مخاطر الإقليمية في ليبيا مثلا ..
د.عصمت سيف الدولة .
جريدة السفير – الاثنان 7 -7 –
1975 .
نحن نضرب ليبيا
مثلا في هذا الحديث عن مخاطر الإقليمية في ليبيا لأسباب عدة :
السبب
الأول هو ان ليبيا "الدولة"
تحكمها قيادة قومية المنطلقات وحدوية الأهداف تتمثل في مجلس قيادة الثورة وقائدها
. وكلهم ، المجلس والقائد ، كانوا ولا يزالون جزءا من تنظيم ثوري قومي المنطلقات
وحدوي الأهداف هو تنظيم "الضباط الأحرار الوحدويين" الذي فجر ثورة
الفاتح من سبتمبر . ومنذ الفاتح من سبتمبر 1969 يفرز الشعب العربي في ليبيا طلائع
متزايدة من الشباب تحيط بالقيادة وتلتقي بها التقاء عقائديا خالصا ، التقاء على
المنطلقات القومية وعلى الأهداف الوحدوية
معا ، وتلك هي الرابطة الوثيقة الوحيدة ، التي يلتقى عليها العقائديون . ان عملية
الفرز هذه ، أعني فرز طلائع من الشباب القومي الوحدوي ، لا تزال مستمرة ، يساعدها
مناخ عارم من الديمقراطية الشعبية "المباشرة" البسيطة غير المعقدة
"بيروقراطيا" بعد ، لشعب "بدوي" الأصل لا يحسب أي واحد فيه
أنه أقل أقل درجة من أي واحد اخر ، فتبقى أساليب الحوار بيت الحاكمين والمحكومين
على مستوى "الندية" المفترضة حضاريا وتكاد تجعل من الولاء الشخصي عارا
شخصيا . ان هذا النمط من الديمقراطية البسيطة المباشرة لا تنفرد به ليبيا ، بل انه
متوفر في كل مجتمع لم يغادر مغادرة كاملة تراثه وتقاليده القبلية ..
اذا أضفنا الى
هذا ان الانتماء القومي الى الأمة العربية مسلم تاريخيا وحضاريا وثقافيا ونفسيا في
الشعب العربي في ليبيا بحيث لا يحتاج الأمر الى اثبات أو نفي ، مثله في هذا مثل
ملايين الفلاحين في مصر العربية الذين لا يكادون يصدقون أن انتماءهم العربي يمكن
أن يكون محل سؤال وجواب ، أدركنا أن عملية فرز الطلائع القومية الوحدوية في ليبيا
تكاد تكون تلقائية . لا تواجه عقبات لا يمكن تخطيها ولا تحتاج الى من يفرزها من
جماهير شعب لا تمثل الطلائع بالنسبة اليه الا مؤشرات واعية الى ماهيته العربية
وانتمائه القومي الراسخ .
ولما كانت
الإقليمية لا تشكل ، ولا يمكن تشكل ، خطرا على الاقليمين ، لأنها مستنقعهم الذي لا
يستطيعون الحياة الا في مياهه الاسنة ، وصيغتهم الضيقة المنسجمة مع رؤيتهم القصيرة
، فان ليبيا الوحدوية هب التي تصلح مثلا نضربه لمخاطر الإقليمية . حيث لا تتضح تلك
المخاطر الا في مواجهة نقيضها القومي حيث يكون نقيضها القومي واضحا أيضا .
فرز القوى الإقليمية :
السبب
الثاني هو أن ما يجري الان في ليبيا ، كما
يفرز طلائع قومية وحدوية متنامية ، يفرز قوى إقليمية متنامية أيضا . وليس في هذا
أي تناقض . ذلك لأنه وليد تناقض أصيل بين الدولة والقيادة . فدولة ليبيا ، من حيث
هي دولة ، مؤسسة إقليمية ، انها تقوم على جزء من الوطن العربي ، تفصلها عن بقية
الوطن العربي حدود معتمدة دوليا ودستوريا . وهي عضو في جامعة الدول العربية تلتزم
بمواثيقها التي تعترف بشرعية التجزئة ، وتلزم كل دولة عربية الامتناع عن التدخل في
شؤون دولة عربية أخرى ، وتتبادل الاعتراف باستقلالها بعضها عن بعض ، وتبعث
بممثليها "الديبلوماسيين" الى الأقطار الأخرى حيث تخضع صفاتهم وصلاتهم
وحصاناتهم لقواعد وطقوس التمثيل فيما بين الدول الأجنبية . والعربي من أي قطر يفد
الى ليبيا حاملا بشماله "هوية" دولته ، فتقابله ليبيا الدولة بقوانين
وإجراءات مخصصة للتعامل مع حاملي الهويات الأجنبية (مع كثير من التساهل الفعلي
وليس القانوني) . والعربي من ليبيا يغادرها حاملا رعويته لدولته فيقابل في كل قطر
عربي بما يقابل به الوافدون اليه من الأجانب (مع كثير أو قليل من التساهل الفعلي
وليس القانوني) . هذا بالإضافة الى إقليمية النشاط الاقتصادي ، والتجاري ، والنقدي
، والضرائبي ، والعسكري ، والتعامل مع الدول الأخرى في شكل معاهدات أو اتفاقات ..
ثم ان ليبيا
الدولة ، مثل كل دولة عربية ، تملك مقعدا في هيئة الأمم المتحدة ... يمثل كل ما
يعنيه الالتزام بقواعد القانون الدولي من أعباء وقيود وإمكانات وجزاءات .. الى
اخرة .
ان هذا البناء
المتراكب من القواعد الدولية والدستورية والقانونية والإدارية الذي يكاد يضبط
ويحدد حركة كل فرد فيه ، ويضبط ويحدد كل حركة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية من
حيث المضمون ومن حيث المنطلق ومن حيث الغاية هو ما يسمى "الدولة" ..
دولة ليبيا مثلا . أو أية دولة عربية أو غير عربية أخرى ... وهو حين يحدّد ويضبط
حركة الأفراد ونشاطهم يحدّد في الواقع مصالحهم العينية المتحقّقة ويتحكمّ الى حد
كبير في مصالحهم المستقبلية المأمولة ، ويروّضهم ، من خلال تلك المصالح ، فكريا
ونفسيا على قبول الدولة كأمر واقع حتى لو كانوا يرفضونها عقائديا واستراتيجيا .
ان هذا بصدق على
كل الدول بما فيها دولة ليبيا .
التناقض
كما يبرز في ليبيا :
انما
يأتي التناقض الأصيل في ليبيا من أنه على رأس هذا البناء الإقليمي ، وفي موقع
القيادة منه ، سلطة من القياديين الوحدويين . أي من الذين يؤمنون ، على أساس من
منطلقاتهم القومية ، أن التجزئة المتجسدة في الدول العربية ، بما فيها دولتهم ، هي
عدوان صريح على وحدة الأمة العربية ومعوق أساسي من معوقات التحرر والتقدم . ومع
ذلك فانهم يمارسون يوميا ، وفي مجالات متعددة ومتنوعة ، نشاطهم كقادة من خلال هذا
الجهاز "العدو" . العدو طبقا لمعتقداتهم هم وليس طبقا لمعتقدات
الإقليميين . ثم انهم حاولوا ، ويحاولون ، تجاوزه الى الوحدة . ويعلمون ، ويعلم كل
المعاصرين أن كل محاولاتهم قد فشلت .
لماذا
فشلت ؟ .. هذا سؤال غير وحيد الإجابة . اذ لا يمكن أن يرجع الفشل الى سبب واحد ،
ومهما تكن الأسباب فان لهم نصيبهم منها لأن كل صاحب قضية هو المسؤول عن نجاحها أو
فشلها . وليس للأعذار هنا أية قيمة الا اذا تحولت الى دروس تستخلص منها إجابات
صحيحة عن السؤال الموجه الى كل الوحدويين في الوطن العربي ، وليس ليبيا وحدها : لماذا لم تتحقق الوحدة العربية ولو جزئيا . ولسنا هنا في
مجال الاجتهاد في الإجابة على هذا السؤال .
الدولة هل تعمل لصالح
الإقليمية ؟
ما
يهمنا في هذا الحديث هو أنه ن مع الفشل في محاولات الفكاك من أسر الدولة الإقليمية
يبقى القوميون الوحدويون يعانون تناقضهم مع دولتهم .
الى
هنا قولا تشكل الإقليمية خطرا يعتد به فيما لو بقيت قيادة الدولة سلبية فبقيت
الدولة راكدة وبقي الشعب على مستواه المتخلف . لقد كان هذا هو الوضع قبل ثورة
الفاتح من سبتمبر . لم يكن الانتماء الى ليبيا "الدولة" يمثل شيئا على
الاطلاق . كان الشعب العربي في ليبيا يعيش حياته القبلية التقليدية في غربة كاملة
عن الدولة . وكان على رأس الدولة ملك شيخ لا تطيق شيخوخته أعباء الحكم والإدارة فأجر
أرض ليبيا الى الدولة القادرة على ادارتها كقواعد عسكرية أو كحقول بترولية ،
واكتفت زمرة الحاكمين بالعائد النقدي يقتسمونه فيما بينهم طبقا لجداول دورية تسمح
لكل قبيل منهم بأن يحصل على نصيب معلوم . لا خزانة ، ولا ميزانيات ، ولا تخطيط ،
ولا تعمير ، ولا شيء ... مما يوحي به اسم الدولة . فبقي الشعب العربي هناك غريبا
كما هو متخلفا كما هو وبدون دولة .
ثم
جاءت ثورة الفاتح من سبتمبر يقودها فصيل قومي تقدمي . والقوميون التقدميون ، حتى
في حصارهم الإقليمي ، نشطون حادون مرهفو الإحساس بالمسؤولية تجاه جماهير أمتهم
العربية . أليست القومية هي التعبير عن الولاء لتلك الجماهير وحدها ؟ .. بلى . اذن
، فالدولة ، ولو كانت إقليمية ، تحت قيادة القوميين التقدميين تتحول فورا الى أداة
تعمير وتحضير وبناء وتنمية وتعليم وتثقيف ورخاء وقوة .. في حدود الإمكانات المتاحة
فيها ولكن بدون تبديد لأي عنصر من تلك الإمكانات . بدون سفه ، بدون كسل ، بدون
استغلال .. هكذا فعلوا ويفعلون في ليبيا العربية . قيادات مفرطة الجدية في أن
تتجاوز بالشعب العربي هناك مراحل التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، وإمكانات
مادية من عوائد البترول المتوافر استردت من المحتكرين وحصنت ضد الاستنزاف
الاستهلاكي وخصصت تخصيصا قياسيا - يبلغ حد التقشف - لمشروعات التنمية ، ثم سواعد
قوية وعلم متفوق وخبرة مكثفة من المصدر العربي للسواعد والعلم والخبرة ، مصر
العربية ، توفرت اذن ، إرادة البناء ، وموارده ، وبناته ، فتشهد ليبيا الان حركة
تعمير وبناء وتقدم وتعتبر قياسية بالنسبة الى اية تجربة في العالم الثالث ، اذا
اخذنا في الاعتبار انها بدأت مما هو دون الصفر ، ومنذ يضع سنوات فقط ، وفي بيئة
بالغة الصعوبة .
وهكذا
يفعل القوميون التقدميون حقا في كل مكان ، وفي كل الظروف ، بما فيها ظروف التجزئة
، بالرغم من أن غايتهم الاستراتيجية هي الوحدة العربية . لأنهم
يعلمون من ولائهم وانتمائهم الى الأمة العربية أن كل مشكلة يعانيها عربي في أي
مكان هي مشكلة قومية ، وأنهم ، أينما كانوا ، مطالبون ومسؤولون عن كل حل مشكلات
جماهير أمتهم العربية ، وأن الحياة ومشكلاتها لن تتوقف الى أن تتحقق الوحدة ، وأن
كل تقدم في أي قطر بما هو متاح سيجعل ميلاد الوحدة أكثر سهولة .
ولكن عملية البناء هذه تتعرض لنصيبها من التناقض الأصيل
بين قومية المنطلق والأهداف وإقليمية الممارسة . فبينما تحاول الثورة في ليبيا
الدولة بناء حياة افضل للشعب العربي هناك ، تختلس الإقليمية التي كانت سلبية
وراكدة وعاجزة بعض الغذاء من عناصر التقدم فتنتعش وتنشط .
الان أصبح الانتماء الى ليبيا الدولة انتماء الى دولة
تقف بصلابة مع حركات التحرر ضد الاستعمار والامبريالية . ضد الصهيونية . ضد
التبعية . ضد التخلف . الان أصبح الانتماء الى ليبيا الدولة انتماء الى تحضر البدو
، الى زراعة الصحراء ، الى التصنيع ، الى التعليم ، الى الثقافة ، الى مركز مرموق
في المجتمع الدولي ، الى ارادة وطنية لا يعيبون عليها الا فرط استقلالها واعتزازها
بهذا الاستقلال .. نعم ، لقد أصبح الانتماء الى ليبيا الدولة انتماء يغري بالتمسك
به وأصبحت أعلام الدولة الليبية ذات كرامة وكبرياء تغري بالوقوف تحتها .
الحنطة
والحشائش :
وكما
أن الأرض الخصبة تنبت الحنطة فإنها تنبت الحشائش الطفيلية والشجيرات المتسلقة
الأكثر زهورا وأقل نفعا .. وهكذا تنبت الان في حقل ثورة الوحدويين الإقليمية التي
وجدت في تربة الحقل القومي نفسه ما يغذيها فأزهرت . ولو تُركت فغدا أو بعد غد ستمتص الغذاء
من النبت الأصيل عن طريق اختلاطها بجذوره . وهذا هو الخطر الذي نريد أن نتحدث عنه
وننبه اليه . ونضرب ليبيا مثلا له . لأن كل ما تم ويتم في ليبيا الان من بناء
وتعمير وتحضير هو من تخطيط القوميون ، وبناه القوميون ، وفتحت له القومية الأبواب
التي كانت مغلقة دون تكامل الخبرة والإمكانات . انه نموذج صغير ، محدود ، لوعود
الرخاء والتقدم التي تحملها الوحدة الى الشعب العربي في كل مكان ، ولكنه بالرغم من
صغره بالنسبة الى الأمة العربية ، وبالرغم من محدوديته بالنسبة الى الطاقات
القومية ، دليل حي يقدمه القوميون التقدميون لأقل شعبهم عددا ، في أقسى أقطارهم
بيئة ، ليثبتوا به ألا خلاص لجماهير هذه الأمة من الاستعمار والاغتصاب والتخلف الا
بالوحدة الاشتراكية الديمقراطية .
ولكن
بعض الحشائش الإقليمية ينسى كل هذا ويحاول أن ينسب البناء والبنائين الى شكلها
الإقليمي . فهو بناء ليبي بتخطيط ليبي بأيدي ليبية ربما – كما قال أحد الأخوة من
السودان – يكون مرجعه الى "عبقرية ليبية" ، من أجل ليبيا الدولة . ثم
يتساءلون همسا – أعني تلك الحشائش المزهرة – هل نحن في حاجة حقا الى القومية أو
الى الوحدة .. وينسون أنهم قد عاشوا دهرا خارج تيار القومية الجارف ن تحت قياداتهم
الإقليمية ، فلم يفعلوا شيئا ولم يفعل الاقليميون الذين حكموهم الا سرقة ثروات
شعبنا العربي هناك .. أو تمكين السارقين منها مقابل نصيب تافه – عمولة – يأخذه
الحاكمون . ما الذي ميز ثورة الفاتح من سبتمبر عن العهد الذي سبقها . ان الضباط
الأحرار الوحدويين من أبناء الشعب العربي في ليبيا ولا يمكن الزعم بأنهم فصيلة
"ممتازة" على جيلهم من أبناء الشعب . وليبيا هي ليبيا بحدودها .
والبترول هو البترول . فما هو المصدر الذي استمدت ثورة الفاتح منه شعورها
بالمسؤولية قبل الجماهير ، وارادتها الحديدية في تجاوز التخلف ، والثقة التي لا حد
لها بالشعب العربي ومقدرته ؟ انها العقيدة . وهي هنا العقيدة القومية على وجه
التحديد . حيث يضيف الانتماء الصادق الى الأمة العربية شعورا موثوقا بقوة الانتماء
الى الملايين العديدة حتى لو كان المنتمون قلة . ان العقيدة القومية – في ليبيا –
قد تحولت الى قوة عينية هي ذاتها التي تبني وتعمر وتحضر . لأنها هي التي جمعت بين
إرادة البناء ، وموارده ، وبناته ، ولولاها لما اجتمعت كل تلك العناصر المتكاملة
ولبقيت الارادة حلما ، والموارد نهبا ، والبناة غائبين ..
الخطر الناشئ :
السبب الثالث ، الذي من أجله نضرب ليبيا مثلا
لخطر الإقليمية ، هو أن ذلك الخطر في ليبيا ما يزال ناشئا . ما يزال طفلا يحتال
بسذاجة أو طفيليا يتسلق برعونة . ان شعبية القيادة القومية الوحدوية ، وبساطة
تركيب الدولة في ليبيا ، لا يسمحان – حتى الان – بإضافة السراديب المظلمة وحجرات
الكواليس وألاعيب البيروقراطية و"سرك" الإقليميين المليء بالألعاب
المدهشة ، كما أن الزخم الجماهيري الشجاع لا يترك للإقليمية الناشئة الا تلك
الفراغات المحدودة التي تفصل بين الأجزاء لتندس فيها . وبالتالي قفان تطهير ليبيا
من الإقليمية والاقليميين لا يقتضي قلع جذور عميقة ، أو هدم مبان راسخة . قصارى ما
يقتضيه – حتى الان – هو مزيد من التحام القوميين الوحدويين لسد ثغرات التسلل فيما
بينهم ثم كشف وتعرية العناصر والمسالك الإقليمية وترك حسابها والتعامل معها
للجماهير ذاتها ، وهي جماهير قد ينسب اليها أي شيء الا "مسالمة" اعدائها
أو "الاعتدال" أو "الوسطية" في صدامها . ان تلك الجماهير
كفيلة بتطهير حقلها القومي من حشائش الإقليمية النامية بمجرد أن تفرز وتحرم من
إمكانية الامتصاص من الحقل القومي ذاته .
من
أجل هذا كان لا بد من التنبيه الى مخاطر الإقليمية في ليبيا لأنها نابتة فعلا ،
ومتسللة فعلا ، ومتسلقة فعلا ، وان كانت ضعيفة فعلا أيضا . وكان لا بد من ان تكون
ليبيا مثلا لأن تجارب مريرة أخرى ، في أقطار عربية أخرى ، لم تنتبه الى مخاطر
الإقليمية يوم ان كان الزخم قوميا ، أو انتبهت واستهانت بها ، حتى نمت فامتصت غذاء
الأصل وأحالت الحقل القطري كله الى حقل إقليمي . في أقطار عربية أخرى قامت ثورات
ترفع شعارات قومية ووحدوية واستولت على السلطة باسم القومية والوحدوية ، وبنت ما
استطاعت أن تبني ، وعمرت ما استطاعت أن تعمر .. واذا بها تتحول من خلال الممارسة
اليومية وعدم الانتباه ، أو الاستهانة بالقوى الإقليمية ، تتحول هي الى قوى
إقليمية شرسة ، لا تخجل من أن تشتري بالحقوق القومية ما يعرض عجزها عن الحفاظ على
الامن الداخلي ، ولا تخجل من أن تجفف مزارع شعبنا العربي من أجل أن تروي مزارع
دولتها ، ولا تخجل من أن تستبدل بالدعوة الى وحدة الأمة وحدة العالم ..
الإقليمية ليست عاملا ذاتيا
:
وانه
لمن الأخطاء الجسيمة التي لا تغتفر لأن ترد تلك الظاهرة المتكررة في الوطن العربي
الى عوامل "ذاتية" بحتة . فكأن الشباب القومي الوحدوي في تلك الأقطار قد
بدأ منذ البداية منحرفا ، أو إقليميا متسترا ، أو عميلا .. وكأن القيادة القومية
الوحدوية في ليبيا هي "نوع" بشري جديد على الواقع العربي ، فذ ومتفوق
قومية وطهارة وثورية عن كل ما سبقوه ، فهم بذواتهم يقدمون ضمانا ضد مخاطر الردة
الإقليمية . أبدا . هذه رؤية سطحية أو مسالك منافقة .
حق
، انه في نطاق التأثير المتبادل بين عناصر الوجود يلعب الانسان الدور الأساسي في
قيادة ظروفه . وحق أن قيادته تتوقف الى حد كبير على معرفته العلمية لتلك الظروف
وأسلوب التعامل معها وكفاءته في استخدام الأدوات المتاحة لذلك التعامل . فحق – اذن
– أن العنصر الذاتي يلعب دورا أساسيا في نجاح أو فشل العمل السياسي . ولكن الظروف
الموضوعية هي التي تقدم مضمون الوعي الواقع ومضمون المستقبل المأمول ، ومضمون
مشكلات الانتقال من الواقع الى المستقبل ، ومضمون حلول تلك المشكلات ، ومضمون
أدوات انجاز تلك الحلول . فالإنسان القائد لا يقود من فراغ في فراغ الى فراغ .
الانسان القائد ليس فكرة هجليه . بل هو موضع القيادة من ظروفه أي أنه جزء من ظروفه
. وهو اذ ينجح في تحقيق أهدافه لا يعني هذا الا أنه استطاع أن يطور الظروف
الموضوعية على الوجه الذي كان يريد ، فحملته الظروف معها ، هضمته ، وأصبح جزءا من
حركتها التلقائية المتخلفة . ويصبح السؤال : لماذا فشل ؟ .. الإجابة الأصيلة لا
يمكن الا أن تكون موضوعية . لأنه لم يعرف المشكلات التي تطرحها ظروفه معرفة صحيحة
، أو لأنه عرفها ولم يعرف حلها العلمي الصحيح ، أو أنه عرفه ولم يبذل في الممارسة
الجهد العملي المناسب لتحقيقه في الواقع . هذا هو سبب الفشل . أما سبب السبب ، أي
السبب غير المباشر فقد يدخل في الجانب الذاتي : لأنه غبي . لأنه جاهل . لأنه كسول
. لأنه عميل . لأنه منحرف ... الى اخره . وبينما تبقى الأسباب الذاتية اتهامات
صحيحة أو غير صحيحة لا تهم الا صاحبها الذي لاقى جزاءه في الفشل ذاته ، يبقى ما
يهم الناس وهو كيف لا يفشلون كما فشل غيرهم .. وبينما يحتفظ العنصر الذاتي بقدر من
الظهور في الممارسات الفردية تفرض الظروف الموضوعية ذاتها في تقييم فشل أو نجاح
الممارسة الجماعية . لأن الجماعية هي ذاتها ظرف موضوعي للممارسة . من هنا يكون من
الأخطاء الجسيمة رد فشل حركة جماعية جماهيرية الى أسباب تتعلق بذوات بعض الافراد
فيها فيقال مثلا ، انهم قد انحرفوا بها . الواقع أن عيبا موضوعيا ما ، لا بد من أن
يتحقق في الحركات الجماهيرية حتى يمكن أن تخضع حركتها لانحرافات الافراد فيها بدلا
من تصفيتهم مثلا .
وفي
نطاق حديثنا نقول أن واحدا من أخطر الأخطاء الموضوعية هو عدم الانتباه الى أن
البناء في الإقليم يخنق مصالح إقليمية ويلد اقليميين في داخل الاسرة الوحدوية .
وان السماح لتلك المواليد الهجينة بأن تشب على الطوق وتنمي مصالحها سيهدد في
النهاية المسيرة القومية الوحدوية ، لأن الإقليميين سيجدون في مرحلة ما ، قريبا
منهم تلك الأداة التي تنسجم معهم وينسجمون معها : الدولة الإقليمية .
فاذا
كنا نرى الان جيلا كاملا بدأ مثالا للوعي القومي العقائدي ، ومثالا للكفاح الثوري
، ومثالا للطموح الوحدوي ، لم يعد يحتفظ من منطلقات القومية وأهدافه الوحدوية الا
بالكلمات ، الشعارات ، ربما لأنه فقد حتى شجاعة التخلي عنها مع غربته المتزايدة عن
الالتزام بها ، فلا ينبغي أن نكتفي بالإدانة والسباب والشتائم واتهامات الخيانة
والعمالة .. أو غيرها من مفردات قاموس السياسة غير العلمي ، ولكن ينبغي أن نواجه
بشجاعة ، وأسلوب علمي السؤال : ما هي الأخطاء التي غالبتهم فغلبتهم فجرفتهم الى
تيار الإقليمية الذي لم يكونوا ينتمون اليه أصلا . فاذا كنا نضرب مخاطر الإقليمية في
ليبيا مثلا فلأننا لا نريد للقوميين الوحدويين في ليبيا أن يكرروا أو تتكرر فيهم
مأساة الذين سبقوهم .
السبب الرابع والأخير ، هو أن ثمة فصائل ممن
ينتسبون الى الخط القومي التقدمي أو ينسبون انفسهم اليه ، يناضلون في ظروف بالغة
الصعوبة من أجل اسقاط الإقليميين في أقطارهم ، ويرشحون أنفسهم لسلطة بديلة تحت
العناوين القومية الوحدوية . وليس من المستبعد ، ولو بسبب فشل الإقليميين الذي لا
علاج له ، ان تصل بعض تلك الفصائل الى مواقع السلطة حاملة معها وعود التقدم
والوحدة ، حينئذ سيكونون في أشد الحاجة الى الحديث الذي ننبه به الان ، ومن الان ،
الى مخاطر الإقليمية ، ونضرب فيه ليبيا مثلا " ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق