بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية 1

 

النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية .

د.عصمت سيف الدولة .

 

" إذا أردت أن تضفي على الدولة ثباتا قرّب بين الحدود القصوى بقدر الإمكان ، فلا يبقى فيها غنى فاحش ولا فقر مدقع . فهذان الوضعان اللذان لا ينفصلان عن بعضهما البعض مضران بالمصلحة العامة . إن أحدهما يؤدي إلى وجود أعوان الطغاة . والآخر إلى الطغاة وفيما بينهما تشترى الحرية وتباع . أحدهما يشتريها ، والآخر يبيعها " .                                                                                             

جان جاك روسو

فصل تمهيدي

1 - بالرغم من أن جان جاك روسو قال عام 1763 ، في كتابه " العقد الاجتماعي " ( لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية فهذا النوع من الحكم الذي بلغ حد الكمال لا يصلح للبشر ) ، فإن الشعوب لم تكف عن محاولة الوصول إلى هذا الهدف المقدس . وهي تحقق في كل مكان ، وفي كل زمان خطوة ، مهما تكن صغيرة ، تقربها من هدفها ، قد تتعثر المسيرة أو تتوقف أو حتى ترتد في مكان محدد أو في زمان معين ، ولكن الاتجاه العام لمسيرة الشعوب الديمقراطية في تقدم مستمر . ولعل من علامات تقدمه أن أحدا لا يستطيع أن يجهر - الآن - وهو آمن بأنه ضد الديمقراطية ، فنرى المستبدين يحرصون أكثر من غيرهم على الزعم بأن استبدادهم هو الديمقراطية عينها ، وليس أقل من هذا دلالة على تقدم الشعوب نحو الديمقراطية رهافة وحدة الشعور بالاستبداد ، إن الشعوب تثور اليوم ، إن كانت قادرة على الثورة ، وتجهر معترضة إن كانت قادرة على الجهر ، أو تصمت غاضبة إذا لم يتوافر لها إلا أضعف الإيمان ، ولكنها في كل حالاتها تنكر الاستبداد في صور كانت منذ قرنين حقوقا إلهية مقدسة ، وكانت منذ قرن حقوقا طبيعية معقولة . هذه الرهافة والحدة في الشعور بالاستبداد هي التي حولت مشكلة الديمقراطية إلى أزمة حادة ، إذ لا يمكن أن يشعر بثقل قيود العبودية إلا الأحرار . وهو الذي يفسر الإنذار الذي أطلقه الفيلسوف الانجليزي هارولد لاسكي في تقديمه لكتابه " الحرية في الدولة الحديثة " فهذا رجل عاش حياته في ظل نظام يقال إنه نموذج التقدم الديمقراطي ومع ذلك فهو يقول : " كل من يعتبر الحرية أساس الحياة المتمدنة يمكنه أن يرى أن الأخطار التي تتهددها هي جزء من أزمة عالمية لم يعد فيها الزمن في جانبنا ، فنحن نندفع بثبات نحو كارثة جديدة ليست أسبابها غامضة علينا ، ولا نحن جاهلين لطرق العلاج التي يمكننا أن نقابلها ونقاومها بها ، ولكن مأساتنا هي أن طبيعة تفكيرنا ما زالت مصوغة بأساليب تفكير القرن التاسع عشر أن هذا لا يعني في رأينا ، إن القيود في القرن العشرين قد أصبحت أكثر ضيقا منها في القرن التاسع عشر ، ولكن يعني أن مضمون الحرية قد أصبح أكثر اتساعا فضاقت به نظم القرن الماضي .

ومع ذلك ، فيبدو أن الفجوة التي تتسع مع الزمن بين مضمون الحرية من ناحية وبين نظم ممارستها من ناحية ، قد أدت إلى شعور قريب من اليأس ، فهذا رينيه كابيتان يكتفي ، بعد قرنين من روسو (۱۹۷۲) بأن تكون الديمقراطية مثلا أعلى يوجه ويقود جهد البشر وليست نظاما للحكم وهذا فقيه معاصر آخر يندب الديمقراطية فيقول : إن مأساة الديمقراطية كامنة في أنها لم تستطع أن تحقق الديمقراطية .

لسنا على هذا القدر من التشاؤم من مستقبل الديمقراطية لأننا نثق بمقدرة الإنسان على الانتصار على كل مشكلاته . وهي ثقة يبررها التقدم الفكري والعلمي الذي أنجزه ، وينجزه الإنسان ، بمعدلات متزايدة . كل ما في الأمر أن الديمقراطية ، وهي نظام حديث لم تعرفه البشرية إلا منذ قرنين ، ما تزال غامضة الدلالة على المستوى النظري على وجه يسمح حتى لأعدائها بإدعائها ، وما تزال غائمة المعالم على المستوى التطبيقي على وجه يسمح بأن تنتحل اسمها أشد النظم استبدادا ، ذلك لأن ثمة مشكلات نظرية لا يتفق فيها المفكرون والعلماء على حل ، وثمة مشكلات تطبيقية تكاد تكون مستعصية على أي حل ، وكلها تعوق نضج الديمقراطية نظرية ونظاما .

إن هذا يعني - على وجه - أن للديمقراطية مشكلات ما تزال تفتقد الحل وتستدعي كل قادر إلى أن يسهم بما يستطيع في حل مشكلة تهم الناس جميعا . ويعني على وجه آخر ، أن الكلمات الأخيرة في الديمقراطية لم تقل بعد ، وان باب الاجتهاد ما يزال مفتوحا . وكلا الوجهين يحرضان بقوة على مزيد من البحث العلمي في الديمقراطية نظرية ونظاما ، وهذه الدراسة ليست إلا استجابة لهذا التحريض .  

2- غير أننا ، هنا ومنذ البداية ، نواجه أشد المشکلات تعقيدا . إنها ليست مشكلة الديمقراطية بل مشكلة البحث العلمي ذاته ، فالبحث العلمي يكون علمية بقدر ما يكون موضوعية ، وهو ما يعني تحرر الباحث من تأثير أية أفكار سابقة ، والتصدي لموضوع البحث من داخله . وهو أمر يكاد يكون مستحيلا لأي بحث في مشكلة الديمقراطية بالذات ، لأن الديمقراطية نظام حياة ، فإذا كانت لها مشکلات تقتضي البحث فلا بد أن الباحث قد عاش مشكلاتها قبل أن يبحث ، فهو يبدأ بحثه وفي ذهنه موقف فكري سابق لا يستطيع ، مهما حاول ، أن يتجرد تماما من تأثيره ، وهذا ليس جديدا علينا ، فلم يكن توما الأكويني يساند البابوية التزاما بأفكار اهتدى إليها بعيدا عن الكنيسة ، بل كان وهو يفكر ويكتب يشغل منصبا في المؤسسة الكنسية هو " المستشار الفكري للبابا " . ولم يكن بودان يؤلف دفاعا عن الاستبداد الملكي لوجه الحق وحده بل كان ، وهو يؤلف ، يشغل منصبا في البلاط هو " المحامي الخاص للملك " ، وكان هوبز يدافع عن الملكية وهو مدرس خاص للأمير ويلز الذي أصبح الملك شارل الثاني في انجلترا . بل أن الفصل الأخير من كتابه " العملاق"" Leviathan" قد كتبه بعد أن أصبحت قضية الملكية خاسرة فأراد أن ينافق العهد الجديد ليعود من منفاه في فرنسا ، فأضاف فيه أنه إذا عجز الملك عن حماية مصالح رعاياه فقد حقه في الحكم ، أما لوك ، فيلسوف النظام البرلماني ، فقد كان طبيبا خاصا لسير أنطوني آشلي ثم تابعا له حتى آخر حياته . وأنطوني آشلي هو قائد معركة البرلمان ضد الملك ، التي انتصر فيها ، ورائد حزب الأحرار ، فلم يكن لوك يؤلف بعيدا عن الرغبة في الانتصار لولي نعمته . حتى جان جاك روسو ، المدافع الكبير عن الديمقراطية المباشرة كان من رعايا جنيف ( سويسرا ) حيث تطبيقات الديمقراطية المباشرة ، والمهاجم الكبير لاستبداد ملوك فرنسا ، كان مطاردا من ملوك فرنسا الذين لم ينظروا إليه أبدا نظرتهم إلى مواطن فرنسي .

أكثر من هذا دلالة على أن النظريات والآراء هي أسلوب في التعبير عما " يريده " أصحابها ، وقلما تكون نتيجة بحث موضوعي مجرد ، هو ما حدث بعد انتصار الثورة الفرنسية . يحذرنا الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولي - بحق - مما درج عليه البعض ( سواء في فرنسا أو في مصر من المبالغة فيما كان لنظرية العقد الاجتماعي من الأثر في انفجار الثورة الفرنسية ، وفيما قذف به بركانها إلى فرنسا والعالم من أنظمة دستورية ومن مبادئ ديمقراطية . والرأي ( عنده ) أن الثورة الفرنسية إنما كانت ترجع - في الواقع وقبل كل شيء - إلى تلك الظروف السياسية والاجتماعية والمالية المعروفة فلم يكن لمثل نظرية العقد الاجتماعي وغيرها مما ذاع من النظريات والأفكار الحرة أن تحدث أثرا لولا سبق وجود تلك الظروف والعوامل التي خلقت في البيئة الاجتماعية الفرنسية تربة صالحة لغرس فكرة جديدة . فلقد ظهر كتاب العقد الاجتماعي عام 1762 أي قبل الثورة بنحو سبعة وعشرين عاما ، فلولا وجود تلك العوامل والظروف ( التي كان أهمها سوء الحالة المالية في البلاد ، وزيادة عبء الضرائب على طبقات الشعب مع تمتع الطائفتين الممتازتين ، النبلاء ورجال الكنيسة le Clerge بامتياز الإعفاء من الضرائب ورفضهما التنازل عن ذلك الإعفاء ) لولا تلك العوامل والظروف لما كان لروسو ولكتابه بداهة أثر يستحق أن يذكر ، ( فنحن ) لا ننكر أنه كان لكتاب العقد الاجتماعي ونظريته ( ولآراء فلاسفة القرن الثامن عشر بوجه عام ) بعض الأثر في التكوين الفكري لرجال الثورة الفرنسية وفيما وضعوا من أنظمة دستورية ، ولكننا نرى أنه لا يجوز المبالغة في بيان ذلك الأثر ، فلقد كان أكثر ما أخذه رجال الثورة عن روسو ( كما يقول بارتلمي ) إنما هي عباراته واصطلاحاته ، في حين أنهم لم يأخذوا في الواقع – أي في العمل - بالكثير من آرائه . فمثلا لقد كان روسو يرى أن نظام الديمقراطية المباشرة هو المثل الأعلى لنظام الحكم ، ولكن رجال الثورة لم يأخذوا بأساليب ذلك النظام الديمقراطي المباشر وإنما أخذوا بالنظام الديمقراطي النيابي.

هذه نظرة علمية . ولكن لماذا لم يأخذ رجال الثورة بآراء روسو في الواقع العملي ؟ لننظر ماذا يقول بارتلمي . يقول إن ممثلي الطائفة الثالثة tiers etat ( التي كانت تمثل الشعب دون النبلاء ورجال الكنيسة ) هم الذين أكدوا على ضرورة أن تتضمن الوثائق الدستورية المبادئ الديمقراطية . فقد كانوا يعتبرون أنفسهم ممثلين للإرادة العامة للأمة Volote generale de la nation وتحت تأثير هذا الموقف تضمن إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي تم التصويت عليه يوم 26 أغسطس ۱۷۸۹ مواد مأخوذة من فلسفة روسو . ففي المادة الثالثة نص على أن مبدأ السيادة كامن بصفة أساسية في الأمة وليس لأية جماعة أو أي فرد أن يمارس سلطة لا تنبع منها صراحة ، ونصت المادة السادسة على أن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة . إلى هنا نستطيع أن نختلف مع أستاذنا قليلا ، ونقول أن أفكار روسو قد أثرت في قيام الثورة الفرنسية إلى أقصی حد تستطيع به الأفكار أن تقدم حلولا للمشكلات الموضوعية والظروف الاجتماعية التي تسبق الثورات وتستدعيها ، غير أنه في أول دستور وضعه قادة الثورة في ۱۷۹۱ أي بعد إعلان الحقوق بعامين نجده ينص في المادة الثانية منه على : " أن الأمة التي تنبع منها كل السلطات لا يمكن أن تمارسها إلا بواسطة مفوضين . إن الدستور الفرنسي دستور نيابي ونواب الأمة هم الهيئة التشريعية والملك" . وهنا بدأت الفرقة بين الثورة وبين روسو . كيف ؟ قال بارتملي : أن رجال القانون قد أعادوا صياغة تلك المبادئ الديمقراطية التي قال بها روسو وأكدتها الوثائق الدستورية للثورة بأن جعلوا من الأمة شخصا قانونيا تسند إليه السيادة وهو شخص متميز عن الأفراد الذين يتكون منهم . قادة الشعب الفرنسي قد انتقلوا إذن قبل مضي سنتين من إعلان حقوق الإنسان والمواطن من سيادة الشعب إلى سيادة الأمة ، ومن الديمقراطية المباشرة إلى التمثيل النيابي ، هذه النقلة ، كما هو واضح كانت على حساب الشعب فهو الذي سُلب السيادة التي اعترف له بها في البداية ، وكانت أيضا على حساب الملك لأن القادة الجدد شاركوه سيادة كان يدعيها ، فلحساب من ولماذا ؟ ... لحساب من ولماذا يقول رجل مثل سييز Sieyes " إن الديمقراطية الخالصة ديمقراطية وحشية "Brute Démocratie " .

لحساب الطبقة الوسطى البورجوازية التي قادت الشعب ضد الاستبداد الملكي فقد كانت في حاجة إلى الشعب قبل الثورة فرفعت على مصالحها علم سيادته ، فما أن قبل الملك مشاركتها في السلطة أصبح همها أن تحصن نفسها ومصالحها ضد الشعب نفسه فسلبته سيادته وابتكر لها رجالها من العارفين بالقانون نظرية السيادة القومية لتبرير التمثيل النيابي . لم يكن السبب إذن أن الشعب الفرنسي كانت تنقصه الثقافة اللازمة ليمارس سيادته كما قال ایسمان ، ولا أن الديمقراطية تتطلب في الشعوب قدرا من الحضارة ترتفع به إلى مستوى مسئولية حكم نفسها بنفسها أو لأن إرادة النواب أقدر على التعبير عن إرادة الشعب من الشعب نفسه كما يقول بوردو ، ولكن كان السبب في ظهور " سيادة الأمة " في فقه القانون الدستوري أن البورجوازية الليبرالية قد وجدتها سلاحا صالحا لتحد من سيادة الملك  والنبلاء من ناحية وتحرم ، الشعب ممارسة أية سلطة من ناحية أخرى كما يقول ـ بحق ـ موریس دوفرجيه ، ولم يكن مبدأ النظام النيابي في حقيقته إلا مبدأ سيادة البرلمان ، وهي سيادة تواجه سيادة الشعب نفسه الذي أبعد بعناية وعناد عن ممارسة سيادته ؟ يقول جاريجولا جرانج ) : إذا كان الأمر كذلك ، وهو كذلك ، فقد نستطيع القول مع رينيه كابيتان أن النظام النيابي في أصله قام بعيدا عن الديمقراطية بل ومضادا لها ، فإذا أردنا ألا نذهب إلى هذا الحد فإنه يبدو مما لايتفق مع الأسلوب العلمي ذلك التقليد المطرد في كتب الفقه الدستوري ، في فرنسا وفي مصر ، الذي يبدأ دراسة الديمقراطية مفترضا أن النظام النيابي ( الرئاسي والبرلماني ) هو النظام الديمقراطي الأصيل والقاعدة ، ويذهب بعد هذا فيلحق به أساليب الممارسة الديمقراطية كالاستفتاء الشعبي referendum مثلا ويعتبرها عوامل مساعدة ويقيسها عليها كاستثناء . هذا في حين أنه لا يمكن المفاضلة بين نظم الممارسة الديمقراطية عامة ، أو بين نظام الديمقراطية المباشرة والنظام النيابي ، على وجه خاص ، إلا بردها إلى أصل تقاس عليه ، ويكون مناط التفاضل بينها ما تسفر عنه المقارنة من اقتراب أو تباعد عن الأصل . ان عذر المفاضلة المفروضة في الدراسات الفقهية أن رجال الفقه يدرسون النظم الدستورية القائمة كموضوع أساسي ، ولا تكون الدراسات التاريخية إلا مقدمات لها . ولما كان النظام النيابي هو نظام سائد في الدساتير المعاصرة ، في خارج الدول الاشتراكية على الأقل ، فإنه يبدو طبيعيا أن يكون هو النظام الأساسي في دراسة الديمقراطية . غير أن مثل هذه النظرية ، لابد ، في رأينا ، أن تتغير لتواكب التطور الذي يزيح نظام التمثيل النيابي ، والمفهوم الليبرالي عن الديمقراطية عن مكانه التقليدي في دساتير ما بعد الحرب العالمية الثانية . ففي فرنسا ابتداء من عام ۱۹۰۸ لم يعد التمثيل النيابي إلا واحدا من أسلوبين لممارسة السيادة ، أما الثاني فهو الاستفتاء الشعبي استقرا جنبا إلى جنب في المادة الثالثة من الدستور . وفي انجلترا تعلو سلطة الأحزاب وهي منظمات شعبية على سلطات البرلمان فهی التي تعين الوزراء ، وهي التي تقدم المرشحين من بين أعضائها إلى الشعب ، وهي التي تضع لممثليها في البرلمان السياسة التي يدافعون عنها . وتضع في أفواههم العناصر الأساسية من الكلمات التي يلقونها من فوق المنابر ، والأمر أكثر من هذا تطورا في مصر العربية فقد كانت ثورة ۱۹۵۲ ، في إحدى خصائصها ، ثورة ضد النظام النيابي ، ومنذ عام ۱۹۵۲ وخلال مجموعة متتالية من الدساتير والإعلانات الدستورية تعكس الروح الدستورية في مصر شکا عميقا في النظام النيابي ، ومع أنها تبقي عليه إلا أنها تحيطه بقيود متراكمة إلى درجة نستطيع أن نقول فيها : أن التمثيل النيابي يمثل في حياتنا الدستورية مكانا ثانويا أو هامشيا .

وقد عشنا نحن ونعيش هذه المرحلة ، وبالتالي فإن لكل دارس للديمقراطية ومشكلاتها رأيا مستقرا في ضميره يؤثر من حيث يدري ، أو لا يدری ، في صياغة أفكاره الدستورية التي تبدو علمية مجردة . من هنا نقول : إن التأثر بالفكر السائد أو بأفكار خاصة ، هو أولى المشكلات التي يصادفها الباحث في أمر الديمقراطية أو في مواجهة أي أمر آخر ، لأنه يجرد الباحث من الموضوعية العلمية أو الحد الأدنى منها ، إذ جلّ من لا يتأثر ، وبالتالي يفقد أي بحث أصالته . ومن أجل التحوط من مخاطر التأثر بالواقع المعاصر الذي قد يكون كامنا في أذهاننا حتی بدون أن ندري ، لا بد من دراسة أولية لمشكلة الديمقراطية نحدد فيها ماهيتها من خلال تطور فكرة الديمقراطية ذاتها ، وصلتها بالمذاهب الفكرية وبالظروف الاجتماعية الأخرى . 

ولكن دراسة الديمقراطية خلال تطورها التاريخي وصلتها بالمذاهب الفكرية والظروف الاجتماعية سيصل بنا إلى مفترق طرق عديدة ، ونجد أنفسنا مضطرين إذا أردنا الإحاطة بالموضوع من كل جوانبه أن نقضی ما تبقى من عمر للوفاء بمتطلباته . فمثلا : ابتداء من القرن التاسع عشر تسود في أوروبا الطبقة الوسطى ( البورجوازية ) فيسود مذهب الاقتصاد الحر ( الرأسمالية) ، فيسود مذهب التحرر الفردي ( الليبرالية ) ، فتسود الديمقراطية غير المباشرة ( النيابية ) ، ولكن ما أن ينتصف القرن التاسع عشر ثم يبدأ القرن العشرون بحروبه وتقدمه الصناعي حتى تنشأ أفكار جديدة تشكك في حق الطبقة الوسطى ( البورجوازية ) في السلطة ، وتناقض أسس المذهب الاقتصادي الحر (الرأسمالية ) وتعيد النظر في مفهوم الحرية ذاته ، ثم تتشعب إلى شعبتين متميزتين : شعبة تذهب إلى أن ثمة خطأ في البداية ، وأن الحرية بمفهومها البورجوازی ليست إلا وهما ، وتتبنى مفهوما مختلفا للمجتمع وللحرية وللدولة وللديمقراطية . فالأمة اختراع بورجوازي للسيطرة على السوق ، والمجتمع ليس واحدا بل طبقات متصارعة ، والحرية تمارسها الطبقة السائدة ، والدولة هي أداة قهر وستزول بزوال الصراع الطبقي ، ولن توجد الديمقراطية للشعب وبالشعب إلا بعد تصفية الطبقة البورجوازية وسيادة الطبقة العاملة ، أما قبل ذلك فالديمقراطية هي بعينها دیکتاتورية الطبقة العاملة ، إنها الشعبة الماركسية .

وشعبة أخرى عبر عنها جورج بوردو في كتابه " الديمقراطية " حين قال : " ما أهمية أن يكون الإنسان حرا في تفكيره إذا كان تعبيره عن هذا الفكر يعرضه للاضطهاد الاجتماعي ، وأن يكون حرا في رفض شروط العمل إذا كان وضعه الاقتصادي پرغه على قبولها ، وأن يكون حرا في التمتع بالحياة إذا كان البحث عن لقمة العيش يستغرق كل حياته ، وأن يكون حرا في أن ينمي شخصيته بالثقافة واكتشاف العالم المتاح للجميع إذا كانت تنقصه الإمكانيات المادية الحيوية " . إنها شعبة الديمقراطية الاشتراكية التي تتمسك بما حققه الإنسان حتى الآن من مكاسب ديمقراطية وبالنظام النيابي كأسلوب للممارسة ، وقد تضيف إليه أساليب أخرى ، ولكنها تعيد النظر في المفهوم الليبرالي للحرية بقصد إكمال ما فيه من نقص وليس بقصد إلغائه وتزرع للحرية جناحين : الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية . إلى هذه الشعبة ينتمي أغلبية فقهاء القانون الدستوري في الجامعات المصرية انتماء صريحا أو ضمنيا ، عبر الدكتور مصطفى أبو زيد عن هذا الاتجاه تحت عنوان : الديمقراطية المتكاملة في الفقه الدستوري العربي فقال : " إذا نظرنا إلى مفهوم الديمقراطية وجدناه قد تأثر تأثرا كبيرا بالطابع الذي حملته الثورة . فهذه الثورة التي نعيش في ظلها قد اجتمع لها ـ إلى جانب العمق ـ الأصالة والشمول .. وهذا الطابع العام الذي حملته الثورة - في العمق والأصالة والشمول ـ كان لا بد أن يترك آثاره على مفهوم الديمقراطية ، فقد اتخذت الفكرة الديمقراطية عندنا شكلا جديدة يختلف عن ذلك الذي ساد فيما قبل الثورة ، فلم تعد مقصورة على السياسة وحدها بل امتدت على نطاق واسع يشمل الحياة البشرية بأسرها ، فإلى جانب الديمقراطية السياسية ، هناك الديمقراطية الإدارية والديمقراطية الاقتصادية والديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الصناعية . وهكذا تكاملت الفكرة الديمقراطية لتصبح أسلوبا يعبر عن سيطرة الشعب في سائر المجالات ، ثم فصل القول في كل وجه من هذه الأوجه " .

ومشكلتنا هي : هل نتابع التيار الأصيل ، أم نتبع شعبته الماركسية ام شعبته الاشتراكية ، أم نقطع سلسلة دراستنا لنحيط بكل هذا ونلهث وراء كل شعبة . إن الذي يغري بمتابعة الشعبة الماركسية أن أكثر من نصف البشر يعيشون في ظل دیکتاتوریتها أو ديمقراطيتها ويصدنا عنها : أننا سبق أن درسناها في كتب مطولة ومختصرة انتهينا فيها جميعا إلى أنه ليس في الماركسية ، فلسفة أو منهجا أو نظرية ، أي مفهوم خاص للديمقراطية بأي معنى . وأن الماركسية هي نظرية " تحرر " الطبقة العاملة من القهر الرأسمالي ، ولكنها لا تتضمن شيئا عن نظام الحكم بعد انتصار البروليتاريا ، وأن النظم السائدة في الدول الاشتراكية ، والمعروفة باسم «الديمقراطية الشعبية ، قد أرسيت قواعدها من خلال التجربة في ظل سيادة الحزب ، ولم تكن ترجمة دستورية للماركسية ، وإن كانت تضاف عادة إلى تراثها وهي تتطور وتتجه بقوة نحو الديمقراطية الاشتراكية فلم يعد أحد يقول ما قاله انجلز " لما كانت الدولة ليست إلا مؤسسة انتقالية تستخدم في الصراع والثورة من أجل إسقاط أعدائها بالقوة ، فمن السخف الحديث عن دولة شعبية حرة  .وطالما تستعمل البروليتاريا الدولة فإنها لن تستعملها من أجل الحرية بل من أجل إسقاط أعدائها " . والذي يغري بمتابعة الشعبة الاشتراكية أنها الشعبة التي ننتمي إليها ، وأنها ـ في رأينا ـ لیست شعبة من الديمقراطية التقليدية بل هي المرحلة المتطورة ، منها فالبقاء فيها هو بقاء في حدود التيار الأصيل للتطور الديمقراطي .

إذن ، فإن كنا لن نتناول في دراستنا نظام الحكم ما تراه الماركسية ، ولا نقول الديمقراطية ، ويقينا نتابع تطور الديمقراطية الليبرالية ، فذلك لنحصر موضوع الدراسة في نطاق يمكننا من استيفائه ، من ناحية ، ومن ناحية أخرى لنسهم بما نستطيع في بناء فقهی ، ديمقراطي ، اشتراکی ، تشيده بالتدريج ، أغلبية أساتذة القانون العام في مصر العربية من خلال نقدها المتزايد لإطلالات الديمقراطية التقليدية .

4 ـ هل انتهت المشكلات ؟ أبدا . إنما دخلنا بهذا في خضم القانون العام حيث نلتقي بالديمقراطية و مشكلاتها المتعددة . فالدولة ، ما الدولة ، وكيف نشأت ؟ مشكلة ما يزال فقهاء القانون على غير اتفاق في حلها . والحكومة ، ما الحكومة ، وما علاقتها بالدولة من ناحية ، وبالشعب من ناحية أخرى .. ؟

مشكلة لم تحل بعد . فاذا فصلنا مشكلة الحكومة عن مشكلة الشعب تواجهنا مشكلة الفصل بين السلطات ـ في الحكومة ـ ومشكلة الرقابة المتبادلة أو التعاون المتبادل فيما بينها ، وكل هذه مشکلات تتصل في النهاية بحرية الشعب في بعض حالات دراسة الديمقراطية ومشكلاتها . ولو أردنا أن نحيط بكل هذا لتحول بحثنا إلى موسوعة من أجزاء كتلك الكتب التي أرهق أساتذتنا أنفسهم في تأليفها ليعلموننا القانون ونحن طلبة حتى نتعلم كيف نبحث بعد التخرج . فجوهر البحث ما نراه ينصب على موضوع معين ومحدد يختاره صاحبه ويواجه فيه مشكلة محددة ويحاول أن يجتهد في حلها ، وهو ما يعني ـ بالضرورة ـ أن المشكلة موضوع البحث لا تتضمن جماع المشكلات التي تتصل بالموضوع ، ولكنها نصيب الباحث فيها اختار . فأية مشكلة من مشكلات الديمقراطية نختار ؟

5 ـ نغادر مجال الدولة ومشكلاتها ، والحكومة وسلطاتها ، وما تثيره تلك السلطات لنعود إلى الشعب : الطرف الأصيل في مشكلة الديمقراطية ، فنجد أن مشكلات الديمقراطية الكامنة في الشعب ذاته متعددة أيضا ، أهمها على وجه الإطلاق ـ في رأينا ـ التخلف . ونعني به التخلف الديمقراطي . والتخلف الديمقراطي ليس صنو التخلف الاقتصادي أو نتيجة له ، كما تزعم المدرسة الماركسية ، وإن كان يتأثر به حتما . ففي فرنسا المتقدمة صناعيا ، التي أنجبت أساتذة المدرسة الديمقراطية فلسفة ، وأساتذة الديمقراطية نظاما ، لا يكف أساتذة النظم السياسية وعلماء القانون فيها ، منذ أن دخل أسلوب الاستفتاء الشعبي في دستور الجمهورية الخامسة (۱۹۰۸) ، لا يكفون عن التحذير من أن فقدان النضج السياسي الذي يميز بعض الشعوب ، ومنها ـ كما يقولون ـ شعبهم الفرنسي ، يحيل الاستفتاء إلى أداة خطيرة في يد القادة ، لأن الشعب الفرنسي ـ كما يقولون أيضا ـ ما يزال ، مند جان دارك ، يبحث عمن يقوده لينقاد له . في انجلتر ـ نموذج التقاليد البرلمانية ـ يقول فيلسوفها الكبير هارولد لاسکي : " بالرغم من توافر حق التصويت العام فإن نظام الحزبين في ديمقراطيات سياسية مثل بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية كان في كثير من الأحيان يتعاون على تعمد استخدام السلطة ضد الشعوب " .

إذا كان الأمر على مثل هذا بالنسبة إلى تلك الدول ، فإن المشكلات التي يثيرها التخلف الديمقراطي في الشعوب النامية أشد وأنکی ، فليس أسهل من صياغة الأفكار نظاما ديمقراطيا إلا صياغة النظام الديمقراطي نصوصا دستورية ، الصعب حقا هو أن تعي الشعوب حقوقها ، ثم ـ بعد الوعي - أن تمارسها . والناس - أغلبية الناس ـ في المجتمعات النامية ومنها المجتمع العربي لا يعون حقوقهم ، وإن وعوها لا يمارسونها ، لأنهم يعيشون أزمة صدق وتصديق . الدساتير مصوغة على أعلى مستوى بلغة الدساتير في المجتمعات المتقدمة ديمقراطيا ، وهو ما يعني ـ ضمنا ـ أن الذين صاغوها ـ مقطوعة الصلة بالواقع وإن كانت أسمى منه ـ لم يصدقوا أنهم قد وضعوها لتطبق ، فلم يجدوا بأسا في أن تقترب من الكمال في صيغتها على الأقل . والذين وضعت لهم الدساتير لا يصدقون أن لهم كل تلك الحقوق ، فلا يمارسونها إن بقيت ، ولا يفتقدونها إن ألغيت ، ولا يدافعون عنها في أي حال . ولا يزالون ـ كعهد أجدادهم ـ يسلكون إلى غاياتهم مسالك الزلفي ، ويجتنبون الاستبداد بالسكوت . إنه میراث عهود طويلة من العبودية إذ ربتهم على الخوف حتى أصبحوا بشرا خائفين .

في هذه المجتمعات لا يفتقد أحد الشكل الديمقراطي ، فحق التصويت عام . والتصويت سري . والحكومات لا تتردد في دعوة الشعب إلى الانتخاب أو إلى الاستفتاء ، ولكن كل هذا يتوقف على اللحظة التالية ، حين يقف أخونا الإنسان في لحظته المصيرية وهو يحاول جاهدا أن يبدي رأيه في مقار الاستفتاء أو الانتخاب . إنه هناك بعيد عن أي تدخل . لا أحد يملى عليه إرادته ، ولا أحد يكتب له رأيه لأنه لا يعرف القراءة مثلا . نفترض هذا افتراضا لنصل إلى جوهر المشكلة . إن أخانا وراء الستار يبدي رأيه ليس وحيدا . إنه يحمل فيه ـ ولا نقول يحمل معه ـ تراثه التاريخي . يحمل فقره الذي يشيع في نفسه الخوف من أن يكون رأيه سببا في غضب الذين يتحكمون في رزقه . يحمل جهله الذي يشيع في نفسه الخوف من أن يكون في ستار السرية خرق تطل منه عين السلسلة . يحمل تجربته وتجربة أجداده التي علمته وعلمتهم أن الأمور في دولته لا تتوقف ، وما توقفت قط ، على ما يقوله الناخبون وراء الستار . باختصار إنه في وحدته وراء الستار لا يجد معه إلا خوفه مما هو حقيقي أحيانا ، وما هو وهمي في أغلب الأحيان فيكون أمام الخيار بين رأيين : رأى الإنسان الذي يريد أن يمارس حريته السياسية ، ورأى الإنسان الخائف الذي يخشى مزيدا من القيود . الأرجح أنه سيختار الرأي الأخير . فيسفر الانتخاب او الاستفتاء عن رأي الأغلبية الخائفة وهي عادة أغلبية كاسحة أو عن ممثلين للخائفين لن يلبثوا بدورهم أن يضيفوا إلى خوفهم خوفا من الهبوط إلى القاع بعد أن صعدوا إلى مقاعد البرلمانات وأصبحوا قريبين من السلطة .. إلى آخره . وهكذا نجد أننا لو حللنا كل المشكلات النظرية للنظام الديمقراطي فان تخلف الشعوب سيفسد كل شيء .

نقول كل هذا في هذا الفصل التمهيدي لسببين : الأول : لأن هذا الواقع غير المنكور هو الحجة الأساسية لأعداء الديمقراطية الذين يتخذون من تخلف الشعوب ذريعة للحجر عليها وفرض الوصاية على إرادتها ويفرضون على ممارستها الديمقراطية قيودا تسلبها المقدرة على المعرفة ، فإن عرفت تسلبها المقدرة على المناقشة وتبادل الرأي ، فإن تناقشت وكونت رأيها تسلبها المقدرة على التجمع حول الآراء الموحدة ، فإن تجمعت تسلبها المقدرة على أن تحوّل آرائها إلى قوانين بحجة أخيرة هي أن للشعب " ممثليه" الذين يعبرون عن إرادته فلهم وحدهم حق اتخاذ القرار الملزم . هذا مع أنه إذا كان الشعب متخلفا إلى الدرجة التي لا يعرف فيها مصلحته فإنه ـ  من باب أولى - لن يحسن اختيار الفريق الذي يعرف مصلحته . إذ كيف يعرف أن هؤلاء بالذات يعرفون مصلحته إذا كان هو أصلا لا يعرف تلك المصلحة . 

الثاني : هو أن هذا الواقع الذي اختار لنا من بين كل مشکلات الديمقراطية موضوع التمثيل النيابي ليكون محلا للبحث . ذلك لأن هذا الأسلوب قد أصبح محاطا بنوع من القدسية باعتباره الديمقراطية ذاتها . في شكله البرلماني يقولون : إنه الديمقراطية البرلمانية ويدرس تحت هذا العنوان. وفي شكله الرئاسي يقال : إنه الديمقراطية الرئاسية ، ويقدم له بأنه إذ يفصل بين السلطات يحفظ للديمقراطية أهم خصائصها . وأدى ذلك إلى أن أصبح البحث في الديمقراطية ، نظرية ونظام ، محصورة - تقريبا في التمثيل النيابي برلمانا وانتخابا . ونحن نريد أن نعيد النظر في هذا النظام الذي يقال له " التمثيل النيابي " لنعرف على وجه الدقة علاقته بالديمقراطية . ونعني بعلاقته بالديمقراطية علاقته بإرادة الشعب على وجه التحديد ، هل يعبر عنها وإلى أي مدى ؟ وإذا لم يكن يعبر عنها فأين موضعه منها ؟ وقد نكتشف بعد هذا أن لا علاقة بين التمثيل النيابي والديمقراطية إلا - ربما - علاقة الضدين .

6 - على ضوء ما تسفر عنه نتيجة بحثنا سيكون علينا أن نعيد تكييف الطبيعة القانونية لبعض أساليب الممارسة الديمقراطية التي تتم بعيدة ، أو خارج نطاق التمثيل النيابي ، وأهمها : الاستفتاء الشعبي .

والاستفتاء الشعبي أسلوب للممارسة الديمقراطية يتقدم بثبات ، ولكن بالتدريج ، ليدخل الحياة الدستورية في البلاد المتقدمة ديمقراطيا ، وبالتالي فهو يستحق أن ننتبه إليه ونضعه موضع الدراسة العلمية لأنه يبشر بأن يحتل في القانون العام مكانا ، إن لم يكن رئيسيا فهو مكان هام ومدخله التاريخي والفقهي إلى نظام التمثيل النيابي هو " إصلاح " الخلل الديمقراطي في هذا النظام الأخير ، باسم الشعب ، وهو مدخل خطير . إذ قد يتحول الشعب فيه إلى مجرد ستار للاستبداد .

۷ - ولقد دخل الاستفتاء الشعبي حياتنا الدستورية فعلا ، ودخلها على وجه يحتاج إلى أكبر قدر من الانتباه ..

فدستور 1956 نص على أن يرشح مجلس الأمة بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه رئيس الجمهورية ، ويعرض الترشيح على المواطنين لاستفتائهم فيه ( مادة ۱۲۱ ) . كما نص على أن الرئيس الجمهورية ، بعد أخذ رأي مجلس الأمة ، أن يستفتي الشعب في المسائل المهمة التي تتصل بمصالح البلاد العليا ( مادة 145) وفي المادة ۱۸۹ نظم إجراءات تعديل مادة أو أكثر من الدستور تنتهي بعرض التعديل على الشعب لاستفتائه في شأنه ، وأخيرا نص في المادة 196 على : " يعمل بهذا الدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء ".

أما دستور 1964 فقد أعاد النص في المادة ۱۰۲ على الاستفتاء على رئيس الجمهورية الذي يرشحه مجلس الأمة . وأعاد النص في المادة ۱۲۹ على أن لرئيس الجمهورية أن يستفتي الشعب في المسائل المهمة التي تتصل بمصالح البلاد العليا ، ولكن بدون اشتراط أخذ رأي مجلس الأمة كما كان الأمر في دستور 1956 . ولما كان دستور 1964 دستورا مؤقتا فإنه لم يطرح للاستفتاء ، ولكن نص في ديباجته على أن يعمل به ابتداء من تاريخ صدوره ( 25 مارس 1964 ) إلى أن يتم مجلس الأمة وضع مشروع الدستور الدائم ، ويطرح مشروع الدستور الدائم على الشعب لاستفتائه فيه .

وفي 11 سبتمبر استفتى الشعب في الدستور الدائم ، ثم وافق عليه ، وأعاد تأكيد الاستفتاء الشعبي كوسيلة لاختيار رئيس الجمهورية ( المادة 76 ) ولإقرار كل تعديل في أحكامه ( المادة 189) وأن لرئيس الجمهورية أن يستفتي الشعب في المسائل المهمة التي تتصل بمصالح البلاد العليا ( المادة 152 ) ، ولكنه استحدث نصا لم يكن واردا في دساتير مصر من قبل ويستحق الانتباه والدراسة . ذلك هو نص المادة 74 التي تقول : " لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ، ويوجه بيانا إلى الشعب ، ويجري الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها "  .

إذن ، فإن الاستفتاء الشعبي قد أصبح جزءا أساسيا من نظامنا الدستوري ، واكتسب مكانه البارز في دستور ۱۹۷۱ بالذات ، بالرغم من أن خبرتنا به لم تتجاوز تسع سنوات ، منها سنتان في ظل دستور 1956 (ألغي عام 1958 ) وسبع سنوات في ظل دستور 1964 منها أربع سنوات في حالة حرب وظروف غير عادية ، أي بدون تقاليد وسوابق نرجع إليها لا في الممارسة ولا في نقد الممارسة او تصحيحها ، وهو أمر يهدد بمخاطر جسيمة . ونضرب لها مثلين :

المثل الأول : يتصل بطبيعة الأسئلة التي توجه إلى الشعب في الاستفتاء . ففي كل الدول التي تأخذ بالاستفتاء الشعبي يشترط في السؤال الذي يوجه إلى الشعب أن يكون واضحا ومحددا بحيث لا يحتمل إلا إجابة واحدة : نعم أو لا . بل حدث في فرنسا أن طرح على الاستفتاء يوم ۲۱ اكتوبر 1945 سؤالان يتصلان بوضع دستور النظام الجديد كان أولهما : هل تقبل أن تقوم الجمعية المنتخبة بوضع الدستور ؟ فأثار هذا السؤال عاصفة من النقد لأنه غير واضح ولا محدد ، ونشرت إحدى الصحف Dépêche de paris  المعبرة عن الحزب الاشتراكي الفرنسي مقالا تنعي فيه على الحكومة أن تستفتي الشعب في أمر يختلف فيه فقهاء القانون .

أما في مصر، فقد عرضنا على الشعب كتبا مؤلفة فيها فلسفة وتاريخ ونظريات ونظم وبرامج وكلام غير هذا كثير . استنادا إلى المادة ۱۲۹ من دستور 1964 استفتى الشعب يوم ۲ مايو 1968 على البرنامج المعروف باسم " بيان ۳۰ مارس " واستنادا إلى المادة 152 من دستور ۱۹۷۱ استفتى الشعب يوم 15 مايو 1974 فيما عرف باسم " ورقة اكتوبر " . وكل من الوثيقتين تتضمن احکاما يستحيل أن تكون الإجابة عنها بنعم أو لا ، والأمر ذاته ينطبق على مقدمات الدساتير التي طالت من دستور إلى دستور حتى أصبحت المقدمات دراسات في الفلسفة ، وكل هذا طرح على الشعب و استفتى فيه وأجاب عنه بكلمة قصيرة : " نعم " وأصبح مطلوبا من رجال القانون وفقهاء القانون العام أن يجيبوا عن أسئلة ذات أهمية ، إذا لم يدركها الساسة ، فإن رجال القانون يدركون تماما علاقاتها بالحرية وبالديمقراطية . ونعتقد انها ستكون محل خلاف عظيم بينهم في الدراسات الدستورية المقبلة . من هذه الأسئلة : ما مدى القوة الملزمة لما يوافق عليه الشعب عن طريق الاستفتاء المباشر ، هل تلتزم الحكومة بتنفيذه ؟ هل يلتزم القضاء تطبيقه ؟ هل تبطل القوانين إذا خالفته ؟ قد ثار فعلا هذا الخلاف فيما يتعلق بمقدمة P elubmaer دستور 1956 (32) ، فقيل إنها ملزمة ، وقيل إنها غير ملزمة . إن الرأي الذي يذهب إلى أن المقدمة غير ملزمة يكون عليه أن يجيب عن السؤال :

كيف لا تكون ملزمة مع أن الشعب قد استفتى فيها وأقرها ؟ هذا السؤال وغيره تتوقف إجابته الصحيحة على معرفة أولية بالاستفتاء الشعبي ، وطبيعته الدستورية وشروط صحته في ظل النظام النيابي وعلاقة كل هذا بالديمقراطية .

المثل الثاني : نعود به إلى نص المادة 74 . وقد بدأت هذه المادة تثير متاعب فقهية فعلا أمام شراح القانون العام الذين كتبوا فيه حديثا .. فهم يعترفون بخطورة النص أولا ، ثم يحاولون الحد من خطورته بإدراجه في حالة الضرورة بأن " تكون البلاد في مواجهة مخاطر استثنائية يصعب توقعها ، ويستحيل تداركها بغير هذا الطريق الاستثنائي . وهذا يعني أن تلك الأخطار فضلا عن ضرورة أن تهدد موضوعات معينة حددها الدستور فإنها لابد وأن تكون أخطارا حالة وجسيمة " (33) . ثم يحصرون أعمال النص في حالات أن يهدد الخطر (أ) تحالف قوى الشعب العاملة (ب) تكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات العامة (ج) العقيدة وحرية الرأي بما لا يمس حريات الآخرين أو المقومات الأساسية للمجتمع (د) سيادة القانون (34)، ويعتمدون في هذا التحديد على مواد القانون رقم 34 لسنة ۱۹۷۲ ، وما الذي يحدث إذا ألغي هذا القانون أو تعدّل ؟ هل يلغى الدستور او يتعدّل ؟.

على أي حال فإنه لا نص الدستور ولا مواد القانون 34 لسنة ۱۹۷۲ تساند هذا التخريج الذي يعبر عن رغبة واضحة في تحصين الحرية ضد مخاطر النصوص الدستورية . فالمادة 74 ذاتها تخول رئيس الجمهورية سلطاته الواردة بها في حالتين تفترض فيهما أن كل المؤسسات الدستورية الأخرى ، وعلى رأسها مجلس الشعب ، قائمة وقادرة على أداء وظيفتها . فهي لا تشترط أن يهدد الخطر الوحدة الوطنية وسلامة الوطن ويعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري " معا " كما يريد أن يقول (34) الدكتور يحيى الجمل بل تستعمل حرف "  أو"  لتكون لرئيس الجمهورية تلك السلطات في أية حال من الحالات الثلاث . أما عن " جسامة "  الخطر فإن القانون رقم 34  السنة ۱۹۷۲ قد قدم نماذج لها ، فالمادة الرابعة منه تعاقب كل من عرض الوحدة الوطنية للخطر، ثم تفصح فتقول : " بأن لجأ إلى العنف أو التهديد أو أية وسيلة أخرى غير مشروعة لمناهضة السياسة العامة المعلنة للدولة أو التأثير على مؤسستها السياسية والدستورية في اتخاذ قرارات بشأن السياسة العامة للدولة خطر يفترض أن تلك المؤسسات قائمة على اتخاذ قرارات يخشى التأثير عليها أثناء اتخاذها ، وهو ما يؤكد ما قلناه من أن المادة 74 من دستور ۱۹۷۱ لا تفترض ـ في كل الحالات - أن يكون الخطر معوق لمؤسسات الدولة ، أما الخطر فهو بصريح نص المادة 4 من القانون 34 لسنة ۱۹۷۲" مناهضة السياسة العامة المعلنة للدولة بأي وسيلة غير مشروعة " . كل شروط أخرى خاصة بترتيب الأولويات بين مواد الدستور هي اجتهادات حسنة النية ، ولكنها لا تجدي مع نص دستوري صريح ، وهكذا أصبح الشعب مرشحا عن طريق الاستفتاء الشعبي ليكون مصدرا وحيدا لإضفاء الشرعية على تصرفات تمت ونفذت بدون موافقة المجلس النيابي ومع وجوده . وهي مشكلة فقهية لا بد من إيجاد حل لها . وهذا ما يقتضي إعادة البحث في النظام النيابي ذاته لنعرف على ضوئه حدود وقيود الاستفتاء الشعبي ، لأنه إذا كان الدستور قد اشترط عرض الإجراء على الاستفتاء الشعبي فيجب على الأقل أن يخضع استعمال المادة 74 لشروطه وقيوده . ولنا إلى هذا كله عودة . غير أننا قبل أن نعود يجب أن نبدأ .

۸ - وعندما نبدأ بهذا الفصل التمهيدي ، نواجه مشكلة " الشكل " نعني كيفية عرض الموضوع . وقد آثرنا أن نقسمه إلى قسمين : الأول نتناول فيه مشكلة الديمقراطية والثاني نتناول فيه التمثيل النيابي من حيث علاقته كحل بالديمقراطية كمشكلة ، ثم نختم بحثنا بفصل ختامي تقدر فيه موضوع الدراسة وتقدم خلاصتها .

ولكن في سياق هذا كله رأينا أن تكون الدراسة من خلال فصول متتابعة ، حتى لا نعرض الفكرة التي ندرسها للانقطاع والتغيير أو نسمح لها بالإفلات من خلال تقسيم الفصول إلى مباحث ، والمباحث إلى مطالب ، والمطالب إلى فروع وزحمة العناوين المتدرجة . إن هذا الشكل لا يتفق مع التقاليد الشكلية في البحث الفقهي ، نعترف بهذا . ومع ذلك قد اخترناه لأن أكثر الأشكال اتفاقا مع دراسة تنصب مع موضوع واحد وتتابعه في مراحله التاريخية . ومن هنا فإننا سنجد أن المبادئ والأفكار التي تدرس عادة تحت عناوين مستقلة قد أخذ كل منها موقعه التاريخي في سياق البحث المتصل .

ولعل ما نقول في كل هذا أن يكون مفيدا .

القسم الأول : مشكلة الديمقراطية .

تمهيد :

9 - الديمقراطية :

الديمقراطية كلمة إغريقية من كلمتين Démos وتعني الشعب ، و Kratos وتعني الحكم فهي تعني ، إذن ، حكم الشعب بنفسه . ودلالتها التطبيقية أن يتولى الشعب كله ، في مجتمع معين ، شئون الحكم تولية جماعية ، فيصدر القوانين وينفذها ، ويفصل في الخصومات التي تثور بصدد تطبيقها ويوقع الجزاءات على مخالفيها . هذا النظام من نظم الحكم هو ما يطلق عليه في الدراسات الدستورية والعلوم السياسية اسم الديمقراطية المباشرة . la Démocratie directe أو النظام الشعبي Système Publicitaire ويعترف الجميع بأنه نظام لا وجود له في المجتمعات الحديثة ثم يضربون له مثلا تاريخيا نظام " المدينة Cite " الإغريقي ويختارون أثينا خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد ، نموذجا له حيث يرى بعضهم أن ذلك كان عصر الديمقراطية الذهبي .

والواقع من الأمر أن نظام " المدينة " الإغريقي لا يمت إلى الديمقراطية ، كما هي مفهومة في العصر الحديث ، وعلى أي وجه فهمت ، بأي صلة ، الا تلك الصلة التي تصل المدينة الأوروبية الحديثة بالحضارة الإغريقية القديمة ، وهي أن كثيرا من الأفكار التي طرحت حديثا سبق أن كانت مطروحة بشكل بدائي في التراث الإغريقي . ولقد تلقت أوروبا تلك الأفكار بعد أن مرت بالعقل العربي ونضجت فيه ، ومع ذلك فإن الأوروبيين يعبرون عن نهضتهم الحديثة باسم البعث Renaissance ويقصدون به الحضارة الإغريقية . ولما كانت الديمقراطية ، فلسفة ونظاما ، هي إحدى ثمرات ذلك البعث أو النهضة ، التي بدأت في القرن الثالث عشر مع نهاية عصر الإقطاع وبدء ظهور الطبقة الوسطى ( البورجوازية ) فإننا سنتبع هذا التطور في مراحله بدءا من عصر الإغريق ثم عصر الإقطاع ، ثم عصر النهضة ، في ثلاثة فصول متتابعة .

الفصل الأول : عصر الإغريق .

۱۰- نظام المدينة :

إنه نظام وليس مدينة بمدلولها المادي ( حاضرة ) ويقول جان جاك روسو في كتابه " العقد الاجتماعي " إنه أول من فطن إلى هذه التفرقة التي كانت لها ، وما تزال لها ، أهمية في دراسة النظم السياسية عامة ، والديمقراطية بوجه خاص ، فأضاف روسو هامشا إلى الفصل السادس من الكتاب الأول من مؤلفه قال فيه إن المدينة ال " Cite " هي مدينة سياسية أما المدينة بمعنى الـ Ville فهي محل إقامة . الانتساب إلى المعنى الأول يعني أن لصاحبه حق المساهمة في إدارة شئون المدينة  فهو citoyen ، والانتساب إلى المعنى الثاني يعني ساكن المدينة أو حضري Bourgois .

هذا النظام ، نظام " المدينة " ليس إغريقيا إلا بمعنى أنه قد انتشر في عصر سيادة الحضارة الإغريقية . صحيح أنه كان النظام السائد في بلاد الإغريق ( اليونان ) ولكنه لم يكن مقصورا عليها فقد كانت الحضارة الإغريقية منتشرة أو سائدة في أجزاء كثيرة مما نعرفه الآن باسم حوض البحر الأبيض المتوسط . وهكذا وجد نظام ، " المدينة "  في ايطاليا وعرف باسم civitas ، ووجد في آسيا الصغرى ، وفي جنوب فرنسا حيث اليوم نيس ومرسيليا ، وعلى الشاطئ الشرقي لشبه جزيرة ايبريا ( اسبانيا ) وفي صقليا ، وفي إفريقيا . بل أنه وجد في مصر الفرعونية وفي عهد البطالسة والرومان ومن بعدهم بالرغم من أن مصر كانت منذ عهد سابق على الإغريق مجتمعا زراعيا فسيحا يحكم حكما فرديا مركزيا . ومع ذلك فقد أنشأ بسماتيك ، فرعون مصر ( من الأسرة السادسة والعشرين 663 - 252 قبل الميلاد ) على الفرع الغربي للنيل ، شمال مصر ، " مدينة " اسمها نقراطيس ، Naucratis كما أنشأ بطليموس الأول في صعيد مصر، قرب قنا ، " مدينة " حملت اسم بطليموس Ptolémaïs وأنشأ الإمبراطور الروماني هادريان الذي حكم مصر عام ۱۳۰ بعد الميلاد " مدينة " أخرى أسماها انتيموبوليس Antimopolis .

كان العنصر الأساسي المميز لكل تلك المدن هو ، من ناحية ، استقلالها بشؤونها عن أية مدينة أو مجتمع آخر، ومن  ناحية ثانية ، ملكية المدينة ملكية مشتركة بين مواطنيها . مثال الوجه الأول أن استقلال مدينة نقراطيس في دلتا النيل ، وبطليموس في صعيد مصر عن مصر ذاتها بلغ حد تحريم زواج مواطنيها من مصريات ومثال الوجه الثاني " حق " كل " شريك " في المساهمة التي تهم المدينة ككل وواجبه أن يسهم بنصيب متكافئ في مسؤولية الدفاع عنها ." الملكية المشتركة " كأساس لهذا النظام هي التي ربطت بين المساهمة في إدارة المدينة وحق الملكية . فكل الذين لم يكن لهم أصلا حق التملك ، لم يكن لهم حق المساهمة في الإدارة ، فاستبعد من لم يكن له أصلا كالوافدين المقيمين في المدينة ، واقتصر الحق على المؤسسين الأوائل ونسلهم من بعدهم الذين تجمع بينهم وحدة الدم .

هذا العنصر الأساسي المميز بوجهيه ، المشاركة في الداخل على أساس من وحدة الدم ، والاستقلال في الخارج هو مميز كل المجتمعات في أطوارها القبلية الأولى . إنه النظام القبلي . ولم يكن نظام " المدينة " الإغريقي إلا نظاما قبليا إغريقيا قائما على أساس وحدة الدم ، أو نظاما لحلف بين مجموعات متميزة من الناس ما تزال تحكمها الروابط والأعراق القبلية كما كانت أثينا .

وفي تلك العلاقات القبلية القديمة كانت حقوق كل شخص تتحدد بمولده : ابن العبد عبد وابن الحر حر ، وليس للغريب المقيم حق ولو كان حرا . ففي أثينا مثلا كان لا بد لكي يكون الإنسان مواطنا ، وله ما نسميه الآن حقوق سياسية أن يكون مولودا لأب له ذات الحقوق ، أما الأجنبي الذي كان يريد الإقامة فيها فكان عليه أن يختار " مولى " من المواطنين " يجيب عنه " . في تلك المجتمعات كان عدم المساواة هو القانون الطبيعي كما عبر عنه كبير فلاسفة ذلك العصر، أرسطو، حين قال : إن الطبيعة ذاتها - ومن أجل حفظ النوع - قد خلقت رجالا ليحكموا ورجالا ليطيعوا ، وأنها هي التي جعلت حتى العقلاء والحكماء أن يكونوا سادة ، وأن يكونوا القادرون جسمانية على تنفيذ ما يصدر لهم من أوامر عبيدا . ليس كل إنسان مواطنا ، وأن هذه الصفة لا تخص إلا رجل السياسة السيد أو الذي يستطيع أن يكون سيدا  .

لهذا قلنا : إن الصلة بين نظام المدينة والديمقراطية مقطوعة . يؤيد هذا ، أيضا ، أنه مع كثرة المدن فإن نظام الحكم فيها لم يكن واحدا . وعندما صنف أرسطو الإغريقي نظم الحكم تصنيفه المعروف إلى حكم الفرد monarchie وحكم الصفوة aristocratie وحكم الشعب démocratie كان يصنفها إلى أنماط من الحكم قابلة جميعها للوجود داخل نظام المدينة ، تبعا لظروف كل مدينة ، وهو ما يعني أنه لا توجد رابطة لازمة بين نظام المدينة والديمقراطية تسمح بالقول ، بأن خصائص المدينة ، من حيث هي مكان محدود وشعب قليل قادر على الاجتماع في مكان معين ، هي شروط للممارسة الديمقراطية المباشرة لم تعد متوافرة في العصر الحديث ، وبالتالي أن مشكلة الديمقراطية هي أن المجتمعات قد أصبحت دولا عصرية وليست مدنا إغريقية .

وحتى على مستوى الممارسة ، إذا أخذنا أثينا نموذجا لما يقال له ديمقراطية مباشرة ، نجد أن حكومتها ، أو ما يقابلها ، نعني سلطة الأمر والتنفيذ على أية حال ، مكونة من القواد العشرة الذين كانوا يعنون بشؤون الحرب وشؤون السياسة ، ثم ضابطو المدينة astynomes العشرة الذين كانوا يحفظون النظام في المدينة ، وضابطو السوق agoranomes العشرة الذين كانوا يراقبون الأوزان ، ثم يأتي من بعدهم مجلس الشيوخ Bouleioi وهو مكون من خمسمائة ، كل خمسين يمثلون إحدى القبائل العشر المؤسسين لمدينة أثينا . فإذا لاحظنا أن العدد عشرة " لم يكن ضرورة فنية للحكم الديمقراطي بل رمزا لأرستقراطية القبائل العشرة التي تملك أثينا فعلا ، عرفنا أن أثينا كانت حلفا قبليا  .

تحت كل هؤلاء جميعا كان يأتي دور المواطنين الذين لهم حق الحضور في الاجتماع الشعبي وهم قلة .

كان لا بد ، لكي يستطيع ذاك الشعب ، أن يصدر قراراته أن يكون قد تم تحضير أعماله من قبل ، وصيغت القرارات صيغة مناسبة قبل عرضها عليه حتى يمكنه أن يبدي رأيه في نصوص محددة ومدروسة وكان مجلس الشيوخ ، ممثل القبائل العشر ، هو الذي يناقش ويدرس ويعد مشروعات القرارات التي تعرض على الشعب ، ولم يكن من حق الشعب مجتمعا إلا أن يرفض أو يقبل ما يقدمه إليه مجلس الشيوخ ولا يملك المناقشة في أي موضوع آخر ، وعندما يدعى الشعب إلى الاجتماع ، وما كان ليجتمع إلا بدعوة من القادة العشرة ، ليناقش ما أراد له مجلس الشيوخ أن يناقشه فإن حق المناقشة ذاته لم يكن متاحا لكل واحد من الحاضرين . كان يشترط فيمن يصعد ، إلى منبر الخطابة ألا يكون مدينا للمدينة ، وأن تكون أخلاقه طاهرة ومتزوج زواجا شرعيا ويمتلك عقارا في اتيكا ( المنطقة الجغرافية التي تعيش فيها القبائل المتحالفة ومركزها أثينا ) وأنه أدى جميع واجباته نحو المدينة ، واشترك في جميع الحملات الحربية التي أمر بالاشتراك فيها وأنه لم يلق سلاحه أو يفر من أية معركة . ثم تبدأ المناقشة تحت رقابة حفظة القانون Thesmothètes وكان أولئك سبعة يراقبون " الشعب " في اجتماعه وهم جلوس على مقاعد عالية رمز لتمثيلهم للقانون فإذا ما سمعوا خطيبا يهاجم قانونا ساريا أوقفوه ، ثم أمروا - لا بأن يصعد غيره إلى المنبر - ولكن بفض اجتماع الشعب فورا فيتفرق الشعب قبل أن يكمل المناقشة أو الاستماع وبدون أن يبدي رأيه .

كانت تلك هي " طقوس " الحكم القبلي التي يقال لها ديمقراطية ، ولم يكن في أثينا من الديمقراطية شيء . ومع ذلك فإنه قد أورث الحضارة الأوروبية " أفكارا "ما تزال موضوعا للمناقشة بين فقهاء القانون . منها مثلا ما إذا كان حق الشعب مقصورا على الاجتماع والمناقشة وإبداء الرأي أم أن الديمقراطية تعني حقه في الاشتراك في اتخاذ القرارات النهائية ، فلقد عرفنا كيف كان شعب أثينا يدعى ليستمع الخطب تدافع أو تهاجم قرارات أعدت من قبل . ومنها - مثلا آخر - ما إذا كانت الديمقراطية تقتضي ، أو لا تقتضي ، مساهمة الشعب مساهمة مباشرة في صنع القانون أو إلغائه ، ولقد عرفنا أن شعب أثينا كان ينفض بالأمر إذا عارض احد الخطباء قانونا ساريا وهي قوانين عرفية او دينية لم يصنعها الشعب وليس له حق التعرض لها .

والحق أن الحضارة الأوروبية الحديثة لم ترث من النظم الإغريقية ما يمكن نسبته إلى الديمقراطية ، ولكن ميراثها جاء من الفلسفة الإغريقية وخاصة تلك التي كانت تهاجم نظام الحكم في أثينا . هل يعني هذا أن ما ورثته أوروبا قد جاء من " الثوار" ضد أثينا ؟ . هو كذلك . إن فكرة " القانون الطبيعي " التي أدخلت في الوثائق الدستورية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بصيغة : " خلق جميع الناس متساويين منحهم الخالق حقوقا لا يجوز المساس بها منها حق الحياة والحرية " التي جاءت في إعلان الاستقلال الأمريكي عام 1776 أو بصيغة : " يولد كل الناس أحرارا متساويين في الحقوق " التي جاءت في إعلان الحقوق الفرنسي عام ۱۷۸۹ ، تلك الفكرة التي ما تزال تمثل ركنا من أركان الدراسة الدستورية كانت ميراث الحضارة الأوروبية من السفسطائيين الإغريق . وقد رفعوا لواءها نقدا للنظام الذي كان سائدا في " المدينة " الإغريقية ، فدعوا الإغريق ، منذ القرن الخامس قبل الميلاد ، إلى نبذ نظامهم العرفي والعودة إلى ما أسموه قوانين الطبيعة .

كان أحد السفسطائيين هو الذي قال ما نقله أفلاطون : أنتم يا جميع الحاضرين . إنني اعتبركم أباء وأخوة مواطنين طبقا لما أوجدته الطبيعة وعلى عكس ما توافقتم عليه . إذ ، طبقا للطبيعة ، كل شبيه والد لشبيهه ، أما ما توافقتم عليه ، ذلك النظام المستبد بالإنسانية ، فإنه كثيرا ما ينتزعنا من طبيعتنا . وكان أحد السفسطائيين هو الذي قال : لقد خلقت السماء الناس أحرارا ولم تخلق عبدا واحدا . وكان هؤلاء هم الذين أشار إليهم أرسطو في كتابه "السياسة" بقوله : " إن بعض الناس يذهبون إلى غير ما أذهب فيدعون أن سيادة الإنسان على الإنسان لا تتفق مع الطبيعة ، وأن القانون وحده هو الذي فرق بين الناس فجعل بينهم سادة وجعل منهم عبيدا ، وأن الطبيعة لا تفرق بين البشر وبالتالي فإن العبودية ظلم لأنها من صنع القهر" ، وحتي أرسطو نفسه، حين أراد أن يدافع عن العبودية قال : " لقد كانت الطبيعة هي التي خلقت رجالا ليحكموا ورجالا ليطيعوا " ، فكأنه والسفسطائيين معا، قد احتكموا إلى نظام طبيعي لا ينكرونه من حيث المبدأ ولكن يفسره كل واحد منهم على الوجه الذي يساند رأيه في نظام الحكم ، ولم يكن أرسطو والسفسطائيون معا يعرفون أنهم وقد احتكموا في الدفاع أو الهجوم على نظام الحكم الأثيني إلى الطبيعة والعقل ، قد التقوا على بذور الأفكار التي سيقوم عليها ، بعد قرون طويلة ، صرح الحرية والديمقراطية . ولكن تلك الأفكار ذاتها ، كانت في أيام الإغريق جدلا فلسفيا بعيدا عن الواقع . وحتى على هذا المستوى المثالي كان الجدل متصلا بفكرة الحرية وليس بنظام الديمقراطية . وهكذا يتبين أن النظم الإغريقية كانت أبعد ما يكون ، فكرا وممارسة عن الديمقراطية التي نعرفها وندرسها الآن .

وما كان يمكن أن يكون الأمر غير ذلك لأن الديمقراطية بأي معنى هي نظام غايته منع الاستبداد بالشعب والاستئثار دونه بالسلطة ثم تختلف النظم الديمقراطية فيما تضعه من قواعد الممارسة . وهذا كله يفترض ابتداء وجود شعب من الأحرار المتساوين في الحرية ولم تكن المساواة في الحرية متوافرة لا في المجتمع الإغريقي ولا في المجتمع الروماني حيث ساد النظام العبودي . ففي مجتمع تكون الأغلبية فيه " عبيد " بالمعنى القانوني ، أي " أشياء " مملوكة لغيرها ولا تملك من نفسها ، أو لنفسها . شیئا ، لا تكون المشكلة مشكلة استبداد أم ديمقراطية بل تكون مشكلة مساواة في الحرية ، وكل تنظيم تلجأ إليه القلة من " الأحرار" الممارسة السلطة وتقسيمها فيها بينهم هو في حقيقته حکم الأقلية ولا يمت للديمقراطية بصلة .

يكاد يجمع الفقه العربي في مصر على هذا الرأي لولا أن بعض الشراح قد ذهبوا إلى أن أصحاب هذا الرأي انتهوا إلى هذه النتيجة ، التي إن كانت تساير الظروف السياسية والاجتماعية القائمة حاليا إلا انها لا تتفق وتلك التي كانت قائمة في ذلك الوقت ، ولذلك كان من الواجب على هذا الفريق أن ينظر إلى الديمقراطية عند الإغريق في ظل البيئة والظروف التي نشأت في ظلها ، ذلك لأن الأرقاء لم يكن لهم حقوق فكيف يتصور أن يزاولوا حقوقا سياسية . وإذا كان الأمر كذلك فيكون النظام السياسي الذي كان قائما عند الإغريق يمثل في الحقيقة الديمقراطية وليس الأرستقراطية .

والواقع أن هذا الرأي يثير بهذه الملحوظة مشكلة تتصل بمنهج البحث العلمي إذ يخلط بين التاريخ من حيث هو وقائع، وبين تفسير التاريخ وما يصاحبه من تقييم . فنحن عندما نسرد وقائع التاريخ نسردها كما كانت وحدثت فنقول مثلا : إن الأثينيين كانوا يديرون مدينتهم على هذا الوجه أو ذاك ، وأنهم ـ أيضا ـ كانوا يسمون نظامهم ديمقراطية . نورد هذه التسمية باعتبارها واقعة تاريخية ، ولكن عندما ننتقل إلى تفسير التاريخ وتقييمه نقيسه على مقاييسنا نحن ونقيمه من خارجه ، وبدون هذا لا يمكن فهم التاريخ ولا تفسيره ولا تقييمه إذ ـ بدونه - سيكون علينا أن نسلم بما يقوله الذين عاشوه أي نكتفي بسرده . إن هذا الرأي يوجب على الفقهاء في مصر ان يسموا النظام الإغريقي " ديمقراطية " لأن العبيد لم تكن لهم حقوق سیاسية فلا يجوز إدخالهم وهذا ما كان يقوله بعض من فلاسفة أثينا فعلا . ولكن السؤال هو : على أي أساس يمكننا نحن أن نقول إنه نظام ديمقراطي أم لا ؟ لا يوجد أساس إلا فهمنا نحن للديمقراطية . ولو كان الأمر على غير هذا لكان علينا أن نسلم " بالديمقراطية " لكل من ينتحل اسمها لنظامه ، وستجد في كل نظام مستبد أسبابا ابتكرها المستبدون لحرمان بعض الناس من حقوقهم السياسية ، أي إحالتهم إلى مرتبة العبيد ، فهل نصفه بالديمقراطية لأن "طبقة " واحدة مثلا تقصر على المنتمين إليها ممارسة الحقوق السياسية وتحرم منها بقية أفراد الشعب .. ؟

إذن ففي العهد الإغريقي لم تكن الظروف الاجتماعية السائدة تطرح مشكلة ديمقراطية أو تقتضي حلا ديمقراطيا ، كان لا بد أولا من حل مشكلة العبودية بأن يصبح الناس أحرارا ليبدأوا بعد ذلك . وليس قبله ، في البحث عن النظم التي تسمح لهم ، ولكل واحد منهم ، بأن يمارس حريته . وفي أوروبا لم تبدأ مشكلة الديمقراطية إلا بعد أن أصبح الاستبداد " نظاما " للحكم بلغ ذروة أحكامه في القرن الثامن عشر وان كان قد بدأ قبل ذلك بثمانية قرون .

هذا الارتباط التاريخي بين " نظام " الاستبداد والنظام الديمقراطي جعل بينهما علاقة وثيقة هي علاقة المشكلة بحلها . الاستبداد هو المشكلة والديمقراطية هي الحل ، فهو يفرض على كل دارس يريد أن يعرف ما هي الديمقراطية ، وما هي مشكلاتها أن يعرف أولا : ما هو الاستبداد ، وإلى أي مدى حلت الديمقراطية مشكلته .

فلنعرف إذن ، شيئا عن الاستبداد في حدود ما تطيقه هذه الدراسة الموجزة .

الفصل الثاني : عصر الإقطاع

۱۱- نشأة الاستبداد :

لسنا نعني ، بطبيعة الحال ، بالاستبداد القهر المادي الذي يستند في فرض إرادته على القوة وحدها . وإنما نعني به نظاما لحكم الجماعة يكون للحاكم فيه سلطة مطلقة أو تكون إرادة الحاكم فيه هي مصدر السلطات ويكون الشعب فيه " موضوعا " تمارس فيه السلطة المطلقة absolutisme . والاستبداد بهذا المعنى الذي نقصده لم تعرفه أوروبا إلا ابتداء من القرن الحادي عشر ، أما قبل ذلك فقد سادها نظام آخر هو الذي أدى في النهاية إلى النظام الاستبدادي .

فبعد أن سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس حين اجتاحتها أعداد كثيفة من القبائل الهمجية ( البورجوند و الألمان والفرانك .. الخ ) غمرتها موجة من الفوضى كان الاحتكام فيها للقوة وحدها وبالتالي كان أكثر الناس مقدرة على توفير قدر من الأمن هم أولئك الذين يملكون مساحات شاسعة من الأراضي ، القادرون على أن يقيموا فيها حصونا وأن يكوّنوا من زارعيها قوة دفاعية مقاتلة . وأدى ذلك إلى أمرين : الأول أن لجأ صغار الملاك إلى تسليم "أنفسهم وأموالهم " إلى كبار الملاك لحمايتهم في مقابل حصة من ناتج الأرض وعدد من أيام العمل فاتسعت المساحات وكثر العدد ، الأمر الثاني أن لاذ الذين لا يملكون شيئا بحماية أصحاب الأراضي يحتمون بهم في مقابل العمل في الزراعة أو في القتال فتوافرت الأعداد الكافية لتكوين فرق متفرغة للقتال ( الفرسان Chevaliers ) دفاعا عن الأرض يقودها صاحب الأرض نفسه . السنيور Senior ( الشيخ ) . وهكذا بدأ تكوين النظام الإقطاعي في أوروبا . نقول بدأ لأن العلاقات الداخلية ، فيما عدا التبعية مقابل الحماية لم تكتمل إلا بعد أن وصلت موجة الفتح الإسلامي إلى أوروبا وتوقفت عند بواتييه ( فرنسا) عام ۷۳۲ . ذلك لأنه ابتداء من ذلك التاريخ أصبحت أوروبا "محاصرة " بمعنى الكلمة فانقطعت خطوط اتصالاتها بالشرق ، وبالتالي فقدت مواردها التجارية وأصبح على أوروبا ككل ، وعلى كل مقاطعة فيها . أن تكتفي ذاتيا . وأدى ذلك إلى قيام نوع من تقسيم العمل الطائفي يشبه إلى حد كبير النظام الذي ساد الهند حيث تختص كل طائفة بنوع من النشاط ، ولكنه بعيد عن المعنى الحديث للانقسام الطبقي . كان نصيب او اختصاص السيد أن يحكم الإقطاعية ويدافع عنها ، وكان نصيب ، أو اختصاص رجال الدين أن يقيموا العبادات ، ويقوموا بمهام التعليم ، وكان نصيب الفلاحين والحرفيين أو اختصاصهم أن ينتجوا ما يكفي لإشباع الحاجات المادية لجميع سكان الإقطاعية ولم يكن من حق أية طائفة من تلك الطوائف الثلاث أن تمتنع عن أداء حصتها . وقد كان هذا الالتزام بالنسبة للفلاحين يعني بقاءهم في الأرض وارتباطهم بها ، وهو ـ بالإضافة إلى العمل بدون مقابل أياما معدودات - ما طبع العلاقة بينهم وبين السادة بطابع قريب من العبودية ، فكانوا أقنانا serfs ومن حصة العمل أو "المقطوعية " fief أخذ النظام كله الاسم الذي عرف به  foodale .

هذا النظام الذي أملته ظروف مادية بحيث يكاد يكون نظام ضرورة كان غريبا تماما عن أي نظام قانوني . فمن ناحية لم يكن تطبيقا لنموذج نظري سابق عليه من نماذج الحكم . ومن ناحية أخرى لم يكن فيه مشرعون ولا قوانين بل كان " العرف " والعادات التي حملها معهم الغزاة ثم تحولت إلى تقاليد هي التي تحكم العلاقات بين الناس ويحتكمون إليها عند السيد ، وكانت ـ بطبيعة الحال - تختلف من بيئة إلى بيئة ، واستمر هذا الوضع إلى ما بعد توحيد أوروبا الغربية تحت حكم شارلمان بتأييد من البابا . ذلك أن شارلمان اتجه في تنظيم إمبراطوريته إلى الاستفادة من التجربة الإقطاعية بدلا من إلغائها . فبدلا من محاربة أمراء الإقطاع نظمهم تحت رئاسته وبذلك نشأ نظام رئاسي قاعدته إقطاعية يكون فيه أمراء الإقطاع حلقة وصل بين الإمبراطور ورعيته . ولكن منذ ذلك الوقت بدأت الكنيسة في التحول إلى سلطة دنيوية فوق الملوك والأمراء وسيكون لهذا الترتيب أثر في نشأة النظام النيابي ما تزال تحمله النظم حتى الآن .

۱۲- الاستبداد الكنسي :

ذكرنا من قبل أنه طبقا للتقسيم الطائفي في النظام الإقطاعي كان رجال الكنيسة يتولون شؤون العبادات والتعليم فكانوا المتحكمين في الحياة الروحية والفكرية . ومن ثم كانت السلطة الأدبية والروحية للكنيسة سائدة منذ البداية . ولكن منذ قامت إمبراطورية شارلمان بتأييد من البابا بدأت الكنيسة تمد نفوذها إلى الشؤون الدنيوية . وكان المدخل إلى ذلك تأكيد حق الكنيسة في التدخل في كل ما يمس الأمور الروحية . ومن ذلك المدخل اكتسبت الكنيسة حق " رقابة " على الملوك والأمراء للتأكد من أنهم في ممارستهم لسلطاتهم العرفية لا يرتكبون ما يمس القيم الروحية . ومع حق الرقابة كان حق الجزاء وهو " الحرمان " . الخطوة التالية استندت إلى تفسيرات البابا جريجوري السابع وأنوسنت الثالث ومؤداها ان الكنيسة بصفتها ممثلة الله على الأرض والقائمة على خدمة الدين من حقها ان تحصل من الملوك والأمراء على الحقوق اللازمة ، والكافية ، لأداء خدماتها الروحية على الوجه الأمثل . وهكذا امتد نفوذ الكنيسة من المجال الروحي إلى السياسي إلى المالي فشمل عناصر السلطة جميعا ، ولم يكن ذلك الامتداد سهلا دائما بل استغرق قرونا ، ولم يخل من صراعات انتصرت فيها البابوية تارة ، وانهزمت تارة أخرى . غير أنه ما أن بدأ القرن الثالث عشر ، أيام البابا أنوسنت الرابع حتى كانت الكنيسة قد غادرت - بلا عودة - الأساس المسيحي للحكم : " أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله " واستقرت على أن لها السلطتين الروحية والدنوية معا ، وأن لها هي ـ طبقا لتقديرها ـ  أن تعهد بالسلطة الدنيوية إلى من تشاء من ملك أو أمير ولكنها هي دائما المسؤولة عن ضمان حسن أداء تلك السلطة .

۱۳ - نظرية الحق الإلهي :

كانت نظرية الحق الإلهي doctrine du droit divin أولى النظريات التي قيلت لتبرير الاستبداد ، وقد أنشأها وروج لها رجال الكنيسة لتبرير السيطرة البابوية ومؤدى تلك النظرية أن الحكم لله وحده ، وأنه يختار لأدائه في الأرض من يشاء فيصبح حاكم بأمر الله . والمميز لها أن الاختيار يتم مباشرة لشخص بعينه على وجه يجعله قريبا من معنى " الانتقاء " ومن هنا جاءت كلمة souverain التي تعني في أصلها " المختار من الله " Seigneur Lelu -  مع ملاحظة أن هذه الكلمة التي تصعب ترجمتها ، لم تدخل لغة القانون - بمعناها الذي تعرفه الآن - إلا في مرحلة متأخرة من القرن السادس عشر ، ولكن النظرية لم تبق على بساطتها وإطلاقها هذا ، بل أخذت صيغة " عقلية " توفق بين أصلها اللاهوتي ووظيفتها في مساندة السلطة البابوية . ولقد تمت تلك الصيغة على يد القديس توما الأكويني .

ويقسم القديس توما الأكويني مصدر السلطة إلى ثلاثة أنواع : النوع الأول هو الإرادة الإلهية المحيطة بكل شيء ، والنوع الثاني هو القانون الطبيعي الذي أودعته الإرادة الإلهية في ضمائر البشر فجعلتهم يميزون بين الطيب والخبيث ، وأخيرا النوع الوضعي أو البشري ، وهي تلك القواعد التي يضعها الناس في المجالات الخاصة . وبالبناء على هذا التقسيم يعود فيفرق بين ثلاثة أوجه للسلطة ، أولها : الجوهر أو المبدأ Principum وهو إرادة الله ، والشكل أو الأسلوب Modus ، سواء كان ملكية أو أرستقراطية ، أو ديمقراطية ، وهذه يميز بينها ، ويختارها الناس ، والممارسة أو التنفيذ Exercitium وهذه يؤديها البشر . وواضح من هذا أن توما الأكويني يحاول أن يلائم بين الحق الإلهي وبين صور ممارسة السلطة وأشكال الحكم مع الاحتفاظ بمصدر الحق في الحكم وسند شرعيته ، او جوهر السلطة ومبدئها ، والإرادة الإلهية . ولقد كانت نظرية الحق الإلهي ، في حاجة فعلا ، إلى مثل هذا التخريج لأنها كانت وهي تساند الكنيسة تواجه نظريات أخرى تنكر الاستبداد على أساس فلسفي عقلاني كما سترى .

على أي حال ، فابتداء من سيادة الكنيسة واستنادها الى نظرية الحق الإلهي انتقلت أوروبا من مرحلة النظام العرفي إلى مرحلة النظام القانوني . أي أصبحت القوة المادية استبدادا قانونيا ، صحيح انه قانون لاهوتي . وخاضع لتفسير البابوات . ولكنه يتميز عن العرف بأنه يسند السلطة لأول مرة إلى مبرر غير الضرورة المادية ، ويقر لها بمصدر شرعية ، وهو ما يعني تحويلها إلى حق يقابله التزام من الناس بالخضوع لها ، وقبول آثارها ويمكننا أن نقول : إننا هنا أمام مولد المشكلة الدستورية التي ستشغل الناس فيما يلي ذلك من قرون ، وما تزال تشغلهم ، كما أننا أمام مولد أول نظم الاستبداد التي ستأخذ بعد ذلك - وما تزال تأخذ - أشكالا مختلفة وتكون ، وما تزال، سببا ومبررا ، لنشأة النظريات الديمقراطية.

أيا ما كان الأمر فقد امتد الاستبداد الكنسي حتى القرن السادس عشر . وفي ظله كانت الكلمة العليا في مسير شعوب أوروبا وملوكها وأمرائها للبابوات . ولكن لكل مسالة وجهها الأخر ، فقد كان على الكنيسة وقد أصبحت حاكمة أن تحل مشكلات المحكومين . فكان عليها أن تفك الحصار الإسلامي المضروب حول أوروبا منذ قرون وأن تعيد إلى أوروبا رخاءها المفقود ، ومن أجل هذا قادت الكنيسة شعوب أوروبا وأمراءها وملوكها إلى تلك الحروب الطويلة الدامية التي عرفت باسم الحروب الصليبية ، وكان نداؤها الحقيقي هو ما قاله البابا أربان الثاني لأمراء الإقطاع : " إن الأرض التي تقيمون عليها لا تكاد تنتج ما يكفي لغذاء الفلاحين ، وهذا هو السبب في اقتتالكم ، فانطلقوا إلى الأماكن المقدسة ، وهناك ستكون ممالك الشرق جميعا بين أيديكم فاقتسموها " . أو كانت كما قال أحد الفرنسيين في ذلك الوقت استغلال للدين من قبل الفرنسيين Gestadie Par Frances .

الفصل الثالث : عصر النهضة .

14- نشأة الطبقة الوسطى :

أفلح الاستغلال فعلا ولكن عن غير الطريق الذي أراده البابوات ، فمع أن الصليبيين لم يسيطروا على ممالك الشرق ويقتسموها على وجه يغنيهم عما تركوا وراءهم إلا أن الحرب الصليبية قد أدت إلى نتيجتين كانتا حاسمتين .. الأولى أنها نقلت القتال والقادرين عليه من أوروبا إلى الشرق فاستتب الأمن - نسبيا - في أوروبا ، والثانية أنها أعادت فتح الطرق التجارية إلى الشرق ونشط التعامل والتبادل بعد انقطاعه طويلا . وكان من أثر هاتين النتيجتين أن نشأت في أوروبا طبقة جديدة هي طبقة التجار mercantors التي سيكون من حظها أن تغير وجه تاريخ البشرية وان تزودنا بجل ما تعرف الآن من نظريات وقوانين ونظم وأن تقدم لنا تلك المؤسسة التي نعرفها باسم " الدولة " والتي في قلبها تارة وفي مواجهتها تارة أخرى ثارت وتثور مشكلة الديمقراطية ، ولهذا استحقت هذه الطبقة الخلاقة أن نعرض لنشأتها تمهيدا لمعرفة : لماذا وكيف لعبت دورها التاريخي في نشأة النظام النيابي ذاته ؟.

بدأ ظهور التجار حین ساد الأمن أوروبا . وكان التجار في أول أمرهم أفرادا أو جماعات قليلة من الباعة الجائلين الذين ينتقلون من مكان إلى مكان يحملون بضاعتهم القليلة على أكتافهم أو على الدواب ، ويتجولون على أقدامهم فأطلق عليهم " المعفرة أقدامهم  Pieds ـ  Poudreaux ولكن

الانفتاح الاقتصادي - الداخلي والخارجي - لم يلبث أن رفع من شأن الطبقة إذ أصبحت رفاهية أوروبا متوقفة إلى حد كبير على النشاط التجاري ومع تصاعد دورها الاقتصادي تزايدت الحقوق التي حصلت عليها من أمراء الإقطاع ، وهي حقوق لم يكن لها مثيل من قبل . وإنما اقتضتها العمليات التجارية ذاتها . وكسبها التجار لأنفسهم ثم لطبقتهم من بعد .

كان أول ما تحتاج إليه التجارة هي حرية الانتقال فحصل التجار - في مقابل ثمن - على صكوك تعفيهم من الاستقرار في الأرض وتحصنهم ضد أي تعرض لهم  Chartes de franchisses وكانت التجارة تحتاج الى أماكن آمنة تخزن فيها البضائع ، وتكون مراكز للتوزيع في أركان المدن ، أو مفترق الطرق البرية ، أو على الأنهار ، فحصل التجار على حق إنشاء محطات تجارية وتحصينها والدفاع عنها ، فأقاموها وعرفت باسم الأبراج burgs  وأخذوا منها اسمهم فكانوا Bourgeois وجذبت تلك المراكز إليها الحرفيين الذين كانوا يقومون بالصناعات لأجل الاستهلاك ، فانتقلوا إليها ، وبدأت الصناعة من أجل البيع . وعندما كثر عدد المقيمين في تلك المراكز كان على الفلاحين في الإقطاعيات أن يزيدوا من إنتاجهم الزراعي لمواجهة احتياجات الطبقة الجديدة فأصبحت الزراعة هي الأخرى من أجل البيع ، لا من أجل الاستهلاك فقط ، وترتب على هذا زيادة الرقعة الزراعية ، فاستفاد أمراء الإقطاع أنفسهم ، وأصبحوا يشجعون التجار على بناء المراكز التجارية في إقطاعياتهم ، فاستغل التجار هذه الرغبة وحصلوا على حق استقلال المراكز ـ التي أصبحت مدنا ـ عن التبعية الإقطاعية droit de mancipatio  وأصبحوا يديرونها بأنفسهم فتحولت المدن والمراكز التجارية إلى مناطق حرة commumes وكانت التجارة في حاجة إلى عقد الصفقات السريعة والمتنوعة ، والتحرر من قيود المبادلة ، فزاد استعمال النقود ، وأصبحت هي الوسيط الأساسي في تبادل السلع ، وتحديد قيمتها . وكانت التجارة في حاجة إلى قواعد تعامل ثابتة وواضحة ومحددة ، وإلى ردع الاعتداء على الملكية بالعنف ، أو الاختلاس او التدليس وإلى قضاة يفصلون في المنازعات في مواقع قريبة ، وإلى رجال قانون يعرفون كيف تصاغ العقود ، و إجراءات المطالبة بالديون واستيفائها ، ولم تكن قواعد العرف السائدة أو نظام الاحتكام إلى السيد الإقطاعي تصلح لكل هذا ، فاستعارت الطبقة الجديدة القانون الروماني ، وأنشأت الجامعات والمحاكم وأنجبت القضاة والفقهاء والمحامين ، وأصبح رجال القانون بجوار أمراء المال الجديد مثل الفرسان بجوار الأمير الإقطاعي ، فأنشأ لهم ملك فرنسا فيليب الجميل Philipe le bel لقبا موازيا فأصبح منهم فرسان القانون chevaliers des lois وهكذا نشأت من بين الإقطاعيين من ناحية ، وبين الاقنان والفلاحين serfs من ناحية أخرى طبقة جديدة هي طبقة البورجوازية فأسموها " الطبقة الوسطى " .

إلى هنا لم تكن هناك أسباب لأي صدام بين الطبقة الوسطى الصاعدة وبين الاستبداد الكنسي . ولكن بذور الصراع بينهما كانت كامنة فلم تكن الكنيسة لترى أية خطيئة في التجارة لأنها على أي حال ، وطبقا للمفهوم الكنسي للمشروعية " تشبع حاجات البشر" ولكن التجارة - وإن كانت تشبع حاجات البشر - تتضمن شيئا آخر هو إشباع حاجات التاجر نفسه ، وحاجة التاجر دائما هي الربح ، والمزيد من الربح ، والربا هو أضمن وسائل الربح . ولقد كان الربا محرما في المسيحية . وكان ذلك يبشر بصدام قريب بين الكنيسة والطبقة الوسطى . ولكن البابا انوسنت الرابع ابتكر حيلة فقهية هي التفرقة بين ما إذا كان الإقراض بفائدة من أجل الاستهلاك الشخصي ، أم من أجل تمويل عمليات تجارية أو صناعة مربحة . فحرم الأول وأباح الثاني على فرض أن الفائدة ليست إلا نصيبا مضمونا من الربح .. ولم تكن الطبقة الوسطى ( البورجوازية ) في ذلك الوقت في حاجة إلى أكثر من هذا ، فقد كان هذا كافيا لكي يصبح بعض ملوك التجارة ملوكا للمال ، فنشأت فئة أكثر ثروة تحترف المتاجرة في النقود فلا تضطر إلى مغادرة المدن ، ولا تتعرض لمخاطر التجارة فاستطاعت عن طريق مقدرتها المالية من جهة واستقرارها من جهة أن تحتكر إدارة المناطق الحرة communes وتصبح سلطة إدارية قبل أن تتحول ـ بعد قرون ـ إلى سلطة سياسية .

غير أن هذا الكسب ذاته هو الذي أدى في النهاية إلى اصطدام الطبقة الوسطى ( البورجوازية ) مع الكنيسة . فلم يكن مما يتفق مع منطق الطبقة الوسطى أن يعيش احد في المناطق ، وينتفع بمرافقها بدون أن يتحمل نصيبه في " تكلفة " الإدارة وحروب الملوك والنبلاء . و أرادوا أن يمدوا عبء الضرائب ليشمل رجال الكنيسة الذين لم يتحملوا من قبل - قط ـ أية أعباء مالية ، هنا وقع الصدام ، واستمر قرونا ، وانتهى بسقوط الاستبداد الكنسي ، ولكن لحساب الاستبداد الملكي . ذلك لأنه في تلك المرحلة التي امتدت إلى القرن السادس عشر قدمت الطبقة الوسطى الملوك . الذين كانوا حتى ذلك الحين محدودي السلطة ، ليواجهوا بهم الكنيسة ، وتحالفوا معهم .

كان صراعا في القمة دار حول السلطة المستبدة لمن تكون ، ولم يدر لحساب الشعب ، وإن كان الطرفان قد استغلا اسمه في مجادلتهما الفلسفية والقانونية . وانتهى الصراع بانتصار الاستبداد الملكي .

15 - نظرية العناية الإلهية :

تتفق نظرية العناية الإلهية doctrine la Providence مع نظرية الحق الإلهي التي تكلمنا عنها في أنهما ، كلتاهما ، تبرران الاستبداد وتحاولان تحصينه ضد الأفكار الديمقراطية بإسناد السلطة إلى الله . ثم تختلفان في طريقة تلقي المستبدين سلطاتهم من السماء . فبينما تذهب نظرية الحق الإلهي إلى التلقي المباشر، كما ذكرنا من قبل ، تذهب نظرية العناية الإلهية إلى أن إرادة الله توجه شؤون الناس وعقولهم وإرادتهم على وجه غير مباشر إلى أن تصبح السلطة في يد واحد منهم . فهو لا يكسبها بجهده ، ولا يستحقها لأمر خاص به ، ولا يتلقاها من أحد من الناس ، ولا من الله أيضا ، ولكن عناية الله هي التي وضعته في موضعه . وواضح أنها نظرية دفاعية أكثر منها هجومية ، بمعنى أن غايتها إضفاء القدسية على ما هو قائم ، فما دام الملك ملكا ، فليس من حق أحد أن يعترض عليه ، أو يحد من استبداده ، لأن ذلك سيكون تحديا لإرادة السماء حتى لو لم يعرف أحد كيف أدت عناية السماء إلى هذه النتيجة .

وقد يكون من المفيد أن ننبه إلى ضرورة التمييز بين  نظرية الحق الإلهي ونظرية العناية الإلهية حتى لا نضعهما موضعين متوازيين ، او نحسبهما بديلين لمواجهة موقف واحد . بل هذا يتضمن - في اعتقادنا - قدرا كبيرا من تجاهل التطور الزمني للنظريات الدينية التي قيلت في تبرير الاستبداد . إن نظرية الحق الإلهي نظرية بابوية الأصل ، وكان المركز الديني للبابا يبررها . فقد كان يبدو منطقيا أن يختار الله البابا بالذات ـ دون البشر أجمعين - لتنفيذ إرادته . هذا المركز المتفرد الذي يتمتع به البابا لم يكن يسمح ، في مرحلة الصراع بين الكنيسة والملوك بأن يدعي أي ملك أن الله قد انتقاه هو دون البابا ، وبالتالي لم يكن ممكنا في تلك المرحلة أن يستند الملوك في تأييدهم لسلطة البابا إلى نظرية الحق الإلهي . وإنما سيعود الملوك إلى نظرية الحق الإلهي مرة أخرى في مرحلة لاحقة لانتصارهم بعد أن تكون الكنيسة قد خرجت من مجال الصراع على السلطة ..

وسيعودون إليها متحدين بها - تلك المرة ـ المذاهب الديمقراطية . يؤيد هذا - في اعتقادنا - أن أغلب المراجع التي أوردت احتجاج الملوك بالحق الإلهي قد ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، أي بعد أن كان نفوذ الكنيسة قد انتهى تماما وانفرد الملوك بالاستبداد .

يؤيد هذا ، ويكاد يقطع بصحته ، أن نظرية العناية الإلهية تستند إلى فلسفة أكثر تطورا من الفلسفة التي تستند إليها نظرية الحق الإلهي . إذ أن نظرية الحق الإلهي تستند إلى فلسفة " الجبرية " أي أن كل أعمال الناس في الأرض محددة سلفا بإرادة من الله لا خيار لهم فيها ، وهي النظرية التي سادت أوروبا حتى القرن السادس عشر . وفي ظلها كان " البابا " هو المختار لتمثيل الله في الأرض وتأمين انضباط تصرفات البشر على مقتضى إرادته . وفي ظلها أيضا كانت غاية من يريدون الحد من الاستبداد الكنسي أن يشركوا الملك في هذه السلطة . ومثاله كتاب " السلطة الملكية والسلطة البابوية Du Pouvoir royal et du Pouvoir Papal الذي كتبه جان دي باري Jean de Paris عام ۱۳۰۲ ، وقال فيه : إن الحياة تنقسم إلى قسمين متميزين ، قسم مادي وقسم روحي ، وأن الله يختار لكل منهما من يتولاه ، فاختار الكنيسة للحكم الروحي ، واختار الملك للحكم الدنيوي . فالملك قد تلقى سلطة بدون وساطة من الكنيسة .

وواضح أنها نظرية تعارض الاستبداد الكنسي أكثر مما تبرر الاستبداد الملكي الذي لم يكن قد ساد فاحتاج إلى تبرير، ولكن الأمر بعد هذا سيختلف . فضد فلسفة " الجبرية " قامت حركة الإصلاح الديني في أوائل القرن السادس عشر ، وقادها مارتي لوثر الألماني الذي بدأ دعوته عام ۱۵۲۰ وجان كالفن السويسري الذي بدأ دعوته عام 1536 وفيها أرادا أن يردا فعل الإنسان إلى حريته في الاختيار في ظل القدرة الإلهية ، فجاءت نظرية العناية الإلهية التي توجه ولكن لا تختار وانتقلت إلى المجال السياسي فاستفاد منها الملوك في إنكار استبداد البابا وتبرير استبدادهم .

وكل هذا لا يمنع أن الفكر البشري ، في تطوره ، لا يأتي في ترتيب متسق وقد تسبق الرؤية الفكرية الواقع أو العكس ، كما لا يمنع أن ملوك أوروبا سيعودون في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى نظرية الحق الإلهي ، ولكن مقدرتنا على فهم القانون تكون أقرب إلى الصحة إذا فهمناها من خلال ربطه بالتطور الفكري والاجتماعي الذي ترجمه في نظريات ونصوص ، فعندما يقال مثلا أن نظرية العناية الإلهية ، بعكس - نظرية - الحق الإلهي ، تسمح بقدر من الديمقراطية نتحفظ كما تحفظ أستاذنا المغفور له الدكتور عثمان خليل ونضيف من عندنا أن الديمقراطية بمعنى سيادة الشعب أو سلطته في مواجهة الملوك والحاكمين لم تكن مطروحة على نظرية العناية الإلهية .

16- الليبرالية :

ما الذي كانت أوروبا في حاجة إليه أكثر من أي شيء آخر في مرحلة صعود الطبقة الوسطى ؟ كانت في حاجة إلى الحرية الفردية . والامتلاك والربح بعيدا عن أي تدخل من أي سلطة . وحبذا لو لم تكن هناك سلطة من أي نوع ، كنسي أو ملكي أو إقطاعي وإذا كان لا بد من سلطة فلتكن في أضيق حدود ، أو فلتكن وظيفتها - على وجه الدقة ـ المحافظة على الحرية الفردية . أي تكون "شرطة " تحفظ الأمن في الخارج والداخل ثم تترك لكل واحد أن ينتقل إلى حيث يريد وأن يفعل ما يريد laisser faire laisser passer ولكن كيف يمكن تبرير هذا وإسناده إلى مصدر الشرعية في مواجهة المصدر الإلهي ؟ لم يجد مفكرو الطبقة الوسطى في القانون الروماني الذي أفادهم في المعاملات التجارية ما يفيدهم في الحرية .

كان لا بد للمبرر الجديد من أن يستند إلى الإنسان الفرد ذاته والثقة في عدالة " العقل " وكانت تلك فكرة غريبة تماما على أوروبا . فأتيحت الفرصة ، مرة أخرى ، ليلعب الإسلام والمسلمون دورا تاريخيا في بناء أوروبا الحديثة وقد بنوه من ناحيتين .

الأولى في الغرب ، فبعد عناد طويل غذاه التعصب الديني فتحت أوروبا أبوابها للفكر الإسلامي وترجمته وعرفت مؤسس نهضتها الفكرية الفيلسوف العربي ابن رشد .. وما تزال الحركة الفكرية التي سادت عهد النهضة الأوروبية ( البعث ) Renaissance ابتداء من القرن الثالث عشر ، تسمى " الرشدية " إذا صح التعبير Averroisme . وقد قدم لهم ابن رشد ما كانوا في حاجة إليه : الاحتكام الى العقل في شئون الدنيا والدين . فساد المنهج العقلي الذي يثق في الإنسان الفرد ومقدرته على التمييز بين الصواب والخطأ بدون حاجة إلى التدخل من قوة خارجية . وتحت تأثير هذه الفكرة قامت حركة الإصلاح الديني وأنشئ المذهب البروتستانتي الذي سيفجر الثورة البرلمانية في انجلترا فيما بعد ، وكان ما قدمه ابن رشد تلك الفكرة القديمة التي عرفناها عند أرسطو والسفسطائيين ، فكرة النظام الطبيعي وأحكامه المعقولة في ضبط علاقات البشر ، ولكن في صورة فلسفية أكثر عمقا وأكثر نضجا من ذي قبل وتحت تأثيرها ذهب فلاسفة الحرية في أوروبا إلى أنه ما دام قد ثبت أن الأقدمين قد عرفوا الفضائل جميعا ولم تكن حكرا للقديسين فإن الأخلاق والسياسة والفن والأدب وكل النشاط الإنساني يمكن أن تقوم صحيحة على أسس من العقل بدون حاجة إلى مرشد مما وراء الطبيعة .

الناحية الثانية من الشرق في وقت لاحق . ففي عام 1453 ميلادية ، الذي يعتبرونه نهاية عهد الإقطاع ، فتح المسلمون القسطنطينية وسقطت معها الإمبراطورية البيزنطية ، وبدأ الفتح الإسلامي يتجه إلى قلب أوروبا من الشرق ، وأصبحت أوروبا الناهضة في حاجة إلى الإسلام . فبدأت دعوة السلام بعد سقوط المدينة العتيدة مباشرة ، ونشر الكاردينال نيقولا دي كويس كتابه " سلام الإيمان " Pace Fidei de يدعو فيه كل الأديان بما فيها الإسلام إلى عدم السماح للخلاف العقائدي بأن يفسد حياة البشر وإلى التعايش معا على أساس الاحتكام إلى " العقل " . .

وهكذا تضافرت ظروف اجتماعية وتاريخية لتنشأ تلك الفلسفة القائمة على أساس الاحترام المطلق لذات الإنسان ، وتحريره من كل تدخل من خارجه ، والتي يطلق عليها اسم التحررية libéralisme .

والليبرالية ، كفلسفة ، قائمة على الأساس الذي لا خلاف عليه بين المذاهب : " الإنسان كائن اجتماعي " . والفهم الدارج لمفهوم الليبرالية هو الذي يبرر هذه الملاحظة . إذ كثيرا ما يدور الحديث عن الليبرالية كما لو كانت فلسفة خاصة بالإنسان الفرد معزولا عن المجتمع وهو غير صحيح ..

كل ما في الأمر أن الليبرالية تتضمن فهما خاصا لعلاقة الفرد بالمجتمع تلك العلاقة التي يجسدها النظام القانوني الدولة ) . وهذا الفهم الخاص يقدم حلا خاصا لمشكلة الشرعية . وهو حل قائم على فكرة أن ثمة قواعد تقود خطا الأفراد في المجتمع ثابتة وخالدة ، تؤدي تلقائيا إلى تحقق الصالح الاجتماعي من خلال محاولة كل فرد تحقيق صالحه الشخصي ، ويستمد منها الإنسان حقوق عادلة بطبيعتها .

تلك القواعد هي ما يسمى بالقانون الطبيعي .

۱۷- القانون الطبيعي :    

بدأ الفكر الليبرالي من تقرير أن المجتمع ظاهرة لم توجد نتيجة إكراه ، بل انبثقت انبثاقا حرا من الطبيعة الإنسانية كاستجابة لغريزة حب الاجتماع ، هذه الغريزة الاجتماعية الأصيلة في الإنسان لقنت الإنسان قواعد أساسية للحياة في المجتمع . هذه القواعد هي " القانون الطبيعي " . فالقانون الأساسي طبقا للفلسفة الليبرالية هو قانون طبيعي بذات القدر ، ولذات السبب الذي نقول به : أن المجتمع وجود طبيعي . ويمكن على هذا أن نقول بأن المجتمعات وجدت ـ وما تزال موجودة - استجابة لقواعد خالدة في الضمير الإنساني كما يمكن القول بأن تلك القواعد الخالدة قواعد اجتماعية . ويكون القولان صحيحين ، لأن القانون الطبيعي والمجتمع الطبيعي ليسا إلا تعبيرين ، الأول في الضمير الإنساني ، والثاني في الوجود الاجتماعي ، عن قانون سام هو قانون الحياة ، وهكذا قبل أن يكون المجتمع منظما بقواعد قانون وضعية يوجد نظام قانوني للمجتمع يجسد حقيقته على أفضل وجه في الحرية وبالحرية ، والقانون الوضعي ذاته ليس إلا ترجمة للقانون الطبيعي ، ويؤدي غايته بقدر ما يكون متفقا مع الأصل الذي يترجمه .

ذلك هو الأساس الليبرالي الذي ستقوم عليه النظم الديمقراطية وتنبع منه أيضا مشكلة الممارسة الديمقراطية ، إذ ـ كما قول بوردو - ليست الديمقراطية إلا أداة لتحقيق الحرية بمعنى أنها غير قابلة للانفصال عن أساسها الليبرالي لأن غايتها أن تحمي وتؤمن تلك الحقوق التي كسبها الإنسان من القانون الطبيعي . وهي حقوق يقول عنها ایسمان فقيه الليبرالية الكبير أنها أسبق وأسمى من حقوق الدولة .

هذا القانون الطبيعي كأساس للنظام المدني كان ، في القرن الثامن عشر ، قد أصبح فكرة تقليدية . والواقع أنه لا يكاد يوجد في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فيلسوف او مفكر او فقيه لم يبدأ اجتهاده من التسليم بوجود قانون طبيعي . والذي يهمنا من فكرة القانون الطبيعي هنا أنها قد أرست قاعدة أن السلطة ، أيا كان نوعها تستمد شرعيتها من رضاء الشعب . قال جون لوك : " لما كان الناس جميعا ، كما قلنا من قبل ، أحرارا ومتساوين بالطبيعة فلا يمكن انتزاع أي شخص من حالته هذه وإخضاعه للسلطة السياسية لشخص آخر إلا برضاه . وقد أثارت هذه النقطة أكبر قدر من الخلاف بين الفلاسفة وفقهاء القانون معا وانصبت على موضوعين ، الأول كيف تم الرضا المتبادل بين الناس على إقامة مجتمع مدني منظم .. ؟ والثاني : ما الذي تراضوا عليه ؟ ومما هو جدير بأكبر قدر من الانتباه ضرورة عدم الخلط بين الموضوعين . فالموضوع الأول ، كيف تم الرضا وما هي بواعثه يدخل في نطاق دراسة نشأة " الدولة " في حين أن الموضوع الثاني ، ما الذي تراضى عليه الناس ، يدخل في نطاق دراسة النظم السياسية . أنهما غير منفصلين . وقد جاءا في كتابات فلاسفة الحرية وفلاسفة الاستبداد مجتمعين ، ويؤثر الأول على الثاني ، ومع ذلك فإننا نرى ضرورة الفصل بينهما لسببين : الأول لأن النظريات التي قيلت في كيف تم الرضا المتبادل بين الناس على إقامة مجتمع مدني منظم وموضوعها يحمل عادة اسم " العقد الاجتماعي " لم تكن سردا للتاريخ البشري حتى يمكن التحقق من صحتها او عدم صحتها ، بل كانت فروضا عقلية مجردة وضعت كمقدمات لتبرير تحول الناس من حالة الطبيعة إلى المجتمع المنظم .. وكثيرا ما انتقد نظام الحكم الذي رآه أحد الفلاسفة على أساس أن ما قاله عن نشأة المجتمع المدني غير صحيح . فقد قيل : إن نظرية جان جاك روسو في الديمقراطية سقطت بسقوط نظريته في نشوء الدولة . في حين أن روسو نفسه لم يقل أن" تصوره " لكيفية نشأة المجتمع المدني كان رواية تاريخية بل قال في أول كتابة " العقد الاجتماعي " : " ولد الإنسان حرا ولكنه في كل مكان مكبل بالأغلال . وهذا ما لا يتصوره السيد الذي يتحكم في الآخرين ، وهو أكثر منهم عبودية فكيف حدث هذا التغيير ؟ لست أدري . وما الذي جعله مشروعا ؟ وهذا سؤال أعتقد أنني أستطيع الإجابة عنه " . الثاني ، أنه بالرغم من اتفاق كافة فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر على أن الناس قد تحولوا من المجتمع الطبيعي حيث كان كل واحد حرا متساويا في الحرية مع غيره ، إلى المجتمع المدني ، حيث قامت الدولة على أساس الحد من الحرية ، بقبول منهم ، مهما كانت البواعث ، وهو ما يعني أن السلطة أصلا للشعب ، أو أن الشعب هو مصدر السلطة ، إلا أنهم لم يتفقوا قط على " محل " الاتفاق ، ونعني به نظام الحكم وهو ما يهم الدراسات الدستورية . ومرجع هذا إلى قصور في النظرية الليبرالية ذاتها لأنها نظرية سلبية وليست نظرية ايجابية . أو فلنقل إنها نظرية " تحرر" وليست نظرية " حرية " . وقد كانت منذ نشأتها نظرية الطبقة الوسطى المعادية لتدخل السلطة وأدت بهذا دورا تقدميا ضد الاستبداد الملكي . ولكن الجانب الإيجابي من الحياة ، وهي كيف ينظم الناس علاقتهم بعد تحررهم فإنها لم تجب عنه ، لأنها استندت إلى قوانين طبيعية ، ولكنها لم تبين ماهية تلك القوانين . صحيح أنه قد ولد الناس أحرارا ومتساوين ومستقلين وصحيح أنهم قبلوا برضاهم تنظيم أنفسهم في مجتمع ، وأن " الشعب هو مصدر السلطة " ولكن ما الذي آلت إليه هذه السلطة عندما توافق الناس على إقامة الدولة ؟.

لم تقدم الفلسفة الليبرالية جوابا محددة عن هذا السؤال فانفسح المجال ليقدم كل من يريد جوابا عنه يخدم به المصالح التي كانت تهمه ، حتى أنصار الملكية المستبدة قد وجدوا في الطابع السلبي للفلسفة الليبرالية ما يمكنهم من أن يبشروا بنظريات للاستبداد قائمة على أساس القانون الطبيعي وأكثر معقولية من فكرة الحق الإلهي .

ففي فرنسا نجد جان بودان Jean Bodin عام 1576 في كتابه la République وكان يعني بها " الدولة " وليس الجمهورية كما هو مدلولها الآن ، ذهب فيه إلى أن الاستبداد الملكي المطلق هو النظام الذي يتفق مع القانون الطبيعي ، ذلك لأن الطبيعة قد شكلت أول مجتمع في صورة الأسرة ، والأسرة هي مجتمع صغير متعدد الأفراد وذو مصالح مشتركة فكان لا بد من أن يقوم فيه واحد من أفرادها تكل إليه الأسرة إدارة شئونها ، هو رب الأسرة ، ولم يكن من الممكن أن يقوم فيها " ربان " وإلا تمزقت . لأن الأمر في الأسرة كالأمر في السفينة أيضا إن تعدد فيها الربابنة غرقت . وليست الأسرة إلا النموذج المصغر للدولة ، ومن هنا فإن الدولة الطبيعية هي التي يكل أفرادها سيادتهم إلى واحد منهم ليمارسها ، وهم لا يستطيعون إلا أن يكلوها إليه كاملة لأن السلطة لا تتجزأ ، ولا يمكنهم أن يسحبوها بعد أن يكلوها إليه لأن مبرراتها دائمة ، ولا يجوز ان تنقطع . وعندما تؤول تلك السلطة للأمير فإنه لن يكون خاضعا في ممارستها إلى أية قوانين يضعها بل يخضع فقط للقانون الطبيعي .

وفي انجلترا نشر هوبز خلال الحرب الأهلية ، عام 1651 كتابه " العملاق Léviathan " دفاعا عن الملوك من آل ستيورات . وقال فيه إن وراء كل نظام قوانین طبيعية تحكمه ، وفي ظل القوانين الطبيعية يكون هم الإنسان الأول أن يحافظ على حياته وأن يدافع عنها بكل وسيلة . ولما كانت الحالة الطبيعية حالة صراع بين الأفراد . فقد كان على الناس إما أن يستمروا في الاقتتال ، وإما أن يختاروا السلام . فاختاروا أن يعيشوا معا في سلام وذلك بأن تنازلوا جميعا عن حرياتهم وأوكلوها إلى الملك الذي أصبح من حقه وحده ممارستها . ولما كان هذا التنازل شرطا للسلام فإن خرقه أو التراجع فيه ، يعني العودة إلى حالة الصراع والاقتتال وهو غير عادل . لأن العدالة تعني أن يحترم كل واحد الشرط الذي قامت على أساسه الدولة أي سلطة الملك المطلقة .

في مقابل فلاسفة الاستبداد ، وعلى ذات القاعدة من القانون الطبيعي ، قام أيضا فلاسفة الحرية يعالجون مشکلات الحكم والسلطة مثل لوك في انجلترا ومونتسكيو في فرنسا وغيرهما . ثم انفرد من بين كل هؤلاء انسان عبقري بمحاولة فذة لوضع فلسفة ومبادئ للديمقراطية . وهي فذة من نواح ثلاث : الناحية الأولى أنها لم تكن تبريرا أو تفسيرا لأي نظام قائم في ذلك الوقت كما فعل جون لوك . ومن ناحية ثانية أنها لم تكتف بحل مشكلات الصراع على السلطة بالفصل بين فروعها كما فعل مونتسكيو بل اهتمت أولا وقبل كل شيء بالشعب وسيادته في مواجهة السلطة وفروعها . قال روسو في كتابه " أميل " : " إن الناس العاديين هم الذين يؤلفون الجنس البشري ، وليس هناك ما هو جدير بالاهتمام غير الشعب " . ومن ناحية ثالثة أنها لم تقم على أساس من القانون الطبيعي الذي قامت عليه الفلسفات الأخرى . بل أبدعت نظاما ديمقراطيا للحكم أساسه وقاعدته القانون الوضعي .

وكان كل هذا في عصره غريبا .

۱۸- جان جاك روسو :

كان روسو فنانا وأديبا وفيلسوفا وثائرا . ولا بد ـ لفهمه ـ من النظر إلى آرائه السياسية على ضوء هذه الأبعاد المتعددة لشخصيته العبقرية . وهي عبقرية لأنه سبق القرن العشرين بقرنين . وكان طبيعيا ألا تحتمل الظروف الاجتماعية ، والطبقة الوسطى ( البورجوازية ) بالذات أفكاره ، فلم تطبق إلا في حدود ضيقة ، وغير مؤثرة . ولكن القرن العشرين يتجه بقوة وثبات لا شك فيهما نحو أفكار روسو التي سبقت عصره . فعند روسو نجد المبادئ الأولية للديمقراطية الاشتراكية التي تكسب كل يوم أنصارا جددا . يكفي أن نعرف أن روسو قد قال منذ قرنين : " إذا بحثنا عما يتكون منه بالضبط أكبر قدر من الخير للجميع ، وهو ما ينبغي أن يكون هدف كل نظام تشريعي ، سنجد أنه يتلخص في شيئين رئيسيين : الحرية والمساواة . الحرية لأن كل تبعية خاصة هي قدر من القوة ينقص من جسد الدولة . والمساواة لأنه لا بقاء للحرية بدونها " . ( الفصل الحادي عشر الكتاب الثاني من "العقد الاجتماعي "). إنه لا يبرر الحرية بذلك التبرير الفردي الذي كان سائدا في عصره فهي حق طبيعي مقدس لا يجوز الانتقاص منه ، ولكنه يبررها اجتماعيا على أعلى مستوى فكري وصل إليه فلاسفة القرن العشرين . فالإنسان الحر طاقة من طاقات المجتمع . وحرية الفرد جزء من حريته .

وعندما يفقد الإنسان حريته ، وهو يفقدها - عند روسو - بمجرد التبعية لغيره ، تنقص طاقة المجتمع كله ، وحرية المجتمع كله ، بقدر ما فقده أحد أعضائه . والحرية ـ عند روسو - ليست مجرد إرادة متحررة من القهر كما كان سائدا في عصره ، بل هي مقدرة فعلية على تحقيق الإرادة كما هو سائد في القرن العشرين . قال : " لكل فعل حر سببان يجتمعان لإنتاجه : أحدهما معنوي وهو الإرادة التي تحدد الفعل والآخر مادي وهو المقدرة على التنفيذ " ( الفصل الأول - الكتاب الثاني ) وهي النتيجة التي وصلت إليها البشرية بعد معاناة الاكتفاء بالحرية الليبرالية السلبية طوال قرنين .

ثم أنه عندما ينتقل إلى المساواة التي لا بقاء للحرية بدونها يقول : " أما فيما يتعلق بالمساواة فيجب ألا نفهم من هذا اللفظ أنه يجب التساوي الكامل في درجات القوة والثراء ولكنه يعني فيما يتعلق بالقوة أنها تسمو على العنف وأنها لا تمارس إلا على أساس المركز القانوني " ( الفصل الحادي عشر - الكتاب الثاني ) فهي إذن مساواة في القوة القانونية . أو مساواة أمام القانون وليست مساواة نمطية . يقول : " إن الميثاق الأصلي لأبعد ما يكون عن القضاء على المساواة الطبيعية ، بل على النقيض من ذلك ، إنه يحل مساواة قانونية ومعنوية محلها ، مقابل ما قد تكون الطبيعة قد خلقته من عدم مساواة اجتماعية بين الناس ، وبذلك يصيرون جميعا متساوين قانونا واتفاقا وإن كان بينهم تفاوت في القوة والذكاء " الفصل التاسع - الكتاب الأول ).

وعندما ينتقل الحديث عن المساواة في الثروة يربط بينها وبين الحرية فيقول : " أما فيما يتعلق بالثروة فإنها ( المساواة ) تعني ألا يبلغ أي مواطن من الثراء ما يجعله قادرا على شراء مواطن آخر وألا يبلغ مواطن من الفقر ما يدفعه إلى بيع نفسه" . ويضيف في الهامش : " إذا أردت أن تضفي على الدولة ثباتا قرب بين الحدود القصوى بقدر الإمكان ، فلا يبقى فيها غنى فاحش ولا فقر مدقع . فهذان الوضعان اللذان لا ينفصلان عن بعضهما البعض مضران بالخير العام ، إن أحدهما يؤدي إلى وجود أعوان الطغاة والأخر إلى الطغاة ، وفيما بينهما تشترى الحرية وتباع . أحدهما يشتريها والآخر يبيعها " ( الفصل الحادي عشر - الكتاب الثاني ) . ولا نكاد نعرف في كل الفكر المعاصر من استطاع كشف العلاقة بين الملكية والحرية على هذا الوجه العبقري . فالملكية ليست حقا بدون حدود ، بل هي محدودة بألا تصل إلى الحد الذي تستعمل فيه في شراء حريات الآخرين . وهو هنا يرد ، ويدحض كل حجج الليبراليين . وإلغاء الملكية ليس هدفا في ذاته ولكنه يصبح هدفا بالقدر ، وفي الحدود التي لا تسمح للملكية بأن تشتري حرية الآخرين ، وهو هنا يرد على ماركس قبل أن يظهر ماركس بقرن كامل . ومما هو جدير بالتأمل العميق لما قاله ذلك الرجل العبقري قوله عن الغنى الفاحش والفقر المدقع أنهما : " وضعان لا ينفصلان عن بعضهما البعض " . وهو يكرر هذا المعنى في موضع آخر من كتابه فيقول : " إذا أردنا أن تكون الدولة في نفس الوقت أقوى ما تكون وأفضل ما يمكن حكما ، وجب علينا توزيع السكان بالتساوي في الأقاليم كلها وممارسة الحقوق نفسها في كل مكان ، والعمل على تحقيق الرخاء والحياة في كل ركن من أركانها . ولنتذكر أن جدران المدن تتكون من أطلال منازل القرى وأني لأرى بعين الخيال بلدا بأسره تحول إلى أنقاض كلما رأيت قصرا جديدا يشيد في العاصمة " ( الفصل الثالث عشر - الكتاب الثالث ). إن روسو يتحدث هنا ، ومنذ قرنين على أساس من نظرية "الندرة " التي ما تزال تحكم الاقتصاد العالمي حيث ما يزال الطلب الكلي أكثر من العرض الكلي ، وذلك بدون أن يعرفها . ففي مجتمع معين في زمن معين إذا وجد غنى فاحش لا بد أن يوجد فقر مدقع فهما متلازمان على المستوى الرأسي (أغنياء وفقراء ) وعلى المستوى الأفقي ( مدن - ريف ). ولا يكتفي فيلسوف الحرية بطرح قضيته في صيغتها الفردية ، بل كعادته - في كتابه كله - ينظر إليها على أساس اجتماعي ديمقراطي . فهو لا يدين الأثرياء ثراء فاحشا ولا يبرئ الفقراء فقر مدقعا ، بل يحمل التناقض ذاته مسئولية انعدام الديمقراطية وسيادة الطغيان . فهو طغيان يشترك في إقامته الأثرياء ثراء فاحشا ( الطغاة ) والفقراء فقر مدقع ( أعوان الطغاة ) لأن الأولين يشترون الحرية والآخرين يبيعونها . إن روسو في كل هذا لم يكن عاطفيا . ولا كان سفسطائيا كما وصفه الفقيه الفرنسي ديجي . بل كان عالما ذا منهج موضوعي عرف الحرية ، وأرسى قواعدها قبل أن يكتشف الناس تلك القواعد من خلال الممارسة بقرن ونصف أو أكثر . ولكن روسو قد تعرض أكثر من أي أحد غيره ، لنقد غير عادل من فقهاء القانون والفلاسفة المحدثين . ونضرب لهذا مثلين  أحدهما من انجلترا والأخرمن فرنسا .

يتهم الفيلسوف الانجليزي سير أرنست باركر ، روسو بأنه داعية للاستبداد فيقول أعلن روسو مفارقته الشهيرة : لما كان كل واحد سيعطي نفسه للجميع فإنه بذلك لا يعطي نفسه لأحد . وبعبارة أخرى يعطي كل واحد نفسه لنفسه ، فأنا أسلم نفسي كلها وأسلمها إلى 999 شخصا آخر وإلى نفسي أيضا وأتلقى شذرة من سيادة المجتمع ، وفي نهاية الأمر لا أجد أمامي إلا أن أرى أنني جزء من ألف من حاكم طاغية ، ولكني أيضا عبد كامل " . فهل قال روسو هذا ؟ ... إن السير أرنست باركر يجزئ أقوال روسو وينتقي منها ما يشاء ليضعه مع هوبز في منزلة واحدة . روسو قال جملة متصلة كاملة لا تقبل التجزئة أو الانتقاء ، ننقل نصها من الأصل الفرنسي :

" Chacun se donnât a tous ne se donne a Personne , et comme il n'y  pas un associe sur lequel on n'acquière le même droit qu’ on lui cède sur soi , on gagne l'équivalent  de tout ce qu’ on perd , et Plus de force Pour conserver ce qu'on a "  .

وترجمتها : " عندما يعطي كل واحد نفسه للجميع فإنه لا يعطيها لأحد ، إذ ما دام لا يوجد شريك لا يقتضي منه ذات الحق الذي أعطى له على الآخر، فإننا نحصل على ما يعادل ما فقدناه زائدا قوة للمحافظة على ما لدينا " . فإذا طبقنا الأسلوب الرياضي الذي اختاره سير أرنست باركر في مجتمع الألف نفس نجد أنه ، طبقا لروسو ، يتنازل الفرد عن ۹۹۹ جزءا من حريته للمجتمع ويستبقي جزء واحدة . ولما كان ذلك عاما بالنسبة للجميع فإنه يتلقى جزء من كل واحد من ال ۹۹۹ شخص الذي تنازل لهم من قبل . فيجتمع له ۹۹۹ جزءا إلى الجزء الذي احتفظ به لنفسه فيكون قد استرد كامل حريته ولم يخسر شيئا . وكل هذا أسلوب رياضي في إثبات قضية مجردة وليس وصفة لعملية مبادلة " تجارية " يتنازل فيها الفرد عن أغلب حريته ثم ينتظر أن يعود المقابل أو لا يعود . لقد أراد روسو أن يثبت أنه حيث تكون السيادة للشعب في المجتمع الديمقراطي لا يخسر أحد شيئا . وينفي روسو بكل وضوح مسألة المبادلة بين الفرد والمجتمع فيقول في موضع آخر من كتابه : " إن القول بأن الأفراد إذ يدخلون في عقد اجتماعي يقومون بأي تنازل حقيقي خطأ تماما " ( الفصل الرابع - الكتاب الثاني ) . إن الفقيه الفرنسي موريس دیفرجيه يقول : إن وجهة نظر روسو في هذا " ديمقراطية أكثر مما يجب " ولكن سير أرنست باركر يجزئ ما قاله روسو ثم يدخل من عنده مقابلا للحرية يسمه " شذرة من السيادة " ، وهو تفسير أقل ما يمكن أن يقال فيه إنه متعسف .

المثل الثاني هي الفقيه الكبير ليون ديجيه الذي يحظى بتقدير كبير في الفقه العربي إلى درجة اقتراح ترجمة كتبه إلى اللغة العربية . هذا الفقيه الكبير ينقد جان جاك روسو بعنف ويصفه بالسفسطة .

يقول الفقيه الكبير في الطبعة الثانية من كتابه ( ۱۹۲۳) إن روسو هو الأب الروحي للطغاة وأنه لا يتردد لحظة في إخضاع حقوق الفرد لحق الدولة ويعترف لها بسلطة غير محدودة . ويستشهد على ذلك بما نقله من " العقد الاجتماعي " وتصرف في نقله : " لا يوجد ولا يمكن أن يوجد أي قانون أساسي يعتبر ملزما للشعب كله في مجموعه ولا حتى العقد الاجتماعي نفسه .. ( مكان هذه النقط صفحتان أسقطهما ديجي ) .. ولما كان الشعب صاحب السيادة لا وجود له خارج الأفراد الذين يتكون منهم فإنه لا مصلحة له ، ولا يمكن أن تكون له مصلحة خلاف مصلحتهم وبناء عليه فالسلطة صاحبة السيادة لا تحتاج إلى تقديم ضمان إلى رعاياها " ( الفصل السابع - الكتاب الأول ) . ثم يقول : إن هذا مجرد سفسطة لأن صاحب السيادة يتمثل حقيقة في الأغلبية وأن ما صاغه روسو ينتهي إلى أن للأغلبية الحق المطلق بدون حدود في قهر الأقلية وهو أمر لا يستطيع قبوله . ويضيف أن روسو قد قال : " لما كان التنازل قد تم بدون تحفظ فإن الاتحاد يكون أكمل ما يمكن أن يكون وليس لأي واحد أي حق قبل المجتمع لأنه إذا ظل للأفراد أية حقوق فإن كل واحد - لما كان هو الحكم لنفسه في بعض المسائل ، سرعان ما سيدعي أن له الحق في أن يكون كذلك في جميع المسائل ، ولو أن الأمر كذلك لكانت حالة الطبيعة ما برحت قائمة ولأصبح الإتحاد بالضرورة استبداديا أو بلا أثر " ( الفصل السادس - الكتاب الأول ) . ثم يستدرك ديجي فيقول إنه في الفصل الرابع من الكتاب الثاني من " العقد الاجتماعي " وعنوانه " حدود سلطة السيادة " يقول روسو : " لقد اتفقنا على أن ما يتنازل عنه كل فرد من سلطة وملكية وحرية بمقتضى الميثاق الاجتماعي هو ذلك القدر الذي يلزم لخير الجميع " . ويقول ديجي أنه قد يبدو من هذا أن روسو يعترف بحقوق طبيعية للأفراد في مواجهة المجتمع السياسي ولكن الأمر غير ذلك لأن روسو لم يلبث أن أضاف : " ولكن يجب أن نقبل أيضا أن صاحب السيادة وحده هو الحكم في تقدير ما يلزم " وهو بذلك يعترف للدولة بسلطة غير محدودة على الفرد . ويعود الفقيه الكبير في الطبعة الثالثة من كتابه ( ۱۹۲۷ ) فيعترض على حق الأغلبية في أن تحكم الأقلية ويقول : إن روسو قد انتبه إلى هذه المشكلة فقال : " قد يتساءل الإنسان كيف يمكن أن يكون الإنسان حرا ومرغما في الوقت ذاته على الخضوع لإرادة ليست إرادته . كيف يكون المعارضون أحرارا ويضطرون إلى قبول قوانين لم يوافقوا عليها ؟ " . ويجيب روسو : " إن السؤال سيء الوضع . فالمواطن يوافق على جميع القوانين حتى تلك التي توضع رغما عنه وحتى تلك التي تعاقبه إذا جرؤ على خرقها . فالإرادة الثابتة لجميع أعضاء الدولة هي الإرادة العامة وبواسطتها يكونون مواطنين وأحرارا . فعندما يقترح شخص قانونا في جمعية الشعب فإن ما يطلب إلى الناس ليس بالضبط إبداء رأيهم في الموافقة عليه أم لا ، ولكن ما إذا كان يطابق الإرادة العامة التي هي إرادتهم أم لا . وعندما يعطي كل واحد صوته فإنه يبدي رأيه في هذا وبحساب الأصوات تتبين الإرادة العامة . ومن ثم فعندما ينتصر رأي معارض لرأيي فإن ذلك لا يدل على أي شيء سوى أنني كنت مخطئا ، وإن ما اعتقدت أنه الإرادة العامة ليس كذلك " ( الفصل الثاني - الكتاب الرابع ) ويعلق ديجي على هذا بقوله إن السفسطة قد تجاوزت مداها وأن اضطرار روسو لكتابة مثل هذه الأشياء للدفاع عن نظريته يدل على أنها لا شيء .

هذا ما قاله ليون ديجي ليثبت أن فلسفة روسو مناقضة للحرية . وهو يهمنا لأنه إذا كان روسو ، مثل هوبز من فلاسفة الاستبداد فلا مبرر لعرض نظريته في الديمقراطية بعد ذلك ، لأن الديمقراطية كنظام تفترض الحرية كأساس تقوم عليه .

ولقد رد كاريه دي ملبرج على النقد الذي وجهه ديجي لروسو وقال إنه ينتهي إلى لا شيء إذا لاحظنا ملاحظة واحدة هي أن الإرادة العامة كما عرفها روسو تستمد وجودها واستمرارها من إرادة المواطنين أنفسهم . كل المواطنين وبالتالي كل واحد منهم . وهو ما يفهم مثلا من وصف روسو للقانون : " عندما يضع الشعب كله قواعد تطبق على الشعب كله ، فإنه إنما يتعامل مع نفسه ، وهكذا فإن ما تتعلق به القواعد الموضوعية يكون عاما مثل الإرادة العامة التي وضعته وهذا هو ما أسميه قانونا " ( الفصل السادس - الكتاب الثاني ) . كما أن روسو لا يفهم الإرادة العامة إلا على أنها إرادة الكل .

وهذا ما يبرر قوله : " المواطن يوافق على كل القوانين حتى تلك التي توضع رغما عنه " ( الفصل الثاني - الكتاب السادس ) . فما دامت القوانين - كما يقول روسو - ليست إلا " تسجيلا لإرادتنا " ( الفصل السادس - الكتاب الثاني ) فإن روسو لا يعترف بإمكان أن يخضع المواطن لقوانين لم يقبلها .

ولكننا لا نستطيع أن نكتفي بهذا السرد . فلا يهمنا أن يكون ديجي خاطئا في نقده لروسو بقدر ما يهمنا أن نؤكد مفهوم الحرية عند روسو . ونحن نعتقد أن أول ما يؤخذ على ديجي هو استعماله تعبيرات روسو بعد إعطائها معاني من عنده . فالدولة التي ينقدها ديجي هي دولته هو ذات السلطة الايجابية التي قد تكون محدودة أو غير محدودة . كلمة "الدولة " عند روسو تعني شيئا آخر، ربما يكون العكس تماما ، إنه المجتمع المنظم ولكن في حالة سلبية . يقول روسو : " بمجرد أن يتم عقد الاتحاد هذا يتولد عنه جسد معنوي وجماعي .. ويسميه أعضاؤه دولة Etat عندما يكون سلبيا ، وسيدا Souverain عندما يتصرف إيجابيا كما يطلقون عليه في مواجهة الهيئات الأخرى المماثلة Puissance أما فيما يتعلق بالأعضاء المشتركين فإنهم يعرفون في مجموعهم باسم "الشعب " ويطلق عليهم كأفراد " مواطنين " في حدود مشاركتهم في السلطة السيادية و " رعايا " باعتبارهم خاضعين لقانون الدولة . بيد أن هذه الألفاظ كثيرا ما يختلط بعضها ببعض ، ويكفي أن نستطيع التمييز بينها عندما تستعمل في معناها الدقيق ( الفصل السادس - الكتاب الأول ) . وقد استعمل روسو كلمة " الدولة " في كل كتابه بهذا المعنى الذي حدده أي بمعنى مجتمع منظم . ونعتقد - بناء على هذا - أنه ليس من حق الفقيه الكبير ديجي - وهو ينتقد روسو - ان يحمل كلماته أكثر مما أراد صاحبها ، وبالتالي فإن القول بأن روسو يعطي الدولة حقوقا غير محدودة لقهر الفرد أو الأقلية قول متعسف .

ثم نأتي إلى الحجة الأساسية التي يحتج بها ديجي . وهي نفاذ رأي الأغلبية على الأقلية . وقد يكون من المفيد أن نذكر أن ديجي ليس لديه أي تبرير لنفاذ رأي الأغلبية على الأقلية إلا " القوة " فعنده أن السلطة السياسية ليست إلا واقعة لا يمكن أن توصف بأنها مشروعة ، أو غير مشروعة أنها مجرد ناتج تطور اجتماعي كانت السلطة فيه دائما ، وفي كل مرحلة للأقوياء القادرين على فرض آرائهم على غيرهم . نقول : " إن هذه القوة المتفوقة قد اتخذت أشكالا عدة فآنًا كانت مجرد قوة مادية . وأنا كانت قوة معنوية أو دينية ، وأنا قوة ذهنية ، وآنًا ( وهذا يحدث كثيرة ) كانت قوة اقتصادية .. وأخيرا فإن هذه القوة المتفوقة قد كانت في كثير من الأوقات وتتجه الآن في كل مكان تقريبا إلى أن تكون قوة عددية . ويعتقد العميد ديجي أنه بذلك قد حل المشكلة في حين أنه لم يفعل إلا أن تركها بدون حل تحت غطاء من الكلام المرسل المجرد من أية دلالة قانونية على الأقل . فإنه عندما يسند السلطة إلى قوة مادية أو معنوية أو ذهنية أو اقتصادية يكون إسناده قابلا للفهم . فهذا نفر يملك قوة قادرة على التأثير في الغير وحمله على القبول أو إقناعه به . إنها قوة تنطوي على تهديد ضمني بجزاء يمكن أن يقع بمن لا يقبل . قوة موجهة إلى خارج أصحابها أو يمكن أن توجه إذا لزم الأمر فهي تتضمن " سببا " لنشوء الالتزام بالطاعة . وهذا كله لا ينطبق على القوة العددية . فمليون شخص لا يمثل عددهم أي شيء يهم أي شخص آخر بله يحمله على أن يتبع الكثرة . فبالعدد وحده يستطيعون أن يبقوا إلى ما يشاء الله أغلبية قائمة منهم ، ولكنها غير متعدية ، وغير قادرة على التعدي إلى من هو خارجهم ، لا بد ، إذن ، من أن يكون العدد منطوية على شيء آخر غير العدد ذاته . ولا نستطيع أن نعود فنقول أن يكون منطويا على قوة مادية أو معنوية أو دينية أو اقتصادية فرأي الأغلبية ينفذ لأن قوتها المادية أو المعنوية أو الدينية أو الاقتصادية " أكثر " من قوة الأقلية ، لأننا نكون بذلك قد أهدرنا القيمة العددية ذاتها ورجعنا إلى ما وراءها . لا يبقى إذن إلا أن يكون مصدر الإلزام في القوة العددية هو انها مشروعة لأنها أغلبية . ويبقى السؤال لماذا تكون الأغلبية - لمجرد انها أغلبية - مشروعة ، ويكون نفاذ رأيها واجبا على الأقلية بل – وكما يقول روسو - مقبولا من الأقلية إذ أن روسو ، على نقيض ديجي تماما ، يجعل من الرضا سببا للإلزام في القاعدة القانونية .

إن هذا السؤال الذي قدم له جون لوك إجابة " عملية " كما هو الشأن في كل أفكاره ، عندما قال : لأنه لا يمكن أن يتجه المجتمع إلا حسبما ترى الأغلبية فجعل نفاذ رأي الأغلبية قائما على أساس من الضرورة المادية ، وبالتالي لم يقل شيئا يصلح للمناقشة في فقه القانون ، قدم له روسو - ولم يقدم له أي فيلسوف أو فقيه آخر غير روسو - الإجابة الوحيدة الصحيحة ، وهي إجابة لا نعتقد أن الفقيه الكبير ليون ديجي كان قادرا على الارتفاع إلى مستواها بالرغم من أن عالم البصريات العربي ابن الهيثم قد أرسى قاعدتها قبل روسو بقرون طويلة ، حين قال : " كل مذهبين مختلفين أما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، وإما أن يكونا جميعا كاذبين ، وإما أن يكونا يؤديان إلى معنى واحد هو الحقيقة فإذا تحقق البحث وأمعن في النظر ظهر الاتفاق وانتهى الخلاف " .

القاعدة العلمية هي أن كل أمر له حقيقة واحدة ولو اختلف الناس فيه ، وعندما يختلفون لا يمكن أن يكون بينهم إلا رأي واحد صحيح ، أو لا يكون هناك رأي صحيح على الإطلاق . لأن وجود رأيين صحيحين في أمر واحد ومختلفين في الوقت نفسه تناقض مستحيل . ولكن كيف يمكن اكتشاف الرأي الصحيح . يقول روسو : " كثيرا ما يكون هناك فرق كبير بين إرادة الجميع والإرادة العامة . فهذه لا ترعى سوى الصالح المشترك ، وتلك ترعى المصلحة الخاصة وليست سوى مجموع الإرادات الخاصة . ولكن إذا نزعنا من تعبيرات هذه الإرادات المتفرقة الزيادات والنقصان ، وهو ما يهدم بعضه البعض ، فعندئذ لا يبقى لدينا سوی حاصل طرح الخلافات . وهذه هي الإرادة العامة . فإذا تداول الناس في الأمور ، وكانوا على دراية كافية بها ، ولم تكن هناك وسيلة للاتصال بين المواطنين الواحد بالآخر، فإن الإرادة العامة تنتج عن ذلك العدد الكبير من الخلافات الصغيرة وتكون القرارات التي يستقر عليها الرأي صحيحة دائما " ( الفصل الثالث - الكتاب الثاني ).

إذن : تطبيقا لما قاله روسو ، أن الصالح المشترك هو ما تعبر عنه الإرادة العامة . والإرادة العامة هي ذلك القدر المشترك من الرأي بين كل الآراء المختلفة التي تدرك الأمر إدراكا كافيا والتي كونها كل مواطن بعيدا عن تأثير أي شخص آخر . هذه هي مواصفات الإرادة العامة في حقيقتها ، فيبقى أن نعرف كيف يكون رأي الأغلبية دليلا عليها ، أي كيف يكون رأي الأغلبية ملزما لأنه مطابق للإرادة العامة . يقول روسو : " عندما يقترح شخص قانونا في جمعية الشعب فإن ما يطلب إلى الناس ليس بالضبط هو إبداء رأيهم في الموافقة عليه أم لا ، ولكن ما إذا كان مطابقة للإرادة العامة أم لا وبحساب الأصوات تتبين الإرادة العامة " ( الفصل الثاني - الكتاب الرابع ). إذن فمصدر الإلزام وشرعيته ليس القوة العددية . إن مصدره ومصدر الشرعية هو الصالح المشترك الذي يتمثل في الإرادة العامة . أما التصويت فهو طريقة لاكتشاف الإرادة العامة من خلال قانون معين . فإذا انقسم الرأي إلى أغلبية وأقلية يؤخذ رأي الأغلبية من حيث هو دال على الإرادة العامة ، لأن الأصوات هي أدلة ، وأغلبية الأصوات تعني أدلة أكثر على الحقيقة المراد اكتشافها . وعندما يؤخذ برأي الأغلبية يستمد القانون شرعية إلزامه ، لا من إرادة الأغلبية ، ولكن من إرادة الشعب كله كما تمثلها الإرادة العامة . ويصدق ما قاله روسو من أن " المواطن يوافق على جميع القوانين حتى تلك التي توضع رغما عنه " . لماذا ؟. يقول روسو لأنه " عندما ينتصر رأي معارض لرأيي فإن ذلك لا يدل على أي شيء سوى أنني كنت مخطئا وأن ما اعتقدت أنه الإرادة العامة ليس كذلك " . ( الفصل الثاني - الكتاب الرابع ) . وهكذا نرى أن عملية المناقشة وأخذ الآراء على القوانين ليست - عند روسو - صراع قوة عددية بين الأغلبية والأقلية التي تظهر ـ على أي حالة ـ إلا بعد انتهاء التصويت ، ولكن أسلوبا مشتركا لاكتشاف الحقيقة الواحدة للصالح العام الذي تعبر عنه الإرادة العامة في نطاق التزام الجميع بنفاذها . ويترتب على هذا ، حتى بدون أن يذكره روسو ، أنه ما دام رأي الأغلبية لا يتضمن في ذاته قوة عددية ملزمة للأقلية وغنما يتضمن دليلا على ان القانون الذي حظي بموافقة الأغلبية مطابق للصالح العام الذي يستمد منه قوته الملزمة للكافة ، انه إذا تغيرت الأغلبية نفذ أيضا رأيها على أساس أن ما قدرته سابقا كان خطأ وأن ما اعتقدت أنه الإرادة العامة ليس كذلك ، وبالتالي يبقى المجال مفتوحا لتكشف الأقلية للأغلبية خطأها وتغيرها في صالح رأيها ، ولكنها إلى أن تصل إلى ذلك يبقى رأي الأغلبية كافيا لإصدار القانون ونفاذه على الكافة . ويترتب على ذلك أيضا أنه - طبقا لروسو - لا يمكن أن تقهر الأقلية بدون حدود لأن طريقة اكتشاف حقيقة الإرادة العامة في ديمقراطية روسو ستصبح مفقودة . ان الذي لم يفطن إليه ديجي هو أن المبررات التي يقول بها روسو لنفاذ رأي الأغلبية هي التي تعطي الأقلية حرية البقاء والمعارضة .

أما ما يأخذه ديجي على روسو من أنه لا يعترف للأفراد بحقوق طبيعية فهو صحيح . وهو دليل آخر على سبق روسو لعصره ، فلعله الوحيد في ذلك العصر الذي لم يقتنع بأن للإنسان حقوق طبيعية سابقة على المجتمع المنظم . ولقد كان المشروع الأول لكتاب " العقد الاجتماعي " يتضمن فصلا طويلا عنوانه الأصلي " في القانون الطبيعي وفي المجتمع العام"، كان مقصودا به دحض فكرة القانون الطبيعي ، ولكن روسو لم يضمه إلى الكتاب الذي طبع . لأن كتاب " العقد الاجتماعي " المنشور ليس إلا جزءا مختارا من كتاب أكبر لم ينشر كما يقول روسو في مقدمة كتابه الذي نشر . ولكن هذا لا يعني أن روسو ينكر أن للإنسان حريات طبيعية ، وبالتالي يبيح قهره بدون حدود . كل ما في الأمر أنه يقصر مصدر المشروعية على القانون في المجتمع المنظم ، فالحرية الطبيعية المستندة إلى القوة الذاتية تتحول إلى حق في الحرية يضمنه القانون ، والاستيلاء الذي كان في المجتمع غير المنظم مجرد حيازة يتحول في المجتمع المنظم إلى الملكية . لأن روسو كان يرى أن القوة لا تولد حقا قال : " لست أرى كيف يمكن لإثارها ( القوة ) أن تقترن بجزاء أخلاقي . فالخضوع للقوى عمل من أعمال الضرورة وليس من أعمال الإرادة " ويقول : " إذا كان الإنسان مجبرا بالقوة على الطاعة فليست به حاجة للطاعة كواجب . وإذا لم يكن مجبرا على الطاعة بالقوة فلا يعود عليه أي التزام بالطاعة . ومن ثم فإن لفظ " حق " لا يضيف كما نرى شيئا إلى فكرة القوة فهو لا يعني هنا شيئا " ( الفصل الثالث - الكتاب الأول ) . ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى أن روسو ينسف بهذه الكلمات البسيطة كل آراء ديجي التي ترتب آثارا مشروعة على القوة المجردة أي من حيث هي قوة منشئة للحق ، وليست منفذة له . وعلى هذا لم يكن روسو يستطيع أن يعترف للأفعال المستندة إلى القوة وحدها بأنها حقوق . وهي لا تكون حقوقا إلا إذا صادفها قبول إرادي ينشىء التزاما . قد يكون قبولا معاصرا لنشأة الحق ، كما في العقود او قبولا سابقة على نشأته كما هي الحال في الالتزامات التي مصدرها القانون ذاته . وكل هذا لا يتحقق إلا في مجتمع منظم حيث تتحول الحرية المجردة إلى حق في الحرية . وروسو يطبق كل هذا فيقول : " إن ما يفقده الإنسان نتيجة للعقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحقه غير المحدود في الاستيلاء على ما يريد ، وما يستطيع الحصول عليه ، أما ما يكسبه فهو الحرية المدنية وملكية كل ما في حيازته . وحتى لا نتعرض للخطأ فيما يتعلق بهذه التعويضات ينبغي أن نميز بين الحرية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان والتي لا تحدها سوى قوة الفرد نفسه ، والحرية المدنية التي تحدها الإرادة العامة وأن نميز بين الحيازة التي تقوم على القوة المادية وحدها وحق الاستيلاء الأول وبين الملكية التي لا يمكن أن تقوم إلا على سند إيجابي " ( الفصل الثامن - الكتاب الأول ) . واضح من هذا أن روسو، مع عدم اعترافه بأن للفرد " حقوقا " سابقة على التنظيم المدني ، لا يسلب الإنسان شيئا من الحرية الطبيعية التي هي مجرد استعمال لقوة مادية بل يحولها إلى حق في الحرية على الآخرين احترامه . وهل يقول فقهاء القانون في القرن العشرين غير هذا ؟

الغريب أن العميد ديجي هو من أشد الفقهاء عداء لفكرة الحقوق الطبيعية التي يأخذ على روسو انه لا يحترمها فيصف نظريته بأنها نظرية استبدادية . يقول ديجي : " أن التأكيد بان للإنسان ، لأنه إنسان ، منظورا إليه منفردا في ذاته ، وفي عزلة عن الناس الآخرين ، أو في حالته الطبيعية كما يقول تعبير القرن الثامن عشر ، له حقوق معينة متصلة بطبيعته كإنسان ، هذا التأكيد لا أساس له ، ولا يقوم على أي دليل مباشر . إنه فرض ميتافيزيقي بحث عن جوهر الإنسان كما يقول المدرسيون . ان مثل هذا التأكيد كان يمكن أن يكون كافيا في مرحلة المعتقدات الميتافيزيقية . ولكن ليس في عصر وضعي وعلمي Positiviste et scientifique مثل عصرنا انه مجرد تعبير لفظي قد يرضي مؤمنا ، ولكنه مجرد من أي قيمة علمية . فما الذي يمكن ان يأخذه ديجي إذن على روسو إلا أنه في منتصف القرن الثامن عشر كان قد سبق عصر العلم بتفكيره العلمي ؟ ثم إلى أي شيء يسند دیجي قوة الإلزام التي للقاعدة القانونية ؟ إنه يسندها إلى النظرية التي وضعته في مركزه المرموق بين فقهاء القانون : نظرية التضامن الاجتماعي Solidarité sociale وملخصها ببساطة أن الناس يعيشون معا في مجتمع لأن لهم احتياجات مشتركة ولهم احتياجات مختلفة . احتياجاتهم المشتركة تتحقق بان يوحدوا كل إمكانياتهم المشتركة في سبيل تحقيقها . ومن ناحية أخرى فإن احتياجاتهم المختلفة تتحقق بتبادل الخدمات . هذا هو الأساس الذي أقام عليه العميد ديجي كل بنائه الشامخ في فقه القانون . وهو مأخوذ من روسو . قال " إذا كان تعارض المصالح الخاصة هو الذي جعل إنشاء المجتمعات ضرورية فإن اتفاق هذه المصالح المختلفة هو الذي يجعل إنشاءها ممكنا ، إن العنصر المشترك في المصالح المختلفة هو الذي يكون الرابطة الاجتماعية ولو لم يكن هناك قدر من الاتفاق بين المصالح لما وجدت مجتمعات إطلاقا ( الفصل الأول - الكتاب الثاني ) .

19- النظام الديمقراطي :

جان جاك روسو ، هو فيلسوف الحرية بدون شك ، وإذا كان فقهاء القانون العام في الربع الأول من هذا القرن لم يروه كذلك فلأن فلسفته كانت أسبق من عصرهم ، وهي فلسفة تكاد الآن - في الربع الأخير من القرن العشرين - أن تكون سائدة . ومع ذلك فإننا - نعتقد - انه ما يزال أمام البشرية شوط لتلتقي بجان جاك روسو التقاء كاملا . على أي حال ، فإن روسو ، على أساس مفهومه العلمي للحرية ، أرسى قواعد صلبة للديمقراطية . نتتبعها بالرجوع إلى ما قال بدون إضافة من عندنا ولا استعارة من غيرنا .

أولا ـ المشكلة الدستورية :

" النظام الاجتماعي حق مقدس . وهو بمثابة الأساس لكل الحقوق الأخرى ، بيد أنه لما كان هذا الحق لا يستمد من الطبيعة ، فلا بد أنه قام على اتفاقات " ( الفصل الأول - الكتاب الأول ) . " رغم أنها قد لا تكون أعلنت رسميا فهي لا بد أن تكون واحدة في كل مكان وأن يتم قبولها ضمنا " ( الفصل السادس - الكتاب الأول ) . " ففي مثل هذه الحالة من السكوت العام يجب أن يؤخذ ذلك على أنه موافقة من جانب الشعب " ( الفصل الأول - الكتاب الثاني ) و" إني افترض جدلا ان الناس قد وصلوا إلى حد تغلبت فيه العقبات التي تحول دون الاستمرار في حالة الطبيعة على القوى التي يستطيع كل فرد أن يستعملها بقصد الاستمرار في هذه الحالة ، ومن ثم لم يعد استمرار حالة الطبيعة الأصلية ممكنة ... ولما كان الناس لا يستطيعون بأي حال خلق قوة جديدة بل كل ما يستطيعونه هو أن يتحدوا ويسيطروا على تلك القوى التي لديهم فعلا فإنه لا توجد وسيلة يستطيعون بها الإبقاء على أنفسهم سوى الانضمام بعضهم إلى بعض وتوحيد قواهم .. بيد أن المحافظة على الذات بالنسبة لكل فرد إنما تستمد أساسا من قوته الشخصية وحريته . فكيف إذن يقيدها دون أن يؤذي نفسه ويهمل تلك العناية الواجبة عليه نحو شئونه الخاصة في الوقت ذاته ؟ .. لا بد من إيجاد نوع ما من الاتحاد في شأن استخدام قوة المجتمع كلها في حماية شخص كل عضو من أعضائه وممتلكاته وذلك بطريقة تجعل كل فرد - إذ يتحد مع أقرانه ـ إنما يطيع إرادة نفسه ويظل حرا كما كان من قبل . هذه هي المشكلة الأساسية " ( الفصل السادس – الكتاب الأول ).

ثانيا ـ سيادة الشعب :

" كل واحد منا يسهم في المجموع بشخصه وبكل ما لديه من قدرة ، تحت التوجيه الأعلى للإرادة العامة ، ونتلقى كذلك في المجموع كل عضو بصفته جزءا لا يتجزأ من الكل ، وبمجرد أن يتم هذا يتولد جسد معنوي وجماعي بدلا من الأشخاص المستقلين لكل من المتعاقدين . وهو جسد مكون من الأعضاء بقدر ما يضمه من أصوات " . " كان الشخص العام الذي يتكون بهذه الصورة في اتحاد جميع الأشخاص يسمى في الماضي مدينة Cite ولكنه يسمى الآن جمهورية république أو جسدا سياسيا corps Politique ويسميه أعضاؤه دولة Etat عندما يكون سلبيا ويسمونه سيدا souverain عندما يتصرف إيجابيا .. أما بالنسبة للمجتمعين فيه ككل فهم الشعب " peuple " ( الفصل السادس - الكتاب الأول ) ." يتضح من الصيغة السابقة أن عقد الاتحاد ينطوي على التزام متبادل بين المجموع والأفراد ، وان كل فرد كأنما يتعاقد مع نفسه ، ويترتب عليه التزام مزدوج بوصفه عضوا في الشعب الذي له السيادة قبل الأفراد من المواطنين . وبوصفه مواطنا عضوا في الدولة قبل الشعب الذي له السيادة " ( الفصل السابع - الكتاب الأول ) . " الشعب الذي له السيادة لا وجود له خارج الأفراد الذين يتكون منهم " ( الفصل السابع - الكتاب الأول ) . و" بمجرد ان يوجد للشعب سيد يفقد الشعب سيادته " ( الفصل الأول - الكتاب الثاني ) .

ثالثا – السيادة غير قابلة للتنازل :

" لما لم تكن السيادة سوى ممارسة الإرادة العامة فإنها مما لا يمكن التنازل عنه . أن صاحب السيادة ـ ليس سوى كائن جماعي - لا يمكن أن يمثله غيره . فالسلطة مما يمكن نقله ولكن الإرادة لا يمكن نقلها . والواقع أنه إذا لم يكن من المتعذر أن تلتقي إرادة خاصة في نقطة مع الإرادة العامة ، فإنه من المستحيل على الأقل أن يكون هذا الالتقاء ثابتا ومستمرا " ." " وقد يستطيع من له السيادة أن يقول : أريد الآن ما يريده هذا الشخص أو ذاك على الأقل ما يقول هذا الشخص أنه يريده ، ولكنه لا يستطيع أن يقول أن ما سيريده هذا الرجل غدا سأريده أنا كذلك " . ( الفصل الأول - الكتاب الثاني ).

رابعا – السيادة لا تتجزأ :

" إن السيادة لا تتجزأ لنفس الأسباب التي تجعلها غير قابلة للتنازل لأن الإرادة أما أن تكون عامة وأما أن تكون كذلك . فهي إما إرادة الشعب في مجموعه وإما إرادة جزء فقط . وفي الحالة الأولى تكون هذه الإرادة العامة المعلنة عملا من أعمال السيادة ولها أن تسن القوانين وفي الحالة الثانية ليست سوى إرادة خاصة أو عمل من أعمال الإرادة ولا تكون إلا مرسومة على أكثر تقدير " ( الفصل الثاني - الكتاب الثاني ).

خامسا - سلطة التشريع :

" عندما يضع الشعب كله قواعد تطبق على الشعب كله ، فإنه إنما يتعامل مع نفسه وتكون العلاقة الناجمة عن ذلك علاقة الكل من زاوية بالكل أيضا من زاوية أخرى بدون أية تجزئة . وهكذا فإن ما تتعلق به القواعد الموضوعية يكون عاما مثل الإرادة العامة التي وضعته ، وهو ما أسميه قانونا ، وعندما أقول : إن هدف القانون عام دائما أعنى أن القانون يتناول الرعايا في مجموعهم والتصرفات مجردة ولا ينظر أبدا إلى شخص بوصفه فردا ولا إلى تصرف معين بذاته ، ومن ثم يستطيع القانون أن يقرر امتیازات ولكنه لا يستطيع أن يمنحها إلى شخص بالاسم ". " وعلى أساس هذه الفكرة يتضح فورا أنه لم تعد هناك حاجة للسؤال عمن له الحق في سن القوانين حيث انها من أعمال الإرادة العامة " ( الفصل السادس - الكتاب الثاني ) . " إن من يصوغ القوانين ليس له أي حق تشريعي أو يجب ألا يكون له مثل هذا الحق بل ان الشعب لا يستطيع أن ينفصل عن هذا الحق الذي لا ينتقل حتى لو أراد ذلك . لأنه بمقتضى الميثاق الأساسي ليس هناك ما يرتب التزاما على الأفراد إلا الإرادة العامة . كما لا يمكن التأكد أبدا أن إرادة خاصة تتطابق مع الإرادة العامة إلا بعد أن يدلي الشعب بصوته بحرية ( الفصل السابع – الكتاب الثاني ) .

سادسا - استحالة التمثيل النيابي :

"لا يمكن أن يكون هناك تمثيل في السيادة لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل فهي تكون أساسا من الإرادة العامة ، والإرادة العامة لا يمكن تمثيلها إطلاقا فهي إما أن تكون هي نفسها أو تكون شيئا آخر . وليس هناك حل وسط . ومن ثم فإن مندوبي الشعب ليسوا إلا مبعوثين فلا يستطيعون البت في شيء بتا نهائيا " .

" les députes du Peuple ne sont donc, ni ne Peuvent être ses Représentants ils ne sont commissaires , ils ne Peuvent rien conclure définitivement "

" وكل قانون لم يصدق عليه الشعب بشخصه باطل وهو لا يكون قانونا إطلاقا . ويعتقد الشعب الانجليزي أنه حر ولكنه مخطئ تماما ، فهو لا يكون حرا إلا أثناء انتخاب أعضاء البرلمان وبمجرد أن ينتهي انتخابهم يعود الشعب عبدا ".

" فالقانون لما لم يكن سوى إعلان للإرادة العامة فإنه من الواضح أن الشعب لا يمكن أن يكون له نواب فيما يتعلق بالسلطة التشريعية " ( الفصل الخامس عشر ـ الكتاب الثالث) .

سابعا ـ السلطة التنفيذية :

(أ) " إني أوجه نظر القارئ إلى أن هذا الفصل ( في الحكم بصفة عامة ) يجب ان يقرأ بعناية لأني لا أعرف كيف أجعل نفسي واضحا لمن لا يريد أن يركز انتباهه " ( الفصل الأول - الكتاب الثالث ).

(ب) " أن السلطة التنفيذية لا يمكن أن تخص المجموع بوصفه مشرعا أو معقد السيادة لأن هذه السلطة التنفيذية  تتألف من أعمال خاصة فقط ، وهي أعمال لا تتم عن طريق التشريع ، وبالتالي لا تكون من اختصاص من له السيادة الذي لا يمكن أن تكون أعماله إلا قوانين " ( الفصل الأول - الكتاب

الثالث ).

(ج) " إن الشعب لا يمكن أن يكون له ممثلون ، ويجب أن يكون له ، في السلطة التنفيذية التي ليست سوى إضافة القوة إلى القانون " ( الفصل الخامس عشر - الكتاب الثالث ) ." فما هي إذن الحكومة وهي هيئة متوسطة تنشأ لتكون وسيلة للاتصال المتبادل بين الرعايا ومن له السيادة ويعهد إليها بتنفيذ القوانين وحماية الحرية المدنية والسياسية . وحتى لا نتوه وسط هذه الحدود المتعددة نكتفي باعتبار الحكومة جسدا جديدا داخل الدولة متميزا عن الشعب وعن صاحب السيادة ومتوسطا بينهما " ( الفصل الأول - الكتاب الثالث ).

 (ها) " إن التصرف الذي ينشىء الحكومة ليس عقدا بل هو قانون ، وأن من عهد إليهم بالسلطة التنفيذية ليسوا سادة الشعب ، ولكن موظفيه ، فهو يستطيع أن يعينهم او يعزلهم كما يشاء . ان الوضع بالنسبة إليهم ليس مسألة تعاقد بل مسألة طاعة وأنهم بقيامهم بالمهام التي تكلفهم بها الدولة إنما يؤدون واجبهم بوصفهم مواطنين دون أن يكون لهم أي حق في المجادلة في شروط هذا الأداء " (الفصل الثامن عشر- الكتاب الثالث).

۲۰ - مشكلة الديمقراطية :

على هذا الوجه أرسى جاك روسو النظام الديمقراطي على أساس قاعدة ثابتة هي أن السيادة للشعب وحده . وأقام على هذه القاعدة ثلاثة أركان متكاملة : أولها : أن القانون هو صياغة الإرادة الشعبية العامة ، فحق التشريع للشعب وحده ، ثانيها : أن كل صياغة للإرادة الشعبية العامة هي قانون فليس للشعب اختصاص تنفيذي . ثالثها : أن الحكومة يعينها ويغيرها الشعب لتنفذ القوانين التي أصدرها فليس لها حق التشريع .

ولقد قال روسو : " إذا أخذنا تعبير الديمقراطية بمعناه الدقيق فإن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبدا ولن توجد ". ولكن هذا لا يعني أنه قد أقام نظاما اعترف باستحالة تطبيقه . لأن روسو كان يعني بهذه الجملة في الفصل الرابع من الكتاب الثالث من " العقد الاجتماعي " في نطاق تقسمه أنواع الحكومات إلى ديمقراطية وارستقراطية وملكية . وبدأ الفصل يقول : " إن من يضع القوانين هو خير من يعرف كيف تنفذ وتفسر . وبذلك قد يبدو أن ليس هناك أفضل من دستور تتحد فيه السلطتان التنفيذية والتشريعية ، بيد أن هذا الوضع بالذات هو ما يجعل الحكم غير ملائم من وجوه معينة ، لأن الأشياء التي يجب التمييز بينها تختلط وكون الحكومة ، ومن له السيادة شخصا واحدا لا يؤدي - بمعنى ما ـ إلا إلى حكم بلا حكومة . فليس من الخير أن يكون منفذ القوانين هو واضعها . ولا أن يشغل مجموع الشعب باله بالمسائل الخاصة على حساب السياسة العامة .. وإذا أخذنا تعبير الديمقراطية بمعناه الدقيق فإن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبدا ولن توجد لأنه مما يتعارض مع النظام الطبيعي أن يحكم الكثيرون ويحكم القليلون ولا يستطيع الإنسان أن يتصور الشعب منعقدا باستمرار للانقطاع للشؤون العامة " . ولهذا رأى روسو إنشاء حكومة تختص بالتنفيذ .

السيادة إذن للشعب ، ولأن له السيادة فإن إرادته هي القانون . هذا هو جوهر الديمقراطية كما كشفه روسو .

ولكن روسو إذ كشف جوهر الديمقراطية قد أثار مشكلتها .

وهي ليست مشكلة مبدأ بل مشكلة نظام ، إذ بعد الإقرار بالسيادة للشعب تصبح المشكلة " كيف " يمارس الشعب هذه السيادة ؟ وطبيعي أن تكون " كيف " هذه سؤالا في القانون . ان روسو الفيلسوف قد أنهى مهمته ونقل المشكلة إلى أيدي رجال القانون ، بحيث أن الإجابة لا يمكن أن تكون : لأن هذا ممكن وهذا غير ممكن إذ يتعين في هذه الحالة معرفة التكييف القانوني للإمكان والاستحالة ، كما لا يمكن أن تكون الإجابة أن هذا أفضل وهذا أسوأ ، إذ يتعين في هذه الحالة معرفة التكييف القانوني للأفضلية . فمن كل ناحية تقوم المشكلة الديمقراطية في داخل النظام القانوني . ولا يمكن أن تحتمل إجابة فلسفية ، أو واقعية ، أو سياسية ، أو نفسية ، بل هي تتطلب إجابة قانونية لأنها تتعلق في الأساس بقوة الإلزام القانوني لفعل إرادي يقوم به أفراد الشعب .

أول إجابة طرحت هي : يمارس الشعب سيادته عن طريق التمثيل النيابي .

وهذا هو موضوع القسم الثاني من بحثنا .

 

القسم الثاني

التمثيل النيابي .

يتبع ....

 ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق