بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

يتساءلون ماذا بقي من ثورة 23 يوليو..؟

يتساءلون ماذا بقي من ثورة 23 يوليو ..؟

 د.عصمت سيف الدولة .

ثورة يوليو مستمرة ومصيرها بين انتصار حاسم أو هزيمة حاسمة متوقف على توفر الآداة القومية الصحيحة ...
***
منذ بضع سنين كلما اقتربت ذكرى انفجار ثورة 23 يوليو 1952 ، يتساءل البعض عما بقي من مبادئها وماذا بقي من مضامينها وسياسات قادتها الذين حكموا مصر وهو سؤال متردد تحت تأثير الحملة الشرسة المنظمة التي تشنها قوى متعددة ضد الثورة وقائدها . وكان جوابنا على السؤال بإنكاره لأنه مصادرة للجواب ، أو كما يقولون مصادرة على المطلوب . ذلك لأنه يفترض أن ثورة 23 يوليو 1952 قد انتهت ويريد جواباً عن مفردات التركة التي خلفتها الثورة المرحومة . ونحن لا نوافق على السؤال بصيغته هذه ، ونرى أن الجواب الذي نبحث عنه يقتضي أولاً تحديد متى بدأت ثورة 23 يوليو ومتى انتهت إذا كانت قد انتهت . وذلك لتحديد المساحة التاريخية التي نبحث فيها عن الأجوبة الصحيحة .
من المؤسف أن الغالبية الغالبة ممن كتبوا أو أرخوا لثورة 23 يوليو لم يهتموا بهذا التحديد . وكثير منهم حتى من قادتها أعطوا لها عمراً يقل عن سنتين ، وقد يمتد إلى ثلاث سنوات .
فثورة 23 يوليو 1952 بالنسبة إلى السيد خالد محيي الدين أحد أعضاء مجلس قادتها انتهت في مارس 1954 . ففي ذلك الشهر انحاز خالد محيي الدين (ورفاقه) إلى محمد نجيب وإلى حزب الوفد ضد الثورة مطالباً بإعلان انتهائها وعودة الجيش الى ثكناته وتسليم السلطة إلى  حزب الوفد أو حلف من القوى الحزبية التي قامت الثورة ضد سياساتها . هذا الموقف يعني أن ما نسميه ثورة كان في مفهوم خالد محيي الدين (ورفاقه)  انقلاباً عسكرياً استولى على السلطة من الملك والإقطاعيين حلفاء الملك وانتهت مهمته ، فعليه أن يرد السلطة إلى أصحابها الشرعيين  (الوفد بالذات) والثورة انتهت عند عبد اللطيف البغدادي وآمال الدين حسين وأنور السادات على خلاف  في الموقف المعلن لكل منهم مع بدء التحول الاشتراكي في أوائل الستينات . وسيحاول أنور السادات فيما بعد أن يصحح مسار الثورة كما فهمها بتصفية كل ما تم بعد ذلك التاريخ  .
بل ان الثورة بالنسبة الى حسن إبراهيم أحد أعضاء مجلس قادتها ، انتهت قبل أن ينتهي شهر يوليو 1952 . فما ان تم طرد فاروق الملك حتى كان رأي حسن إبراهيم الذي سمعته شخصياً منه عدة مرات ، ان على أعضاء مجلس قيادة الثورة الانسحاب وترك المستقبل لجمال عبد الناصر . وكان يعلل موقفه هذا بأن الثورة لم تقم لتحكم ولكن لتزيل العقبة الملكية من سبيل الحكم ، وان أحدا منهم ـ ما عدا جمال عبد الناصر كما قال ـ لم يكن يعرف شيئاً عن شؤون  الحكم ولم يُعد نفسه لمسؤولياته . وبالتالي عليهم أن يتوقفوا عند حدود ما أعدوا أنفسهم له ويتركوا لعبد الناصر وحده مسؤولية شؤون الحكم سواء استعان بأحد منهم أم لا .
بقي عبد الناصر منظم قوى الثورة ومحدد ميقاتها وقائدها مفكراً وحاكماً حتى وفاته بدون منازع . هذه الصلة الوثيقة بين عبد الناصر والثورة حملت كثيرين على توقيت نهاية الثورة بوفاة عبد الناصر عام 1970 . وزكت هذا الرأي الردة التي قادها أنور السادات بعد وفاة عبد الناصر وإعلانه رسميا عام 1974 نهاية الثورة وتقريره معاش تقاعد لكل من عرفهم من ” الضباط الأحرار .
والواقع أن تحديد عمر الثورة ، أية ثورة ، يكون باستمرار آثار انفجارها ، في تحريك موجات التطور في محيطها الاجتماعي . الثورة عندي ، أية ثورة ، مثل انفجار بركان في قلب محيط مائي راكد . يخرج اللهب من الماء ، وتتصاعد الحمم لتصبح أرضاً لم يكن لها وجود . وتتكاثر سحب الدخان فتغير المناخ ، وتنطلق من مركز الانفجار ، ومن ذات المياه الراكدة ، سلسلة متتابعة من الأمواج التي كالجبال ، وتموت خلالها أحياء ، وتحيا خلالها أعشاب على  أرض بكر . ومع مرور الوقت يهدأ كل شيء ولكن لا تعود الطبيعة الى ما كانت عليه أبدا . في موقع الانفجار جبل ، وفي المياه المحيطة جزر بركانية متناثرة . عامرة بطيور وحيوانات وأشجار لا يعرف أحد من أين أتت ، وتتأثر وتتغير اتجاهات تيارات المياه الجوفية ، لتبدأ حياة جديدة في واقع جغرافي وطوبوغرافي جديد فتكون الثورة قد انتهت ربما إلى أن تبدأ ثورة جديدة .
باختصار ، إذا تعاملنا مع ثورة يوليو على انها ” ثورة في محيط اجتماعي ، سنكشف بسهولة أنها شكل متقدم من الصراع الاجتماعي في محيطها . والصراع ليس آحادي القوة ، بل متعدد القوى . بعضها مع الثورة وبعضها ضد الثورة . ويكون متعيناً علينا في هذه الحالة ان نلاحظ الثورة في حركتها وأن نرصد ما يطرأ على أهدافها من تغير أو تطور خلال الصراع ، ثم ننظر لنرى هل انتهى الصراع أو لم ينته . فإذا كان قد انتهى بسحق أعداء الثورة فقد انتصرت الثورة وانتهت هي تاريخياً بانتصارها وإذا كانت قد انتهت بسحق قوى الثورة فقد انهزمت الثورة وانتهت هي بهزيمتها ، أما إذا كان الصراع ما يزال مستعراً ، بصرف النظر عن أشكاله ، وقواه ، وساحاته بدون نصر حاسم أو هزيمة حاسمة ، فإن الثورة ما تزال مشتعلة ولا يجوز حينئذ الحديث عن ” تركتها ” ماذا بقي منها وماذا انقضى . ولنتذكر أن الثورة الفرنسية التي قامت في أواخر القرن الثامن عشر لم تستقر منتصرة إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر . وان الثورة الروسية التي بدأ انفجارها في مطلع القرن العشرين لم تستقر إلا في العقد الرابع من هذا القرن  .
بدأت ثورة 23 يوليو 1952 ، تحررية ، تستهدف ، القضاء على الاستعمار وأعوانه ، كما يقول المبدأ الأول من المبادئ الستة . ثم نسأل أين ؟ أي في أي محيط اجتماعي ؟ الجواب : في مصر بالذات وعلى وجه التحديد ، وقد استطاعت الثورة أن تحقق هذا المبدأ تحقيقاً كاملاً في سلسلة متصلة من المعارك السلمية والقتالية آخرها معركة السويس سنة 1956 . ومع ذلك فإن معارك التحرر لم تنته عام 1956 بل لعلها بدأت بكل ضراوتها منذ عام 1956 ، لماذا ؟
لأنه بصرف النظر عن وعي أو إرادة قادة ثورة 23 يوليو فرضت الطبيعة الموضوعية لتحرير مصر على الثورة أن تستمر خارج حدود مصر الجغرافية والسياسية إذا أرادت أن تحافظ على تحرير مصر .  مصر ، أرادت الثورة يوم 23 يوليو ام لم ترد . جزء من الأمة العربية ، وقوى الاستعمار وأعوانه ، التي أرادت الثورة أن تقضي عليها متواجدة على اتساع الوطن العربي ، فإذ بالثورة التي اكتفت واحتفت  باتفاقية الجلاء عام 1954 ، كإنجاز لمبدئها الأول تتعرض وتتصدى للغزو الاستعماري بعد اتفاقية الجلاء في شكل أحلاف تحيد بها ، وغزو مسلح لقطاع غزة ، وغزو أو محاولة غزو اقتصادي من الولايات المتحدة الأمريكية . ثم غزو عسكري انكليزي فرنسي صهيوني تشترك فيه قوى كانت محتشدة في قواعد على الأرض العربية . فيطور الواقع القومي المبدأ الأول للثورة الذي كان يوم 23 يوليو 1952 ، القضاء على  الاستعمار وأعوانه في مصر ، فيصبح ، القضاء على الاستعمار وأعوانه في الوطن العربي . كل هذا والثورة مستمرة . فيقول عبد الناصر يوم 20 مارس 1963 : ” إيه اللي خلانا يعني ممثلين للعروبة ؟ .. اللي اتعمل في هذا البلد (يعني مصر) .. والثورة اللي قامت في 23 يوليو .. طلعت ثورة .. ولم تكتف بأنها ثورة مصرية إقليمية .. اكتشفت حقيقتها .. واتجهت لتكون ثورة عربية .
الجدير بالانتباه هنا ، ما معنى أن الثورة اكتشفت حقيقتها العربية ؟
معناه الأول انه في يوم 23 يوليو 1952 لم تكن الثورة تعرف أن حقيقتها عربية ، وأنها من خلال العمل في مصر ـ تحرير مصر ـ اكتشفت أن تحريرها محال بدون تحرير الوطن العربي كله . فنقول اكتشفت الثورة اتساع ووحدة ساحات معارك ” القضاء على الاستعمار وأعوانه ” ، وأن اتفاقية الجلاء عام 1954 لم تكن تحقيقاً لمبدأ التحرر من الاستعمار بل كانت أولى ، وأسهل معاركه الممتدة . نسأل أنفسنا أو نسأل القراء ، هل انتهت معارك القضاء على الاستعمار وأعوانه في الوطن العربي منذ ان دفعت أو حركت ثورة 23 يوليو موجات التحرر الأولى .. طبعا لم تنته بل هي أشد ضراوة .. الثورة .. أو فلنقل ثورة 23 يوليو التحررية لم تنته لا بانتصار كامل ولا بهزيمة تامة .. واذا كانت قد انتصرت في معارك وانهزمت في معارك ، أو كان قائدها عبد الناصر قد غاب ، أو كان أوارها قد خمد في مركز انفجارها ، فإن موجات التحرر العربي التي دفعت بها في محيطها الاجتماعي القومي وعلى رأسها الثورة الفلسطينية ما تزال تتوالى ، تناطح الصخور الاستعمارية ثم ترتد عنها كالموج تماما ، ولكن مياه الحرية في الوطن العربي لم تعد . إلى الركود منذ 23 يوليو 1953 ولنا أن نطبق هذا على باقي المبادئ الستة ، وكيف أضيفت إليها مبادئ القومية العربية بعد 1956 إلى درجة أن يقول عبد الناصر في عام 1958 بأنه لم يخلق القومية العربية بل هي التي خلقته . وانه ليس هو الذي يحركها بل هي التي تحركه ، وأنها لن تنتهي بوفاته بل ستلد غيره عشرات ومئات وألوفاً من القوميين ولننظر في الأرض العربية لنرى كيف أن حركة القومية العربية المتراجعة حالياً أبعد ما تكون عن الاستسلام ، بل انها لتحتشد نامية في أشكال شتى حول مواقف جزئية ، وتمارس أنماطا مرحلية من النضال ، في القطر الذي كان خالياً من أية قوة قومية يقام لها أي وزن يوم 23 يوليو 1952 .. وعشرات الألوف بل مئات الألوف من القوميين الذين توقع عبد الناصر مولدهم قد ولدوا من بعده ويزداد المواليد كل عام وتزداد قوى الثورة القومية وتزداد المعارك ضراوة ولكن بأساليب شتى  .
والحركة القومية مهزومة أو متراجعة ، أعني الموجة القومية التي فجرتها ثورة 23 يوليو ودفعت بها لتكتسح أعداء الأمة العربية في سوريا والعراق والجزائر وتحقق وحدة 1958 وتنهزم في معركة الحفاظ عليها فتخوض معارك اليمن .. مرتدة الآن ولكنها ما تزال تحاول ـ بآلاف الوسائل المحسوسة وغير المحسوسة ـ دون استقرار التجزئة الإقليمية . فهل انتهت ثورة يوليو التي بدأت إقليمية ثم اكتشفت إنها عربية ؟ .
***
ولست أريد أن نأخذ باقي المبادئ الستة ولكني أريد أن نركز على المبدأ الأساسي لثورة 23 يوليو الذي حاولت تلك المبادئ الستة أن تعبر عنه . أريد هذا لأنه غير مذكور من بينها ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لأن الذين يعونه هم أولئك الذين عاشوا واعين المرحلة التاريخية التي سبقت ثورة 23 يوليو ، وتناقضاتها التي كانت السبب الأول لمجرد التفكير في الثورة ـ وأنا منهم ـ انه مبدأ المساواة . ذلك المبدأ الذي اتخذ وضعه الصحيح في شعار الثورة الفرنسية .. قبل ثورة 23 يوليو 1952 . كانت المساواة بين البشر معدومة في مصر . لا أعني المساواة أمام القانون ، ولا المساواة في شروط العمل ، ولا المساواة في الفرص ، ولا المساواة في الوضع الاقتصادي .. لا . أبداً كل هذا قد لا يؤدي الى ثورة ، أو قد لا يكون ” إرادة الله ” .. وكان التمرد على عدم المساواة  ، وكان فردياً عادة ، يعتبر خروجاً شاذاً من أفراد لا يريدون ان يفهموا أن العين لا تعلوا عن الحاجب ، وبالتالي كان مداناً اجتماعياً كانحراف أخلاقي .. لم يكن ثمة أمل ، أي أمل ، في تصفية هذا الوضع العدمي بالإصلاح .. فجاءت ثورة 23 يوليو تنظم موجاتها القوية وعي البشر الراكد ، ليلتفتوا ثم ليدركوا ، أنهم كبشر متساوون ، وان المساواة هي الوضع الطبيعي أو أن المساواة هي ما أراده الله ، فعرفوا لأول مرة أنهم معتدى عليهم وان لهم حقا في المساواة مغتصباً ، وكانت هذه أروع الموجات التي دفعت بها ثورة 23 يوليو في محيطها الاجتماعي . وما علينا إلا أن نتأمل الإنسان العربي في أي مكان من الوطن العربي .. سنجد أنه بالرغم من أن المساواة لم تتحقق كواقع اجتماعي أو اقتصادي أو حتى قانوني . إلا أنه لا يوجد إنسان عربي ـ  في مصر كما أعلم علم اليقين على الأقل ـ يعترف حتى بينه وبين نفسه ، أن للظالمين حقاً في أن يظلموه . لا يوجد إنسان عربي لا يتألم ، ولو كان عاجزاً عن المقاومة ، لأنه موضوع في الدرجة الثانية أو ما دونها كمواطن .. أما التعبير عن هذا التطور الرائع في الوعي الشعبي فإن دلالاته الواضحة القوية فيما ينسب الى الجيل العربي الجديد من التمرد على ما هو مفروض عليه .. وهو يتمرد في كل مكان وفي كل مجال بأساليب لا تقع تحت حصر ، وسيظل متمرداً حتى يسترد حقه في المساواة أمام القانون ، وفي الفرص وفي العمل ، وفي عائد العمل وفي التعامل معه لا كمواطن محكوم ولكن كشريك في الوطن وحكمه .. والمعارك من أجل التحقيق الفعلي للمساواة مستمرة حتى داخل الأسر .. لم تنتصر نصرا حاسما ولم تنهزم هزيمة تامة . فهي مستمرة  ..
ويصبح قولنا ان ثورة 23 يوليو .. ما تزال مستمرة .. وانه من الخطأ اعتبارها منتهية للبدء في حساب مفردات تركتها . وقد سبق أن كتبت فيما نشر تحت عنوان ” هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟ ” . ان عبد
الناصر قد قام بثورة في 1961 ضد ثورة 1952 ولكن أسميت هناك ما قام به عبد الناصر عام 1961 ، ثورة تصحيحية لثورة 23 يوليو ، أي طوراً ثورياً متقدماً من داخل الثورة ، وهو كذلك حين نحاول  دراسة تطور الثورة ذاتها من الداخل ، ولكن حين ندرس تطور الثورة المتطورة داخلياً ، على ضوء آثارها المتتالية في محيطها الاجتماعي نجد أن الثورة مستمرة لم تنهزم نهائياً ولم تنتصر نهائياً . بقيت اعتراضات محتملة . هذه الرؤية تتضمن تحديداً لدور عبد الناصر في الثورة وربما تقريباً بين دوره ودور أنور السادات باعتبار انهما توليا قيادة الثورة المستمرة بالرغم من التناقض بين الدورين ..
هذا الاعتراض مردود بأنه لا خلاف في أن عبد الناصر منظم قوى الثورة قبل 1952 وقائدها ابتداء من 23 يوليو 1952 حتى وفاته . وان أنور السادات قائد الثورة المضادة على ثورة 1961 التصحيحية وهذا سر اهتمامه الكثيف بتشويه سيرة عبد الناصر لأن عبد الناصر قائد ثورة 1961 منفرداً عن باقي قادة ثورة 23 يوليو 1952 . وما زال أنور السادات مكثفاً اهتمامه . بالارتداد الى ما قبل 1961 حتى جرفه تيار الردة ذاته فإذا به يرتد حتى إلى ما قبل 1952 في هذه الفترة ، اعني فترة الثورة المضادة بعد غياب عبد الناصر ، انتقلت حركة وقيادة ثورة 23 يوليو الى الشارع بعد ان استولت الثورة المضادة على الحكم . واستمرت قوى الثورة في مواقعها الشعبية تناضل ضد الثورة المضادة الحاكمة . ومع ان قوى الثورة من الشباب لم تعمل مع عبد الناصر أو تعرفه عن قرب ، إلا أنها أبقت على هويتها المستمرة منذ 23 يوليو بان اتخذت من عبد الناصر رمزاً لحركتها وتأكيدا لاستمرار ثورة 23 يوليو الناصرية .. وتوحد أغلب تلك القوى أو كلها بين دلالة ” الناصرية ” التي ترجع الى عام 1952 وبين دلالة ” القومية ” التي أكسبت الثورة هويتها عام 1956 وبين دلالة ” الاشتراكية ” التي هي عنوان ثورة 1961 التصحيحية ، ( الاتحاد ـ النظام ـ العمل ) .. ان كل هذا يؤكد أن الثورة ما تزال مستمرة لم تنجز أهدافها ولم تستسلم لأعدائها  .
***
ثم نأتي إلى الاعتراض المتردّد الذي يبني مما ينسبه الى عبد الناصر قبراً يدفن فيه  الثورة تمهيداً لحصر تركتها . ينسبون إليه انه كان مع الديمقراطية في أول الثورة ثم تغير بعد ان تخلص من رفاقه وانفرد  بالسلطة وأن سياساته الخارجية كرفض الأحلاف العسكرية والحياد ودعم قضايا التحرر في العالم الثالث واشتراك مصر ايجابياً في معارك التحرر العربي قد كانت على حساب الشعب المصري وكلفته الكثير ويضربون مثلا بالحرب في اليمن وأن غايتها كانت صنع مكان ” للبطل ”  جمال عبد الناصر . ان معرفتي بان الصراع الاجتماعي لا تحركه مجرد الخلافات الفكرية ولا تحسمه أيضا مجرد القدرة على الإقناع تحملني على ألا أقيم وزناً لما يردّده أحد أطراف الصراع ترويجاً دعائياً لموقفه . فلست على استعداد للرّد على ما ينسب الى عبد الناصر بالطعن على وعي من يردّدونه . بل أزيد فأقول أنني لست معنياً بالدفاع عن جمال عبد الناصر الشخص او القائد فالرجل في ذمة الله .. ولست افهم ما ينسب إليه إلا أنه ستار لإخفاء موقف من ينسبونه من المستقبل العربي على وجه التحديد .. وليس من الماضي .. أي أنه سلاح في معركة الردة ضد معارك الثورة التي ما تزال مستمرة ومع ذلك أقول ان الحكم على صحة أو عدم صحة ما ينسبونه إليه لا بد ان يقوم على أساس موضوعي قبل أن يصل الى محاكمة النوايا ، نواياه أو نوايا من يتهمونه ، والواقع الموضوعي الذي سبق عبد الناصر واستمر بعده ، والذي لم يكن متوقفاً على وعيه أو نواياه وليس متوقفاً على وعي او نوايا الذين يهاجمون سياسة عبد الناصر  ..
يتلخص في الآتي  :
أولاً : أنه بعد الحرب الأوروبية الثانية أصبح واضحاً أن قوى الاستعمار الامبريالي في العالم قد توحدت تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية . ففرض هذا الواقع الموضوعي على قوى التحرر من الاستعمار أن تتعاون او تتحالف إذا لم تستطع أن تتوحد لتحقق لنفسها قدراً من التوازن في القوة . فإذا كان عبد الناصر قد أدرك هذا الواقع العالمي وتعامل معه فتعاون وتحالف مع قوى التحرر العالمي ، فإنه لم يفعل إلا أن كسب تعاون وتحالف القوى التحررية في العالم في سبيل معركة التحرر العربي التي قادها . ولم يكن أمامه أي خيار آخر الا الاستسلام . من الذي أنقذ مصر من مذلة الاستسلام للقوة الصهيونية المنتصرة في ميدان المعارك العسكرية سنة 1956 وسنة 1967 ؟ إنها قوى التحرر العالمي التي تعاون وتحالف معها عبد الناصر في معاركها . وما الذي حدث بعد ان انتهى التعاون وانفض التحالف عام 1973 . حققت العسكرية المصرية نصراً مرموقاً في ميدان القتال . ثم انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بمصر السادات ففرضت على المنتصرين عام 1973 أن يوقعوا وثيقة كامب ديفيد التي كانت . معدة للتوقيع عليها إثر هزيمة 1967..
ثانياً : أنه لا يوجد في الواقع الموضوعي ، ولم يوجد قط منذ عشرة قرون أو أكثر ما يسمى الشعب المصري إلا كجزء من الشعب العربي (تطور كجزء من شعب واحد إلى أن أصبح جزءاً من أمة واحدة  مكتملة التكوين منذ سبعة قرون تقريباً) وقد ذكرت من قبل كيف بدأت ثورة 23 يوليو بقيادة عبد الناصر مصرية إقليمية ثم اكتشفت أنها عربية (قومية) لم يكن ذاك اختياراً من عبد الناصر ولكنه كان إدراكا من عبد الناصر للواقع الذي اكتشفه . ” وحدة مصير الأمة العربية ” فتعامل معه كما هو  .
ما الذي أعطى لدولة مصر النامية المنتمية إلى العالم الثالث مكانة دولية أكثر ثقلاً بكثير من قوتها الذاتية ، لأن ثقل الأمة كان مضافاً إلى ميزان مصر الدولة وكل ما كسبه الشعب العربي في مصر من مكانة دولية وإمكانات اقتصادية واجتماعية وقوة تأثير عالمية ، مرجعه إلى أن عبد الناصر كان قائد الأمة العربية ممثلة في جماهيرها ولم يكن رئيس دولة مصر  .
ثالثاً : إذا كان عبد الناصر قد تحول من خلال قيادته الى بطل معترف ببطولته عالمياً حتى من أعدائه ، فليس مرجع ذلك إلى أنه فكر ودبر وخطط ليكون بطلاً ، مرجعه إلى أن الأدوار التي قام بها أدوار بطولية ، لم تكن معدة له ولم يكن هو معداً لها . ولكنه حين واجهها اكتشف الآخرون فيه أنه بطل نسبة إلى نوع الدور الذي قد يكون مفروضاً على عبد الناصر وليس قبولاً لما يريده لنفسه . وأخيراً فإن من خصائص البطل ـ علمياً ـ انه غير قابل للاصطناع ولكن يستدعيه واقع اجتماعي معين في مرحلة تاريخية معينة فيصبح بطلاً .. اصطناع ” البطل ” عن طريق الادعاء أو المغامرة تهريج ولم يكن عبد الناصر مهرجاً  .
رابعاً : أما الشكوى مما عانى الشعب العربي في مصر منذ عشر سنوات . فإنها لا تحجب عن الذاكرة ما كسب الشعب العربي في مصر قبل تلك السنوات . فإذا لاحظنا أن الشكوى من المعاناة قد بدأت مع الرّدّة وصاحبتها . فالأولى أن تنسب أسباب الشكوى إلى الرّدّة وسياساتها أما نسبتها إلى ما قبل ذلك فهو مجرّد دعاية سياسية لتبرئة الرّدّة .. نضرب مثلاً حرب اليمن .. هي الحرب الوحيدة التي لم تكلف مصر مليماً واحداً .. لقد تلقت مصر بحكم سياسة عبد الناصر تعويضاً كاملاً عن خسائرها المالية في حرب اليمن .. وفي المقابل قيل بعد توقيع كامب ديفيد ، انه قد بدأ عصر الرخاء لأن حرب 1973 هي آخر الحروب وستوفر حكومة مصر كل ما كان يبدّده عبد الناصر في المعارك الخارجية أثمانا باهظة للأسلحة .. الواقع الآن أن مصر . بعد آخر الحروب ، قد أنفقت وتنفق على تسليح قواتها المسلحة في العشر سنوات الأخيرة أكثر من عشرة أضعاف ما أنفقته منذ أن كان لها جيش مصري وطني . أي منذ عام 1936 على الأقل  .
***
إذا كانت الثورة مستمرة . وهي ثورة قومية . وقائدها بطل ، فلماذا لم تنتصر الثورة انتصاراً حاسماً ولماذا تبدو الآن مهزومة أو متراجعة ، وهل يمكن ان تعود فتنتصر بالرغم من الوضع المتردي الذي تمر به الأمة العربية . ولماذا لا تكون في طريقها الى النهاية بالهزيمة الكاملة ؟ هذا سؤال يفرض ذاته فيفرض علينا أن نجيب عليه  .
أما أنها لم تنتصر انتصاراً حاسماً تحت قيادة عبد الناصر فلأسباب تاريخية عدة منها ما هو متعلق بقوة تفجيرها يوم 23 يوليو 1952 . لم تكن قيادة الثورة ولم يكن الثوار ملتقين على نظرية لصياغة المستقبل في محيطها الاجتماعي . فكانت رؤيتها للمستقبل تحدد لها مصر محيطاً اجتماعياً وجلاء المحتلين الانجليز هدفاً تحريرياً ، والتنمية الاقتصادية عن الطريق الرأسمالي هدفاً تقدمياً . الواقع الموضوعي لم يكن يقبل هذا القصور النظري . فلم تلبث الثورة أن اكتشفت ان محيطها الاجتماعي الأمة العربية ، وان جلاء المحتلين الانجليز لا يعني تحررها من الغزو الصهيوني والأمريكي ، وان التنمية الاقتصادية عن الطريق  الرأسمالي وهم في هذا العصر فتوالت الانفجارات الثورية لتنتقل بها من ثورة إقليمية الى ثورة عربية ومن ثورة ضد المحتل الظاهر الى ثورة ضد محاولات الاحتلال الخفي ومن ثورة رأسمالية الى ثورة اشتراكية بحيث . يمكن القول أن الثورة لم تكتمل انفجاراً إلا بعد عشر سنوات من الانفجار الأول عام 1952 كان كل انفجار ثوري يحرك أمواج تغيير تضاف الى أمواج سابقة فلما اكتملت ابعاد الثورة واجهت قوى أعدائها المتحالفين فهزموها في معركة الانفصال . وهزموها في معركة 1967 ولكنها لم تستسلم بعد الانفصال عام 1961 هاجمت أعدائها في اليمن وهزمتهم . وبعد هزيمة 1967 استأنفت القتال في حرب الاستنزاف  .
ومع ذلك فإن هذه الأسباب التي عاقت انتصار الثورة لا تحجب السبب الرئيسي الذي صاحبها منذ 1952 وبقي عائقا لانتصارها الحاسم حتى الآن وهو أن الثورة لم تمتلك قط أداة ثورية شعبية . قبل 1963  توحد ثوار 1952 وجهاز الدولة الذي تولى السلطة فيها ، وقادوا الثورة بذلك الجهاز . ولم تكن المنظمات الشعبية مثل هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي العربي وتنظيمه الطليعي الا أجهزة شعبية تابعة لجهاز الدولة وتحت قيادته ، أي أنها جميعا لم تكن أدوات لتحقيق الثورة بل أدوات ثورية قومية شعبية واكتفت بدولتها الإقليمية  .
وفي عام 1963 حاولت الثورة إنشاء جبهة مع حزب البعث العراقي وحزب البعث في سوريا . والجبهة تحالف وليس أداة ثورية فلم تنجح المحاولة . فأعلن عبد الناصر الذي فطن إلى أن الثورة تفتقد أداتها ان الحركة العربية الواحدة قد أصبحت ضرورة تاريخية ، كان ذلك في صيف 1963 فانبرى جهاز الدولة ، دولة مصر ، لإنشاء الحركة العربية الواحدة لتكون تابعة له ومن أتباعه وفشلت المحاولة . حتى إذا كانت غيبة القائد عبد الناصر عام 1970 تواطأ جهاز الدولة القائد للحكومة الرسمية وتنظيماتها الشعبية على اختيار أنور السادات رئيساً . وبمجرد توليه السلطة الشرعية تولى القيادة الشعبية للتنظيم . فلما انفرد  بالسلطة دون الذين اختاروه انفرد تلقائياً بقيادة التنظيم الشعبي دونهم فلم يجدوا تنظيما شعبيا يدافع عنهم . ولم يلبث أنور السادات ان حل التنظيمات جميعا وارتد بالنظام كله الى اتجاه مضاد للثورة فانتقلت الثورة الى الشارع كما قلنا من قبل ، والشارع جماهير لا حصر لها ولكن بدون تنظيم وبدون قيادة ، فتكونت جماعات او شلل من الشباب تجمعها العلاقات الشخصية ، واستطاعت حتى وهي في هذا الشكل البدائي من التنظيم ان تزعج السادات وان تشترك في قيادة الجماهير مع غيرها من القوى عام 1977 هذا في مصر ، أما في الوطن العربي خارج مصر فإن الملايين من الثوار العرب الذين كانوا تحت القيادة الفعلية لعبد الناصر ، فقدوا القائد قبل أن يتوحدوا في تنظيم تحت قيادته فانفرطوا أو تحولوا الى منظمات عدة  .
وهكذا ما تزال الثورة مستمرة بفعل بؤر ثورية متفرقة ناصرية أو تقول عن نفسها أنها ناصرية . وازدادت عدداً وزخماً ومقدرة بما انضم إليها وينضم من قوى الثورة الوليدة . ولكن ما زال الناصريون يناضلون في كل قطر نضالاً نشيطاً حقاً . ولكنهم ” يتسكعون ” ببرود عجيب حول أسوار التنظيم القومي الواحد لا يقتحمونه ليتوحدوا فيه ويملأوا فراغ القيادة الذي لا يزال شاغراً .. ربما لأن كل ناصري يريد ان ينتظر مبايعته بالقيادة قبل أن يصبح جزءاً من كل . ربما لأن وحدة التنظيم القومي لم تحدث في حياة عبد الناصر فيظنون أنها بدعة .. ربما لأن منهم من يحلم بأن يخلف الناصريون عبد الناصر حاكم مصر ، أي يرتدوا بالثورة الى محيطها الإقليمي مستغنين عن متاعب المحيط القومي . رد الفعل الإقليمي لإقليمية أنور السادات ربما لأنه في فترة التردد ما بين 1970 و 1973 تم اختراق وتلغيم القوى القومية والناصرية .. لا يهم معرفة السبب ، ولكن النتيجة هي ان الثورة قد تحولت من الهجوم الى الدفاع . ومن التقدم الى التراجع بالرغم من تضخم قواها البشرية ، وذلك لأنها قوى متفرقة أقطارا ومتفرقة في كل قطر ، وبالتالي فإن مصير الثورة الى انتصار حاسم أو هزيمة حاسمة متوقف على أن تملك آداتها الثورية الواحدة ، قومية الانتماء ، ثورية الأسلوب ، وحدوية الغاية فتنتصر ، أو تبقى مجردة من هذه الأداة فتنهزم .. ولا يوجد فيما أرى طريق ثالث  .
وأرجو ألا يظن أحد أن التضامن العربي على مستوى الدول او التحالف العربي على مستوى المنظمات طريق ثالث يؤدي الى النصر . أما بالنسبة الى الدول العربية فهي بالتضامن تكون أكثر كفاءة في حماية وجودها كدول ومصالحها كدول .. ولكن لا بد أن يكون معروفاً أنها ” كدول ” هدف مباشر للثورة القومية من أجل دولة الوحدة ، لأن دولة الوحدة هي البديل الثوري للدول العربية ومن هنا فإن تضامن الدول العربية سيجعلها أكثر كفاءة في حماية وجودها ضد الثورة العربية . أما التضامن بين المنظمات الشعبية فهو مفيد ولازم . ولكن كيف نضمن ألا يكون مضادا أو معوقا للثورة العربية ؟ .. بأن نكون جبهة تحت قيادة التنظيم القومي وهو ما يعني أن هذا الضمان سيظل مفتقداً الى أن تملك الثورة تنظيمها القومي  .
ولكن ماذا نعني بالناصريين ؟
إن هذا حديث آخر  .
عصمت سيف الدولة

23 يوليو ” تموز ” 1987.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق