بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

أسس الاشتراكية العربية : 5 .

أسس الاشتراكية العربية . 

الدكتور عصمت سيف الدولة .  

 

الفصل الخامس : الوحدة .

- 1 -

بعد ان عرضنا في الفصل الأول جانبا من تجارب الأمم في تاريخها الرأسمالي والاشتراكي كليهما ، لمجرد التدليل على أن باب الاجتهاد الاشتراكي لا يزال مفتوحا لم يوصده الجمود ، عرفنا من الفصل الثاني" جدل الإنسان" قانوناً لتطور الإنسان في إطار من القوانين الكلية التي تحكم الوجود كله بما فيه الإنسان . ثم قلنا في الفصل الثالث : " إن هذا الإنسان الفرد غير موجود بمفرده في الواقع .. فالإنسان لم يوجد قط في غير مجتمع " . ولما أن رددنا الإنسان ، الذي عزلناه " مؤقتا " لنعرف قانونه ، إلى مجتمعه أردنا ان نحدد أبعاد هذا المجتمع فقلنا : " الإضافة الى الاثنين تمد أبعاد المجتمع على مستويات ثلاثة : امتداد أفقي حيث ينتشر الناس من الفرد إلى الجماعة ، وحيث يحمل كل فرد حاجته معه ، وتتعدد المشكلات والحلول في حركة جدلية تتجه من الجزء الى الكل . وامتداد رأسي يبدأ من الحاجة الخاصة بكل فرد إلى الحاجة العامة التي يشترك فيها الجميع ، وتتسع المشكلات والحلول في حركة جدلية تتجه من الخاص إلى العام . وامتداد إلى المستقبل حيث يسير التطور في حركة جدلية تتجه من الحاجة الى الغنى " . وتركنا نهاية امتداد تلك الأبعاد بدون تحديد . ثم أضفنا أن حركة المجتمع : " كأية حركة جدلية تقتضي الوجود ثم الجدل ، أي وجود المجتمع نفسه ، ثم تبادل المعرفة ، فتبادل الرأي ، فتبادل الجهود . ولا بد من ان يتم هذا ؛ لأن قانون الجدل قانون حتمي ، ومن هذه الحتمية يستمد الفرد في المجتمع حريات جديدة : هي حرية وجود المجتمع الذي ينتمي إليه .. " . ولما كنا لم نحدد نهاية امتداد أبعاد المجتمع فقد تركنا وجود المجتمع أيضا بدون تحديد . ولما أن طبقنا " جدل الإنسان " في المجتمع ، لنرى كيف تحل المشكلات على مستوى أبعاده الثلاثة ، انتهينا إلى الجدل الاجتماعي " قانوناً لتطور المجتمعات ، وعرفنا الديمقراطية نظاماً للجدل الاجتماعي . وفي الفصل الرابع وضعنا الجدل الاجتماعي موضع التطبيق ، لنرى كيف يصنع المجتمع تاريخه طبقا لقانون تطوره ، فوجدنا ان غاية التاريخ الحرية دائما ، وان الإنسان يصنع تاريخه ، ويحقق حريته خلال صراعه مع ظروفه . وعرفنا الظروف نقيضا للمستقبل يشمل الإنسان ، والطبيعة ، والمجتمع ، وحصيلة ما حققه الإنسان في ماضيه من تفاعل مع الطبيعة والمجتمع ، وعرفنا دور كل عنصر من عناصر الظروف ودور الظروف مجتمعة في صنع التاريخ . وانتهينا إلى أنه وإن كانت غاية التاريخ الحرية دائما ، إلا أن الظروف تسهم في تحديد ما يتحقق منه على طريق اتجاهه ، إذ هي التي تطرح المشكلات ، وهي التي تقدم إلى الإنسان إمكانيات الحل . إنها الماضي ولكنها ـ أيضا ـ مصدر العناصر التي يصنع منها الإنسان مستقبله .

بقي ان نعرف : أية ظروف ؟

ما هي حدود تلك الطبيعة ؟ وما هي حدود ذلك المجتمع ؟ وأي تاريخ نعني عندما نقول إنه حصيلة تفاعل الإنسان مع مجتمعه ومع الطبيعة أو بتعبير آخر ، إلى أي مدى تمتد المجتمعات التي نتكلم عنها ، والتي قلنا إن الإنسان يموت إذا كان في موته حفاظ للمجتمع ؟ أين نقف لنقول عندئذ هذا مجتمعنا ، هذه أرضنا ، هذا تاريخنا ، هذه كلها ظروفنا التي تحدد مصيرنا إذ هي مصدر عناصر بنائه ؟

إذا لم نستطع أن نحدد هذا كان كل ما قلناه كلاماً معلقا في الهواء ، وأصبحت الحريات كلها مهددة بأن تهدر ، باسم ذلك الوجود المجهول الذي اسمه المجتمع ، وأصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه للهروب او الضياع او الاستبداد ، أو لها جميعاً بحجة الظروف وسلامة المجتمع .

- 2 -

لكي ندرك مدى المخاطر التي تكمن في هذا التجهيل ، يكفي أن نعلم أن أحدا لم يستطع - فيما نعلم ـ أن يضع مقياساً دقيقاً لهذا المجتمع . لقد قيلت عشرات النظريات ، ولم تفلت نظرية من اعتراض قائم على أساس سليم من الواقع أو العلم . ويرجع هذا إلى أن أغلب النظريات التي قيلت كانت تبحث المسألة على ضوء طور خاص من أطوار المجتمعات هي الأمم أو القوميات ، فإن أحداً لم يهتم بأن يثير معركة فكرية حول أنماط المجتمعات القديمة ، أي الأسرة أو العشيرة أو القبيلة . ولم تكن دراسة القوميات ذاتها دراسة علمية في أغلب أوقاتها ، بل كانت مشاركة بالرأي في معركة قومية . ويتضمن الرأي ، عادة ، أثراً من أثار الموقف النضالي لصاحب النظرية . فهو وإن كان يطلق القول كأنما يؤسسه على أسس موضوعية غير متحيزة ، لا نلبث ، ان عرفنا الظروف التي قال فيها رأيه ، وأن نعرف أنه كان يعالج قضيته الخاصة .

فعندها كان مفهوم الأمة يحتاج إلى تعريف واضح في ألمانيا ، قال فيشت إن الأمة هي جميع الذين يتكلمون لغة واحدة . وقال لمحدثه : " إصغ جيدا إلى ما سأقول لك الآن : إن الفوارق ببن أهالي بروسيا وببن سائر الألمان ما هي إلا فوارق عارضة ، او سطحية ، ناتجة عن الأحداث الاعتباطية التي أوجدتها الصدف . أما الفوارق التي تميز الألمان عن سائر الشعوب الأوروبية ، فإنها أساسية وقائمة على الطبيعة ، لأن اللغة التي يشترك فيها جميع الألمان تميزهما عن جميع الأمم الأخرى تمييزا جوهرياً " .

وعندما احتاجت ايطاليا على ان تقول كلمتها في المسألة ، قال ماتتشيني : " إن الأمة مجتمع طبيعي من البشر يرتبط بعضها ببعض بوحدة الأرض ، والأصل ، والعادات واللغة ، من أجل الاشتراك في الحياة وفي الشعور" .

وعندما أراد الفرنسيون ان يحددوا ماهية الأمة ، قال أرنست رينان : " إن الأمة روح وجوهر معنوي ، وهذا الجوهر المعنوي يتألف من أمرين ، أحدهما يعود إلى الماضي ، وثانيهما يتعلق بالحاضر . وكلاهما يرتبطان أحدهما بالآخر ربطا وثيقاً ، فالاشتراك في تراث ثمين من الذكريات الماضية ، أو الرغبة في الحياة المشتركة ، وفي الاحتفاظ بذلك التراث المعنوي المشترك ، والسعي وراء زيادة قيمة ذلك التراث ، هي أسس تكوين الأمة ٠ فالأمة ، مثل الفرد ، حصيلة ماض طويل من الجهود والتضحيات ، والولاءات ، إن عبادة الأجداد أصح وأحق جميع العبادات ، لأن أجدادنا هم الذين جعلونا من نحن . أمجاد مشتركة في الماضي ، ومشيئة مشتركة في الحاضر ، وأعمال عظيمة تمت في سالف الأيام ، ومشيئة صادقة لعمل أمثالها في مستقبل الأيام ، هذه هي الشروط الأساسية لتكوين الأمة .

وعندما أراد مفكرو الولايات المتحدة الأمريكية أن يقولوا كلمتهم في الموضوع ، قالوا في دائرة معارف هاريمان : " إن التطور السوي للفرد يتضمن توجيه طاقة الدوافع ( أو كيفما كانت تسميتها ) في مجرى أهداف محددة تتعلق بالثروة الشخصية أو الامتياز أو غير ذلك من القيم . وفي عدد من الحالات ، ربما كان ذلك بسبب الانغلاقات التي عاقت الجدولة الطبيعية ، يتخذ الفرد من تحقيق ثراء الجماعة أو قوتها هدفاً له ٠ فمن الممكن أن يتمخض ذلك عن إنهاض اتحاد عمالي ، أو حزب سياسي ، أو كنيسة ، أو أمة . والوطني الحق هو من يطابق خيره الشخصي مع خير الأمة ، فيحول الطاقة التي كان له أن يصرفها تحقيقا لمطامحه الخاصة ، الى الأهداف القومية ... والكثير من المواطنين في الأمم الحديثة ، إن لم يكن أغلبهم ، تحكمهم الرغبة الجائعة الى القوة . ومن ثم فليس من الغريب أن تحظى الدعاية المباشرة للمكانة المتفوقة بسحر قوي . ومستشفياتنا العقلية تموج بأناس ممن يعيشون في أوهام العظمة التي صنعوها بأنفسهم .. وجدير بنا فيما يتصل بأسطورة القومية أن نلح بالأهمية على بعض الأوجه اللامنطقية ، واللاشعورية ، للعملية العقلية المتضمنة في الأسطورة . وتتبدى هذه الأوجه في الانفعال العنيف الذي يثيره أي نقد للأمة من حيث هي كذلك ، أو أي هجوم على الرموز القومية ، أو أية محاولة للاستخفاف بالأساطير القومية ، وان أي نقاش منطقي في المعتقدات الأساسية للأساطير القومية ، وخاصة في زمن الحرب ، يثير معارضة عدائية بالغة العنف . ثم أن أسطورة القومية هي العائق السيكولوجي الأساسي في وجه قيام منظمة للأمن العالمي تنظم العمل الجماعي ضد " النعرات " المهددة " للسلم " . وعلى أي حال ، فستنتهي القومية في مستقبلها إلى ما انتهى إليه الدين " .

ـ 3 ـ

عندما قال الألمان ما قالوا كانت الأمة الألمانية مقسمة الى إمارات أو دويلات ، وكان نابليون قد سحقها في حروبه التي شنها ضد أوروبا ، كما كان يهددها من الخارج أيضا الغزو الاقتصادي من جاذب انجلترا المتقدمة عليها صناعيا وقتئذ . وكان الألمان محتاجين إلى وجودهم كأمة لمواجهة هذا العدوان الخارجي ، فلم يجدوا أمامهم رابطة بين كل تلك الدويلات إلا اللغة الألمانية ، فنظروا إلى المسألة كلها على هذا الضوء وربطوا الأمة باللغة وحدها .

وعندما قال مانتشيني أفضل ما قيل في الأمة ، وأضاف عنصر الهدف ، كان يعبر عن الحركة القومية الايطالية التي حددت الاشتراك في الحياة هدفاً لها .

وعندما قال الفرنسيون ما قالوا ، وقرنوا ببن الأمة وبين الإرادة في الوحدة ، كانوا يعارضون نظرية الألمان المؤسسة على وحدة اللغة ، وذلك ليبرروا الاحتفاظ بالإلزاس ، التي استولت عليها فرنسا وضمتها إليها بمقتضى معاهدة وستفاليا أيام لويس الرابع عشر، فقد كان سكان الإلزاس يتكلمون اللغة الألمانية .

وعندما كتب روسي ستاجنر وجهة النظر الأمريكية في دائرة معارف هاريمان ، لم يكن يستطيع أن يربط القومية بالجنس ، وبلاده خليط من الأجناس ، ولا باللغة ، ولغة بلاده جاءته عبر البحار، ولا بالتاريخ ، إذ تاريخ بلاده في دور الطفولة ، فأخذ العنصر المشترك في أمريكا ، وهو الفرد وأمراضه النفسية ، وبذلك وجد مبررا لوجود الأمة الأمريكية ولسياستها الخارجية معاً .

وغير هؤلاء كثيرون ممن نظروا إلى الأمة نظرة جزئية محدودة ولم تحتج الظروف في أوروبا إلى مزيد من الدراسة حتى تنضج الفكرة ، وتؤسس على أسس علمية ، إذ لم ينقض القرن التاسع عشر إلا وكانت معارك الأمم الكبرى في سبيل وحدتها القومية قد انتهت أو كادت ؛ وكانت أغلب الأمم الأوربية قد توحدت ، وتكونت فيها الدول القومية ، أي الوحدة السياسية للأمة .

ثم تقوم ، في القرنين التاسع عشر والعشرين ، محاولة جماعية من الدوال الاستعمارية لابتلاع الإمبراطورية العثمانية . والإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت تضم قوميات متعددة ، وفيها الخلافة التي كانت نظاماً مشتركا يربط بين المسلمين في جميع أنحاء الدولة . وأدرك كثير من المفكرين في الشرق العلاقة بين انهيار الخلافة والاستعمار الأوروبي المتربص بهم . ولم تكن وحدة الجنس ، أو وحدة اللغة ، أو الوحدة الجغرافية ، متوافرة بين القوميات التي تنطوي عليها دولة الخلافة ، فاتخذوا من وحدة الدين حصانة ضد الخطر الاستعماري الأوروبي، إلى أن تتاح لجهودهم فرصة الإفلات من السيطرة التركية المضعضعة ، فكانت الأمة أمة الإسلام ، وكان الدين الرباط القومي . قال عرابي .. " لم يخطر ببالي أصلا الاقتداء بالفاتحين والمتغلبين .. ولا تأليف دولة عربية ، كما أوجف المرجفون ؛ لأني أرى ذلك ضياعاً للإسلام عن بكرة أبيه " . وكانت الشعوب المسلمة عند جمال الدين الأفغاني ملة واحدة ، لا ينقصها ، لتعود إلى وحدتها الملية ، إلا أن تطرح ما طرأ عليها من طوارئ . قال : " إن الإنسان في أي أرض له حاجات جمة ، وفى أفراده ميل الى الاختصاص والاستئثار بالمنفعة إذا لم يصبغوا بتربية ذكية . وسعة المطمع إذا صحبها اقتدار يطبعها على العدوان ، فلهذا صار بعض الناس عرضة لاعتداء بعض آخر، فاضطروا بعد منازلة الشرور أحقاباً طوالا إلى الاعتصاب بالنسب على درجات متفاوتة حتى وصلوا إلى الأجناس ، فتوزعوا أمماً كالهندي ، والانجليزي ، والروسي والتركماني ، ونحو ذلك ؛ ليكون كل قبيل منهم بقوة أفراده المتلاحمة قادراً على صيانة منافعه ، وحفظ حقوقه من تعدي القبيل الأخر . ثم تجاوزوا في ذلك حد الضرورة ، كما هي عادة الإنسان في أطواره فذهبوا إلى حد أن يأنف كل قبيل من سلطة الآخر عليه ، علما بأنه لا بد من أن يكون جائراً إذا حكم ، ولئن عدل فإن في قبوله حكمه ذلا تحس به النفس وينفعل له القلب . ولكن الديانة الإسلامية تغني عن هذا النوع من العصبية ، وهذا هو السر في إعراض المسلمين على اختلاف أقطارهم عن اعتبار الجنسيات ، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبيتهم الإسلامية ، فإن المتدين بالدين الإسلامي ، متى رسخ فيه اعتقاده ، يلهو عن جنسه وشعبه ، ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى الرابطة العامة وهي رابطة المعتقد " .

فلما لم تفلح وحدة الدين كحصانة ضد الاستعمار الأوربي ، ولا في الحفاظ على الخلافة ، وتجزأت الإمبراطورية العثمانية إلى دويلات اقتسمتها فرنسا وانجلترا وايطاليا ، ولم تبق ثمة رابطة سياسية بين الدول العربية ، نضج وعيهم لوحدتهم القومية . وأصبحت القومية محل دراسة غنية في الكتابات العربية لم تنقطع إلى الآن .

ـ 4 ـ

وقد تولى أبو خلدون ساطع الحصري مهمة عرض أغلب النظريات التي قيلت في الأمة ، وناقشها على ضوء حصيلة من المعرفة التاريخية بالغة الخصوبة ، وانتهى فيها إلى رأي عرضه في كتبه العديدة ، ودافع عنه بحرارة وبمقدرة فائقتين ٠

قال في كتابه " محاضرات في نشوء الفكرة القومية " : " إن أول ما يخطر على البال في هذا الصدد هو وحدة الأصل والمنشأ . ويظن الناس عادة أن كل أمة من الأمم تنحدر من أصل واحد ، ويزعمون ان جميع أفراد الأمة الواحدة يكونون بمثابة الأشقاء الذين ينحدرون من صلب واحد . غير أن هذا الظن لا يستند إلى أساس علمي صحيح ؛ لأن جميع الأبحاث العلمية - المستمدة من حقائق التاريخ ومن مكتشفات علم الإنسان - لا تترك مجالا للشك في انه لا توجد على وجه البسيطة أمة تنحدر من أصل واحد حقيقة . ونستطيع أن نقول بكل جزم وتأكيد ؛ إن وحدة الأصل والدم ، في أية امة من الأمم ، إنما هي من الأوهام التي استولت على العقول والأذهان من غير ان تستند إلى برهان . ومع ذلك يجدر بنا أن نلاحظ أن الاعتقاد بوحدة الأصل يعمل عملا هاماً في النفوس ولو كان مخالفاً للحقيقة والواقع . والشعور بالقرابة يؤثر في النفوس تأثيرا شديدا ولو كانت هذه القرابة غير حقيقية . وأما أهم العوامل التي تدفع إلى الاعتقاد بوحدة الأصل ، والى الشعور بالقرابة في الشعوب ، فهي وحدة اللغة والاشتراك في التاريخ . فإن اللغة هي أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد البشري بغيره من الناس ؛ لأن اللغة هي : أولا واسطة التفاًهم بين الناس ، وثانياً آلة التفكير عند الفرد ، وثالثاً واسطة نقل الأفكار والمكتسبات من الآباء الى الأبناء ، ومن الأسلاف إلى الإخلاف . ولهذا نجد أن وحدة اللغة توجد نوعا من الوحدة في الشعور والتفكير، وتربط الأفراد بسلسلة طويلة ومعقدة ، من الروابط الفكرية والعاطفية ، وتكون أقوى الروابط للأفراد بالمجتمعات . وبما ان اللفات تختلف من قوم إلى قوم فمن الطبيعي أن مجموع الأفراد الذين يشتركون في اللغة يتقاربون ويتماثلون ويتعاطفون أكثر من غيرهم فيؤلفون بذلك أمة متميزة عن الأخرى ... ويتبين مما تقدم أن اللغة والتاريخ هما العاملان الأصليان اللذان يؤثران أشد التأثير في تكوين القوميات ، ونستطيع أن نقول ، إن اللغة بمثابة روح الأمة وحياتها ، والتاريخ بمثابة وعي الأمة وشعورها " . ثم أضاف إلى هذا في كتابه " أراء وأحاديث في الوطنية والقومية " : " ولكن العوامل التي تؤثر في تكوين الأمم وتميز بعضها من بعض لا تنحصر في اللغة والتاريخ ، بل إن هناك عوامل أخرى تؤثر في ذلك تأثيراً واضحاً ، فتقوي تارة تأثير العاملين الأساسيين المذكورين آنفاً ، وتضعف ذلك التأثير طوراً . إن أهم هذه العوامل هو الدين ، لأن الدين يولد نوعا من " الوحدة " في شعور الأفراد الذين ينتمون إليه ، ويثير في نفوسهم بعض العواطف والنزعات الخاصة التي تؤثر في أعمالهم تأثيرا شديدا . فالدين يعتبر ، من هذه الوجهة من أهم الروابط الاجتماعية التي تربط الأفراد بعضهم ببعض ، وتؤثر بذلك في سير السياسة والتاريخ ... وللدين علاقة قوية باللغة ، فإن كل دين من الأديان يقوم على لغة ويعدل بطبيعته على نشر تلك اللغة . إن اللاتينية انتشرت بواسطة الديانة المسيحية أكثر مما انتشرت بواسطة الفتوحات الرومانية ، واللغة العربية انتشرت بواسطة الدين الإسلامي أكثر مما انتشرت بحكم السياسة والإدارة ... يتبين من كل ما تقدم أن الروابط الدينية لا تخلو من التأثير في الروابط القومية ، وتأثيرها هذا قد ينضم إلى تأثير اللغة والتاريخ فيقوي الروابط القومية ، وقد يخالف التأثير المذكور فيضعف الروابط . ومهما كان الأمر ، فإن الرابطة الدينين وحدها لا تكفي لتكوين القومية ، كما ان تأثيرها في تسيير السياسة لا يبقى متغلبا على تأثير اللغة والتاريخ . إن هذا التأثير يشتد أو يتراخى ، ويقوى أو يتلاشى ، حسب تطور علاقة الدين باللغة ، ويبقى امرا ثانوياً في تكوين القوميات بالنسبة إلى تأثير اللغة والتاريخ . إننا نستطيع أن نلخص أبحاثنا السابقة فيما يلي . إن العاملين الأساسيين في تكوين القومية هما اللغة والتاريخ . ونستطيع أن نضيف إلى ذلك ما يأتي : لا يتغلب عامل من العوامل الاجتماعية عن تأثير اللغة والتاريخ في هذا المضمار سوى عامل الاتصال الجغرافي ؛ لأن فقدان الاتصال الجغرافي قد يؤدي إلي بقاء أجزاء الأمة الواحدة منفصلة بعضها عن بعض رغم اتحادها في اللغة والتاريخ . نزيد على ذلك ، أنه قد يؤدي ـ بمرور الزمن - إلى تباعد وتباين في اللغة والتاريخ أيضاً " .

وفيما عدا الأستاذ ساطع الحصري ، تتجه الآراء التي قيلت في القومية اتجاها تجميعياً ، يذكر خصائص الأمة دون التركيز على عنصر واحد منها ، وهي جميعها مؤسسة على الملاحظة والاستنتاج فيقول الأستاذ جورج حنا في كتابه " معنى القومية العربية " ; إن خصائص الامة هي ؛ أولا  : اللغة ؛ فكل شراح القومية يتفقون على أن اللغة هي أولى هذه الخصائص . فالعائلة البشرية القومية ـ أي الأمة ـ يجب قبل كل شيء أن تتكلم وتتفاهم فيما بينها دون ما وسيط ودون ما ترجمان ... ثانياً : لا تتكون الأمة الواحدة الا إذا كانت عائلتها البشرية متعايشة معاً في أرض لمدة طويلة من الزمن ، وكانت فاعلة ومتفاعلة بعضها مع بعض في هذه المدة . ثالثاً : القومية الواحدة لا تتكون من مجموعات بشرية ذات تاريخ مختلف ، ولكل منها هدف مصيري مختلف . إن التاريخ ، إذا لم يكن قد ربط هذه المجموعات بعضها مع بعض ، بحياة مشتركة أو بحروب مشتركة ضد عدو مشترك ، أو بمجابهة أحداث ما طرأت عليها مشتركة ، وجابهتها مجابهة مشتركة ، فلا يعقل أن تؤلف قومية واحدة متماسكة ... رابعاً : لا يكفي المجموعة البشرية لكي تشكل قومية واحدة أن تكون لها لغة مشتركة وتاريخ مشترك وأرض مشتركة ، بل يجب ان تجمع بينها مصالح مادية مشتركة ... خامساً لكي تكون مجموعة بشرية ما قومية واحدة يجب ان يكون بين أجزائها تجانس في العقلية والروحية والنظرة إلى الكون ؛ أي أن تكون خصائصها الروحية والمادية قابلة لتحقيق التفاعل بين أجزائها . يعني .. في حال وجود عادات وتقاليد مختلفة بين أجزاء المجموعة ، لا يكون في هذه الاختلافات ما يشكل سببا للتباغض والقطيعة فيما بينها ، ولا يكون منها أثر تخريبي في العقلية القومية . فالتفاهم الروحي والنفسي هو شرط من شروط القومية ، وما هو العامل الرئيسي في التفاهم الروحي والنفسي ؟ إنه الثقافة القومية والوطنية ... هذه الخصائص الخمس لا يستغنى عن وجودها مجتمعة لتكوين القومية ... فالقومية هي عقد اجتماعي في شعب له لغة مشتركة ، وجغرافية مشتركة ، وتاريخ مشترك ، ومصير مشترك ، ومصلحة اقتصادية مادية مشتركة ، وثقافة نفسية مشتركة ، وهذا العقد يجب ان تكون فيه كل هذه المقومات مجتمعة " .

ويقول الأستاذ إسماعيل القباني في محاضرات ألقاها في المعهد العالي للدراسات العربية : " أما مقومات الأمة فتختلف وجهات النظر فيها ؛ فهناك من يشترطون الوحدة الجغرافية ، او الوحدة الجنسية أو وحدة اللغة ، أو وحدة الدين . وبعض هذه الشروط ، كوحدة الجنس ، لم يعد لها أساس علمي ؛ فالعلماء لا يسلمون الآن بوجود أجناس نقية او صفات جنسية ثابتة في أية أمة حديثة . وبعضها الآخر لا قيمة له . ولكن يتعين وجودها جميعاً في أمة ، فوحدة اللغة مثلا تلعب دوراً هاماً في تماسك الأمة لأنها تؤدي إلى تماثل في التفكير ، وتغذي الشعور بالانتماء إلى جماعة متميزة عن غيرها . ولكن هناك أمما كالأمة الهندية ، أو السويسرية ، لا تتكلم لغة واحدة والوحدة الدينية كدت من الأسس الهامة التي قام عليها الشعور القومي في الماضي ، ولا يزال لها أثرها ، ولكنهاً فقدت شيئاً من قوتها في العصر الحديث ، لنمو التسامح الديني . ولعل أقرب التعاريف التي تحدد مقومات الأمة إلى الدقة العلمية تعريف المفكر السياسي أرنست باركر، وفيه يقول : يمكننا ان نقول إن الأمة جماعة من الناس تسكن رقعة جغرافية معينة ، وبالرغم من انها يغلب ان تكون قد انحدرت من أجناس مختلفة ، فإن لها ذخيرة مشتركة من الأفكار والمشاعر تجمعت لها ، وانتقلت من جيل إلى جيل ، في خلال تاريخ مشترك من الأفكار والمشاعر ، وتغلب عليها بوجه عام عقيدة دينية مشتركة هي جزء ٠ من تلك الذخيرة المشتركة وإن كانت أهمية ذلك في الماضي أكثر من أهميتها في العصر الحاضر . ولها في العادة لغة واحدة تعبر عن أفكارها ومشاعرها ، ولها ، بالإضافة إلى الأفكار والعقائد المشتركة ، إرادة مشتركة ؛ ولذلك تكون أو تنزع إلى أن تكون ، دولة قائمة بذاتها ، للتعبير عن تلك الإرادة المشتركة ، والعمل على تحقيقها . وواضح مما سبق أن الذخيرة المشتركة من الأفكار والمشاعر والعقيدة الدينية واللغة هي من العناصر الأساسية للثقافة ولذلك فمقومات الأمة في تعريف باركر هي : (أ) رقعة جغرافية معينة ، (ب) ثقافة مشتركة ، (ج) إرادة مشتركة . وللإرادة المشتركة أهمية لا تخفى . إذن فمن أهم مظاهر وحدة الأمة أن تعمل معاً بعزيمة ثابتة في المواقف التي تحتاج إلى العمل . لأن الثقافة في الواقع أساس الإرادة المشتركة ".

ويقصد الأستاذ إسماعيل القباني بالثقافة " أسلوب الحياة في الأمة والجماعة كلها بجميع مظاهره ، فهو ينصب على الكيفية التي يمارس الناس بها وجوه النشاط المختلفة في الهيئة التي يعيشون فيها ؛ كيف يأكلون ، وماذا يلبسون ، وكيف يبنون مساكنهم ، وبم يشتغلون لكسب قوتهم ، وكيف ينتقلون من مكان إلى مكان ، وكيف يتراسلون ، وكيف يتزوجون ، وكيف يدفنون موتاهم ، وكيف يقضون أوقات فراغهم ، وما هي أفكارهم ومعتقداتهم ودوافعهم ، وما هي آراؤهم وفنونهم " .

يكفي هذا عرضاً لنماذج من الآراء التي قيلت - ويكفي لمعرفة مدى خلوها من أسس البحث العلمي أن نلاحظ أنها تصلح لتعريف الأمة كما تصلح تعريف العشيرة أو القبيلة أو حتى القرية . فوحدة اللغة ووحدة الدين ووحدة المشاعر ووحدة الإرادة .. إلى آخر كل هذا ، متوافرة في تكوين الأسرة ، وفي تكوين القبيلة ، وحتى في تكوين القرية . وعلى هديها يمكن ان نقول إن سكان إمارة موناكو أمة ، كما يمكن ان نقول إن الايطاليين امة . وعندما يكون المقياس صالحاً لتفسير ظواهر مختلفة يكون غير صالح لتفسير الاختلاف بين الظواهر .

مرجع هذا القصور أنها أراء ونظريات مؤسسة على الملاحظة والاستنتاج الشخصيين وهي ملاحظات محدودة مهما اتسعت ، واستنتاج يحمل طابع صاحبه ما دام غير قائم على أساس من البحت العلمي . ولأن مصدرها الملاحظة الشخصية فإنها منصبة على جماعات افترض مقدماً أنها أمم تكونت فعلا ، تجمع ملامحها ، وصنفها عناصر، تقول إنها حيت اجتمعت فثمة أمة . إنها وصف للأمم وليست تفسيرا لوجودها على وجه يميزها عن أطوار أخرى من المجتمعات . وقد تكون أغلب العناصر التي قيلت قائمة في كل الأمم أو في بعضها .غير أن هذا لا يجدي شيئاً ما لم نعرف لماذا تكون الأمم دون غيرها على هذا الوجه الذي وصفناه . ثم إنها لا تجدي شيئا فيما يهم الناس قبل كل شيء ، ونعني به المستقبل . إننا لا ندرس القوميات ونصفها كما ندرس الحيوان البائد ونصف خصائصه التشريحية ، ولا ندير الحديث عن الأمم استعراضاً لعدد الكتب التي قراناها ، كل هذا عبث إذا لم يكن محاولة للإجابة عن سؤال ملح يتعلق بمصير الأمم عامة ومصير أمتنا على وجه خاص .

السؤال هو : ما علاقة الأمة بالوحدة ؟ فلتكن الأمم والقوميات على ما وصفوا ، ولكن هل يعني هذا أن تكون للأمة الواحدة دولة واحدة حتماً ؟ .. ولماذا ؟ . إن قليلا من ينكرون عليكم ـ والخطاب الى القوميين الوحدويين ـ ان أمتكم واحدة ، ولكن كثيراً يزعمون أن الأمة الواحدة لا تعني دولة واحدة . فما الرد ؟ ثم انه إذا كانت وحدة الأمة تعني وحدة الدولة ، فما تأثير هذا على شكل الوحدة وأسلوب تحقيقها ؟ إن قليلا من ينكرون عليكم ـ والخطاب الى القوميين الوحدويين أيضا ـ نداء الوحدة ، بل إن أكثرهم يتسابقون في النداء ويزاحمونكم عليه ، ولكن كثيرا منهم يراوغون مذبذبين بين الوحدة الفورية والوحدة المدروسة ، وبين الوحدة والاتحاد ، وبين الاستفتاء او الثورة طريقاً إلى الوحدة ... الخ . فما الرد ؟

الرد الذي نعنيه ، ونطلبه ، ونجتهد فيه هو الرد العلمي .

وما دمنا نزعم هذا ، فنحن على لقاء مع الزاعمين العلم بالأمة من الماركسيين .

ـ 5 ـ

يقول أفاناسييف في كتابه " الفلسفة الماركسية " : " بالرغم من أن ماركس و انجلز ولينين قد قدروا ؛ أهمية المسألة القومية ، فإنهم لم يعتبروها المسألة الأساسية في الحركة الثورية ؛ إذ كانوا دائماً يستبدلون بها جوهر الماركسية ؛ أي ديكتاتورية البروليتاريا . وكانوا دائماً يضعونها في إطار حركة الطبقة العاملة الأممية ، أي النضال في سبيل السلم والاشتراكية والتقدم الاجتماعي . وكانوا يتمسكون بالمبدأ القائل بأن المشكلة القومية ككل لا يمكن أن تحل أساساً في إطار المجتمع الرأسمالي ، وإنما تحل فقط عندما تستولي الطبقة العاملة على السلطة أي في المجتمع الاشتراكي " .

ذلك قول أخير من ماركس حديث ، لقوله تاريخ طويل من الصراع ببن النظرية والتطبيق ، لا تزال كفة الجمود النظري فيه راجحة .

فقد عرفنا من قبل أن الفكر الماركسي ينطلق من منهج محدد هو الجدلية المادية ٠ والجدلية المادية تحدد للناس مواقفهم وبواعثهم وغاياتهم طبقاً للمكان الذي يشغلونه من علاقات إنتاج الحياة المادية . وعلى هذا الأساس قسم الماركسيون المجتمع إلى طبقات ( ملاك العبيد والرقيق في العهد العبودي ، والإقطاعيون والفلاحون في العهد الإقطاعي ، والرأسماليون والعمال في العهد البرجوازي او الرأسمالي) وعلى هذا الأساس انتهوا إلى ما جاء في الوثيقة الشيوعية الأولى التي أصدرها كارل ماركس وفريدريك أنجلز سنة ١٨٤٨ باسم البيان الشيوعي وقالا فيها " إن تاريخ كل المجتمعات هو تاريخ الصراع الطبقي . ورتب ماركس وانجلز ـ أستاذا الجدلية المادية ـ على هذا نتائجه دون مواربة ، فقالا في البيان الشيوعي أيضاً " إن العمال لا وطن لهم " . وقالا " إن الصراع الطبقي في بدايته يأخذ الشكل القومي ، وإن كان هذا ليس جوهره ، إذ على البروليتاريا في كل بلد أن تصفي حسابها أولا مع البرجوازية الخاصة بها . لم يكن معنى هذا أن ماركس وانجلز يجهلان وجود الروابط القومية . ولكنهما كانا يعتبران تلك الروابط غير سليمة ، ومنحرفة عن الرابطة " العلمية " السوية والمستقيمة رابطة علاقة الإنتاج .

كان تركيزهما على الرابطة الطبقية إدانة للروابط القومية ، ودعوتهما الشيوعية تحريضا ضدها . وبذلك تحددت أبعاد المجتمع الذي يعنيه الماركسيون بالمجتمع الإنساني كله ، بكل ما فيه من قوميات . فكانت الدعوة الماركسية ، منذ البداية ـ دعوة لا قومية ـ وكانت تلك بداية متفقة تماماً مع المنهج " العلمي " للماركسية . وكان التفوق الماركسي عند ماركس وانجلز مقروناً بالتحرر من الرباط القومي ، وعلى هذا قالا عن الشيوعيين ـ طليعة- الطبقة العاملة ـ إنهم يتميزون عن باقي الطبقة العاملة بميزتين : الأولى : " إنهم خلال الصراع الذي تخوضه الطبقة العاملة في أمة ما يركزون على أولوية مصالح الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم دون اعتبار للقومية " . ومع أن أياً من ماركس وانجلز لم يخض تجربة اختبار قومية ( فقد كانا متحررين تماماً ) ، إلا أن " النظرية " قد فرضت منطقها على الماركسيين الأوائل في كل تجربة قومية . فعندما انعقد المؤتمر الماركسي سنة ١٨٩٦ ، وقف هيكر ممثل الماركسيين البولنديين مطالبا المؤتمر بأن يصدر قرارا بتأييد استقلال بولندا عن روسيا " القيصرية " ، ورفض المؤتمر مطلبه . وكان المؤتمرون الشيوعيون ماركسيين حقاً .

بتلك البداية ذاتها ، وضعت الجدلية المادية الماركسيين في مأزق تطبيقي، وأصبحت هي في مأزق فكري . فالروابط القومية موجودة في الواقع . والأمم المتميزة عن غيرها بروابط قومية خاصة تملأ وجه الأرض . فهي ظواهر اجتماعية مستقرة وثابتة . والجدلية المادية لا تعني تجاهل الظواهر كما يقول الماركسيون أنفسهم . كما أن واجب الشيوعيين أن يعبروا عن التاريخ الذي يجري تحت أنوفهم كما قال ماركس في البيان الشيوعي ، أو أن يأخذوا أماكنهم في التاريخ كما قال أفاناسييف مؤلف " الفلسفة الماركسية " . وكان مقتضى الواجب أن يأخذ الماركسيون أماكنهم في التاريخ القومي ، وان يكون نضالهم تعبيراً عن الحركة القومية التاريخية . غير أن نظريتهم قد ابتكرت لهم الرابطة الطبقية الأممية ، وأضفت عليها الأولوية بالنسبة إلى أية رابطة أخرى ولكنها لم تقدم لهم حلا لمشكلة ارتباطهم القومي . لماذا كانت الأمم ، وكيف الفكاك من الانتماء القومي . اكتفت بإدانتها وتجاهلها والدعوة إلى غيرها . وكان كل هذا محاولة ' مثالية " تماماً للإفلات من الواقع ، قد تنجح فكرياً ـ لأنها مثالية ـ ولكنها تنكشف عند أول صدمة لهاً بالواقع . وقد كان .

ففي الاتحاد السوفييتي وجد لينين نفسه وجها لوجه أمام المسألة القومية كما يسمونها . إذا كان الاتحاد السوفييتي ـ ولا يزال ـ مكوناً من قوميات عديدة ، أكبرها وأقواها الأمة الروسية . وكان لا بد من أن يتعرض لينين لمفهوم الأمة . فلما لم يجد في منهجه " العلمي " ما يسعفه لجأ إلى المنهج " التاريخي " شارحاً نشأة الدول القومية ، أو محاولا شرحها ، على وجه يؤكد إدانتها ـ اتساقا مع الموقف الماركسي ـ فنسبها إلى الرأسمالية . قال : " إن عهد انتصار الرأسمالية على الإقطاع انتصارا نهائياً قد اقترن في كل أنحاء العالم بحركات قومية . ولتلك الحركات القومية أساس اقتصادي هو : ان الانتصار التام للإنتاج التجاري كان يقتضي استيلاء البورجوازية على ألسوق الداخلي ، وكان ذلك يستلزم اتحاد البلاد التي يتكلم سكانها لغة واحدة لتكوين دولة واحدة . وكان يقتضي إزالة جميع الحواجز التي تعرقل نمو تلك اللغة وتدعيمها بالأدب . فإن اللغة واسطة عظمى للاتصال بين بني البشر . إن وحدة اللغة وانكشافها الحر يكونان أهم الشروط اللازمة لقيام تبادل تجاري حر تماماً ، وشامل حقيقة وملائم لمقتضيات الرأسمالية العصرية تمأم الملاءمة . كما أنه شرط لاتصال السوق اتصالا وثيقاً بكل منتج وكل بائع وكل مشتر . ولذلك نجد أن تكوين " الدولة القومية " التي تضمن متطلبات الرأسمالية العصرية بأحسن الصور، صار المنزع الخاص بكل حركة قومية . إن أعمق العوامل الاقتصادية تتضافر على تحقيق هذه الغاية وتكوين الدولة القومية " .

واضح أن لينين لم يقل رأيا في " الأمة " بل أدان الدولة القومية ( أو الوحدة كما نسميها نحن العرب ) ، إذ أحالها خطة بورجوازية رأسمالية غايتها خلق سوق واحد والاستيلاء عليه . لم يقل لينين ـ على الأقل ـ لماذا ، عندما أراد البورجوازيون تنفيذ خطتهم الخبيثة بإنشاء دولة قومية ، وجدوا " بلادا يتكلم سكانها لغة واحدة " . كيف حدث أن تميزت تلك البلاد عن غيرها بلغتها على الأقل ، وكيف حدث ان وجد البورجوازيون قومية " جاهزة " ليقيموا عليها دولة ، وما دلالة كل هذا تاريخيا وعلمياً . إن البورجوازيين ـ مهما كانوا خبثاء ـ لم يوزعوا اللغات على الناس طبقاً لحدود الأسواق التي يريدون الاستيلاء عليها ، ولم يتهمهم حتى لينين بأنهم اصطنعوا القوميات ليقيموا عليها دولا قومية . ثم أن كل هذا لم يجد لينين شيئا ـ ولا يجدي غيره ـ أمام مشكلة الأمم التي لم تتكون فيها دول قومية ، إما لأن أمماً أخرى تبتلعها كما فعلت " روسيا العظمى " بالنسبة إلى القوميات الأخرى ، وإما لأن دولا قومية نحتلها كرهاً كما فعلت الدول الرأسمالية بكثير من أمم العالم . لا هنا ولا هناك استطاعت البرجوازية المتهمة أن تقدم دولة قومية بل حالت دون قيامها في الأمم التي قهرتها . فالاتهام لا يجدي فتيلا . وهنا وهناك أمم قائمة تناضل في سبيل دولتها القومية تحت راية الوحدة ، وتحدد الاستقلال هدفاً . فما الحل ؟

هنا لا نجد الماركسية ـ العلمية ، كما نفتقد أمانة ماركس وحزمه العلمي في رفض القومية على أساس من المنهج الذي اختاره لنفسه ، وإنما نجد اللينينية العملية ، نجد الثائر الذي يريد ان ينتصر . نجد " التكتيك " اللينيني الذكي مخلصاً في ; تأييد القومية ، ثم استغلالها ، والقضاء عليها . ومنذ لينين وحتى الآن ـ كما سنرى ـ لا يزال الماركسيون ينهلون من منابع الذكاء اللينيني ، ويلتزمون " تكتيكه " في القضايا القومية .

وقد رسم لينين خيوط هذا الأسلوب ( سنة ١٩١٤) في رده على المعترضين على تضمين برنامج الماركسيين الروسيين مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها . كان المعارضون يستندون إلى ما كتبته روزا لوكسمبرج الشيوعية البولندية ١٩٠٨ دفاعا ضد استقلال وطنها بولندا عن روسيا القيصرية الإقطاعية . كانت روزا لوكسمبرج تجادل على أسس ماركسية خالصة ، واستغل المعترضون ما قالته ، فوضعوا لينين أمام أمرين إما أن يكون ماركسياً لا قوميا فلا يؤيد مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها ، لقيامه على أسس قومية ويخسر بذلك القوميات المضطهدة في روسيإ ، أو يكون قومياً لا ماركسياً فيضمن برنامجه مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها ، ويكسب بذلك الثورة الروسية . وقد خرج من المأزق بالقاعدة الني يتبعها الماركسيون - اللينينيون حتى اليوم في مقال طويل عن " حق الأمم في تقرير مصيرها " قال : أولا " يجب أن نوضح بشكل عام أن موقف ماركس وأنجلز من المسألة القومية كان حرجا للغاية ؛ وأنهما قد اعترفا بأهميتها النسبية . ولهذا كتب أتجلز إلى ماركس في ٢٣ مايو سنة ١٨٥١ يقول إن دراسته التاريخ قد قادته إلى نهاية متشائمة بالنسبة إلى بولندا ، وأن أهمية بولندا أهمية مؤقتة حتى قيام ثور الفلاحين في روسيا . وان ماركس قد كتب إلى انجلز في ٤ نوفمبر سنة ١٨٦٥ يقول إنه كان يكافح قومية مازيني ( رائد الوحدة الايطالية ـ المؤلف ) ، ثم أضاف ، انه " كلما دار الحديث عن السياسة الدولية فإنه يتكلم عن الدول وليس عن القوميات . وعلى هذا فإن الاشتراكيين الديمقراطيين كانوا على حق عندما هاجموا التطرف القومي للبورجوازية البولندية الصغيرة ، وأوضحوا ان المسألة القومية كانت ذات أهمية ثانوية بالنسبة إلى العمال البولنديين ، وألفوا حزبهم البروليتاري الخالص في بولندا داعياً إلى المبدأ بالغ الأهمية وهو ؛ احتفاظ العمال البولنديين والروس بأوثق الروابط في الصراع الطبقي " . بعد هذا تصدى لينين لوضع خطته فقال :

" إن البرجوازية الني تظهر ، طبعاً ، بمظهر القائد في بداية أية حركة قومية ، تقول عن كل ما يدعم كل الأماني القومية إنه قابل للتحقيق . ولكن سياسة الطبقة العاملة في المسألة القومية ( كما هي في المسائل الأخرى ) تساند البرجوازية إلى مدى محدود فقط ، ولا تتفق أبدا مع السياسة البورجوازية . إن الطبقة العاملة تؤيد البورجوازية في سبيل توفير السلام القومي ( الذي لا تستطيع البورجوازية أن توفره ، ولا يتوافر إلا في ظل ديمقراطية كاملة ) وذلك لتوفير المساواة في الحقوق ، وبذلك تخلق أفضل الظروف للصراع الطبقي . وعلى هذا ، وبعكس النشاط البورجوازي على وجه التحديد ، تقدم الطبقة العاملة معاونتها في المسألة القومية . فالطبقة العاملة تؤيد البرجوازية تأييدا مشروطاً فقط " . غير أنه حتى عندما تقف الطبقة العاملة موقفاً مؤيدا للمطالب القومية تأييدا مشروطاً ، فإن هذا لا يعني إيمانها بالقومية منطلقاً للنضال ، ورابطة بين المناضلين ، أي لا يعني أن نضالها المشروط نضال في سبيل الأمة التي تنتمي إليها . لا  .

قال لينين : " بينما تعترف الطبقة العاملة بالمساواة في الحقوق بين الدول القومية ، تقدر أكثر من هذا كله ، وتضع فوق هذا كله ، الرابطة بين الطبقات العاملة في الأمم كلها ، وتقدر أي مطلب قومي ، وأي استقلال قومي ، من زاوية الصراع الطبقي للعمال " . ما الحل لو كان الصراع القومي متجاوزا مصالح العمال ؟ قال لينين ; " سيكون الأجراء مستقلين ، ويتطلب نجاح الصراع ضد الاستغلال أن تتحرر الطبقة العاملة من القومية . أن تكون على حيدة مطلقة في حرب السيادة القائمة بين البورجوازية " .

هذه هي " اللينينية " في المسألة القومية . محتفظة بأساسها الماركسي في الرابطة الطبقية الأممية وإدانة الروابط القومية ، مضيفة إليها كيفية استغلال الحركات القومية لخلق " أفضل الظروف للصراع الطبقي " ثم تحرير الطبقة العاملة من القومية والعودة بهم إلى الرابطة الأصيلة " بين الطبقات العاملة في الأمم كلها " ، حيث يستمد أي مطلب قومي حتى الاستقلال ـ قيمته من مدى ملاءمته للصراع الطبقي .

وقد حاول ستالين أن يصبغ الماركسية ـ اللينينية صبغة نظرية ، فتصدى فيما كتبه عن الماركسية والمسألة القومية " لتعريف الأمة فقال إنها " " جماعة محددة من الناس ، تكونت تاريخياً ؛ ذات لغة وأرض وحياة اقتصادية مشتركة ، وتكوين نفسي مشترك يتجسد في ثقافة مشتركة " . وهو تعريف لا بأس فيه لولا أن ستالين قد كرر ما قاله لينين عن الدول٠ القومية بعد ان صرفه إلى الأمة فقال في الكتاب ذاته : " ليست الأمة مقولة تاريخية فحسب ، بل هي مقولة تاريخية خاصة بمرحلة تاريخية محددة ، هي مرحلة تكون الرأسمالية ... فإن عملية تصفية الإقطاع ونمو الرأسمالية ، هي في الوقت ذاته عملية تكوين الناس في أمم .

وهكذا بعد ان كان لينين يكتفي بإدانة الدولة القومية قانعاً بمنع القوميات في الاتحاد السوفييتي من التطلع إلى دول قومية خاصة بها ، أدان ستالين القومية ذاتها . وبهذا المنطق سحق ستالين القوميات في الاتحاد السوفييتي .

فلما أن جاء المحدثون من الماركسيين ـ أعداء الستالينية ـ عادوا إلى التكتيك اللينيني فقالوا في " أسس الماركسية ـ اللينينية " : " في ظل النظام الشيوعي البدائي كانت العشيرة والقبيلة الشكلين الأساسيين للمجتمعات الإنسانية . وكان المميز الرئيسي الذي كان يميز أعضاء العشيرة الواحدة عن غيرهم ، أصلهم المشترك أي رابطة الدم بينهم . ومع تفتت النظام الشيوعي انتهى تدريجياً استقرار العشائر والقبائل وضعفت رابطة الدم . ولما أن اتحد عدد من القبائل في كيان واحد ظهرت القوميات . ولم يعد المنتمون إلى قومية واحدة مرتبطين برابطة القرابة . كانت الملامح المشتركة بينهم ( أي اللغة والأرض والثقافة ) ذات أصل تاريخي اجتماعي . ومع ذلك كانت الوحدة القومية غير مستقرة إلى حد كبير . ففي ظل النظام العبودي والإقطاع لم يكن من الممكن أن توجد الوحدة في الحياة الاقتصادية التي تعتبر الشرط الأساسي للوحدة الإقليمية واستقرار الثقافة المشتركة . إن المتطلبات الأولى اللازمة لتتحول القومية إلى أمة لم توجد إلا في عصر صعود الرأسمالية التي حطمت التجزئة الإقطاعية ، وقادت إلى تشكيل  سوق قومي واحد ... وفي الكتابات الماركسية ( لم يقولوا ستالين ... ) يقصد بالأمة عادة جماعة مستقرة من الناس تكونت تاريخيا ، قائمة على أساس من وحدة اللغة والأرض والحياة الاقتصادية ، وتكوين نفسي يتجسد في ثقافة مشتركة ".

لم يضف ، إذن ، الماركسيون الجدد شيئاً ذا قيمة إلى نظريتهم في القومية . لم تتطور الماركسية في هذه الجزئية ، ولا يزال الموقف الشيوعي مطابقا للموقف الماركسي ، تحدياً للذين ينتحلون الماركسية ويرفضون الشيوعية ، أو تحدياً لدعاة الماركسية المتطورة . كذلك لم يضف الماركسيون الجدد شيئاً ذا قيمة إلى التكتيك اللينيني . قالوا :

" ينتمي العمال إلى قوميات مختلفة ، وأجناس مختلفة ، ولكن انتماؤهم الأول يظل إلى الطبقة العاملة ، وهذا تحدده وحدة مصالحهم الأممية ، وأغراضهم ، ونظريتهم التي تتولى الصدارة لينزاح ما دونها من أوجه الاختلاف إلى الوراء . وإذ يتحقق العمال الواعون سياسياً من أن النضال القومي ، والانعزال القومي ، يضران المصالح الأممية للطبقة العاملة ، يحاربون كل أنواع التمييز القومي " . أما كيف يكون النضال القومي ضاراً بمصالح الطبقة العاملة فذلك ، كما قالوا ، لأن " خطر القومية الأول يكمن في أنها تلهي العمال عن الصراع ضد عدوهم الطبقي . لقد تضافر الزمان ، والرجعية البورجوازية ، على تخطيط مؤقت لعرقلة الصراع الطبقي للطبقة العاملة بإشعال المشاعر القومية . هذا بالإضافة إلى أن انتشار الأفكار القومية ، و الشوفانية ، يؤدي إلى تفكك وحدة الطبقة العاملة ، ويضر روابط التضامن ألأممي . وما لم تحارب القومية ، والشوفانية ، فإنها ستضعف حتماً حركة الطبقة العاملة " . فيجب إذن ألا ينسى العمال أن : " الحركة الشيوعية أممية في ذات جوهرها ، من حيث موقفها الموضوعي كحركة ذات نظرية واحدة ، وأهداف واحدة ، تحارب عدوا واحدا . غير ان حركة الطبقة العاملة ، التي هي أممية بطبيعتها ، تنمو على أسس قومية . وفي بعض الظروف قد يؤدي هذا إلى المعارضة المفتعلة للمصالح الأممية بالمصالح القومية . وقد يبدو للذين لم يحرروا أنفسهم من ضيق الأفق وقصر النظر القومي ، ان لبلادهم ظروفها الخاصة الاستثنائية ، وأن صراع الطبقة العاملة هنالك يجب أن يكون مختلفاً عما هو مطلوب في البلاد الأخرى " . ولينتبه الماركسيون إلى ٦ " أن خطر القومية يكون قوياً على وجه خاص عندما ينسى قادة الدولة " الأممية " ، ويتجهون إلى المبالغة في المميزات القومية ، ويغمضون أعينهم عن القوانين الاشتراكية العامة ، وعندما يفهمون مصالح بلدهم ، وحزبهم ، بعقلية ضيقة فيعارضون بها مصالح الشعوب الأخرى ٠ وقد حدث هذا في يوغوسلافيا ٠ وإزاء كل هذه المخاطر التي تتضمنها الحركات القومية ، يحدد الماركسيون موقفهم طبقا للتكتيك اللينيني : تأييد القومية واستغلالها للقضاء عليها . تلك وصية لينين الأولى ، كررها افاناسييف في كتابه " الفلسفة الماركسية " ، قال : " بينما يؤيد الحزب الماركسي صراع الشعوب المضطهدة في سبيل التحرر، يحاول أن يحرر العمال من تأثير القومية البورجوازية ، لأنها لا تتفق مع الوحدة الأممية للطبقة العاملة ، أي النظرية التي تتطلب تضامن العمال في العالم . فالحزب الماركسي يحارب فكرة القومية البورجوازية بالتركيز على دور الصراع الطبقي الحاسم في أية حركة اجتماعية ، وبالدعوة الى وحدة الطبقة العاملة في جميع البلاد . وبهذه الطريقة يدس بالتدريج فكرة الأممية العالمية في أدمغة العمال " .

لسنا في حاجة بعد هذا الى أن نملأ صفحات كثيرة تلخيصاً لمواقف الماركسيين من قضية الوحدة العربية ، تأييدا من واقعنا ـ وآلامنا ـ لما قلناه . وعلى الذين يبغونه أن يراجعوا تلك المواقف في سورية أو العراق أو الجزائر أو فلسطين ٠ غير أننا قد نكون في حاجة إلى التدليل على أن الماركسيين العرب يناورون طبقاً للتكتيك اللينيني ; تأييد القومية ثم استغلالها للقضاء عليها ، حتى لا تتحقق الوحدة ، أو الدولة القومية كما يسمونها ، وانهم في مناوراتهم تلك لا يفكرون بأنفسهم لأنفسهم ولكن يفكر لهم قادة الحركة الأممية للطبقة العاملة خارج الوطن العربي . فلنقرأ ما يقوله عنا ٣٩ مفكرا وعالما وفيلسوفاً سوفييتيا اشتركوا في تأليف كتاب أسس الماركسية ـ اللينينية " ، قالوا :

" في السنين الأخيرة برزت شعوب الشرق العربي إلى الصف الأول في الكفاح من أجل التحرر القومي بقيامها بهجوم شامل على مواقع الاستعمار ... إن كفاح العرب ضد الاستعمار وفي سبيل استقلالهم القومي ، ذو دلالة دولية بالغة تتجاوز أهمية العرب أنفسهم إلى المصير العام للسياسة الامبريالية والاستعمارية . والواقع أن الشرق الأوسط قد أصبح يلعب دوراً هاماً في الإستراتيجية الاقتصادية والسياسية والعسكرية للدول الاستعمارية الكبرى ، وخاصة بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية . فالشرق الأوسط مركز قواعد عسكرية أمريكية وبريطانية عديدة . وهناك أيضاً تحصل الاحتكارات الأجنبية على ملايين الأطنان من الزيت الرخيص سنوياً ، أو ما يعادل ريع إنتاج العالم تقريباً . ومن هنا نفهم أية ضربة أصابت الاستعماريين من كفاح حركة التحرر القومي العربي ، حيت هب العرب ليستردوا استقلالهم ، وليصبحوا سادة منابع الثروة الطبيعية في الشرق العربي . كانت تلك الضربة أبعد ما تكون توقعا ؛ إذ ان إدارة الاستعمار الأجنبي ، والإقطاع المحلي الذي يسانده الاستعمار ٤ قد أبقت الشعوب العربية في حالة تخلف اقتصادي شديد ، وأصبحت البلاد التي يسكنونها من أشد مناطق العالم فقرا . وقد ظن لاستعماريون أن الصراع من أجل ضرورات الحياة قد استنفذ طاقة العرب ، وان ظروف التخلف الشاملة ستحول بينهم وبين ان يهبوا وأن ينتظموا في حرب ضد الاستعمار " .

" وقد تبددت تلك الأوهام في مصر أولا ، حيث وضعت حركة الجيش ، بقيادة ضباط من ذوي العقليات القومية ، نهاية لحكم فاروق وبطانته من أنصار بريطانيا . وقد أممت الجمهورية المصرية قنال السويس ، وحطمت الحصار الذي فرضته الاحتكارات الاستعمارية ... الخ " .

" أحد مميزات حركة التحرر في الشرق الأوسط أنها تنمو وتتطور تحت شعار الوحدة العربية . وقد ولدت هذه الفكرة خلال الصراع ضد الاستعماريين ، وفي سبيل الاستقلال القومي وقرب هذا الشعوب العربية بعضها من بعض وكتعبير عن التضامن في الصراع ضد الاستعمار ، وكشكل للتعاون الأخوي ، والمساعدة المتبادلة بين الدول العربية ، لعبت وحدتهم دورا بناء كبيرا في كفاحهم في سبيل الاستقلال . وفكرة الوحدة مقبولة على وجه خاص لدى جماهير الشعب
العاملة التي تعاني من الاستغلال الرأسمالي ، كما تعاني من التخلف الاقتصادي والثقافي . وطالما احتفظ شعار الوحدة بسمته المضادة للاستعمار، ولم يهدف إلى ان يرفع دولا عربية فوق دول أخرى ، فإنه يحظى بتأييد كل القوى التقدمية والديمقراطية " .

" غير ان بعض التيارات الرجعية في العالم العربي تحاول أن تجعل من تلك الفكرة الشعبية مطية لأغراضها الخاصة . فالجماعات القومية المتظرفة تحاول أن تفسر شعار الوحدة كدعوة إلى وحدة الشعوب العربية كلها فورا حول أقوى الدول العربية بقصد إخضاعهم جميعا لحكومة واحدة " .

" وإنه لمن الواضح ان الوحدة ببن الدول مسألة بالغة التعقيد والدقة ، لا تحتمل التسرع أو الضغط ولا تنجح إلا إذا تحققت متطلبات موضوعية أولى لها . أما الوحدة التي تهدر حق الأمم في تقرير مصيرها ، وتفقد بها أمة حتى بعض مكاسبها الاجتماعية ، وحرياتها السياسية ، فإنها لا يمكن أن تنجح ولا تكون مفيدة " .

هذا رأيهم في الأمة العربية ، وفي الحركة القومية العربية ، وفي الوحدة العربية ، ولهم الرأي لا نسلبه حتى لو ردده هواة الماركسية الأصيلة أو هواة الماركسية المتطورة من العرب . إنما الذي يهمنا هنا الأساس" العلمي" الذي أقام عليه الماركسيون - عربا وغير عرب - رأيهم هذا في الوحدة العربية .

لقد أسمونا "عرياً " تمييزاً لنا عن غيرنا . وبعد ان وصلوا بنا إلى الحضيض الاقتصادي حيث " ظن الاستعماريون ان الصراع من أجل ضرورات الحياة " قد استنفذ طاقتنا ، إذا بالجماهير العربية لا تحدد مواقفها ، ولا بواعثها ، ولا غاياتها ، طبقاً لمكانها من أسلوب إنتاج الحياة المادية ، بل تهب في حرب ضد الاستعمار غايتها الوحدة ، التي اعترفوا بأنها مقبولة على وجه خاص لدى جماهير الشعب العاملة " وان هذا مميز للحركة العربية التحررية . إذن فثمة امة تناضل في
حركة قومية مقبولة من الجماهير العاملة ، غايتها الاستقلال والوحدة ، فعلى أي أساس من العلم " يريدون للوحدة أن تظل شعاراً فلا تتحقق إرادة الجماهير في أن تصبح دولة واحدة ؟ . يقول الماركسيون إن الجماعات القومية المتطرفة تحاول أن تفسر الوحدة على وجه يخضع الشعوب العربية جميعاً لحكومة واحدة . إذن كيف تكون الوحدة بغير حكومة واحدة ؟ . وما الذي يمنع أن يخضع العرب جميعا في ظل الوحدة لحكومة واحدة ؟ . يجيب الماركسيون بأن الوحدة تهدر حق الأمم في تقرير مصيرها . أية أمم ؟ هل هناك أمم عربية عدة ؟ من هم إذن العرب أصحاب " حركة التحرر القومي العربي " ، وكيف تكون حركة تحرر قومي عربي دون أن توجد القومية العربية التي تنتسب إليها ؟ ...

هكذا يتخبط الماركسيون ـ هنا وهناك ـ في فهم وتفسير حركة أمة في حالة تخلف اقتصادي شديد " ، توهم المستعمرون أن الجوع قد " استنفذ طاقتها " فهبت في حركة قومية عربية كانت " أبعد ما تكون توقعاً " ، فبددت أوهام المستعمرين وبرزت إلى " الصف الأول من اجل التحرر القومي " وشنت " حربا شاملة على مواقع الاستعمار" ، يميزها عن غيرها أنها " تنمو وتتطور تحت شعار الوحدة العربية " ، المقبولة " على وجه خاص من جماهير الشعب العاملة " .

كل هذا بالنسبة إلى الماركسيين عجب غير قابل للفهم ، لأن نظريتهم لا تعرف سوى الطبقية الأممية رابطة في النضال ، وسوى الصراع الطبقي ميداناً له ، وسوى علاقات الإنتاج مصدر للبواعث ، وسوى مصالح عمال الأمم جميعاً غاية للكفاح . وما لا تعرفه لا تفهمه . ولن يعرف الماركسيون ولن يفهموا " الأمة " و " الوحدة " ما لم يفطنوا أولا إلى قصور منهجهم الفكري في تفسير ما بجري تحت أنوفهم فيستبدلون به منهجا يعلمهم ما لا يعلمون . عندئذ لن يعرفوا ويفهموا الحركة القومية العربية فحسب ، بل سيعرفون ويفهمون أيضاً الأساس القومي العميق الذي يقوم عليه الصراع الدائر بين الأمة الصينية والاتحاد السوفييتي ، وسيعرفون ويفهمون أكثر من هذا لماذا لا تثق بهم الجماهير العربية ، فتتمزق صفوفهم تحت وطأة النضال القومي في سبيل التحرر والوحدة . وعندما يعرفون ويفهمون سيعجبون معنا مما قاله مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " من أنه : " بدون مساهمة الشيوعيين فإن نجاح التحرر والبعث القومي يكون غير معقول في أية بلد " .

وإلى أن يفطنوا فيعرفوا فيفهموا ، نمضي نحن إلى مزيد من المعرفة والفهم .

ـ 6 ـ

عندما عرفنا كيف يتطور اثنان عرفنا كيف ينمو المجتمع من الداخل متجها من الجزء إلى الكل ، ومن الخاص إلى العام ، ومن الحاجة إلى الغنى ، وعرفنا أنه في حركته محكوم بقانون الجدل ذاته الذي ينظم ويضبط حركة نموه وتطوره ، مبتدئاً بالمشكلة فالحل فالعمل ( الجدل الاجتماعي ) . والنقطة الأولى في التكوين الاجتماعي هي معرفة ما الذي جمع أول اثنين . لا شك في أنها الحاجة الأولى إلى حفظ النوع ، تغري بها الرغبة الجنسية التي تستلزم اجتماع اثنين ذكر وأنثى ، يحفظان النوع نسلا فيضاف إليهما ثالث ، فتوجد الأسرة ثم العائلة ثم السلالة .. الخ .

تلك وحدة الدم أو الأصل ، أو العرق ، تظل قائمة رباطاً ببن الناس يميزهم عن غيرهم ، حتى يتجاور التعدد على مجرى الزمان ما يميز كل الناس بأصلهم الواحد ، فتتوه الأنساب في الكثرة ، ونطغى على روابط الدم روابط اجتماعية أخرى . فوحدة الأصل هي الصورة الأولى للتمييز الاجتماعي ، وعندما ينمو المجتمع بالإضافة ، فتتوه الأنساب لا يعني هذا أن الدم أصبح ماء ، ولكن يعني أن كثيراً لا يستطيعون أن ينتسبوا إلى أصل واحد فتحل بينهم روابط أخرى أكثر تقدماً وشمولا ، أي متجاوزة الروابط العائلية ، مكملة ومحددة لها كما يحدد الكل الجزء ويكمله ، ولكن لا تلغيها . ففي ظل أية روابط جديدة ، اقتصادية ، أو اجتماعية ، أو سياسية ، تبقى رابطة الدم جامعة للأسرة الواحدة ، لا يملك الوالدان التحرر منها ؛ لآن أولادهم منهم ، وامتداد لحياتهم أنفسهم ، ولا يملك الأولاد التحرر منها ؛ لأن أحدا لم يختر والديه على ما يهوى، ولا اختار أقاربه على هواه ، ولكنها قوانين صارمة تبقي دم الأصول ساريا في دم الفروع تنقل إليهم بالوراثة بعضاً من مميزاتهم الفسيولوجية والفكرية والنفسية والمرضية في بعض الأوقات . وإذ يتكون المجتمع بالإضافة ، ينمو من الداخل عن طريق الاشتراك في المشكلات : الاشتراك في المعرفة ، والاشتراك في الرأي ، والاشتراك في العمل ، حلا للمشكلات المشتركة . أياً كان مضمون المشكلات وحلولها فإنها حصيلة مشاركة ، ولو كانت مشاركة اثنين حين اجتمعا على حاجتهما الأولى . والمشاركة تستلزم وحدة اللغة لإمكان تبادل المعرفة بالمشكلة . وتبادل الرأي في حلها . فوحدة اللغة شرط لأي مجتمع ، ونعي باللغة أوسع معانيها من أول الرموز والأصوات إلى الحروف والمقاطع والكلمات ، ثم اللغات التي نعرفها اليوم ، أي وسيلة نقل المعرفة والرأي من فرد إلى فرد . وقد قلنا من قبل عن تفاعل الإنسان مع المجتمع إن من حصيلته : " تلك الإضافة الرائعة ونعني بها اللغة ، التي تشكلت بها الأصوات رموزاً لمعاني مشتركة ، فحلت المشكلة الأولى التي طرحها المجتمع ، مشكلة المجتمع الواحد من ناحية وتعدد الناس فيه من ناحية أخرى . ولم تكن تلك إلا بداية تحرر بها الإنسان جزئياً من عزلته الطبيعية عن غيره ، وبعدها واجه مشكلات أخرى . فقد عرفنا أن المجتمع يتطور عن طريق المعرفة المشتركة ، والرأي المشترك والعمل المشترك وان ذلك قانون تطوره الحتمي . هذا الاشتراك الحتمي بين أفراد متعددين في مجتمع واحد فرض تنظيم نشاط الأفراد ، علماً وفكرا وعملا ، وإدارة جهودهم على وجه تتكامل به تلك الجهود ، فتصبح جهداً واحداً في مواجهة الظروف الواحدة . وكان لا بد لهذا التنظيم من جهاز يتولى إدارته فابتكر الإنسان حلا لتلك المشكلة ما أسميناه - أخيراً ـ الدولة . أي جهاز إدارة المصالح المشتركة ببن الناس في مجتمع ما على أسس القواعد التي يرتضونها ... قد تكون أداة هذا الجهاز الذي يدير وينسق ويردع ، الوالد في الأسرة أو الشيخ  في القبيلة ... الخ  " .

وبهذا تحددت عناصر التركيب الداخلي للمجتمعات الأولى : مجتمع ، له لغة وحدة ، يخضع لسلطة واحدة .

هذا التركيب الداخلي ، كان ملازماً لأية وحدة اجتماعية سواء أكانت قد جمعتها وحدة الدم ، أم وحدة الظروف . وهو إذ يكون ملازماً لأية وحدة اجتماعية فإنه لا يميزها عن وحدة اجتماعية أخرى لها بالضرورة ذات التركيب الداخلي ، إنما الذي يميز وحدة اجتماعية عن أخرى اختلاف مضمون التركيب الداخلي لكل منهما . فتتميز جماعة بلغتها عن جماعة أخرى، لها لغة أخرى، وتتميز جماعة بخضوعها لسلطة ( رب أسرة ، أو شيخ قبيلة ، أو كاهن .. الخ ) لا تخضع لهاً جماًعة أخرى لها سلطتها . ثم يزيد التمايز وضوحاً بما يضيفه التطور إلى التركيب الداخلي للجماًعة من حصيلة تفاعل الإنسان فيها مع مجتمعه المحدد ، أي بنوع المشكلات التي تواجهها كل جماًعة على حدة . ولما كانت المشكلات ذاتها تمثل الصراع بين الإنسان وظروفه ، فإن موقف كل مجتمع من الظروف الخاصة به يحدد نوع مشكلاته ، ويميز ما يخلقه حلا لتلك المشكلات (علماً وعقائد وعملا ) عن مجتمع أخر، له ظروفه المختلفة فمشكلاته المختلفة فثقافته المختلفة .

وقد سبق ان عرفئا ان قد أتى على الإنسان حين من الدهر استنفذه في الصراع مع الطبيعة من حوله والطبيعة فيه ، وقلنا : " كان الإنسان حينئذ يحاول ان يتحرر من قيود الطبيعة فيه : يريد ان يأكل ، وان يشرب ، وأن يحفظ حياته ، فيتحرر من آلام الجوع والعطش والمرض والموت . وكانت أدوات تحريره في الطبيعة من حوله تمنحه تلقائياً ما يشبع حاجته موزعة على الأرض في مصادر إنتاجها الطبيعي ، فكانت الهجرة والارتحال مظهرين متجددين لتاريخ الجماعات الأولى .

كانت الهجرة من مكان إلى آخر سعياً وراء المراعي ومصادر الرزق ، او درءاً للمخاطر، شكل صراع الإنسان في سبيل حريته من قيود الطبية في تكوينه ، وجدب الطبيعة من حوله . كانت تغييرا للامتداد التلقائي للظروف بهجر الظروف (الطبيعية) من مكان إلى ظروف ( طبيعية) في مكان آخر . وبالهجرة وخلالها التقاء بجماعات أخرى تسعى وراء الغاية ذاتها ، أي التحرر من فقر الطبيعة والاستيلاء على مصادر إنتاج أخرى ؛ ليتحرروا من الطبيعة فيهم . كل قبيل يسعى إلى حريته ، فيلتقيان على مصدر واحد ، فيقتتلان عليه ، وبغلبة أحدهما يدخل مرحلة من التطور بدأت بحل المشكلة الأولى ، فيستقر في الأرض ، ويبدأ في مواجهة المشكلات الجديدة التي تطرحها ظروفه الجديدة ، فيبتكر في الأرض التي استقر عليها ما يحل مشكلات جمع إنتاجها وتخزينه وتوزيعه وحراسته ، أدوات من فؤوس ودواب ومنازل ونبال وحراب .. الخ ؛ غايته من كل هذا أن يحافظ على حريته الجديدة . ويصوغ كل هذا نظماً وعادات وتقاليد . وقد يتوافر له الوقت الهادئ ، الذي يكون قد حل فيه المشكلات ، فيمجد نصره على الطبيعة والأعداء أغاني وألحانا ... إلى أن ينضب رزق الأرض فتبدأ مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة بهجرة جديدة يصاحبها صراع جديد ... كانت الجماعات والقبائل وحدات متماسكة داخلياً مقاتلة دائما " .

ذاك الطور القبلي من المجتمعات داخل المجموعة الإنسانية ، ينفرد كل مجتمع وحدة قبلية متميزة عن الوحدات القبلية الأخرى بأصلها الواحد ، ولغتها الواحدة وخضوعها سلطة واحدة ، ثم بنظمها وتقاليدها وثقافتها القبلية ٠ ولا يميزها عن غيرها الموقع الذي تعيش فيه لتبادل الموقع كراً وفراً خلال الصرع القبلي . كانت الأرض أوسع من ان تثير مشكلة اقتصادية فظلت تلك المجتمعات القبلية أحقاباً طويلة تحل مشكلاتها الاقتصادية عندما تثور بالهجرة . والهجرة المستمرة إفلات مستمر من التأثير المطرد للمواقع المحددة ، والعوامل الاقتصادية المتميزة على تركيب الجماعة .

من المهم هنا أن نلاحظ أن التكوين القبلي للمجتمعات حصيلة نمو وإضافة تحققت خلال حل مشكلات التطور الذي سبقه . فهو أكثر منه تقدماً ، وأكثر منه شمولا ، فيتضمنه  ولا يلغيه ، ولكن يضيف إليه ما يحدده كما يحدد الكل الجزء . فالمجتمع القبلي لم يلغ الأسرة فيه ، بل ظلت أسراً وبطوناً وأفخاذاً يقوم الدم فيها ربطة ببن ذوي الدم الواحد في حدود مشكلاتهم العائلية ، تضاف اليه الرابطة القبلية الواحدة فيما يتجاوز حدود الأسرة إلى القبيلة ، إضافة كانت حلا لمشكلة تحققت بها للأفراد حتى من الأسرة الواحدة حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها من مقدرة على التحرر . اللغة الواحدة بقيت كما كانت وسيلة للمعرفة ، ولتبادل الرأي ، ولكنها أصبحت أكثر غنى بما أضاف إليها الناس في المجتمع القبلي من معارف وآراء جديدة طورتها ، فتجاوزت لغة الأسر والبطون والعشائر، التي بقيت لهجاتها تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلفيها . ومثل هذا تحقق إضافة في العلم ، والمعرفة ، والعقائد ، والمقدرة على العمل ، فكسب به كل فرد من أية أسرة حريات أكثر مما كانت له وهو محصور في إمكانيات بني دمه . والإضافة لا تلغي المضاف إليه ولكن تكمله . حتى أرباب الأسر، ورؤساء العشائر، كانت القيادة الموحدة في القبيلة إضافة تحقق بها لأسرهم وعشائرهم من الحماية أكثر مما كانوا أنفسهم قادرين على تحقيقه . لم يلغ رئيس القبيلة أرباب الأسر ، ولكنه حمل عنهم عبء حل مشكلاتهم المشتركة مع غيرهم ، وبقي كل منهم رباً لأسرته . كل هذا سبق أن عرفنا أسسه عندما قلنا وأكدنا أن التطور إضافة ، والإضافة حرية جديدة ، وان التطور يتجه إلى مزيد من الإضافة لأنه تطور جدلي . وهو مهم لنفهم التماسك الاجتماعي سواء في الأسرة ، أو في القبيلة ، وضرورته لحل مشكلة الفرد في الأسرة أو في القبيلة . ومهم من ناحية أخرى لنفهم أن تطور المجتمعات من طور إلى طور يتم طبقاً لقوانين الجدل الحتمية خلال حل المشكلات ، فلا يملك أحد حرية إنكاره ، أو تجاهله ، ولا يجديه هذا شيئاً . ومهم أخيرا لنفهم أن تمزيق الرابطة الاجتماعية المتطورة للعودة إلى طور متخلف من الروابط الاجتماعية ، محاولة للانتكاس إلى الوراء ، وهو مستحيل التحقق . والأثر الوحيد لأية محاولة إلى غاية مستحيلة هو أن تعوق حل مشكلات المجتمع بما تستنفذه من جهد في الصراع من أجل التحرر من المعوقات ، ليخلص جهد المجتمع بعد هذا لمزيد من التطور . إنها تلك المحاولات التي أسميناها رجعية . فمحاوله تفتيت رباط الدم في الأسرة الواحدة لتحيلها أفراداً غرباء ، رجعية فاشلة لا تفعل شيئا سوى إثارة الصراع المعوق بين أفراد الأسرة الواحدة ، ولكنها لا تستطيع ان تلغي رابطة الدم . ومحاولة تفتيت الرباط القبلي لتتمزق القبائل عشائر، عود على بدء ، وهو جهد فاشل لا يفعل شيئاً سوى إثارة الصراع المعوق بين عشائر القبيلة الواحدة ، ولكنه لا يستطيع أن يلغي رابطة الأصل واللغة والتقاليد. 

قلنا هذا من الآن إيضاحا علميا غير متعصب تعصبا عائليا ولا تعصبا قبليا ، لأننا سنقول مثله فيما يلي عند الحديث عن القومية ، فلا يتهم عندئذ بأنه تعصب قومي . إنما هو تطبيق لمقياس علمي واحد على المجتمعات أياً كان طورها.

وقد انتهى الطور القبلي أو كاد ان ينتهي . فخلال الهجرة المقاتلة اهتدت بعض الجماعات والقبائل إلى الأرض الخصيبة وأودية الأنهار . عندئذ حلت المشكلة الأولى التي كانت تعالجها بالهجرة ، فلم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبيعة تلقائياً . قلنا : " بل استقرت في أودية الأنهار وابتكرت الزراعة ، أي الإنتاج الإرادي لثمار الأرض ، فأصبحت أكثر حرية من ذي قبل . لم يعد جدب الطبيعة قادرا على أن يكره الناس على تغيير منازلهم " . وبهذا بدأت الجماعات تتميز عن غيرها بإقامة كل منها في موقع جغرافي واحد خاص بها . وكان استقرار الجماعات القبلية الأولى أول عقبة في سبيل استمرار حركة الهجرة ؛ لأن الطريق كان مغلقاً بمجموعات بشرية لا تريد أن تتزحزح ، أو تسحق ، لتستقر القبائل الغازية مكانها ، فتحولت هجرة القبائل إلى أطراف من الأرض غير مسدودة بالبشر، حتى اصطدمت بحاجز الماء عند نهاية الأرض ، فاضطرت إلى أن تستقر وتكون لها أرضا خاصة بها ، حيت انتهى بها المطاف . لم يتم كل هذا ببن يوم وليلة ، ولكنها حقبة طويلة من تاريخ البشرية دفعت فيها أعدادا خيالية من الضحايا في الحروب القبلية قبل أن تستقر، وما استقر منها أولا إلا القليل ، ولا يزال بعض منها يهيم على وجهه . يكفي أن نعرف أنه عندما جمع الإسلام القبائل العربية أمة واحدة ، كانت بعض القبائل الأوروبية لا تزال تقتتل على الأرض لم تبلغ مرحلة الاستقرار بعد .

قلنا من قبل : " عندئذ افترق تاريخ الشعوب والجماعات " . ونقول الآن إن القبائل التي استقرت في منطقة جغرافية واحدة دخلت مرحلة تكوين جديدة ؛ مرحلة تكوين الأمم . أما القبائل التي لم تستقر فقد ظلت محاولاتها حروبا تشنها على أطراف الأرض المستقرة ، فتتقلص تارة ، وتتسع تارة أخرى ، وتثير بها حروباً مضادة مطاردة لها عن أطراف الأرض المستقرة ؛ ولكنها لن تلبث أن تستقر في أرض خاصة بها ، بعد أن يكون المستقرون أولا قد قطعوا أشواطاً في التطور والتكوين القومي .

ونحب أن نوضح هنا أن " المنطقة الجغرافية الواحدة " لا تعني " وحدة جغرافية المنطقة " ؛ فالأولى مقصود بها تحديد موقع الأمة بالنسبة إلى العالم المسكون ، وإلى غيرها من الأمم ، والثانية مقصود بها استواء الظواهر الجغرافية في منطقة ما . الأولى تحديد في المكان ، والثانية وصف لمكان . ولهذا نعرف كيف أن الأمة غير محتاجة إلى " التجانس المركب " في الطبيعة الذي لاحظه الدكتور جمال حمدان عند وصفه الوحدة التركيبية للعالم العربي من الناحية الطبيعية في كتابه " دراسات في العالم العربي .

ونعرف أيضاً الخلط الخائف الذي طبع رأي الأستاذ الحصري ، عندما أصر على أن وحدة الأرض غير لازمة لوجود الأمة . قال الأستاذ في كتابه " ما هي القومية " : " إن الرقعة الجغرافية أيضاً لا يمكن أن تعتبر من المقومات الأساسية... لأن التاريخ يعطينا أمثلة كثيرة وبليغة  على أن ، أولا .. اًن الرقعة الجغرافية التي تقطنها الأمة تتوسع وتتقلص بتوالي السنين . ثانيا أن الأمة الواحدة قد تنتقل من رقعة جغرافية إلى رقعة جغرافية ؛ أخرى . ثالثا .. أن الرقعة الجغرافية الواحدة قد تضم جماعات من أمم أخرى " . ويقول الأستاذ الحصري في كتابه " حول القومية العربية " : " كنت ظننت أن هذه القضايا لا تحتاج إلى المزيد من الشرح والإيضاح غير أني لاحظت بعد مدة أن بعض القراء لم يقتنع " ... ويحاول الأستاذ إقناعنا فيقول : " بديهي أن الإنسان من المخلوقات التي تعيش على الأرض ، لا في البحر ولا في الهواء . وطبيعي أن الجماعات التي تتألف من الأفراد البشرية أيضاً تعيش على الأرض لا في البحر ولا في الهواء . وذلك سواء أكانت الجماعة صغيرة ـ مثل الأسرة أو العشيرة - أم كبيرة - مثل الدولة او الأمة - ولكن المسألة ليست تقرير ما اذا كانت الأمة تعيش على الأرض أم تعيش في الهواء ، بل تقرير ما إذا كانت الأرض لا تميز الأمم بعضها عن بعض حتى يصح اعتبارها من مقومات الأمة الأساسية . وطبيعي أننا عندما نمتنع عن إدخال الأرض ببن مقومات الأمة الأساسية لا نكون قد أنكرنا أن الأمة تعيش على الأرض ، إنما نكون قد أظهرنا اعتقادنا بأن الأرض ليست من الأمور التي تميز الأمم بعضها عن بعض " .

ولما لاحظ الأستاذ الحصري أنه لم يصل إلى الإقناع التام استمر في الإيضاح فقال : " نحن نعلم أن الإنسان يأكل ويشرب وينام ويستيقظ ، ومع ذلك لا نعتبر الأكل والشرب والنوم واليقظة من خصائص الإنسان . نقول مثلا : إنه حيوان عاقل ، أو إنه حيوان ناطق ، أو إنه حيوان ذو يدين ومنتصب القامة ... الخ . ولكننا لا نقول إنه يأكل ويشرب وينام ويستيقظ ؛ لأننا نعرف أن هذه الصفات مما يشترك فيه الإنسان مع كثير من الحيوانات . إن موقفي - الكلام للأستاذ الحصري ـ من قضية الأمة والأرض المشتركة لا يختلف عن ذلك أبدا ؛ إني لا أنكر أن الأمة مثل جميع أنواع الجماعات البشرية ـ تعيش على الأرض ، ولكنني أنكر أن الأرض تميز الأمم بعضها عن بعض ، أو تميزها عن سائر أنواع الجماعات البشرية " .. والدليل على ان الرقعة الجغرافية الواحدة قد تضم جماعاًت من أمم مختلفة أن " في الإسكندرية تعيش جاليات ايطالية ، وجاليات يونانية ، دون ان تفقد قوميتها الايطالية او اليونانية . وفي مدينة الجزائر جماعات من الفرنسيين استوطنوها منذ أجيال عديدة ، ولدوا ونشأو وترعرعوا فيها ـ بجانب الجزائريين العرب ـ ومع ذلك فإنهم لا يزالون ينتسبون إلى الأمة الفرنسية ... الخ " . واذا كان البعض يذكرون الأرض المشتركة ـ أو الأرض المعلومة ، خلال تعريفهم الأمة فإنهم " يفعلون ذلك لأنهم لا يميزون الأمة عن الدولة تمييزا صريحا . وريما قالوا إن الآمة شيء والدولة شيء آخر، غير أنهم لم ينتهوا إلى مستلزمات هذا التمييز، ولم يتعمقوا في بحث نتائجه الطبيعية . لا شك في ان الأرض المشتركة ، والأرض المعلومة ، والأرض المحدودة بحدود من لوازم الدولة الأساسية ؛ لأن مفهوم الدولة يتضمن الحكم والإدارة والسيادة ، فلا بد أن يكون لذلك حدود معينة يرفرف عليها علم الدولة " . إلى هنا كان القول خلطاً ثم أصبح خلطاً خائفاً عندما قال الأستاذ : " لو سلمنا بوجوب اعتبار الأرض المشتركة ، او الأرض المعلومة من مقومات الأمة الأساسية ، لترتب علينا أن ننكر وجود الأمة العربية ، كما يترتب علينا أن نضفي صفة الأمة على أهالي كل دولة من الدول العربية على حدة . طبيعي أن النظر إلى الأمور بهذه النظرات مما يحبذه الإقليميون ولكن يأباه القوميون " .

وهو خلط واضح بين " الحياة على الأرض التي تميز الإنسان عن الأسماك مثلا ، وبين وحدة الموقع الجغرافي التي تميز الأمة العربية عن الآمة الفرنسية مثلا . وهو إذ ينكر أن الحياة على الأرض تميز الأمم بعضها عن بعض يكون قوله معقولا ، لأن كل الأمم تعيش على الأرض . ولكنه يصبح قولا غير مقبول عندما ينكر أن استقرار أمة على منطقة جغرافية خاصة بها من تلك الأرض يميزها عن غيرها من الأمم ، ولو في المكان ، فيقال مثلا إن الأمة الفرنسية تسكن غرب أوروبا ، والأمة اليابانية تقيم في أقصى شرق آسيا ، والأمة العربية تعيش فيما بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط .

غير أن الأمر أهم بكثير من مجرد التمييز في المكان . فنحن لا نقول إن أية جماعة من الناس لها لغة واحدة وتقيم على أرض واحدة ، قد أصبحت امة واحدة . ولكننا ننظر إلى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي إلى المستقبل . فالأمة تكوين تاريخي يبدأ بالاستقرار على الأرض ليتميز بهذا عن الطور القبلي الذي سبقه ، ثم يبدأ في التكوين تحكمه القوانين الكلية والقوانين النوعية معاً . فهو متغير متأثر بغيره مؤثر فيه ، ليس جامدا لنثبته في الزمان ونصف ملامحه ومميزاته ، وهو وجود يبدأ متميزا عما قبله نوعياً ، ولكنه لا يتوقف عن التطور والنمو ، طريقه إلى هذا قانونه النوعي ( الجدل ) فتتحدد معالمه ، ويتم تكوينه خلال مواجهة المشكلات الواحدة ، والمشاركة في حلها . وقد تكون أول مشكلة واجهتها المجتمعات القبلية المستقرة ، المحافظة على هذا الاستقرار ، أي حماية الأرض . فالقبائل لم تستقر كلها في وقت واحد ، بل بينما استقر بعضها ودخل مرحلة التكوين كأمة ، ظلت بعض المجتمعات القبلية مهاجرة مقاتلة معاً ، تغزو أطراف الأرض المستقرة وتنحسر عنها ، أو تغزوها فتقيم فيها مختلطة بسكانها الأصليين ، مبتدئين معاً مرحلة من الاستقرار لا تلبث ان تكون منهم أمة واحدة . وقد تثير حروب الغزاة من القبائل المجاورة حروبا مضادة يطارد فيها المستقرون القبائل المغيرة إلى مراكز تجمعها فيبيدون الناس ، أو يقهرونهم ، ويستولون على الأرض ويضمونها إلى أرتهم ، فتمتد أطراف الأمة إلى أقاليم أخرى يشملها جميعاً الاستقرار مقدمة لتكون أمة واحدة . وخلال تلك الحقبة التاريخية الطويلة كانت الأرض الواحدة غير ثابتة الحدود ، تتقلص حيناً وتمتد أحياناً ، يثير تقلصها وامتدادها حروباً شعواء هي ذاتها التعبير عن الصراع بين الماضي القبلي والمستقبل القومي ، لا ينتهي إلا بالاستقرار على أرض معينة . وتكون الظروف ذاتها التي طرحت مشكلة الاستقرار، وأثارت الصراع الدامي ، مصدر إمكانيات حل المشكلة كما عرفنا من الجدل . فخلال الصراع ضد الغزاة تنصهر المجتمعات القبلية التي استقرت متجاورة عن طريق إدراكها مشكلتها الواحدة في مواجهة العدو الواحد، وتبادلها الرأي في رده والقضاء عليه، ومساهمتها معاً في العمل الحربي أو المال اللازم لحماية الأرض التي تصبح مشتركة لأنها موضوع مشكلة مشتركة وعمل مشترك . وهكذا يساعد خطر الغزو والتهديد الأمم على تجاوزها بقايا التمايز القبلي - وتظل الظروف طارحة مشكلة الاستقرار ، مقدمة لها الحل ، حتى تحل ، بان تكون الأمة التي أسهم
الصراع المشترك دفاعاً عن الأرض المشتركة في إنضاج وحدتها القومية ، قد حصلت على حدود ثابتة للمنطقة الجغرافية التي استقرت عليها . وعندما تثبت الحدود الجغرافية مؤذنة بانتهاء الصراع تكون تلك الحدود ذاتها حدودا لما يليها من جماعات استقرت ، قابلة تلك الحدود إن كان قد خططها اتفاق السلام ، أو عاجزة عن تخطيها إن كانت قد امتدت إلى حواجز طبيعية من الجبال او البحار، فتدخل هي الأخرى مرحلة التكوين القومي . ومن هنا تكون الأرض الواحدة ، لا مميزاً في المكان فحسب ، ولكن مميز خارجي أيضاً ؛ نهايتها حدود بين الأمم المتجاورة ، ومميز في الطور الاجتماعي تتخطى به الأمم التكوين القبلي .

بهذا يكون قد توافر للأمة عنصران من عناصر الظروف الطبيعة ( المحددة ) والمجتمع (المحدد ) .

وقد قلنا من قبل : " إن تفاعل الإنسان مع الطبيعة ومع المجتمع ينتج حصيلة ( إنتاج زراعي وإنتاج صناعي وأدوات إنتاج ونقل ... الخ ونظم ومذاهب وعقائد وعادات وأخلاق .. الخ ) تتضمنهما وتتجاوزهما ، إذ هي حدود جدلية تصبح بمجرد وقوعها إضافة إليهما ذات نوعية متميزة عن الطبيعة والمجتمع كليهما ، بما تتضمنه من خلق الإنسان وإبداعه . والنظر إلى الإنسان في الطبيعة ، وفي المجتمع ، في الزمان ، نظر إلى ما يسمى الماضي أو التاريخ ، والذي نسميه الظروف ، ليكون شاملا الطبيعة والمجتمع والإنسان نفسه ، وما تحقق يتفاعل كل هذا على مدى الزمان الذي انقضى .. " . فإذا أضفنا إلى هذا ـ في طور التكوين القومي ـ أن الطبيعة قد تحددت بمنطقة جغرافية معينة ومتميزة عن غيرها ، وان المجتمع قد تحدد بشعب معين ومتميز عن غيره ، كان مؤدى هذا التحديد ـ وهو ما نعنيه بالاستقرار ـ أن حصيلة تفاعل الإنسان مع طبيعته ، ومع مجتمعه الخاص أمته ، ستكون متميزة بمضمونها عن غيرها ، سواء أكانت حصيلة تفاعل مع الطبيعة ( إنتاج زراعي أو صناعي أو أدوات إنتاج او نقل ... الخ) أو حصيلة تفاعل من المجتمع (نظم او مذاهب أو عقائد أو عادات أو أخلاق ... الخ ) . تكون كل امة قد تميزت خلال تطورها الجدلي حلأ للمشكلات المشتركة، بتراث فكري مشترك ومتميز عن غيره ، وتراث عقائدي مشترك ومتميز عن غيره ، وتراث حضاري مشترك ومتميز عن غيره . وباختصار تكون الأمة خلال استقرارها على الأرض الواحدة ، وحل مشكلاتها المشتركة قد كونت تاريخها الواحد . فتكمل لها بهذا وحدة الظروف . تصبح للإنسان المنتمي إليها ظروف متميزة عن ظروف إنسان آخر ينتمي إلى أمة أخرى .

وقد عرفنا من قبل " أن الظروف - بهذا المعنى ـ أحد النقيضين ( النقيض من الماضي ) اللذين يتصارعان في الإنسان ، وان الإنسان يكسب حريته عن طريق قهرها ( حل مشكلاتها ) وإلغاء امتدادها التلقائي في المستقبل . فالظروف على هذا الوجه أحد مصدري المشكلة وهي التي تقدم إمكانياًت حلها . من هنا يكون للظروف أثران ايجابيان في صنع التاريخ ( المقبل ) . فمن ناحية تحدد الظروف ـ في زمان معين ومكان معين - الغاية الموضوعية المؤقتة للصراع في سبيل الحرية .
ومن ناًحية أخرى تحدد إمكانيات انتصار الإنسان في هذا الصراع ، ومدى سرعة حل المشكلات التي طرحتها ... " ثم عرفنا أن النقيض الثاني هي المثل العليا التي يتطلع الإنسان إلى تحقيقها في المستقبل ، وانها تصور المستقبل خالياً من قيود الظروف الماضية ، وأنه أياً كان مضمون المستقبل فهو محدود بالظروف اذ هو نقيض لها ، وأن " المشكلة القابلة للحل والحل القابل للتحقيق هما المشكلة وحلها اللذان تحددهما تلك الحصيلة ( من الظروف ) كنقطة ابتداء ملزمة إلى المستقبل " .

هذا ما قلناه إيضاحاً لدور الظروف في تحديد المستقبل ، فهي نقطة البداية إليه كما يبدأ المستقبل من الماضي ، وهي مصدر بنائه ، فإذا أضفنا - هنا ـ أن الأمم تتميز عن غيرها من الأمم الأخرى بظروفها الخاصة ، أمكننا ان نقول إنها تتميز أيضاً بمستقبلها الخاص ٠ وبتعبير آخر ، إن كل أمة تتميز عن غيرها بوحدة التاريخ وبوحدة المصير .

وعندما يتحقق كل هذا لجماعة من الناس تكون قد أصبحت أمة مكتملة التكوين . وإذا كان لا بد من تعريف ، فالأمة ـ طبقاً لجدل الإنسان ـ مجموعة من الناس تجمعهم وحدة اللغة ، ووحدة الأرض ، ووحدة التاريخ ، ووحدة المصير .

ـ 7 ـ

نحب أن ننبه هنا إلى أننا نستعمل مقياسا علميا ، وليس تجميعا لملاحظات عن الظواهر التاريخية . فعندما نحدد عناصر الأمة ـ طبقا لجدل الإنسان ـ نعني أن أية مجموعة من الناس لا تتوافر لها العناصر ليست أمة ، وقد تكون أمة في دور التكوين في طريقها إلى أن تكتمل . لهذا لا يحتج على ما قلناه بأن ثمة أمماً لا تتوافر لها وحدة اللغة أو وحدة الأرض أو وحدة التاريخ أو وحدة المصير، لأن ردنا سيكون : إن تلك أمم غير مكتملة الوجود .

فحيث لا توجد لغة واحدة ، تنقطع صلة الناس ، فلا يتم الجدل الاجتماعي لا توجد معرفة واحدة بالمشكلات ولا بالآراء ، فلا يأتي المستقبل حلا واحدا للمشكلات التي تطرحها الظروف الطبيعية الواحدة ، فتفتقد من تكوين الأمة وحدة التاريخ . ولا يعني هذا أن تكون ثمة لغة وحيدة ، فقد توجد اللغات واللهجات المحلية كتراث قبلي ، ولكن لا بد من لغة واحدة يشترك فيها الجميع ولو لم تكن من أصل قومي ( الولايات المتحدة الأمريكية مثلا ) ليتحقق اشتراك الجميع في صنع الحياة المشتركة . ومع ذلك لا يمكن ان نتجاهل أنه بعد اختراع الطباعة وانتشار التعليم والترجمة ، أصبح الاتصال عن طريق لغة واحدة ميسراً لكثير من الأمم . وقد تستعمل بعض الأمم لغتين او ثلاثة في نقل المعرفة بالمشكلات المشتركة وحلولها ، وتنسيق العمل بين الجميع ( سويسرا مثلا ) .

وحيث لا توجد الأرض الواحدة ، لا توجد المشكلات الواحدة ولا البناء الواحد للحياة القومية . وهنا نفتقد من تكوين الأمة وحدة الأرض فوحدة التاريخ . فالأقليات التي تنتمي الى أصل واحد ، ولكنها مبعثرة جماعات في أمم أخرى ليست أمماً ، إذ لا أرض لها ولو كانت لها اللغة الواحدة ( الأكراد في العراق .. ) . إنها أقليات من الأمة التي تعيش على أرضها ، متميزة عن الأغلبية في أمتها ، بما تحمله من رواسب قبلية ، وقد تعاني هي ، وتعاني الأمة منها ذلك الانفصام التاريخي الذي يصاحب التكوين القومي .

وعلاج هذا الانفصام لا يكون بتمزيق الأرض الواحدة للاستئثار بجزء منها ، فتلك عودة إلى الربطة القبلية التي تخطاها التاريخ ، وتهديد للوجود الذي اكتمل ، لم يصنعه أحد على هواه ، بل صنعه التاريخ حلا لمشكلات كانت قائمة ، والتاريخ لا يمكن إلغاؤه . وإن كانت عودا إلى الرابطة العرقية ، أو الأصل الواحد ( القوميون السوريون ) ، أو إلى الرابطة الدينية الضيقة (اليهود في كل أنحاء العالم ) ، فهي كثر إمعاناً في الرجعية ؛ لأنها محاولة لتمزيق القومية الواحدة إلى وحدات اجتماعية على أساس روابط أكثر تخلفاً حتى من الروابط القبلية . أما إذا كانت عودا إلى الرابطة العرقية الدينية ، لا تهدف إلى تمزيق الأرض الواحدة للاستئثار بجزء منها فحسب ، بل إلى الإفلات من الأرض القومية واغتصاب أرض من أمة أخرى أيضاً ، فهي رجعية مجرمة . رجعية بالنسبة إلى الأمم التى ينتمي إليها المستبدلون بالرباط القومي الرباط العرقي أو الرباط الديني ، رجعية مجرمة بالنسبة إلى الأمة التي يريدون اغتصاب أرض منها يحلون على حساب وجودها ذاته مشكلة انفصامهم الرجعي عن اهمهم . وهكذا يفعل الصهيونيون فهم رجعيون في أممهم ، مجرمون في فلسطين .

إنما يكون علاج الانفصام بأن يؤخذ كما هو مشكلة داخلية في الأمة الواحدة تعوق نموها ، ولا بد من ان تحل بمزيد من الالتحام والاشتراك في صنع الحياة المشتركة ، عندئذ يكون الجهد المبذول جهدا تقدمياً ؛ لأنه تجاوز الأطوار المتخلفة إلى الطور القومي المتقدم ، ويكون قابلا للتحقيق ؛ لأنه ينطلق من المشكلة إلى حلها متفقاً مع التطور الجدلي لتاريخ المجتمعات .

وحيث لا يوجد التاريخ الواحد ، تكون الأمة في طور التكوين ، وتفتقد عندئذ كلا من التاريخ الواحد والمصير الواحد ، ولو كانت للجماعة التي تعيش على أرض واحدة ، لغة واحدة . وقد عرفنا التاريخ الواحد تراثا مما حققه الإنسان بتفاعله مع الطبيعة والمجتمع حلا لمشكلات مشتركة تطرحها ظروف مشتركة . ومثال هذا تلك الأمم التي دهمها الاستعمار وهي في دور التكوين فعوق نموها . إذ أن جوهر الاستعمار هو تسخير إمكانيات الظروف الطبيعية والبشرية في البلاد المحتلة او المستعمرة ، لا لحل مشكلاتها وتطوير حياتها وصنع تاريخها القومي ، ولكن لحل مشكلات الدول الغاصبة المستعمرة وتطوريها هي ، وصنع تاريخها القومي هي ، وهكذا تبقى البلاد الخاضعة للاستعمار محملة بعبء مشكلات ظروفها ، محرومة من إمكانيات حل تلك المشكلات .

وعن طريق القهر يشكل الجدل الاجتماعي ( الذي تم صنع التاريخ خلاله) في البلاد المقهورة طبقا لما يقتضيه الجدل الاجتماعي في الدول المتسلطة ، إضافة مغتصبة تزيد من مقدرتها الجدلية (مقدرتها على التطور) . وتعوق بالقدر ذاته مقدرة الشعوب المغلوبة على صنع تاريخها ، فتبدو في الطور القبلي لم تفارقه إلا قليلا . وبالرغم مما قد يكون لها من أرض واحدة ولغة واحدة ، تظل أمماً في دور التكوين يعوقها الاستعمار عن ان تكون مكتملة . وتبدو هذه الحقيقة واضحة تماماً ، بمجرد التحرر من الاستعمار، اذ تواجه الشعوب المتحررة حديثاً - البناء القومي مبتدئة من البداية أو بعدها بقليل ، محملة برواسب الطور القبلي او ما أكثر منه تخلفاً ، فيتخبط الناس فيها ويتناحرون ، ويقتل بعضهم بعضا كما كانت تفعل القبائل ، غافلين أولا : عن الإجرام الاستعماري الذي عوق نموهم الداخلي فلم يكتمل لهم الوجود القومي ، وغافلين ثانياً عن ان الاستعمار ذاته متربص بهم ، يأخذ من صراعهم الذي أبقى جذوره حجة مغلوطة ومغرضة للعودة إلى فرض قيوده عليهم . وقد ينزلق كثير ( من المتعلمين أو المتعالمين ) إلى إدانة المتخلفين على تخلفهم ؛ كأن الاستعمار قد ترك لهم فرصة تجاوز التخلف ، مقدمين بهذا إلى الاستعمار حجة فيما يدعيه ويزعمه . وقد ينزلق كثير من ( المثاليين ) إلى تجاهل الأسباب الموضوعية لما يلاحظونه من صراع داخلي في الشعوب المتحررة حديثاً ، بالدعوة المثالية إلي نبذ الأحقاد ، والتعاون الأخوي ، والوعظ الأخلاقي ... الخ . مفترضين من وحدة الأرض وحدة الأمة ، متجاهلين ان وجود الأمة الواحدة لا يكمل إلا بالتاريخ الواحد ، بصنع الحياة ذاتها . وطبقاً لجدل الإنسان لا يكون علاج الصراع الداخلي في الشعوب المتحررة حديثاً ، بتمزيق أرضها عودة إلى القبلية ، ولا بالوصاية المفروضة عليها عودة إلى التخلف ، ولا بإدانة المتصارعين واتهامهم ، ولكن بإدراك أن  الصراع تعبير عن مشكلة التكوين القومي الذي لم يكتمل . ويكون حل المشكلة بان يعوض العالم تلك الشعوب عما اغتصب منها ، إمكانيات تضاف إلى إمكانياتها ، لتبتي الحياة القومية بطاقات مضاعفة تدرك بها ما فاتها في أحقاب التخلف ، او على الأقل ، بالصبر عليها إلى أن تبني ، في ظل الحرية ، الأمة الواحدة مما توافر لها من إمكانيات الظروف، بدون ضيق بها وبدون اعتداء عليها . وأمامنا أمثلة رائعة لما تستطيع أن تفعله الأمم وهي في طور التكوين إذا أتيحت لها الحرية والصبر على التاريخ . ففي القارة الأمريكية اجتمع خليط من الناس لا يجمعه جنس ولا لغة ، بل حمله الاستعمار الأوروبي إلى قارة معزولة ، فانقسم عليها جماعات تفصلها حدود جغرافية او سياسية خططها  الاستعماريون أنفسهم . وعندما استقرت كل مجموعة على أرض واحدة ، بدأت في صنع تاريخها الواحد . كانت المشكلة الأولى التي اجتمع الناس على حلها ، طرد السادة الذين حملوهم إلى هناك حتى تبقى إمكانيات الظروف في الأرض الجديدة لحل مشكلاتها ، لا تعبر المحيطات إلى امم أخرى لتسهم بها في بناء مستقبلها على حساب غيرها . وبعد التحرر قضى سكان أمريكا فترة مروعة من التمزق والصراع والحروب الداخلية . وكانوا حتى خلال صراعهم يصنعون تاريخا متميزاً عن تاريخ غيرهم ، يدخلون به مرحلة التكوين القومي . وأمدهم التحرر من الاستعمار بالفرصة والوقت والطاقات التي ساعدت على سرعة التكوين القومي ، ولو أن اغلب تلك الأمم ، في أمريكا ، لم تكتمل نمواً بعد ، فلا تزال الولايات المتحدة الأمريكية - مثلا ـ أمة في طور التكوين إلى أن يزول منها التمييز العنصري على الأقل .

على هدي هذا كله نستطيع أن نفهم كثيرا من مظاهر الاضطراب والصراع الاجتماعي والسياسي الذي يبدو غير مفهوم في بعض الأمم المتحررة حديثاً ، او بعض الأمم في طور التكوين إنها في طور اجتماعي متخلف ، تحاول أن تستوي أمما مكتملة ، يقوم الصراع فيها بين الرجعية القبلية والتقدمية القومية . فلا تؤخذن مظاهر الصراع الاجتماعي في فترة التكوين القومي دلالة على ما يميز الأمم عن غيرها من الأطوار الاجتماعية المتخلفة بعد ان تكون قد تكونت أمماً .

ـ 8 ـ 

الأمة ، إذن ، تكوين اجتماعي يتم على أرض واحدة خلال صنع التاريخ - فهي وجود من صنع التاريخ . ولما كان التاريخ حصيلة التطور الجدلي الحتمي ، فإن الأمة التي تكونت غير قابلة للإلغاء ، بمعنى ألا حرية للإنسان في أن ينتمي إلى أمة معينة . وقد قلنا ، عندما حددنا الحريات طبقاً لجدل الإنسان : " إن الجدل الاجتماعي كأية حركة جدلية يقتضي لقيامه الوجود ثم الجدل . أي وجود المجتمع نفسه ، ثم تبادل المعرفة ، فتبادل الرأي ، ولا بد من ان يتم هذا لأن قانون الجدل قانون حتمي ومن هذه الحتمية يستمد الفرد في المجتمع حريات جديدة : هي حرية وجود المجتمع الذي ينتمي إليه ، وحرية تطوره . وترتيبها على هدي قانون الجدل يجعل من حرية وجود المجتمع شرطا للتطور الاجتماعي ، وحرية التطور الاجتماعي مكملة لوجوده ولا تلغيه . ولما كان الجدل الاجتماعي يشمل الجدل الفردي ، فإنه يتضمنه ولا يلغيه ، ولكن يحدده ، ومن هنا يتحدد مدى حريات الإنسان التي استمدها من كونه إنسانا في مجتمع . أي تتحدد الحريات الفردية بالحريات الاجتماعية ، ويموت الإنسان إن كان في موته حفاظ لوحدة المجتمع ووجوده " .

عندما يكون هذا المجتمع الذي تكلمنا عنه أمة كونها التاريخ ، فإن الإنسان فيها يستطيع أن يسهم في صنع مصيره القومي ، ولكنه لا يستطيع أن يلغي الماضي أو يغيره . لا يستطيع أن يلغي الوجود القومي . فقد قلنا ـ لا أدري كم مرة قلنا ـ إن : " الماضي بالنسبة إلى الإنسان مادي جامد غير متوقف عليه ، وغير قابل للتغيير، وبمجرد وقوعه يفلت من إمكانية الإلغاء " . آية هذا من الواقع أن أحداً لم يختر أمته ؛ فعندما وجد - ولم يكن في ذلك حراً - كان جزءاً من كل بحكم التطور الجدلي للمجتمعات خلال تاريخها . الإدراك المستقر لهذه الحتمية هو الذي يخلق تلك الحالة النفسية ، أو التكوين النفسي المشترك الذي لاحظه ستالين في تكوين الأمم . إنه شعور بالانتماء القومي لا يكاد يظهر تعبيرا أو حركة داخل الأمة ، ولكنه تعبير قوي عن وجود الآمة في الذات مميزا خاصاً للذين يعيشون في أمم أخرى ، يشعرون بانتمائهم) إلى أمتهم من غربة الضغط القومي في الأمم التي يعيشون في كنفها . وكلما امتد الوجود القومي وملأ الزمان تاريخاً من خلقه ، تحول الإدراك الذي أصبح شعور إلى استقرار نفسي يسمى حباً ، لا يظهر إلا بالاستفزاز المعتدي ، فإذا هو ثورة جارفة ، تكاد تبدو غير معقولة ، وهي العقل كله ؛ لأنها دفاع عن الوجود ذاته . والذين لا يعقلونها يقدمون التطور على الوجود ، واهمين في هذا ، لأن الوجود شرط التطور . ولهذا لا تقبل أية أمة في الأرض ان تكون ولاية مضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولو تحقق لها رخاء نيويورك . ولا تقبل أية أمة في الأرض أن تكون جمهورية مضافة إلى اتحاد الجمهوريات السوفييتية ولو تحققت لها قوة روسيا .

غير ان هذا الانتماء القومي لا يعني أن الرابطة القومية قد ألغت الروابط الداخلية ، بل هي تتضمنها وتحددها . فغي داخل الأمة الواحدة تبقى رابطة الدم مميزا للأسرة ، وتبقى الروابط المحلية مميزا للقرى والمدن والمناطق والأقاليم . وتصبح المميزات الداخلية مميزات لمصادر المشكلات وأنواعها ، فيسهم هذا التمييز في حلها بإمكانيات الكل الذي يشملها ، إضافة غنية إلى إمكانيات الأسر والقرى والمدن والمناطق والأقاليم . تكون القومية بالنسبة إليها إضافة تكملها وتهيئ لأفرادها من أمرهم يسرا كانوا غبر قادرين عليه . وتبقى تلك الروابط جزءاً من الرباط القومي الشامل ، وفى داخله ، غير متجاوزة هذا إلى أن تكون نعرة عائلية أو قبلية أو إقليمية مخربة ، تتحدى الوجود القومي لتفتقد بهذا التحدي إمكانيات مضافة إلى إمكانياتها الخاصة . ونعود هنا إلى ما قلناه عند الحديث عن الطور القبلي ونبهنا ـ حينئذ ـ إلى أننا سنقوله عند الحديث عن الأمم فلا يتهم بالتعصب القومي . إن التكوين القومي للمجتمعات حصيلة نمو وإضافة تحققت خلال الحل الجدلي لمشكلات الطور الاجتماعي الذي سبق القوميات ، فهو أكثر منه تقدما ، أي فيه من الحريات للإنسان أكثر مما كان . وهو أكثر منه شمولا فيتضمنه ولا يلغيه ، ولكن يضيف إليه ويحدده كما يحدد الكل الجزء . فكما ان المجتمع القبلي لم يلغ الأسرة فيه ، بل ظلت أسرا وبطوناً وأفخاذا ، يقوم الدم فيها رابطة مميزة بين ذوي الدم الواحد ، بقيت الأسر في الأمة الواحدة وأضيفت إليها الروابط المحلية والإقليمية فيما يتجاوز التمييز العائلي ، تمييزا للخلف المستقر للجماعات القبلية قرى ومدنا ومناطق وأقاليم . ثم أضيفت إليها الرابطة القومية إضافة كانت حلا لمشكلات الأسر والأقاليم ذاتها ، وتحققت بها للأفراد من الأسر ومن الأقاليم حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها ، أو الروابط المحلية وحدها . اللغة الواحدة بقيت كما كانت من قبل وسيلة مشتركة لتبادل المعرفة وتبادل الرأي ؛ وأصبحت أكثر غنى بما أضاف إليها الناس في المجتمع القومي من معارف وآراء جديدة ، طورتها فتجاوزت لغة الأسر والأقاليم ، التي بقيت لهجاتها تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق إضافة في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل ؛ فكسب به كل فرد من أية أسرة ، وأي إقليم ، علماً وثقافة وحريات أكثر مما كان له وهو محصور في إمكانيات بني دمه أو عشيرته أو إقليمه . والإضافة لا تلغي المضاف إليه ولكن تكمله تغنيه . حتى أرباب الأسر ورؤساء العشائر وحكام الأقاليم ؛ كانت الدولة القومية إضافة مدعمة لسلطاتهم ؛ تحقق بها للناس في الأسر والمناطق والأقاليم من الحماية والمقدرة على التطور أكثر مما كانوا أنفسهم قادرين على تحقيقه لهم ، لم تلغ الدولة القومية أرباب الأسر أو حكام الإدارات الإقليمية ؛ ولكنها حملت عنهم عبء حل المشكلات المشتركة ؛ مسخرة إمكانيات الكل لتطور الكل والأجزاء معاً . كل هذا سبق أن عرفنا أسسه عندما قلنا وأكدنا ونؤكد مرة أخرى ان التطور - طبقاً لجدل الإنسان ـ إضافة ، والإضافة حرية جديدة ، وان التطور يتجه إلى مزيد من الإضافة ( مزيد من الحرية ) لأن التطور جدلي .

وهذا مهم لنفهم أن التمايز الاجتماعي على مستوى الأسر ، أو على مستوى الأقاليم ، لا ينفي الرابطة القومية ، ولا يلغي الوجود القومي . ومهم من ناحية أخرى لنفهم أن تمزيق الرابطة الاجتماعية المتطورة للعودة إلى طور متخلف من الروابط الاجتماعية محاولة انتكاس إلى الوراء ، وهي محاولة فاشلة لأن الماضي لا يعود . والأثر الوحيد لأية محاولة مستحيلة التحقق أن تعوق حل مشكلات المجتمع وتطوره ، بما تستنفذه من جهد في الصراع من أجل التحرر من المعوقات ، قبل أن يخلص جهد المجتمع أداة فذة إلى مزيد من حرية الإنسان فيه . إنها تلك المحاولات التي
أسميناها رجعية . فكما أن محاولة تفتيت رباط الدم في الأسرة لتحيلها أفرادا غرباء رجعية لا تفعل شيئاً سوى إثارة الصراع المعوق بين أفراد الأسرة الواحدة ولكنها لا تستطيع أن تلغي رابطة الدم ، ومحاولة تفتيت الرباط القبلي لتتمزق القبائل أسرا محاولة عود على بدء لا تفعل شيئا سوى إثارة الصراع المعوق ببن عشائر القبيلة الواحدة ، ولكنها لا تستطيع أن تلغي رابطة الأصل واللغة والتقاليد ، كذلك محاولة تفتيت الرباط القومي لتتمزق الأمة أقاليم محاولة رجعية  فاشلة ليس لها من أثر سوى إثارة الصراع المعوق بين الأقاليم في الأمة الواحدة ، ولكنها لا تستطيع أن تلغي الرابطة القومية .

إذا بدا هذا التكرار مملا ، فنحن مصرون عليه ، علّه ان يعلم الذين لا يعلمهم إلا التكرار .

ـ 9 ـ

عندما يتوافر للأمة التاريخ الواحد ، يكون لها المصير الواحد . ولسنا في حاجة إلى مزيد من التكرار لنعيد ما قلناه عن الماضي والمستقبل كنقيضين في التطور الجدلي ، وعلاقتهما المتبادلة في بناء تاريخ المجتمعات . فقد عرفنا أن الظروف ( التاريخ ) هي مصدر بناء المستقبل (المصير) .

أجدى من هذا ان نواجه مشكلة العلاقة بين الأمة والدولة ؛ إذ الدولة جهاز تحقيق المصير.

قلنا ونحن نطبق جدل الإنسان على تطور المجتمعات : " عرفنا ان المجتمع يتطور عن طريق المعرفة المشتركة ، والرأي المشترك ، والعمل المشترك ، وأن ذلك قانون تطوره الحتمي . هذا الاشتراك الحتمي بين أفراد متعددين في مجتمع واحد فرض تنظيم نشاط الأفراد ، علماً وفكرا وعملا ، وإدارة جهودهم على وجه تتكامل به تلك الجهود ، فتصبح جهدا واحدا في مواجهة الظروف الواحدة ، وكان لا بد لهذا التنظيم من جهاز يتولى إدارته ، فابتكر الإنسان حلا لتلك المشكلة ما أسميناه ـ أخيرا ـ الدولة ، أي جهاز إدارة المصالح المشتركة بين الناس في مجتمع ما ..
ثم أننا قد عرفنا أن المجتمع قد يخلق الصراع الاجتماعي بين الأفراد على مستوى امتداده الأفقي ، وبين الفئات والجماعات على مستوى امتداده الرأسي ، وبين المتخلفين والمتقدمين على مستوى تطوره إلى المستقبل . وعرفنا ما يؤدي إليه الصراع الاجتماعي من تخلف نتيجة لدوره المعوق للجدل الاجتماعي . لهذا خول ذلك الجهاز منذ أن وجد سلطة الردع ليفرض حل الأغلبية على الأقلية  المتمردة أفرادا أو جماعات . قد تكون أداة هذا الجهاز الذي يدير وينسق ويردع ، الوالد في الأسرة أو الشيخ في القبيلة ، أو الكاهن ، او الأمير، أو الحكومة ، وقد يكون مصدر توليته الأمر في المجتمع وضعه العائلي كقرينة على عدله ، أو سنه كقرينة على حكمته ، أو شجاعته كقرينة على قدرته ، أو انتخابه من الصفوة أو من المجتمع انتخابا مباشرا أو غير مباشر؛ وقد يسمى نظام حكمه قبلياً أو ملكيا أو جمهورياً ، وقد يطبق من القواعد والنظم ما يسمى إقطاعيا أو رأسماليا أو اشتراكياً ، وقد يكون أسلوبه في الردع الطرد من الجماعة أو الإعدام شنقاً .. الخ . غير أن هذا كله لا يغير طبيعته . فليست الدولة التي يزعمون ؛ انها لم تنشأ ، بما لها من سلطة رادعة ، إلا حديثا ولحساب المالكين ضد الذين لا يملكون ، إلا المسمى الأخير من كل أولئك الذين سبقوها إلى سلطة الإدارة والردع . وذلك لأنه مهما اختلف شكل تلك السلطة ، ومن يتولاها ، فإن وجودها حل لمشكلة طرحها ويطرحها المجتمع بوجوده ذاته ، وقد أضيفت إليه نظاماً مخلوقاً سيظل قائماً ما دام المجتمع واحدا والأفراد متعددين ، وما دام الإنسان لا يوجد إلا في مجتمع والمجتمع لا يوجد إلا من بني الإنسان . ستظل قائمة كسلطة إدارة للمصالح المشتركة ، وتلك مهمة باقية ببقاء المجتمعات ، وهي مبرر وجودها أياً كان شكل المجتمع ..."

وقد عرفنا الآن من أشكال المجتمعات ما لم نكن قد عرضنا له عندما قلنا ما قلنا تحديدا لمفهوم الدولة على ضوء جدل الإنسان ، فأصبح ممكناً ان نقول إن رب الأسرة كان جهاز الإدارة والردع في المجتمع العائلي ، وإن شيخ القبيلة كان جهاز الإدارة والردع في المجتمع القبلي ، وإن الدولة هي جهاز الإدارة والردع في المجتمع القومي . كل مجتمع من هذه الأطوار كانت له وحدة الظروف ، أي وحدة المشكلات ، وكان حل المشكلات ذاتها ، وبناء المستقبل حلا لها ( تحقيق المصير ) ، يقتضي الاشتراك في المعرفة وفي الرأي وفي العمل ( الجدل الاجتماعي ) ، وكان الجدل الاجتماعي يقتضي حل مشكلة أولى مشتركة : تعدد الأفراد في كل واحد . كان حلها ان تكون ثمة سلطة واحدة تنفذ الحل الواحد للمشكلات الواحدة الني طرحتها الظروف الواحدة . لم يوجد في أسرة دبان منفصلان لكل منهما ذات الصلة . ولم يوجد في قبيلة شيخان منفصلان لكل منهما الرأي الأخير . وحيثما وجد هذا أو ذاك تمزقت الأسر والقبائل أفرادا وشيعا يصارع بعضها بعضاً إلى أن تعود إلى السلطة الواحدة ، أو تقع فريسة لمن لهم الأداة الواحدة لتنفيذ رأيهم الواحد ٠ إنها ملاحظة تاريخية يفسرها جدل الإنسان . قلنا : " في كل مكان أتيحت الفرصة لتأكيد حتمية القانون العلمي قلنا إن جدل الإنسان قانون حتمي ، وإن الجدل الاجتماعي هو القانون الحتمي لتطور المجتمعات ، وإن مقتضى الحتمية أن الإنسان لا يتطور ، ولا تتحقق حريته ، عن غير طريق جدل الإنسان ، وان المجتمعات لا تتطور ، ولا تتحقق حرية الناس فيها ، عن غير طريق الجدل الاجتماعي . فإن ظلت المشكلات معلقة بدون حل ، ولم يتم التطور في زمانه ، فمعنى هذا أن شروط التطور الجدلي لم تتحقق . ولما كان جدل الإنسان قانوناً حتمياً للتطور بالنسبة إلى الفرد وإلى المجتمع ، ففي أي رمان معين أو مكان معين لا يكون ثمة إلا حل واحد صحيح للمشكلة الواحدة التي تطرحها الظروف الواحدة سواء أكانت مشكلة فردية أم جماعية أم مشتركة . وهذا يفرض اتساق الجدل الفردي مع الجدل الاجتماعي لإمكان حل المشكلات أياً كان نوعها أو شمولها أو حدتها " .

ومؤدى هذا أنه في أي زمان معين في مجتمع ذي ظروف واحدة ( تاريخ واحد ) ليس ثمة إلا حل صحيح واحد ( مصير واحد ) للمشكلات الفردية المشتركة ، وان مشكلات الأفراد والجماعات في المجتمع الواحد ، ومشكلة الأجزاء في الكل الواحد ، لها حل موضوعي واحد : ليست متناقضة ، ولا متعارضة ، ما دامت متسقة مع الحل المشترك الذي يفرضه الجدل الاجتماعي ، شاملا ومتجاوزا الحلول الفردية للمشكلات الفردية ، وإلا انقلبت صراعا اجتماعياً معوقا لتحقيق المصير الواحد ، بالنسبة إلى الكل والأجزاء معاً . لا يمكن ان يتحقق هذا الحل الواحد الصحيح إلا بجهاز إدارة واحد يضع كل إمكانيات الظروف الواحدة لحل كل المشكلات التي طرحتها سواء أكانت مشكلات فردية أم جزئية أم شاملة .

لهذا فإن وجود الأمة الواحدة يفرض أن تكون لها الدولة القومية الواحدة ، جهازا لتحقيق المصير الواحد . وفى المصير الواحد حل مشكلات الكل والأجزاء معاً . بل إن مشكلات الأفراد والأجزاء في الأمة الواحدة ، لا يمكن ، بل يستحيل ـ علمياً وطبقاً لجدل الإنسان ـ أن تجد حلها التقدمي السليم إلا في ظل الدولة القومية الواحدة . فإن وجدت الدول المتعددة في الأمة الواحدة ، فلن تعود بها قبائل لأن الماضي لا يعود ، ولكن تمزقها أقاليم يصارع بعضها بعضا إلى ان تعود إلى الوحدة ، أو تقع فريسة لمن لهم الأداة الواحدة لتنفيذ رأيهم الواحد . ولم يكذب التاريخ هذا أبدا ، فكلما اكتمل نمو الأمة حققت بإرادتها الدولة القومية . أما لماذا جاءت الوحدة السياسية في أخر مراحل نمو الأمة وعند اكتمالها ، فيكفي إجابة أن ترجع إلى ترتيب حركة التطور في قانون الجدل ، لنجد أن حل المشكلات لا يأتي إلا بعد ان تثور . وقد بدأت الأمم في التكوين بعد أن حلت مشكلة الهجرة بالاستقرار . وعندما استقرت ، داخلة بهذا طور التكوين القومي ، كانت تتضمن وحدات تكوينها السابق أسرا استقرت فأصبحت قرى ، وقبائل استقرت فأصبحت مناطق وأقاليم . وظلت على هذا إلى أن أصبحت التجزئة مشكلة ، يعوق تعدد السلطات فيها حل المشكلات التي تطرحها الظروف الواحدة ، فحلت ( بعد صراع دام في كثير من الأوقات ) بالوحدة السياسية . بالدولة القومية .

وكما قلنا إن الوجود القومي ـ طبقاً لجدل الإنسان ـ لا يلغي الروابط العائلية والمحلية والإقليمية ، بل يشملها ، ويكملها ، إضافة لمقدرتها على التطور، ويحددها كما يحدد الكل الجزء ، نقول إن الدولة القومية ـ طبقاً لجدل الإنسان ـ لا تلغي الإدارات المحلية والإقليمية ، ولكن تشملها وتكملها إضافة لمقدرتها على التقدم إلى مزيد من الحرية ، وتحددها كما تتحدد الأجزاء بالكل الواحد .

ـ 10 ـ     

إذا كان وجود الأمة يحتم الوحدة السياسية ، فإن اصطناع وحدة سياسية لا يعني وجود أمة ، لأن اصطناع حل لا يعني قيام مشكلة . ولا يمكن ـ طبقا لجدل الإنسان ـ أن تقوم الدولة الواحدة على غير أساس قومي نتيجة للتطور الجدلي الحر . فأينما وجدت الدول غير القومية ، كانت نتيجة للحصر الجغرافي ، أو الحصر السياسي المفروض قسراً ـ طبيعياً او سياسياً ـ على رعايا الدولة الواحدة . ومن أمثلة الحصر الجغرافي المجموعات البشرية التي تعيش عادة على الأرض الفاصلة جغرافياً ببن أمم متجاورة ، ومنها ما يسمى الأمة السويسرية ، حيث امتدت الأمم الفرنسية والألمانية والإيطالية ، فتركت فيما بينها منطقة جغرافية محصورة يبن حدودها ، فيها خليط من الأمم الثلاثة يصنع تاريخه القومي منذ أن حصر إلى أن يتم تكوينه أمة واحدة . ومن أمثلة الحصر السياسي تلك التقسيمات التي فرضها الغالبون بعد الحرب العالمية الأولى ، ولا يزال بعضها قائماً ، حيت قسمت المجموعات الإنسانية دولا ذات حدود سياسية ، تحصر بينها مجموعات من خليط قومي ، أو تمزق أمة واحدة دولا متعددة ( الأمة العربية مثلا ) بحجة " توازن القوى " ببن الدول القومية المنتصرة . إنها كلها دول مفروضة ، يختلف أثرها طبقاً لمدى ملاءمتها للوحدة القومية ، واتفاقها مع التطور الجدلي من التجزئة إلى الشمول . فالدول التي قامت على تجميع قوميات متساوية في الحقوق بحيث لا تفقد بها أية قومية منها وحدة الدولة ، وإن كانت الدولة الواحدة مشتركة بينها وبين قوميات أخرى ، قد تصنع القوميات في كنفها تاريخها المشترك وتتحول بهذا إلى أمة واحدة ، وهو ما حدث بين الاسكتلنديين والانجليز في انجلترا ، وما يحدث حالياً في الاتحاد السوفييتي وفي اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية . أما الدول التي قامت على تمزيق أمم تم تكوينها كما حدث في الأمة العربية وكما يحدث حاليا في كوريا وفيتنام وألمانيا ، فمحاولات فاشلة للعودة إلى الوراء لا بد من أن تنتهي بتحطيم الدول المصطنعة ليلتئم الوجود القومي في ظل الدولة القومية الواحدة . فتجزئة الأمة الواحدة إلى دول عدة ، يجرد تلك الدول من المبررات العلمية لوجودها ، ويكشفها إطاراً مصنوعاً على غير ما يقتضيه تطور الأمة ، ومفروضاً على إرادتها ، لا بد ان ينفجر أو يتمزق ، لتعود للأمة الواحدة دولتها القومية الواحدة ، التي تقود تاريخها الواحد ، إلى مصيرها الواحد . هذا حتم . وكل تعويق لما هو محتوم جهد فاشل ، لا يفعل شيئاً سوى إثارة الصراع المعوق . وقد زلزل الصراع القومي ضد الدول المصطنعة تاريخ أوروبا المعاصر ، وكان سببا من أسباب الحرب العالمية الثانية . فلا تؤخذن إذن ـ الدول المصنوعة على هوى القاهرين وطبقاً لمصالحهم ، دلالة على علاقة الأمة بالدولة . فالمرض وإن وقع لا يساوي الصحة . و الصراع الاجتماعي ، وإن وجدت مبرراته ، لا يبرر نفي الجدل الاجتماعي كطريق علمي وحيد إلى التطور . كذلك لا ينفي وجود دول قائمة على غير أساس قومي أن الدولة القومية هي السبيل العلمي الوحيد إلى الحرية .

ـ 11 ـ

كما تكلمنا من قبل عن الإنسان الفرد ، ثم قلنا إنه غير موجود إلا في مجتمع ، نقول هنا إن الأمة المفردة غير موجودة إلا كوحدة داخل المجتمع الإنساني ، وجود الجزء في الكل . وقد سبق أن حدد لنا جدل الإنسان العلاقة بين وجود الجزء ووجود الكل ، وعرفنا ان وجود الكل يشمل وجود الجزء ولا يلغيه بل يحدده إذ هو شرط وجوده . كذلك يشمل وجود المجتمع الإنساني الوجود القومي ، ولا يلغيه ، ولكن يحدده . فكل ممارسة لحرية الوجود القومي تمس وجود المجتمع الإنساني ليست حرية بل عدوانا .

والوجود القومي في مواجهة باقي القوميات - داخل المجتمع الإنساني - مجرد حق في الوجود ، لا يتضمن أية حرية ، أو أي حق في العدوان على غيره من الأمم . فالقومية - طبقا لجدل الإنسان ـ وجود خاص ، وليست تعدياً على وجود الآخرين . وهي إذ تكون حقا تتضمن التزاما على غيرها باحترام وجودها ، ولهذا فهي حصانة ضد الاعتداء الخارجي والتخريب الداخلي .

على ضوء هذا تتحدد المواقف ، لا طبقاً للأهواء ، ولا تعصبا ، ولكن طبقاً لمقياس علمي ، يعلمنا أن الوحدة تقدم وضرورة تمليها قوانين التطور، وأنها خصوبة وغنى ومقدرة مضاعفة على حل مشكلات الأجزاء . إنها الحرية . والتجزئة رجعية فاشلة ؛ لأنها تقف ضد ما تحتمه قوانين التطور . وهي إفقار وتخريب بما تتضمنه من بقاء المشكلات قائمه بدون حل . إنها العبودية .

 

***

ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق