للسوفيت .. ولم يكن مؤيدو البرنامج إلا أقلية في الحزب ، ولم يكن الحزب يملك من وسائل تحقيق البرنامج إلا صياغته في جمل ثورية . ولكنه كان قد تملك ” لينين ” الذي وعد السوفيتات وهي اللجان الشعبية التي كان قد شكلها في انحاء روسيا حزب الاشتراكيين الثوريين ، وليس حزب لينين ، وعدها لينين بالسلطة تحت قيادة الحزب البلشفي فانحازت لحزب لينين ونصرته فتولى السلطة . وانتصر لينين انتصاراً ” غير معقول ” لولاه ، فكان بطلاً .
ومن قبل تحالفت ثم تكالبت كل القوى الأوروبية نهشاً في كيان الثورة الفرنسية الذي انهكه العنف المتبادل بين فصائل قيادتها ، وأفزع الشعب نفسه وأيأسه الحصار المفروض عليه بين سنان المقصلة الدموية المجنونة المسلطة عليه في الداخل وسنان الحراب المشرعة ضده وضد ثورته في الخارج . فطمع انصار الملكية في الثورة وهبوا مرتدين . فاستعانت إدارة الحكم المدني بضابط كورسيكي شاب كان يتسكع بدون عمل في باريس إلا الإفضاء من حين إلى حين للحاكمين بأفكاره ” غير المعقولة ” . كان اسمه نابليون بونابرت . فأطلقت يده في إنقاذ الثورة فسحق سحقاً دموياً التمرد الأول للملكيين . وسحق سحقاً دموياً انقلابهم ” الناجح ” الذي كاد يصفي الثورة ( تم اثناء غيبته عن باريس ) . وسحق محاولة فرانسوا بايوف الانتهازي الذي أراد ان ينقض على الثورة لحساب وهم ثوري في رأسه . ثم قاد نابليون جيشاً من الجوعى العراء الفقراء في الرواتب والسلاح والخبرة بالقتال . قادهم عبر الحدود الجنوبية إلى إيطاليا ( 28 مارس 1796 ) ليسحق بهم على وجه يبدو غير قابل للتصديق طبقاً لأي ميزان لقوى الحرب جيوش القوى الأوروبية ، أعداء الثورة ، ويدخل فيينا ويملي على النمسا ، وعلى البابا شروط الثورة ، فينقذ الثورة من حيث لم يكن أحداً يتصور أن ياتي الإنقاذ . فاكتشف فيه الفرنسيون بطلها وأقر له العالم ولم يزل بأنه بطل الثورة الفرنسية وواحد من أبرز أبطال الثورات في تاريخ العالم .
المعبود ..
لسنا نقول بهذا التنوع الثلاثي في أدوار البطولة وسمات الأبطال من باب الفذلكة . وأرجو ألا يكون غريباً أو مستغرباً لأنه غير مسبوق . معروف ان تعدد وتنوع ادوار البطولة بدون حصر أمر سائد في دراسة الظاهرة . ولكن حصر الأنواع في ثلاثة غير مسبوق ويبدو غريباً وإن كان عندنا موثوق . ذلك لأننا لا نحتفي بالبطولة انبهاراً بالأبطال بل لدلالتها التقدمية ، وحركة التقدم الاجتماعي طبقاً لجدل الانسان ثلاثية الايقاع : ” المشكلة – الحل – العمل ” . قد تنطوي كل خطوة على أوجه متعددة من النشاط البطولي ومع ذلك تبقى كل الأنشطة البطولية راجعة إلى الحركات الثلاث للتطور الاجتماعي .
الذين يقرأون الكتب خفية وينكرون قراءتها علناً ، والذين يتبنون الأفكار خلسة وينكرون اصحابها جهراً ، والذين يستعلون ادعاء على منابع الفكر العربي لأن منابع الفكر عندهم لاتينية مدعوون إلى تقبل وتامل ما نقدمه إليهم فقد يعلمون منه ما لم يعلموا .. وهو بعد خطير .
بعد أن مات ” المجرم ” نابليون عام 1821 بعشر سنوات أجبرت ثورة 1830 الشعبية الملك العائد لوي فيليب على الاعتراف بأن نابليون كان بطلاً قومياً لفرنسا ، وإقامة تمثاله على قمة نصب في ميدان الفندوم في باريس وإرسال بعثة برئاسة ولي العهد نفسه ، الأمير فرانسوا ، إلى جزيرة سانت هيلانة ، لإحضار رفات الامبراطور لتدفن على ضفاف السين في باريس تنفيذاً لوصيته ثم لم تشهد أوروبا من قبل أو من بعد جنازة مثل جنازة تشييع رفات نابليون إلى مقبرة الخالدين ( الأنغاليد ) في 14 ديسمبر 1840 . وفي مصر عاش احمد عرابي بعد هزيمته عام 1882 مجرماً منفياً فقيراً شريداً أدانه كل الذين عاصروه ولم يكونوا معه وما زال منكوراً ومتهماً في التاريخ إلى أن قامت ثورة 1952 فأقر لأحمد عرابي بأنه كان بطلاً وطنياً وقائداً ثورياً ورد له اعتباره واقيم له تمثاله وردت امواله واموال رفاقه المصادرة إلى ورثتهم بعد سبعين عاماً من النكران .
هذان نموذجان لرجال في التاريخ ماتوا ” مجرمين ” ثم بعثوا في التاريخ ” أبطالاً ” وكان الذين أدانوهم هم الذين بعثوهم ، وفيما يلي نموذجان لمن ماتوا أبطالاً ثم بعثوا مجرمين .
لقد مات ستالين ” بطلاً ” يوم 5/3/1953 وبعدها بثلاث سنوات فقط أدين بأنه كان مجرماً . وكان الذين توجوه بطلاً تاريخياً قبل أن يموت هم الذين أدانوه بالإجرام بعد موته . وما تزال جثة تاريخ ” بطل الصين الشعبية ” ماو تسي تونج مسجاة على مشرحة رفاقه في الحزب الشيوعي الصيني يجردونها قطعة قطعة من ثياب البطولة التي ألبسوه إياها وقدسوه من أجلها أثناء حياته ..
فكيف يحدث هذا ؟ ..
كيف يسمح العلم بالعبث بتاريخ الشعوب وقيمها ورموزها ومثلها العليا تبعاً لأهواء الحاكمين ؟ حينما ووجه خروتشوف بالسؤال : لماذا لم تنتقد ستالين إلا بعد أن مات ؟ قال : لأننا كنا في حياته خائفين . لم يقل أحد له كيف تسمح لنفسك بأن تقود دولة عظمى وانت خواف . كما لم يقل له أحد ، ما دمت قادراً على الكذب ولو خوفاً من ستالين فما الذي يضمن انك لا تكذب الان خوفاً على منصبك .. الخ . الواقع ان عبدة الأبطال في حياتهم جلاديهم بعد مماتهم قد حولوا البطولة من مقولة علمية إلى مأساة خلقية ذات آثار تربوية بالغة الخطورة . إذ ما الذي يفعله الآباء والأمهات والمدرسون والأساتذة والكتاب حين ينقلبون من ذل الرياء في حياة البطل إلى فجر العداء بعد موته ؟ انهم يشوهون كل قيم الصدق والأمانة والشجاعة لدى الناشئة من تلك المخلوقات التي تسمع وترى وتراقب ولا تنطق بسبب الطفولة او بسبب التهيب او بسبب التأدب فلا يصدقون المربين ولا يحترمونهم ، فلماذا ؟
إلى أن يجيب أحد نقول ان ليس مرجع الأمر كله إلى الغباء أو الأخطاء . إنما يرجع بعضه إلى افتقاد دلالة البطولة إلى محدد علمي يحول دون ان تتحول من صفة للموضوع إلى صفة للذات . من صفة لدور إلى صفة لشخص . من أن تكون نسبتها للبطل مقيدة بدور محدود إلى أن تكون نسبتها للبطل مطلقة بدون قيود . فيصبح البطل في اداء دور تاريخي بطلاً تاريخياً لكل الأدوار بل يصبح كل دور يؤديه هو دور بطولة .. لا يعني هذا ان التحديد العلمي لدلالة البطولة سيلغي وثنية عبادة الأبطال ، فثمة من لا يشبع رغبة العبودية الكامنة في أنفسهم إلا بطل فإن لم يجدوه اصطنعوه . إنما يفيد هذا التحديد في تقييم إداء البطولة تقييماً موضوعياً والتعامل مع الأبطال او تاريخهم تعاملاً عادلاً . لا تقديس ولا تفليس .
التنوع الثلاثي لظاهرة البطولة هي المحدد العلمي . وبه لا تكون البطولة عامة او مطلقة بل محددة بمضمون دورها لا تتعداه إلى ما عداه من نشاط الشخصية . فالإقرار بأن ماركس كان بطلاً عالماً لا يعني انه كان بطلاً في غير ذاك الميدان . والواقع ان أحداً لم يتوقع من ماركس أن يقود حزباً أو يشعل ثورة أو ينشىء دولة ولو كان نظامها ماركسياً . كان الرجل فيما عدا ميدان بطولته عادياً . وفي بعض أوجه الحياة الانسانية كان أقل من العادي . كذلك كان الأمر بالنسبة إلى شارل ديجول . فبالرغم من أن ” مهنته ” الأصيلة القتال فإنه لم يبرز قط كمقاتل ولم يعرفه أي ميدان قتال بطلاً حتى أثناء تحمله مسئولية قيادة قوات فرنسا الحرة . ولكنه كان بطلاً سياسياً حين قدم إلى الشعب الفرنسي الحل الصحيح للخروج من الهزيمة . اما لينين البطل في ميدان الثورة فقد غفر له انتصاره في النهاية ما جنت يداه في البداية . ولقد كانت بداية لا تغتفر إلا لمن ثبت انه بطل . ذلك لأن الماريشال الألماني لودندروف كان هو الذي دبر وسيلة مرور لينين من سويسرا إلى روسيا عبر ألمانيا في عربة قطار مغلقة ليساعد على إخراج روسيا من الحرب ، والمانيا في ذلك الوقت في حرب فعلية مع روسيا . إن قبول لينين أن يتولى اعداء وطنه نقله إلى ميدان القتال ليحقق لهم ما يريدون خيانة وطنية اتهم بها لينين فعلاً لولا إنها مضافة إلى لينين ” البطل ” كانت الوسيلة الوحيدة للوصول إلى ميدان الثورة لإنقاذ الوطن . كما أن الذين يقرأون كتب وخطب ورسائل لينين لا شك يدهشهم ويصدمهم الأسلوب الحاد والشتائم البذيئة التي يستعملها في ” الحوار ” مع المختلفين معه في الرأي . يقول سيدني هوك في كتابه ” البطل في التاريخ ” : ” … كان لينين في بعض الأحيان ينصح البلاشفة بذات الطريقة المؤلمة التي ينصح بها المعلم تلميذاً ذكياً ولكنه طائش وضال . وكان احياناً يعنفهم بمثل الخشونة التي يعنف بها عريف فارغ الصبر مجنداً جديداً فجاً ” وليس في كل هذا ما يمت إلى البطولة بصلة . ولم يكن الأمر بالنسبة إلى نابليون بطل الثورة الفرنسية منكوراً أو قابلاً للإنكار . فالمحصلة النهائية لقيادة نابليون هي هزيمته وأسره ونفيه وعودة الملكية إلى فرنسا بعد سلسلة مروعة من الهزائم العسكرية على كل الجبهات وعشرات الألوف من الضحايا الفرنسيين واستنفاد حتى الافلاس للاقتصاد الفرنسي .. الخ . أما عن حياته الخاصة والأسرية فقد كانت ” مزبلة ” على رأي هـ . ج . ويلز وهو يتحدث عن نابليون في كتابه ” ملخص التاريخ ” ومع ذلك فإن هزائم القائد العسكري ونزوات الحاكم الكورسيكي لم تختلط ولم تنل من بطولة منقذ الثورة .
إذن
إن البطولة صفة لدور اجتماعي تنسحب إلى من يؤديه فعلاً وليست صفة لإنسان تنسحب إلى كل ما يؤديه . على هذا الوجه تغلق أبواب النفاق دون وثيقة عبادة الاشخاص ولو كانوا قد أدوا أدواراً بطولية وبالتالي لا يكون أي بطل محصناً ضد النقد معصوماً من الخطأ أو أن تكون ذاته مصونة لا تمس . هذا من ناحية . ومن ناحية ثانية ، لا يطلق ولا يقبل إطلاق ، صفة البطل على شخص خارج نطاق دور البطولة الذي أداه . ومن ناحية ثالثة ، لاتنكر ، ولا يجوز إنكار ، بطولة شخص لأسباب خارج نطاق الدور الذي أداه . ليس معنى هذا ان ما يؤديه البطل خارج نطاق دور البطولة غير ذي أثر في تقييمه كإنسان وكبطل . لا . فإن قيمة كل إنسان . بطلاً كان أو غير بطل ، متوقفة على مدى اتساق نشاطه مع مجموعة من الضوابط الاجتماعية الحضارية السائدة في المجتمع الذي ينتمي إليه . ومع أن تلك ضوابط مختلفة تبعاً لاختلاف المجتمعات والحضارات إلا أنه لم يوجد ولا يمكن ان يوجد ” بطل ” خارج على قيم المجتمع الذي ينتمي إليه مهما ” ارتكب ” من اعمال المهارة او الجارة او الإمارة . لسبب بسيط ، هو انه من المحال – للتناقض – أن يحتاج مجتمع إلى من ينقض قيمه الحضارية .
هكذا نستطيع بسهولة ، كما نعتقد ، معرفة الحدود الفاصلة ، على المستوى الفكري والسياسي ، مابين دور البطولة الذي استدعى عبد الناصر فأداه في الماضي والدور الذي يستدعي الناصرية لتؤديه في المستقبل .
(5)
البذور
سأل عبد الناصر نفسه في كتابه ” فلسفة الثورة ” ، متى كان ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه بذور الثورة في اعماقي ؟ .. واجاب ” انه بعيد ” ثم أضاف : ” إن تلك البذور لم تكن كامنة في أعماقي وحدي وإنما وجدتها كذلك في أعماق كثيرين غيري . هم الآخرون بدورهم لا يستطيع الواحد منهم ان يتعقب بداية وجودها في كيانه . إن هذه البذور ولدت في أعماقنا حين ولدنا . إنها كانت أملاً مكبوتاً خلقها في وجداننا جيل سابق ” .
عم كان يتكلم عبد الناصر ؟
ما هو الأمل المكبوت الذي تداولته أجيال متعاقبة ؟
أولاً : إن كان الأمل في معرفة مشكلة مصر معرفة علمية صحيحة فإنه لم يوجد في مصر . منذ الاحتلال البريطاني عام 1882 حتى ثورة 1952 ، أحد يعتد به احتاج إلى ، وبالتالي حمل أملاً في . من يعلمه ان الاحتلال البريطاني هو مشكلة مصر الأولى ومصدر كل مشكلاتها التي لن تحل إلا بعد ان تتحرر مصر من الاحتلال .
ثانياً : إن كان الأمل في معرفة الحل الصحيح لمشكلة الاحتلال فإنه لم يوجد في مصر ، منذ الاحتلال البريطاني عام 1882 حتى ثورة 1952 ، أحد يعتد به احتاج إلى ، وبالتالي حمل املاً في . من يعلمه ان تحرير مصر واستقلالها هو الحل الصحيح لمشكلة الاحتلال .
ثالثاً : كيف التحرير ؟ .. هذا هو السؤال . لم يكن الأمل المكبوت الذي تناقلته الأجيال في مصر إلا أمل اكتشاف الأسلوب المناسب لإجلاء المحتلين وتحرير مصر .
لهذا الأمل الذي بقي معلقاً سبعين عاماً بعيداً عن الواقع قصة ينبغي أن يلتفت اليها الجيل الجديد ليعرفوا على الأقل أن آباءهم وأجدادهم وآباء أجدادهم .. الخ لم يفشلوا في تحقيق أملهم في تحرير مصر لأنهم كانوا أقل علماً أو معرفة أو وطنية أو شجاعة أو تضحية من جيل ثورة 1952 ، أو أن هذا الجيل كان يملك من أسباب النجاح أكثر مما كانت تملك أجيال سبقته لولا أنه كان يملك ضابطاً اسمه جمال عبد الناصر .
نروي ملخصاً لهذه القصة ، قصة بذور ثورة تحرير مصر الممتدة منذ الاحتلال وننتهزها فرصة لإشباع هوايتنا في التذكير بما نذكره من أسماء قادة وشهداء الحركة الوطنية الذين لا يذكرهم أحد عادة .
الخط ” الدرامي ” في هذه القصة ( إذا صح التعبير ) هو انه منذ البداية في 11 يوليو 1882 حتى النهاية في 23 يوليو 1952 لم يكف أي جيل من أجيال الشعب عن محاولة تحرير مصر . ما أن يشب الأطفال حتى يقتحم جيل جديد من الشباب معارك مقاومة الاحتلال . الجيل الذي عاصر الاحتلال قاومه عسكرياً وشعبياً تحت قيادة أحمد عرابي . كان مصطفى كامل في ذلك الوقت غلاماً فما أن شب مع جيله حتى كان يقود جيله في المقاومة . ثم لم تمض أكثر من إحدى عشرة سنة على وفاة مصطفى كامل حتى كان جيل جديد ، يفجر ويخوض ثورة 1919 تحت قيادة ” الشيخ ” سعد زغلول . والذين كانوا أطفالاً عام 1919 لم يلبث جيلهم أن أوفى بمسئولية المقاومة في عام 1935 . ومن صفوف الناشئة عام 1935 ستستأنف المقاومة فور انتهاء الحرب الأوروبية الثانية عام 1945 بينما يكون جيل جديد قد بدأ يخطط لثورة 1952 . وهكذا تطهرت كل الأجيال في نهر الحركة الوطنية المتدفق لم يتخلف أحد .
ولقد استعملت تلك الأجيال المتعاقبة كل ما يخطر على البال من أساليب مقاومة الاحتلال .
انضوت قوى كثيرة في خط الاسلوب السياسي السلمي . قبول الاحتلال كأمر واقع والتعامل معه إدارياً والتماس التحرر عن طريق التدرج الاصلاحي في التربية والتعليم والتقدم الاقتصادي ، وبوجه خاص تدريب الشعب ورفع كفايته على حكم نفسه في نظام دستوري ديمقراطي ومفاوضة المحتلين أنفسهم لإقناعهم بان شعب مصر قد بلغ من رشد التمدين – على الطريقة الأوروبية – ما يؤهله للاستقلال . فكونت تلك القوى أحزاباً عدة : حزب الاصلاح على المبادئ الدستورية ( 1907 ) وحزب الاحرار ( 1907 ) وحزب النبلاء ( 1908 ) والحزب المصري ( 1908 ) والحزب الدستوري عام ( 1910 ) وحزب الوفد ( 1918 ) وحزب الأحرار الدستوريين ( 1922 ) والهيئة السعدية ( 1938 ) والكتلة الوفدية ( 1942 )  .
أما عن القوى الثورية فقد اقتحمت المعارك قبل أن تفكر في الأحزاب ففي يوم الاحتلال ذاته ( 11 يوليو 1882 ) قصفت البوارج الانجليزية مدينة الاسكندرية تمهيداً لبدء الاحتلال ، أما رجال الحزب الوطني أحمد عرابي وصحبه وقادة وجند المقاومة العسكرية المنتصرون في رد العدوان عن الاسكندرية المنهزمون في بلبيس فمذكورون . مذكور أيضاً أن عدد القتلى من أفراد الشعب قد تجاوز الألفين في يوم واحد . لا أحد يذكر هؤلاء ويتركونهم كما لو كانوا ضحايا القصف العشوائي أو العاجزين عن الهروب ، لولا أن يقول الإمام محمد عبده في كتابه عن الثورة أنه أثناء ضرب مدينة الإسكندرية ” كان الرجال والنساء تحت مطر من القنابل ونيران المدافع ينقلون الذخائر ويقدمونها إلى بعض الطوبجية ( رجال المدفعية ) وكانوا يغنون أغنيات تلعن الأميرال سيمور ومن أرسله ” . تصورا . الشعب ، الناس العاديون الذي قال روسو منذ قرنين ألا أحد غيرهم يستحق الاهتمام . ما أن يبدأ العدوان حتى يدخلوا ضده المعركة غير مجندين رجالاً ونساء ، غير مسلحين فيحملون إلى المجندين الذخائر تحت مطر من القنابل غير محصنين ، ونيران المدافع غير هيابين ويؤلفون الأغاني وحي اللحظة ويغنونها نشيداً للثورة .
وفي عام 1900 أنشأ الحزب الوطني جهازاً للتوعية والإعلام والتعبئة الفكرية والمعنوية والدعائية لمقاومة الاحتلال قوامه ثلاث صحف تصدر كل منها بلغة ( العربية والانجليزية والفرنسية ) وأرسل بعض شبابه إلى ” سويسرا ” للحصول على جنسيتها والعودة محصنين ضد الاجراءات البوليسية كأنهم غير مصريين . وفي عام 1906 – قبل أن ينتظم حزباً – أنشأ منظمته الثورية لمقاومة الاحتلال وعملائه بالعنف المسلح . كان أول المؤسسين إبراهيم ناصف الورداني ومحمود عنايت وعبد الحميد عنايت وعبد الفتاح عنايت وخليل مدكور وشفيق منصور وعوض جبريل ونجيب الهلباوي . وبدأوا نشاطهم رداً على مذبحة 13 يونيو 1906 حيث حوكم الفلاحون في قرية دنشواي على ما أسند إليهم من الدفاع عن قريتهم ضد الجند الإنجليز واصدر بطرس باشا غالي قاضي المحكمة الصورية أحكام الإعدام والجلد فأعدم أربعة من أهل القرية في القرية أمام ذويهم . ففي يوم 20 فبراير 1910 أعدمت المنظمة بيد إبراهيم الورداني الخائن بطرس غالي وأعدم الشهيد يوم 28 يونيو سنة 1910 وهو يهتف ” الله اكبر الذي يمنح الحرية والاستقلال ” .
وفي عام 1914 اندلعت الحرب الأوروبية الأولى فأعلنت إنجلترا ” الحماية ” على مصر وأفرغت مصر من رجالها العاملين إذ ” وضع نظام للتطوع ظهر عدم كفايته فصدرت الأوامر بأخذ العمال من الحقول بالإكراه وطريقته أن يدخل رجال الحكومة القرية وينتظروا رجوع الفلاحين إلى منازلهم عند الغروب فيحدقون بهم كالأنعام وينتقون خيرهم للخدمة فإذا رفض أحدهم التطوع الإجباري جلد حتى يقر بالقبول ( صحيفة الرائد البريطانية في 3 أبريل 1919 ) . بلغ ” المتطوعون ” للعمل في جبهة القتال وراء الخطوط وفي الخنادق في الجبهة الشرقية وفي أوروبا أكثر من مليون . وحل محل الشعب المنزوح من وطنه ما ملأ أرض الوطن من أشتات الجند . كتبت مس درهام مقالاً يوم 2 ابريل 1919 في جريدة الديلي نيوز قالت فيه : ” بلغ الجنود الانجليز من الجهل أنهم كانوا يظنون مصر بلداً انجليزياً وأن المصريين أجانب دخلاء فيعجبون كيف سمح لهؤلاء العبيد بأن يأتوا إلى هذه الديار ” . وما ان انتهت الحرب حتى اندلعت الثورة في 9 مارس 1919 لم يتخلف أحد عن الإسهام فيها حتى النساء وتعرضت القرى في الريف للاجتياح المسلح . قتل اكثر من مائة مواطن فلاح ثائر من قرية ميت قرشي . وقتل شنقاً 51 مواطناً فلاحاً ثائراً من قرية دير مواس . وقتل من لم يهتم أحد بحصرهم في قرى اسيوط والواسطي وصنبو وملوى والمنيا وفاقوس ورشيد وقليوب والاسكندرية فنكاد نقول إن ثورة 1919 كانت في الأساس ثورة فلاحين ( إخوة وآباء الذين تطوعوا جبراً وأصحاب المحاصيل التي نهبت ) . ذلك لأن الفلاحين قد حددوا أهدافهم الثورية بقطع شرايين الاتصال بين قوات الاحتلال ( الطرق والكباري والسكك الحديدية ) فأصدر القائد العام للقوات البريطانية يوم 20 مارس 1919 بلاغاً يقول : ” كل حادث جديد من حوادث تدمير محطات السكك الحديدية أو المهمات الحديدية يعاقب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من غيرها إلى مكان التدمير وهو آخر إنذار ” . وطاردت المنظمة الثورية كبار المتعاونين مع سلطة الاحتلال قذفاً بالقنابل اليدوية : يوسف وهبة باشا رئيس الوزراء ( ديسمبر 1919 ) الوزير اسماعيل سري باشا ( يناير 1920 ) الوزير محمد شفيق باشا ( فبراير 1920 ) الوزير حسين درويش ورئيس الوزراء نسيم باشا ( يونيو 1920 ) . وكسبت المنظمة دماء جديدة : عبد الخالق عنايت ( الأخ الرابع من أولاد عنايت ) : عبد العزيز علي صاحب فكرة تكوين الضباط الأحرار ومنشىء أول خلية منها ( ووزير البلديات في أول وزارة لثورة 1952 ) ومحمود راشد ، وراغب حسين ، وعلي ابراهيم ، والعامل محمد فهمي ، وابراهيم موسى .
كان عبد العزيز علي رئيساً للمنظمة الثورية حين قامت ثورة 1952 ، وقد كان معجباً إعجاباً فائقاً بالعامل ابراهيم موسى ولا يترك مناسبة إلا وذكره وضربه مثلاً للناشئين من أمثالنا . كان وطنياً متصوفاً لا يتحدث في السياسة ولكن يطارد الإنجليز ويقتلهم حيث يثقفهم . وكان قناصاً لا يخطىء الرماية . قال عبد العزيز علي إنه وغيره كانوا يضعون خطط إعدام الإنجليز ويتركون دور إطلاق الرصاص لإبراهيم الذي يحضر يوم التنفيذ ويستلم مسدساً ويطلق طلقة واحدة تنهي حياة من أعدم ويسلم المسدس وينصرف هادئاً إلى منزله .. ” في الشرابية ” ، وكان عاملاً في ورش السكك الحديد وأباً لسبعة أطفال .. وقد حاولت أن انبش حي الشرابية بحثاً عن أحد من أسرته لأعرف الجانب الاجتماعي من ثوريته فلم اهتد إلى أحد .
استمر نشاط المنظمة ثلاث سنوات مليئة بجثث كبار رجال الإدارة من الإنجليز . براون مراقب عام وزارة المعارف . كييف وكيل حكمدار القاهرة الذي كان يجبر من يعتقل على أكل روث الخيل . بيجوت مدير مالية الجيش الانجليزي . براون آخر مدير قسم البساتين . بون الأستاذ في مدرسة الحقوق الذي كان يدرس للطلبة عدم استحقاق مصر للاستقلال واخيراً وليس آخر السيرلي ستاك ” سردار ” قائد الجيش المصري . أعدمه عبد الحميد عنايت وإبراهيم موسى وراغب حسين ومحمود راشد وعبد العزيز علي يوم 19/11/1924 . خانهم نجيب الهلباوي فقبض عليهم وعلى بقية اعضاء المنظمة الثورية وفي 7/6/1925استشهد شنقاً عبد الحميد عنايت وإبراهيم موسى ومحمود راشد وعلي إبراهيم وراغب حسين وشفيق منصور ومحمود إسماعيل .
ثم جاءت ثورة ” الطلبة ” عام 1935 تحدياً لتصريح صمويل هور وزير خارجية بريطانيا الذي اعترض على عودة دستور 1923 والتي انتهت بإرغام الملك فؤاد على إعادته وفيها استشهد الطلبة محمد عبد المقصود شبيكة ومحمد محمود النقيب وعلي طه عفيفي وعبد المجيد مرسي ومحمد عبد الحكم الجراحي وأصيب 168 طالباً كان من بينهم جمال عبد الناصر الطالب في مدرسة النهضة الثانوية ( جريدة الجهاد في 14 /11/ 1935 )  .
أطلق الضابط الإنجليزي ليز أربع رصاصات على الشهيد عبد المجيد مرسي الطالب بكلية الزراعة فقتله . فتقدم محمد عبد الحكم الجراحي الطالب بكلية الآداب وخاطب القاتل بثبات وجرأة قائلاً : ” أمن الشجاعة ان تضرب بالرصاص شاباً أعزل فتقتله ” فقال ليز : ” أتود ان تلحق به ” . فتقدم إليه عبد الحكم قائلاً : ” أتريد ان تقتلني أنا أيضاً . هل هذه هي شجاعتكم التي تتشدقون بها . هاك صدري . إننا لسنا جبناء مثلكم ” فاطلق عليه الجبان الرصاص ومات شهيداً يوم 19 نوفمبر 1935 .
قبل أن يموت عبد الحكم أرسل برقية إلى رئيس وزراء إنجلترا ” روح الشر ” قال فيها : ” أحد رجالكم الأغبياء أصابني برصاصة وانا أموت الان شيئاً فشيئاً ولكني سعيد للغاية أن ضحيت بنفسي . إن الموت أمر صغير وآلام الموت عذبة المذاق من أجل مصرنا . فلتحيا مصر . فليسقط الاستعمار ، ولتسقط انجلترا ، وسيتولى الله عقابكم قريباً أنتم وإنجلترا روح الشر فلتحيا التضحية ” .
ثم بدات الحرب الأوروبية الثانية عام 1939 .
وبدأ دخول ضباط الجيش حركة المقاومة . أول مجموعة منظمة كانت من ضباط الطيران : وجيه أباظة ، حسن عزت ، أحمد سعودي ، عبد اللطيف البغدادي ، حسين ذو الفقار صبري ، عبد المنعم عبد الرؤوف ، حسن إبراهيم ، محمد شوكت . وجيل جديد من الشباب ، محمد علوي ، يوسف كمال ، عبد المعطي عطية ، محمد سليم حجازي … الخ . وطلبة المدارس الثانوية ، في القاهرة قتلوا أمين عثمان ، وفي الاسكندرية هاجموا معسكرات الإنجليز أربع مرات في الأنفوشي ، وفي الشلالات ، ومعركة تحمل إسم إسحاق نديم ، والنادي البريطاني . أسفرت عن قتل وإصابة 138 بريطانياً قبل أن يقبض على المنظمة الطلابية الثورية ويزجوا بالثوار في السجون .
يوم ” 21 فبراير ” من كل عام هو يوم الطالب العالمي .
أسمي كذلك تكريماً لذكرى نضال الطلبة في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي .
ففي يوم 21 فبراير 1946 اجتاحت شوارع القاهرة المحتلة عشرات الألوف من الطلبة والعمال والتجار وصغار الموظفين في مظاهرات كثيفة تردد هتافين متميزين . الأول : ” الجلاء بالدماء ” والثاني ” لا حزبية بعد اليوم ” . من اجل الدلالة التاريخية لهذا الهتاف الأخير نكتب ما نكتب ، لم يحدث من قبل أن أجمعت القوى الشعبية الثائرة ضد الاحتلال على الربط بين التحرير وإلغاء الأحزاب . إنه حكم بانتهاء مرحلة تاريخية كاملة بدأت منذ أول حزب تكون عام 1907 وهو أذان الشعب ببزوغ فجر ثورة 1952 . استشهد في القاهرة أربعة وعشرون واصيب مائة وثلاثون . أضرب الشعب جميعه في اليوم التالي ، واستؤنفت المعارك في الإسكندرية ، استشهد في الإسكندرية ثمانية وعشرون واصيب ثلاثمائة واثنان واربعون
1947 و 1948 اندفاع قوى الثورة على أرض فلسطين دفعاً للعدوان الصهيوني ..
8 أكتوبر 1951 حكومة الوفد ألغت المعاهدة . معاهدة ” الشرف والاستقلال ” كما كان مصطفى النحاس قد وصفها عام 1936 . انسحب تلقائياً انسحاباً جماعياً من العمل بمعسكرات الإنجليز ستون ألف عامل مضحين بلقمة العيش من أجل .. الوطن فلا شيء غيره ينتظر العاطلين . بدأت الحرب الشعبية المنظمة . وانخرط آلاف من الشباب والكهول في ” كتائب التحرير ” المدربة المسلحة يحيطون بالقوات الإنجليزية في منطقة القناة وشرق الدلتا .
المعارك ضارية والشهداء يتساقطون . في السويس 68 شهيداً و190 جريحاً يومي 3 و4 ديسمبر 1951 . هدم 156 منزلاً في قرية أم عبده ( 7 ديسمبر 1951 ) معركة مروعة في فنارة ( 14 ديسمبر 1951 ) . تدمير محطة اتصال لاسلكي أقامها المحتلون في فردان ( 16 ديسمبر 1951 ) مهاجمة مساكن الضباط الإنجليز في نقطة المحجر ( 28 ديسمبر 1951 ) مذبحة الإنجليز أثناء احتفالهم برأس السنة في الإسماعيلية ( 31 ديسمبر 1951 ) 12 قتيلاً و18 جريحاً . موقعة التل الكبير ( 12 يناير 1952 ) أسر المهاجمون سبعة ثوار ثم ردوا جثثهم وقد نهشتها الكلاب . أول مرة يستخدم الإنجليز الكلاب المدربة في المعركة . في اليوم التالي قتل 12 ضابطاً وجندياً انتقاماً للشهداء السبعة . معركة الإسماعيلية ضد رجال البوليس في مبنى المحافظة ( 22 يناير 1952 ) استشهد خمسون جندياً وجرح أكثرمن تسعين ..
الصحف البريطانية تعلق على أحداث معركة التل الكبير
التيمس : ” إنه من المدهش والغريب أن القيادة البريطانية في مصر تعترف صراحة بأن جميع الفدائيين المصريين قد تصدوا لها أثناء معركة التل الكبير وواجهوا القوات البريطانية بكامل أسلحتها وحاربوا ببسالة منقطعة النظير ” .
والديلي ميرور – و النيوز كرونيكل : ” إن معركة التل الكبير تعتبر من أعنف المعارك التي واجهتنا في مصر إذ أنها تفوق في عنفها جميع المعارك التي خضناها في فلسطين . وإنه لعجيب أن يصمد الفدائيون للقوات البريطانية يوم السبت 12 يناير 1952 ويحاربوا ببسالة وشجاعة الفرق الميكانيكية والأسلحة الثقيلة وجنود المظلات وفرق الكاميرون والهايلاندرز ” .
وفي 26 يناير 1952 ” حرقت القاهرة ” . أعلنت الأحكام العرفية . أقيلت وزارة النحاس التي أعلنت الأحكام العرفية فور إعلانها . أوقفت بالقوة ” الوطنية ” حرب التحرير الشعبية ..
العجز اليائس ..
منذ سبعين عاماً لم يتخلف جيل . منذ سبعين عاماً استعملت كل الوسائل . منذ سبعين عاماً والأحزاب تحكم وتحاول وتفاوض وتستقيل أو تقال . منذ سبعين عاماً والشهداء يتساقطون المشكلة ( الاحتلال ) باقية وتزداد حدة بدون حل ( استقلال ) وقد فشلت كل الوسائل وعجزت كل القوى عن حلها .. فما العمل ؟
ما الذي كان يريد الشهيد عبد الحكم الجراحي ان يقوله حين قال في برقيته إلى رئيس وزراء إنجلترا : ” سيتولى الله عقابكم .. ” . هل وصل العجز إلى حد اليأس ؟ .. إذن فإن حركة التطور الإجتماعي في مصر قد أصبحت في حاجة موضوعية إلى ” بطل ” أو – على الأصح – أن هناك دور بطولة يبحث عمن يؤديه وكل الظروف وكل القوى تستدعيه .
(6)
الاستدعاء .. والوفاء
يقول الاستاذ المؤرخ المستشار طارق البشري : ” إنه في سياق أزمة الحكم والأزمة السياسية العامة التي عانت منها الحياة المصرية منذ إلغاء المعاهدة في 8 أكتوبر 1951 حتى حريق القاهرة في 26 يناير 1952 لم تستطع التيارات السياسية والشعبية وتنظيماتها أن تتجمع سريعاً في شكل من أشكال الجبهات التي يمكنها من تجميع الرأي العام السياسي وراء الأهداف المتفق عليها . ويوم الحريق نفسه كادت مصر ان تكون بغير سلطة سياسية ، وانفلت زمام الأمور ، ورغم ذلك لم تستطع التنظيمات القائمة مجتمعة او منفردة أن تلتقط أياً من أطراف السلطة الملقاة طريحة . وقد لوحظ في تلك السنوات الأخيرة أن نما بين العناصر غير الحزبية من الوطنيين تيار يفتش عن ” الرجل ” و ” القائد ” و ” الزعيم ” بل ينادي جهرة بحثاً عن ” الديكتاتور ” الذي تختاره مصر . وزاد الإتجاه نمواً بعد انكسار التنظيمات الشعبية الذي أعقب حريق القاهرة وحتى 23 يوليو 1952 .
الديموقراطية ونظام 23 يوليو ..
حديث الصديق الرقيق في حاجة إلى تعليق .
لم تكن مصر في حاجة إلى سلطة ” تدير ” بل كانت في حاجة إلى حركة ” تحرير ” فلم يهتم أحد بالتقاط أطراف السلطة الملقاة طريحة . لم تكن مشكلة الاحتلال في حاجة إلى رئيس حكومة يعجز في النهاية عن تحرير مصر فيضطر في النهاية إلى مهادنة المحتلين وعملائهم كما فعل في النهاية مصطفى النحاس ، خريج مدرسة الحزب الوطني قبل ان يكون وفدياً . وواحد من أصلب الزعماء دفاعاً عن الوطن في البداية .. لم تكن مصر في حاجة إلى ” جبهة ” من الأحزاب فقد جربت عام 1935 فأسفرت عن معاهدة 1936 . ألم تر كيف هتف الشعب ” لا حزبية بعد اليوم ” عام 1946 ؟ إنه الشعب نفسه الذي استنفد جهده الثوري لجمع الأحزاب في جبهة عام 1935 . ألم تساهم كل الأحزاب في إنشاء كتائب التحرير فما ان أحرقت القاهرة وقيل انفضوا إلا وانفضوا وقد كانوا أقرب إلى الجبهة التي تساند الكتائب ، كل ما يأخذه المؤرخ النابه على ” التيارات السياسية والشعبية ومنظماتها ” كان قد جُرّب من قبل وفشل وبقي الدعاء من أجل ” رجل ” أو ” زعيم ” .
ولم يكن ذاك الدعاء ملحوظاً في السنوات الأخيرة فقط ، بل كان متردداَ بعد إخفاق كل مرحلة نضال ثوري . اول من استدعاه كان الإمام محمد عبده في اوائل القرن بعد فشل ثورة أحمد عرابي وأسماه حينئذ ” المستبد العادل ” . وظلت أقرب المنظمات من الشعب وتعبيراً عن آماله تحتضن أمل الزعيم . أعني تجعل من نفسها ” حاضنة ” ” للزعيم ” المنتظر ( وهي ظاهرة متكررة في تاريخ الذين يحتضنون فكرة المهدي المنتظر )  .
كان مبدأ ” الزعيم ” الفرد ركناً أساسياً من مبادىء حزب الوفد منذ نشأته تحت قيادة سعد زغلول حتى نهاية قيادة مصطفى النحاس . كان سعد زغلول هو ” الزعيم ” الذي لا تتقيد إرادته بقرارات حزبه ولا يخضع في تكوين تلك الإرادة وتقريرها وفرضها لأي نظام داخلي أو أية اغلبية حزبية . وكذلك كان مصطفى النحاس . لم يكن أي منهما يلتزم البدهية الأولى في النظام الحزبي الليبرالي وهي الخضوع لرأي الأغلبية إلا إذا كانت الأغلبية مؤيدة رأيه الخاص . أما إذا خالفت الأغلبية ، أو حتى الحزب كله ، رأيه فهو الزعيم الذي لا تجوز مخالفته .
كانت قيادة حزب الوفد عام 1921 تتكون من سعد زغلول رئيساً وأربعة عشر عضواً . فلما اختلف الأعضاء مع ” الزعيم ” أصدر قراراً منفرداً بفصل عشرة أعضاء أي اغلبية القيادة . وفي عام 1932 كانت قيادة الوفد تتكون من مصطفى النحاس رئيساً واحد عشر عضواً . فلما اختلفت مع ” الزعيم ” أصدر قراراً منفرداً بفصل ثمانية أعضاء أي اغلبية القيادة ..
كانت تلك ” ايديولوجية ” الوفد . نشرت الجريدة الوفدية ” كوكب الشرق ” يوم 3 يناير 1936 رأي الوفد في الضرورة الاجتماعية ” للزعيم ” فقالت : ” ما خلت نهضة عامة من زعامة ولا أقفرت حركة وطنية من قيادة ولا قامت ثورة إلا على توجيه . ومن ثم كان للزعيم في الحركات القومية قداسة لا يمسها شيء ومقام لا ترتفع إليه ظلال الشبهة وأوج لا يبلغه إتهام . إن الجماعات هي التي تختار زعماءها ولكن الاختيار نفسه لا يلبث أن يحيط ذاته بالقداسة والتكريم الواجبين للمعنى المتمثل به . فإن الزعيم هو الجماعات نفسها في فرد كما أن الجماعات هي الفرد نفسه ممثلة فيه ” هل كان ذلك نفاقاً لمصطفى النحاس ؟ .. لا . في 10 سبتمبر 1937 أراد مصطفى النحاس أن يمهد لفصل محمود فهمي النقراشي في مواجهة أغلبية اعضاء الوفد فقال : ” ما كنت يوماً من الأيام رئيس حزب أو هيئة بل زعيم أمة بأسرها فمن خرج عليها صبّت عليه غضبها ، ومن وقف في طريقها كان كمن يقف أمام التيار الجارف يكتسحه فيلقيه في قاع اليم فلا يجد لنفسه مخرجاً ولا إلى الحياة طريقاً ” . وفصل النقراشي بعد خطابه ذاك بيومين .
أما عن جماعة ” الإخوان المسلمون ” – القوة الشعبية الثانية – فقد نشأت ونمت على أساس من نظام البيعة على السمع والطاعة والتسليم الكامل للقيادة – احتجاجاً – في غير موضعه – بقوله تعالى : ” فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما” .ولقب رئيس الجماعة ” المرشد العام ” يوحي بما هو أكثر من الزعامة لأن مخالفته لا تعني شيئاً أقل من فقدان ” الرشد ” .
فإذا تركنا الأحزاب لنفتش عن أمل الزعيم لدى الذين يصوغون الرأي العام ويربون الناشئة في المدارس والجامعة . نرى فيما كان يلقيه الدكتور عبد السلام ذهني والدكتور وايت إبراهيم من دروس على طلبة القانون العام في جامعة القاهرة ترويجاً مباشراً لأمل الزعيم لإصلاح ” النظام الديمقراطي ” . وهما ينقلان عن لوديل قوله : ” لابد في سبيل المحافظة على كيان الدولة وحتى تستطيع معالجة ما ينزل بها من اضطراب أو قلق من أن يكون هناك فرد في زعامتها يجمع في يده مزايا السلطة المطلقة . قد تكون هذه السلطة المطلقة ممقوتة في نظر فريق من الشعب وفي بعض الظروف ، على أن جماعات الشعوب بوجه عام تميل إلى تحبيذ ما تقفه الهيئات الحاكمة من مواقف الحزم والجرأة ” . وينقلان على لاسكي قوله : ” وقد ازداد الأخذ بهذا المبدأ بعد الحرب وذاع شيوعه ” وينقلان عن جيتز فتش قوله : ” إن السلطة التنفيذية القوية والقادرة المنتجة هي ضرورة لازمة للنظام البرلماني ” وينقلان عن بارتيلس قوله ” ليست الأحزاب إلا جماعات تأكلها الأضغان والأحقاد والمنازعات وعدم الثقة ” . وينقلان عن شارل بينوا .. الخ . ( نقلنا ما تقدم من كتاب ” مجموعة رسائل في الأنظمة الدستورية والإدارية ” الذي اشترك في تأليفه الدكتور عبد السلام ذهني والدكتور وايت إبراهيم بدلاً من الرجوع إلى المؤلفات المنفردة لكل منهما وقد كان هذا الكتاب هو الذي يدرس في كلية الحقوق حتى عام 1940 )  .
عندما تقوم الثورة في 23 يوليو 1952 سيكون قد شغل مركز الاستاذية لتدريس القانون العام في كلية الحقوق الدكتور سيد صبري فيبادر إلى مساندتها حتى قبل إلغاء الدستور بمقال أحدث أثراً هائلاً عن ” الشرعية الثورية ” نشر في ” الأهرام ” يوم 27 يوليو 1952 . والدكتور عثمان خليل الذي سيقول : ” لقد أجمع الفقهاء الدستوريون على ان أسوأ مظاهر الاستبداد هو الذي يأتي عن طريق مظاهر تمثيلية أو نيابية وانه استبداد معسول يستبد بالشعب باسم الشعب ” .
لم يكن أساتذة القانون في الجامعة هم وحدهم الذين يستدعون الأمل البطل بل استدعاء خارج الجامعة من يعبرون بالأدب والفن عن آمال الشعوب . وكان على رأسهم توفيق الحكيم . قبل ان تدركه الشيخوخة أنشأ كتابه الذي نشر تحت عنوان ” شجرة الحكم ” عام 1938 في شكل مسرحية مباشرة التعبير ، وقدم لطبعة جديدة منه بقوله : ” إن الحكم المثالي ، في واقع الأمر ، ليس في المبادئ المثالية بل في الأشخاص المثاليين ” وكأنما أتخذ من جمال الاداء الفني للمسرحية وسيلة لإغراء القراء بان يقتنعوا برأيه القائل ” إن البرلمان في مصر هو الأداة الصالحة لتخريج الحكام غير الصالحين ” . وأيده بمقال نشر في عام 1938 تحت عنوان ” لماذا انقد النظام البرلماني ” .. نقل فيه إلى قراء مسرحيته أن .. ” خير مصر والبلاد الشرقية في محيطها الصغير وخير العالم كله بدوله الكبرى والصغرى في محيطها الكبير يتوقف على ظهور حفنة من رجال نسوا في لحظة من لحظات أبهة أشخاصهم وسيادة دولهم ليعملوا خالصين مخلصين لتحقيق المبادىء المثالية على الأرض بما تحويه من عدالة وحق وتعاون ومحبة وإخاء .
وكان الاستاذ إحسان عبد القدوس يعبر بقوة وصدق عن جيل ثورة 1952 قبل ان تقع ، ويدعو لها ، ويحتل مكاناً مؤثراً في الاتجاه الفكري للحركة الوطنية المعاصرة . كتب مقالاً بعنوان ” إن مصر في حاجة إلى ديكتاتور .. فهل هو علي ماهر ” تحمس فيه للدفاع عنه ” لأنه يعتد برأيه إلى حد لا يسمح معه للوزراء بالتفكير ” ( هكذا !! ) ثم قال ” ومصر تقبل معه ان يعتد برأيه إلى حد ان يصبح ديكتاتوراً للشعب لا على الشعب . ديكتاتوراً للحرية لا على الحرية ، ديكتاتوراً يدفعها إلى الأمام ولا يشدها إلى الخلف ” .
ويقول أحمد حمروش في كتابه ” قصة ثورة 23 يوليو ” : ” في هذه المرحلة ( يقصد مرحلة ما قبل الثورة ) كانت ضحية المناداة بالحاكم المستبد العادل قد علت وترددت ووصلت إلى الذروة سواء في الخارج أو في الداخل ” نشر الكاتب الأمريكي ستيوارت اليوب مقالاً في صحيفة ” شيكاغو صن تايمز ” يقول فيه : إن الحديث عن انعاش الديموقراطية في بلد كمصر يعيش فيه اغلبية الشعب عيشة احط من عيشة الحيوانات لغو فارغ . إن مصر لا تحتاج إلى ديمقراطية بل تحتاج إلى رجل فرد . إلى رجل مثل كمال اتاتورك ليقوم بالاصلاحات الضرورية اللازمة للبلاد . لكن مشكلة مصر في كيفية العثور على الديكتاتور فليس بين رجالها من ليه المؤهلات اللازمة للديكتاتورية .
و .. و .. و … الخ
كل الناس كانوا يعبرون بطرق شتى على ضرورة اجتماعية قائمة في الواقع الموضوعي تنعكس في وعيهم بدرجات متفاوتة ، وتدل جملتها على ان المجتمع في حاجة إلى بطل ، أو – الأصح – أن في المجتمع دور بطولة في حاجة إلى من يؤديه .
إنه دور ظهرت معالمه بعد أن تحقق . أما قبل ذلك فكان مجرد تصوره ينتمي إلى ” الأوهام ” .. المشكلة : الاحتلال ، الحل : التحرير . فمن ذا الذي كان يمكنه أن يتصور :
1 ـ أداة تحرير من القوات المسلحة مثل عرابي .
2 ـ تعزل الملك حتى لا تتعرض لمثل خيانة توفيق .
3 ـ توحد القوى من الثوار فتركز على هدف التحرير بصرف النظر عن الخلافات السياسية .
4 ـ وتلغي الازدواج في الخط الوطني فتلغي الأحزاب التي تمثل الخط الإصلاحي  .
5 ـ وتستولي على السلطة لتواجه الاحتلال بمصر كلها .
6 ـ وتحي المقاومة الشعبية وتفاوض الإنجليز في ظل القتال .
7 ـ وتتحدى دولة كبرى بالتحالف مع أكبر عدد من الدول .
8 ـ وتقاتل فإن انتصرت فمقدمة إلى قتال جديد وإن انهزمت لا تستسلم .
9 ـ لا تفقد في كل الظروف الثقة بذاتها وبأسلوبها وبالنصر .
10 ـ مستعدة دائماً ، وملتحمة بالجماهير الشعبية وخاصة الفلاحين القوة الضاربة في ثورة 1919
11 ـ ثم تكتشف انتمائها القومي العربي فتخوض معارك تحرير امتها .
من كان يتصور إمكان اجتماع كل هذا معاً في زمان واحد تحت قيادة رجل واحد ، هو الذي جمعه ، استجابة لاستدعاء تاريخي لحل مشكلة ظلت معلقة سبعين عاماً ..
ألم يكن عبد الناصر هو الذي اجاب الدعاء ؟… بلى
إنه إذن ” البطل ” ..
(7)
البطولة ليست ناصرية .
نهاية بطل  ..
بإداء دور البطولة تنقضي الحاجة الاجتماعية إلى البطل ، أي بطل ، ويصبح اصطناع أدوار بطولة أو اصطناع أبطال تهريجاً عابثاً . قد تجد في مرحلة تاريخية لاحقة الحاجة الاجتماعية إلى بطل ، حينئذ ستستدعي بطلها الذي سيكون مختلفاً عن كل الأبطال التاريخيين الذين سبقوه بقدر اختلاف الظروف الاجتماعية التي احتاجت إليه فاستدعته عن الظروف الاجتماعية التي احتاجت إليهم فاستدعتهم .
وانقضاء الحاجة الاجتماعية إلى البطل مرتبط موضوعياً بإنقضاء سبب الحاجة الذي عرفنا أنه العجز الذاتي العام عن تحقيق ما هو قابل للتحقق موضوعياً مما يشكل عقبة في سبيل التطور الاجتماعي ( حل المشكلات الاجتماعية ) . والمفروض والمتوقع أن تضطرد حركة التطور الاجتماعي بدون عوائق ذاتية بعد اداء دور البطولة وأن يستغنى عن البطل بعد أن يكون الدور الذي أداه قد دخل كتجربة تاريخية وعي الناس في المجتمع إن ما كانوا يظنون أنه غير قابل للتحقق قد كان دائماً قابلاً للتحقق لو كانوا اكثر ثقة بأنفسهم فيتحررون من الشعور بالعجز أمام أية عوائق أو عقبات تثور في طريق تطوير مجتمعهم بعد ذلك . أي تصبح المجتمعات اكثر ثقة بمقدرتها على التطور واكثر إيجابية وفاعلية في حركة تطورها . وهكذا بينما تنتهي حاجة المجتمع إلى البطل بالوفاء ، وتنتهي البطولة بالإداء ، تبقى آثار التجربة التاريخية البطولية في نفوس البشر يتناقلونها عبر تاريخهم فيقال إن الأبطال خالدون وما هم كذلك وإنما تخلد في نفوس البشر الآثار التي أحدثها الأبطال .
ولقد كان عبد الناصر بطلاً استدعته حاجة المجتمع إلى التحرر من الاحتلال البريطاني وعجز الناس فيه عن تحريره على مدى سبعين عاماً بالرغم من اشتراك كل الأجيال واستخدام كل الوسائل التي يعرفونها لطرد المحتلين . فأدى عبد الناصر دوره على مدى اثنتي عشرة سنة ( ابتداء من عام 1944 ) . وتحررت مصر فعلاً تحرراً كاملاً يوم أول يناير 1957 على وجه التحديد .
ففي 22 ديسمبر 1956 كان قد تم جلاء القوات التي اعتدت على مصر ( في 5 نوفمبر 1956 ) رداً على قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس ( 26 يوليو 1956 ) الذي كان بدوره رداً على قرار الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا بسحب عرضهما المساهمة في بناء السد العالي ( 18 يوليو 1956 ) الذي كان رداً على قرار عبد الناصر كسر احتكار السلاح والتعامل مع المعسكر الاشتراكي وإبرام صفقة الاسلحة مع تشيكوسلوفاكيا ( سبتمبر 1955 ) الذي كان بدوره رداً على الهجوم الصهيوني المسلح على مركز قيادة القوات المسلحة في غزة ( 28 فبراير 1955 ) الذي كان بدوره .. إلى آخر سلسلة رائعة ومروعة من الهجمات والهجمات المضادة في معارك التحرير المجيدة التي قادها عبد الناصر منذ ان شكل أول خلية للضباط الأحرار أو وحد خلاياهم عام 1944 ، وانتصر فيها فتحررت مصر من الاحتلال البريطاني يوم اول يناير 1957 .
ففي ذلك اليوم ، وبعد جلاء القوات المعتدية ، صدر قرار بإلغاء اتفاقية ” الجلاء ” التي كان مجلس قيادة الثورة قد عقدها مع إنجلترا ( 19 أكتوبر 1954 ) والتي كانت تحتفظ لإنجلترا ” بمسمار جحا ” في أرض الوطن لتعود إلى مصر بعد الجلاء ( تم في 18 يونيو 1956 ) : ” في حالة حدوث هجوم مسلح من دولة أجنبية على مصر أو أي بلد عربي يكون عند توقيع هذا الاتفاق طرفاً في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية أو على تركيا !! تقدم مصر للمملكة المتحدة من التسهيلات ما قد يكون لازماً لتهيئة القاعدة ( قاعدة قناة السويس ) للحرب وإدارتها إدارة فعالة وتتضمن هذه التسهيلات استخدام المواني المصرية في حدود الضرورة القصوى في المادة 4 فقرة 1 من الاتفاقية )  .
في أول يناير 1957 أصدر عبد الناصر قراراً بإلغاء تلك الاتفاقية واستولت مصر على كافة ما في مخازنها من أدوات وأسلحة . والواقع أنه ما كان يمكن الحديث جدياً عن تحرير مصر من الاحتلال البريطاني ما دامت باقية . وبإلغائها اكتمل تحرر مصر بقيادة جمال عبد الناصر ، فنقول أكمل عبد الناصر الوفاء بدور البطولة الذي استدعاه فأداه فأصبح به بطلاً وانقضت البطولة بالنسبة إلى الدور وإلى البطل .. ولكن بقي ما هو أعمق أثراً في تاريخ الشعب العربي وأولى بانتباه الناصريين .. نعني آثار التجربة التاريخية البطولية في نفوس البشر ..
نبدأ بالناس كافة ..
يوم أن مات عبد الناصر تقدم العالم كله ، الأعداء والأصدقاء ، ليشهدوا بأن قد فقد العالم ” بطلاً تاريخياً ” . الجيل الجديد لم يشهد ما قاله الشهود غداة استشهاد عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970 ، يوم جللت الصحف بالسواد في برلين وكراتشي وبلجراد واعلن الحداد العام في كوبا . لا أظن أن ثمة بأساً بأن نحكي لهم بعض ما شاهدنا وهو يعد جزءاً لازم للوصول إلى ما نريد أن نصل إليه . يومئذ أي يوم 29 سبتمبر 1970 قالت صحيفة ” رودي برافو ” التشيكية : ” إن واحداً من أعظم الزعماء في القرن العشرين قد ترك الحياة ” وقالت صحيفة ” بوليتيكا ” اليوغوسلافية : ” إنه واحد من أبرز زعماء سياسة عدم الانحياز ” . وقالت صحيفة ” جنرال انزيجو ” التي تصدر في ألمانيا الغربية : ” انه الرئيس المصري الذي ظل الغرب يخشاه ويحاربه طوال أكثر من عشر سنوات ” . وقالت صحيفة ” لوفيجارو ” الفرنسية : ” إن وفاته تعتبر كارثة لا يمكن تبين أبعادها ” . وقالت صحيفة ” لونيتا ” الايطالية : ” إن وفاته خسارة جسيمة لكل الحركة المعادية للاستعمار ” . وقالت صحيفة ” واجنر نيهيتر ” السويدية : ” لقد ترك وراءه فراغاً كبيراً فهو الزعيم العربي الوحيد الذي كان يتمتع بمركز دولي ” .
وفي ستوكهلم قال رئيس وزراء السويد : ” إنه كان أحد الشخصيات من أصحاب المقام الأول في العصر الحديث وأن بوفاته تخيّم الكآبة على جميع أنحاء العالم ” . وفي كوالا لامبور قال رئيس وزراء ماليزيا : ” إن وفاته خسارة فادحة للعالم الإسلامي ” . وفي تاناناريف قال رئيس جمهورية مالاجاش : ” إن عبد الناصر كان بطلاً وطنياً ” . وفي كولومبو قالت رئيسة وزراء سيريلانكا : ” إن وفاته خسارة لا تعوض بالنسبة إلى العالم بأسره ” ، وفي هافانا قال كاسترو رئيس كوبا : ” إن وفاة عبد الناصر خسارة عظيمة للعالم كله وللشعوب والدول العربية ” . وفي روما قال رئيس وزراء إيطاليا
” إن وفاة الرئيس عبد الناصر حرمت العالم العربي من زعيم فذ ” … الخ .
أهي مجاملة وعزاء في وفاة رئيس دولة صديقة يتبرع بها أصدقاء ؟
فلننظر إذن كيف رثاه أعداؤه الذين كان انتصاره عليهم تاج بطولة .
قالت صحيفة ” التايمز : ” إنه أول زعيم مصري عظيم يحكم مصر في العصر الحديث وقد استطاع بقوة شخصيته أن يجعل من مصر دولة كبرى يجب أن تعامل دائماً بجدية وان يخشى الجميع بأسها . لقد كان رجلاً مرموقاً يتطلع إليه الرجال ” . وقالت صحيفة ” الجارديان ” : ” إن عظمته تكمن في شعوره بمصر ونحو العالم العربي وفوق كل شيء نحو الفلاحين العرب ” . وقالت صحيفة ” الديلي ميل ” : ” إن عبد الناصر كان الزعيم المتألق في العالم العربي ” . لقد كانت لدى بريطانيا أسباب تحملها على ألا تحب سياسة عبد الناصر ومع ذلك يجب الاعتراف بأن شخصية عظيمة قد ماتت ” . ووصفته وزارة الخارجية الانجليزية بأنه ” واحداً من أكثر زعماء العالم هيبة ومكانة .. وإن أي شخص موضوعي لابد أن يعترف بأن الرئيس عبد الناصر قد ترك أثره على العالم كما انه اكتسب احتراماً كبيراً لبلده وللعالم العربي ” . وقال جورج براون ” وزير الخارجية البريطانية ” : ” لقد كان أفضل رجل في الشرق الأوسط وكان رجلاً عظيماً جداً . إن وفاته هي أسوأ نبأ سمعته في حياتي . لقد كان واحداً من اعظم الرجال في العالم ” . وقال كريستوفر مايهيو الوزير البريطاني : ” إن الرئيس عبد الناصر كان رجلاً عظيماً ووطنياً حقاً ” .وقال دتيس هيلي وزير الدفاع : ” إن التاريخ سيذكر الرئيس عبد الناصر بأنه الذي اكتسب العزة والثقة للشعب العربي كله .. ”
هكذا رثاه ” الغير ” من الاصدقاء والاعداء ..
أما ” نحن ” الذين فقدناه ،العرب أبناء الأمة الواحدة ، أفراد المجتمع الذي قاد معارك تحرره وانتصر ، فلا توجد لغة قادرة على ان تنقل إلى الجيل الجديد صورة ولو رمزية لشعب مفجوع وبحور من الدموع وذهول الرجال حتى الشلل الذي كالموت وصراخ النساء حتى الكلل فلا صوت ، وتدفق الناس رجالاً ونساء وأطفالاً من البيوت إلى الطرقات يجرون من كل الاتجاهات إلى كل الاتجاهات لايدري أحد من أين وإلى أين حتى كأن الشعب كله قد جن من حدة الشعور بالضياع . وقد فقد ملكة الادراك والهدى .
أحكي تجربتي الخاصة ..
إنني لم أكن يوماً من أقرباء عبد الناصر ولا من المقتربين منه ولا من المقربين إليه فلم أعرف الرجل عن قرب قط فلم أنبهر به شخصاً الانبهار الذي يؤكده الصادقون ممن عاشروه ، وإنما عرفته قائداً وحاكماً ومفكراً وبطلاً أي من خلال وظائفه الاجتماعية . فلما بلغني نبأ وفاته تجاوز ذهني الحدث إلى ما يمكن أن يحدث وظل مشغولاً بمصير الشعب لا بما صار إليه القائد . ثم ما هي إلا دقائق حتى سمعت صرخة حادة ثم صراخاً هادراً في الشارع فانطلقت أطل عليه من الطابق الخامس لعلي أتبين ما يجري فذهلت حتى الشلل الذي كالموت وأنا أرى الناس رجالاً ونساء وأطفالاً يتدفقون من البيوت إلى الطرقات ويجرون من كل الاتجاهات إلى كل الاتجاهات حتى كأن الشعب كله قد جن من حدة الشعور بالضياع فشعرت فوراً بضياع حاد وأصبحت جزءاً من الشعب المفجوع غارقاً معه في بحر من الدموع . وما تزال المنابع المضحلة لدموع الشيخ لا تنساب ، حتى هذه الساعة ، إلا حين تعود إلى الذاكرة صورة الشعب المفجوع بوفاة عبد الناصر .
هذا يكفي فيما نعتقد لنتأمل معاً صوراً مدهشة من الآثار الخفية للبطولة في الناس أفراداً وجماعات وشعوباً وأمماً ، وفي الناس أعداء وفي الناس أصدقاء . إن عبد الناصر الذي رثاه كل أولئك الأصدقاء والأعداء وانفطر له الشعب حزناً حين مات لم يكن حين مات وعلى مدى أربع سنوات سابقات على الأقل لا بطلاً ولا قائماً باداء دور بطولة . كان حاكماً ورئيس دولة وقائداً قومياً لجماهير الشعب العربي . ويمكن القول إنه كان مهزوماً على المستويات الثلاثة . وما كان يمكن أن يبقى قائداً وحاكماً ورئيس دولة بعد هزيمة 1967 ومسئوليته عنها إلا لأنه كان بطلاً من قبل . ولقد هم بعد الهزيمة بأن يخلي مكان القيادة لغيره فاندفع ملايين من البشر ” المرعوبين ” إلى الشوارع والطرقات متدفقين من كل الاتجاهات رجالاً ونساء وأطفالاً ، يطلبون إليه البقاء .. إنها صورة سابقة على ما حدث بعد الوفاة ولكنها – وإن كانت مصغرة – تحمل ذات الدلالة . ودلالتها يعرفها ويتحدث عنها ويدرسها أساتذة وطلاب علم النفس الاجتماعي والمهتمون بمعرفته .
خلاصة ما يقوله أساتذة علم النفس الاجتماعي وتردده مراجعه التوحد العاطفي . الوجداني ، النفسي .. بين البطل والناس . فهو يجسد ما يتمناه كل فرد لنفسه فيتقمصه كل فرد ويذوّبه في ذاته ليكمل ذاته به . وإذ يصبح البطل تجسيداً للمثل الأعلى الذي يتطلع إليه كل الأفراد في المجتمع يصبح البطل أداة لتماسك المجتمع ووحدته ومنتهى التأثير المتبادل بين البطل ومجتمعه إلى أن يؤدى بالنسبة إلى الناس فيه دور الأب من حيث القبول والثقة وتحقق الأمن ووحدة الأمل والمصير .
يقول الدكتور علي زيعور في كتابه ” قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية – 1981 ” أن الأبعاد العاطفية في علاقة عبد الناصر بالجمهور كثيرة وعميقة . وإلى جانب الواعي منها تقوم ( أبعاد ) أخرى لاواعية كانت من الغنى والحركة والجدلية والتفاعل بحيث كانت علائق تحدث اللحمة والنسغ ” الالتحام والحفز على الحركة ” في مسيرة الأمة باتجاه تحريك كوامنها وتحقيق الذات المرجوة للأمة الملتفة حول رئيس ملهم .. لم يكن ناصر أساساً ، ولا كان هو المحور الأول ، إلا لكونه المعبر عن لا وعي الأمة وعن النرجسية الجماعية وعن التعويض والتغطية لتطلعاتها والتحدث عن ذاتها المثالية ” .
نضيف ما يقوله آخرون من اهل الذكر . إن ذاك ليس وصفاً للبطل بل بياناً لما يراه الناس في البطل ويتوقعونه منه ، بعد ان توحدوا معه لأن ذاك ما يرونه جديراً بهم وتوقعونه لأنفسهم . ومن هنا يمكن ان نقول إن الشعب المرعوب الذي خرج رجالاً ونساءً وأطفالاً يومي 9 و10 يونيو 1967 ليحول دون تخلي عبد الناصر عن مكانه في القيادة لم يكن مرعوباً مما قد يصيب عبد الناصر لو تخلى ولكن كان مرعوباً مما قد يصيبه هو إن فقد الأمل الذي كان يجسده عبد الناصر منذ 1956 ، كما أن الشعب المفجوع لوفاة عبد الناصر إنما كان يبكي مصيبته هو فيما فقد من أمل كان يجسده عبد الناصر .
ينقل الدكتور لويس كامل مليكة في كتابه ” سيكولوجية الجماعات والقيادة – 1959 ” عن كتاب هومانز ” الجماعة الانسانية – 1950 ” أنه قد أطلق على العلاقات العاطفية والنفسية وتفاعلاتها فيما بين القائد والجماعة الانسانية ” النظام الداخلي للجماعة ” تمييزاً عما أسماه ” النظام الخارجي ” الذي تواجه به الجماعة الموحدة مع قائدها الظروف الخارجية ..
السؤال الآن الذي ينبغي لأي ناصري أن يحاول الإجابة عليه هو : لقد مات عبد الناصر وترك لمن يريدون أن يكملوا مشواره تراثاً غنياً من الأفعال والأقوال والأفكار التي تشكل معاً نسيج ” النظام الداخلي ” الموحد بين البطل والناس ، فكيف يمكن ان تصاغ أو تعاد صياغة ذلك النظام الداخلي بين ” الناصريين ” وبين الناس بعد غياب البطل ؟ . أو بصيغة أخرى ما هي الأفعال والأقوال والأفكار التي كان ” البطل ” عبد الناصر جزءاً لا يتجزأ من مفهومها وكيف يمكن ان تبقى بذات المفهوم بعد غياب البطل ؟ .
حينما طرح دستور نابليون على الاستفتاء الشعبي في 7 فبراير 1802 سئل أحد الفرنسيين : هل وافقت على الدستور في الاستفتاء ولماذا ؟ قال : نعم وافقت لأنه أعجبني . فقيل له ما الذي أعجبك في الدستور ؟ .. قال أعجبني أنه فيه إسم نابليون . ( هيرفي دوفال – الاستفتاء الشعبي )  .
فيا أيها الناصريون
لقد أعجب الشعب العربي بأفعال وأقوال وأفكار بطل التحرير القومي جمال عبد الناصر وليست البطولة ناصرية . أو ليست الناصرية بطولة . فلستم أبطالاً مثله فما الذي ستقدمونه إلى الشعب العربي ضماناً لالتزامكم ” إكمال مشوار عبد الناصر ” .. بدون عبد الناصر ؟ .
لا أحد يطلب الإجابة من أحد . ولسنا نتحدى أحداً أن يجيب . إنما نجتهد مع المجتهدين في البحث عن الأجوبة الصحيحة من أجل مستقبل شعبنا العربي .. وفيما يلي سنتحدث تباعاً عن أثر غياب عبد الناصر البطل على عناصر تجربته التاريخية الغنية : المنهج والمنطلقات والغايات والاساليب . والله المستعان .
(8)
المنهج … حجر الأساس (1)
بعد المقدمات السابقة ندخل بهذا المقال في موضوع الحديث عن الناصريين وإليهم . ولقد طالت تلك المقدمات عمداً مع أنها دارت حول سمة واحدة من سمات جمال عبد الناصر لإبراز ما امتاز به وحده وتميز به عن غيره فوحد بينه وبين الشعب واصبح عنصراً جوهرياً في فهم الشعب لأفعال وأقوال وأفكار جمال عبد الناصر ، وهو أن جمال عبد الناصر لم يكن عند الشعب مجرد قائد او حاكم أو رئيس بل كان ” بطلاً تاريخياً ” على وجه التخصيص . وانتهينا في آخر ما سبق إلى سؤال الناصريين : ” ماالذي ستقدمونه إلى الشعب العربي ضماناً لالتزامكم إكمال مشوار عبد الناصر .. بدون عبد الناصر ؟ ” .
منهم من سيقول ” أنا ” أو يستحي قليلاً فيقول ” نحن ” . أولئك يستغلون جمال عبد الناصر استغلالاً مجرداً من توقير واحترام ذكرى الرجل العظيم حين يقدمون أشخاصهم بديلاً عن شخصه موهمين انفسهم ، او موهمين غيرهم ، بأن ما صدر عن البطل من أفعال أو اقوال او أفكار إذ يسند إليهم ” كناصريين ” ستبقى له دلالته التي قبلها الناس في حياة عبد الناصر .
لقد ” ركع ” أنور السادات أمام تمثال جمال عبد الناصر في مجلس الأمة على إثر ترشيحه لرئاسة الجمهورية ، وأعلن بعبارات جهورية بليغة أنه يلتزم خط عبد الناصر وغايته وبيانه ( بيان 30 مارس ) . ويعرف الناصريون قبل غيرهم أن أنور السادات كان في ركعته الوثنية تلك كاذباً . ومع أن نهاية السادات المأساوية كانت نتيجة متراخية لفعلته تلك فهي عبرة . وبالرغم مما أدت إليه مسيرته مرتداً من تحقيق قدر كبير من فرز القوى بحيث أصبحت واضحة إلى حد لا بأس به معالم تيار ناصري كبير وعريض وكثيف ونشيط في الوطن العربي يوشك ان يتوحد في حزب . إلا أنه لا يزال في قلب التيار الناصري من يوهمون أنفسهم أو يوهمون غيرهم كما فعل السادات ، لا يفترقون عنه إلا بأنهم – كما اعتقد – حسنوا النوايا أي قد يكونون مقتنعين بصدق مواقفهم . اما فيما يتجاوز حسن النية فإنهم لا يفترقون عن السادات إلا في الشكل . ويبقى مضمون الموقف واحداً . تولى هو رئاسة جمهورية عبد الناصر . وهم ينشئون من الناصريين أحزاباً وجماعات وشللاً ليتولوا رئاستها . وبدلاً من الركوع أمام تمثال عبد الناصر يكادون يقدسون عبد الناصر وافعاله واقواله وافكاره . تعرفهم من انهم أكثر الناس تعبيراً بأكثر الأصوات صخباً بأكثر الكلمات حدة بأكثر الانفعالات ” عصابية ” عن قدسية أفعال وأقوال وأفكار عبد الناصر .
منذ نحو عامين انعقدت في القاهرة ندوة عن ثورة 23 يوليو حضرها جمع من الناصريين والمتناصرين وأعداء عبد الناصر أيضاً .. لفت الانتباه واحد من النابهين الذين عملوا في أقرب المواقع من عبد الناصر . عبر بهدوء ويقين غريبين عن تأكيد أن كل ما حدث منذ 23 يوليو 1952 في مصر كان مخططاً له ، بحيث يأتي الحدث في وقته ليؤدي غايته وينسحب ليخلي مكانه لحدث آخر كان معداً من قبل . نفى نفياً قطعياً أن يكون قد حدث غلط أو خطأ ولو بحسن نية أو تكون أحداث قاهرة قد تدخلت فغيرت مما كان متوقعاً . باختصار أراد ، وهو شيخ ، أن يقنعنا ، ونحن شيوخ ، أن عبد الناصر لم يخطيء قط وانه كان يخطط ويتوقع كل ما حدث في حياته . أثار هذا الاسلوب أغلب ” الناصريين ” حتى همس أحدهم : لم يبق إلا ان يقول لنا إننا كنا قد خططنا لهزيمة 1967 وان اعتراف عبد الناصر بالأخطاء كان تخطيطاً !!
هذا منطق شيخ ناصري فلنتأمل منطق شاب ناصري أيضاً .
في الشهور الأخيرة من عام 1981 كنت من بين الذين ” لمّهم ” أنور السادات وألقى بهم في ملحق سجن مزرعة طرة جنوب القاهرة . كنا نحو أربعين لا يكاد يتفق منا أحد مع أحد فعلاً او قولاً أو فكراً إلا القليل . وكان من بين القليل الذين يبدون مثقفين حفنة من الناصريين على رأسهم أكثر من عرفت من الناصريين صلابة وشجاعة وهدوءأً وتهذيباً ، الاستاذ محمد فائق . كما كان من بينهم الرجل الذي يتصدى منذ ثلاثة أعوام لإنجاز أهم وأصعب المهام الناصرية الأستاذ فريد عبد الكريم وكيل المؤسسين للحزب الاشتراكي العربي الناصري . وكان من بينهم شباب ناصريون تحدوا الردة الساداتية بشجاعة وهم بعد طلبة . قال واحد من هؤلاء الشباب أمام الآخرين وهم يتحدثون عن كتاب ” نظرية الثورة العربية ” : إن العيب الوحيد في هذا الكتاب الذي يحول دون قبوله من الناصريين هو أنه ليس بكلمات عبد الناصر !! فاكتفى محمد فائق بالابتسام ..
بالرغم من كل سلبيات تلك المواقف إلا انها مفهومة أو قابلة للفهم . إني أضيف أنها إلى عهد قريب كانت مشروعة إذ كان ما يزال ” شخص ” عبد الناصر البطل هو الذي يوحد الناصريين وبالتالي فإن الحرص على تأكيد ” حضوره ” فيما بينهم بالرغم من ” غيابه ” عنهم هو تعبير قوي وإن كان غير مباشر عن رغبتهم المؤكدة في أن يتحولوا إلى قوة سياسية موحدة . إلى حزب .
ولقد أوشكوا على أن يتوحدوا حزباً ناصرياً بدون عبد الناصر ، يتقدم إلى الشعب العربي بنظرية ” ناصرية ” لبناء المستقبل وهذا هو على وجه التحديد جوهر المشكلة التي يواجهها الناصريون الآن .. إذ أن الناصرية .. مثل كل النظريات وعد وعهد . وعد من الناصريين للشعب بنظام للتطور الاجتماعي في المستقبل اختاروه له . وعهد فيما بين الناصريين بأن يعملوا معاً على تطبيقه . على المستوى الأول سيكون الناصريون ملزمين بأن يجيبوا في أي وقت على السؤال كيف عرفتم أن النظام الذي تعدون به هو الحل الصحيح لمشكلات التطور الاجتماعي المتجددة أبداً . لن يجدي جواباً الآن أن يقال : هكذا قال عبد الناصر ، بل لابد من الإحالة في الجواب إلى ” منهج ” معرفتهم علمي محدد . وعلى المستوى الثاني ، مستوى العهد ، لم يعد عبد الناصر حاضراً ليحتكم إليه الناصريون فيما يختلفون ، وبالتالي لن يستطيعوا اجتناب مخاطر الخلاف إلا إذا كانوا يملكون ويلتزمون معياراً واحداً لاختبار صحة المواقف يحتكمون إليه عند الخلاف . أي إلا إذا كانوا يملكون ” منهجاً ” موحداً للمعرفة .
ولقد كان جمال عبد الناصر طوال حياته يقوم – شخصياً – بوظيفة ” المنهج ” فهو المفكر المدبر الواعد دائماً القادر دائماً . على تعريف الناس صحة وعوده . ولقد كان من آثار ” توحد الناس والبطل ” الذي أشرنا إليه من قبل أن ارتضى الناس أن يفكر لهم عبد الناصر ويدبر ، ووثقوا دائماً في صدق وعوده إلى درجة أن أحداً لم يعترض على أن يتولى عبد الناصر منفرداً وضع مشروع فكري كامل لصياغة الحياة في مصر لمدة عشر سنوات قادمة ( الميثاق ) واقتصر الحوار العريض ، الطويل ، بينه وبين المؤتمر الوطني على استفسارات عن دلالة أو آثار أحكام الميثاق وشروح طويلة من القائد المعلم . ثم إقرار للميثاق كما هو بدون إضافة أو حذف أو تعديل كلمة واحدة . أقوى من هذا دلالة على ثقة الناس في صدق وعود عبد الناصر أنهم ، في أخطر المواقف ، حيث كان واقع الهزيمة ينفي صدق وعود النصر ، بقي النصر وعداً قابلاً للتحقق بشرط أن يبقى وعداً من عبد الناصر فأبقى الناس عبد الناصر موضع ثقتهم وآمالهم ( يوم 9 و10 يونيو 1967 ) . وكان هو مرجع الجميع للحكم فيما يختلفون فيه من تطبيق مشروعاته الموعود بها . لم يكن أحد في حياة عبد الناصر يعاهد أحداً ولا حتى على ” تأييد ” عبد الناصر ، إنما كان الجميع ، وكل واحد منهم ، يعاهدونه هو ، فكان هو موحدهم ، وموحد فهمهم ، والمبقي على وحدتهم حوله . ولعله من أغرب ظواهر هذه العلاقة أنه منذ فترة الإعداد لثورة 23 يوليو 1952 لم يكن أحد يعرف أسماء جميع ” الضباط الأحرار ” إلا عبد الناصر وحده ، وقد بقي الأمر على هذا إلى أن توفي عبد الناصر .
باختصار كان عبد الناصر يقوم على وجه فذ بوظيفة ” منهج ” المعرفة الذي يوحد الناصريين ، الآن غاب عبد الناصر فأصبح موقع المنهج من الناصرية خالياً ووظيفته شاغرة ، وهذا يلعب دوراً خطيراً في إعاقة التقاء الناصريين على مفهوم واحد للناصرية ، وعجزهم عن الاحتكام إلى معيار معرفي واحد عند الاختلاف .. ويضفي – في الوقت ذاته – قدراً من المشروعية على ” المواقف الفردية ” في داخل التيار الناصري إذ : ” مافيش حد أحسن من حد ” لأن الحكم مفتقد .
أرجو أن يكون هذا واضحاً .
السؤال الآن من أين المنهج ؟ .. أو أي منهج ؟
الجواب أسهل بكثير مما يتصور كثيرون . وما غاب عن تصورهم إلا لأن أكثر الناصريين مشغولون بتقديس عبد الناصر بدلاً من الانشغال بدراسته . ولقد انشغلنا بدراسته منذ أن غاب ولم نزل حتى في هذا الحديث ” عن الناصريين .. وإليهم ” . ليس دراسة المؤرخين للماضي ولكن دراسة المهمومين بمستقبل أمة فقد بطلها . ولا شك في أن من بين الناصريين الذين كانوا أكثر قرباً منه من يستطيع أن يقدم إلى الجيل الجديد من شباب الأمة العربية تعريفاً بعبد الناصر أكثر جودة مما نجتهد فيه . ولست أعرف سبباً واحداً لنكوصهم ومنهم من لا تنقصه كفاءة البحث العلمي خاصة وقد استنفذوا كما اعتقد كل مبررات الكتابة عنه للكتابة عن أنفسهم من خلال مذكراتهم .
على أي حال ، فالناصرية هي الصياغة الفكرية لتجربة مرحلة عبد الناصر أو تلك هي بدايتها ، وبالتالي فإن المصدر الأساسي لصياغة منهجها هو ” منهج ” عبد الناصر نفسه .. وسنحاول فيما يلي طرح خلاصة ما كنا قد درسناه يوم أن كنا نكتب للناصريين وبناء على طلبهم ” نظرية الثورة العربية ” .
البداية المثيرة ما ذكرناه من قبل من قول عبد الناصر عند تقديمه الميثاق أنه كان ينتهج في الفترة السابقة على تقديمه ، أي ما قبل وضع الميثاق ” التجربة والخطأ ” . قال يوم 21 مايو 1961 أمام المؤتمر الوطني للقوى الشعبية : ” العشر سنوات اللي فاتت كانت فترة تجربة ، فترة ممارسة ، كانت فترة مشينا فيها بالتجربة والخطأ ” وكرر هذا في مباحثات الوحدة الثلاثية يوم 7 أبريل 1963 .
وقد توقفنا طويلاً عند هذا القول يوم أن كنا نصوغ ” نظرية الثورة العربية ” لأن ما فيه من غرابة لا يقل عما فيه من أمانة . ذلك لأن عبد الناصر كان ضابطاً ثم استاذاً للضباط ، مقاتلاً ثم استاذاً لفنون القتال وعلم الحرب . وإذا كانت أية مادة علمية تحتمل في النظرية أو في الممارسة الاتكال على صدفة التجريب ، أو ” منهج ” يسمى التجربة والخطأ ، فإن العلوم العسكرية لا تحتمله . في العلوم العسكرية حيث التجربة تجريب في الحياة ذاتها ، والخطأ يساوي الموت ذاته لايقبل من أحد ترك الحياة والموت للخطأ المحتمل حيث يكون الثمن حياة البشر .. فكيف يقول عبد الناصر إنه قد مشى عشر سنوات بالتجربة والخطأ .
توقفنا ثم سألنا القريبين منه قرباً لصيقاً : كيف كان عبد الناصر يتخذ قراراته فجاء الجواب متواتراً من أكثر من واحد ، ومتكرراً فيما كتب عن عبد الناصر . كان إذا ما شرع في إتخاذ قرار يجمع على نطاق واسع ومن مصادر متعددة كل الوقائع التي ترشح أو تعوق القرار ، ويستمع بصبر لا ينفد أبداً إلى كل الآراء حول الآثار المحتملة لهذا القرار ، ويطلب ويحصل على صورة صادقة ودقيقة وشاملة لآراء الناس العاديين ( الجماهير ) في تقبل أو رفض الصيغ البديلة لمثل هذا القرار . ولقد كانت تتبعه أجهزة بالغة الاتساع والكفاءة لاستطلاع الرأي العام في أي موضوع . بعد هذا ينكب على دراسة كل ما اجتمع له من عناصر تكوين الرأي ، ويدرسه ، ويراجعه على مراجع علمية أيضاً ثم يتخذ القرار على ضوء ما يحققه من تقدم طبقاً لمعياره الأصيل : التحرر . إنه ذات الاسلوب العلمي المعتمد وحده في العلوم العسكرية ولكنه في الحياة الاجتماعية يقترب كثيراً من المنهج ” البراجماتي ” .
ولقد كدت يوماً أن انسب إلى عبد الناصر ” البراجماتية ” منهجاً ، أي انه يتخذ من النفع المباشر المحتمل للقرار معياراً لصحته لولا أن المنهج البراجماتي ذاته منهج ” مثالي ” فردي . ولم يكن عبد الناصر مثالياً فردياً ، وإلا لما شغل نفسه بوضع الميثاق تخلياً عن المثالية ، ولما انحاز إلى الجماهير المقهورة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً تاكيداً لتوجهه الاجتماعي . عبد الناصر ، إذن ، لم يكن براجماتي المنهج .
ماذا إذن ؟ ..
ظل الجواب يراوغ مقدرتي على الفهم حتى قرأت للمرة التي لا أدري كم ” فلسفة الثورة ” فوجدت عبد الناصر يقول في جمل تبدو عابرة :
أنا أشهد أنه مرت علي بعد 23 يوليو نوبات اتهمت فيها نفسي وزملائي وباقي الجيش بالحماقة والجنون الذي صنعناه في 23 يوليو . لقد كنت اتصور قبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة وانها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها السور فتندفع الأمة وراءها صفوفاً متراصة منتظمة تزحف زحفاً مقدساً إلى الهدف الكبير . وكنت أتصور دورنا على انه طليعة الفدائيين ، وكنت أظن ان دورنا لا يستغرق أكثر من بضع ساعات ، وياتي بعدها الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير . بل قد كان الخيال يشط بي أحياناً فيخيل إلي أني أسمع صليل الصفوف المتراصة وأسمع هدير الوقع الرهيب لزحفها المنظم إلى الهدف الكبير ، أسمع هذا كله ويبدو في سمعي من فرط إيماني به حقيقة مادية وليس مجرد تصورات خيال . ثم فاجأني الواقع بعد 23 يوليو ..
قامت الطليعة بمهمتها واقتحمت سور الطغيان وخلعت الطاغية ووقفت تنتظر وصول الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير . وطال انتظارها .
لقد جاءتها جموع ليس لها آخر .. ولكن ما أبعد الحقيقة عن الخيال ..
كانت الجموع التي جاءت أشياعاً متفرقة وفلولاً متناثرة وتعطل الزحف المقدس إلى الهدف الكبير ، وبدت الصورة يومها قاتمة مخيفة تنذر بالخطر . ولقد أحسست وقلبي يملؤه الحزن وتقطر منه المرارة أن مهمة الطليعة لم تنته في هذه الساعة وإنما من هذه الساعة بدأت ..
ولم نكن على استعداد .
وذهبنا نلتمس الرأي من ذوي الرأي ، والخبرة من أصحابها ، ومن سوء حظنا لم نعثر على شيء كثير .. ”
هكذا كان الأمر إذن . لم يكن عبد الناصر في حاجة إلى منهج أو نظرية ليعد للثورة ويفجرها وينتصر . كان اسلوب الممارسة العلمية التي كان أستاذها كافياً لكل هذا . ولم يكن عبد الناصر في حاجة إلى منهج او نظرية ليحكم ويقود لأنه لم يكن يعتقد أن ذاك دوره أو كما قال ” لم يكن مستعداً ” .. فلم يكن أمامه إلا التجربة والخطأ ..
كيف إذن إنتقل من مرحلة التجربة والخطأ إلى مرحلة الميثاق ..
هذا سؤال سألته لنفسي ، وأنا بصدد دراسة المنهج ، عشرات المرات ولم استطع أن اهتدي إلى الجواب الصحيح عليه إلا على ضوء ما انتهى إليه تطور عبد الناصر فكراً وممارسة . فقد أهتديت إلى ان عبد الناصر كان منذ ما قبل الثورة يحمل في ذاته ” موجهاً ” منهجياً يستجيب إليه على السجية بدون افتعال . وحتى بدون ان يعيه . نتحدث عنه فيما يلي إكمالاً للحديث عن ” المنهج . حجر الأساس ” ولكن لابد ان ننبه منذ الآن إلى أننا قد اهتدينا إليه لا من خلال دراسة عبد الناصر ، ولكن من خلال دراسة ” النظرية القومية ” ومواقف عبد الناصر من الأمة العربية وحضارتها .. وهو ما سيفسر كثيراً .. كثيراً .. من مواقفه من الحرية أو الاشتراكية أو الوحدة .
(9)
المنهج .. حجر الأساس (2)
في البدء كنا عرباً قبل أن نعرف ما هي العروبة . كان أهلنا في الصعيد يغضبون غضباً يعبرون عنه ردعاً لمن يشكك في عروبة الأسر . كل الأسر . وكنا أطفالاً نصطنع الغضب والمعارك دفاعا عن عروبتنا قبل أن نعرف ما هي العروبة وكنا نتحلق حول اجدادنا كبار السن يقصّون علينا سلاسل من الأنساب تنتهي حتماً بجد عربي وراعي غنم وفد في جيش عمرو بن العاص فاتحاً . يا جدي .. وهل كان عمرو بن العاص عربياً ؟ اخرس يا غبي ” امال يعني كان انجليزي ” .. كان الإنجليز يحتلون مصر منذ عرابي فلم يكن أجدادنا يميزون العربي الذي هو منا إلا بنقيضه الإنجليزي الذي هو علينا .. وهو كريم لأنه عربي . وهو شهم لأنه عربي . وهو عزيز النفس لأنه عربي . وهو حامي الجيرة لأنه عربي فعرفنا العروبة فضيلة تنطوي على كل الفضائل ومن حين إلى حين ، يتزوج فتى ، او تقام حفلة ختان صبي ، فيجتمع أهل القرية في ساحتها ليشاركوا ويشاهدوا معالم الفرح الجماعي . يصطف الشباب وقد تساندت أكتافهم وتشابكت أيديهم ويحيط بهم الباقون رجالاً ونساء جلوساً على الأرض الطيبة . ثم يبدأ “عوض الله” في قيادة المصطفين على إيقاع دفه الكبير . هو يحدو ويرقص وهم يرددون متمايلين على إيقاعه شعراً بدوياً غريب اللهجة حتى إننا نحن الصغار لا نفهمه وإن كنا نتمايل معهم . ومن ركن مظلم تنفلت فتاة محجبة فتجلس أمام شاب من الراقصين ، فيتوقف الرقص ويتقدم الشاب خطوة ليلقي على تلك التي لا يعرفها موال ” غزل ” صريح . حتى إذا ما فرغ هلل الجميع وانسحبت الفتاة ، وعاد إلى الصف ليبدأ الرقص على ايقاع الدف وترديد الأغاني . كانت تلك أسعد ليالينا .. ليالي” زفة العرب ” كما كان أهلنا يسمونها .. فعرفنا ان العروبة مصدر بهجة جماعية .. ولم يكن أحد من قرى الصعيد يعرف عن العروبة إلا انها علاقة جماعية على الأصل الواحد . وفضائل السلوك وبهجة الحياة .. وقرابة فوق الأسر موثقة في صحف عتيقة تحتفظ بها الأسر ليعرف منها كل مولود عربي – حين يشب – مكانه من ” شجرة العائلة ” التي تنتهي دائماً – إلى عربي جاء إلى مصر مع عمرو بن العاص .. بعد سنين طويلة من الخبرة والعلم عرفنا أن أغلب ، أو على الأصح بالنسبة إلى قريتنا ” الهمامية ” كل تلك الوثائق مزيفة .. اصطنعت لتؤكد شعوراً غير زائف بالانتماء العربي ، فلم تكن في زيفها أقل دلالة على صدق الشعور مما لو كانت وثيقة تاريخية ..
قبل أن ندرك كيف يحمل الشعور الصادق صاحبه على تأكيده بالكتابة ، كنا قد تعلمنا القراءة والكتابة والحساب ، ودخلنا مدرسة التاريخ المكتوب عن الأمة والقومية والعروبة ، والتطور .. الخ . فعرفنا من أساتذتنا الأوائل أن العروبة ليست ” زفة فرح ” بل هي انتساب إلى امة . وحفظنا عن ظهر قلب تقريباً كل أوصاف الأمة كما عددها كل الذين وصفوا الأمة من جميع الأمم .. فلم يعد لدينا شك في أننا ننتمي إلى أمة توافرت لها كل أوصاف الأمم .. وعشنا كل آلام العرب ، آلامنا . وحملنا كل هموم العرب ، همومنا . وحددنا آمالنا من آمال أمتنا ..
ثم ألح علينا سؤال بعد ان درسنا حتى آخر كلمة النظرية الماركسية في الأمة . سؤال طرحه الماركسيون ولم يطرحه أحد من قبلهم فيما نعلم . لماذا تتكون الأمم ؟ . قالوا إن الطبقة البرجوازية الصاعدة في أوروبا بعد عهد الاقطاع قد ” كوّنت ” الأمم فتوسع نطاق السوق الرأسمالي . هكذا كانت ألمانيا وهكذا كانت إيطاليا .. الخ . لم نستطع ان نفهم ، لماذا إذن ، اقتصر جهد البورجوازية الألمانية على تكوين الأمة الألمانية ، واقتصر جهد البورجوازية الايطالية على تكوين الأمة الايطالية ؟ لماذا لم تكوّن البورجوازية الأوروبية أمة أوروبية إلا إذا كانت كل بورجوازية منها قد ” وجدت ” أمة كانت متكونة من قبل واقتصر جهدها على توحيدها .. لابد أن يكون وجود ” الأمة ” سابقاً على توحيدها في دولة .
وبقي السؤال الذي طرحه الماركسيون ، لماذا تتكون الأمة ؟ .. بدون جواب ، فاجتهدنا في الإجابة .. من أين نبدأ ؟ – أولاً – من معرفة كيف تتكون الجماعات البشرية ، ثم نعرف – ثانياً – كيف تتطور من طور إلى طور . وكان لابد من معرفة قوانين التطور الاجتماعي أولاً إذ أن بداية تكوين الجماعات البشرية معروفة . كانت البداية أسراً ، ثم عشائر ، ثم قبائل ، ثم شعوباً ، ثم أمماً ، فكيف تتطور ( تنمو ) الأسر لتكون عشيرة ، وتتطور العشائر لتكون قبائل ، وتتطور القبائل لتكون شعوباً ، وتتطور الشعوب لتكوّن امماً .. ومن يدري ماذا سيكون بعد ذلك ؟
ما هو قانون التطور البشري ؟
كل فرد يسعى إلى إشباع حاجته لا يألوا . كل أسرة تسعى إلى إشباع حاجاتها لا تألوا ، تتصارع الأسر على ما يشبع حاجاتها من موارد حتى تتساند ثم تلتحم عشيرة تكون بقوتها الموحدة أقدر على توفير احتياجات الأسر داخلها . ثم تتصارع العشائر حتى تتساند ثم تلتحم قبيلة تكون بقوتها أقدر على توفير احتياجات العشائر داخلها . ثم تتصارع القبائل حتى تتساند وتلتحم شعباً يكون بقوته أقدر على توفير احتياجات القبائل فيه ومن مظاهر قوته الاستئثار بأرض معينة وحمايتها والاشتراك في الانتفاع بمواردها . حتى إذا ما استقر الشعب سنين قد تكون قروناً من التفاعل فيما بينه وبين الأرض المعينة ، ينشئ من تفاعله مجموعة من التقاليد والآداب والنظم والفنون والعادات فيكتمل بحضارته أمة . ويحمل الأطفال منذ الميلاد حضارة أمتهم نقلاً عن أمهاتهم اللواتي حملنها أطفالاً عن أطفال عن أطفال ..
نطبق على امتنا العربية ، انتقلت من الطور القبلي إلى الطور الشعبي بالهجرة إلى المدينة ( الوطن الخاص بأهل المدينة ) فأصبح اهل المدينة شعباً . وتفاعل شعب المدينة عن طريق الدعوة والفتح بشعوب محيطة وقبائل أخرى وحدّها الاسلام بعد تعدد وآمنها بعد خوف وحماها بعد إباحة لكل غزو ، وتركها قروناً تتفاعل فيما بينها وبين الأرض المشتركة ، أداتها لغة واحدة ، وحدودها نظام واحد ، إلى أن اكتشف الذين كانوا شعوباً متفرقة ، خلال قرنين من الدفاع عن الأرض المشتركة ضد الغزو الصليبي ، إنهم امة مكتملة ذات حضارة عربية تميزهم كأمة عن باقي الأمم وباقي الشعوب نتيجة تفاعل الاسلام الحضاري مع مالا ينقصه من الحضارات السابقة على التكوين القومي ..
وبعد ؟
وبعد فإن الحضارة العربية التي أنشأتها الأمة العربية التي أنشأها الإسلام تتضمن – مثل كل الحضارات – ضوابط للسلوك ، ومعايير للقيم ، وحدوداً للنظر خاصة بها ، ومن بينها مؤشر منهجي حضاري .. هو ذلك الذي يتبعه العربي على السجية بدون افتعال وربما بدون أن يعيبه من أين اكتسبه ؟
من الاسلام .
من القرآن على وجه التحديد ؟
قلنا في كتاب ” نظرية الثورة العربية ” أولى مشكلات المنهج .. هي ” الحتمية ” . انضباط الأشياء والظواهر بقوانين حتمية . ولنلاحظ من الآن أن تعبير ” القوانين ” كما نستعمله يساوي في دلالته تعبير ” النواميس ” أو تعبير ” السنن ” كما هي مستعملة في الفكر الإسلامي وعليه فإن الحتمية في الاسلام لا يمكن لمسلم ان ينكرها ويبقى مسلماً فقد اتخذ الإسلام من انضباط نظام الكون وثبات نواميسه حجة على الذين لا يؤمنون . ودعا الناس إلى أن يتأملوا ما في الكون من آيات أو سنن لا تتبدل : ” سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ” ( الأحزاب 62 ) . ” ولا تجد لسنتنا تحويلا ” ( الاسراء 77 ) . ” أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ” ( ق 6 و 7 ) . ” انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ” ( الانعام 99 ) . ” فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ” ( الأنعام 96 ) .. والآيات : القصص / 71 ، 72 والرعد /4 ، والروم /22 ، وفاطر / 27 و28 ، والجاثية /43 ، والبقرة / 164 ، والذاريات / 20 و21 ، وفصلت / 53 ، والأنبياء / 22 .. ”
في نطاق هذا الكون المنضبط وحركته بسنن لا تتبدل ، من القادر والمسئول عن تغييره وتطويره ؟ .. أو كما يقولون في الفكر الأوروبي . ما هو العامل الأساسي في حركة التطور الإجتماعي ؟ ..
يجيب القرآن انه ” الانسان ” هو الفاعل الصانع المغير المطور ولا تكون الطبيعة المادية إلا موضوع فعله . ويستعمل القرآن تعبير ” السخرة ” للدلالة على هذه العلاقة . وهو تعبير قوي الدلالة على ان الانسان هو صانع واقعه والقادر المسئول عن تغييره . ” ألم تر أن الله سخر لكم مافي الأرض ” ( الحج 65 ) ” وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ” ( ابراهيم : 32 ) ” وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ” ( ابراهيم 33 ) . ” وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً ، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ” ( النحل :14 ) ” وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً ” ( الجاثية :13 ) .. الخ . ويقطع القرآن في أن شيئاً من الواقع لن يتغير إلا إذا تغيّر الناس . ” إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ” ( الرعد :11 ) . ” وما كان ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون ” ( هود : 117 )  .
لذلك هو المنهج الاسلامي في كلياته . قاعدته الأولى أن كل الأشياء والظواهر منضبطة حركتها بقوانين او سنن حتمية . وقاعدته الثانية : أنه في نطاق هذه الحتمية يكون الانسان حراً في تغيير واقعه . وقاعدته الثالثة : إن الانسان وحده هو القادر على التغيير والمسئول عنه .
خلال قرون طويلة من الممارسة استقر هذا المنهج في وعي الناس فأصبح ” قيمة ” تضبط مواقعهم بدون حاجة إلى إسناد ديني . ومنه استمدت الحضارة العربية التي نشأت ونمت واكتملت في ظل الاسلام ذلك الطابع الانساني المميز الذي لايخطيء الباحثون الاهتداء عليه : الانسان هو البداية . ولقد حصن هذا المنهج الأمة العربية ضد كافة المناهج المادية أو المثالية أو النفعية .. ليس ثمة ما يضاف إلى صيغته الكلية إلا وفاء العرب بما أمروا بالوفاء به . تأمل الانسان ودراسته لاكتشاف قوانين حركته منفرداً ، ثم قوانين حركته مجتمعاً مع غيره . ومع ذلك فسواء اوفوا او لم يوفوا ، فإن حضارته المكونة لشخصيته تزوده حتى بدون أن يعي بمؤشر منهجي هو ان يبدأ نظره إلى كل شيء من الإنسان ، مؤشر عربي حضاري يوجه المجتهدين في الدراسة إلى حيث بدايتها : الإنسان ، ويوجه العاملين إلى بداية العمل ، الإنسان ، ويوجه الراغبين في النصر إلى معيار النصر : الإنسان .
من طفل إلى طفل إلى طفل . كان عبد الناصر منذ أن كان طفلاً يحمل في ذاته هذا المؤشر الذي غرسته حضارته كعربي مسلم . وله في تاريخه آيات كثيرة . كان المعول الأول في انتقائه والتقائه بالضباط الأحرار الجانب الإنساني ( الزمالة والصداقة والثقة الشخصية ) قبل الإلتقاء على برامج واهداف محددة . وانحاز إلى المقهورين من البشر لافتقادهم مقومات إنسانية ( العزة والكرامة ) قبل المقومات الاقتصادية . وكان في حياته الخاصة والأسرية نموذجاً للإنسان العربي كما تصوغه تقاليد وآداب وعادات حضارته العربية . كان قائداً عربياً يتبع على السجية بدون افتعال المؤشر المنهجي الحضاري . فقال على السجية أيضاً  :
إن النصر عمل ، والعمل حركة ، والحركة فكر ، والفكر فهم وإيمان . وهكذا فكل شيء يبدأ بالإنسان ” . ( أتحدى من يزعم أن عبد الناصر قد عرف هذا إلا من صدق انتمائه العربي ) . فلما اجتهدنا في دراسة مناهج التطور : الماركسي ، والليبرالي ، والتاريخي .. في كتابنا الأول ” أسس الاشتراكية العربية ” أهتدينا إلى ما أسميناه منهج جدل الإنسان . وهو وحده – في اعتقادنا – الذي يستطيع أن يقول لماذا كان ما قاله عبد الناصر صحيحاً . لأنه ابتداء من هذه المقولة التي عبر بها عبد الناصر عن خلاصة حضارته العربية الاسلامية في شأن المنهج ، نجد أنها تجري طبقاً ” لجدل الإنسان ” على الوجه الآتي  :
النصر يحقق إرادة إشباع حاجة الإنسان في الواقع حيث تجربة الماضي هي المحدد لإرادة اشباع الحاجة الحاجة التي لا تتم تلقائياً بل بالعمل . والعمل حركة تسعى إلى تحقيق فكرة مصوغة للمستقبل على أساس الايمان بقابليتها للتحقق . مصدر هذا الايمان إدراك لقوانين وسنن تغيير الواقع . فالبداية أن يدرك الانسان مشكلته إدراكاً صحيحاً ، ويعرف حلها الصحيح ، ثم يعمل على تحقيقه في الواقع فينصر .. وهذا هو جدل الانسان ..
بعض الناصريين لا يقبلون ” جدل الانسان ” منهجاً لأن عبد الناصر قد وقف عند القاعدة المنهجية الحضارية ” إن الانسان هو البداية ” . لا بأس . المهم الآن بالنسية إلى الناصريين ليس ما قاله زيد او عبيد ، ولكن البدء من أن ” كل شيء يبدأ بالانسان ” الذي قاله عبد الناصر لاستكمال ” المنهج ” الذي لا تقوم ” الناصرية ” كنظرية إلا عليه ، ولا تصان وحدة الناصريين في فهم الناصرية عند التطبيق إلا به ..
الذي لن يكون مفهوماً هو الزعم بأنه وقد قال عبد الناصر ” كل شيء يبدأ بالانسان ” قد قال أن كل شيء قد انتهى بعبد الناصر . لن يتفق هذا حتى مع دعوة عبد الناصر إلى الاجتهاد الفكري وأعذاره بأن أعباءه لا تسمح له بكل ما يحتاجه هذا الاجتهاد . ونختم هذا الحديث عن المنهج بأنه قد يكون من المفيد لاجتهاد الناصريين مع البقاء في دائرة المؤشر المنهجي الإنساني أن ينتفعوا بالدراسات القيّمة للأستاذ نديم البيطار وهو ناصري قح ، وبما كتبه في ” البيان القومي الثوري ط الأستاذ المرحوم الفاضل عبد الله الريماوي ، أما نحن فقد قلنا كلمتنا في حياة عبد الناصر ولم نزل على ثقة من صحة ما قلنا إلى أن يثبت أننا أخطأنا .. حينئذ لن تكون لدينا ذرة من حرج في حيازة فضيلة العودة إلى الحق .
اجتهدوا ما شئتم .. ولكن لا تتقدموا إلى الشعب ، في غيبة عبد الناصر ، بنظرية انتقائية ، أي بدون منهج .. والله يوفقكم حتى لا تفقدوا المستقبل وأنتم ” فقهاء ” …
وآية توفيق الله أن تكونوا قوميين لتستحقوا أن تكونوا ناصريين لماذا ؟
جوابنا هو ختام حديثنا عنكم وإليكم .
(10)
قوميون .. وإلا .. فلا  ..
الثوابت والمتغيرات :
أياً كان المنهج العلمي الذي سينتهجه الناصريون في صياغة ” الناصرية ” نظرية لبناء المستقبل فإنه سيبدأ ” بالإنسان ” ليكونوا ناصريين . هذا يميزهم على مستوى المنهج عن الماديين وعن المثاليين جميعاً . والمناهج قوانين حركة ، أو منطق ، فلا يجدي فيها التوفيق أو التلفيق . وهي قد تكون صحيحة أو خاطئة ولا تكون أبداً محتملة الصحة والخطأ في الوقت ذاته . ولكن حتى المناهج الصحيحة لا تؤدي بذاتها إلى معرفة صحيحة بالمشكلات كما لا تؤدي بذاتها إلى معرفة الحل الصحيح لتلك المشكلات ولا إلى نوع أو قوة العمل اللازم لتحويل الحلول الصحيحة إلى واقع حي . المنهج يساعد ولكنه لا يؤدي تلقائياً إلى العمل الصحيح اجتماعياً . ذلك لأن المنهج طريقة فهم للواقع وكيفية تطويره . ولكي يؤدي دوره لابد من أن يكون الواقع المراد تطويره معروفاً معرفة عملية صحيحة .. ولما كان الواقع متغيراً أبداً فستقع على عاتق الناصريين وهم يصوغون نظرية للمستقبل من تجربة الماضي أن يجتنبوا ماكان جزءاً من الماضي ثم انقضى .. واكتشاف ما يسمى ” الثوابت ” وهي ليست ثابتة أبداً ولكنها اكثر ثباتاً في الزمان من غيرها .
ولقد ضربنا من قبل مثلاً بعبد الناصر البطل .. والبطولة ليست من الثوابت . ولولا أننا لا نريد ان نتدخل في اجتهادات الناصريين لضربنا امثلة عدة . ومع ذلك لا بأس في ان نضرب بعض الأمثلة لإيضاح فكرتنا .
مثلاً : تشكيل أداة التطوير الثوري من ضباط القوات المسلحة . هذا كان اسلوب عبد الناصر في إعداده لثورة 1952 أملته ظروف اجتماعية وسياسية سابقة على الثورة . وقد طورت الثورة تلك الظروف الاجتماعية والسياسية ، ألغتها ، فلم يعد أسلوب التطوير الذي اختاره عبد الناصر أسلوباً ” ناصرياً ” لأنه من المتغيرات .
ومثلاً : جرب عبد الناصر صيغاً شتى لدور الجماهير في الإسهام في قرارات الحكم ورقابتها . ( الديمقراطية ) . بدأ ليبرالياً يرتضي الأحزاب إذا ” تطهرت من قيادتها الفاسدة ” ، ثم انتقل إلى صيغ هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي ، وكانت كلها مفتوحة الانتماء لمن يريد فكانت تنظيماً للجميع ولم يكن أي منها حزباً إلى أن اختار الصيغة الحزبية لأعضاء منتقين على أساس ولائهم والتزامهم وقدرتهم على قيادة الجماهير ( طليعة الاشتراكيين ) وفكر في سنواته الأخيرة في تعدد الأحزاب . وكلها متغيرات ، ويكون على الناصريين أن يختاروا للمستقبل صيغة يرتضونها للديموقراطية الشعبية .
ومثلاً : كان الاختيار الاشتراكي ضرورة لمواجهة مشكلات التنمية في بلد متخلف . والتنمية والتخلف معياران متغيران فيكون على الناصريين أن يقيموا الاخيار الاشتراكي على أسس أكثر ثباتاً .
ومثلاً : – أخيراً وليس آخراً – كان عبد الناصر رئيس دولة عربية ، مقيداً بدستور دولته ، وبالقانون الدولي ، فتعامل مع الدول العربية ، تحالفاً او عداوة ، من منطلق الاعتراف بشرعيتها . والالتزام بعد التدخل في شؤونها الداخلية ( ميثاق الدار البيضاء ) هذا بينما كان في الوقت ذاته – أو ابتداء من عام 1956 – قائداً فعلياً معترفاً به للجماهير العربية . كان قائداً لجماهير تعادي حكاماً يستقبلهم بصفته رئيس دولة استقبالات رسمية في مطارات القاهرة ويتبادل معهم القبل ( على الطريقة العربية ) حين يلتقي بهم .. رئاسة الدولة من المتغيرات فيكون على الناصريين أن يحددوا في نظرية المستقبل كيف يكون تعاملهم مع الدول العربية وحكامها ..
... إلى آخر ما يختاره الناصريون ..
إلا واحدة .. فلا خيار لهم فيها وإلا ما كانوا ناصريين بأي معنى .
تلك هي القومية ..
القومية ..

الانتماء إلى الأمة العربية من الثوابت التاريخية كما أن الحرية من الثوابت الإنسانية . وهي بالنسبة إلى الناصريين الثابت المعترف به طبقاً للحد الأدنى من منهج عبد الناصر : البداية هي الإنسان . هذا يعني ان السؤال الأول الذي يطرح على الناصريين هو من هو هذا الانسان الذي تكون البداية منه ؟ هل هو الانسان مجرداً في الزمان والمكان ؟ هل هو الانسان الآسيوي او الأفريقي ؟ هل هو الإنسان الذي يحمل هوية دولته ؟ فهو الانسان المصري أو السوري أو السعودي .. الخ ؟ إن هذا لعلى أكبر قدر من الأهمية لتحديد وعاء النظرية ومضمونها وأسلوبها . إذ بعد ان تتحدد هوية الإنسان الذي يضع الناصريون له نظرية مستقبله ، ستتحدد تبعاً له في مكانه وزمانه المشكلات والحلول والأفعال ، واكثر من هذا يتحدد الإنسان الذي يلتزم الناصريون بنظريتهم في مواجهته ، وبالتالي يكون ملزماً لهم التفاعل معه وقبول ما يقبله من تلك النظرية .
الاغلبية الساحقة ممن ينتسبون إلى الناصرية يقولون إنه الإنسان العربي أي المنتمي إلى الأمة العربية . عظيم ولكنه لا يكفي . فالانتماء إلى الأمة العربية ليس اختياراً ولكنه ثمرة تطور تاريخي طويل جعل من الإنسان عربياً بدون أن يختار وسيبقى عربياً ولو كره انتماءه وحاول الانسلاخ منه .. كل الناصريين في الوطن العربي عرب ينتمون إلى الأمة العربية ، ولكن كل المختلفين مع الناصريين أو حتى اعداءهم عرب ينتمون أيضاً وبقوة التاريخ ذاته إلى الأمة العربية .
فلا يكفي الناصريين ولا يعني شيئاً أن ينسبوا إلى انفسهم مالا يميزهم عمن يختلفون معهم أو يعادونهم . وكما أن أجيالاً سابقة ، محكومين وحاكمين ، لم يفيدوا الأمة العربية شيئاً ، فإن وعد الناصريين في نظريتهم بانهم سيكونون عرباً دائماً ، أو عروبيين ، وانهم سيؤكدون في مواثيقهم الملزمة بأن مصر مصر – مثلاً – جزء من الأمة العربية ، ويضيفون أن على شعبها أن يعمل على وحدتها .. كل هذا لايميز الناصريين بشيء لم يقلع غيرهم . ( المادة الأولى من دستور 1971 ) الذي أصدره السادات تنص على ان ( الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة ) .. فهل أجدى هذا شيئاً ؟
إذن فلن يجدي الناصريين شيئاً .
على الناصريين أن يلتفتوا إلى أنه في نطاق الإنتماء إلى الأمة العربية الذي يجمعهم مع غيرهم ، تتوزع القوى المشغولة بصنع المستقبل فرقاً مختلفة متصارعة ومتقاتلة في بعض الأوقات لا حول الإنتماء العربي ولكن حول ” الوحدة العربية ” نعني دولة عربية واحدة ، بسيطة او فيدرالية لا يهم المهم ان تكون دولة عربية واحدة أرضها الوطن العربي من الخليج إلى المحيط ( الوطن التاريخي ) وشعبها كل العرب بدون استثناء واحد .
الأغلبية الساحقة ممن ينتسبون إلى الناصرية يقولون نحن وحدويون .
هذا لا يكفي ولا يعني شيئاً يميز الناصريين عن غيرهم ممن يدعون إلى الوحدة العربية . على الناصريين ان يلتفتوا إلى أنه في نطاق ” الوحدويين ” الذي يجمعهم مع غيرهم تتوزع القوى المشغولة بتحقيق الوحدة فرقاً مختلفة متصارعة ومتقاتلة في بعض الأوقات . لا حول هدف الوحدة ولكن حول الموقف من ” التجزئة ” . أغلبهم – أغلب الوحدويين أيها الناصريون – يتخذون من التجزئة منطلقاً إلى الوحدة . ولما كانت التجزئة متجسدة في دول لها حكام واعلام وجيوش و ” قروش ” .. فإنهم يحاولون ان يسلكوا إلى الوحدة ، أعني دولة الوحدة ، الطريق المسدود . إقناع الحكام بأن يتنازلوا عن دولهم الاقليمية لحساب دولة الوحدة . وهو محال . محال إلا أن ترتضي الأمة العربية أن يتولى حكم دولة الوحدة الحاكم المتنازل عن دولته الاقليمية ( تصعيد يعني ) وهو شرط للوحدة أو لقبولها كامن ومعشش داخل كل راس عربي حاكم . يعبر عنه كل منهم حين يحلم بالوحدة ، بما يملكه من إعلامه وغعلانه ورجاله ومخابراته وتحالفاته وامواله أيضاً . ولقد أريد أن أضع تحت كلمة ” امواله ” خطين لتنبيه الغافلين لولا ان الخطوط تشوه الكلمات ..
ما هو الأثر الفوري التلقائي الحتمي لتحقيق الوحدة ؟
هو على وجه التحديد إلغاء الدول العربية المستقلة كل منها بجزء من الوطن العربي ، وتحول حكامها وحاكميها ووزرائها واجهزتها وكل صاحب سلطة فيها إلى ” مواطنين ” عاديين في دولة الوحدة . إذن ، من هم اول ضحايا دولة الوحدة ؟ .. هم الذين يخسرون مواقعهم في السلطة ؟ .. إذن ، من هم أعضاء الوحدة بحكم التناقض الموضوعي بين دولة الوحدة ومصالحهم ؟ .. إنهم الحكام
كيف هذا وقد كان عبد الناصر حاكم دولة مصر ووحدوياً وحقق اول وحدة في التاريخ ؟ .. الجواب يبحث عنه الناصريون بدون حرج في التجربة التاريخية التي قادها عبد الناصر . عبد الناصر حقق الوحدة مع سوريا ولكنه توقف بالوحدة عند سوريا . واعتذر عن قبول الوحدة مع العراق 1958 فتحولت الوحدة المصرية السورية إلى دولة إقليمية كبيرة . وعبد الناصر لم يستطع المحافظة على الوحدة التي تمت فوقع الانفصال سهلاً – إلى درجة تثير الدهشة – عام 1961 .. لماذا ؟ لأن أداته إلى الوحدة كانت دولة مصر . ولم تكن دولة مصر وحدوية بل كانت دولة إقليمية بالرغم من أن قائدها كان قومياً .
ما الحل إذن ؟
الحل يلتفت إليه الناصريون وهم يصوغون نظريتهم . عندئذ سيرون ، من دراسة الواقع العربي ، وتاريخ التجربة التي قادها عبد الناصر ، أن الوحدويين ينقسمون إلى فريقين . فريق عروبي وفريق قومي . أما العروبيون فينطلقون إلى الوحدة من مجرد الانتماء الى الأمة العربية ويتخذون من هذا الانتماء حجة ” ميتافزيقية ” يصوغونها بقولهم إن الوحدة العربية حتمية تاريخية . وأرجو أن يتأمل كل الناصريين هذه المقولة . يتأملونها بهدوء وبدون عقد . فحين يقال إن الوحدة العربية حتمية تاريخية يلغى دور الإنسان ، فكأنها في يوم ما ستتحقق تلقائياً لمجرد انها دولة واحدة لأمة واحدة . وهو إعفاء للذات ، يصل إلى حد الهروب ،من متاعب الصراع الاجتماعي في سبيل تحقيق الوحدة ( العنف ليس ضرورة لازمة للصراع الاجتماعي ولكن إذا فرضه الأعداء فإن الهرب منه جبن واستسلام ) .. لا يحتاج الأمر إلى مزيد من الإيضاح لنعرف ان صيغاً مثل الجامعة العربية – والدفاع المشترك والوحدات الجزئية .. والتضامن العربي والأخوة العربية .. الخ كلها صيغ ” عروبية ” ولكنها ليست صيغاً قومية وحدوية بل إنها مطروحة كبدائل عن الوحدة .. وميزتها بالنسبة إلى أصحابها ان تحتفظ لهم بدولتهم وحكمهم وحكامهم . واكثر من عروبية وفي الوقت ذاته اكثر عداوة للوحدة العربية . تلك البدائل المغرية كمشروعات توحيد المغرب الكبير او وادي النيل او الهلال الخصيب أو دول الجزيرة .. لأنها بدائل أكثر إقناعاً من البقاء في الدول والدويلات العربية المتردية سياسياً واقتصادياً والتي يغذي فشلها الدعوة ، والتطلع ، والأمل ، في دولة الوحدة العربية الشاملة ..
هذا فريق العروبيين
يبقى الفريق الثاني من الوحدويين . إنهم القوميون .
والقوميون ينتمون إلى الأمة العربية مثلهم مثل العرب جميعاً . وهم وحدويون مثلهم مثل العروبيين . ولكنهم يختلفون جذرياً ، ويتميزون قطعياً ، عن كل هؤلاء . بأنهم يحولون الانتماء السلبي إلى الأمة العربية إلى حركة إيجابية لبناء المستقبل العربي ويلتزمون ما يفرضه عليهم الانتماء التاريخي من حدود في صنع التاريخ .
أول هذه الالتزامات الانطلاق من وحدة الأمة العربية شعباً ووطناً . المشروع القومي للمستقبل حتى لو صيغ في إحدى القرى . لا بد ان تصل أبعاده إلى أبعاد الوطن العربي كله ، وان يشمل كل إنسان عربي . من أين يبدأ وأين ينتهي ، ومتى ، هذا لايهم ، المهم ان يكون مشروعاً للأمة العربية وليس لأي من اجزائها أو دولها . وإن كان سيفرض ذاته – عند تحديد البداية – أن تكون البداية من حيث ثقل الأمة ومركزها بشرياً وحضارياً ومقدرة بحيث تأتي الوحدة إلتحاقاً للاجزاء ” بدولة وحدة نواة ” . نحن نرشح مصر .. لأن مصر يمكن بأقل قدر من المعاناة أن تتحول إلى دولة وحدة نواة بدون إضافة لتكون مستعدة لاستقبال الإضافات .. ليست مصر التي حكمها عبد الناصر ، وليست مصر الآن ولكن مصر التي تصبح أول قطر يطبق فيه دستور دولة الوحدة العربية ونظامها فتصبح ” دولة العرب ” .. وعلى الناصريين في مصر ان يعرفوا كيف تتضمن نظريتهم إعادة صياغة دولة إقليمية كبرى بحيث تصبح دولة الوحدة النواة .. أو دولة العرب كما افضل ان أسميها .. وهو عبء أكثر جسامة من أي عبء آخر .. ولكن بدونه لن يتميز الناصريون بشيء ذي بال عن الوحدويين العروبيين .
أعني على وجه التحديد أن تكون النظرية الناصرية المرتقبة نظرية قومية ليكون الناصريون متميزون عن غيرهم من القوى الوحدوية كثيرة العدد في الوطن العربي بدون فائدة .
وليست القومية مجرد كلمات توضع في المواثيق . إن تكن كذلك فقد سبقت إليها قوى وأحزاب كثيرة . إنما القومية منطلق حركة منظمة وضابط ملزم في حركتها ونظامها .
مثلاً : القوميون لا يعترفون بشرعية التجزئة وبالتالي لا يعترفون بشرعية الدول العربية حتى لو اعترفوا بها اعترافاً واقعياً . فينظر الناصريون حين يصوغون نظريتهم كيف يمكن ان يتحقق هذا بدون إثارة ” حرب اهلية ” عربية .
ومثلاً : التنظيم القومي لابد له ، لكي يكون قومياً ، بالإضافة إلى المباديء والخطط ، أن يكون مفتوح العضوية لأي عربي يريد ، وتتوافر فيه شروط العضوية ، بالرغم من كل ما تحظره الدول العربية على تكوين الأحزاب والإنتماء إليها .
مثلاً : إن التنظيم القومي لن يتنازل تحت أي شرط ولأي سبب عن ان ينتشر وينشط من اجل الوحدة في جميع الاقطار ولن يرضي هذا كل الحكام العرب الذين لن يترددوا في استعمال قوانينهم ومحاكمهم وسجونهم ومشانقهم إذا لزم الأمر ” للمحافظة ” على أمن ” الدولة ” العربية واستقلالها .
مثلاً : إن التنظيم القومي في حركة انتشاره لن يقع – مهما كانت الظروف – في أفخاخ التجزئة الاقليمية . لن يجسد الاقليمية في ذاته ثم يدعي أنه قومي . ومن صور تجسيد الاقليمية أن تكون غايته الاستيلاء على الحكم في إقليم ليتحول – بهذا وحده – إلى دولة إقليمية تجسد التجزئة ، وان يخضع في منظماته الفرعية لخطوط التجزئة . لن يكون له – وهو قومي – فرع خاص وقاصر على كل دولة عربية فيدس في تكوينه نفسه جرثومة التجزئة .
وغير هذا كثير ..
ومن الكثير المفاهيم الفكرية ..
فحركة التحرر ” العربي ” تعني تحرر كل دولة عربية ، بقوتها الذاتية أو بمساعدة من الدول العربية الأخرى على انعتاقها من التبعية والاحتلال . وكل دولة وحظها من النجاح أو الفشل . ولكن حركة التحرر ” القومي ” تعني تحرير الوطن العربي كله ، بذات القوة الموحدة ، من التبعية والاحتلال . وقد لا يلعب الشعب العربي في القطر المقهور دوراً رئيسياً وقد لا يستطيع ان يلعبه بفعل التبعية والاحتلال ذاتها ، إنما التنظيم القومي على امتداد الوطن العربي كله هو المسئول عن تحرير الوطن العربي كله بصرف النظر عن موقف الشعب العربي فيه ، لأنه حتى الشعب العربي في أي قطر ، لا يملك القطر الذي يعيش فيه بل هو ” جزء من الأمة العربية ” وعلى الناصريين أصحاب مبدأ ” حرية الوطن والمواطن ” أن يحددوا بدون لبس ان الوطن هو الوطن العربي وان المواطن هو كل عربي وإن تلك حدود التزامهم بتحقيق ” الحرية ” .
ثم إن القومية هي المدخل الصحيح إلى الاشتراكية وهي من الثوابت التي لا تتأثر بمتغيرات التنمية أو التخلف . لأن الأمة وطن مشترك لشعب واحد . ولما كانت مصادر الانتاج هي هي ذاتها مكونات الوطن من أرض وسماء وماء إلى أن يلتقي بها جهد الشعب فتتحول إلى إنتاج بأسلوبه ، فإن الشعب في الأمة ، أعني أفراد الشعب ، وكل فرد ، ولا اعتقد انه من الضروري الآن أن أسميه الشعب العربي ، وافراد الشعب العربي ، إنهم شركاء تاريخياً في مصادر انتاج وطنهم يحصل كل منه على عائد عمله لا أكثر ولا اقل . ويقتضي هذا من الناحية الفنية وطبقاً للخبرات الاقتصادية في العالم ، ان تستثمر المصادر وقوة العمل طبقاً لخطة شاملة كل المصادر وقوة العمل تضمن عدم تبديد المصادر ، وانعدام البطالة ، وحصول كل حسب جهده الذهني او العضلي . وبذلك تتحول القومية إلى التزام بالاشتراكية ، إذ الفردية التي هي أساس النظام الرأسمالي نقيض القومية .
ثم إن هذه المشاركة التاريخية تحتم أن يكون لكل ” شريك ” فرد رأي حر في كيفية توظيف المصادر المشتركة ( أي إدارة الدولة ) .. وهذا هو المدخل القومي الصحيح إلى الديمقراطية وليست الليبرالية الفردية المناقضة التي تزعم أن للفرد حقوقاً خارج المجتمع وفي مواجهته .
ثم إن دولة الوحدة هي التجسيد السياسي للأمة الواحدة ، وفي دولة الوحدة فقط ، باعتبارها دولة الشعب كله ، يمكن ان يتحقق نظام يقوم على أساس اشتراك الشعب العربي في وطنه العربي ، أي على أساس قومي .. إذ دولة الوحدة حينئذ هي دولة جميع الشركاء .
كل هذا وغيره متاح للناصريين ليدرسوه ويتأملوه ويختاروا منه ما يشاءون حين يصوغون نظريتهم .. ولا شك في ان لديهم كفاءات قادرة على ان تختار ما تعتقد انه ” ناصرية ” المستقبل نستخلصه من تجارب الماضي . ولكن – وهنا مربط الفرس كما يقولون – ان هذا الاختيار في امة عربية واحدة مجزاة في الوقت ذاته لابد من ان يكون من منطلق قومي او من منطلق إقليمي .. ولا يجتمع المنطلقان لأنهما نقيضان . ولهذا اجتهدنا في البداية كما قلنا من قبل فيما نشر تحت عنوان ” نظرية الثورة العربية ” .. وهي ليست حجة على أحد ، كما ان الناصريين لن يصوغوا الناصرية على ما يريدون .. ولن تكون حجة علينا إلا ان تكون نظرية قومية ، لا عروبية ، ولا قطرية ، ولا ملفقة من هذه النظريات جميعاً ..
فإن تكن قومية فهم ناصريون … وإلا فلا  .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق