بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الدكتور عصمت سيف الدولة في حوار مع جريدة الرأي ..



ـ الثورة باسم الجماهير ولحسابها وتحت رقابتها وفي حمايتها ..

ـ مهمة الناصريين بناء الحزب الثوري ..

الرأي عدد 303 / الجمعة 11 جانفي 1984 .

أجرى الحوار : صلاح الدين الجورشي .

وجدته في مكتبه كأحد كبار المحامين في مصر . سألني عن تونس ، وتحدث عن مفاجأته عندما لمس أنه ليس نكرة وأن إنتاجه مقروء من قبل عدد كبير من شباب تونس ومثقفيها ثم سألني ماذا أريد .. وحاورني في أسئلتي حتى أحس بامتعاضي . واشترط أن أكتب أجوبته على نسختين لتبقى إحداها وثيقة يعترض بمضمونها عند حصول تحريف للكلام كما تصلح فصلا في كتاب جديد ....


سؤال : هل شروط الثورة العربية كما سميتموها في كتاباتكم متوفرة اليوم في مصر أم لا ؟ وإذا كان الجواب بنعم ، لماذا لم تقع الثورة ؟

جواب : إن الشروط الموضوعية للثورة العربية كما عرضتها في نظرية الثورة العربية متوفرة في الوطن العربي وفي مصر باعتبارها جزء من الوطن العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية . والواقع أن انتباه كثير من الكتاب والمفكرين والقادة العرب الى محاولة الإجابة على كيفية وشروط نجاح الثورة العربية منذ نحو ثلاثين عاما ، كان يعني وعيا بأن الظروف الموضوعية للثورة متحققة .. وأعني بالظروف الموضوعية تحول الواقع الى عقبة في سبيل التقدم الاجتماعي في الوطن العربي . كان واضحا للكافة بأن تطور الحياة في الوطن العربي تطورا متكافئا مع الإمكانيات المتاحة فيه للشعب العربي أمر غير ممكن بفعل الاستعمار الخارجي والتجزئة الإقليمية والاستبداد والقهر الاقتصادي والسياسي داخليا . ولم يكن أحد يناقش في انه لا بد من ثورة عربية أولا ، بل كان الحوار دائرا حول كيف تقوم الثورة العربية وتنجح ..؟ وقد بلغ نضج الظروف الموضوعية حدا حمل المؤرخ الانجليزي " تونبي " على إبداء دهشته البالغة من أن الأمة العربية لم تتوحد رغم ضرورة هذه الوحدة ، وأنها ممكنة .. بل بلغ نضج الظروف للثورة العربية أن القوى التي كانت مرشحة لتقوم الثورة ضدها لتصفيتها تبنت هي شعارات الثورة وتصدرت بأساليبها التحقيق السياسي لمطلب ثوري . وأعني بتلك القوى الدول العربية ذاتها .. اذ هي المستهدفة كعقبة من الثورة العربية الوحدوية ..  
وقد كان كل ما كتبته منذ عشرين عاما يستهدف حل إشكالية كيف الثورة ..؟  وقد انتهيت في هذا الى أن ما يعوق الثورة العربية هو غياب الشروط الذاتية وليس الموضوعية لقيامها .. بمعنى فشل القوى المرشحة موضوعيا لإشعال الثورة العربية الشاملة وقيادتها في القيام بهذا الدور التاريخي ..
أول عناصر الفشل الذاتي ، أن الثوار العرب أي المرشحين موضوعيا لقيادة الثورة لم يفرزوا أنفسهم فرزا واضحا من القوى المعادية موضوعيا للثورة والتي ترفع شعاراتها في نفس الوقت ، فتحول بوعي أو بدون وعي دون قيامها .. ومن هذه الثغرة لم يستطع الثوار العرب أن يدركوا أن الثورة لا يمكن أن تقوم إذا تداخلت في قواها الدول العربية أو قيادتها بصرف النظر عن أشخاص هذه القيادات .. إذ أن أي قومي ثوري يصل الى حكم دولة إقليمية يجد نفسه بحكم الدولة الإقليمية ذاتها ورغم أنفه حارسا للإقليمية المتجسدة في حدود دولته وهوية شعبها ومصالحها الإقليمية ودستورها وحتى القانون الدولي وذلك ما تجسد في اتفاقية الدار البيضاء في 1966 عندما اتفقت جميع الدول العربية اتفاق صدق على ألا تتدخل دولة في شؤون الدولة الأخرى .. أي أن القادة الحاكمين في ذلك الوقت قد اكتفى كل منهم بمسؤوليته عن الشعب العربي في دولته وتخلى عن المسؤولية القومية التي تعني تماما شمولها الشعب العربي في كل مكان بصرف النظر عن الدولة التي يعيش داخل حدودها .. ولمدة عقدين سمح الثوريون العرب لأنفسهم بأن يكونوا تابعين للدول العربية أو لبعضها عبر إعجابهم ببعض رؤساء الدول العربية .. وقد أدّى ذلك الى نتيجة ثالثة هي عجز الثوار العرب عن أن يملكوا آداة الثورة وهي تنظيم قومي تقدمي ثوري واحد يلتحم فيه كل الثوار ويقومون به ومن خلاله بتعبئة الشعب العربي وقيادته نحو أهدافه وما يزال هذا الوضع قائما الى الآن .. ثورة تحتاج الى آداة ثورية وهم عاجزون عن ان يصنعوا من أنفسهم هذه الآداة . هذا على مستوى الوطن العربي كله وليست مصر ألا جزءا منه ..  


سؤال : لقد أشرت الى الثوريين ولم تتعرض الى الجماهير .. بينما هناك من يراها غير مؤهلة ثقافيا واجتماعيا لتلعب دورا وحدويا في هذه المرحلة .

جواب : لم نتحدث عن الجماهير لان الجماهير العربية هي مصدر تحقق الشروط الموضوعية للثورة . فالتحرر هو رفع القهر الأجنبي عن الجماهير .. والوحدة هي تمكين الجماهير العربية من الاستفادة ـ في تطوير حياتها ـ من كافة الإمكانيات المادية والبشرية في أمتها العربية من دون عوائق التجزئة .. والتقدم الاجتماعي هو تقدم الجماهير في حياتها روحيا وفكريا وماديا .. التقدم هو تجاوز الجماهير العربية لوضعها المتخلف . فهذه مقولة أولية لا تحتاج الى أن تكون محل نقاش في حديثي عن الثورة العربية . إذ أن السبب الموضوعي للثورة هو الحاجة الموضوعية للتقدم الذي تفتقده الجماهير العربية .. أما أن هذه الجماهير واعية بكيفية الثورة آم لا فهذا سؤال آخر ..
فالجماهير يكفيها أن تكون واعية بمشكلات الحياة ، بالقهر ، بالتخلف ، أما كيف  تتجاوز هذا سلميا أو ثوريا فتلك قضية تعيها مجموعة اقل من الجماهير توافرت لها المعرفة بأن التغيير ممكن وبكيفيته ، وهؤلاء هم التقدميون وهم طليعة واعية من الجماهير .. ومن بين هؤلاء التقدميين من يختار الإصلاح التدريجي ومن يختار الثورة ، والثوريون العرب هم أولئك الفصيل الأخير الذي توافرت له المعرفة بان تحقيق تحرر الجماهير مما تعاني منه لا يجدي فيه الاصلاح التدريجي لأن القوة المسيطرة القاهرة لن تسمح بهذا الاصلاح فاختاروا الثورة .. متكلين على ان مسؤوليتهم مقصورة على ان يكونوا آداة الثورة المفجرون لها وأن الجماهير لن تتخلى عن ثورة تستهدف تحريرها من واقعها المتخلف .. اما الجدل الاخير حول وعي الجماهير وأنها غير مؤهلة ثقافيا لتلعب دورا ثوريا وحدويا في هذه المرحلة فالعكس هو الصحيح .. فلأن الجماهير متخلفة ثقافيا واجتماعيا هي في حاجة الى ثورة .. أما الدور المطلوب منها لتحقيق هذه الثورة فهو دعم ومساندة الفعل الثوري والمساهمة فيه وحمايته .. أما الفعل الثوري ذاته فهو أكثر تخصصا ويقوم به الثوريون باسم الجماهير ولحسابها وتحت رقابتها وفي حمايتها ، والثوريون هم أولئك الملتحمون في التنظيم الثوري .. انه لمن الغريب حقا ان يحتج على العلاج المر بعجز المريض نفسه عن علاج ذاته .. ومع ذلك يا أخي من الذي أعلم أولئك الذين يقولون ما ذكرته ، بان الجماهير العربية غير مؤهلة للثورة .. لماذا اذن كل هذا الاستبداد الذي يمارسه الحكام العرب على الجماهير العربية ؟ لماذا كل هذه القوانين الشاذة ، كل هذه المحاكم وكل هذه السجون ، لو لم يكن الحكام عالمين علم اليقين بأن الجماهير العربية واعية بضرورة الثورة ، قادرة على المساهمة فيها أو مساندتها .. على اي حال من يريد ان يعرف موقف الجماهير لا يجديه أن يستفتيها كما يفعل بعض الحكام ، بل عليه أن يرفع يد البطش عنها ويرد اليها حريتها ، عندئذ سيرى أن تحت هذا الصمت والصبر العربي نار الثورة تتأجج ، إنها مشتعلة فعلا في النفوس ، لا تنتظر إلا المفجر .. لا تنتظر إلا التنظيم القومي الثوري ..


سؤال : نريد أن نعرف رأيك فيما قيل ويقال منذ تولي الرئيس حسني مبارك عن التغيير ؟ وهل هناك تغيير حصل فعلا ، وما علاقة هذا التغيير بالتعددية الحزبية ، والى أي مدى عبرت أحزاب المعارضة خاصة عن هذا التغيير ؟ 

جواب : أما عن التغيير في مصر منذ تولي الرئيس حسني مبارك فهو في الجزئيات وأسلوب الآداء وليس في الاتجاه العام لسياسة الحكومة . وفي رأيي أن هذه التفرقة مهمة جدا ذلك لان الأسلوب المتميز الذي كان يؤدي به الرئيس محمد أنور السادات اتجاهه السياسي كان أسلوبا فضا واستفزازيا لا تتوقف جسارته على أي اعتداء بردود الأفعال . باختصار كانت المميزات الشخصية للرئيس السادات مصاحبة لسياسته الموضوعية ، وكثيرا ما كانت تطغى على طابعها ، ولعلي اضرب لك مثلا بزيارة السادات للقدس .. فمن الناحية الموضوعية لم تكن هذه الزيارة لازمة لإنشاء العلاقات التي انتهت باتفاقية كامب ديفيد . وكان كل شئ ممكن لو لم تتم .. ولكن السادات وحده هو الذي كان يريد أن يلفت العالم الى حدث يقوم به هو وحده لأسباب نفسية لا أريد الخوض فيها بعد وفاته .. مثل ثاني أوضح ، السباب والشتائم التي كان يوجهها السادات إلى معارضيه .. وأمثلة كثيرة يؤدي الحديث عنها إلى المساس به وهو ما لا أريده بعد أن أصبح في ذمة الله .. كل هذه الأساليب الغليظة الاستفزازية اختفت وأصبح لدينا رئيس جمهورية يتعامل سياسيا بأسلوب موضوعي .. وأستطيع ان أقرر بأن كل الذين أرهقهم السادات يشعرون بأن التعامل مع حسني مبارك مريح .. وقد تأثر كثير من المعارضين السابقين للسادات بهذا الأسلوب المهذب الى درجة أن خلطوا بين التغيير في الأسلوب والتغيير في الموضوع .. فتحولت مواقفهم من المعارضة الى شبه التأييد أو التأييد الكامل . وهذه نقطة الخلاف الأساسية التي سمحت بقيام جدل حول التغيير وجودا أو عدما في مصر ولست أريد أن أتابع مواقف الآخرين حتى لا يعتبر تشهير بأحد ولكني أكتفي بأن اعبر عن رأيي الخاص وهو كما ترى رأيا غير متفق عليه .. أنا أرى أن التغيير في الأشخاص وفي أساليب الآداء وفي الجزئيات وفي المراحل أمور حتمية تقع بفعل التأثير المتبادل بين الإفراد والأشياء على مدى الزمان في أي مجتمع وتحت أي نظام .. وأن العبرة ليست ما يحدث من تغيرات جزئية أو في الأساليب ، ولكن في الاتجاه العام للسياسة ، بمعنى الى أين تتجه الدولة ؟ أما كيف ، والأدوار التي يقوم بها الأشخاص وأساليبهم في الآداء فهي تغيرات ثانوية ، بمعنى أنها محكومة في النهاية بالاتجاه أو الخط العام .. وأعتقد طبقا لهذا المقياس أنه لم يحدث أي تغيير في مصر منذ عام 1974 حتى الآن .. فابتداء من أول سبتمبر 1974 اتجهت سياسة مصر اتجاها واحدا واضحا وان كان تدريجيا هو أن تصبح دولة رأسمالية .. وفي سنة 1974 صدرت ثلاث قوانين في مصر حددت هذا الاتجاه الأول : قانون استثمار الأموال الأجنبية الذي منح رؤوس الأموال الأجنبية كل ما يخطر على البال من امتيازات مغرية للاستثمار في مصر بما فيها الإعفاء من الضرائب خمس سنوات والإعفاء من الجمارك 5 سنوات ، وحق إعادة تصدير رؤوس الأموال وإنشاء البنوك الأجنبية .. ثم قانون إلغاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية وإباحتها للأفراد ..  ثم قانون التصريح بالوكالة عن المؤسسات الأجنبية للأفراد وكانت ممنوعة من قبل .. وهكذا فـُـتحت مصر للنشاط الرأسمالي وأصبحت جزءا من السوق الرأسمالي العالمي ، وأصبح اقتصادها يخضع لقوانين المنافسة في السوق المحلي المحكوم بدوره بالمنافسة في السوق العالمية الرأسمالية .. وهذا جوهر ما يسمى سياسة الانفتاح الاقتصادي .. ولما كانت مصر اضعف إنتاجا من دول هذا السوق فقد تدفقت عليها أزماته ، فبدأ التضخم وارتفعت الأسعار وتعطل الإنتاج المحلي أمام المنتجات الأجنبية وكثرت البطالة التي أدت الى الهجرة الكثيفة واختل الميزان الاقتصادي مما حمل الدولة على أن تطلب المعونات والقروض التي بلغت الآن نحو عدة مليارات فأصبحت الحياة في مصر للشعب العادي متوقفة على استمرار إمكانية الحصول على تلك المعونات التي تقدمها الدول الرأسمالية وعلى رأسها أمريكا ..
أدى هذا أن مثل السادات وجد نفسه عاجزا عن تجاهل التوصيات الأمريكية التي تقدم كنصائح وان كان أنها مفهومة كشروط لتقديم المعونة ، وكان من بينها الصلح مع إسرائيل الذي أدى بدوره الى العزلة عن الدول العربية الذي أدى بدوره الى وجود معارضة نشيطة أيام السادات والى نتائج كثيرة فرعية ..
طبقا لهذا عندما أريد أن ابحث عن التغيير في مصر فإنني انتبه الى أصل الداء والمميز للنظام ذاته لأعرف الإجابة عن السؤال التالي : هل حدث تغيير في نظام الانفتاح الاقتصادي أم لا ؟ هل مصر غيرت اتجاهها نحو الرأسمالية آم لا ؟ وإجابتي أن مصر ما تزال مندفعة نحو إكمال البناء الرأسمالي للدولة ، وأنها تؤدي هذه العملية بنشاط ملحوظ وبأسلوب أكثر عقلانية مما كان أيام السادات .. وهكذا نرى أن النظام الذي بدأ أيام السادات ، تجري الآن عملية تثبيته وعقلنته وترشيده في ظل حسني مبارك ليكون أكثر قبولا شعبيا وليس لتغييره ..
على أساس هذه الرؤية أستطيع أن أجيب عن الشطر الثاني من السؤال الخاص بالتعددية الحزبية .. لقد بدأت التعددية الحزبية سنة 1975 أيضا ، أي السنة الثانية للانفتاح بإنشاء ثلاثة منابر داخل الاتحاد الاشتراكي .. وفي سنة 1976  أعلن الرئيس السادات تحويل المنابر الى أحزاب .. في 1977 أنشأ حزب العمل ، في سنة 1978 أضيف حزب الوفد الذي حُل بعد ذلك ، وكان كل هذا يجري مخالفا للدستور ، وفي سنة 1980 عدل الدستور ليسمح بالتعدد ، وأضيف حزب الأمة وعاد الوفد ، وأصبحت أحزاب المعارضة أكثر نشاطا ولها صحافتها ..  ولكن لاحظ هذا النمو التدريجي في التعدد الحزبي كان مصاحبا للنمو التدريجي في الانفتاح الاقتصادي .. وذلك لأن التعدد الحزبي والنظام الرأسمالي قائمان على فلسفة واحدة هي الفلسفة الليبرالية .. وبقدر ما يحتاج رأس المال إلى مؤسسات سياسية مختلفة تحول دون الصراع الثوري وتفرغه في صراع برلماني تحتاج الى تتعدد الأحزاب .. ولعلك لا تعلم أنه في سنة 1978 كتبت مقالا موجها الى أحزاب المعارضة الناشئة بعنوان " الخروج من المستنقع أولا " كررت فيه هذا المعنى وأن على المعارضة أن تنتبه الى ان التعدد الحزبي قادم طالما أن النظام الرأسمالي متقدم وأن عليهم أن يحدّدوا مواقفهم من القضية الحزبية والاقتصادية طبقا لمبدأ واحد حتى تكون المواقف واضحة وظاهرة أمام الشعب ..
وهنا يؤسفني أن أقول أن أحزاب المعارضة في مصر قد باعت النظام الاشتراكي بالنظام الرأسمالي لتحصل مع النظام الرأسمالي على تابعة التعدد الحزبي . وأنها بشكل أو بآخر تتجه الى أن تكون أحزابا ليبرالية ، وقد كان هذا آخر ما كتبته في جريدة الأهالي محملا أحزاب المعارضة مسؤولية المشاركة في معاناة الشعب الاقتصادية بإسقاطها رايات الاشتراكية وإيهام الجماهير بأن تلك المعاناة يمكن أن تنتهي في ظل النظام الرأسمالي الذي يتثبت حاليا ..

سؤال : وماذا عن الناصريين ؟

جواب : الصعوبة في الإجابة على هذا السؤال هي تحديد ماهية الناصريين . فلا تنسى أن كل قيادات وكوادر ورجال وأحزاب الردة كانوا جزءا من دولة عبد الناصر .. أي لدى كل واحد منهم سبب تاريخي يستطيع أن يزعم به أنه ناصري . وأعتقد أن مكاسب كثيرة وقائمة وستظل قائمة الى ان يتحد الناصريون في مصر في حزب ناصري يكون هو محك الفرز بين الناصريين وأدعياء الناصرية .. وقد توليت كمحام مهمة الدفاع أمام مجلس الدولة عن حق الناصريين في أن يكون لهم حزبهم المستقل ، وهي قضية لم يفصل فيها بعد ..
وقد يكون من المهم الالتفات الى دلالة اعتراض الحزب الوطني الديمقراطي على تأسيس حزب ناصري بحجة ـ وارجوان تنتبه الى هذا ـ أن تأسيس حزب ناصري يعني العودة الى النظام الشمولي الذي عانى منه الشعب والى مبادئ الميثاق التي لم تعد صالحة .. أما أنه الحزب الوطني الذي اعترض فلأن أمين عام الحزب ووزراءه هم الذين تتكون منهم لجنة شؤون الأحزاب صاحبة الصلاحية في الاعتراض على الأحزاب الجديدة أو الموافقة عليها ..
على أي حال أعتقد أن أقرب دلالة على الناصريين الموقف من ردة السادات .. هنا سنجد أن الناصريين غير مقصورين على من صاحب عبد الناصر أو حتى شاهده ، بل ان الكتلة الكبرى منهم شباب لم يعش فترة عبد الناصر .. أضيف إليهم جماهير عريضة ممن يعانون المتاعب الاقتصادية والاجتماعية التي جاءت مع الانفتاح .. والذين يحددون انتماءهم على أساس واقعي جدا ، فهم الذين ينتمون الى النظام الذي كان الكلغ لحم في ظله بخمسين قرشا في مواجهة النظام الذي أصبح الكلغ لحم فيه بـ 5 جنيهات حتى لو لم يعرفوا شعارات هذا النظام أو ذاك .. أولئك جميعا يحلمون بأيام عبد الناصر ، وهم عندي أنا شخصيا أكثر المصريين استحقاقا بلقب الناصريين .. وقد تبين في الانتخابات الأخيرة أنهم أغلبية ساحقة .. اذ تنافست للحصول على أصواتهم كل الأحزاب ، بل ادعى الحزب الوطني الديمقراطي أنه حزبهم تحت شعار " حزب 23 يوليو " ..
والأمر الآن متوقف على ما إذا كان الناصريون سينجحون في بناء حزب لهم أم لا ، خاصة وقد عبروا رسميا عن قبولهم المباراة الحزبية أي التعدد ، والى أن يتم هذا فان الناصريين يعانون في مصر ما تعانيه كل الجماهير المحرومة من شرعية التعبير عن هويتها ، أعني التشرذم والخلاف الذي أعتقد أنه سينتهي فور وجود الإطار الشرعي ..
وأخيرا فإنني أحب أن أنبه إلى ما يقال أن الناصريين أو نظام عبد الناصر كان ضد التعدد الحزبي من حيث المبدأ اكتفاء واعتمادا على تجربة الاتحاد الاشتراكي .. ذلك لأن هذا الاتحاد لم يكن حزبا طبقا لمواثيق الثورة الناصرية ، بل كان تنظيما جماهيريا ، وكان الميثاق ينص على ضرورة وجود حزب طليعي ليقود الجماهير المنخرطة في الاتحاد الاشتراكي العربي .. وكانت هذه التجربة محدّدة بعشر سنوات تنتهي سنة 1971 ليعاد النظر فيها .. أما الموقف من التعدد فقد كان عبد الناصر شخصيا يرى أنه في مرحلة لاحقة وكنتيجة طبيعية كما قال بالتفاعل بين أطراف قوى الشعب العاملة ستظهر أحزاب جديدة .. وقد توقفت التجربة كلها بوفاة عبد الناصر ..

فإذا كان الناصريون يقبلون الآن المباراة الحزبية فان هذا الموقف لن يكون مبتور الصلة بتراثهم الفكري ، وإنما قد يكون مرجعهم الى أنهم يعتدّون بالمتغيرات التي حدثت في مصر والتي استلزمت تنوع المواقف من القضية الحزبية ..   


                ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة      


          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق