أسس الوحدة العربية
بحث مقدم للمؤتمر الثامن لاتحاد
المحامين العرب
القدس ـ نوفمبر / تشرين الثاني 1965
للاستاذ المحامي
الدكتور عصمت سيف الدولة
نقابة ... ج.ع.م PDF
القسم الأول : الأمة والدولة .
1 ـ نماذج من الآراء :
في الأمة دراسات عديدة ، لعل أكثرها جدية وعمقا الدراسات العربية . اذ عندما ثارت المشكلات القومية في أوروبا لم تلبث كثيرا حتى كانت الدول القومية قد قامت فلم يحتج الأمر الى مزيد من الدراسة والتعمق . أما في الوطن العربي فلا تزال مشكلة الوحدة العربية قائمة بدون حل ، تمد المثقفين العرب بمادة غنية لتعميق المفاهيم القومية إسهاما منهم في معركة الوحدة . غير أن اقتران الدراسات القومية بمعارك الوحدة ، في أوروبا وفي الوطن العربي كليهما ، جرد أغلب تلك الدراسات من الطابع العلمي الذي يقوم على أساس الحيدة الموضوعية .
فعندما كان نضال الألمان في سبيل وحدتهم القومية محتاجا الى تعريف للأمة ، قال فشت : ان الأمة هي جميع الذين يتكلمون لغة واحدة . كان ذلك تعريفا صالحا لإلغاء انقسام الألمان الى دويلات عديدة ، واسترداد مقاطعة الألزاس من فرنسا . وفي الموقف المضاد ، كانت الأمة عند الفرنسي أرنست رينان تكوينا قائما على " أعمال عظيمة تمت في الماضي ومشيئة صادقة لعمل أمثالها في المستقبل " . وكان هذا التعريف كافيا لتحتفظ فرنسا بالألزاس ما دامت اللغة ليست مميزا للأمة . وعندما قال مانشيني " ان الأمة مجتمع طبيعي من البشر يرتبط بعضه ببعض بوحدة الأرض والأصل والعادات واللغة من أجل الاشتراك في الحياة والشعور " كان يبرر رغبة الايطاليين في الاشتراك في حياة واحدة . ولما أراد الأمريكيون أن تكون لهم كلمة في الموضوع أحال روسي ستاجنر الرابطة القومية الى حالة نفسية مرضية يحاول بها الفرد إسقاط أحلام عظمته على جماعة من الناس ، وجعل منها " عائقا سيكولوجيا أساسيا في وجه قيام منظمة للأمن العالمي تنظم العمل الجماعي ضد النعرات المهددة للسلم " ، وكان في هذا يعبر عن الطفولة القومية في الولايات المتحدة الأمريكية ويبرر سياستها الخارجية معا .
ثم يشهد القرن التاسع عشر والقرن العشرون محاولة جماعية من الدول الاستعمارية لابتلاع الإمبراطورية العثمانية . والإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت تضم قوميات عديدة ، تحكمها دولة الخلافة التي كانت نظاما مشتركا يجمع ولاء المسلمين أيا كانت قومياتهم ، فيلجأ كثير من مفكري المسلمين ( جمال الدين الأفغاني مثلا ) وقادة العرب ( أحمد عرابي مثلا ) الر الرابطة الإسلامية كحصانة ضد الخطر الاستعماري الأوروبي ، وتصبح الأمة عندهم هي أمة المسلمين .
وخلال الكفاح ضد الاستعمار الأوروبي ، ثم التركي ، يعي كثير من العرب وجودهم القومي ، وتتدفق الكتابات في القومية العربية في حركة فكرية غنية أسهم فيها أبو خلدون ساطع الحصري ، ولا يزال يسهم ، بأكبر قدر . وتعد آراء الأستاذ الحصري في الأمة نموذجا لخط فكري عربي يبرز في أغلب الكتب العربية ، كما هو ، أو معدلا قليلا ، ولكنه متميز بخصائصه التي يستمدها ـ هو أيضا ـ من انه فكر في معركة ساحتها أمة مجزأة . لهذا يتميز بتركيزه على اللغة كعنصر أساسي من عناصر الأمة ، ورفضه أن تكون الأرض الواحدة عنصرا أساسيا : وقد تولى الأستاذ الحصري عرض هذا الخط الفكري في كتبه العديدة ، كما عرض أغلب النظريات التي قيلت في الأمة وناقشها ، وعلى ضوء حصيلة من المعرفة بالتاريخ بالغة الخصوبة ، ودافع عنه بحرارة ومقدرة فائقتين . فالأمة عنده مجموعة من الناس يتكلمون لغة واحدة وان كانوا لا ينتمون الى أصل واحد لأن " اللغة هي أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد البشري بغيره من الناس ، لأنها ـ أولا ـ رابطة التفاهم بين الناس ، وثانيا ـ آلة التفكير عند الفرد ، وثالثا ـ واسطة نقل الأفكار والمكتسبات من الآباء الى الأبناء ، ومن الأسلاف الى الاختلاف ... وبما أن اللغات تختلف من قوم الى قوم ، فمن الطبيعي ان مجموع الأفراد الذين يشتركون في اللغة يتقاربون ويتماثلون ويتعاطفون أكثر من غيرهم فيؤلفون بذلك امة متميزة عن الأمم الأخرى ... ويتبين مما تقدم ان اللغة والتاريخ هما العاملان الأصليان اللذان يؤثران اشد التأثير في تكوين القوميات " ( محاضرات في نشوء الفكرة القومية ) . ثم أضاف في كتابه (أراء وأحاديث في الوطنية والقومية ) عامل الدين ، " لان الدين يولّد نوعا من الوحدة في شعور الإفراد الذين ينتمون إليه " ، و " للدين علاقة قوية باللغة .. فاللغة العربية انتشرت بواسطة الدين الإسلامي أكثر مما انتشرت بحكم السياسة والإدارة ... غير أن الرابطة الدينية وحدها لا تكفي " . ثم يرفض ان تكون الأرض الواحدة مميزا للأمة فيقول : " إني لا أنكر ان الأمة ـ مثل جميع أنواع الجماعات البشرية البشرية ـ تعيش على ارض ولكنني انك ران الأرض تميز الأمم بعضها عن بعض " ( حول القومية العربية ) . " فالرقعة الجغرافية لا يمكن ان تعتبر من المقومات الأساسية للأمة . والذين يذكرون الارض المشتركة خلال تعريفهم للأمة يفعلون ذلك لأنهم لا يميزون الأمة عن الدولة . فالأرض الواحدة ليست عنصرا من عناصر تكوين الأمة وان كانت ضرورة أساسية للدولة " ( ما هي القومية ) .
بهذا قطع الأستاذ الحصري ، ومن ذهب مذهبه ، العلاقة بين الأمة الواحدة أو الدولة الواحدة ، وأصبح كل الجهد الذي بذله غير كاف للإجابة عن السؤال المطروح ، الا ان تكون إجابة نافية .
تلك نماذج مما قيل في الأمة ، يكفي لمعرفة مدى خلوها من أسس البحث العلمي ، ان نلاحظ أنها تصلح لتعريف الأمة ، كما تصلح لتعريف الأسرة ، او العشيرة او القبيلة ، أو القرية ، او الإقليم . فوحدة اللغة ، ووحدة الدين ، ووحدة المشاعر ، ووحدة الإرادة .. الخ ، متوافرة في تكوين القبيلة وفي تكوين الإقليم ، وعلى هديها يمكن ان تكون إمارة موناكو امة ، كما يمكن ان نقول ان ايطاليا امة . وعندما يكون المقياس صالحا لتفسير ظواهر اجتماعية مختلفة يكون غير صالح لتفسير الاختلاف بين الظواهر . ومرجع القصور أنها آراء ونظريات مؤسسة على ملاحظة خصائص بعض المجتمعات القائمة بعد افتراض أنها أمم مكتملة التكوين . ففيها مصادرة على المطلوب . وحتى لو صح ان المجتمعات التي كانت مصدر الملاحظة والاستنتاج أمم ، فان ما قيل هو وصف " للأمم " وليس تفسيرا لوجودها . وقد تكون أغلب العناصر التي قيلت قائمة في كل الأمم ، او في بعضها ، غير ان هذا لا يجدي شيئا ما لم نعرف لماذا تكونت الأمم ، دون غيرها ، على هذا الوجه الذي وصفوه .
لذلك تعجز كل تلك النظريات ، والآراء ، عن تحديد العلاقة بين الأمة (التي وصفتها ) وبين وحدتها السياسية . وطبقا لها جميعا ، ليس ثمة ما يمنع من ان تضم الدولة الواحدة أمما عديدة ، كما ليس ثمة ما يمنع من ان تقوم في الأمة الواحدة دول متعددة . وأقصى ما يمكن ان يبرر الوحدة السياسية طبقا للآراء التي تدخل وحدة الشعور القومي او الإرادة في عناصر الأمة هي " إرادة " الشعب في الوحدة . وتلك ضرورة غير موضوعية لا بد من ان يستفتى فيها الناس ولو في ظل التجزئة . وقد تحتاج الوحدة ـ بعدئذ ـ الى ان يستفتى فيها الناس من حين الى حين للتأكد من "إرادتهم" في استمرار الوحدة ، او العودة الى " الانفصال " .
2 ـ محاولة جديدة :
واذا كان التيار الفكري السائد في الكتابات العربية ، محصورا في جمع الملاحظات عن الأمم ، ثم استنتاج خصائص الأمة منها استنتاجا " منطقيا " ، الا أن ثمة محاولات جادة لفهم الأمة والقومية والوحدة فهما أكثر عمقا وأكثر علمية . ولعل من أبرز تلك المحاولات ما بذله ويبذله الزميل الاستاذ عبد الله الريماوي . ففي كتب ثلاثة أخرجها في السنين القليلة الأخيرة (المنطق الثوري للحركة القومية العربية الحديثة ، والقومية والوحدة ، والحركة العربية الواحدة ) كان يحاول أن يرسي قواعد منهج في البحث وأن يطبقه على الواقع العربي . وتتجه المحاولة الى الجمع بين المنهج الواقعي والمنهج التحليلي المقارن ، والمنهج التاريخي جمعا " يعي مقتضيات المناهج الثلاثة الواردة آنفا لنتجنب فيه المتاعب والمخاطر التي ينطوي عليها الاقتصار على أي منها وإهمال الآخر " . (القومية والوحدة ) . ويبدو أن الزميل قد انهى محاولته الى غايتها في مؤلفه الرابع ، فأوضح ان " المنهج العلمي في اكتشاف منطق التاريخ يقتضي : أولا ـ الوقوف عند الظاهرة المنطلق لدراستها بالملاحظة والتحليل والاستقراء .. ثانيا ـ السير مع هذه الظاهرة المنطلق لملاحظة التطور والتغير الذي يصيبها عبر الزمان .. ثالثا ـ الإقدام على تحليل حركة التطور والتغيير هذه من أجل استقراء عوامل الدفع لها واتجاهها وسننها " (البيان القومي الثوري ) . وقد انتهى من دراسة التاريخ على ضوء منهجه الى أن المجتمعات الإنسانية تتجه عن طريق التفاعل الى مرتبة متميزة منها هو " المجتمع القومي " وأصبحت الأمة عند " جماعة من البشر تكونت تاريخيا ، محددة ومستقرة ، تملك المقومات التالية : اللغة الواحدة . الوطن الواحد . التراث المشترك الذي يتبلور في تكوين نفسي مشترك يبدو في طابع حضاري واحد وثقافة مشتركة . الحياة الاقتصادية المشتركة " (البيان القومي الثوري ) . فالأمة تعتبر ـ كما يؤكد استقراء التاريخ ـ الطور المستقر للمجتمعات الإنسانية . عندئذ يمكن القول بأن ثمة ضرورة تاريخية تتجه بالمجتمعات الى أن تكون أمما . فان تكونت استقرت . ثم يؤكد استقراء التاريخ أيضا سمة ثالثة تضاف الى النشوء والاستقرار هي ما يسميه " سنة النزوع القومي " ويعني به " نزوع الأمة ـ كل أمة ـ الى ان تكون دولتها القومية الشاملة الواحدة ، وهي حقيقة موضوعية ديناميكية ، تتكون مع تكون الأمة وقوميتها ، فتحرك إرادتها ، وتؤثر في فعالياتها وعلاقاتها القومية ، كما تؤثر في فعالياتها وعلاقاتها مع غيرها من الأمم او الشعوب " و " ليس من سبيل علمي أو موضوعي لإنكار سنة النزوع القومي كسنة يؤكدها استقراء التاريخ ماضيه وحاضره منذ نشوء الأمم وبصدد كل امة " . " فلسنا نجد امة تتكون الا وتقيم ـ بنزوعها القومي ـ دولتها القومية الواحدة في الوقت نفسه او تناضل من اجل إقامتها " ... " ولسنا نجد كذلك امة تكونت فقامت دولتها القومية الا وبقيت هذه الأمة ـ بنزوعها القومي ـ تحاول الحفاظ على هذه الدولة في وجه جميع محاولات القضاء عليها أو تمزيقها . فإذا حدث ان قضت على الدولة القومية للأمة ـ أية امة ـ او مزقتها عوامل ومصالح وقوى داخلية او أجنبية ، فان الأمة ، اذا لم تندثر او تنصهر ، كانت تستمر دوما في تأكيد سنة " النزوع القومي" ، بنضال متواصل من أجل استعادة دولتها القومية الواحدة ". (البيان القومي الثوري ) .
وعندما يصل الأستاذ الريماوي الى هذه العلاقة " الضرورية " التاريخية بين الأمة ودولتها الواحدة ، يكون قد تجمع له الضوء الكافي للكشف عن " الوحدة العربية " كغاية ومضمون وأسلوب وثورة ، فيطهرها بحسم مما يحاول ان يختلط بها ، او يختفي وراءها من اتجاهات أممية او إقليمية او انتهازية . ويقدم بهذا شيئا يستحق تماما ان يبذل الجهد في قراءته وتلمس أبعاده الفكرية ونتائجه الحركية .
وتكاد صلابة المنطق في الجزء " التطبيقي " ان تكون إغراء بقبول المنطلق المنهجي . والواقع ان التطبيق العربي كما جاء (البيان القومي الثوري ) يستمد صلابته من قيامه على أساس " ضرورة " الوحدة السياسية للأمة الواحدة . غير ان الأمر كله يتوقف على التسليم بسلامة المنهج الذي استخدمه الأستاذ الريماوي للوصول الى هذه الضرورة .
3 ـ الماركسية والقومية :
في مواجهة هذه الاجتهادات " القومية " ، يجتهد الماركسيون اجتهادا لا قوميا قائما على المنهج الماركسي في البحث والاجتهاد . او " المادية الجدلية " ، والمادية الجدلية تحدد للناس مواقفهم وبواعثهم وغاياتهم طبقا للمكان الذي يشغلونه من علاقات إنتاج الحياة المادية . قال ماركس : " ان أسلوب إنتاج الحياة المادية يحكم حركة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية بوجه عام . ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ، بل العكس ، ان وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم " . (نقد الاقتصاد السياسي ) . على هذا الأساس قسم ماركس وانجلز المجتمعات الى طبقات وانتهيا الى الجملة الأولى من الوثيقة الشيوعية الأولى التي أصدراها سنة 1848 : " ان تاريخ كل المجتمعات هو تاريخ الصراع الطبقي " . ثم قالا : " ان العمال لا وطن لهم " . (البيان الشيوعي) . وبهذا كانت الماركسية " لا قومية " منذ مولدها ، وبحكم أساسها الفكري ذاته . لم يكن معنى هذا أن ماركس وانجلز يجهلان الرابطة القومية ، ولكنهما كانا يعتبرانها رابطة غير سليمة وغير علمية . وكان تركيزهما على الرابطة " الطبقية " كرابطة سوية وعلمية إدانة للرابطة القومية . لهذا كان التفوق الماركسي ـ وعيا ونضالا ـ عند ماركس وانجلز مقترنا بالتحرر من القومية . وعلى هذا قالا عن الشيوعيين ـ طليعة الطبقة العاملة ـ أنهم " يتميزون عن باقي الطبقة العاملة بميزتين : الأولى ، أنهم خلال الصراع الطبقي الذي تخوضه الطبقة العاملة في امة ما يركزون على أولوية مصالح الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم دون اعتبار للقومية " (البيان الشيوعي) . ومن هنا لم ير انجلز أية أهمية للأمة البولندية وحركتها القومية الا أنها محرك لثورة الفلاحين في روسيا (رسالته الى ماركس في 23 مايو 1851) وأكد ماركس أنه كان يكافح قومية مازيني (رائد الوحدة الايطالية) وأنه " كلما دار الحديث عن السياسة الدولية فانه يتكلم عن الدول وليس عن القوميات " (رسالته الى انجلز في 4 نوفمبر 1864) .
وقد فرضت النظرية نفسها على الماركسيين الأوائل في كل تجربة قومية . فعندما انعقد مؤتمر الماركسيين سنة 1896 ، وقف هيكر ـ ممثل الماركسيين البولنديين ـ مطالبا المؤتمر بإصدار قرار بتأييد استقلال بولندا عن روسيا القيصرية . ورفض المؤتمر طلبه . وكان المؤتمرون ماركسيين حقا .
هذه السمة " اللاقومية " التي طبعت الماركسية ، وضعت الماركسيين والنظرية ذاتها في مأزق . فالروابط القومية موجودة في الواقع . والأمم تملأ الأرض ، وهي ظواهر اجتماعية مستقرة . والنظرية " العلمية " لا تعني تجاهل الظواهر كما يقول الماركسيون أنفسهم . وقد ابتكرت لهم نظريتهم الرابطة الطبقية بديلا عن الرابطة القومية ، والولاء الطبقي بديلا عن الولاء القومي ، ولكنها لم تقدم لهم حلا لمشكلة الانتماء القومي . لماذا كانت الأمم وكيف الفكاك من الرابطة القومية . اكتفت بإدانتها والدعوة الى غيرها ، وكان ذلك محاولة " مثالية " تماما للإفلات من الواقع ، قد تنجح فكريا ـ لأنها مثالية ـ ولكنها تنكشف عند أول اصطدام لها بالواقع . وقد كان .
4 ـ اللينينية والوحدة :
ففي الاتحاد السوفييتي وجد لينين نفسه وجها لوجه أمام " المسألة القومية " كما يسمونها . فقد كان الاتحاد السوفييتي ـ ولا يزال ـ مكونا من أمم عديدة ، أكبرها وأقواها الأمة الروسية . وكان لا بد من أن يتعرض لينين للأمة ، والدولة ، وعلاقتهما . فلما لم يجد في منهجه العلمي ما يسعفه لجأ الى المنهج التاريخي محاولا شرح نشأة الدولة القومية على وجه يؤكد إدانتها ، اتساقا مع الموقف الماركسي فنسبها الى الرأسمالية . قال " ان عهد انتصار الرأسمالية على الإقطاع انتصارا نهائيا قد اقترن في كل أنحاء العالم بحركات قومية . ولتلك الحركات القومية أساس اقتصادي هو أن الانتصار التام للإنتاج التجاري كان يقتضي استيلاء البورجوازية على السوق الداخلي ، وكان ذلك يستلزم اتحاد البلاد التي يتكلم سكانها لغة واحدة لتكوين دولة واحدة ... ولذلك نجد أن تكوين الدولة القومية التي تتضمن متطلبات الرأسمالية العصرية في أحسن صورها ، صار المنزع الخاص بكل حركة قومية " .
واضح أن لينين لم يقل رأيا في " الأمة " بل أدان الدولة القومية (او الوحدة كما نسميها نحن العرب) / اذ أحالها خطة بورجوازية رأسمالية غايتها خلق سوق واحد والاستيلاء عليه . لم يقل لينين ـ على الأقل ـ لماذا ، عندما أراد البورجوازيون تنفيذ خطتهم الخبيثة ، وجدوا " بلادا يتكلم سكانها لغة واحدة " . كيف حدث أن تميزت تلك البلاد عن غيرها بلغتها على الأقل . وكيف حدث أن وجد البورجوازيون قوميات " جاهزة " ليقيموا عليها دولا .
ثم ان هذا كله لم يُجد لينين شيئا ـ ولا يجدي غيره ـ أمام الأمم التي لم تتكون فيها دول قومية . اما لأن دولا أخرى قد ابتلعتها كما فعلت " روسيا العظمى " / واما أن " البورجوازية الرأسمالية الاستعمارية " تحتلها فتحول البورجوازية هنا دون قيام الدولة القومية بدلا من أن تقيمها . اتهام البورجوازية هنا لا يجدي ، مع أن هنا وهناك أمما " تناضل من أجل دولتها القومية . فما الحل ؟
هنا لا نجد الماركسية المادية العلمية ، بل نجد اللينينية العملية الانتهازية . نجد التكتيك اللينيني الذكي ملخصا في : تأييد القومية ثم استغلالها للقضاء عليها . وقد رسم لينين خيوط هذا الأسلوب سنة 1914 ، في رده على المعترضين على تضمين برنامج الماركسيين الروس مبدأ " حق الأمم في تقرير مصيرها . كان المعترضون يستندون الى ما كتبته روزا لوكسمبورغ الماركسية البولندية سنة 1908 دفاعا " ضد " استقلال بولندا عن روسيا القيصرية . كانت روزا لوكسمبورغ تجادل على أسس ماركسية لا قومية خالصة . واستعمل المعارضون ما قالته فوضعوا لينين أمام أحد أمرين : اما أن يكون ماركسيا لا قوميا فيخسر تأييد القوميات المضطهدة في روسيا . واما أن يكون قوميا غير ماركسي فيتمسك بحق تلك الأمم في تقرير مصيرها ويكسب الثورة . وقد خرج لينين من المأزق بالقاعدة التي يتبعها الماركسيون اللينينيون حتى اليوم في مقال طويل عن (حق الأمم فيتقرير مصيرها) قال فيه : " ان البورجوازية التي تظهر ، طبعا ، بمظهر القائد في بداية أية حركة قومية تقول أن كل ما يدعم الأماني القومية قابل للتحقيق . ولكن سياسة الطبقة العاملة في المسالة القومية (كما هي في المسائل الأخرى) تساند البورجوازية الى مدى محدود فقط ، ولا تتفق أبدا مع السياسة البورجوازية . ان الطبقة العاملة تؤيد البورجوازية في سبيل توفير السلام القومي ، وذلك لتوفير المساواة في الحقوق وبذلك تخلق أفضل الظروف للصراع الطبقي . وعلى هذا ، وبعكس النشاط البورجوازي على وجه التحديد ، تقدم الطبقة العاملة معاونتها في المسألة القومية . فالطبقة العاملة تؤيد البورجوازية تأييدا مشروطا فقط " . غير أن حتى هذا التأييد المشروط لا يعني قبول الرابطة القومية منطلقا للنضال ، والحدة غاية له . قال لينين : " بينما تعترف الطبقة العاملة بالمساواة في الحقوق بين الدول القومية ، تقدر أكثر من هذا ، وتضع فوق هذا كله ، الرابطة بين الطبقات العاملة في الأمم كلها . وتقديم أي مطلب قومي ، وأي استقلال قومي ، من زاوية الصراع الطبقي للعمال " . فإذا كان النضال القومي متجاوزا مصالح العمال كطبقة ، " فسيكون الأجراء مستقلين . ويتطلب نجاح الصراع ضد الاستغلال أن تتحرر الطبقة العاملة من القومية " . هذه هي اللينينية في المسألة القومية . محتفظة بأساسها اللاقومي الماركسي ، مضيفة إليه كيفية استغلال الحركات القومية " لخلق أفضل الظروف للصراع الطبقي " ، ثم تحرير الطبقة العاملة من القومية والعودة بهم الى الرابطة الأصلية بين " الطبقات العاملة في الأممكلها " حيث يستمد أي مطلب قومي ـ حتى الاستقلال ـ قيمته من مدى ملاءمته للصراع الطبقي .
5 ـ الستالينية والأمة :
ثم جاء ستالين ، وحاول أن يصبغ الماركسية ـ اللينينية صبغة نظرية ، فتصدى لتعريف الأمة فقال : " انها جماعة محدودة من الناس تكونت تاريخيا ، ذات لغة وأرض وحياة اقتصادية مشتركة وتكوين نفسي مشترك يتجسد في ثقافة مشتركة " . وهو تعريف لا بأس فيه لولا أن ستالين قد أضاف " ليست الأمة مقولة تاريخية فحسب بل هي مقولة تاريخية خاصة بمرحلة تاريخية محدودة هي مرحلة تكوين الرأسمالية ... فان عملية تصفية الإقطاع ونمو الرأسمالية هي في الوقت ذاته عملية تكوين الناس في أمم " . (الماركسية والمسالة القومية) . وهكذا بعد أن كان لينين يكتفي بإدانة الدولة القومية قانعا بمنع القوميات في الاتحاد السوفييتي من التطلع الى الاستقلال ، نقل عنه ستالين ما قال بعد أن صرفه الى " الأمة " ذاتها فأصبحت تكوينا بورجوازيا . وبهذا المنطق سحق ستالين الأمم في الاتحاد السوفييتي .
6 ـ الماركسيون المحدثون :
فلما أن جاء المحدثون من الماركسيين ـ أعداء الستالينية ـ عادوا الى التكتيك اللينيني ، فقال 39 عالما ومفكرا منهم اشتركوا في إخراج كتاب واحد : " ينتمي العمال الى قوميات مختلفة وأجناس مختلفة ، ولكن انتماءهم الأول يظل الى الطبقة العاملة . وهذا تحدده وحدة مصالحهم الأممية ، وأغراضهم ونظريتهم ، التي تتولى الصدارة ليزاح ما دونها من أوجه الاختلاف الى الوراء ، واذ يتحقق العمال الواعون سياسيا من أن النضال القومي والانعزال القومي يضران المصالح الأممية للطبقة العاملة ، يحاربون كل أنواع التميز القومي " (أسس الماركسية اللينينية) . أما كيف يكون النضال القومي ضارا بمصالح الطبقة العاملة ، فذلك ـ كما قالوا ـ لأن " خطر القومية الأول يكمن في أنها تلهي العمال عن الصراع ضد عدوهم الطبقي . لقد تضافر الزمان والرجعية البورجوازية على تخطيط مؤقت لعرقلة الصراع الطبقي للطبقة العاملة بإشعال المشاعر القومية . هذا بالإضافة الى أن انتشار الأفكار القومية والشوفينية يؤدي الى تفكك وحدة الطبقة العاملة ، ويضر روابط التضامن ألأممي . وما لم تحارب القومية والشوفينية فإنها ستضعف حتما حركة الطبقة العاملة " . كيف يتصرف الشيوعيون ـ اذن ـ في الأمم التي تناضل من أجل وحدتها السياسية ؟ قال أفاناسيف سنة 1962 : " بينما يؤيد الحزب الماركسي صراع الشعوب المضطهدة في سبيل التحرر يحاول أن يحرر العمال من تأثير القومية البورجوازية ، لأنها لا تتفق مع الوحدة الأممية للطبقة العاملة ، أي النظرية التي تتطلب تضامن العمال في العالم . الحزب الماركسي يحارب فكرة القومية البورجوازية بالتركيز على دور الصراع الطبقي الحاسم في أية حركة اجتماعية ، وبالدعوة الى وحدة الطبقة العاملة في جميع البلاد ، وبهذه الطريقة يدس بالتدريج فكرة الأممية العالمية في أدمغة العمال " (الفلسفة الماركسية) .
7 ـ الماركسيون والوحدة العربية :
واضح أن الإجابة الماركسية عن السؤال
المطروح هو : لا قومية ولا وحدة ، وقد يمكن القول بأن ذلك الموقف أملاه الواقع السوفييتي
حتى لا يتفتت دولا بعدد ما يضم من قوميات ، وقد يكون الموقف متغيرا بالنسبة الى
وحدة أمة مجزأة فلننظر إذن فيما قالوا عنا سنة 1964 . قالوا :
" في السنين الأخيرة برزت شعوب الشرق
العربي الى الصف الأول في الكفاح من أجل التحرر القومي ، بقيامهم بهجوم شامل على مواقع الاستعمار . ان كفاح العرب ضد الاستعمار وفي سبيل استقلالهم القومي ذو دلالة
بالغة تتجاوز أهمية العرب أنفسهم الى المصير العام للسياسة الامبريالية
والاستعمارية . والواقع أن الشرق الأوسط قد أصبح يلعب دورا في الإستراتيجية الاقتصادية والسياسية والعسكرية للدول الكبرى وخاصة بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية
. فالشرق الأوسط مركز قواعد عسكرية أمريكية وبريطانية عديدة . وهناك أيضا تحصل
الاحتكارات الأجنبية على ملايين الأطنان من الزيت الخام الرخيص سنويا أو ما يعادل
ربع إنتاج العالم تقريبا . من هنا نفهم أية ضربة أصابت الاستعماريين من كفاح حركة
التحرر القومي العربي ، وحيث هب العرب ليستردوا استقلالهم وليصبحوا سادة منابع الثروة الطبيعية في الشرق العربي . كانت تلك الضربة أبعد ما تكون توقعا ، إذ أن إرادة
الاستعمار الأجنبي والإقطاع المحلي ، الذي يسانده الاستعمار ، قد أبقت الشعوب
العربية في حالة تخلف اقتصادي شديد ، وأصبحت البلاد التي يسكنوها من أشد مناطق
العالم فقرا . وقد ظن الاستعماريون أن الصراع من أجل ضرورات الحياة استنفذ طاقة
العرب وأن ظروف التخلف الشاملة ستحول بينهم وبين أن يهبوا وأن ينتظموا في حرب ضد الاستعماريين " .
" وقد تبددت تلك الأوهام في مصر أولا
، حيث وضعت حركة الجيش ، بقيادة ضباط من ذوي العقليات القومية ، نهاية لحكم فاروق
وبطانته من أنصار بريطانيا . وقد أممت الجمهورية المصرية قنال السويس ، وحطمت
الحصار الذي فرضته عليها الاحتكارات الرأسمالية .. الخ .. الخ ".
" أحد مميزات حركة التحرر في الشرق
الأوسط أنها تنمو وتتطور تحت شعار الوحدة العربية . وقد ولدت هذه الفكرة خلال صراع ضد الاستعماريين وفي سبيل الاستقلال القومي . وقرب هذا الشعوب العربية بعضها من
بعض . زكتعبير عن التضامن في الصراع ضد الاستعمار ، وكشكل للتعاون الأخوي
والمساعدة المتبادلة بين الدول العربية ، ولعبت وحدتهم دورا كبيرا في سبيل كفاحهم
من أجل الاستقلال . وفكرة الوحدة مقبولة على وجه خاص لدى جماهير الشعب العاملة ،
التي تعاني من الاستغلال الرأسمالي كما تعاني من التخلف الاقتصادي والثقافي .
وطالما احتفظ شعار الوحدة بسمته المضادة للاستعمار ، ولم يهدف الى رفع دول عربية
فوق دول أخرى فانه يحظى بتأييد كل القوى التقدمية والديمقراطية " .
" غير أن بعض التيارات الرجعية في
العالم العربي ، تحاول أن تجعل من تلك الفكرة الشعبية مطية لأغراضها الخاصة .
فالجماعات القومية المتطرفة تحاول أن تفسر شعار الوحدة كدعوة الى وحدة الشعوب العربية كلها فورا حول أقوى الدول العربية بقصد إخضاعهم جميعا لحكومة واحدة "
.
" وأنه لمن الواضح أن الوحدة بين الدول مسألة بالغة التعقيد والدقة ، لا تحتمل التسرع أو الضغط ، ولا تنجح الا إذا
تحققت متطلبات موضوعية أولى لحلها . أما الوحدة التي تهدر حق الأمم في تقرير مصيرها وتفقد بها أمة حتى بعض مكاسبها الاجتماعية وحرياتها السياسية فانها لا يمكن
أن تنجح ولا تكون مفيدة " . (أسس الماركسية ـ
اللينينية) .
هذا رأيهم في الوحدة العربية . ويهمنا أن
نبحث عن أساسه العلمي ، عندئذ لن نجد سوى اللاقومية الماركسية والانتهازية
اللينينة .
لقد أسمونا " عربا " تميزا لنا
عن غيرنا . وبعد أن وصلوا بنا الى الحضيض الاقتصادي حيث " ظن الاستعماريون أن
الصراع من أجل ضرورات الحياة قد استنفذ طاقتنا " ، اذا بالجماهير العربية لا تحدد مواقفها ، وبواعثها ، وغاياتها ، طبقا لمكانها في أسلوب وعلاقات الإنتاج بل
تهب في حرب ضد الاستعمار وغايتها الوحدة ، التي اعترفوا بأنها " مقبولة على
وجه خاص لدى جماهير الشعب العاملة " ، وأن هذا " مميز لحركة التحرر
العربي " ، فعلى أي أساس من " العلم " يريدون للوحدة أن تظل شعارا
فلا تتحقق إرادة الجماهير فتصبح دولة قومية واحدة ؟
يقول الماركسيون ان الجماعات القومية
المتطرفة تحاول او تفسر شعار الوحدة على وجه .. يخضع الشعوب العربية كلها لحكومة
واحدة . إذن كيف تكون الوحدة بدون حكومة واحدة . وما الذي يمنع أن يخضع العرب
جميعا ـ في ظل الوحدة السياسية ـ لحكومة واحدة ؟
يجيب الماركسيون بأن الوحدة تهدر حق الأمم في تقرير مصيرها . أية أمم ؟ هل هناك أمم عربية عديدة ؟ .. من هم إذن العرب أصحاب
" حركة التحرر العربي " ، وكيف تكون حركة تحرر " قومي عربي "
بدون أن توجد " القومية العربية " التي تنسب إليها ؟
هكذا يتخبط الماركسيون في فهم وتفسير حركة
أمة في "حالة تحلف اقتصادي شديد " ظن المستعمرون أن الجوع قد "
استنفد طاقتها " فهبت في " حركة قومية عربية " كانت أبعد ما تكون
توقعا " فبددت أوهام المستعمرين وبرزت الى " الصف الأول في الكفاح من
أجل التحرر القومي " ، يميزها عن غيرها أنها " تنمو وتتطور تحت شعار
الوحدة العربية " المقبولة " على وجه خاص من جماهير الشعب العاملة
" .
كان هذا بالنسبة الى الماركسيين عجب غير قابل للفهم ، لأن نظريتهم لا تعرف سوى الطبقية رابطة في النضال ، وسوى الصراع الطبقي ميدانا له ، وسوى إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج غاية .
وليست غايتنا من كل هذا أن ننتقد الماركسية
، ولكن لنعرف من أمر الماركسيين ما يعرفون : ان نظريتهم لا قومية ولا وحدوية . وهم
لا قوميون ولا وحدويون . لا يخفى هذا ولا يستره التكتيك اللينيني مهما كان ذكيا .
8 ـ رأي مطروح :
ثمة وجهة نظر عربية مطروحة في كتاب "
اسس الاشتراكية العربية " تحت عنوان " جدل الانسان " . وتنطلق وجهة
النظر تلك ـ كمنهج ـ من اضافة الزمان كحد رابع للظواهر والاشياء ، غير أن مجرد
ملاحظة الظاهرة خلال حركتها في الزمان لا تكفي لفهم تلك الحركة واتجاهها ، لأن الزمان نفسه لا يتوقف ، وبمجرد انقضاء اللحظة الزمنية التي تكون حدا رابعا للظاهرة
، يستحيل اعادة الظاهرة بحدها الزمني مرة أخرى . وبهذا يصبح النهجان الواقعي والتاريخي
كلاهما غير صالحين لفهم حركة الظواهر لعدم امكان اثبات محصلتهما اثباتا علميا
بالتجربة والاختبار . لا يبقى الا الكشف عن قانون هذه الحركة ذاتها ، والطريق الى هذا
أن نلاحظ قاعدة حركة " المفرد المشترك " في الظواهر والاشياء ، فان ثبت
اطراد الحركة على قاعدة واحدة ، وأصبحت القاعدة قانونا حتميا يحكم حركة ذلك الفرد
، بمعنى أنه لا يتقدم ـ خلال الزمان ـ الا طبقا له . فاذا رددنا هذا المفرد الى ما
يؤثر فيه ويتأثر به ، أي الى علاقته بغيره ، لنلاحظ ذلك التاثير في القانون الذي
اكتشفناه ، تكون حصيلة تلك الملاحظة " ظاهرة " ان أضيف إليها حدها
الزمني أصبحت ظاهرة تاريخية ، غير أن الظاهرة وتاريخها يكونان غير مفهومين إلا على
ضوء " القانون " الذي اكتشفناه ، اذ عن طريق فهم ما أثر في حتمية أو تأثر
بها ، يمكن فهم " الظاهرة " وتاريخها في زمان معين .
وقد انتهى الرأي الذي نعرضه ـ بعد دراسة
طويلة ـ الى ان المجتمعات الانسانية تنمو وتتطور طبقا لقاعدة حتمية : ادراك المشكلات . حلها . العمل تنفيذا للحل . وان أية مجموعة انسانية لا تتطور الا على
اساس هذه القاعدة وتبعا لترتيب حركتها : الادراك فالحل فالعمل . وان ما يتحقق فعلا يصبح ماضيا غير قابل للالغاء ، ولكنه يحدد المستقبل من حيث هو نقطة انطلاق اليه ،
كما يحدد مضمونه من حيث أن المستقبل حل لمشكلات الماضي .
بالتطبيق لهذا ، اذا نظرنا الى تكوين
المجتمعات ، خلال الزمان ، نجد أنه اذا اجتمع اثنان فأنهما يتطوران عن طريق تبادل المعرفة فيعرف كل واحد منهما كيف نشأت المشكلة المشتركة بينهما ، وتبادل الفكر أي
يعرف كل واحد منهما وجهة نظر الآخر في حل المشكلة ، وتبادل العمل ، أي مساهمة كل
منهما في إشباع حاجتهما المشتركة . والإضافة الى الاثنين ـ خلال الزمان ـ تمد
أبعاد المجتمع على مستويات ثلاثة : امتداد أفقي حيث يتعدد الناس من الفرد الى
الجماعة : وحيث يحمل كل فرد حاجته معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الافراد . وامتداد راسي يبدأ بالحاجة الفردية الى الحاجة الجماعية أو المشتركة . واتجاه الى المستقبل
يكسب المشكلات أولويتها في التطبيق . ومع حتمية الحياة الاجتماعية ووحدة الظروف
بالنسبة الى كل مجتمع ، لا يكون ثمة الا حل موضوعي واحد صحيح في أية لحظة زمنية
محددة ، أيا كان نوع المشكلات : فردية أو جماعية أو مشتركة . تقتضي معرفة هذا الحل
الصحيح وتنفيذه فعلا .. أي يقتضي تطور المجتمع ككل ، الاشتراك في معرفة المشكلة ،
والاشتراك في وضع الحل ، والاشتراك في تنفيذه . وهو ما بين صاحب الرأي بالجدل
الاجتماعي . فالجدل الاجتماعي ـ عنده ـ قانون حتمي للتطور (حل المشكلات) ، بمعنى انه لا يمكن ان تتطور المجتمعات إلا خلاله ـ وأنه ـ عن
طريقه ـ فقط ـ تجد المشكلات الفردية أو الجماعية حلولها الصحيحة . وكل حل صحيح تنتهي به مشكلة يعتبر إضافة تنمو بها المجتمعات وتتقدم خلال الزمان ، ولا يمكن إلغاؤه
.
نشك كثيرا في اننا استطعنا أن نلخص هذا الراي تلخيصا واضحا . ولعله أن
يكمل ايضاحا خلال تجربته في الاجابة عن
السؤال موضوع البحث : الأمة وما علاقتها بالدولة . فلننظر على ضوئه كيف نمت المجتمعات وتطورت خلال حركتها في الزمان عن طريق ادراك المشكلات وحلها وتنفيذ الحل
بالعمل .
9 ـ كيف تكونت المجتمعات :
قد تكون الرابطة الأولى التي جمعت اثنين هي الاجتماع على حل مشكلة حفظ النوع
التي يؤدي حلها الى أن يضاف الى الاثنين ثالث فتوجد الأسرة ثم العائلة ثم السلالة
.. الخ ، تلك وحدة الدم ، تظل قائمة رباطا بين الناس تميزهم عن غيرهم حتى يتجاوز
التعدد ـ على مجرى الزمان ـ ما يميز الناس باصلهم الواحد فتتوه الأنساب في الكثرة
. غير أن مجرد اجتماع اثنين ينشئ مشكلة جديدة على كل منهما ، هي التناقض بين
اجتماعهما على مشكلة واحدة ، وانفصالهما ـ كل منفرد بذاته ـ في الوقت نفسه . وقد
حلت تلك المشكلة الأولى بأول إضافة رائعة ابتكرها الإنسان ، ونعني بها اللغة . فعن
طريق اللغة أمكن الوصول ـ بين المتعددين ـ الى وحدة الإدراك والفكر والعمل لمواجهة
المشكلات المشتركة . وباللغة وجد التطور الاجتماعي آداته . فانطلقت كل أسرة تواجه
ـ مجتمعة ـ ظروفها المشتركة وتحقق مستقبلها المشترك . ثم يستمر النمو بالتعدد ،
وتتعدد المشكلات ، وتتنوع ، بحيث تتجاوز في اتساعها ومضمونها رابطة الدم الى التي
تصبح عاجزة عن ان تجمع جهد الناس وعملهم لحل المشكلات المشتركة بين الأسر لتحقيق
المصير الواحد فقد أتى على الإنسان حين من الدهر ، استنفده في الصراع ضد الظروف الطبيعية المادية للحصول على ما يحفظ به حياته من ناتج الأرض أو الصيد . وكان شكل
صراعه متابعة ثمار الطبيعة المتاحة تلقائيا الى حيث هي ، والاستقرار المؤقت حيث
يجدها ، الى أن تنضب فيهجرها الى مكان آخر من الأرض . كانت الهجرة تغييرا للظروف
المادية (الطبيعة)
بالانتقال من مكان الى مكان آخر .
وبالهجرة وخلالها التقاء بجماعات أخرى تسعى وراء الغاية ذاتها . فيلتقيان على مصدر إنتاج واحد فيقتتلان عليه ، وبغلبة أحدهما
يدخل مرحلة من التطور بدأت بحل المشكلة الأولى فيستقر في الأرض ويبدأ في مواجهة
المشكلات الجديدة التي تطرحها ظروفه الجديدة . فيبتكر في الأرض التي استقر عليها
ما يحل مشكلات جمع إنتاجها وتوزيعه وحراسته أدوات من فؤوس ومنازل وحراب ونبال
...الخ . وإذ يكون هذا هو الطريق الوحيد للحياة ، يصبح جهد الأسر والعائلات قاصرا
عنها ، فيكون الحل الحتمي أن تتجمع الأسر والعائلات قاصرا عنها ، فيكون الحل
الحتمي أن تتجمع الأسر والسلالات والعشائر ـ تدريجيا وخلال مواجهة المشكلات نفسها
ـ لتكون قبائل . أي لتكون بكثرتها ومقدرتها اقدر على حل مشكلات الظروف المشتركة .
ويطرح تعدد الأسر في القبيلة مشكلة جديدة تحلها القبيلة بما تضفيه من نظم وتقاليد
وعادات . وقد يتحقق لها النصر فتمجد نصرها على الطبيعة والأعداء شعرا وغناء وألحانا .. الى أن ينضب رزق الأرض فتبدأ مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة بهجرة
جديدة يصاحبها قتال جديد وهكذا كانت الجماعات والقبائل وحدات متماسكة داخليا
مهاجرة مقاتلة دائما .
ذاك الطور القبلي من المجتمعات : داخل
المجموعة الإنسانية الواحدة ينفرد كل مجتمع وحدة قبلية متميزة عن القبائل الأخرى بأصلها
الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها القبلية ، ولا يميزها عن غيرها الموقع
الذي تعيش فيه ، لتبادل المواقع كرا وفرا خلال الصراع القبلي .
10 ـ كيف تكونت الأمم :
وقد انتهى الطور القبلي أو كاد أن ينتهي . فخلال الهجرة المقاتلة اهتدت بعض
الجماعات والقبائل الى الأرض الخصبة وأودية الأنهار ، فاستأثرت بها حلا للمشكلة
التي كانت تعالجها بالهجرة . فلم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبيعة تلقائيا ، بل
استقرت في الأرض وابتكرت الزراعة . عندئذ افترق تاريخ الشعوب والمجتمعات ، ولم يعد
من الممكن الحديث عن " التاريخ الإنساني " أو " تاريخ البشرية
" ، بل لا بد من تتبع كل جماعة لنعرف تاريخها على ضوء ظروفها الخاصة . فالجماعات
القبلية التي استقرت في منطقة جغرافية محددة خاصة بها دخلت مرحلة تكوين جديدة هي
مرحلة تكوين الأمم ، لتتميز بهذا الاستقرار على ارض معلومة ، وللاستئثار بها عن
الطور الذي سبقها (الطور القبلي) ، غير أن هذا لا يعني أنها أصبحت أمما . فنحن لا نقول أن أية جماعة
من الناس لها لغة واحدة وتقيم في منطقة جغرافية محددة قد أصبحت أمة ، بل ننظر الى
المجتمعات خلال تطورها وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل . فالأمة
تدخل مرحلة التكوين بالاستقرار ، وبه تحل مشكلة الهجرة ، وتصبح طورا متقدما
ومتميزا عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكوين وتحدد معالمها خلال مواجهة المشكلات
المشتركة والمشاركة في حلها . وقد تكون أول مشكلة واجهتها الجماعات المستقرة ،
المحافظة على هذا الاستقرار ، أي حماية الأرض . فالقبائل لم تستقر كلها في وقت
واحد . بل بينما استقر بعضها ودخل مرحلة التكوين كأمة ، ظلت الجماعات القبلية الأخرى
مهاجرة مقاتلة معا ، تغزو أطراف الأرض المستقرة فتقيم فيها مختلطة بسكانها الأصليين
، مبتدئين معا مرحلة من الاستقرار لن تلبث أن تكون منهم أمة واحدة . أو محاولة
غزوها فمنحصرة عن حدودها . وقد يثير الغزاة حروبا مضادة تخرج فيها الجيوش لمطاردة
المغيرين والقضاء عليهم وضم مراكز تجمعهم الى الأرض المستقرة فتمتد حدودها ليشملها
جميعا الاستقرار مقدمة لتكون أمة . وقد استمرت فترات الغزو القبلي وحروب المطاردة
فترات طويلة عوقت تكوين القبائل المستقرة أمما ، وان كانت قد اسهمت ـ من ناحية أخرى ـ في أن يتجاوز المستقرون رواسب الطور القبلي بالعمل المشترك لحماية الأرض
المشتركة في مواجهة العدو المشترك . وعندما تثبت حدود المنطقة الجغرافية الواحدة
مؤذنة بانتهاء الصراع تكون تلك الحدود ذاتها حدودا لما يليها من ارض عليها جماعات
مستقرة . ومن هنا تصبح الجماعات التي تميزت عن القبائل بالاستقرار في منطقة
جغرافية محددة (تمييز في الزمان) متميزة أيضا عن الجماعات المستقرة على مواقع جغرافية أخرى (تمييز في المكان) .
الى هنا تكون قد توافرت للجماعة المستقرة (الأمة في دور التكوين) ، وحدة اللغة ووحدة الأرض (الطبيعة) . غير أن هذا لا يميزها عن غيرها من الجماعات المستقرة التي لها ـ
بالضرورة ـ ذات العناصر . إنما تكون الأمم مميزاتها الخاصة من خلال تكوينها القومي
المنطلق من الاستقرار في منطقة جغرافية معينة . فتفاعل الإنسان مع الطبيعة ينتج
حصيلة مادية (إنتاج زراعي ، إنتاج صناعي ، أدوات إنتاج ،
أدوات نقل ... الخ) .
وتفاعل الإنسان مع المجتمع ينتج حصيلة اجتماعية من النظم والمذاهب والتقاليد
والعادات والأخلاق ..الخ . والنظر الى هذه الحصيلة من تفاعل الإنسان مع الطبيعة والمجتمع
، نظر الى ما يسمى التاريخ . فاذا أضيف الى هذا ـ في مرحلة التكوين القومي ـ أن
الطبيعة قد تحددت بمنطقة جغرافية معينة ومتميزة عن غيرها ، وان المجتمع قد تحدد
بشعب معين ومتميز عن غيره ، كان مؤدى هذا التحديد ـ وهو ما نعنيه بالاستقرار ـ أن
حصيلة تفاعل الإنسان مع طبيعته الخاصة (وطنه) ومجتمعه الخاص (شعبه) ستكون متميزة في مضمونها عن غيرها سواء أكانت حصيلة مادية أم حضارية
أم ثقافية . تكون كل أمة قد تميزت ـ خلال تطورها ـ بتراث حضاري وعقائدي وفكري
مشترك ومتميز عن غيره من أفكار وعقائد وحضارة الأمم الأخرى . تكون كل أمة قد كوّنت
ـ خلال تطورها ـ تاريخها الخاص . وتكون بذلك قد اكتملت أمة .
11 ـ وحدة التاريخ ووحدة
المصير القومي :
عندما يتم تكوين الأمة يلحق هذا التكوين بالماضي ـ بفعل الزمان الذي لا
يتوقف ـ ويفلت من إمكانية الإلغاء . ويصبح التطور منطلقا ـ حتما ـ من الوجود
القومي ـ عندئذ يكون لهذا الوجود القومي أثران ايجابيان في صنع المستقبل : فمن
ناحية يحدد نقطة الانطلاق إليه . ومن ناحية أخرى يحدد مضمون البناء الحضاري في
المستقبل ذاته . ذلك أنه أيا كان هذا المضمون ، فلا بد أن يتم عن طريق مواجهة
المشكلات التي يطرحها الوجود القومي ، وحلها ، فهو محدد به كما تحدد المشكلة الحل
الذي تتطلبه . وبالتالي تكون وحدة التاريخ متضمنة حتما وحدة المصير .
12 ـ الانتماء القومي :
الإدراك المستقر لوحدة التاريخ وحتمية المصير الواحد ، هو الذي يخلق ذلك
الاستقرار النفسي الذي يسمى حبا ، لا يظهر الا بالاستفزاز المعتدى فاذا هو ثورة
جارفة تبدو غير معقولة وهي العقل كله لأنها دفاع عن الوجود ذاته . وعندما لا يكون
ثورة ، يكون شعورا هادئا بالانتماء القومي ، لا يكاد يظهر تعبيرا أو حركة داخل الأمة
ولكنه تعبير قومي عن وجود الرابطة القومية عند الذين يعيشون في أمم أخرى . يشعرون بانتمائهم الى أمتهم من غربة الضغط القومي في الأمم التي يعيشون فيها .
13 ـ الرابطة القومية والروابط الداخلية :
من المهم أن نلاحظ أن تكوين المجتمعات يتم بالنمو والإضافة خلال مواجهة المشكلات وحلها . فكل طور لاحق أكثر من الطور الذي سبقه تقدما ، لأنه كان حلا
حتميا لمشكلات عجز التكوين السابق عن حلها . بمعنى أنه حقق للإنسان من إمكانيات
التطور أكثر مما كانت تهيئة له الروابط الاجتماعية السابقة . فهو أكثر مما سبقه
شمولا ، فيتضمنه ويكمله ولا يلغيه . فالمجتمع القبلي ـ مثلا ـ لم يلغ الأسر ، بل
بقيت أسرا وبطونا وأفخاذا تقوم رابطة الدم فيها مميزا لذوي الدم الواحد ، أضيفت إليها
الرابطة القبلية إضافة كانت حلا لمشكلات عجزت الأسر عن حلها ، فتحقق بها لكل فرد
من أية أسرة من إمكانيات التطور أكثر مما كان له وهو محصور في بني دمه . كذلك كان المجتمع القومي إضافة الى المجتمع القبلي تتضمنه وتكمله ولا تلغيه . ففي ظل
الرابطة القومية ، بقيت الأسر والعشائر التي استقرت فأصبحت قرى ، وبقيت القبائل
التي استقرت فأصبحت أقاليم ومناطق ، وأضيفت الى الرابطة العائلية والرابطة المحلية
، الرابطة القومية إضافة كانت حلا لمشكلات عجزت العشائر والقبائل عن حلها ، فتحقق
بها لكل فرد من أية أسرة أو قرية أو إقليم من إمكانيات التطور أكثر مما كانت من
قبل ، اللغة الواحدة بقيت لغة واحدة كما كانت من قبل ، وسيلة مشتركة لتبادل الرأي
، ولكنها أصبحت أكثر غنى بما أضاف إليها الناس في المجتمع القومي من معارف وآراء
جديدة طورتها فتجاوزت لغة الأسر والأقاليم التي بقيت لهجات تشملها اللغة القومية
ولا تلغيها . ومثل هذا تحقق إضافة في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل
، فكسب به كل فرد من أية أسرة من أي إقليم علما وثقافة ومقدرة أكثر مما كان له من
قبل . وتترتب على هذا نتيجتان لهما أهمية خاصة : أولهما : ان الرابطة القومية لا تنفي ولا تنقص الروابط الداخلية في الأمة الواحدة (العائلية أو الإقليمية) بل تكملها وتغنيها . ثانيا : ان محاولة تفتيت الروابط المتقدمة
للعودة الى روابط متخلفة رجعية فاشلة . أما انها رجعية فلأنها عودة الى الرابطة
العاجزة عن حل المشكلات ، والتي كان عجزها هذا سببا حتم وجود الرابطة الأكثر شمولا
. وأما أنها فاشلة فلان كل تكوين يلحق بمجرد تمامه بالماضي فلا يمكن إعادته أو إلغاءه
. فمحاولة تفتيت رابطة الأسرة لإحالتها أفراد غرباء محاولة رجعية فاشلة ، قد تثير
الصراع بين أفراد الأسرة الواحدة ولكنها لا تستطيع أن تلغي رابطة الدم . وآية هذا
أن أحدا لم يختر والديه على هواه . ومحاولة تفتيت الرابطة القبلية لتعود القبائل أسرا
محاولة رجعية فاشلة ، قد تثير الصراع بين عشائر القبيلة الواحدة ولكنها لا تستطيع
أن تلغي رابطة الأصل الواحد واللغة الواحدة والعادات الواحدة والتقاليد الواحدة .
وآية هذا أن أحدا لم يختر قبيلته على ما أراد . كذلك محاولة تفتيت الأمة لتحيل
الأمة قبائل أو أقاليم محاولة فاشلة قد تثير الصراع بين أقاليم الأمة الواحدة
ولكنها لا تستطيع أن تلغي الرابطة القومية . وآية هذا أن أحدا لم يختر أمته .
فعندما ولد ـ لم يكن في ذلك حرا ـ كان جزءا من كل بحكم التاريخ الذي صنع الناس
أمما .
14 ـ الأمة والدولة :
إذا صح قولنا ان المجتمعات تتطور عن طريق
النمو والإضافة التي تتحقق خلال مواجهة المشكلات المشتركة والعمل المشترك تنفيذا
لحلها ، فان علاقة الأمة بالدولة تصبح واضحة . ولنبدأ من البداية .
كان لا بد لكي تتطور الجماعات الأولى ـ أي
لكي تحل مشكلاتها ـ من أن يتبادل أفرادها المعرفة بالمشكلات وأن يتبادلوا الرأي في
حلها ، وأن ينظموا جهودهم ويقسموا العمل فيما بينهم تنفيذا لما انتهى إليه رأيهم .
كان هذا حتما ، بمعنى أنه لم يكن من الممكن على أي وجه حل المشكلات المشتركة الا
عن طريق تبادل المعرفة وتبادل الرأي وتبادل الجهود . وكان تنظيم هذا كله في جماعة
متعددة الأفراد مشكلة في ذاته ابتكر الناس لها " جهازا " تنفيذيا بوضع إرادة
الجماعة موضع التنفيذ ويردع المتمردين على تلك الإرادة . وبهذا كان ذلك الجهاز حلا
حتميا لإمكان حل المشكلات ، أي لإمكان التطور . وبذلك وجدت تلك الأداة التي
أسميناها أخيرا الدولة . قد يكون ذلك الجهاز الذي يدير وينسق ويردع : الوالد في الأسرة
أو الشيخ في القبيلة أو الكاهن أو الأمير أو الحكومة ، وقد يكون مصدر توليته الأمر
في المجتمع : وضعه العائلي كقرينة على عدله ، أو سنه كقرينة على حكمته ، أو شجاعته
كقرينة على قوته ، أو انتخابه من الصفوة أو من الجميع انتخابا مباشرا أو غير مباشر
، وقد يسمى نظام حكمه : قبليا أو ملكيا أو جمهوريا ، وقد يطبق من القواعد والنظم
ما يسمى : إقطاعيا أو رأسماليا أو اشتراكيا ، وقد يكون أسلوبه في الردع : الطرد من
الجماعة أو الإعدام شنقا ... الخ ، غير أن هذا كله لا يغير طبيعته ، اذ أن وجوده
بما له من سلطة الإدارة والردع هي الحل الحتمي لمشكلة طرحها المجتمع بوجوده ذاته .
حتمية حل مشكلات مجتمع واحد من أفراد متعددين . حتمية تحقيق مصير واحد في مواجهة ظروف واحدة . حتمية ان تكون اداة العمل وتحقيق المصير ، واحدة .
من الممكن الآن أن نقول أن رب الأسرة كان
جهاز الإدارة والردع في المجتمع العائلي ، وأن شيخ القبيلة كان جهاز الإدارة
والردع في المجتمع القبلي وان الدولة هي جهاز الإدارة والردع في المجتمع القومي .
كل مجتمع من هذه الأطوار كانت له وحدة المشكلات ، وكان حل المشكلات ذاتها وتحقيق
المصير المشترك ، يقتضي حتما سلطة واحدة لتنفيذ الحل الواحد للمشكلات الواحدة التي
طرحتها ظروف واحدة . لم يوجد في أسرة ربان منفصلان لكل منهما ذات السلطة ، ولم
يوجد في القبيلة شيخان منفصلان لكل منهما الرأي الأخير ، وحيثما وجد هذا أو ذاك
تمزقت الأسر والقبائل أفرادا وشيعا يصارع بعضها بعضا الى أن تعود الى السلطة
الواحدة أو تقع فريسة لمن لهم الأداة الواحدة لتنفيذ رأيهم الواحد . لهذا فان وجود
الأمة الواحدة يحتم أن تكون لها الدولة القومية الواحدة لتحقيق المصير الواحد .
وفي المصير الواحد حل لمشكلات الكل والأجزاء معا . فان وجدت الدول المتعددة في الأمة الواحدة ، لن تعود قبائل لأن الماضي لا يعود ، ولكن تمزقها أقاليم يصارع بعضها
بعضا الى أن تعود الى الوحدة أو تقع فريسة لمن لهم الإدارة الواحدة لتنفيذ رأيهم
الواحد . ولم يكذب التاريخ هذا أبدا ، فكلما اكتمل نمو الأمة حققت بإرادتها الدولة
القومية .
وكما أن الرابطة المتطورة لا تلغي الرابطة
السابقة عليها ، بل تشملها وتكملها ، كذلك كانت السلطة في علاقتها بما سبقها
تاريخيا من سلطات . فقد كانت القيادة الموحدة في القبيلة إضافة الى مقدرة أرباب الأسر
ورؤساء العشائر ، لم يلغ رئيس القبيلة أرباب الأسر ولكن حمل عنهم عبء حل مشكلاتهم المشتركة مع غيرهم وبقي كل منهم ربا لأسرته . وحقق ـ بإمكانيات القبيلة كلها ـ لكل
فرد من أسرهم ما كانوا هم عاجزين عن تحقيقه بإمكانياتهم العائلية . كذلك لم تلغ
الدولة القومية سلطة الإدارات المحلية ، ولكن حملت عنها عبء حل المشكلات المشتركة
بين الأقاليم وبقي لكل إدارة سلطتها المحلية . وحققت ـ بإمكانيات الأمة كلها ـ لكل
فرد من كل إقليم ما كانت الإدارات المحلية عاجزة عن تحقيقه بإمكانياتها المحلية .
ذلك لأنه كما ان الوجود القومي لا يلغي الروابط المحلية والإقليمية بل يشملها
ويكملها إضافة الى مقدرتها على التطور ويحددها كما تتحدد الأجزاء بالكل الواحد .
حتم إذن ان تكون للأمة دولة قومية واحدة.... لتكون قادرة على التطور .
15 ـ الدولة اللاقومية :
غير أنه إذا كان وجود الأمة يحتم الوحدة
السياسية ، فان اصطناع وحدة سياسية لا يعني وجود امة ، لان اصطناع حل لا يعني قيام
مشكلة . ولا يمكن أن تقوم الدولة الواحدة على غير أساس قومي نتيجة للتطور الحر .
بل لا بد أن تكون مفروضة بالحصر الجغرافي أو الحصر السياسي . ومن أمثلة الحصر
الجغرافي المجموعات البشرية التي تعيش على الأرض الفاصلة جغرافيا بين أمم متجاورة
، ومنها ما يسمى الأمة السويسرية . ومن أمثلة الحصر السياسي تلك التقسيمات التي
فرضها الغالبون بعد الحرب العالمية الأولى ولا يزال بعضها قائما ، حيث قسمت
المجموعات الإنسانية دولا ذات حدود سياسية تحصر بينها مجموعات من خليط قومي ، أو
تمزق أمة دولا بحجة " توازن القوى " بين الدول المنتصرة . ومنها تلك
المجموعات التي حملها الاستعمار الى أمريكا وكون منها دولا .
إنها كلها دول مفروضة يختلف أثرها بمدى ملاءمتها للوحدة القومية واتفاقها مع التطور خلال النمو والإضافة . فالدول التي قامت على تجميع قوميات بأكملها في ظل دولة واحدة لا تميز بينها ، فتكون بذلك دولة قومية لكل منها وان كانت دولة مشتركة ، ان استمر الحصر السياسي قد تصنع القوميات في كنف الدولة الواحدة تاريخها المشترك وتتحول بهذا الى أمة واحدة . وهو ما حدث بين الاسكتلنديين والانجليز في انجلترا ، وما يحدث حاليا في الاتحاد السوفييتي وفي اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية ، كذلك بالنسبة الى الدول التي حصرت مجموعات من خليط غير متميز قوميا ، فان استمرار الحصر السياسي يخلق تاريخا واحدا لتلك المجموعات فتصبح به أمة واحدة ، كما يحدث حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا . أما الدول التي قامت على تمزيق أمم تم تكوينها كما حدث في الأمة العربية ، وكما يحدث حاليا في ألمانيا ، وكوريا فمحاولات رجعية فاشلة للعودة الى الوراء لا بد أن تنتهي بتحطيم الدول المصطنعة ليلتئم الوجود القومي في ظل الدولة القومية الواحدة ، هذا حتما . فلا تؤخذ الدول المصطنعة دليلا ضد حتمية الوحدة السياسية للأمة الواحدة . ولنصبر على التاريخ ، حتى نرى كيف أن استحالة حل المشكلات في الأمة الواحدة بغير الوحدة السياسية سيحتم الوحدة ـ طريقا وحيدا ـ للتطور .
***
16 ـ كيف تكونت الأمة العربية :
دخلت أمتنا طورالتكوين القومي منذ أكثر من خمسة عشر قرنا ، وكان تكويننا القومي متميزا ببداية
فميز وجودنا القومي عن كثير من الأمم .
ففي خلال أحقاب طويلة من الهجرة والصراع استقرت مجتمعات قبلية متجاورة في رقعة من
الأرض يحصرها من الشمال البحر الأبيض المتوسط وجبال طوروس ، ومن الشرق إيران
والخليج العربي ، ومن الجنوب المحيط الهندي فهضبة الحبشة فالصحراء الإفريقية
الكبرى ، ومن الغرب المحيط الأطلسي . وكانت تلك الجماعات القبلية متميزة عن بعضها
بما ورثته عن العهد القبلي أي بالأصل الخاص واللغة الخاصة وبتراث خاص من الثقافة
والعقائد والتقاليد والطور الحضاري . وعندما استقرت كل منها في مكانها دخلت مرحلة
التكوين القومي . ولو طال بها الاستقرار لتطورت أمما متميزة . غير أن الاستقرار لم
يطل بأية جماعة منها حتى تتكون أمة ، ولم يطل بها جميعا حتى تتكون أمما متجاورة .
فقد اجتاحتها موجات كاسحة من الغزو الخارجي ، إما من وسط آسيا أو من وسط إفريقيا
أو من وسط أوربا . كما ان موجات الهجرة الداخلية ـ السلمية والمقاتلة ـ لم تنقطع
عابرة بها أو مستقرة فيها . وكانت فترات الغزو تعطل نموها وتعوق تكوينها القومي .
وما ان ينحسر الغزاة ، أو يستقروا ، لينشط التكوين القومي حتى تدهمها ـ كلها أو
بعضها ـ موجة غازية أخرى . واستمر هذا الوضع فترات من الاستقرار فالاضطراب فالغزو
فالاحتلال ، تحبس نمو تلك الجماعات عند طور التكوين القومي حتى ظهر الإسلام ثورة
دينية وفكرية واجتماعية معا .
عندما ظهر الإسلام لم تكن أية جماعة من تلك الجماعات قد تكونت أمة ، وان كان أغلبها في طور التكوين .
فقد كانت السيطرة الفارسية والرومانية قد عطلت نمو كل الجماعات التي تقيم في النصف
الشمالي من تلك المنطقة الجغرافية . وكانت الجماعات الأخرى في قلب الجزيرة العربية
أو مشارف صحراء إفريقيا لا تزال في مرحلة قبلية متخلفة . وقد بدأ المسلمون بناء
تاريخهم من أكثر البقاع تحررا من السيطرة الأجنبية أي أكثرها قابلية للتطور والنمو
. وقد وفر الإسلام للمجتمعات القبلية المستقرة في وسط الجزيرة العربية ، رابطة
مشتركة تجاوزت بها التمييز القبلي ، وتميز بها المسلمون عن غيرهم من قبائلهم أو من
القبائل الأخرى . وجمعت مشكلة نشر الدعوة المسلمين جميعا فاندفعوا الى ما جاورهم
من قبائل وأقاليم وأمم . وكلما دخلت جماعة أو مجتمع أو أمة في الإسلام ، بدأت تاريخها بالإسلام بداية جديدة . غير أن الإسلام لم يلغ ما صنعه التاريخ من قبله بل
طوره الى مستقبل أكثر غنى وأكثر خصوبة وأكثر تقدما . وعندما توقف المد الإسلامي
كان قد ضم إليه مجتمعات مختلفة في درجة تطور تكوينها الاجتماعي . كانت منها أمم
أدركها الإسلام وهي مكتملة التكوين مثل فارس ، وكانت من بينها جماعات ومجتمعات لا
تزال في طور التكوين لم تستو أمما ، وقد كان أثر الإسلام بالنسبة الى كل من تلك
المجتمعات مختلفا .
فالأمم التي أدركها
الاسلام وقد اكتمل وجودها القومي كان الاسلام بالنسبة اليها اضافة أغنت تركيبها
الداخلي وأمدّها بامكانيات جديدة لمزيد من التطور ، ولكنه لم يلغ قوميتها فظلت
أمما مسلمة . أما المجتمعات التي أدركها الاسلام وهي في طور التكوين القومي لم تصبح
أمما بعد ، فقد أكمل الاسلام تكوينها أمة . لم يكن الإسلام بالنسبة إليها عقيدة
فحسب ، ولا إضافة الى مقدرتها على التطور فقط ، بل كان قبل هذا ، وفوق هذا ، عنصرا
من عناصر تكوينها القومي . كان جزءا من وجودها ذاته . تحققت به وحدة الأرض ، ثم أخذت عنه لغتها الواحدة ، وصنعت في ظله تاريخها الواحد ، فأصبحت بهذا كله أمة
عربية واحدة .
بتلك البداية تميزت
الأمة العربية عن الأمم الأخرى داخل العالم الإسلامي الواحد . تميزت بلغة القرآن
عن الأمة الفارسية والأمة التركية والأمة الأفغانية ..الخ ، حتى عندما كان الإسلام
يشملها جميعا في دولة واحدة . وتميزت بوحدة الأرض التي امتدت الى حدود فارس وحدود اسبانيا وحصرتها الصحراء والبحار من الجهات الأخرى ، حتى عندما كانت تلك الأرض ومعها فارس وتركيا واسبانيا والصحراء ذاتها أجزاء من دار الإسلام . وصنعت من أرضها
، وبلغتها ، أنماطا من الفكر والمذاهب والتقاليد والحضارة ، كانت تراثا عربيا
خالصا حتى عندما كان الإسلام يطبع حضارتها وحضارات قومية أخرى بطابع إسلامي مميز .
وسنرى أثرهذا عندما تتفكك دولة المسلمين فيسفر العالم الاسلامي عن تلك الأمم التي
دخلها اضافة الى وجودها القومي ، وهي كما كانت أمما متميزة وان كانت مسلمة ، ولكنه يسفر عن تلك الجماعات والمجتمعات التي دخلها وهي في طور التكوين القومي ، وقد اكتملت في ظله أمة عربية واحدة .
بدأ الإسلام عقيدة
تجمع المسلمين ، ولكنه عندما دخل عنصرا في التركيب القومي للأمة العربية أصبح نوعا
من الحياة ، أسهم في بنائها المسلمون وغير المسلمين فكانت لهم تاريخا واحدا ،
وكانوا بها أمة عربية واحدة . فنحن العرب ـ مثلا ـ أيا كانت عقائدنا الدينية لم
نعرف في تاريخنا أزمة الحرية التي عرفتها أوربا في القرون الوسطى . ولم نحتج الى
فلاسفة من أمثال روسو ليضعوا لنا نظريات تبرر أن الناس متساوون أمام القانون ، ولم
نقض قرونا لنعترف للنساء بحق الملكية . ولم نخض حروبا لنكسب الحريات السياسية
والمدنية . لم تعوزنا يوما الحجة لندين الاستبداد . لقد كنا نخضع للاستبداد عاجزين
عن مقاومته ، متربصين به ، وكنا نعرف أنه استبداد وكان المستبدون أنفسهم يعرفون .
ونحن العرب ـ مثلا آخر ـ لم نعرف قط نظام الإقطاع الذي عرفته أوربا . كانت لدينا
ملكيات كبيرة من الأرض تمكن أصحابها من الاستبداد الذي يخالف القانون والعرف
والتقاليد والعقيدة السائدة . كنا نعرفها ـ حيث وجدت في تاريخنا ـ مصدرا للعدوان
المادي وكان المعتدون أنفسهم يعرفون . ولم يكن الإقطاع في أوربا مجرد ملكيات كبيرة
من الأرض ، بل كان نظاما من الحقوق المشروعة التي يمارسها أمراء الإقطاع في مواجهة
تابعيهم . كان الإقطاع سيادة يدعمها القانون وتؤيدها التقاليد والعقائد وتطيقها الأخلاق وقد يتغنى بها الفن قصيدا وألحانا . ولما لم نعرف الإقطاع نظاما لم نعرف
البورجوازية ثورة . فالبورجوازية كانت " الطبقة الوسطى " بين الإقطاعيين والفلاحين التي
قادت ثورة التحرر من عبودية النظام الإقطاعي الأوربي ، وكان خروج البورجوازيين على
سيادة الإقطاعيين ثورة لأنها كانت تحطيما لإطار شرعي من النظام والقيم والتقاليد .
أما الذين كافحوا ويكافحون استبداد كبار الملاك في أمتنا فإنهم لا يحطمون حقوقا
مشروعة ، بل يدفعون عن أنفسهم وعن غيرهم اعتداء غير مشروع . إنهم حماة الحرية ولكنهم ليسوا بورجوازيين .
كذلك ملأنا العلم كشفا عن أسرار الطبيعة المادية وأرسينا كثيرا من قوانين تحول المادة ولم ننزلق الى
القيم المادية الأوربية التي سادت في القرن الثامن عشر . وملأنا الفكر فلسفة
واجتماعا ولم ننزلق الى القيم الفردية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر .
وملأنا الحياة أخوة وتضامنا ولم ننزلق الى القيم الجماعية التي سادت أوربا في
القرن العشرين . وملأنا الأرض حضارة ولم ننزلق الى القيم الاستعمارية التي سادت أوربا وتسودها الى حين ..الخ .
كنا محصنين ضد
الانزلاق بحكم تكويننا القومي . فقد قضينا معا أكثر من ثلاثة عشر قرنا نحيا الحياة
ونصنعها كل يوم ، في أرضنا وحيث كنا في الأرض ، في ظل الفكر والثقافة والقيم الإسلامية الكامنة في تكويننا ذاته .. حتى عندما عبرنا ـ معا ـ مرحلة الصراع الداخلي الذي
يصاحب بداية التكوين القومي ، كان الصراع عربيا خالصا ، دار بين الرواسب القبلية والنزوع القومي العربي ، وكان موضوعه الاستئثار بالسلطة في الدولة الواحدة . ولقد
انتقلت به الدولة من المدينة الى دمشق الى بغداد الى القاهرة ، وقامت أكثر من
عاصمة واحدة في وقت واحد ، الا أن كل عاصمة من تلك كانت تعصم العرب جميعا أو تحاول
هذا أو تدعيه ، ولكنها لا ترتضي ـ في أي حال ـ أن تكون دولة إقليمية . كان ذلك
صراع الماضي والمستقبل في طور تكوين الأمة العربية ، ولم يكن صراعا بين أمم يغزو
بعضها بعضا . لقد كان الأمويون والعباسيون والحمدانيون والأيوبيون والفاطميون ..الخ ، أحزابا من العرب ولم يكونوا أمما في الأمة الواحدة . لهذا كان الصراع
مقصورا على العرب تعبيرا عن مشكلة تطورهم القومي ، ولم يتجاوزهم الى الأمم الأخرى
في دولة المسلمين . لم يكن فيه طرف من المسلمين في إيران أو أفغانستان أو تركيا أو
الهند ...الخ . فلما أرادت الأمة التركية أن تصل الى الخلافة كان عليها أن تغزو الأمة العربية ـ بمن فيها من مسلمين وغير مسلمين غزوا داميا . وبينما كانت الجيوش
التركية متميزة بانتمائها القومي لا تخفيه راية الإسلام ، كان ضحاياها في كل مكان
من الخليج الى المحيط عربا متميزين بعروبتهم ولو كانوا غير مسلمين .
17 ـ الأمة العربية والدولة
القومية :
عندما أصبح العرب أمة واحدة في ظل الإسلام ،
كانت لهم به دولتهم القومية الواحدة . ولا يمكن فهم هذا الا على ضوء نظرية الشريعة
الإسلامية في الدولة . فالدولة في الإسلام دولة المسلمين جميعا . وحتى عندما تضم
دولة المسلمين قوميات مختلفة فان كل أمة منها تجد في الدولة دولتها القومية ، وان
كانت دولة مشتركة . لم يكن وجود الخلافة في الحجاز يعني أن دولة الحجاز تملك سلطة
ما على مصر ، وإنما كان الحجاز ومصر كلاهما يخضعان لدولة مشتركة هي دولة كل منهما
في الوقت نفسه . كذلك كانت الخلافة دولة العرب والفرس معا ، لم تفقد أي من الأمتين في ظل الإسلام ـ دولتها القومية . ذلك حكم الشريعة المطهرة من الاستعلاء
والاستغلال والتعصب والاستعمار . واذا كانت الدولة قد قسمت الأرض الى إدارات منها
المقصور على مدينة واحدة ومنها ما يظم إقليما كاملا ، فلم يكن ذلك خلقا لدول عربية داخل الدولة الواحدة . حتى المتمردون والثائرون من حكام الأقاليم وولاتها ،
والطامعون منهم والطامحون ، كانت ثوراتهم وتمردهم وطموحهم يدور داخل الدولة
الواحدة ولو أدى الى القتال للاستيلاء على السلطة المركزية . كان تقسيما إداريا في دولة واحدة تضم قوميات عدة . ولم يحدث قط ـ منذ الفتح الإسلامي حتى الاحتلال الأوربي
ـ ان احتاج عربي الى اذن من احد ليتنقل ويعيش ويمتلك ويتاجر ويتعلم ويثور ، أيان
شاء من الخليج الى المحيط . كان يسعى أيان يسعى على ارض أمته في حدود دولته .
غير أن الأمر لم يلبث كثيرا حتى انقلب ـ في النصف الأول من القرن التاسع عشر ـ من دولة المسلمين الى دولة الترك . فاستعمل
الترك دولة الخلافة في بناء مستقبل الأمة التركية من إمكانيات الأمة العربية ،
وافتداء بقائهم كأمة بأجزاء من الوطن العربي . فعندما تعرضت دولة المسلمين للغزو الاستعماري الأوربي ، أثبت موقف الخلافة أنها دولة تركية متآمرة مع الأمم الأخرى من أوربا المستعمرة ضد الأمة العربية . عندئذ ـ فقط وبعد قرون طويلة ـ فقد العرب
دولتهم القومية . فبينما كان الأسطول العربي من الجزائر محتشدا في فافارين حيث دمر
وهو يدافع عن الدولة الواحدة ، انتهزت فرنسا الفرصة واحتلت الجزائر سنة 1830 ولم
تفعل الخلافة شيئا عندما حاصرت فرنسا قصر الباي في تونس سنة 1881 لتفرض عليه
معاهدة تمهد بها لاحتلال تونس العربية . وفي ذلك العام أيضا تآمرت الخلافة التركية
مع الاستعمار الانجليزي ضد ثورة " أولاد العرب " في مصر وتم احتلالها
سنة 1882 . ولما قضي الأمر قبل الأتراك مشاركة الانجليز في إدارة السودان العربي
سنة 1899 . ومن قبل هذا احتلت انجلترا الشواطئ العربية على الخليج وفي الجنوب بسلسلة من المعاهدات فرضت أولا على أمير لحج وعدن سنة 1802 ثم أمير البحرين 1804
ثم أمير ... الى آخر الأمراء والمشايخ والسلاطين الذين نثرت بهم انجلترا احتلالها على
طول شواطئ الجزيرة العربية . هذا في الوقت الذي كانت انجلترا وفرنسا وألمانيا
والنمسا وروسيا تخوض الحروب معا ، وضد بعضها البعض ، لتستقل الأمم الأوربية في البلقان من الاحتلال التركي ، ثم يعقدون الاتفاقيات معا للإبقاء على وحدة الأمة
التركية . وبينما كانت الخلافة في تركيا تدير سياستها على أسس قومية تركية خالصة ،
كان المستعمرون الأوربيون يعقدون الاتفاقيات فيما بينهم قسمة للوطن العربي . في
اتفاق 1902 تحتل فرنسا مراكش مقابل أن تحتل ايطاليا ليبيا . وفي اتفاق 1904 تحتل
انجلترا مصر مقابل أن تحتل فرنسا المغرب . ويوم ان أصبح احتلال إقليم عربي شرطا ومقابلا لاحتلال إقليم عربي آخر ، قدم التاريخ أكثر الأدلة مرارة على وحدة المصير القومي . وقد تحقق المصير الواحد في مراكش سنة 1912 وفي ليبيا سنة 1911 وأعلن رسميا في مصر سنة 1914 .
كان كل ذلك كافيا ، وأكثر من كاف ، ليدور
الصراع في قلب الإمبراطورية العثمانية المتداعية على أسس قومية . في معركة الوجود
القومي أمة العرب قد فقدت دولتها القومية
، ضد أمة الترك ودولتها القومية . وعندما طرحت تركيا دستور الإسلام وأصدرت دستور 1908 بدأت حركة تتريك العرب وأصبح الصراع على الوجود القومي بين الأمتين سافرا .
وكان طبيعيا عندما دخلت تركيا حرب المستعمرين الأولى (1914 ـ 1918) أن يحدد العرب موقفهم على ضوء غايتهم القومية في الاستقلال والوحدة
، فقامت الثورة العربية سنة 1916 ضد الأتراك على اتفاق مع أعدائهم أن يكون للعرب
الاستقلال بعد النصر . وانهزمت تركيا وانتصرت الثورة العربية . أما العدو التركي
الذي انهزم فقد بقيت له وحدته . وأما الحليف العربي الذي انتصر فقد مزقوه إربا .
كذلك كان الاستعمار الأوربي يخشى الأمة العربية ولا يضيق بالأمة التركية أو أمم البلقان . كنا نحن الضحية المقصودة منذ البداية . وكنا لقمة سائغة منذ أن فقدنا
دولتنا القومية . وأكمل مصطفى كمال الشوط فألغى الحروف العربية واستعار الحروف اللاتينية ، وأكمل المستعمرون الشوط فجمعوا نفاية الرجعيين في أممهم ودقوهم إسفينا
في قلب الوطن العربي باسم إسرائيل .
كذلك كنا دولا في أمة واحدة ، تحديا من التاريخ لكل الإقليميين ، ان أحدا منهم لا يستطيع ـ
مهما بلغ به التبجح ـ أن يضع إصبعه على خريطة " دولته " ويقول أنا خططت
حدودها . فقد رسمت حدود الدول المتعددة على ارض الوطن العربي الواحد ، في غيبة الدولة القومية الواحدة ، تنفيذا لإدارة المستعمرين وقهرا لإرادة العرب .
18 ـ المنطلق القومي :
لسنا إذن ، مجتمعات قبلية متجاورة في دورالتكوين القومي ، يحتاج الى " التعاون " وفتح مجالات التفاعل ، وتوحيد
الصفوف أو الأهداف ليساعد هذا على تكويننا أمة ، ثم ننتظر الى أن يتم التكوين لتكون
لنا الوحدة السياسية . ذلك طور تجاوزناه منذ أكثر من ألف سنة . ولسنا دولا قومية متعددة تريد أن تقيم بينها اتحادا كونفدراليا أو فيدراليا ، حتى يستفتى فيها الناس
في كل دولة منها فيما اذا كانوا يرغبون أو لا يرغبون في الوحدة أو الاتحاد . ولسنا
كتلة إقليمية تريد أن تنسق مصالحها الاقتصادية والسياسية فلا بد من أن تقارب
الرؤوس وتتضامن مع الحكومات وتعقد الاتفاقات وتضع شروط ذلك التنسيق حتى لا تطغى
مصالح قوم على قوم . ولسنا حلفاء في معركة ضد الاستعمار أو ضد الصهيونية فلا بد من
أن يسهم كل حليف بقدر معلوم من المال أو من الجند . ولسنا كيانات غريبة ينبغي أن يحذر كل منها من التدخل في شؤون الآخرين .
انما نحن أمة واحدة سلبها الاستعمار ـ بقوة السلاح ـ دولتها القومية الواحدة ومزقها دولا عدة .
ذلك هو المنطلق القومي .
19 ـ حتمية الوحدة :
ان كوننا أمة واحدة يعني أن مشكلاتنا واحدة
وإمكانيات حلها واحدة ، ولا تحل الا بجهد واحد . ذلك ما عرفنا أسسه من قبل .
وعرفنا أيضا أن وحدة المشكلات والحلول والعمل ، تحتم وحدة السلطة فيها . لتعرف
المشكلات على حقيقتها ولتعرف أسلم الحلول ، وليمكن حشد الجهود وتنظيمها وقيادتها
في عمل واحد ، يتحقق به ـ لكل واحد من الأمة ـ حل مشكلاته الفردية أيا كان نوعها ،
ومؤدى هذه الحتمية أن ليس ثمة طريق آخر لحل مشكلات الأجزاء والكل معا الا الوحدة
السياسية . أما التجزئة المفروضة ، فإنها جهد فاشل ، لا تستطيع أن تمحو ما صنعه
التاريخ وتحيل الرابطة القومية الى رابطة إقليمية ، ولكنها تثير الصراع بين الأجزاء
في سبيل الوحدة الى أن تتحقق حتما . وأثرها الوحيد أن تستنفد من الجهد في الصراع
ضد الإقليمية ما كان يجب أن ينصرف الى المستقبل ، فتحبس نمو الأمة وتبقى مشكلاتها
معلقة الى أن تتم الوحدة ، فتقوم عندئذ ـ وليس قبل هذا ـ إمكانيات بناء حياة أفضل
في الأجزاء وفي الكل معا . فالتجزئة ـ إذن ـ ليست حائلا دون الوحدة ، فان الوحدة
لا بد من أن تتم حتما ولا بد للتجزئة من أن تزول . ولكن التجزئة معوق للتطور . ولا يزال على العربي في كل مكان أن يثور ليتحرر الجزء الذي يعيش فيه . ثم يثور لتتحرر الأجزاء
الأخرى ، ثم يثور لتحقيق الوحدة ، قبل أن تتاح الفرصة لجهوده الخلاقة لتنصرف الى
بناء الحياة نفسها .
التجزئة إبقاء على أسباب التخلف وتعطيل للتطور ، ولهذا فهي رجعية ، ولكنها وان كانت تضيع أحقابا وتبدد جهودا وتهدر دماء ، فإنها لن تحول دون الوحدة ، فهي جهد فاشل . كذلك قلنا أن محاولة تفتيت الروابط المتقدمة التي سبقتها جهد رجعي فاشل .
20 ـ المشكلات والغايات :
إذا كانت هذه الحتمية في حاجة الى تدليل من
الواقع ، فلنحدد مشكلاتنا وغاياتنا ، ولننظر فيما اذا كان من الممكن أن تحل
المشكلات وتتحقق الغايات بغير دولة الوحدة .
إننا أمة واحدة مستعمرة بعض أجزائها ، وممزقة دولا ، أدى هذا وذاك الى ان أصبحت متخلفة اقتصاديا مع ان فيها من الإمكانيات
الطبيعية والبشرية ما يكفي لتحقيق الرخاء بدون استغلال . فلنأخذ الرخاء والحرية
غاية متفقا عليها يتطلع إليها كل عربي في أي جزء ، وليسمي من يريد الرخاء مع الحرية : اشتراكية أو تقدم اجتماعي .. الخ . فكيف يمكن أن يتحقق هذا أيا كانت
تسميته ؟
يتحقق بأن نرصد كل الإمكانيات الطبيعية والبشرية والعلمية وكل الجهود لتحقيقها . وهذا غير ممكن ما دام المستعمرون ينهبون
من ثرواتنا وإمكانياتنا وجهودنا ما ينمون به الرخاء في بلادهم سلبا لمصادر بناء
الحياة في بلادنا . فلا بد إذن من استرداد مصادر الثروة أرضا وبشرا من أيدي
المستعمرين بالتحرر وأسرع الطرق الى التحرر هو وحدة الثورة . وحدة الثوار . وحدة القيادة . وحدة أرض المعركة . فلا بد من الوحدة . فان خلصنا من المستعمرين ما
كانوا ينهبوه فان تحقيق الرخاء يقتضي أن تنظم كل تلك الإمكانيات والجهود في سبيل
الغاية المشتركة . وهذا غير ممكن ما دامت إمكانيات الوطن العربي ، طبيعة وبشرا ،
موزعة دولا . أمة واحدة مفعمة بإمكانيات الرخاء تبددها عشرات الحكومات ومئات
الوزارات وما لا حصر له من الخطط الاقتصادية المتعارضة المتناقضة المتنافسة التي
يعطل بعضها بعضا .
إذن فحل مشكلة الفقر بتحقيق الرخاء الذي
يستهوي الكثيرين غير ممكن الا بالتحرر والتنمية الاقتصادية على أسس علمية ،
وكلاهما غير ممكن الا بالوحدة . واذا كان ذلك هو الطريق العلمي الحتمي ، فمثاليون إذن ـ في امتنا أولئك الذين يتجاهلون التجزئة محاولين ـ لا ندري كيف ـ أن يحرروا
الأجزاء المحتلة وأن يستردوا الأجزاء المغتصبة بغير الوحدة . ومثاليون أيضا الذين يتجاهلون الاستعمار والتجزئة محاولين ـ لا ندري كيف أيضا ـ أن يحققوا الرخاء أو
الاشتراكية بإمكانيات أقاليمهم . انه جهد عقيم ومثالية مضللة . لهذا قلنا وكررنا
أن الوعي الصحيح للقومية العربية تحول دون توهم حل المشكلات في الأجزاء قبل ان
تتحقق الوحدة . لان الوحدة العضوية للأمة تحتم ألا تحل مشكلة الأجزاء الا في الكل
الشامل . اننا نسأل كل الذين يرفعون القومية العربية شعارا ، ويتخذون الأمة
العربية ستارا ، ترى لو كان من الممكن أن يحل كل جزء مشكلاته فيصبح اشتراكيا ديمقراطيا حقا في ظل التجزئة فما جدوى الوحدة ؟ ونضيف أن لو كان هذا ممكنا لكان لا
بد من مراجعة فكرة القومية العربية والتحقق من وجود الأمة ذاته ، اذ أن وجود أمة
واحدة لا يمكن ان يقوم معه تصور إمكان حل الأجزاء مشكلاتها بدون ان تسهم الأمة
بمجموع إمكانياتها في حل تلك المشكلات . وأجدى للوحدويين غير القوميين ان يكشفوا
القناع عما يخفونه من غايات إقليمية . فالقومية هي منطلق قومي في الإدراك والرأي والعمل ، والمنطلق القومي لا يعرف من الوحدة الا رفع الحواجز لتلتحم أجزاء الأمة
الواحدة لتحقق المستقبل رخاءا بدولتها القومية .
ولا يعني هذا ، أن الحياة ستتوقف في ظل التجزئة
. ولكن يعني أن المثالية التي تحاول أن تقفز الى الاشتراكية أو الرخاء متخطية
الوحدة ، تعوق التقدم نحو الاشتراكية ذاتها ، وتبقى مشكلات التخلف قائمة بما في
المشكلات من آلام وصراع ، وتبدد طاقات وثروات فيما تبذله من جهود غير علمية ،
وتضيع أحقابا أخرى قبل أن تتعلم من التجربة المرة أن المستقبل لا يقع الا طبقا لقوانين الحتمية .
21 ـ ما العمل ؟
اذا
كانت الوحدة السياسية بالنسبة الى امتنا حتم لأنها التعبير السياسي عن الوجود
القومي السابق عليها لا تطلب شرطا سوى التحرر من الاستعمار الذي فرض عليها التجزئة
، فحيثما يتحقق التحرر من الاستعمار تلغى التجزئة ليس ثمة طريق آخر . مثالية فاشلة
ـ إذن ـ أن يتقيد الوحدويون في نضالهم ضد التجزئة بالنظم والقوانين التي أقامتها
التجزئة وقامت عليها وأبقتها تدعيما لوجودها أو أن يأخذوا من التجزئة ذاتها منطلقا
قوميا ، فهم إقليميون قوميون ، وهو عجب .. أو خيانة . إننا أمة واحدة نشترك في
التاريخ ونشترك في المصير وأن مشكلاتنا مشتركة وحلها مشترك ، وأن هذا الحكم لا
نستطيع الإفلات منه . ان الأمة بالنسبة إلينا ليست مجرد تجارب تغني خبرتنا بل هي
مصدر مشكلاتنا الواحدة . وليست تبادلا للثقافة بل هي ثقافتنا الموحدة . وليست
تعاونا لحل المشكلات بل هي الحل لكل المشكلات . انها وجودنا ذاته . اننا أمة جزأها
الاستعمار لم يأخذ رأينا ولم يستفت فيها أحد . فبمجرد التحرر تفرض الوحدة نفسها
طريقا علميا وحيدا الى المصير الواحد . لسنا اذن في حاجة الى مبرر من القانون
الدولي أو القانون المحلي ، كما لسنا في حاجة الى ان نستفتي الناس أو أن يرضى
الناس عنا لنلغي التجزئة ونحقق الوحدة . فلنا عن كل هذا بديلا في حتمية الوحدة لإمكان
الحياة ، وحق الحياة أكثر مشروعية من كل القوانين والمواثيق والمعاهدات والآراء .
ان المبرر الوحيد المشروع لإلغاء التجزئة هو ما يلغى منها فعلا .
ان هذا يعني تماما أن الوحدة يجب أن تفرض على
من لا يقبلونها ، ولكن لا يعني أن يكون الوحدويون مثاليين . والمثالية التي تفسد
الجهد الثوري في سبيل الوحدة هي التي تتجاهل الظروف المحلية في الأقاليم والظروف
التي خلقتها التجزئة فيما يزيد عن نصف قرن . فقد عرفنا أن الوجود القومي لا يلغي الروابط العائلية والمحلية والإقليمية بل يشملها ويكملها إضافة الى مقدرتها على
التطور ويحددها كما يحدد الكل الأجزاء . وقلنا تطبيقا لهذا أن الدولة القومية لا
تلغي الإدارات المحلية والإقليمية بل تشملها وتكملها إضافة الى مقدرتها على التقدم
. لهذا لا تعني الوحدة إلغاء الإدارات والأقاليم ، ولا فرض نظام إداري واحد فيها .
تلك مثالية فاشلة . يستوي فشلا أيضا تجاهل ما صنعته التجزئة في الأقاليم من نظم
وقواعد وعلاقات وتقاليد لان الماضي لا يمكن إلغاؤه ولا يجدي تجاهله ولكن يمكن
إيقاف امتداده في المستقبل . وقد يقتضي تطهير المستقبل العربي في ظل الوحدة من
آثار التجزئة بعض الوقت الذي يتطلبه العلم لإلغاء آثار النظم الإدارية والاقتصادية
والسياسية التي قامت على أسس التجزئة . وقد تبقى طيلة هذا الوقت على أن تكون غاية
بقائها أن تزول لا أن تقف عقبة في سبيل عودة الحياة المشتركة في الأمة الواحدة .
لهذا لا تعني الثورة في علاج مشكلة التجزئة أن تمتد نظم الحياة في جزء الى جزء آخر
، كما لا تعني أن تبقى في كل جزء نظم الحياة التي قامت على أساس التجزئة وتدعيما
لها ، بل تعني الا تؤجل الوحدة الى أن تستقيم الحياة في الأجزاء على نظام واحد .
فان هذا لن يكون الا بإلغاء التجزئة ذاتها ، لنرى بعد هذا ـ وليس قبل هذا ـ كيف
يكون التقسيم الإداري للأقاليم ، وكيف تتخلص الأجزاء من رواسب التجزئة ، ولنسخر
إمكانيات الدولة الواحدة ، لتطور الحياة في الأجزاء المتخلفة حتى تدرك أقصى ما
أدركته الأجزاء المتقدمة . قد لا يرضي هذا الإقليميين في الأجزاء المتقدمة نسبيا .
ولكن النظرة الجزئية خاطئة دائما ، فان التجزئة عبء معوق حتى لتلك الأجزاء
المتقدمة لأنها محرومة من إمكانيات الظروف الواحدة في الأمة الواحدة ولأنها وهي
تحاول أن تبني المستقبل في الجزء تقتطع من قدرتها قدرا لمواجهة المشكلات التي يطرحها
الكل : فهي متخلفة بالنسبة الى الإمكانيات التي توفرها الوحدة ، وان كانت متقدمة
بالنسبة الى الأجزاء الأكثر تخلفا في ظل التجزئة .
كيف تلغى التجزئة ؟ بالثورة .
وكيف تتحقق الثورة ؟ بالثوار .
وكيف يكون الثوار قوميين وحدويين ؟ بأن يلغوا التجزئة في أنفسهم أولا .. من المنطلق القومي الى الوحدة القومية ، في حركة عربية
ثورية واحدة تناضل تحت كل الظروف في سبيل غاية منتصرة ، لأنها غاية حتمية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق