الغايات :
ـ ثانيا ـ
الوحدة
(1)
46 ـ الوحدة والتحرر:
عرفنا من قبل ان اختصاص الشعب بالارض دون غيره من الشعوب والجماعات الاخرى هو ما يسمى في علم القانون ” بالسيادة ” وان ممارسة تلك السيادة هو ما يسمى بالسلطة وان الدولة هي تلك المؤسسة التي تجسد سيادة الشعب وترسم حدود وكيفية ممارسته (فقرة 24) . وعرفنا في الفقرة السابقة ماهية الاستعمار باسلوبيه الظاهر والخفي . ومنهما نعرف ان الاستعمار الظاهر إذ يسلب المجتمع الضحية امكانياته البشرية او المادية يسلب سيادته . يسلب من الشعب سيادته لتكون للمستعمرين . ويسلب الارض التي هي محل سيادة الشعب ليكونوا هم سادتها . وان يسلب بعض هذا يسلب بعض السيادة فتكون في المجتمع الضحية سيادة ناقصة او ـ كما يقولون في لغة القانون ـ غير مكتملة . وإذ يعود الاستعمار بأسلوبه الجديد فيفرض سيطرته على المجتمع الضحية، بشراً وأرضاً ، عن طريق التبعية فانه يعود فيسلبه كامل سيادته خفية سلباً لا تخفيه اعلام الاستقلال الشكلي . وتكون غاية التحرر هي استرداد الامكانيات البشرية والمادية المسلوبة بتصفية قوى الاستعمار والافلات من التبعية .
عندما يتم هـذا لا يكون قد تحقق من التحرر الا وجهه السلبي . الغاء العائق الذي كان يحول دون الشعب وممارسة سيادته في مجتمعه . ولو وقف الامر عند هذا الحد لكانت حصيلة التحرر سلبية . انما تصبح ايجابية فتكتمل عندما يعود الشعب الى ممارسة سيادته بعد التحرر . وليس من اللازم أن يتم هذا بمجرد تصفية القوى الاستعمارية التي كانت تسلب سيادة الشعب في وطنه . إذ قد يحدث ان تناضل الشعوب من اجل تصفية القوى الاستعمارية التي تسيطر على مجتمعاتها من اجل الافلات من السيطرة الظاهرة او التبعية الخفية وتستعين في هذا بحلفاء يبذلون لها ما يساعدها على النصر في معاركها فاذا بها تكتشف فور التحرر من قوى استعمارية انها قد وقعت اثناء نضالها ذاته في قبضة قوى استعمارية اخرى ، فتبدأ نضالها ضد الذين كانوا بالأمس حلفاء نضالها . ان هذا لا يحدث قليلاً بل يحدث كثيراً منذ ان انتهج الاستعمار الجديد اسلوب التبعية . وهي ذات اللعبة التي ارادت الولايات المتحدة الامريكية ان تلعبها في مصر بعد سنة 1956. فقد وقفت ضد الاعتداء المسلح وساعدت في اجلاء القوات الانجلـيزية والفرنسية والاسرائيلية لتحل هي محلها عن طريق استدراج مصر الى شرك التبعية فبدأ الصراع من اجل التحرر من جديد . وهي لعبة نجحت في اماكن كثيرة من العالم ، وفي اقطار عدة من الوطن العربي ، حيث لا نجد آثار الجيوش الأوروبية التي كانت تحرس الاستعمار ولكنا نجد التبعية للولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من مكان وأكثر من قطر . وفي أي مكان من الوطن العربي نجد التبعية للولايات المتحدة الامريكية او ولاية قوة اخرى غيرها نفتقد سيادة الشعب العربي . من هنا تصبح اقامة ” الدولة ” التي تجسد سيادة الشعب على الارض المتحررة هو المميز لكون معركة التحرر قد حسمت لمصلحة الشعب .
ولكن اية دولة تلك التي تجسد سيادة الشعب ؟
إنها الدولة القومية ، التي ستكون ـ بدون شك ـ غير كاملة السيادة إلى أن تكون شاملة الشعب والوطن جميعاً . إنما نعرض هنا للدولة القومية وعلاقتها بالاجزاء المتحررة من الوطن العربي ، والتي جرى الأمر على تسميتها دولة الوحدة ” النواة ” . وهي علاقة ذات حدين : أولهما هو أن الدولة القومية لا تقوم ، ولا يمكن أن تقوم إلا على الاجزاء المتحررة من الاستعمار الظاهـر والاستعمار الخفي كليهما . لأنها إذ تقوم في ظل الاستعمار لا تكون إلا أداة لفرض سيادته هو وليست تجسيداً لسيادة الشعب العربي . انها ليست دولة إذ ينقصها عنصر السيادة حتى لو أسميت ـ تضليلاً ـ دولة الوحدة . وهذا الحد يصل وصلاً عضوياً بين دولة الوحدة القومية والتحرر فهما صنوان ويفصل فصلاً حاسماً بين دولة الوحدة التي لا تقوم على أسس قومية وبين دولة الوحدة القومية فهما مختلفان اختلاف العبودية والحرية . ويؤكد أن دولة الوحدة العربية ، النواة أو الشاملة ، لا تكون تحررية ، ولا تجسد سيادة الشعب العربي إلا إذا قامت متفقة مع المنطلقات القومية التي تقول إن الأمة هي تكوين اجتماعي ” يختص ” فيه الشعب بوطنه . ويكشف لنا ، بوضوح ، أن الوحدة السياسية بين الاجزاء التابعة للاستعمار هي القبضة الواحدة التي يمارس بها المستعمرون سيطرتهم ، وإن الوحدة السياسية بين جزء متحرر وجزء محتل أو تابع ليست إلا شركاً يفقد فيه المتحررون حريتهم لأن الجزء التابع لن يكون إلا ” الوسيط ” الذي يلتحم بالجزء المتحرر لتسوى إليه تيارات التبعية الظاهرة أو الخفية .
أما الحد الثاني للعلاقة بين الدولة القومية والاجزاء المتحررة فهو أن الدولة القومية (النواة) هي وحدها التي تجسد سيادة الشعب العربي على الارض المتحررة . وهو ما يعنى تماماً أن الاجزاء التي تتحرر ولا تتوحد تبقى مسلوبة السيادة بقدر ما يقع خارج حدود كل جزء منها من الوطن العربي . ويبقى الشعب العربي خارج كل جزء متحرر لم تشمله الوحدة مسلوب السيادة بقدر هذا الجزء . وهنا نلتقي بأول آثار السلب (النقص) التي تحدثها التجزئة بعد أن عرفنا السلب الذي يحدثه المستعمرون . وهي آثار لا يمكن أن ندركها إلا على أساس المنطلقات القومية التي تقول ان الأمة هي تكوين اجتماعي ” يشترك ” به الشعب في وطنه ، وبه تصبح ” السيادة ” مشتركة بين أفراد الشعب فلكل فرد فيه حق السيادة على كل ذرة من الوطن وهكذا نرى ـ من الموقف القومي ـ كيف أن ” التجزئة ” ، تجزئة الأرض المتحررة تحرم الشعب العربي في كل دولة اقليمية من ممارسة سيادته على الأرض العربية التي تقع خارج حدودها ، وتحرم الشعب العربي خارج حدودها من ممارسة سيادته على أرضه فيها ، فتنتقص من ” سيادة ” الشعب العربي داخلها وخارجها معاً . ان هذا هو الترجمة القانونية ( الحقوقية ) لما سبق أن قلناه من ان الاقليمية تهدر حق الشعب العربي في وطنه داخل كل اقليم وخارجه معاً ( فقرة 30 ) وما تهدره هنا هو ” حق السيادة ” الذي من اجله تدور معارك التحرر .
وبين التجزئة والاستعمار علاقات أخر .
إذ نستطيع أن نقول ، بحق ، ان المستعمرين لم يكونوا يعبثون عندما مزقوا الامة العربية الى أجزاء منفصلة ، وأنهم لابد كانوا يحققون بتلك التجزئة ما يتفق مع مصالحهم . ولايستطيع أحد أن يحتج على ما نقول بأن القسمة وقعت فيما بين المستعمرين أنفسهم لأنهم متعدون ، ذلك لأن القوى الاستعمارية لم يلبث كل منها ان عاد فجزأ نصيبه من الامة العربية الى تلك الاجزاء التي تقوم عليها الان الدول العربية . نعم ، لا يستطيع أي انسان في الوطن العربي أن يزعم ان قد كانت له أو لأجداده ـ قبل خمسين عاماً فقط ـ دولة بما تعنيه الدولة من اختصاص الارض أو سيادة عليها . ولايستطيع أحد أن يزعم أنه هـو وأجداده قد اختار الحدود التي تقوم فيها دولته . كانت الحدود كل الحدود ، تحدد اما ” بفرمانات ” صادرة من الخليفة أو بمواقع الجنود الاوربية الغازية ، أو بالاتفاق بين كل تلك القوى الميسطرة . أما الشعب العربي فقد كان بعيدا عن هذا كله . ولو لم نكن نعرف من علاقة الـتجزئة بالاستعمار الا هذه العلاقة لكان اول ما نفعله ـ فور التحرر ـ هو ان نطهر الأرض من التجزئة كأثر باق من آثار المستعمرين تمثل ، وما تزال تمثل بصماته كما رسمتها مصالحه .
وبين الوحدة والتحرر علاقات أخر .
ففي هذا العصر، عصر الأمبريالية والقنابل الذرية ، لا نرى أملا، أي أمل ، لأية دولة عربية ، في أن تحافظ على تحررها أو أن تدافع عن حريتها . ان اثمان أدوات التقدم الاجتماعي الحديثة باهظة الى درجة يصبح الحصول عليها بدون تبعية ، ولو كانت تبعية المال وقطع الغيار ، مطلباً عسير التحقق للدول النامية إلا أن تكون في الدول النامية موارد مالية تسمح بشرائها بدون تبعية ، وافضل من هذا تسمح بصنعها بدون تبعية . أما تكاليف الدفاع عن الحرية فلا يكفي فيها حتى المال ولو كان موفوراً . فقد تستطيع دولة عربية أو أخرى أن تشتري السلاح وخبراء التدريب ولكنها لن تجد كفايتها من المقاتلين على الاسلحة التي اشترتها . المقاتلين دفاعاً عن التحرر الا لدحر القوى ” العظمى ” ولكن بمجرد أن يكون الاعتداء عليها أمراً باهظ التكلفة ، أي لمجرد ألا تكون بلادهم مباحة لمن يريد . ولنتأمل ما هي القوى ” العظمى ” في هذا العصر . انها القوى التي استمدت عظمتها ، لا من حضارتها ، ولا من ثقافتها ، ولكن من مقدرتها المادية والعلمية على حشد أعظم الامكانيات لتنفيذ ما تريد . في هذا العصر تناط العظمة بحجم الموارد ، فهل ثمة امل للدول العربية ، أية دولة عربية ، في ان تحافظ على حريتها إلا بمثل حجم موارد أمتها العظيمة ؟ ..
ومع هذا ،
فنحن لا نبحث عن العظمة . اننا ما نزال نبحث في مشكلات التخلف العربي : عجز الشعب العربي عن أن يوظف كل الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في امته العربية لا أكثر ولا أقل . ثم اننا اذ نريد القوة لنتحرر أو نريد السلاح لنحمي أو نريد الادوات لنبني أو نريد العلم لننمي فانا لا نملك إلا الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في امتنا العربية لنحصل منها ، وبها ، على ما نريد . ونحن نريد أن نثبت ـ هنا ـ انه أيا كان ما نريد ، وفي أي مجال أردنا ، وفي كل مكان من الوطن العربي ، وتحت كل الظروف ، ستبقى مشكلة التجزئة مشكلة تخلف عربي ، تقوم التجزئة فيها حائلا بين الشعب العربي وبين تحقيق ” كل ” ما يمكن ـ موضوعياً ـ تحقيقه ، فهي قيد على ارادته تسلبه ” بعض ” مقدرته .
(2)
47 مشكلة التجزئة :
كيف تكون التجزئة في كل الظروف مشكلة تخلف في الامة العربية ؟
ان العلم هو الذي يقدم الاجابة . ويقدمها ، بوجه خاص ، ذلك العلم ذو القوانين الحديدية : علم الاقتصاد السياسي . وعندما نرى أن في هذا العلم العظيم وقوانينه الحديدية تأكيداً لصحة نظريتنا القومية تتأكد لنا ـ مرة اخرى ـ صحة منهجنا والعلاقة الوثيقة بين القومية والتقدم الاجتماعي . وكما ترجمنا ـ من قبل ـ نظريتنا الى لغة القانون لنفهم المضمون القومي ” لحق السيادة ” . نترجمها ـ هنا ـ الى لغة الاقتصاد لنفهم المضمون التقدمي للوحدة القومية .
ان الامة العربية بعنصريها الشعب والوطن تصبح ” منطقة اقتصادية ” تتميز ” بنيتها الاقتصادية ” بالعلاقات والنسب القائمة بين عناصر الانتاج المتاحة فيها . أما حاجات الشعب العربي المادية والثقافية المتجددة أبداً فهي مصدر عنصر ” الطلب ” المتميز بدوره بانه متنوع ومتجدد مع قابليته للاشباع في موضوع معين (قانون المنفعة الحدية) . والامكانيات البشرية والمادية المتاحة في الأمة العربية هي مصدر عنصر ” الموارد ” . الشعب العربي هو مصدر ” العمل ” . والامكانيات المادية (الأرض والمواد الخام والأدوات المتراكمة تاريخياً) تمثل” رأس المال ” أما التناقض بين الواقع الاجتماعي وبين ما يريده الشعب فيه فمرجعه الى ” الندرة ” أي عدم كفاية الموارد لاشباع الحاجات . والمشكلة التي يثيرها هذا التناقض هي عدم اشباع حاجات الشعب العربي بالموارد المتاحة في الأمة العربية فهي ” المشكلة الاقتصادية “ كما يعبر عنها في علم الاقتصاد . ويعبر علماء الاقتصاد عن كون الصراع الذي تثيره المشكلة يثور في الانسان نفسه بقولهم أن الحاجة ” حالة نفسية ” (ألم ووعي بسببه وارادة التحرر منه) . وحلها الجدلي يتم عن طريق تغيير الواقع ” بالتأليف ” بين الموارد المتاحة في الأمة العربية ليخرج من تفاعلها معاً شيء لم يكن موجوداً من قبل هو ” السلعة ” أو ” المنتج ” . ويتوقف النجاح في حلها على معرفة واحترام حتمية القوانين التي تحكم الأشياء والأنواع . وهو ما يعرف باسم ” فنية الانتاج ” . وعملية ” التأليف ” هذه التي تختار فيها العناصر القابلة بحكم قوانينها النوعية للتفاعل على الوجه الذي يؤدي الى المنتجات المطلوبة هو عملية ” الانتاج ” . وذلك الجزء من الموارد المادية الذي تتم به عملية الانتاج هي ” أدوات الانتاج ” . والحل الصحيح للمشكلة الاقتصادية كما هو محدد موضوعياً بالواقع العربي ذاته هو ” الناتج الحدي ” الذي يمكن الحصول عليه من كل عنصر من عناصر الانتاج المتاحة فعلاً . وقمة النجاح هو تحقيق هذا الناتج الحدي لنصل الى ” الناتج الكلي ” الأمثل من الموارد العربية .
تلك هي الترجمة الاقتصادية للنظرية القومية ، مع التجاوز عما لا يدخل من عناصر الوجود القومي في مضمون المشكلة الاقتصادية (الحاجات غير الاقتصادية ، وغير الحالة ، والموارد الحرة … الخ) . ولنتجاوز ايضاً عن تقييم سابق للتجزئة فنفترض أحسن الفروض بالنسبة اليها : ثم النصر في معارك التحرر . ولا تبعية . ولا خطر من عودة الاستعمار . وفي ظل التحرر تكون كل الموارد المتاحة في الجزء المتحرر (الدولة الاقليمية) متاحة للشعب العربي فيه . وبتوالى تحرر الاجزاء الأخرى يتوالى تحرر أجزاء أخرى من الموارد لتصبح متاحة لجزء آخر من الشعب العربي ، وبتحرر كافة أجزاء الأمة العربية تصبح كافة الموارد المتاحة فيها متاحة للشعب العربي . لو تم كل هذا ـ ولو بسلسلة من المعجزات ـ سيكون اول ما هو جدير بالملاحظة هو ان الموارد المتاحة في الأمة العربية هي هي بذاتها الموارد المتاحة في الأجزاء ثم تبدأ مرحلة الانتاج ، لنصل بذات الموارد الى الناتج الكلي . من هذه الملحوظة الأولى ـ ومن اجل تبسيط الحديث ـ نريد ان نعقد المقارنة . المقارنة بين الناتج الكلي لذات عناصر الانتاج في ظل الوحدة وفي ظل التجزئة .
مع ثبات باقي عناصر الانتاج تصبح زيادة الناتج الكلي متوقفة على ” فنية الانتاج ” (تقسيم العمل ، واستخدام ادوات الانتاج الحديثة ، والخبرة العلمية ، و المهارة ، والتنظيم … الخ) . و لكي نستطيع أن نعقد المقارنة بين التجزئة والوحدة لا بد لنا من تثبيت عنصر فنية الانتاج ايضاً ، فنفترض ان فنية الانتاج في كل جزء من الأمة العربية قد وصلت درجة من الكفاءة تحقق بها ” الناتج الحدي ” لعناصر الانتاج المتاحة للشعب العربي فيه ، وبالتالي حقق كل جزء الناتج الكلي الأمثل بالنسبة الى موارده . ولنتذكر أن كل هذه فروض مجردة ولكنها فروض لازمة لبيان الآثار الخاصة بعنصر واحد من العوامل التي تؤثر في الناتج الكلي . ففي الواقع تتفاعل عناصر كثيرة وتساهم جميعاً في حصيلة الانتاج النهائية . وما يكون من قصور في أي عنصر سيكون ذا أثر سلبي في الناتج الكلي . ومن هنا افترضنا ان كافة العناصر ثابتة عند حد كفاءتها الامثل حتى نستطيع ان نعرف الآثار التي يحدثها العامل الذى نبحثه : ” التجزئة . ثم نسأل : اذا تحققت كل هذه الفروض فهل يكون ” مجموع ” الناتج الكلي في الدول العربية مساوياً للناتج الكلي فيما لو كان الانتاج يتم في ظل دولة الوحدة ؟…
والاجابة : لا. فمن ذات عناصر الانتاج وبأقصى قدر من الكفاءة الفنية يزيد الناتج الكلي في ظل الوحدة عنه في ظل التجزئة . لماذا ؟… من أين يجيء الفرق ؟..
لنعرف أولاً القوانين التي تضبط حركة الانتاج والتي تسمى ” قوانين الغلة ” . تقول أن أية زيادة في عناصر الانتاج كلها ، أو بعضها ، تؤدي الى زيادة الناتج الكلي بنسبة اكبر في مرحلة اولى (قانون الغلة المتزايدة) ثم تصبح نسبة الزيادة في الناتج الكلي مساوية لنسب الزيادة في عناصر الانتاج في مرحلة تالية (قانون الغلة الثابتة) . ثم يبدأ مرحلة ثالثة تقل نسبه الزيادة في الناتج الكلي عن نسبة الزيادة ني عناصر الانتاج ويطرد تناقصها الى ان تصبح ” صفراً ” . أي تصبح الزيادة الاخيرة في عناصر الانتاج، ومن باب أولى أية زيادة أخرى ، بدون غلة ، تصبح عناصر ” مبددة ” (قانون الغلة المتناقصة) . هذا بالنسبة الى الناتج الكلي . ومرجعه في زيادته أو في ثباته أو في نقصه الى اقتراب كل عنصر من عناصر الانتاج من ” ناتجه الحدى ” . ففي ظروف الاستخدام الامثل لعناصر الانتاج يرتفع ناتجها الحدى فيتزايد الناتج الكلي ، وعندما تصل الى ” الناتج الحدى ” يثبت الناتج الكلي، لتبدأ العناصر المضافة بعد هذا في الابتعاد عن الناتج الحدي حتى تصل الى درجة الصفر . ومؤدي هذا ان تلك العناصر تكون مستخدمة استخداماً ناقصاً ، ثم اكثر نقصاً ، الى أن تصبح غير منتجة أصلاً بمعنى أنها لو سحبت من عملية الانتاج لما تأثر الناتج الكلي . وعلى هذا يكون الاستخدام الأمثل لعناصر الانتاج هو ما يصل بكل عنصر الى ناتجه الحدي من ناحية ، ثم الحيلولة ـ من ناحية أخرى ـ دون دخول الانتاج مرحلة الغلة المتناقصة . أي الحيلولة دون تبديد عناصر الانتاج المتاحة . ويكون هذا بالتحكم المستمر في عناصر الانتاج أو في كيفية استخدامها .
ذلك لأنه للحصول على ” وحدة ” معينة من المنتج في فترة زمانية معينة (دالة الانتاج) يقتضي الأمر ـ كما عرفنا ـ ” التأليف ” بين عناصر متعددة بنسب مختارة . واول وسيلة لزيادة الناتج الكلي (استخدام قانون الغلة المتزايدة) هي زيادة جميع عناصر الانتاج بنسبها المختارة فيزيد الناتج الكلي بقدر ما زدنا من عناصره . ولكن عند حد معين يبدأ قانون الغلة المتزايدة في فعاليته ، فتكون نسبة الزيادة في الناتج الكلي أكبر من نسبة الزيادة في عناصر الانتاج أي نصل إلى ما يعرف ” بالانتاج الكبير ” . وفي ” الانتاج الكبير ” يرتفع الناتج الحدي لعناصر الانتاج وبالتالي يزيد الناتج الكلي لذات العناصر . ويرجع هذا الى ما يسمى ” وفورات الانتاج الكبير ” وهي ” وفورات داخلية ” تنتج عما يسمح به الانتاج الكبير من تقسيم أفضل للعمل يرفع مقدرته الانتاجية واستخدام أفضل لأدوات الانتاج الحديثة وتنظيم أفضل للإدارة . ثم ” وفرات خارجية ” تنتج عما يسمح به ” الانتاج الكبير ” من ربط عدة فروع انتاج متخصصة في خط انتاجي واحد يخدم بعضها فيه بعضاً وتتكامل فيه عناصر الانتاج المتاحة في كافة الفروع على وجه يوفر العناصر المشتركة ، فلا تتكرر في كل فرع ، ويرؤمن لكل فرع ما يلزمه من مواد خام او منتجلت نصف مصنوعة او مصنوعة تقوم بها فروع الانتاج الأخرى طبقاً للانماط المطلوبة فيطرد الانتاج بأكبر كفاءة ممكنة . وواضح ان ” الانتاج الكبير ” يتوقف على حجم الموارد الاقتصادية المتاحة (عرض الموارد) .
هذه نقطة أولى .
ومنها تبين انه مع افتراض الاستخدام الكامل لكل موارد الانتاج المتاحة في كل جزء من الوطن العربي وبأرقى كفاءة فنية ، تبقى أغلب الدول العربية محرومة ، بحكم حجم الموارد المتاحة فيها ، من الاستفادة من وفورات الانتاج الكبير إذ أن ” بنيتها الاقتصادية ” لا تسمح بالانتاج الكبير . ومؤدى هذا انها حتى إذا وصلت من الكفاءة الانتاجية ما يحقق الناتج الحدي لعناصر الانتاج فيها ، فإن هذا الناتج الحدي سيكون أقل من الناتج الحدي لذات العناصر لو كان الانتاج يتم في ظل الوحدة . إذ في ظل الوحدة تصبح عناصر الانتاج تلك أجزاء في ” بنية اقتصادية ” أكبر تسمح بالانتاج الكبير فيرتفع نتاجها الحدي وبالتالي يرتفع ناتجها الكلي . لأن حجم الموارد المتاحة (عرض الموارد) في ظل الوحدة سيكون أكبر بكثير من حجمها في كل جزء على حدة . مع ملاحظة أن هذا الحجم الكبير سيكون متاحاً ( معروضاً ) لاستخدامه بالنسبة لأي جزء من الأمة العربية . فالوحدة هنا لا تسلب أي جزء من الأمة العربية شيئاً من موارده المتاحة فيه ، ولا تنتقص من بنيته الاقتصادية شيئاً ، بل تضيف الى موارده موارد أخرى تصبح متاحة للشعب العربي فيه ، وتضاعف من بنيته الاقتصادية . ويتم هذا بالنسبة الى الاجزاء جميعاً ، وفيها جميعاً يزيد الناتج الكلي بقدر ما زاد في عرض الموارد . وتكون الحصيلة النهائية زيادة في الناتج الكلي لذات عتاصر الانتاج في ظل الوحدة عنه في ظل التجزئة . هذا الفرق بين الناتج الكلي في ظل التجزئة والناتج الكلي في ظل الوحدة ، لذات عناصر الانتاج وبأرقى قدر من الكفاءة في الدول العربية هو ” بعض ” ما تسلبه التجزئة من الشعب العربي في تلك الدول فتنتقص من مقدرته على التقدم الاجتماعي بقدر ما تسلب . نقول ” بعض ” ما تسلب إذ ان تلك ليست إلا نقطة أولى . قد لا تنطبق على واحدة أو اخرى من الدول العربية ” الكبيرة ” حيث يمكن أن تقوم مشروعات الانتاج الكبير نسبياً .
فلننتقل اذن الى النقطة الثانية .
هنا لا يتم استخدام قانون الغلة المتزايدة عن طريق زيادة عناصر الانتاج جميعأ بنسبها المختارة ، وانما يتم عن طريق زيادة بعض عناصر الانتاج مع ثبات بعضها . في هذه الحالة تكون الزيادة في الناتج الكلي منوطة بالعناصر ” المتغيرة ” . وكل عنصر يضاف يصبح عنصراً ثابتاً الى ان يصل الى ناتجه الحدي وتبدأ مرحلة تناقص الناتج الكلي إلا اذا امكن اضافة عناصر متغيرة جديدة . وترجع فعالية قانون الغلة المتزايدة في هذه الحالة الا ما يسمى ” تضافر ” عناصر الانتاج ، بمعنى ان تزايد الناتج الكلي لا يرجع الى مجرد الزيادة في العناصر المتغيرة ، بل يرجع الى كل عناصر الانتاج الثابتة منها والمتغيرة . وهو ما يعني ان ” الناتج الحدي ” لذات العناصر الثابتة يرتفع مع تغير العناصر الاخرى . ومرجع هذا الى انه طبقأ ” لحتمية القوانين التي تضبط الاشياء ” و ” التأثير المتبادل فيما بينها ” يتوقف الناتج الحدي من كل عنصر على نوع العناصر الاخرى . وهو لا يعطي ، مهما تكن الكفاءة الفنية ، اقصى ناتج حدي إلا في نطاق تفاعل مع عناصر اخرى معينة او قابلة للتعيين . ويكون الاستخدام الامثل لكل عنصر هو ” التأليف ” بينه وبين تلك العناصر التي تتيح له ان يصل الى أقصى ناتج حدي تسمح به قوانينه النوعية . كيف يمكن الوصول الى هذا ؟.. بان يكون اكبر قدر من العناصر البديلة متاحاً . وهي بديلة بمعنى انه يمكن ان يحل بعضها محل بعض . ولكن عناصر الانتاج ـ وهذه احدى حقائق علم الاقتصاد ـ لا تكون بدائل كاملة فإن كفاءة كل منها تختلف عن الآخر ويسمى ذلك ” الميزة النسبية “. ويكون الناتج الحدي لأي عنصر متوقفأ على تأليفه مع اكفأ العناصر البديلة . وهذا يتوقف بدوره على تنوع الموارد المتاحة (مرونة عرض الموارد) . وهكذا نعرف ان الاستخدام المستمر لقانون الغلة المتزايدة والحيلولة دون الخضوع لقانون الغلة المتناقصة لا يتوقف على حجم الموارد ، فحسب بل يتوقف ايضأ على مرونة عرضها ، أي عدم وجود مواقع تحول دون استخدامها على الوجه الذي يتفق مع ميزتها النسبية .
ومنه نتبين انه مهما تكن الموارد المتاحة في اية دولة عربية متنوعة فانها اقل مرونة منها في ظل الوحدة . وفي ظل الوحدة حيث تكون ذات الموارد المتاحة في الأجزاء ، ولكن كلها معأ ، متاحة كاضافات وبدائل لعناصر الانتاج في كل جزء يصبح عرض الموارد بالنسبة الى كل جزء اكثر مرونة . وتؤدي هذه المرونة لا الى استخدام الموارد ، التي كانت ” خارجية ” ثم اصبحت متاحة ، في الظروف التي تتفق مع ميزتها النسبية ، فقط ، بل ايضأ الى تحقيق ظروف الانتاج التي تتفق مع الميزة النسبية لذات الموارد ” الداخلية ” في كل جزء . وبالتالي ترفع الناتج الحدي لعناصر الانتاج الثابتة في الأجزاء من ناحية والناتج الحدي لعناصر الانتاج المتغيرة من ناحية اخرى . بالوحدة ـ هنا ايضأ ـ لا تسلب عناصر الانتاج في أي جزء من الأمة العربية شيئأ من ميزاتها النسبية ، ولا تنتقص من كفاءتها الانتاجية ، بل تضيف اليها ما يحقق ميزتها النسبية ويرفع من كفاءتها . ويتم هذا بالنسبة الىعناصر الانتاج في الاجزاء جميعاً . وفيها جميعاً يزيد الناتج الكلي بقدر ما تزيد مرونة عرض الموارد . وتكون الحصيلة النهائية زيادة الناتج الكلي في ظل الوحدة ، لذات عناصر الانتاج، عنه في ظل التجزئة. هذا الفرق بين الناتج الكلي في ظل التجزئة والناتج الكلي في ظل الوحدة ، لذات عناصر الانتاج وبأرقى قدر من الكفاءة في الدول العربية ، هو ” بعض آخر ” مما تسلبه ” التجزئة من الشعب العربي في تلك الدول فتنتقص من مقدرته على التقدم الاجتماعي بقدر ما تسلب .
كانت غاية هذه الفروض المجردة ان تثبت الاثر السالب للتجزئة حتى عندما تصل كل دولة عربية إلى أقصى درجة من التقدم ، لترى باكبر قدر من الوضوح ، انه طبقاً لقوانين حتمية ، موضوعية ، يمكن اكتشافها واستخدامها ولا يجدي تجاهلها شيئاً ، تمثل التجزئة ذاتها ، وبدون تدخل أي عامل اخر، مشكلة تخلف في الامة العربية ـ فهي تسلب الشعب العربي بعض مقدرته على أن يتقدم بقدر ما هو متاح في أمته من امكانيات بشرية ومادية. وهي تسلبه في كل جزء من الأمة العربية مهما تكن الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في ذلك الجزء ، أي حتى لو تفجر البترول في كل شبر من الأرض العربية … إذا كان البترول هو الذي يداعب احلام الاقليميين . ففي هذه الحالة أيضاً يبقى عائد البترول في ظل الوحدة أكبر من مجموع عائده في الأجزاء الاقليمية . ويمكننا أن نقول الشيء ذاته عن عائد استثمار الأموال ، وعائد زراعة الأرض ، و عائد ا ستخراج المعادن ، وعائد الصناعة ، وعائد النقل .. الخ ، إذ أن تلك قوانين تحكم حركة الإنتاج أياً كان موضوع الانتاج .
من حقنا الان أن نعود إلى الواقع العربي في هذا النصف الثاني من القرن العشرين لنرى كيف أن التجزئة لا تحول دون بلوغ عناصر الانتاج أقصى ناتجها الحدي بل انها تبدد الموارد المتاحة وتحول دون استخدامها اصلاً . انها تحول قدراً كبيراً من الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في الأمة العربية الى امكانيات ” عاطلة ” . وحتى لا تحول الحديث عن ” نظرية الثورة العربية ” الى حديث في الاقتصاد السياسي . سنضرب لهذا التبديد مثلاً من عنصر ” العمل ” وحده لنرى كيف ان التجزئة تكاد تحول نصف الشعب العربي العامل الى عاطلين ، او أنها تحولهم فعلاً ، فتشل مقدرة الشعب العربي على التقدم بقدر ما تسببه من ” بطالة ” .
(3)
48 ـ التجزئة والبطالة :
نفترض البطالة ابتداء المقدرة الذاتية على العمل فهي لا تقوم بالنسبة إلى الأطفال والشيوخ والعجزة . ثم يختلف الرأي في تعريف البطالة فيما بين القادرين على العمل والدارج في أدب الاقتصاد السياسي التقليدي أن البطالة هي عدم العمل مع الرغبة فيه ليستبعدوا من العاطلين أولئك الذين لا يرغبون في العمل أصلا . وواضح انهم ، في هذا، يربطون العمل بالاجر لأن الذين لا يرغبون في العمل هم الذين تتوافر لديهم المقدرة على الانفاق بدون أن يعملوا أي الاغنياء بمواردهم عن الاجر . وربط العمل بالأجر يضيف إلى العاطلين ربات البيوت وأفراد العائلة الذين يعملون في أو يساعدون آباءهم بدون أن يتقاضوا أجوراً . وهو خطأ يتضح عندما يريد رب العائلة أو ربة البيت أن يقوم أخرون بما تقوم به ربة البيت أو أفراد العائلة . عندئذ سيتقاضى من يحلون محلهم في ذات الاعمال أجوراً مقابل ما يعملون .. هو اذن عمل انما يختلف مقابله تبعاً لما إذا كان القائم به فرد من العائلة ام فرد من خارجها . يتقاضى الغريب أجره نقداً ثم ينصرف ، أما أفراد العائلة فيعود اليهم بالمشاركة في الدخل وتبادل الخدمات والتضامن والامن في رحلة الحياة الطويلة، فهم ليسوا عاطلين .
والواقع من الأمر أن البطالة ليست وثيقة الصلة بالعمل من حيث هو جهد مبذول كما يبدو من ظاهر الأمور. إذ أن كل الناس يعملون ، في مجال أو اخر ، على وجه أو اخر ، لتحقيق غاية أو اخرى ، يبذل الناس جهوداً غير مقطوعة ، ذهنية أو يدوية ، ولا يستطيعون أن يفعلوا غيرهذا بحكم قوانينهم النوعية (فقرة 18) . ومن هنا نستطيع أن نقول أنه إذا كانت البطالة هي التوقف عن العمل الذهني أو اليدوي فلا يوجد على الأرض عاطلون ، إلا العاجزون عجزاً كلياً ، وهم قلة نادرة .
إنما يصبح للبطالة مفهوم عندما يكون العمل هو ” الجهد المبذول في الانتاج الاقتصادي ، مع ملاحظة أن الانتاج هو تحويل الموارد المتاحة الى منتجات مطلوبة لاشباع حاجات قائمة . وأن المنتجات قد تكون منتجات مادية أو ثقافية أو خدمات تصل بها المنتجات الى من هو في حاجة إليها . فالعمل على هـذا الوجه هو مساهمة بالجهد البشري في ” المشكلة الاقتصادية ” التي تثيرها الندرة . وبهذا يدخل العمل عنصراً في عملية الانتاج . وتكون البطالة هي خروج العمل من عملية الانتاج فترات من السنة (البطالة الموسمية) أو عند أزمات الكساد (البطالة الدورية) أو عند تغيير اسلوب الانتاج (البطالة الفنية) أو امكانية خروجه بدون أن يتأثر الانتاج ( البطالة المقنعة) . وعلى هذا الوجه يقسمون البطالة الى أنواع في كتب الاقتصاد السياسي . وهو تقسيم لا يفيدنا كثيرآ في معرفة العلاقة بين التجزئة والبطالة في الوطن العربي . فالبطالة الدورية ظاهرة مرتبطة بدرجة متقدمة من النمو الرأسمالي والرأسمالية في الوطن العربي ليست نامية الى حد ان تفرز أزماتها . وما تسببه الازمات الدورية قي النظام الرأسمالي العالمي من بطالة في بعض الاقطار العربية ليس ظاهرة عربية إنما هي أثر من آثار التبعية الاقتصادية للقوى الرأسمالية الاجنبية . أما البطالة الفنية التي تنتج عن تطور أدوات الانتاج على وجه يستغني فيه الانتاج عن بعض قوة العمل ، أو تطورها بمعدل من السرعة والاتساع يحول بين بعض العاملين وبين اكتساب المهارة اللازمة للعمل عليها فلا وجود لها في الوطن العربي حيث ما تزال أدوات الانتاج البدائية مستعملة وحيث لا يتوافر في الدول العربية فائض اقتصادي يخصص لتطويرصناعة أدوات الانتاج أو لشراء المستحدث منها فلا تغير أدوات الانتاج فيها إلا عندما تستهلك ـ أما البطالة الموسمية التي يقال أنها لصيقة بالانتاج الزراعي تبعا لمواسم الزرع والحصاد فليس مرجعها إلا أنها ” نوع ” خاص من البطالة بل الى أننا ـ في الزراعة ـ نحدد الفترة الزمانية التي تتخذها مقياسأ لدالة الانتاج بعام كامل فيبدو الناس أنهم عاملون بعض العام وعاطلون بعضه الاخر ـ في حين أننا لو طبقنا هذا المقياس على فروع الانتاج الاخرى لوجدنا ما يسمى البطالة الموسمية غير مقصورة على الزراعة . ففي مجالات الصيد ، و المباني ، والسياحة ، والصناعات القائمة عليها كحلج القطن وتعبئة التمر، وعصر الزيتون والنقل ، والفنادق … تقوم البطالة الموسمية بهذا المعنى . بل إنها قائمة حتى في مجالات الانتاج المستمرة بالنسبة لقطاع من العاملين يكفون عن العمل فترة كل عام وأن كانوا يتقاضون اجورهم (الاجازات) . تبقى البطالة المقنعة وهي ـ فيما نرى ـ واحدة من حالتين تتحقق فيهما البطالة : البطالة الظاهرة وا لبطالة المقنعة .
أما البطالة الظاهرة فظاهر أمرها . انها عدم القيام بأي عمل منتج مع المقدرة عليه . ويرجع هذا النوع من البطالة لسببين كثيراً ما يتفاعلان ويغذي أحدهما الآخر: عدم وجود مجاال للعمل المنتج (فرص عمل) أو توافر موارد للانفاق بدون عمل . في الحالة الاولى يلجأ القادرون على العمل الى الحصول على موارد للانفاق عن طريق العمل غير المنتج : السرقة ، والنصب والشحاذة ، والقوادة ، والمقامرة ، والدعارة … الخ . وفي الحالة الثانية يتحول القادرون على العمل الى قوة استهلاكية فـينفقون أموالهم في الاشباع المباشر لحاجاتهم عن طريق شراء السلع التي أنتجها غيرهم . ولما كانوا عاطلين فإن كل وقتهم وجهـدهم يكون مبذولا في اشباع رغباتهم . ومن هنا يلتف حولهم العاطلون لأنهم لا يجدون عملاً ليحصلوا منهم علىموارد انفاقهم بسرقتهم أو النصب عليهم أو التسول منهم أو المقامرة معهم أو اشباع رغباتهم . فى الدعارة مباشرة أو عن طريق ” التوريد ” … ويكاد يكون من القوانين الاجتماعية أنه حيث توجد البطالة لانعدام فرص العمل توجد الجرائم (العمل غير المنتج) ، وحيث توجد البطالة لانعدام الحاجة الى العمل يوجد المجرمون والضحايا معاً .
والمثال الحي لهذا النوع من البطالة هو بعض الدول والدويلات العربية التي تعتمد في دخلها على عائد البترول وتحول بنياتها الاقتصادية بدون استثماره في مشروعات انتاجية . هنا يعمل نفر قليل أعمالاً منتجة ، كثيراً ما يكون من الوافدين اليها من خارجها ، بينما تظل البقية من الناس مستغنية عن العمل طوال الوقت ( بطالة كاملة ) أو اكثره ( بطالة ناقصة ) اتكالاً على الأموال النقدية التي توزع عليها من عائد البترول على أسس عائلية او عشائرية أو قبلية او إدارية . ويكفي عائد البترول في بعض الحالات في بعض الحالات التي تحول الشعب كله الى جماعة من العاطلين المستهلكين لما ينتجه غيرهم. ان البطالة هناك مختفية تحت ركام الرفاهية الاستهلاكية . وأسباب التخلف ما تزال قائمة وراء جبال السلع المستوردة . وهناك نلتقي بأولى علاقات التجزئة بالبطالة . ففي تلك الدويلات يمثل عائد البترول دخلاً نقدياً يتجاوز بكثير طاقة البنية الاقتصادية على الاستثمار . ولما كان رأس المال النقدي عنصراً من عناصر الانتاج فهو يخضع لقوانين الغلة التي عرفناها . فع ثبات حجم الموارد المادية والبشرية، وهي ضئيلة هناك ، تصبح كمية الانفاق المنتج ضئيلة و يصبح ثمة فائض نقدي كبير متاح فيها. ولما كانت التجزئة تقيم حواجز سياسية و اقتصادية وقانونية تحول دون استثمار ذلك الفائض في مشروعات الانتاج في باقي أجزاء الامة العربية فيكون متاحأ إما للاقراض وإما للاستهلاك . اما عن الاقراض فحصيلته النهائية هي زيادة الفائض النقدي بقدر ما يضاف من فوائد الى القروض، فيعود راس المال وفوائده معاً ليصبحا متاحين للوجه الوحيد الباقي ، الاستهلاك . ومع تضاعف موارد الانفاق بدون عمل تتضاعف البطالة الظاهرة بنوعيها ويتحول قطاع نامي من القادرين على العمل الى قطاع من العاطلين السفهاء تحيط بهم قطاعات نامية من اللصوص والنصابين والمتسولين والمقامرين والقوادين … الخ . اننا لا ندافع هنا عن الفضيل ولكن نكتشف العلاقة بين التجزئة والبطالة، فاذا كنا قد اكتشفنا ان ثمة علاقة بين التجزئة والبطالة التي هي بؤرة الرذائل جميعاً فان على الذين تهمهم الفضيلة ان يدركوا ان الوحدة هي الحل لمشكلة التجزئة . ويبقى ان يدرك الذين يرون الاموال العربية يبددهـا العاطلون ان الوحدة لا تسلب الشعب العربي في دول البترول شيئاً . انها اذ تتيح للاموال فرص الاستثمار المنتج تحول العإطلين في تلك الدول الى منتجين .
ان تكن البطالة الظاهرة تحرم الشعب العربي من بعض امكاناته البشرية فتنتقص من مقدرته على التقدم الاجتماعي بقدر ما يتبدد من قوة العمل في هذه البطالة ، فان ذلك قدر ـ على اي حال ـ محدود . وانما الذي يفتك بقوة ” العمل ” العربي ويكاد يشل مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي المتناسب مع ” عرض العمل ” في الامة العربية ، هو البطالة المقنعة .
ولكل ندرك مدى خطورة البطالة المقنعة في الوطن العربي وعلاقتها الوثيقة بالتجزئة ، ينبغي أن نتذكر أن ” العمل ” من حيث هر عنصر من عناصر الانتاج في يخضع ناتجه للقوانين الثلاثة التي عرفنا. قانون الغلة المتزايدة حيث تؤدي زيادة عدد العاملين الى تزايد الناتج الكلي . ثم قانون الغلة الثابتة حيث تؤدي نسبة الزيادة في عدد العاملين إلى نسبة مساوية لهـا في الناتج الكلي . ثم قانون الغلة المتناقصة حيث تتناقص نسبة الزيادة في الناتج الكلي مع كل عامل جديد الى أن تصبح صفراً . أي أن يصبح العامل الاخير، وكل عامل آخر، عاملا غير منتج وان كان يتقاضى أجراً . كل هذا مع ثبات باقي عناصر الانتاج . وتبدأ البطالة المقنعة في الظهور ابتداء من دخول الانتاج مرحلة الغلة المتناقصة . فالعاملون عندئذ إما انهم لا ينتجون انتاجاً متكافئاً مع مقدرتهم ( بطالة ناقصة) أو أنهم لا ينتجون أصلا (بطالة كاملة) مع انهم يعملون طوال النهار ويتقاضون أجوراً عن عملهم غير المنتج . وتقوم هذه البطالة في حالتين . الحالة الاولى زيادة عرض العمل عن الطلب الفعلي ( فرص العمل المتاحة) . والحالة الثانية انعدام الميزة النسبية المتفقة مع فرص العمل المتاحة . والميزة النسبية ( المهارة ) تلعب دوراً خطيراً في الناتج الحدي للعمل .
اما عن الحالة الاولى فهي من علامات المميزة للبلاد المتخلفة اقتصادياً كثيفة السكان . حيث تكون الزراعة هي المجال الوحيد او الرئيسي للعمل المنتج . وفي الزراعة يعمل الفلاحون ساعات غير محدودة اعمالاً غير منتجة. واذا أخذنا السنة الزراعية مقياساً نجد انهم بحكم موسمية الزراعة يبقون عاطلين فترات زمانية متصلة (البطالة الموسمية) . بحيث يمكن ان تسحب من مجال الانتاج الزراعي نسبة كبيرة من الفلاحين بدون ان ينخفض الناتج الكلي للزراعة . وقد قدر مكتب العمل الدولي ـ بعد الحرب الاوربية الثانية ـ انه لو سحب ” نصف ” المشتغلين بالزراعة في مصر لما انحفض الناتج الكلي للزراعة فيها . ومؤدى هذا ان نصف الفلاحين في مصر كان في حالة بطالة بالرغم من علمهم الدائب في الزراعة . ومع هذ فإن البطالة المقنعة غير مقصورة على الزراعة . ففي كل الحرف الصغيرة التي تعمل بها نسبة كبيرة من العاملين تختفي البطالة المقنعة وراء الجهد المبذول في نشاطات تافهة الانتاج يقوم بها بشر قادرون على العمل المنتج . وعندما نرى في شوارع المدن زحاماً من البائعين الجائلين ، وماسحي الاحذية ، وحاملي اوراق ” اليانصيب “، وحراس السيارات ، نتعرف فيهم على جيوش العاطلين النازحين من الارياف الى المدينة هربأ من البطالة الظاهرة الى البطالة المقنعة . وكل ساعة يقضيها عاطل على مقهى ستكون دلالة على ساعة عمل مبددة . ثم نصعد من الشوارع الى تلك المباني المزدحمة بموظفي الحكومة . وفي موظفي الحكومة تقوم البطالة المقنعة باوراق البيروقراطية . وتبدو هذه البطالة واضحة في الدول العربية التي تحاول ان تتحمل مسؤولية البطالة الظاهرة بتشغيل كل القادرين على العمل . هناك يضاف كل عام الى موظفي الدولة عشرات الالوف من الذين يتخرجون في معاهد التعليم . أو يضاف الى فرص العمل المتاحة في استصلاح الاراضي او الصناعات الناشثة مئات الألوف من الوافدين من الأرياف هرباً من البطالة الظاهرة . ان تشغيل كل هؤلاء هدف في ذاته في أية دولة تتصدى لمسؤولية اتاحة فرصة عمل لكل عامل . وهو لا يقدم عاطلين جدداً ولكن يكشف عن عمق الخلل في البنية الاقتصادية بين عرض العمل والطلب الفعلي عليه . وعندما نرى ان دولة جادة في اتاحة فرص عمل للقادرين عليه تتحول ببطء او بسرعة الى دولة ” بيروقراطية ” تزدحم مكتبها بموظفين لا يعملون شيئاً الا البقاء في مكاتبهم وتعطيل العاملين لأن ليس ثمة شيء يعملونه الا قبض مرتباتهم ، أو نرى عدد العاملين في المؤسسات الانتاجية يتضاعف بدون توسعات مقابلة ، ونجد ان السباق الرهيب بين انشاء المصانع وخلق فرص عمل جديدة وبين عرض العمل محسوم لمصالح البطالة المقنعة ، ندرك امرين أولهما : ان البطالة المقنعة تتزايد سنة بعد سنة بالرغم مما يبدو من زحمة العاملين في مواقع العمل ، وتزايد حجم الاجور التي يتقاضونها . بل ان هذه الزحمة المتزايدة هي المؤشر الى ان البطالة المقنعة متزايدة . الثاني : ان الدولة في مأزق الاختيار بين البطالة المقنعة والبطالة الظاهرة . اما ان تدفع الاجور لمن لا ينتجون فعلأ (بطالة مقنعة) او ان تتركهم لا ينتجون ولا يتقاضون اجوراً (بطالة ظاهرة) . فالبطالة في الحالتين متحققة مما يدل على ان توظيف العاطلين بدون ان ينتجوا او عدم توظيفهم لا يحل مشكلة البطالة . فاذا اضيف الى كل هذا السيل المنهمر من المواليد الجدد والخريجين الجدد والهجرة الداخلية المستمرة من الريف الى المدن يبين لنا ولكل الفلاحين والعمال والحرفيين والبائعين الجائلين والمؤهلين المركونين في المكاتب ، ولكل الامهات والاباء الفرحين بابنائهم القلقين على مستقبلهم ، وللطلبة الذين يتطلعون الى استثمار معرفتهم العملية في عمل منتج ، ان الشعب العربي العامل على وشك الاختناق في قوقعة التجزئة . وانهم ـ اعجبهم الأمر ام لم يعجبهم ـ عاطلون بالرغم من كل ما يعلمون وبالرغم من الاجور التي يتقاضونها ، والناشؤون منهم والمواليد الجدد لا ينتظرهم شيء في نهاية الطريق سوى البطالة المقنحة ولو كانت تنتظرهم الوظاثف والاجور . إذ حيث يكون عرض العمل اكثر من الطلب عليه لا يكون امام القادرين على العمل الا ان يختارو بين البطالة الظاهرة او البطالة المقنعة . و كلاهما اهدار لقوة العمل العربي ولا حل لكل هذا الا بالوحدة . ان الوحدة لا تسلب الشعب العربي الذي يزيد عرض العمل فيه عن طلبه شيئأ سوى البطالة . وهي تقدم لكل العاطلين العمل المنتج في وطنهم العربي الكبير . ان ذات قوة العمل المتاحة في الوطن العربي تستطيع ان تنتج في ظل الوحدة اضعاف ما تنتجه دولتها الاقليمية . وهكذا تؤدي التجزنة في الدول العربية التي يزيد فيها عرض العمل عن طلبه الى حرمان الشعب العربي من قدر فائق من قوة العمل فتسلب من مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي بقدر ما تحرمه .
وإذا كان الاقليميون يحسبون أن العلاقة بين التجزئة والبطالة المقنعة غير قائمة إلا في الدول العربية كثيفة السكان فإنهم مخطئون .
ان البطالة المقنعة في الدول العربية الأقل كثافة في السكان اكثر تبديداً لعناصر الانتاج منها في الدول كثيفة السكان . ذلك لأن الناتج الحدي لعنصر العمل لا يتوقف على العرض وحده ، بل يتوقف ـ ربما بدرجة اكبر ـ على الميزة النسبية (المهارة) . وعندما يكون عرض العمل قليلاً بالنسبة الى طلبه ترتفع الأجور. فيتجه العمل الى فروع الانتاج التي تدفع أعلى معدل من الأجور بصرف النظر عن الميزة النسبية في العمل ذاته . وتكون تلك الفروع مضطرة الى تشغيل عمال عاجزين عن الوصول بالانتاج الى مستواه الحدي ، جاءوا اليها ـ تحت اغراء الأجورـ من فروع اخرى كانوا يحققون فيها الناتج الحدي . وهكذا يتجمع عرض العمل كله ، أو أغلبه ، حول فروع محددة ومحدودة الانتاج ، لا لأن العمل فيها اكثر انتاجاً ، بل لأن الاجور فيها مرتفعة . فتتحقق ” كثافة ” عرض العمل حول تلك الفروع . ونحن نعرف ما تؤدي اليه هذه الكثافة من بطالة مقنعة . ولكن الأمر هنا يكون اكثر تبديداً لموارد الانتاج . لأن الكثافة التي اصطنعتها الاجور المرتفعة تكون ـ مع قلة عرض العمل أصلأ ـ على حساب فروع الانتاج الاخرى التي قد يصل الأمر بها الى التوقف عن الانتاج لانعدام العمل المعروض، تاركة الموارد المتاحة مهددة بدون استثمار .
هذا النوع من البطالة بآثاره المدمرة قائم على أوسع نطاق في أغلب الدول العربية يبدد طاقات الشعب العربي فيها ولا يفلت منها ـ تقريبأ ـ إلا الشعب العربي في مصر. ففي كل الدول العربية التي حصلت فجأة على موارد البترول ( العراق ، الخليج ، الجزيرة العربية ، ليبيا ) ، أو على مشروعات انتاجية تركها أصحابها (الجزائر) ، أو حيث عرض العمل ضئيل أصلاً (السودان) ، أو حيث تجذب المؤسسات الرأسمالية الناس الى خدمتها في أعمال غير منتجة كالوساطة والسمسرة والمقامرة والمضاربة ( لبنان) تتجمع قوة العمل تجمعاً كثيفاً حول المصادر التي تدفع أعلى الأجور، تاركة موارد الانتاج الاخرى بدون استثمار . وتكاد بعض تلك الدول أن تكون عبارة عن مدينة أو اكثر لا نسبة بين كثافة السكان فيها وكثافتها خارج المدن . في وسط هذه الكثافة تقوم البطالة المقنعة بين الذين يتقاضون الاجور المرتفعة ، وخارج المدن تمتد ملايين ملايين الأفدنة من الارض الخصيبة والمزارع المهجورة والمعادن المطمورة بدون استثمار لأنها لا تجد عنصر العمل اللازم لتحويل الموارد الى منتجات . ويبقى العاطلون في المدن مشغولون بإقامة المباني والملاهي والنقل والفنادق وتجارة السلع الاستهلاكية … الخ مع انه لو سحب ثلاثة ارباعهم من المدن لما تأثر الانتاج في الفرع الذي يعملون فيه او يلتفون من حوله . ويستوردون كل سلعة حتى الخضروات بينما وراءهم الارض الخصيبة ممتدة الى ما لانهاية ولكن عاطلة. ذلك لأن التجزنة تقيم حواجز سياسية واقتصادية وقانونية تحول دون ان يلتقي كل مورد بالعمل اللازم له كمياً ونوعياً . فتبدد البطالة المقنعة قدراً من كفاءة العمل المبذول في غير موضعه وتبدد الموارد التي لا تجد عملأ يبذل فيها . وتكون الحصيلة عجزالشعب العربي في كل دولة على ان يتقدم بقدر ما هو متاح فيه من بشر وموارد . ولا حل لمشكلة بطالة البشر وتبديد الموارد في الدول العربية ذات الكثافة المنخفضة في السكان إلا بالوحدة . ان الوحدة لن تسلب الشعب العربي في أي منها شيئاً . لن تسلبه فرص العمل المتاحة ولكنها تقدم العاملين لفرص العمل الضائعة .
وهكذا نرى ان الوحدة تعيد التوازن الى عرض العمل وطلبه في الأمة العربية كلها وفي كل جزء منها على حدة ، فيجد كل عامل العمل الذي يتفق مع ميزته النسبية . وهو ما يعني ان كل عامل سيصل في ظل الوحدة ، بذات الجهد الذي يبذله في ظل التجزئة ، الى ناتج حدي اكثر ارتفاعأ . هذا الفرق بين الناتج الحدي لعنصر العمل في ظل التجزئة وناتجه الحدي في ظل الوحدة ، مع ثبات كافة عناصر الانتاج الاخرى، يمثل ما تبدده البطالة بالنسبة الى كل قادر على العمل في الوطن العربي . فلو افترضنا ـ للايضاح ـ ان نصف الشعب العربي ، أي خمسين مليوناً ، هم وحدهم القادرون على العمل ، وان متوسط الفارق في الناتج الحدي لكل عامل يساوي ناتج ساعتي عمل يومياً ، لكان ما تبدده التجزئة من قوة العمل العربي مساوياً لناتج مائة مليوناً من ساعات العمل يومياً . أي ما يساوي ناتج عمل اثني عشر مليوناً من العاملين باعتبار يوم العمل ثماني ساعات . او لكانت التجزئة سببأ في بطالة 25% من الشعب العربي العامل . وهو أمر يبدو مفزعاً .
إلا أن مبررات الفزع لم تنته بعد .
إذ أين تقوم تلك البطالة المفزعة ؟ … في الأمة العربية المتخلفة أو النامية. حيث تمثل الزراعة المصدر الأساسي للانتاج . وحيث يكون حل المشكلات الاقتصادية فيها متوقفاً على إضافة مصادر أخرى للانتاج أهمها ـ كما هو معروف ـ الصناعة . والصناعة تحتاج الى أموال وفيرة للاستثمار وأدوات إنتاج حديثة، وتدريب طويل للبشر، وخبرات علمية ، ومؤسسات للبحوث والتجارب ، ومعاهد لاعداد المتخصصين ، وأهم من هذا فترة من الزمان ” للانشاء ” . وهي فترة بالغة الأهمية والخطورة في المجتمعات النامية . إذ خلالها لا يكون ثمة إنتاج صناعي أصلأ أو يكون الناتج الصناعي ناتجاً غير إقتصادي . فمن أين يمكن لمجتمع نام أن يحصل على رؤوس الأموال (النقدية والعينية) ليواجه متطلبات مرحلة الانشاء الصناعي ؟. إنه السؤال المطروح بقوة على كل المجتمعات النامية والذي يمثل بالنسبة إليها أخطر مشكلات تخطي حاجز التخلف . مشكلة تكوين ” فائض إقتصادي ” يتاح للتنمية الصناعية . أي أن تحقيق من الانتاج من مواردها المتاحة ناتجأ كلياً بالغأ من التفوق درجة تسمح بتغطية الحاجات الاستهلاكية ثم يفيض منة ما يكفي للاستثمار في المشروعات الصناعية ، والموارد المتاحة هنا ـ أساساً ـ هي الأرض المزروعة والقابلة للزراعة . فمع الحد من الاستهلاك يمكن استثمار الأرض الى أقصى كفاءة إنتاجية تسمح بتكوين فائض إقتصادي لمواجهة متطلبات الإنشاء الصناعى أو الجزء الأكبر منها . كما يمكن استثمار فائض العائد النقدي من الموارد الأخرى في تغطية باقي المتطلبات . وقد عرفنا من قبل كيف أن التجزئة لا تحول ـ فقط ـ دون استثمار الأرض العربية الى أقصى كفاءة إنتاجية بل إنها تحولها الى موارد مهجورة وعاطلة . كما انها تحول دون استثمار فائض العائد النقدي من الموارد الأخرى . (البترول والمعادن) في مشروعات إنتاجية وتحوله الى أموال استهلاكية . فهي تحول ـ على المستوى العربي كله ، وفي كل جزء منه ، دون تكوين فائض إقتصادي كاف لتخطي حاجز التخلف بدون حرمان مرهق للشعب العربي . انها ـ باختصار ـ تسلب الشعب العربي جزءاً كبيراً من مقدرته على تجاوز التخلف لانها تحرمه من الفائض الاقتصادي الذي يمثل أكبر قدر من هذه المقدرة . فلا يبقى أمام الشعب العربي ـ في ظل التجزئة إلا الاقتراض لمواجهة متطلبات التحول الصناعي . والاقتراض لا يحرم الشعب العربي من ثمار عمله طوال الفترة اللازمة لإنشاء المصانع وتشغيلها الى أن لي يصبح الانتاج فيها إقتصادياً فحسب بل تضيف إليها أيضأ فترة حرمان أخرى تمتد الى أن تسدد القروض وفوائدها . وهكذا يمكن ـ في ظل التجزئة ـ أن يبدأ التحول الصناعي ويفني جيل كامل من الشعب العربي حياته يعمل ويكدح وينتج ويشقى لسداد القروض وفوائدها بدون أن تتاح له فرصة الحياة الأفضل المتكافئة مع إنتاجه الفعلي . هذا بينما البطالة تبدد الأموال وتميت الأرض وتبقي على موارد الانتاج عاطلة . كل هذا إذا كانت التنمية الصناعية عن طريق الافتراض لا تنطوي على تبعية إقتصادية . أما إذا انطوت فقد عدنا مرة أخرى لنلتقي بالعلاقة الوثيقة بين التجزئة والاستعمار أو العلاقة الوثيقة بين الوحدة والتحرر.
ونعود فنقول أن عنصر ” العمل ” ليس الا مثلا . وإننا نصل الى ذات النتيجة ” السالبة ” أياً ما كان عنصر الانتاج الذي نبحثه . ونصل إليها لو كان بحثنا منصباً على التوزيع أو الاستهلاك . في أي مجال نعمل ، وأياً ما كانت الغايات التي نريد أن نحققها، سنجد ذلك ” الفرق” بين مقدرة الشعب العربي على تحقيق ما يريد في ظل التجزئة وبين مقدرته في ظل الوحدة . ويصدق هذا على كل جزء من الأمة العربية بدون إستثناء . ونتبين منه أن ” واقع التجزئة ” يحرم الشعب العربي ” بعض مقدرته على التقدم الاجتماعي الممكن ـ موضوعيأ ـ في ظل الوحدة . فنعرف أن التجزنة قيد يشل مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي المتكافيء مع الإمكانيات البشرية والمادية المتاحة فعلاً في الأمة العربية . وهو ما يعني ـ قي التحليل الأخيرـ أن مستوى معيشة الشعب العربي في ظل التجزئة هو أدنى ، وسيظل ، في كل الظروف وفي كل جزء من الأمة العربية ، أدنى من مستوى معيشته في ظل الوحدة . وبالتالي تمثل الوحدة بالنسبة الى الشعب العربي ، دائماً وفي كل جزء من الأمة العربية ، حياة أفضل . أفضل بكثير من أية حياة يحققها في ظل التجزئة وفي أي جزء من الأمة العربية . ويكون من حقنا أن نقول ، وأن نردد ، وأن نتأكد فنؤكد ، أن الاقليمية فاشلة . لا فاشلة في أن تحقق للشعب العربي في الدول العربية أي تقدم إجتماعي ، ولا حتى في تحقيق أفضل حياة تتفق مع بنيتها الاقتصادية ، بل فاشلة في أن تحقق للشعب العربي في أية دولة عربية ، من التقدم الاجتماعي والحياة الأفضل، ما يمكن ـ موضوعيأ ـ أن يحققه الشعب العربي لنفسه في ظل الوحدة .
(4)
49 ـ التعاون أم الوحدة ؟
بحكم الواقع الموضوعي لا يكف الاقليميون عن مواجهة متاعب الفشل في دولهم الاقليمية . إن خطواتهم متعثرة دائماً . فينقسمون الى طائفتين : الطانفة الآولى تنسب كل متاعبها الى العلاقات العربية وتحاول ما استطاعت ، فكرياً وسياسياً وإقتصادياً ودعائياً ، أن تثبت أن الأمة العربية وهم غير موجود ، وأن الخضوع لهذا الوهم هو ما يجر دولهم الى تبديد بعض مواردها في غير المجالات التي ينبغي أن تسخر فيها. ويبلغ الأمر ببعضهم الى اعتبار ” أممهم العريقة ” ما تزال منذ أربعة عشر قرناً في قبضة ” الغزو ” العربي ، و قد يحلمون أحلاماً قريبة من أحلام الصهيونية : إسترداد أرضهم بحدودها التاريخية خالية من العرب . إنهم ـ ببساطة ـ يريدون أن يلغوا كل التاريخ الحضاري الذي تطورت خلاله الشعوب طوال أربعة عشر قرناً ليعودوا الى شعوبيتهم البدائية الأولى . وعندما يواجهون بمشكلات التخلف والتنمية التي ” تهم الناس أولأ ولا تحلها المتاجرة في البقايا الأثرية من التاريخ القديم ، لا يترددون لحظة في تقديم إحدى الدول الأوربية أو الأمريكية المتقدمة كبديل في التعامل عن الدول العربية . ولما كان إلغاء التاريخ مستحيلأ فإنا نعرف ان هذا ” الإستدلال ” هو ـ في النهاية ـ المقصود من وراء كل ما يقوله ويفعله هؤلاء الاقليميون . ولعلنا نذكر أن ” مصر قطعة من أوربا ” كانت شعار المرحلة التي تم فيها الاحتلال الأوربي لمصر. وأن عملاء الاستعمار الفرنسي في المشرق العربي . وفي المغرب أيضاً ، كانوا يرضعون التبعية من خلال علاقة البنوة بالوطن الأم ” فرنسا ” الفخورين بالحماية في أحضانها . والآن يقدم هؤلاء الأقليميون ” بدائل ” أخرى من أوربا أو أمريكا . هذه الطائفة واقعة نهائياً وكليأ في قبضة القوى الاستعمارية وهي الأداة التي تعمل ، واعية أو غير واعية ، لخدمة مخططات الاستعمار الجديد في الوطن العربي . غير أننا يجب أن نقرر بحسم وبمنتهى الوضوح أن هذه الطائفة الأقليمية المرتدة تغذيها وتحالفها طائفة أخرى من أدعياء القومية العربية الذين يتوهمون أن الشعب العربي هو سلالة تلك الجماعات القبلية التي حملت راية الإسلام من الجزيرة العربية ، أو أن الوطن العربي كان خالياً من البشر قبل أن يصبح وطناً عربياً ، أو أن الأمة العربية هي أول ” مجتمع ” ذو حضارة في هذا الجزء من العالم ، أو أن الحضارات القبلية والشعوبية السابقة على تكوين الأمة العربية قد اندثرت بدون أثر فلم تختلط وتتفاعل وتتطور لتكون هي ذاتها الحضارة العربية . هؤلاء يقعون في ذات الخطأ الذى يقع فيه أولئك إذ يضعون الأمة العربية والشعوب السابقه عليها في مواجهة زمانية واحدة بحيث لا يكون وجود أحدهما إلا نفياً لوجود الاخر. و كما يحاول أولئك ـ عبثأ ـ إلغاء أربعة عشر قرناً من التاريخ يحاول هؤلاء ـ عبثاً أيضاً ـ إلغاء عشرات القرون من التاريخ . وكلها أخطاء لأن التاريخ متصل . في هذا الفهم البدائي للأمة تبدو القومية قهراً وليست تطوراً ، وتبدو الوحدة سلباً وليست إضافة . وعندما تواجه هذه الطائفة ” القومية ” بمشكلات التخلف والتنمية التي تهم الناس أولاً ولا تحلها المتاجرة في الأمجاد التاريحية يقفون عاجزين . كأن الحياة كلها ستتوقف الى أن تتم الوحدة العربية . ولا تزيد هذه الطائفة عن أن تكون اداة تعمل، واعية أو غير واعية. لخدمة مخططات الاستعمار الجديد في الوطن العربي . وتقوم بينها وبين الطائفة الأولى تلك العلاقة الوثيقة بين الفعل الخاطيء ورد الفعل الخاطيء.
ثم تأتي الطائفة الثانية من الاقليميين . اولئك الذين يريدون حقاً ، ويعملون فعلأ ، على تجاوز التخلف في الدول العربية . فيتطلعون الى الموارد المتاحة في الوطن العربي خارج دولهم . ولما كانوا يرفضون الوحدة فإنهم يطرحون ” التعاون ” بين الدول العربية بديلأ عن الوحدة . ويقولون ، أو يمكن أن يقولوا، يكفي للتغلب على التخلف الذي تنسبه الى التجزئة ، تبادل الموارد وتبادل الخبرات وتبادل المنتجات والتسهيلات الائتمانية … الخ . ولا شك في أن التعاون بين الدول مثمر ومفيد بالنسبة الى كل الدول المتعاونة ـ بدون تبعية ـ سواء كان تعاوناً بين الدول العربية أم بين الدول كافة . ولكن التعاون هو عملية مبادلة لا يقدم أحد فيها شيئأ إلا مقابل شيء يأخذه . وهو لا يستطيع أن يقدم إلا من فائض عنده . ليس كل فائض عنده ولكن ذلك الجزء من الفائض الذي يستطيع الطرف الآخر ان يقدم من الفائض عنده مقابلاً له . ثم يسوى ” الحساب ” بعد كل فترة من الزمان ( سنة عادة) . فإذا تأكد كل طرف أنه قد استرد المقابل الكامل لما قدم ثم زاد عليه تبدأ فترة تعاون جديدة ، وإلا ، انفض التعاون . وهنا ترد اول ملحوظة على دعوة التعاون ” العربي ” .
لماذا يقصر الاقليميون هذا التعاون على الدول ” العربية ” وحدها ؟ .. لماذا لا تتعاون ـ مثلاً ـ العراق مع ايران ، وسورية مع تركيا ، والجزائر مع فرنسا ، والمغرب مع اسبانيا ، والسودان مع الحبشة ؟.. الخ . يقولون لأن الدول العربية دول ” عربية “… ان ” العروبة “، تجمعها جميعاً في رابطة ” اخوة ” . وهو كلام جميل ولكنه كلام انشاثي يصلح للخطب الرنانة ولا يصلح لحل مشكلات التقدم الاجتماعي . اذ ما الذي تعنيه العروبة والاخوة اذا لم تكن تعني الانتماء الى مجتمع واحد ؟ .. وما الذي يعنيه الانتماء الى مجتمع واحد اذا لم يكن يعني وحدة المشكلات الاجتماعية فيه ؟.. وما الذي تعنيه وحدة المشكلات الاجتماعية اذا لم تكن تعني وحدة حلولها ؟ . و ما الذي تعنيه وحدة حلولها اذا لم تكن تعني وحدة أداة حلها ؟.. وما الذي تعنيه وحدة أداة حلها اذا لم تكن تعني الوحدة السياسية ؟.. ان ” العروبة ” و” الاخوة ” و ” المصير الواحد ” .. ومثيلاتها من الكلمات الكبيرة ، ان لم تكن تعني ، في النهاية ، الوحدة السياسية فهي كلمات ” فارغة ” يختفي فيها الاقليميون لمحاولة الاستيلاء على ما يعتقدون انه مملوك لغيرهم ملكية خاصة تحت شعار ” التعاون العربي ” . ” التعاون العربي ” بالذات وليس ” التعاون الدولي، عامة. ولسنا نشك لحظة في ان هذه الطائفة ” الانتهازية ” اكثر تعويقاً للوحدة العربية من الطائفة الاقليمية التي ترفض صراحة الانتماء العربي . كلاهما معادية للقومية وتزيد الاولى على العداء تضليلأ . وما يزال المنافقون اشد اضراراً من الكافرين .
ثم تأتي ملحوظة ثانية عن ” التعاون العربي ” كبديل للوحدة . ان الواقع العريى ـ لسوء حظ الاقليميين ـ يحول دون ان يصل التعاون ، بين الدول العربية بالذات الى مثل ثمار التعاون بين الدول عامة . وذلك من ناحيتين :
الاولى هي ان الدول العربية جميعاً دول متخلفة او نامية . وتشكل المواد الخام والحاصلات الزراعية المصدرين الاساسيين لموارد التنمية فيها . او في اكثرها نمواً .. وقد يستطيع التعاون ان يصحح قدراً من الخل في البنية الاقتصادية الراجع الى توزيع المواد الخام والأرض الزراعية بين الدول العربية . ولكن عندما تريد اية دولة عربية ان تتجاوز هذا المستوى المتخلف من البنية الاقتصادية لتدخل مرحلة ” الصناعة ” لا يفيدها ” التعاون العربي ” شيئاً . إذ ليس في اية دولة عربية فائض صناعي (ادوات انتاج وصناعات تكميلية) تتبادل بها اية دولة عربية اخرى . ومن هنا ستلجأ الدول العربية، واية دولة عربية ، الى ” التعاون ” مع الدول المتقدمة صناعيأ لتحصل على متطلبات التصنيع . وهي اذ تقدم فائض ما تملك من مواد خام او حاصلات زراعية للدول ” المتقدمة ” لن تحصل من ادوات التقدم الا بقدر هذا الفائض وهو ضئيل وفي كل الحالات غير كاف لاقامة صناعة حديثة . ثم انها بعد ان تشتري بفائض المواد الخام والحاصلات الزراعية من الدول المتقدمة لن يكون لديها فانض منها تقدمه لأية دولة عربية هي في حاجة اليه . فينتهي “ التعاون العربي الاخوي ” الى ان يكون كلاماً في خطب او حبراً على ورق . والدليل على هذا انه بالرغم من دعوة التعاون العربي القديمة ، والمستمرة ، ما يزال حجم التبادل التجاري (التصدير والاستيراد) . بين كل دولة عربية على حدة وبين الدول ” غير العربية ” اكبر بكثير من حجمه بينها وبين الدول العربية الباقية مجتمعة . ان الصادرات تخرج من كل بلد عربي الى خارج الوطن العربي لتحول بلد عربي آخر الى استيرادها من خارج الوطن العربي ، لأن السلع ” الوسيطة ” في المبادلة غير متاحة في اي بلد عربي .
الناحية الثانية هي ان التعاون يتضمن ، دائماً وفي كل الظروف وبين كل الدول ، المنافسة . المنافسة التي قد تصل الى حد ” اغراق ” السوق في احد الدول بمنتجات تباع باقل من سعر تكلفتها بقصد شل مقدرتها على الانتاج . بمعنى ان كل دولة تعاون دولة اخرى تكون حريصة ـ قبل كل شيء ـ على الا يؤدي هذا التعاون الى الاضرار بمصالحها الاقتصادية مهما تكن الدولة الاخرى في حاجة الى ذلك الذي تعتبره الدولة الاولى ضاراً . ويؤدي هذا ـ مع استبعاد الرغبة في السيطرة الاقتصادية ـ الى ان يبقى التعاون قائماً عند الحد الادنى المشترك بين المتعاونين وهو قانون . لو طبقناه على مستوى الوطن العربي لوجدنا ان حجم التعاون ومضمونه ومداه بين دولتين عربيتين او اكثر يكون محكوماً بالبنية الاقتصادية الاكثر تخلفاً . ولو استطاع ان يكون ” تعاوناً عربياً ” شاملأ وجماعياً لما استطاع ان يتجاوز المدى الذي تحدده اكثر الدول العربية تخلفاً . والدليل على هذا ان الدول العربية قد انشأت من خلال جهاز التعاون فيما بينها (الجامعة العربية ) منذ سنة 1950 ” المجلس الاقتصادي المشترك ” و ” اتفاقية الوحدة الاقتصادية ” بأجهزتها (مجلس الوحدة الاقتصادية واللجان الدائمة والمكتب الفني الاستشاري) ، ثم انشأت منذ سنة 1964 ” السوق العربية المشتركة ، ثم وافقت في سنة 1967 على انشاء ” صندوق الانماء الاقتصادي والاجتماعي العربي “… وما يزال كل هذا حبرأ على ورق . اما الدول التي تبقيه حبرآ على ورق فهي اكثر الدول العربية تخلفاً . ولا بأس في ان نضرب المثل المؤلم ” ليكون واضحاً وان كان قاسياً لمن يريد ان يرى بوضوح ولو من اجل الا يتألم انه لا جدوى من وراه تجاهل حتمية القوانين التي تضبط حركة الاشياء والظواهر، وانه في نطاق التعاون يكون المتخلف هو المتحكم في مضمونه ومداه . ففي السنين السابقة على سنة 1967 كانت القوات المسلحة في الدول المحيطة باسرائيل تخضع لاتفاقيات تعاون وصلت الى حد تعيين ” قيادة موحدة “. وكان التعاون بين حكومة سورية والجمهورية العربية المتحدة يخضع لاتفاقية الدفاع المشترك التي انضمت اليها في يونيو 1967حكومة الاردن . فلما ان اختبر التعاون العسكري في حماية مشروع تحويل نهر الاردن حددت مضمونه ومداه اضعف الدول عسكرياً . ولما تأزمت الامور في الاشهر السابقة على معارك يونيو (حزيران) 1967 كان الذي حدد مضمون قرارات الجمهورية العربية المتحدة هي قرارات الحكومة في سورية . فلما اندلع القتال كان مضمون التعاون في الجبهة الشمالية محكوماً من قبل بارادة حكومة دمشق . أما ما انتهى اليه هذا التعاون فهو معروف .
ثم نأتي الى الملحوظة الثالثة . لو تم التعاون بين الدول العربية على أحسن ما يمكن فما الذي يؤدي اليه ؟ سيؤدي الى ان تستفيد كل دولة عربية منه بقدر ” الفائض الاقتصادي ” فيها . وهو أقل بكثير مما يتحقق للشعب العربي فيها في ظل الوحدة . أما السبب فلا بد أن يكون قد عرفناه . اذ طبقاً لذات القوانين الاقتصادية التي عرفناها من قبل يكون الفائض الاقتصادي في دولة الوحدة اكثر بكثير من مجموع الفائض الاقتصادي للدول العربية مجتمعة ، ان وجد . وهو ما يعنى ان الشعب العربي يستطيع ـ في ظل الوحدة ـ ان يحصل عن طريق الفائض الاقتصادي القومي (استثماراً ومبادلة) من متطلبات التقدم الاجتماعي لكل جزء من الأمة العربية اكثر بكثير مما يستطيع ان يحصل عليه في ظل التجزئة . اي ان ” التعاون العربي ” في احسن ظروفه يفشل في ان يحقق للشعب العربي ما تحققه الوحدة . والفرق تسلبه التجزئة من مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي .
مؤدى هذا ان التعاون بين الدول العربية ليس فشلا محضأ . انه قادر على ان يحقق للشعب العربي في كل دولة ذلك القدر الذي يتفق مع قواعد وقوانين التعاون بين الدول المستقلة . بشرط أن يفهم ويطلب ويتم ويمارس على اساس انه تعاون بين دول ذات مصالح مشتركة ، وفي نطاق تلك المصالح المشتركة، بعيداً عن ” التمحك ” بالعروبة وابعد ما يكون عن القومية . بل نزيد فنقول انه كلما طلب وتم بعيداً عن العروبة والقومية نجح فيما يستطيع وسلمت الأمة العربية من مسئولية عجزه . فهو يحقق ما يتفق مع “الاقليمية ” ولا ينسب فشله إلى ” القومية ” . نقول هذا ـ بوجه خاص ـ إلى بعض ” القوميين ” الذين كلما فشل التعاون بين الدول العربية صبوا جام غضبهم على واحدة أو أكثر من الحكومات في تلك الدول واتهموا الحاكمين أو بعضهم إلى ما قد يصل إلى حد التآمر أو الخيانة ، ولسنا نبرىء الاقليميين ولا ندافع عن الأقليمية . انما الذي يهمنا أن يصحح بعض ” القوميين ” بعض اخطائهم . انهم إذ يغضبون لفشل التعاون بين الدول العربية في أن تقدم إليهم ما لا يمكن ان تقدمه إلا الوحدة تكون الرواسب الاقليمية ما تزال مختلطة بمنطلقاتهم القومية فيخطئون . انهم ـ بفعل تلك الرواسب ـ يبنون آمالاً كاذبة على التعاون بين الدول العربية وعندما لا تتحقق آمالهم يغضبون بدلاً من أن يتعلموا من خيبة الامل الا يعقدوا على التعاون العربي آمالأ أكثر مما يطاق ، وأن يحتفظوا بآمالهم الطموحة للاداة القادرة على الوفاء بها : الوحدة . وإلا فلماذا يغضبون لو كانوا واثقين من صحة المنطلقات القومية التي تحتم أن تكون الاقليمية فاشلة فى أن تحقق ما لا يتحقق إلا في ظل الوحدة ؟… ثم ما هو مبرر الوحدة إذا كان التعاون بين الدول العربية يستطيع أن يحقق للشعب العربي من أسباب التقدم الاجتماعي كل ما تحققه الوحدة ؟.
إذا كان قد ثبت لنا ـ علمياً ـ الفرق بين مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي في واقع التجزئة ولو في نطاق التعاون العربي ، وبين مقدرته ـ بذات الامكانيات ـ على التقدم الاجتماعي في ظل الوحدة ، فذلك تأكيد جديد لصحة نظريتنا القومية . وعلى ضوئه نستطيع ـ بسهولة ـ أن نحدد الشكل الدستوري لدولة الوحدة القومية .
(5)
50 ـ دولة الوحدة العربية :
عرفنا ( فقرة 24 ) أن ” للسيادة مفهوماً ذا حدين : سيادة الشعب على أرضه دون الشعوب والجماعات الاخرى ( الاختصاص بالأرض) . وسيادة كل الشعب على أرضه ( المشاركة فيها) . ولما كان الشعب مكوناً من أفراد عديدين فانه يمارس سيادته في حديها من خلال أفراد يمثلونه وينوبون عنه ويكونون مسئولين أمامه. أولئك الذين يطلق عليهم لفظ الحكومة . هنا تبقى السيادة للشعب وتمارس الحكومة السلطة نيابة عنه . ثم توزع وظائف السلطة على أجهزة متخصصة في التشريع أو التنفيذ أو القضاء… ويصاغ كل هذا في عديد من القواعد الملزمة لكل واحد من الشعب أياً كان موقعه . وبمجموع تلك القواعد يتحول المجتمع إلى مؤسسة منظمة، منظمة بمعنى أن علاقة الناس فيها بالأرض وعلاقاتهم فيما بينم وعلاقاتهم بمن ينوبون عنهم في ممارسة السلطة تكون محددة بقواعد ملزمة لهم جميعاً ولكل واحد منهم . ونلتقي هنا بكلمة الشرعية . أي اتفاق السلوك الفردي أو الجماعي مع قواعد ذلك النظام القانوني . ويصبح غير مشروع كل سلوك لا يتفق معها . تلك القواعد التي تضبط سلوك الناس في مجتمع منظم هي ما يسمى ” بالقوانين ” التي تطلق عليها بدورها اسماء شتى من أول الدستور (القانون الأساسي) إلى آخرالأوامر الإدارية . المهم أنه أياً ما كان اسم القاعدة الملزمة فهي جزء من نظام قانوني (حقوقي) غايته أن يضبط سلوك الناس في المجتمع على قاعدتين تمثل كل منهما حداً من حدي السيادة : الأولى اختصاص الشعب بالأرض دون غيره . والثانية مشاركة الشعب في أرضه . وعندما يقوم هذا النظام في أي مجتمع يتحول المجتمع إلى ” دولة ” بعناصرها التي يعرفها فقهاء علم القانون : الشعب ، و الأرض ، والسلطة (السيادة) … وعندما نكون في مواجهة أمة فان وحدة الوجود القومي تحتم وحدة الدولة فيها . بمعنى أن الدولة القومية التي تشمل الشعب والوطن كما هما محددان تاريخياً هي وحدها التي تجسد الشعب على وطنه ومشاركته التاريخية فيه. وهي لا بد أن تكون شاملة البشر والأرض جميعاً لتكون دولة قومية مكتملة السيادة . إذ عندما يخرج من نطاقها أي جزء من الشعب يكون هذا الجزء قد حرم من ممارسة سيادته على وطنه ، وعندما يخرج من نطاقها أي جزء من الوطن يكون الشعب قد حرم من ممارسة سيادته على ذلك الجزء من الوطن “ .
هذا واضح من حيث أن الدولة القومية تجسد، بشمولها الشعب كله والوطن كله ، اختصاص الوطن بالشعب . ولكن كيف تجسد الدولة القومية ـ بنظامها الداخلي ـ اشتراك الشعب في الوطن ؟… أن أول ما يثيره السؤال هو معرفة الشكل الدستوري لدولة الوحدة الذي يتفق مع هذه المشاركة ويجسدها . وفي الشكل الدستوري كلام كثير واراء متباينة تثير غموضاً كثيراً . وقد يكون مرجع هذا إلى أن آراء فقهاء علم القانون في المشكلة الدستورية ما تزال متباينة أو إلى اننا أن نرجع إليهم وتستعيد لغتهم ثم نترجمها تبدو لنا آراؤهم غامضة .
فمنذ قرن لا يكف فقهاء علم القانون عن تقسيم الدول الى أنواع ثم العودة الى تقسيمها متخذين من الدول في اوربا وامريكا نماذج للأنواع . وعندما يستعصي عليهم إلحاق دولة ما بنوع مما يعرفون يقولون انها دولة من نوع خاص . فنقرأ لهم ونسمع نقلاً عنهم ان الدول قسمان : دول بسيطة ودول مركبة . وان الدول المركبة انواع أربعة : فمنها الدول ” الفيدرالية ” ( الاتحادية) ، ومنها الدول ” الكونفيدرالية ” (التعاهدية) ، و منها دول ” الاتحاد الشخصي ” ومنها دول ” الاتحاد الفعلي ” ، بالاضافة الى دول من “ نوع خاص ” .
أما الدول ” البسيطة ” ـ عندهم ـ فهي التي تمارس السلطة فيها حكومة مركزية واحدة . أما الدول المركبة فهي التي نشأت ابتداء من دولتين أو أكثر . وتكون تلك الدولة الجديدة ” فيدرالية ” اذا كان دستورها (قانونها الآساسي) يبقى في داخلها وحدات اقليمية (ولايات) تقوم فيها حكومات تقتسم ـ في الاقليم ـ السلطات مع الحكومة المركزية مع بقاء الحكومة المركزية ممثل لدولة “الفيدرالية ” كلها في العلاقات الخارجية . وتكون ” الدولة ” الجديدة اتحاد ” كونفيدرالياً ” (تعاهدياً) بين دولتين أو أكثر تنشيء فيما بينها هيئات مشتركة تنوب عنها جميعاً في ممارسة بعض السلطات الداخلية أو الخارجية التي تحددها المعاهدة المنشئة للاتحاد . وقد يصل الاتفاق الى حد أن يكون للهيئات المشركة حق التمثيل الدبلوماسي ، وإعلان الحرب وإبرام الصلح نيابة عن دول الاتحاد ومع ذلك تظل كل دولة في الاتحاد محتفظة لسيادتها مستقلة بها عن دول الاتحاد الاخرى . أما ” الاتحاد الشخصي ” فهو اشتراك دولتين أو أكثر، مستقلتين تماماً ، في شخص رئيس الدولة . أما ” الاتحاد الفعلي ” ( او الحقيقي ) فهو اتحاد شخصي تضاف اليه هيئات مشتركة تمثل الدولتين في العلاقات الخارجية وبعض الشئون الداخلية .. الخ . ونكون معذورين اذا اختلطت علينا الاسماء والمفاهيم خاصة اذا أضيف الى نماذج الدول تلك ذلك النموذج المعروفة بانه ” دولة من نوع خاص ” .
غير ان الأمر يصبح أكثر بساطة ووضوحاً إذا انتبهنا الى أمرين : الأول عدم الخلط بين نوع الدولة والأسلوب الذي قامت به . والثاني التمييز بين حق السيادة وممارسته . أو كما عرفنا من قبل التمييز بين السيادة التي تبقى دائمأ الشعب وبين السلطة التي يمارسها الشعب من خلال الحكومة التي تمثله وتنوب عنه (فقرة 24) . على ضوء هذا نجد اننا مهما واجهنا من الأشكال الدستورية للدول أو فيما بين الدول فإما أن نكون أمام ” دولة واحدة ” وإما ان نكون أمام ” اتحاد دول ” متعددة .
في الحالة الأولى تكون السيادة للشعب كله ومشتركة فيما بينه في الوطن كله و تجسدها دولة واحدة . ثم يأتي الدستور (القانون الأساسي) للدولة فينظم ممارسة السلطة . فإما أن يعهد بكل السلطات الىحكومة مركزية واحدة فتكون الدولة على ذلك الشكل الذي يسمونه ” دولة بسيطة “ . وإما أن يوزع السلطات بين حكومة مركزية وحكومات في الأقاليم فيخول تلك الحكومات قدراً من السلطات تمارسها في نطاق الاقليم مستقلة في ذلك عن الحكومة المركزية أي بدون حاجة إلى إذن سابق أو تصديق لاحق . غير أنه أياً ما كان توزيع السلطات الداخلية تبقى الحكومة المركزية هي ممثل الدولة في العلاقات الخارجية . ويبقى مصدر سلطات الحكومات الاقليمية هو الدستور (القانون الاساسي ) . وتبقى للحكومة المركزية سلطة مباشرة على كل الشعب في كل الاقاليم . ويبقى كل الشعب في كل الاقاليم منتمياً سياسياً الى دولة واحدة ، بل جنسية واحدة ( هوية ) . وتكون الحكومات في الاقاليم تابعة لدولة بحكم ان الولايات التي تحكمها هي ذاتها ـ كمؤسسات اقليمية ـ من رعايا الدولة . ثم ـ وهذا جوهري ـ لا تملك أية ولاية أو اقليم حق الانفصال . هذه هي الدولة التي يسمونها ” فيدرالية ” (اتحادية) . لا لأنها ” مركبة ” من عدة دول مستقلة داخلها ، إذ هي ـ كما هو واضح ـ دولة واحدة ، ولكل لأن نموذجها الذي يقيسون عليه ( الولايات المتحدة الامريكية) قد قام ابتداء عن طريق اتفاق عدة دول على أن تنشىء من أنفسها دولة واحدة مع الاحتفاظ لكل منها بقدر من السلطات تمارسها حكومة اقليمية داخل الدولة الجديدة . فبقي الاسم علماً على الدولة موروثاً من اسلوب قيامها . هذا بالرغم من ان بعض تلك الدول المسماة ” فيدرالية ” ( اتحادية ) لم تنشأ بهذا الاسلوب ، بالعكس، نشأت بإقامة ولايات وحكومات اقليمية في دولة كانت في الأصل دولة بسيطة ( المكسيك والبرازيل ) . على أي حال ان هذا الاسلوب من توزيع السلطات الداخلية قد أصبح شائعاً ، في أغلب الدول الحديثة لأنه يبقى على وحدة الدولة ويمكنها ـ في الوقت ذاته ـ مواجهة التنوع الاقليمي للمشكلات الاجتماعية باكبر قدر من الكفاءة عن طريق اقامة حكومات اقليمية ذات سلطات محلية تضيق او تتسع تبعاً للظروف الاجتماعية والجغرافية في كل دولة على حدة ، ولكنها ـ في كل الحالات ـ لا تمس وحدة السيادة ووحدة الدولة التي تجسدها . الدولة ” الفيدرالية ” (الاتحادية) ـ اذن ـ دولة واحدة بصرف النظر عن الاسماء التي تطلق عليها او على الاقاليم داخلها . ان ” اتحاد الجمهوريات السوفييتية ” مثلأ دولة واحدة وليس مجموعة من الدول الجمهورية متحدة . وبحكم مركزية جهاز السلطة فيها (الحزب) ليس لأية جمهورية الحق في الانفصال ” بارادتها ” اي بدون موافقة الحزب . هـذا بالرغم من النص في الدستور على حق الانفصال . بل ان الدولة عادت فاستردت بالقوة الجهوريات التي كانت قد انتهزت فرصة ضعف الدول الناشئة سنة 1918 فانفصلت ( لتوانيا ، وليتونيا ، واستونيا ) . كما أن الترجمة الحرفية لاسم ” الولايات المتحدة الامريكية ” هو ” دول امريكا المتحدة ” مع انها دولة واحدة . ويوحي اسم ” كندا ” بأنها دولة بسيطة مع انها دولة ” فيدرالية ” .
كل ما عدا ” الدولة الواحدة ” هي انواع من ” الاتحادات التعاهدية ” فيما بين دول مستقلة كل منها بسيادة شعبها في وطنه تلتقي على الاشتراك في رئيس الدولة فقط (الاتحاد الشخصي) وقد كان ذلك شائعاً يوم ان كانت رئاسة الدولة ميراثاً في النظام الملكي ، او تشترك في رئيس الدولة وتضيف اليه هيئات مشتركة تمارس الشؤون المتفق عليها في المعاهدة (الاتحاد الفعلي او الحقيقي) ، او تكتفي بهيئات مشتركا تمارس بالنيابة عنها شؤوناً محددة (الاتحاد الكونفيدرالي) . ولكن يبقى المميز للاتحاد هو احتفاظ كل دولة بسيادة شعبها في وطنه واستقلالها بهذه السيادة عن دول الاتحاد الاخرى ثم بحق كل دولة في الانفصال . ويختلف كل اتحاد منها تبعاً للمعاهدة التي انشأته . غير انها جميعاً- بحكم طبيعتها الاتحادية (الاتفاقية) ، مؤقتة او قابلة للانتهاء . بعضها ينتهي الى ان يصبح دولة واحدة ” فيدرالية ” ( الولايات المتحدة الامريكية بدأت اتحاداً سنة 1778 وانتهت إلى وحدة سنة 1787، ودولة المانيا بدأت اتحاداً سنة 1815 وانتهت الى وحدة سنة 1866، ودولة سويسرا بدأت اتحاداً سنة 1815 وانتهت الى وحدة سنة 1847) . غير انها قد تنفض وتتحرر كل دولة من الالتزامات التي كانت تفرضها عليها المعاهدة المنشئة للاتحاد (اتحاد السويد والنرويج بدأ سنة 1815 وانفض سنة 1905 ، واتحاد النمسا والمجر بدأ سنة 1867 وانفض سنة 1918 ، واتحاد الدانمرك وايسلنده بدأ سنة 1918 وانفض سنة 1944 ) . والاتحادات التعاهدية المعاصرة قليلة العدد ولكنها تضم اعداد كبيرة من الدول تجمعها على التعاون من أجل غايات مشتركة . وتكاد تكون هي الصيغة العصرية للتعاون بين دول تريد كل منها ان تحتفظ بسيادتها . ومن امثالها ” مجلس اوربا ” و ” منظمة الدول الامريكية ” و ” الكومنولث البريطاني ” و (جامعة الدول العربية )… وفي التاريخ العربي المعاصر تجربتان فاشلتان منه اولاهما اتحاد ” الدول العربية المتحدة ” الذي قام بين اليمن والجمهورية العربية في سنة 1958. والثانية كانت رداً على الاولى فيما اسمى ” الاتحاد العربي ” بين العراق و الاردن سنة 1958 ايضاً .
فعلى أي وجه تكون دولة الوحدة العربية ؟.
من الواضح :
أولأ : أن الاتحاد التعاهدي (الكونفيدرالي أو الشخصي أو الفعلي … الخ) لا يجسد اشتراك الشعب العربي في وطنه العربي ، لأنه إذ يقوم على تعدد السيادة يجزىء السيادة القومية . فهو يسلب الشعب العربي في كل دولة من دول الاتحاد حقه في وطنه الذي تقوم عليه الدول الاخرى . ويسلب الشعب العربي في الدول الاخرى حقه في وطنه في كل دولة من دول الاتحاد . وبالتالي لا يتفق ولا يجسد وحدة الوجود القومي . والواقع أن الاتحاد التعاهدي هو الصيغة الدستورية للتعاون بين الدول . وعلى هذا فان أي اتحاد تعاهدي يقوم بين دولتين أو أكثر من الدول العربية ، أو حتى بين الدول العربية كلها، ليس أكثر من تنظيم تعاهدي للعلاقات بين الدول الاقليمية فهو نظام أقليمي لا يختلط ” بالوحدة العربية ” ولا يغني عنها، بالرغم من أنه قد يحقق للدول العربية المتحدة فيه أقصى ما يمكن أن يحققه التعاون بين الدول. هذا، إذا فهم ، أو طلب، أو قام ، على أساس انه اتحاد بين دول اقليمية وبعيداً عن ” التمحك ” بالقومية أو بالوحدة . بل نزيد فنقول انه كلما فهم فطلب فقام بعيداً عن القومية والوحدة نجح فيما يستطيع ثم تبقى دولة الوحدة القومية غير مسئولة عن فشله . ذلك لأننا نعرف أنه من حيث هو صيغة ” للتعاون” قد يفشل لأسباب اقليمية فينفض ، وفي كل الحالات سيفشل في أن يحقق للشعب العربي ما تحققه له الوحدة بالرغم من كل ما قد يحققه من مكاسب للدول الاقليمية .
هذا بدون تعرض ـ هنا ـ لصيغة ” الاتحاد ” عندما تطرح أو تطلب أو تقوم كخطوة مرحلية ومؤقتة على الطريق إلى دولة الوحدة . وهو أمر سنعرض له عندما نتحدث عن نظرية الأسلوب . انما نتحدث هنا عن الاتحاد بين الدول العربية كغاية بديلة عن دولة الوحدة العربية كغاية .
ثانياً : أن الدولة الوحيدة التي تتفق مع إشتراك الشعب في وطنه وتجسد وحدة الوجود القومي هي الدولة ” الواحدة ” . دولة واحدة لشعب واحد ووطن واحد . دولة واحدة لأمة واحدة .
هذا هو الشكل الدستوري لدولة الوحدة العربية كغاية تحددها لنا النظرية القومية . أما أن تكون دولة الوحدة العربية هذه دولة ” بسيطة ” ( ذات حكومة واحدة ومركزية) أو أن تكون ” فيدرالية ” ( ذات حكومة مركزية وحكومات في الأقاليم تتولى سلطات محلية يقررها الدستور الواحد) فإن مرجع ذلك سيكون الى دستور الدولة الواحدة كما يرتضيه الشعب العربي نفسه . وان كنا نعتقد ـ على ضوء الواقع العربي القائم ـ أن التنظيم الدستوري المسمى ” فيدرالياً ” أكثر إتفاقأ مع تنوع المشكلات الإجتماعية ـ من أثر التجزئة أو من أثر البيئة ـ بين أجزاء الوطن العربي . مع ملاحظة انه ليس مما يلزم أن تكون الأقطار أو الأقاليم أو الجمهوريات العربية في دولة الوحدة متفقة الحدود مع الدول العربية القائمة الآن . بالعكس . إننا لو نظرنا الى هذه الحدود من مجرد زاوية كفاءة ممارسة السلطة في الوطن الكبير، وليس من زاوية إحترام مخلفات الاقليمية ، لتبين لنا أنها أسوأ حدود يمكن أن تقوم بين الأقاليم في دولة الوحدة . إنها ـ بدون أي مبرر جغرافي أو اقتصادي ـ تقسم الأمة العربية الى أجزاء بالغة التفاهة بجوار أجزاء غير متناسبة الكبر، وتمتد مستقيمة كالخطوط الهندسية في الصحراء والجبال والوديان بدون اعتداد لا بتضاريس الأرض ولا بتوزيع البشر . إن تغييرات أساسية لا بد من أن ترد عليها لتعيد التوازن بين الأقطار على الوجه الذي يحقق أعلى مستوى من الكفاءة في مواجهة المشكلات الإجتماعية . أو حتى من أجل المحافظة على وحدة الدولة القومية ضد أية ردة إنفصالية . أو ـ على الأقل ـ من أجل أن تزول الى الأبد بصمات المستعمرين التي تركوها على الأرض العربية والتي نسميها اليوم حدوداً .
هل هذا هو كل شيء ؟
هـل مجرد أن تقوم في الوطن العربي دولة واحدة تضع الشعب والأرض في إطار دستوري واحد يسترد الشعب العربي ” كامل ” مقدرته على التقدم الاجتماعي المتكافئ مع الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في الامة العربية ؟ . لا . " ان وحدة الدولة القومية شرط لازم لامكان معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية في المجتمع القومي ، وحلولها الصحيحة المحددة موضوعيا بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذ تلك الحلول في الواقع . ان هذا لا يعني أن الناس في الدولة القومية سيعرفون حتما حقيقة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة أو أنهم سيحلونها فعلا ، انما يعني أن كل هذا سيكون متاحا لهم في الدولة القومية أما الباقي فيكون متوقفا على مقدرتهم على الانتفاع به (فقرة 24) . اذن ، فالمشكلة التي كانت تثيرها التجزئة وهي " عجز " الشعب العربي عن التقدم الاجتماعي المتكافئ مع امكانيات أمته لا تحل بمجرد قيام دولة واحدة في الوطن العربي ، بل بأن يكون في دولته الواحدة قادرا على التقدم الاجتماعي التكافئ مع امكانيات أمته . ولما كانت الدولة نظاما من عديد من القوانين التي تضبط سلوك الناس فيها فان مقدرة الشعب العربي على الانتفاع بالامكانيات المتاحة من أجل التقدم الاجتماعي تتوقف على مدى ما تخوله تلك القوانين للشعب العربي من حرية . والحرية ـ كما عرفنا ـ هي المقدرة على التطور الاجتماعي ( فقرة 39 ) .
وهكذا يصل بنا الحديث عن دولة الوحدة العربية الى عديد من المشكلات الخاصة بالنظام الداخلي فيها والتي لا بد من حلها حلا صحيحا حتى يستطيع الشعب العربي أن يطور واقعه الاجتماعي . أولى تلك المشكلات هي تلك المشكلة الخطيرة التي لا يوليها الفكر القومي التقدمي ما هي جديرة به من اهتمام ودراسة مع أنها تمثل واحد من أهم جوانب دراسة دولة الوحدة ، انها مشكلة الديمقراطية .
(6)
51 ـ مشكلة الديموقراطية :
لم تدرس الديموقراطية ـ بعد ـ دراسة كافية في الفكر القومي التقدمي الذي يتضمن في داخل كافة المدارس الفكرية المختلفة في شأن الديموقراطية . وعلى وجه خاص ليس ثمة في الفكر القومي التقدمي الذي نعرفه بيان للعلاقة بين القومية والديموقراطية . وقد نستطيع أن ندرك أن تيار الفكر القومي السائد في الوطن العربي ، إذ يدعو بالحاح الى الثورة العربية من أجل قيام دولة الوحدة ، لا يجد مكاناً في الحديث عن الثورة للحديث عن الديموقراطية . وبالتالي يبدو الحديث عن الديموقراطية خارج ودون مستوى الدعوة الى الثورة . غير أن هذا الموقف السلبي يعني سكوت القوى القومية التقدمية على الإستبداد الذي قد تتعرض له الجماهير العربية بعض أقطار الوطن العربي أو ممالأته في مقابل وعد بالوحدة . هذا في الوقت الذي نعد الجماهير العربية المقهورة بالحرية في دولة الوحدة . أن هذا الوعد الأخير يفتقد مبررات الثقة فيه ما دام الواعدون به لا يجدون لهم موقفاً ضد الاستبداد ويبيعون الحرية بوعود الوحدة . إذ ما الذي يضمن للجماهـير العربية ألا يكون الصامتون اليوم عن الاستبداد الاقليمي هم المستبدون غداً في دولة الوحدة ؟.. ثم أن مشكلة الديموقراطية مشكلة قائمة في الوطن العربي وقد أصبحت أكثر حدة منذ هزيمة يونيو (حزيران) 1967. وطرحت بقوة في نطاق محاولة الكشف عن أسباب الهزيمة ، أو تحديد المسئولية عنها. وقيل ، أو يمكن أن يقال ، أن الجماهير العربية، التي هي المصدر البشري للقوى المقاتلة ، كان قد سحقها الإستبداد الداخلي وأفرغها من المقدرة على المقاومة ، وعودها على الإنهزام وقبول المذلة قبل أن تواجه عدوها الشرس فانهزمت . وان ذلك الاستبداد الداخلي المسئول عن الهزيمة ما كان ليقوم لو أن ثمة في الوطن العربي ديموقراطية . ثم أنه ما يزال قطاع كبير من ” المثقفين ” في الوطن العربي يعارضون تدخل بعض الدول العربية في مجالات التنمية الاقتصادية، وخطط التحول الإشتراكي ، والتأميم … الخ ، بالحرية والديموقراطية ويرون في ذلك التدخل مساساً بحقوق ” مقدسة ” يزعمونها للأفراد . ثم أن القوى القومية التقدمية تتطلع الى وحدتها الفكرية كمقدمة لوحدتها التنظيمية فلا بد لها من أن تتوحد فكريأ على حل المشكلة الديموقراطية حتى تستطيع أن تتوحد تنظيمياً وحتى تعرف كيف تتعامل داخل التنظيم ذاته … الخ .
أياً ما كان الأمر فان مشكلة الديموقراطية في الوطن العربي أكثر تعقيداً منها في أي مكان آخر نعرفه . ولكن هذا غير مقصور على مشكلة الديموقراطية . إذ أن إضافة الواقع العربي المعقد إلى أية مشكلة اجتماعية اخرى عرفها غيرنا في بساطتها لا تلبث أن تضفي عليها من تعقيدات الواقع ما يجعلها في حاجة إلى فهم جديد . وهذا لا يعني أن نكف عن فهم واقعنا العربي ومشكلاته المعقدة . بل يعني إننا مطالبون بمزيد من الجهد في هذا السبيل . ونحن نعرف المصدر الاساسي للتعقيد كله . فكما عقدت التجزئة مشكلات التنمية ومشكلات التحرر ومشكلة الدولة تعقد مشكلة الديموفراطيه . ذلك لأننا إذ ندافع عن الشعب العربي ضد الاستبداد في ظل التجزئة وندعو إلى الديموقراطية في الدول الاقليمية ، ثم ندعو إلى الثورة ضد الاقليمية باسم القومية ، ثم نعود فندعو إلى الديموقراطية ، في دولة الوحدة ، يبدو الفكر القومي ـ في كل هذا ـ غامضاً أو متناقضاً ، أو فلنقل أنه لا يقدم الإيضاح الكافي لتبديد ما قد يبدو من غموض أو تناقض .
فكيف يكون حل مشكلة الديموقراطية في دولة الوحدة العربية ؟
لنعرف شيئاً عن المشكلة أولاً .
مشكلة الديموقراطية ثائرة ومطروحة منذ ستة قرون على الأقل . وما تزال ثائرة ومطروحة . وهو ما يعني انها ليست مشكلة بسيطة . ونستطيع أن نقول أنها لا تجد ـ إلى الان ـ حلها الصحيح . و آية هذا ان كل الدول في العالم تزعم انها ديموقراطية بالرغم من نظمها الاجتماعية المختلفة والمتناقضة في بعض الاوقات . و آيته الثانية أننا لا نجد مستبداً واحداً في الأرض لا يتحدث باسم الشعب وحريته وعندما يكون كل واحد قادراً على ادعاء الديموقراطية يكون هذا دليلاً حياً على ان ليس للديموقراطية مضمون عيني يمكن الالتقاء عليه والالتزام به والاحتكام اليه . وما دامت الديموقراطية على هذا الوجه فان مشكلتها في الممارسة ستظل قائمة بدون حل .
ولقد طرحت المشكلة ابتداء تحت عنوان” سيادة القانون ” . ولم يكن المقصود بسيادة القانون هو احترام احكامه بل كان المقصود ” وجود ” قانون ينظم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين . ففي ظلمات استبداد امراء الأقطاع ورجال الكنيسة في القرون الوسطى لم تكن المشكلة هي ما اذا كان القانون يسود او لا يسود وانما كانت هل ثمة ضرورة لوجود قانون اصلاً ام تغني عنه حكمة رجال الدين والأمراء والملوك الذين يمثلون جميعاً ” كلمة الله ” في الارض ثم يسترون استبدادهم بقدسية الدين . تلك كانت البداية. ومن المهم ان نفطن الى انها كانت مشكلة ثائرة حول العلاقة بين الحاكمين والمحكومين وبالتالي ان حلها كان مقصوراً على تلك العلاقة . ومصدر الاهمية ان المشكلة ذاتها لن تلبث ان تتطور وتتطور الحلول التي قدمت لها .
ولقد تولت الليبرالية حل المشكلة كما كانت مطروحة في البداية . ونحن نعرف أن الليبرالية فلسفة قائمة على اساس ان ثمة قواعد ثابتة وخالدة وسابقة على وجود المجتمع تقود خطا الأفراد فيه على وجه يؤدي تلقائيأ الى تحقيق مصلحة المجتمع من خلال محاولة كل فرد تحقيق مصلحته الخاصة . تلك القواعد التي تسمى ” القانون الطبيعي ” (فقرة 5) . على هذا الأساس كان الحل الليبرالي لمشكلة الديموقراطية ، او سيادة القانون يتضمن ثلاث قواعد : الاولى ان الناس ولدوا احراراً ومتساوين في الحقوق . وهي حقوق يستمدونها من طبيعتهم كبشر فلا يجوز المساس بها . الثانية : انه لا بد ان تنظم العلاقات بين الحاكمين والمحكومين بقوانين وضعية لا تسمح للحاكمين بالمساس بتلك الحقوق . الثالثة : ان تكون وظيفة هذا التنظيم القانوني (الدولة) مقصورة على حماية المجتمع من الخطر الخارجي واقرار الامن الداخلي بدون تدخل في العلاقات بين الناس تاركاً للقانون الطبيعي ان يؤدي غايته الطبيعية . وهو يؤديها على افضل وجه كلما توافرت للناس ” الحرية ” في ان يفعلوا ما يريدون بدون تدخل من الدولة .
وقد تفنن مفكرو الليبرالية في ابتكار النظم الدستورية التي تحول دون تدخل الدولة في شئون الأفراد أو تحصر تدخلها في أضيق نطاق . ولما كانت الحكومة هي التي تمارس السلطة في الدولة فقد واجه الليبراليون الحكومة وسلطتها بما أسموه ” سيادة الشعب “. سيادة الشعب في مواجهة الحكومة . والبداية هي : ما دام الناس قد ولدوا أحراراً فإن للناس أنفسهم أن يختاروا النظام القانوني الذي يريدون (الاستقلال السياسي) ولهم وحدهم أن يعبروا عن هذا الاختيار تعبيراً حراً وسرياً (الاستفتاء) فاذا كانوا من الكثرة بحيث لا يستطيعون أن يقولوا جميعاً ما يريدون فليختاروا من بينهم من يتحدث باسمهم وينوب عنهم في التعبير عن إرادتهم (التمثيل النيابي) وعندما يختلفون لا يكون ثمة إلا أن يؤخذ برأي الأغلبية إحتراماً للمساواة بينهم ( حكم الأغلبية) . على أن يكون للأقلية دائماً الحق في التعبير عن رأيها إحترامأ للمساواة ذاتها (حق المعارضة) . وعن طريق الأغلبية يضع ممثلو الشعب القوانين التي تعبر عن إرادة الشعب (السلطة التشريعية) . ويختارون الهيئة التي تقوم على تنفيذ هذه القوانين (السلطة التنفيذية) . فإن اختلفتا أو حاولت إحدى السلطتين أن تحيد عن وظيفتها أو تسيء إستعمال سلطتها أو اختلف الناس في تفسير القانون أو تنفيذه فإنهم يحتكمون جميعاً الى سلطة ثالثة مستقلة عن السلطتين لتحكم بالقانون فيما يختلفون (السلطة القضائية ) . ويكون لها أن تبطل أي تصرف مخالف للقانون (الرقابة القضائية) أو أي قانون مخالف للدستور (الرقابة الدستورية) . وزيادة في الضمان يجب أن تكون السلطة التنفيذية مسئولة أمام ممثلي الشعب ( المسئولية البرلمانية) . ولضمان أن يظل ممثلى الشعب معبرين عن إرادته يجب أن يعاد إختيارهم من حين الى حين (الانتخاب الدوري) . وكل هذا يتم علناً تحت رقابة الشعب نفسه (رقابة الرأي العام) . فلا يجوز فرض أية قيود على حق في الرقابة وممارستها الفعلية (حرية الرأي والاجتماع والنقد وتشكيل الجمعيات والأحزاب واصدار الصحف) كما لا يجوز أن يتعرض الناس في نشاطهم هذا أو أي نشاط آخر لأي عسف أو إكراه فلا يقبض على أحد إلا إذا كانت منسوبة إليه جريمة . ولا جريمة إلا بنص . ولا نص بأثر رجعي . وعلى وجه خاص لا يجوز التدخل في العلاقات الإقتصادية بين الناس (حرية التعاقد) وما على الدولة إلا أن تنفذ ما أراده الناس من إتفاقاتهم (سلطان الإرادة) . ولكل واحد منهم أن يحصل من وراء هذا على ما يستطيع (حرية الملكية) … وكل تصرف تجريه الحكومة لا يتفق مع قاعدة أو أخرى من قواعد هذا النظام القانوني يكون إخلالاً بسيادة القانون وغير مشروع (مبدأ الشرعية) واعتداء على سيادة الشعب ( الديموقراطية ) .
هذه هي خلاصة النظام الديمقراطي في الدولة الليبرالية .
ولا شك في انها تقدم ضمانات قوية ضد استبداد السلطة . وكثيراً ما يتسرع البعض في نقدها من حيث الكفاءة “ الفنية” في تحقيق تلك الضمانات . فلا يلبث النقد أن يفقد قيمته عندما يعترف الليبراليون بما فيها من قصور ” عملي ” ويقولون أن الممارسة ومراعاة الظروف الخاصة بكل مجتمع كفيلتان باكمال ما فيها من نقص أو تصحيح ما فيها من قصور . والواقع أن الديموقراطية الليبرالية غير مقصورة على نموذج واحد من الاستفتاء أو الانتخاب أو نظام الحكم . هناك الاستفتاء الشعبي المباشر (الريفرندم) . وهناك الانتخاب على درجة أو على درجتين . وهناك النظام البرلماني والنظام الرئاسي كشكلين من النظام النيابي . وهناك حكومة الأغلبية والحكومة الائتلافية . وهناك الاغلبية المطلقة والاغلبية الخاصة . وهناك سلطة رئيس الدولة في الاعتراض على القوانين … الخ .
لا وجه اذن لنقد الديموقراطية الليبرالية من حيث هي نظام ” فني ” لضمان سيادة الشعب ضد استبداد الحاكمين . أي من حيث هي نظام ديموقراطي . والواقع أن الحقوق السياسية المترتبة على هـذا النظام قد أصبحت مسلمة فيما يعرف ” بحقوق الانسان ” . ولكنا لو بحثنا في مستوى اعمق من الشكل الديموقراطي فقد نتبين ان العيب كامن في أن ذلك النظام الديموقراطي هو نظام ليبرالي . وبالتالي فإن الديموقراطية قد تكون افضل نظام لتجسيد اشتراك الشعب في سيادته على وطنه لو طهرت من الليبرالية .
ذلك لأن الديموقراطية الليبرالية ليست ضماناً ضد استبداد الحاكمين فقط ، بل ضد تدخل الدولة في العلاقات بين الناس . فهي بينما تحمي ـ فعلاً ـ الشعب من استبداد الحاكمين فتبقى السيادة للشعب ، تترك الناس يتنافسون فيما بينهم ” منافسة حرة ” على امكانيات التقدم الاجتماعي المتاحة ليستأثر كل قادر منهم على ما يستطيع منها ويحرم الاخرى فلا تضمن للشعب ” الاشتراك ” في السيادة . ومرجع هذا الى ان الليبرالية قائمة على فرض ميتافيزيقى هي وجود قواعد سابقة على وجود المجتمع ذاته تؤدي تلقائيأ الى تحقيق مصلحة المجتمع من خلال محاولة كل واحد فيه تحقيق مصلحته. وعلى اساس هذا الفرض قام النظام الرأسمالي الذي هو النظام الليبرالي للنشاط الاقتصادي . والذي تمثل المنافسة الحرة قانونه الاقتصادي الاساسي . وقد سبق ان عرفنا كيف كذبت الممارسة دعاوي الليبرالية وكيف قضت المنافسة الحرة على حرية المنافسة فانتهى عدم تدخل الدولة (النظام القانوني للمجتمع) وترك كل واحد يفعل ما يشاء الى ان كثيراً من الناس أصبحوا لا يستطيعون أن يفعلوا ما يشاؤون (فقرة 5) . فكأن الديموقراطية الليبرالية تحرر الشعب من استبداد الحاكمين لتمكن الرأسماليين من الاستبداد فيه . أو بتعبير آخر أنه بعد أن تحتفظ الديموقراطية للشعب بسيادته في مواجهة الحاكمين تأتي الليبرالية فتمكن الرأسماليين من سلب الشعب سيادته . فاذا بالسيادة ليست سيادة الشعب على وطنه بل سيادة الرأسماليين على الشعب الذي يصبح تابعاً اقتصادياً لأقلية من المتحكمين في الامكانيات التي كانت متاحة أصلاً لتقدمه الاجتماعي . وهكذا تنقلب الديموقراطية في دولة الليبرالية الى ” لعبة ” سياسية لا علاقة لها بالحرية أو بالسيادة .
ويبدو كل هذا واضحأ إذا ما راجعنا لعبة الديموقراطية في ظل الرأسمالية . فالديموقراطية قائمة أصلأ على فرض أن الناس في الإستفتاء سيختارون ما يريدون . ونحن قد تعلمنا الا نستعلي على الناس أو نتهمهم بالجهل والإنحراف أو نفرص عليهم الوصاية ( فقرة 18) . كل ما في الأمر اننا نريد أن نتأكد من أن ذلك الغرض الأساسي للديموقراطية متوافر. أن نتأكد من أن الناس قد كانوا قادرين فعلأ ، وأحراراً فعلاً ، في التعبير عما يريدون ، وان ما عبروا عنه هوـ فعلاً ـ ما يريدون ، حتى لو كنا نرى من موقفنا أنهم أخطأوا في معرفة مشكلاتهم الإجتماعية و حلولها . الاحتكام الى الناس في المشكلات الإجتماعية أمر لا يمكن أن يرفضه إلا مستبد . و لكن قمة الإستبداد هي أن نحول دون أن يختار الناس ما يريدونه فعلاً . وذلك بأن نؤثر في إرادتهم حتى يقولوا ـ في الإستفتاء ـ غير ما يريدون فعلاً . فهل التبعية الإقتصادية ، عندما يكون رزق الناخب ولقمة عيشه وأمن أسرته ومستقبل أطفاله متوقفة على ” رضا ” المرشح أو أعوانه أو حزبه ، هل هذه التبعية تحول دون أن يكون رأي الناخب معبراً عما يريده فعلاً أم لا ؟… هل إستعمال المقدرة الإقتصادية لإلحاق الناس بهذه التبعية ، وتجهيزهم فكرياً ونفسياً وإجتماعياً ولو بالابقاه عليهم جهله يحول دون أن تكون آراؤهم في الاستفتاء معبرة عما يريدونه فعلاً أم لا ؟..
نحن نقول إنها تحول . لأننا نعرف ” أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي ، سلبي أو إيجابي ، ومهما يكن مضمونه له غاية ثابتة هي تحرره من حاجته كما يعرفها من ذاته . ولا يستطيع أي إنسان أن يستهدف من نشاطه غير التحرر من حاجته كما يعرفها من ذاته ” . (فقرة 18) . وعندما يكون إشباع حاجته متوقفاً على إرادة شخص غيره فلا بد له من أن تتأثر إرادته بإرادة الذي يملك المقدرة على الاشباع أو الحرمان . وبالتالي يكون التحرر من السيطرة الاقتصادية شرطاً أولياً وضماناً لا يمكن التنازل عنه لحرية الاستفتاء والانتخاب والتمثيل . باختصار ، يكون شرطاً لقيام الديموقراطية . ليس معنى هذا انه عندما يتخلف هذا الشرط سيتجمد الناس أو يقفون سلبيين ” فيقاطعون ” الانتخابات . فالواقع انهم لا يستطيعون ـ بحكم التبعية الاقتصادية ـ حتى مقاطعتها . و لكن معناه انه في ظل السيطرة الاقتصادية لا يمبر الناس عما يريدونه فعلاً . وقوفهم في طوابير الاستفتاء لا يعني عنايتهم بنتائجه وإنما ثمن ما دفع لهم أو إتقاء البطش بهم . وما يبدونه من آراء ليس تعبيراً عن حقيقة نواياهم بل مداراة للقوى القادرة على عقابهم أو نفاقاً للقوى التي بيدها أرزاقهم . أما ممثلوهم في المجالس التثسريعية فإن ما يثيرونه من مناقشات وما يصوغونه من قوانين ليس ترجمة لما يريده الشعب بل مشاركة في السلطة وتطلعاً الى مزيد من المشاركة أو حتى الى الاستيلاء عليها ، واحتفاظاً لأنفسهم بالامتيازات الاجتماعية أو الاقتصادية التي رشحتهم لتمثيل الشعب ومكنتهم من مواجهة “ تكاليف ” الانتخاب . أما الصحافة فتجارة تباع فيها الأفكار والمفكرون لمن يستطيع أن يدفع الثمن . أعلى ثمن . وأما رقابة الرأي العام فوهم لانها رقابة الخائفين من سادتهم على سادتهم الذين لا يملكون من أسباب الرقابة إلا ما يسمح به سادتهم … كل هذا يدور في نظام محكم من الديموقراطية ولكنه واقع تماماً في قبضة القوى الاقتصادية التي تسمح لها الليبرالية بأن تستولي على الدولة ان استطاعت . وهي مستطيعة دائماً بحكم تحول النظام الرأسمالي الى نظام احتكاري وبحكم عدم تدخل النظام القانوني للمجتمع (الدولة) لحماية الأفراد من السيطرة الإقتصادية التي يمارسها الرأسماليون .
واضح من كل هذا أن الكفاءة الفعلية لتكون الديموقراطية ضماناً حقيقيأ لسيادة الشعب في وطنه متوقفة على الغاية الاجتماعية من النظام القانوني كله ، أي على طبيعة الدولة . وإنه عندما تكون الدولة ليبرالية ، ومنذ أن كانت الدولة ليبرالية ، كانت الديموقراطية أداة لسيطرة القوى الرأسمالية على الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في المجتمع من أجل تحقيق غاية الرأسماليين : الربح ومزيد من الربح . أو كما يقول ا لماركسيون كانت ديموقرا طية ” بورجوازية ” .
وقد أدانت الماركسية الديموقراطية البورجوازية بقوة وفضحت عقمها في الحفاظ على سيادة الشعب . منذ البداية قال ماركس وانجلز في البيان الشيوعي (1848) مخاطباً البورجوازيين ” إن قانونكم ليس إلا ارادة طبقتكم مصوغة في قانون عام ” . وهو حق فيما يعنيه من أن الليبرالية لم تحل مشكلة الديموقراطية . غيير أن قيمته كانت متوقفة على أن تقدم الماركسية الحل البديل لمشكلة الديموقراطية. فهل قدمته ، والى أي مدى؟ .
نحن نعرف ان الماركسية فلسفة مادية . وقد عرفنا ان المادية تعني أولوية الوجود المادي على الفكر. وانه في نطاق التأثير المتبادل بين العناصرالمتعددة والمكونة للمجتمع تلعب القوى المادية الدور الأساسي في حركة الانسان وفكره وتطور المجتمع واتجاهه وغايته . كما نعرف ان الماركسية ليست فلسفة مادية فحسب بل هي مادية جدلية بوجه خاص (فقرة 10 و 11) . والتجربة الاجتماعية لهذا الجدل المادي هي انه في داخل المجتمع متعدد العناصر يتطور أسلوب انتاج الحياة المادية جدلياً بفعل التناقضات الكامنة فيه. فتنعكس حركة تطوره على ” البناء الفوقي ” في المجتمع . الأفكار والنظم والقانون .. الخ . والدولة هي نظام قانوني فهي من البناء الفوقي التابع للأساس المادي في حركته الجدلية . وأول جديد نقابله في هذه المرحلة من الفكر الماركسي هو هذا التطور المستمر في الأساس المادي وبالتالي في ” البناء الفوقي” . ومنه نتعلم اول ما يجب ان نتعلمه من المفهوم الماركسي للدولة وبالتالي اول تحديد لموقف الفكر الماركسي من الديموقراطية وهو : ان الدولة ذاتها مؤقتة . ويبقى ان نعرف متى قامت الدولة ومتى تزول . مع ملاحظة ان الفكر الماركسي لا يفرق ـ بحق ـ بين الدولة والقانون ، فهما شيء واحد أو وجهان لعملة واحدة . اذ الدولة هي النظام القانوني للمجتمع . فمتى بدأت الدولة ومتى تزول ؟
يقولون : ان الانتاج ذو طبيعة اجتماعية بحكم انه لازم لحياة الناس في المجتمع . وللانتاج أسـلوب يتضمن عنصرين الأدو ات والعلاقات . الأدوات هي الأساس المادي والعلاقات هي الانعكاس القانوني (الحقوقي) لها . وطالما احتفظ أسلوب الانتاج ، في أدواته وعلاقاته، بطابعه الاجتماعي لا ينشأ تناقض . وقد كان ذلك متحققاً في مرحلة الشيوعية الأولى . غير أن أدوات الانتاج ( العنصر المادي من أسلوب الانتاج) تطورت أولاً ، وهي تتطور دائماً بمعدل من السرعة اكبرمن تطور علاقات الانتاج الجامدة نسبياً . وعندما تطورت أدوات الانتاج في المرحلة الشيوعية الأولى الى الحد الذي أصبح ما ينتجه كل فرد اكثر مما يحتاج الى استهلاكه تطورت علاقات الانتاج فنشأت الملكية الخاصة لأدوات الانتاج . هنا نشأ التناقض في أسلوب الانتاج . وهو حجر الزاوية في المفهوم الماركسي للدولة والقانون والموقف الماركسي من الديموقراطية . فالتناقض الذي نشأ في أسلوب الانتاج لا يلبث أن ينعكس على النظام الاجتماعي فيقسم كل مجتمع الى ” طبقتين ” تبعاً لموقف كل منهما من علاقات الانتاج . طبقة مالكي أدوات الانتاج وطبقة لا تملك أدوات لانتاج . والصراع الجدلي بين النقيضين في داخل أسلوب الانتاج ينعكس في صراع طبقى في المجتمع . وتصبح الطبقة الساندة اقتصادياً في حاجة الى المحافظة على سيادتها وتأكيدها عن طريق قهر الطبقة الأخرى . فتنشأ الحاجة الى الدولة (والقانون) كأداة قهر طبقي تستعملها الطبقة الساندة للحد من حرية الطبقة المسودة . وهكذا نعرف مزيداً من خصائص الدولة (والقانون) . فهى أداة قهر طبقي وبالتالي فهي دولة ( وقانون ) طبقة وليست ـ ولا يمكن أن تكون ـ دولة أو قانون الشعب كله . فهي تجسد سيادة طبقة ولا تجسد ، ولا يمكن أن تجسد ، سيادة الشعب كله . وهذا يصدق بالنسبة الى كل الطبقات منذ نشأت الملكية الخاصة الى أن تزول الملكية الخاصة في النظام الشيوعي . فهما أداة فرض سيادة ” السادة ” في العهد العبودي وسيادة الاقطاعيين في العهد الاقطاعي وسيادة ” البورجوازيين ” في العهد الرأسمالي وسيادة ” البروليتاريا ” في مرحلة الإشتراكية ، ثم تزول في ظل الشيوعية. الدولة ـ اذن ـ بحكم طبيعتها لا بد أن تكون ” ديكتاتورية ” ولا يمكن ان تكون إلا ديكاتورية حتى لو كانت السلطة فيها للطبقة العاملة فهي حينئذ ديكتاتورية البروليتاريا . كما قال انجلز : ” لما كانت الدولة ليست إلا مؤسسة انتقالية تستخدم في الصراع والثورة من اجل إسقاط اعدائها بالقوة فمن السخف الحديث عن دولة شعبية حرة . وطالما تستعمل البروليتاريا الدولة فإنها لن تستعملها من اجل الحرية بل من اجل اسقاط أعدائها . وفي الوقت الذي يصبح من الممكن الحديث عن الحرية فان الدولة تنتهي كدولة ” (ماركس وانجلز، المختارات ـ جزء 2 صفحة 42) ” او كما قال لينين ” كل دولة هي قوة خاصة لردع الطبقة المقهورة ” (الأعمال المختارة ، جزء 2 صفحة 18) و” لا تقوم الدولة إلا حيث ، وعندما ، والى المدى الذي تكون فيه المتناقضات غير قابلة للتوفيق ، (الأعمال الكاملة جزء 25 صفحة 387) .
الى هنا لا يكون ثمة مجال للبحث عن الديموقراطية بمعنى سيادة الشعب . إذ أن ” الشعب ” بمعنى كل الأفراد المنتمين الى مجتمع معين تعميم لا يتفق مع التناقض الطبقي بين الناس في كل مجتمع . ولكن هذا لا يعني أن ليس ثمة مجال للبحث عن الديموقراطية على ضوء الماركسية . إذ يبقى أن نبحث عنها داخل البروليتاريا في الدولة الاشتراكية . ان الدولة هنا ستكون ديكتاتورية ضد البورجوازية . هذا واضح . من أجل تحقيق مصالح الطبقة العاملة. وهذا واضح أيضاً . فما هي علاقة الدولة (والقانون) بالبروليتاريا ذاتها ؟ يجب أن نتذكر هنا أيضاً انه بحكم المنطلقات المادية للفكر الماركسي تكون مصالح البروليتاريا محددة مادياً سواء كانوا واعين عليها أو غير واعين . أن وعيهم ، أو وعي بعضهم ، قد يكون متأئراً بتضليل البورجوازية أو ببقايا ورواسب الفكر البورجوازي . إنما تمثلهم في معرفتها وقيادتها الى تحقيقها الطليعة الواعية منهم (الحزب الشيوعي) . ولا مبرر للتشكيك في أن تمثيل الحزب الشيوعي الذي يتولى السلطة في الدولة للطبقة العاملة . فان هذا يمكن إثباته عن طريق إنتخاب العاملين للمرشحين الذين يقدمهم الحزب الشيوعي في دولته إنتخاباً مباشراً او غير مباشر طبقاً للقوانين التي وضعها الحزب نفسه . وهنا نصل الى المأزق . ان التنظيم القانوني للترشيح والاستفتاء والانتخاب ، وكل شيء في المجتمع ، سيكون على الوجه الذي يقرره الحزب باسم الطبقة العاملة وتحقيقاً لمصلحتها . والحزب نفسه هو جماعة منظمة من الواعين ماركسياً الانقياء إشتراكياً القادة في الدولة الماركسية. نريد أن نقول انه لا محل لإتهامهم باستغلال الطبقة العاملة التي يحكون باسمها . وفي الحزب لا ملكية خاصة ولا صراع طبقي ولا بورجوازية . نريد أن نقول انه لا محل لإتهامهم بأنهم يسخرون الدولة ليربحوا من ورائها. والحزب يجتمع ويناقش ويتبادل الرأي ثم ينتهي الى قرارات لن تلبث أن تكون قوانين تضبط سلوك الناس في المجتمع وتقوم الدولة (والقانون) التي هي أداة ردع بطبيعتها بردع الذين يخالفون تلك القرارات أو القوانين . ويتم إصدار القرارات التي ستكون قوانين بالاجماع أو الأغلبية . إنها إذن الديموقراطية في نقائها المثالي داخل الحزب الشيوعي قائداً ” لديكتاتورية البروليتاريا “. وعلى هذه الديموقراطية سيتوقف مصير الديموقراطية في المجتمع كله . ولكن عندما نجتمع ونناقش ونتبادل الرأي داخل الحزب ثم نختلف فإلى أي شيء نحتكم . إذا احتكمنا الى ” الأغلبية ” فنحن نحتكم الى وعي ” الأعضاء ” في قرارات تتعلق بتطور الوجود الاجتماعي المحكومة حركة تطوره ، لا بالوعي ، ولكن باسلوب إنتاج الحياة المادية . أي إننا نحتكم الى وعي الناس في تحديد ما يحب أن يكون عليه أسلوب إنتاج الحياة المادية الذي هو العنصر الأساسي في تحديد تطور الوجود الاجتماعي . وهذا لا يتفق مع المنهج الماركسي . إذ أن ” أسلوب إنتاج الحياة المادية يحدد مجرى الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بوجه عام . ان وعي الناس لا يحدد وجودهم ، بالعكس، ان وجودهم هو الذي يحدد وعيهم ” (ماركس ـ نقد الاقتصاد السياسي ـ مختارات ماركس وانجلز ـ جزء 1 صفحة 363) . وعندما نختلف ونحن داخل الحزب الشيوعي على ما يجب أن يكون مستقبل الوجود الاجتماعي يكون معنى هذا أن ” بعضاً ” منا لا يعون وعياً صحيحاً حقيقة الوجود الاجتماعي ذي الحقيقة المادية السابقة على الوعي وغير المتوقف عليه ، وبالتالي لا يعرفون معرفة صحيحة متطلبات تطوره . ولا يغير من هذا عدد هذا البعض أو نسبة عددهم الى الباقين . فكما تكون الاقلية هي التي لا تعي ولا تعرف تكون الاغلبية هي التي لا تعي ولا تعرف . أي ان الاغلبية هنا أو الاقلية ليست دليلاً على صحة الوعي والمعرفة بالحقائق الاجتماعية ومتطلبات التطور الاجتماعي . فكيف يمكن أن تحل هذه المشكلة ” الديموقراطية ” ؟ … أن ينفذ رأي ” أقدر ” أعضاء الحزب وعياً ومعرفة بالحقيقة المادية للوجود الاجتماعي ومتطلباته . واكثرهم وعياً ومعرفة ، بحكم وصولهم الى مناصبهم ، هم قادة الحزب وقمته ، وهنا يصبح موقف القيادة هو عنوان الحقيقة الاجتماعية وتصبح كلمة القائد هي القانون الذي تنفذه الدولة فتكون في مواجهة ستالين ؟ .
فأين هي الديموقراطية ؟ …
اننا لا نسأل عن الديموقراطية الليبرالية ، ولا عن الديموقراطية بمعنى سيادة الشعب كله ، بل نسأل عن الديموقراطية ” الاشتراكية ” ، عن الديموقراطية بمعنى سيادة الطبقة العاملة في مواجهة قيادتها الممثلة في الحزب . أو عن الديموقراطية بمعنى سيادة قواعد الحزب و” كوادره ” في مواجهة قيادته . ولسنا نتهم ستالين ” بالديكتاتورية ” لأنه قضى على البرجوازية . فتلك تهمة لا توجه الى ماركسي إلا إذا أريد له ألا يكون ماركسياً . ولكنا نتساءل عن اسلوب ” التعامل ” فيما بين الاشتراكيين . ولماذا لا يحتكم الاشتراكييون الى الاغلبية . أغلبيتهم هم . ولماذا لايكون الرأي في المجتمع الاشتراكي لا إلى قيادته ولكن إلى اغلبية الناس فيه ؟ والاجابة هي ان الاسس المادية للفلسفة الماركسية لا تسمح بان يكون الاحتكام عند الاختلاف الى الناس . والغلبية في الرأي أغلبية وعي والوعي ليس حجة في الماركسية . وقد ادى هذا الى ان تأتي الماركسية خالية من ” نظرية ماركسية في الديموقراطية ” . فكان موقف الماركسيين من الديموقراطية رد فعل للديموقراطية الليبرالية. فادانوا الديموقراطية البورجوازية ولم يقدموا عنها بديلا . وهو ذات ما فعلوه بالنسبة الى القومية (فقرة 11) . وكما تطور موقفهم من القومية عن طريق التجربة والخطأ خلال الممارسة تطور موقفهم من الديمرقراطية . و كما بدأ التطور بالنسبة الى القومية في عهد لينين ثم انقطع ليستأنف مسيرته بعد وفاة ستالين ، بدأ التطور في عهد لينين ثم انقطع ليستأنف مسيرته بعد وفاة ستالين . فاستناداً الى ما اثبتته ” خبرة الاتحاد السوفييتي والديموقراطيات الشعبية ” صحح المؤتمر الثاني والعشرون للحزب الشيوعي السوفييتي مفهوم “الدولة” فلم تعد مؤقتة وديكتاتورية دائماً بل انها باقية بعد ان تنتهي ديكتاتورية البروليتاريا لتكون ” دولة الشعب كله ” . وفي دولة الشعب كله اذا اصبح القهر ضرورياً فانه لا يوجه الى طبقة بعينها ولكن الى المعتدين كافراد . وأن على البروليتاريا ان تقود الناس ومنهم البورجوازية الصغيرة و المثقفين الى الاشتراكية بالوسائل الديموقراطية : الاقناع والتشجيع والقدوة . وانه اذا استطاعت الطبقة العاملة أن تحصل على الاغلبية البرلمانية ، فان هذا الجهاز التقليدي للديموقراطية البورجوازية (البرلمان) يتحول الى اداة حقيقية للارادة الشعبية . اكثر من هذا، انه اذا كان النظام البرلماني يتطلب تعدد الاحزاب ” فان خبرة الديموقراطيات الشعبية قد اثبتت فعلاً امكان الاحتفاظ بنظام تعدد الأحزاب خلال فترة بناء الاشتراكية ” وكل هذا مطروح من اكثر الماركسيين خبرة بما سببته الديكتاتورية من اضرار بالتقدم الاجتماعي في ظل الاشتراكية وهم الماركسيون في الاتحاد السوفييتي (اسس الماركسية - اللينينية 521 ـ 537) .
ولا بد لنا من أن نشير هنا الى ان ” سيادة القانون ” او ” الشرعية “، بمعنى اتفاق لتصرفات القائمين على السلطة مع قواعد القانون السائد في المجتمع أكثر تحققاً في الاتحاد السوفييتي من أية دولة أخرى . واذا كان الليبراليون يفاخرون باعلان حقوق الانسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية سنة 1789 فان قائمة اكثر عدداً وأوضح مضموناً من الحقوق اصدرتها ثورة اكتوبر السوفييتية في يولية سنة 1918 تحت عنوان ” اعلان حقوق الشعب العامل ” . والدستور السوفييتي يؤكد ان القضاء مستقل ولا يخضع في قضائه الا للقانون . اكثر من هذا فان الدولة السوفييتية قد انشأت منذ 28 مايو سنة 1922 جهازاً خاصاً للحفاظ على شرعية تصرفات اجهزة الحكومة والموظفين بما فيهم الموظفون القائمون على تنفيذ القانون أنفسهم . ذلك هو الجهاز الذي يعرف باسم ” البروكوراتورا ” والذي تنحصر مهمته فى حراسة الشرعية . وهو جهاز لا مثيل له في اية دولة ليبرالية . ذلك لأنة غير تابع لا للسلطة القضائية، ولا لوزارة العدل ، ولا للحكومة ذاتها ، بل يتبع مجلس السوفييت الأعلى مباشرة ليكون بهذا الاستقلال عن الحكومة وأجهزتها قادراً على مراقبة تنفيذ الحكومة ، ووزارة العدل ، والقضاة، والشرطة ، وكل الاجهزة الأخرى ، للقانون ” وضمان شرعية ” تصرفاتهم . وهكذا نعرف ان سيادة القانون لا تحل مشكلة الديموقراطية .. فالواقع اننا اينما ذهبنا في الأرض فنحن في مواجهة جماعة بشرية يقوم فيها نظام قانوني يتضمن مجموعة كبيرة ومتنوعة من القواعد الآمرة ، الناهية ، المكملة ، المفسرة ، تتدرج في قوتها الملزمة من أول اللوائح الادارية الى قمة الدستور. وتتضمن تلك القواعد جزاء جنائياً أو مدنياً أو اجرائياً على مخالفتها ، كما تتضمن الزاماً باحداث آثار معينة في حياة الناس . وتقوم في المجتمع سلطة لها حق ايقاع الجزاء أو ضمان نفاذ القانون بالاكراه اذا لزم الأمر، وذلك بقصد تحقيق انضباط سلوك الاشخاص في المجتمع على قواعد القانون . في هذه المجتمعات المنظمة لا تحل ” سيادة القانون ” مشكلة الديموقراطية لأنه لا شيء يتم ـ حتى الاستبداد ـ إلا بعد أن يكون قد صدر قانون يبيحه . وتملك كل دولة في هذا العصر ” مصنعها ” الخاص لاصدار القانون . انما العبرة في سيادة القانون والشرعية في الحقوق والواجبات ، في التفرقة ما بين الحرية والاستبداد في مجتمع منظم (دولة) هو بمدى اتفاق القوانين التي تنظم المجتمع مع ما يريده الشعب فعلاً . وعندما تكون ارادة الشعب هي مصدر شرعية القوانين الوضعية تكون تلك القوانين تجسيداً لسيادته فعلاً . نقصد كل القوانين من اول الدستور (القانون الاساسي) الى آخر اللوائح التنفيذية . وهنا تبرز أهمية مشكلة الديموقراطية وعقدتها ايضاً . إذ ان الديموقراطية هي النظام الذي يضمن ان تكون القوانين مطابقة لارادة الشعب . فهي إذن ضمانة شرعية كل شيء في الدولة . ولكن ممارسة الديموقراطية في الدولة ينظمها هي ايضاً قانون . ويصل بنا هذا الى عقدة مشكلة الديموقراطية : يكون سلوك الفرد في المجتمع مشروعاً اذا كان متفقاً مع القانون . ويكون القانون مشروعاً اذا اتفق مع الدستور. ويكون الدستور مشروعأ اذا اتفق مع ما يريده الشعب . وهو لا يكون كذلك إلا اذا صدر وفقاً للاجراءات التي يحددها القانون . ونعود الى البداية لو قلنا ان هذا القانون الاخير لا يكون مشروعا إلا اذا كان مطابقاً للدستور. ولا يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي تدور فيها مشكلة الديموقراطية إلا اذا توقفنا لنسأل : كيف يمكن أن نعرف ان القانون الوضعي المنظم للممارسة الديموقراطية في مجتمع معين هو ذاته مشروع بدون حاجة الى الرجوع الى قانون وضعي آخر ؟ … بدون معرفة الاجابة على هذا السؤال الحاسم نفتقد أي ضمان ضد ان يكون ” النظام الديموقراطي ” كله في مجتمع معين قد وضع في قانون اساسي (دستور) او قوانين استفتاء وانتخاب … الخ لمجرد اضفاء الشرعية الشكلية على نظام قانوني باسناده اسناداً شكلياً الى ارادة الشعب . وعندما تكون العلاقة بين النظام القانوني في المجتمع وبين ارادة الشعب علاقة شكلية ، تكون سيادة الشعب سيادة شكلية مهما كثر الحديث عنها في القوانين .
اذن فلا بد من البحث عن الحل الصحيح لمشكلة الديموقراطية خارج نطاق القانون الوضعي . وهذا ما تفعله كل المذاهب السياسية. حاولت الليبرالية ان تقدم الحل من القانون الطبيعي . وحاولت الماركسية أن تقدم الحل من القوانين التي تحكم تطور انتاج الحياة المادية . ولا نستطيع نحن ان نفعل غير هذا. وفيما يلي نحاول ان نقدم حلاً لمشكلة الديموقراطية في دولة الوحدة على أساس من نظريتنا القومية .
(7)
52 ـ دولة العرب الديموقراطية :
طال بنا الحديث وتشعب قبل ان يصل الى مشكلة الديموقراطية الدقيقة . لهذا قد يكون من المفيد ان نسترجع الخطوات التي وصلنا بها الى دولة الوحدة . ولتكون الفائدة مضاعفة نسترجع تلك الخطوات ونحن ندرس مشكلة الديموقراطية . لعلنا نتبين اننا بينما كنا نبني نظريتنا في القومية لبنة لبنة كنا نبني بذات اللبنات نظريتنا في الديموقراطية . ولعلنا عندما نتبين هذا أن ندرك أن القومية ديموقراطية واننا لا نستطيع أن نكون قوميين إلا اذا كنا ديموقراطيين ، لأن الأسس الفكرية التي تقوم عليها كل من الديموقراطية والقومية أسس واحدة . وقد كنا نستطيع ان نعرض ملخصاً للمقولات المتتالية القائم بعضها على بعض والتي أوصلتنا الى الوحدة ثم نتلوه بالتطبيق في دراسة الديموقراطية . غير أن هذا الأسلوب سيبقى ـ دائماً ـ حاجزاً بين ما قيل أولاً عن القومية وما يقال أخيراً عن الديموقراطية . قد نفتقد عنده بيان العلاقة بين القولين . لهذا فإنا نفضل أن نعرض سلسلة افكارنا التي اتصلت حلقاتها حتى انتهت الى الوحدة ، حلقة حلقة ، لنرى علاقة كل حلقة بمشكلة الديموقراطية .
(1) لقد كانت المقولة الأساسية في كل البناء الفكري الذي أقمناه هو : ” ان كل شيء منضبط بقوانين تحكم حركته حتماً سواء عرفنا تلك القوانين أو النواميس أم لم نعرفها ” (فقرة 2) . وهي قاعدة أساسية وحاسمة في مشكلة الديموقراطية . اذ نعرف منها ان الديموقراطية من حيث هي نظام اجتماعي لا يمكن أن تخضع للتصورات المثالية أو تقوم على فكرة ميتافيزيقية مستقرة في ضمائر البشر يقال لهما القانون الطبيعي . ان المصدر الصحيح لمعرفتها هو ذات الظاهرة التي تقوم فيها المشكلة : المجتمع . والمصدر الموثوق لحلها هي ذات القوانين الحتمية التي تضبط حركة المجتمعات . بمعنى اننا عندما نبحث عن الحقوق والحريات التي يجب أن يكفلها النظام القانوني للمجتمع (الدولة) ليكون نظاماً ديموقراطياً لا ينبغي أن نبحث عن ” حقوق أو حريات طبيعية ” بل أن نبحث عن ” الحقوق والحريات الاجتماعية ” تلك الحقوق والحريات التي لا ينشئها القانون الوضعي بل تحتمها القوانين الموضوعية التي تحكم حركة المجتمع .
(2) ولقد تعرضنا للمشكلة الفكرية التي تثيرها تلك المقولة الأساسية وهي ما اذا كان الانسان صاحب الارادة الحرة والمقدرة على الاختيار يخضع هو أيضاً لقوانين حتمية أم لا يخضع ؟ ( فقرة 3) . وعرضنا نماذج من المناهج الفكرية التي حاولت الإجابة على هذا السؤال . فعرفنا المنهج الليبرالي (فقرة 5) وقصوره ( فقرة 6) ومناهج التطور (فقرة 7) ومنها المنهج التاريخي (فقرة 8) ثم المنهج الجدلي (فقرة 9) ، وأوضحنا كيف كانت الميتافيزيقا سبباً في فشل المنهج الجدلي في شكليه المثالي والمادي (فقرة 10) . ثم تطور المنهج الجدلي من خلال الممارسة الماركسية (فقرة 11) والاسلامية (فقرة 14) والقومية (فقرة 16) ، ليصبح مستقراً انه ” في نطاق التأثير المتبادل بين العناصر المتعددة في المجتمع يكون الانسان هو العامل الأساسي في التطور” (فقرة 17) . وابتداء من هنا نعرف ماهية الديموقراطية وأهميتها أو فلنقل خطرها أو خطورتها . فالديموقراطية هي النظام الذي يحدد العلاقات بين الناس في المجتمع وهم يمارسون دورهم القائد في حركة التطور . فهي اذن العامل الأول الذي تتوقف عليه مقدرة الناس في المجتمع على تطوير واقعهم . ويمكننا ـ من مجرد هذه البداية ـ أن ندرك ان أي قصور في أسلوب قيادة الناس لحركة التطور ” الديموقراطية ” سيخل أو يعوق أو يوقف حركة التطور ذاتها . ثم نبدأ في معرفة القوانين التي تضبط حركة الناس في المجتمع مقدمة لصياغة النظام الديموقراطي على الوجه الذي يتفق معها .
(3) ولقد بدأنا بوحدة تركيب المجتمعات ، أو بالعنصر المشترك في كل المجتمعات ، وهو الانسان لنرى القانون الذي يضبط حركته حتماً . فعرفنا (جدل الانسان) من حيث هو القانون الذي يضبط حركة الانسان حتماً ، وعرضنا أحكامه بالتفصيل (فقرة 18) . وفي دراستنا ” لجدل الانسان ” عرفنا ان الانسان يطور واقعه من خلال حل مشكلاته . وان مشكلاته تثور في الانسان نفسه بفعل التناقض بين ارادته وواقعه . فحتم عليه أن يستهدف دائماً حريته . وانه يحقق حريته باشباع غايته . وانه يشبع غايته بتغيير واقعه . وهكذا يطو ر واقعه ولا يستطيع أن يطور واقعه إلا على هذا الوجه . وانه ينجح في تطوير واقعه (حل مشكلاته) بقدر ما يعرف ويحترم حتمية القوانين التي تضبط حركة الأشياء والظواهر . ولو شئنا عندئذ أن نعرض للعلاقة بين جدل الانسان والديموقراطية كما نفعل الان ، لقلنا ان الديموقراطية حتمية والاستبداد فشل محض . ذلك لأنه في ظل الديموقراطية أو في ظل الاستبداد ، لا يكف الناس ولا يستطيعون ان يكفوا عن ممارسة حرياتهم . لا يكف الناس ولا يمكن ان يكفوا عن مناقشة المشكلات الاجتماعية ولو همساً ، وعن ابداء آرائهم ولو لذوي قرباهم ، وأن يعملوا على تحقيق ما يريدون ولو خفية . هذا امر محتوم بحكم انهم بشر . فالاستبداد لا يحول دون أن يتبادل الناس المعرفة بالمشكلات ولو في شكل اشاعات ، ولا يحول دون ان يتبادل الناس الأراء ولو في شكل مقولات مضحكة (نكت) ولا يحول دون ان يحققوا ارادتهم ولو اختلاساً . انما وظيفة الاستبداد ان يحول دون ان يعرف المستبدون ما الذي يشكو منه الناس وماذا يريدون وماذا يفعلون . الاستبداد عصابة سوداء على أعين المستبدين لا يرون من خلالها شيئاً فيتوهمون ألا شيء هناك فهم أول ضحاياه . أما أثره في المجتمع فهو تعويق حركة التطور الاجتماعي فيه .
(4) ذلك لأننا بعد ان عرفنا قانون الانسان الفرد رددنا هذا الانسان الى مجتمعه لنرى ما يؤثر فيه ويتأثر به . فعرفنا ان المجتمع هو ” جماعة من الناس يعيشون معاً في واقع معين مشترك فيما بينهم … انهم افراد متعددون ينشط كل منهم في الواقع المشترك طبقاً لقانونه النوعي : جدل الانسان كل منهم يسعى ولا يستطيع إلا ان يسعى لإشباع حاجاته . وكل منهم يستهدف ولا يستطيع إلا ان يستهدف حريته .. الخ . هذا لا يتغير في المجتمع . فالمجتمع لا يحيل الانسان شيئاً جامداً او يحول الناس الى قطيع من الحيوان . انما الذي يتغير هو الواقع ذاته . اذ عندما يتعدد الناس في واقع معين واحد يصبح هذا التعدد بما يتضمنه من مشاركة جزءاً من الواقع . جزءاً من الواقع الذي يواجهه كل انسان . يصبح واقعاً اجتماعياً. واقعاً اجتماعياً لا بمعزل عن أي انسان فيه . ولكن بالنسبة الى كل انسان فيه ” ( فقرة 18) .
وعندما نصل الى المجتمع نواجه مشكلة الدولة اذ الدولة هي التنظيم القانوني للمجتمع . فنلاحظ ان المجتمع ـ اي مجتمع ـ ينطوي في ذات تكوينه على تناقض يين تعدد الأفراد فيه ووحدة الواقع الاجتماعي المشترك . وهو تناقض مصاحب لقيام المجتمع ولا ينتهي إلا بنهايته ان كانت للمجتمع نهاية . وهو يثير مشكلة مشتركة (عامة) بين الافراد المتعددين في واقعهم الواحد . ولقد ابتكر الانسان منذ أن وجد المجتمع حلاً لتلك المشكلة ما اسميناه ـ اخيراً ـ الدولة : تنظيم المجتمع بقواعد عامة وملزمة تضبط سلوك الافراد فيه على الوجه الذي يتفق مع غاية اجتماعية مشتركة وتأتي قوة الردع التي تتضمنها القاعدة الملزمة لتكفل ابقاء السلوك الفردي متفقاً دائماً مع هذه الغاية ، فهو نظام يتضمن ـ اولاً ـ اسلوباً محدد التحقيق غاية اجتماعية مشتركة . وهذي هي وظيفته الأساسية . ومن اجل ضمان تحقيق هذه الغاية يتضمن ـ ثانياً ـ جزاء رادعاً على مخالفة قواعده . وتقوم على نفاذ تلك القواعد وردع المخالفين لها ” اداة ” تكون لها سلطة التنفيذ والردع . هكذا وجد ـ منذ ان وجد المجتمع ـ ذلك النظام العام (المشترك) المركب من عديد من القواعد الملزمة التي تضبط سلوك الناس في المجتمع باداته التي تنفذ القواعد الملزمة ولو بالاكراه. قد تكون تلك الاداة الوالد في الاسرة او الشيخ في القبيلة او الكاهن او الأمير او الحكومة . وقد يكون مصدر توليته الأمر في المجتمع وضعه العائلي كقرينة على عدالته ، او سنه كقرينة على حكمته، أو شجاعته كقرينة على قدرته ، او انتخابه من الصفوة او من الشعب انتخاباً مباشراً أو غير مباشر. وقد يسمى النظام قبلياً او ملكياً او جمهورياً . وقد تسمى غايته اقطاعاً او رأسمالية او اشتراكية . وقد يكون اسلوبه في الردع الطرد من الجماعة او الاعدام شنقاً … الخ . غير ان هذا كله لا يغير من طبيعة ذلك النظام الاجتماعي الذي نسمي شكله الاخير : دولة . ذلك لأنه مهما اختلفت مضمون السلطة ومن يتولاها فإن وجود الدولة ذاته هو حل لمشكلة طرحها ويطرحها المجتمع بوجوده ذاته . ومن هنا نعرف أن الدولة كانت قائمة في كل مجتمع وستظل قائمة ما بقيت المجتمعات . انها لا تتلاشى ولا يمكن ان تتلاشى . فحتى لو أصبح الناس امة واحدة ، وانتهى الصراع الاجتماعي في الأرض فلن يتوقف التطور الاجتماعي ابداً . وسيظل اختلاف الأفراد حول الخطوة القادمة للتطور الاجتماعي موجوداً أو قابلاً للوجود ، وستظل ضمانات تحقيق الخطوة التقدمية لازمة . وستظل المقدرة على ردع الأفراد الذين لا يقبلون هذه الخطوة لازمة. وبالتالي تظل قائمة وظيفة الدولة بما تتضمن من سلطة ادارة وردع . والواقع ان القول بان سيأتي اليوم الذي تكون الدولة فيه غير لازمة ـ وهو قول قديم ـ كان قولاً مثالياً قائماً على فرضية طوباوية هي أن سيأتي اليوم الذي يكون ” لكل حسب حاجته ” فيزول التناقض بين الحاجة الفردية والحاجة الاجتماعية ، وتحل نهائياً والى الأبد مشكلة الندرة . وهو طوباوي لأنه يحلم بيوم تكون فيه للحاجات الانسانية حدود نهائية تشبع عندها بفائض الانتاج . وقد تشبع حاجة الانسان الى سلعة او مضمون ما ويفيض الانتاج عنها إلا ان حاجات جديدة ومتجددة ستظل أبدأ في حاجة الى مزيد من الانتاج المادي او الثقافي . ومهما استقرت أمور الناس على أوضاع مادية او ثقافية فلا يختلفون فيها وبالتالي لا يحتاجون فيها الى القانون او الى الدولة فان التطور الاجتماعي سيطرح اموراً جديدة يختلف فيها الناس او قد يختلفون وتظل للدولة وظيفة الزام الأفراد ـ بالردع ـ السلوك الذي يتفق مع متطلبات التطور الاجتماعي .
الدولة إذن قديمة وقائمة وباقية أبدا .
(5) ثم انا بعد أن رددنا الانسان الى مجتمعه لنعرف ما يؤثر في قانونه (جدل الانسان) وما يتأثر به عرفنا ان اول اثر هو انه ” مهما تعددت وتفاوتت واختلفت وتناقضت حاجات الناس فإن حلها الصحيح في مجتمع معين في وقت معين محدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته … ومؤدى هذا ان كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها ، وان أية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع معين في مجتمع معين … وينطبق هذا بالنسبة الى كل الناس في المجتمع فيطورون واقعهم الاجتماعي بيسر ويطرد التطور الاجتماعي إذاً ، وكلما ، استطاعوا ان يعرفوا الحل الاجتماعي الصحيح لمشكلاتهم وان يلتزموه في الممارسة “ (فقرة 18). وهكذا نعرف ان غاية النظام القانوني للمجتمع (الدولة) ان يمكن الشعب فيه من اكتشاف الحلول الاجتماعية الصحيحة لمشكلاتهم كما هي محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذها في الواقع بالعمل . فنعرف ان الدولة منذ أن قامت كانت دولة للشعب كله ، وستظل أبداً دولة للشعب كله بمعنى انها نظام قانوني للمجتمع كله . نظام عام . ولم يحدث أبداً ولا يمكن أن يحدث أن تكون دولة لفرد من الشعب تنظم حياته الخاصة وحده ، أو دولة لمجموعة من أفراد الشعب تنظم العلاقات فيما بينهم دون غيرهم ، او دولة ” الطبقة ” تضبط سلوك المنتمين اليها بقواعد ملزمة لهم مقصورة عليهم . وهذا هو مـا يفرق الدولة عن الاسرة او الجمعية او النقابة . الدولة نظام عام وتلك نظم خاصة . قد يستولي فرد أو جماعة أو ” طبقة ” على ” السلطة ” في الدولة فتسخرها فيما تريد لنفسها فيقال مجازاً انها ” دولتهم ” بمعنى انها مسخرة ـ بقوة الردع- لتحقيق مصالحهم الخاصة دون الشعب ، ولكن تبقى مع ذلك دولة للشعب كله . لأنهم عندما يريدون لا يريدون لأنفسهم فقط بل يريدون للشعب كله من خلال الدولة ولو لم يريدوا له إلا أن يكون خادماً لهم . ان القوانين التي كانت تبيح ملكية العبيد في دولة الرق كانت تنظم سلوك السادة وسلوك العبيد والعلاقة بينهم جميعأ في دولة واحدة . والمستبدون في الدولة لا يستبدون بانفسهم بل يستبدون لأنفسهم بالشعب كله فهم وضحاياهم في دولة واحدة .
وجوهر مشكلة الديموقراطية هي كيف تكون الدولة دولة الشعب كله . وهذا هو الفيصل بين الديموقراطية والديكتاتورية . عندما تكون الدولة دولة الشعب كله تكون ديموقراطية ، وعندما تكون دولة فرد أو جماعة أو طبقة تكون ديكتاتورية . أما سلطة الردع فهي من النظام القانوني للمجتمع سواء كانت دولة ديموقراطية أو ديكتاتورية . واستعمالها ليس دائماً علامة على الديكتاتورية . فقد تستعمل ضد الانحراف الفردي ولا تكون ديكتاتورية. وتستعمل ضد الأقلية لنفاذ رأي الأغلبية ولا تكون ديكتاتورية . ولقد عرفنا من حديثنا المقارن بين ” نظرية الصراع الاجتماعي ” و” نظرية الصراع الطبقي ” مصدر الخطأ في الزعم بأن الدولة هي ديكتاتورية دائماً . قلنا ( فقرة 38 ) أن ” الطبقة بمفهومها الماركسي تناضل من أجل مصالحها الطبقية الخاصة . ونحن لا نرى أن التقدميين يناضلون من أجل مصالحهم الخاصة فهم لا يستوون ـ في نظرنا ـ مع الرجعيين . ذلك لأن المضمون التقدمي للصراع الاجتماعي محدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . ومهما تكن مصالح الناس متنوعة ، ومختلفة ، ومتفاوتة . طبقأ لقسمة العمل بينهم وللجهد الذي يبذله كل واحد في موقعه فان كل مصالحهم متفقة مع الحل التقدمي لمجتمعهم حتى لو كان بعض الناس لا يعلمون . وهكذا يدور الصراع الاجتماعي حول مصالح الشعب كله من ناحية ومصالح الرجعيين من ناحية . ويبدو هذا أكثر ما يكون وضوحاً في النضال الذي يقوم به العمال من أجل الاشتراكية . فالعمال لا يستهدفون من نضالهم ضد الرأسماليين إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج ، ملكية الرأسماليين لها ، لتصبح بعد هذا ملكية خاصة بالعمال ، بل لتصبح ملكية إجتماعية لكل الشعب . فهم يستهدفون إلغاء ” نظام إجتماعي ” يوفر للرأسماليين إمكانيات إستغلالهم وإستغلال كل قوى الشعب المادية والبشرية واقامة نظام إجتماعي أكثر تقدماً يوفر الحياة الأفضل لهم ولكل أفراد الشعب حتى من غير العاملين . بل إن غايتهم النهاثية إلعاء الصراع الاجتماعي ، أي إلغاء أنفسهم كقوة من قوى الصراع الاجتماعي ليعيش الناس جميعاً بدون صراع ” . ان الخطأ الكامن في الخلط بين قوى الصراع الاجتماعي وأساليبه وغاياته هو الذي أدى بالفكر الماركسي الى المساواة بين القوى واعتبار كلأ منها طبقة ، والمساواة بين أساليبها واعتبار كلأ منها قهراً ديكتاتوريأ ، والمساواة بين غاياتها واعتبار كلأ منها غايات طبقية خاصة ، فقادتها تلك الأخطاء الى النهاية الخاطئة ، عندما ينتهي الصراع الطبقي تزول الدولة . على أي حال نحن لا نسوى بين القوى وأساليبها وغاياتها بل نقيس المواقف على الحل الصحيح المحدد موضوعياً لكل المشكلات الاجتماعية . فلا يمكن أن نخطيء التعرف على الديكتاتورية في دولة الاقطاع أو دولة الرأسمالية فهنا قلة تسخر الدولة لغاياتها دون الشعب كله . ولكنا لا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن الدولة الاشتراكية . ان الاشتراكيين ليسوا طبقة لأن مصالحهم غير معزولة عن مصالح الشعب كله . فهم لا يستهدفون مصالح خاصة دون الشعب ليسخروا الدولة في تحقيقها بل يستهدفون نظاماً إجتماعياً تتحقق به وفيه حرية كل الناس في المجتمع من العاملين والفلاحين والمثقفين والفنانين والجنود وحتى من الذين لا يعملون عاجزين كانوا أم نساء أم أطفالاً أم طلبة . الاشتراكيون يستهدفون النظام الاشتراكي . وهو نظام للشعب كله . وميزته انه يحقق مصلحة الشعب كله. فلا يمكن قبول الزعم بأن ” الدولة هي دائماً ديكتاتورية ” أو ” أداة قهر طبقي ” بل نقول انها تكون ديكتاتورية وأداة قهر طبقي عندما تكون مسخرة لخدمة مصالح فرد أو جماعة أو طبقة . وإن القوى الاجتماعية التي تستهدف التقدم الاجتماعي لا تستهدف مصالحها الخاصة فهي ليست طبقة . وعندما تتولى السلطة في الدولة لن تكون الدولة ديكتاتورية .
هذا من حيث المبدأ لبيان أن الدولة لا تكون دائماً ديكتاتورية . ومع ذلك فان الديموقراطية أو الديكتاتورية ليست منوطة بالغاية التي تدعيها كل قوة إجتماعية تريد أن تتولى السلطة في الدولة . فإن كل قوة إجتماعية ستزعم إنها تريد مصلحة الشعب كله ، أو ان غايتها تتفق مع مصلحة الشعب كله . إنما الديموقراطية أو الديكتاتورية هي نظام وضعي للدولة . فهي تكون ديموقراطية أو ديكتاتورية تبعاً لما تتضمنه من قواعد وقوانين تنظم معرفة المشكلات الاجتماعية وإكتشاف حلولها الصحيحة وتنفيذها في الواقع الاجتماعي . ومن هنا نستطيع أن نحكم على مصير الدولة عندما تتولى السلطة فيها أية قوة إجتماعية تبعاً لاجابة كل قوة إجتماعية على هذا السؤال : كيف يمكن إكتشاف معرفة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة التي ستكون نافذة بحكم القانون ؟ . فنعرف ـ مقدماً ـ ان كل إجابة قائمة على أسس ” جبرية ” ستترجم فى الدولة الى ديكتاتورية أياً كان مضمونها . وقد عرفنا انه “عندما لا يكون الانسان هو المحرك القائد لعملية التطور يكون التطور مفروضاً عليه من خارجه وتلك هي الجبرية ” (فقرة 10) . ومنه نعرف انه بصرف النظر عن كل الوعود فإن المثاليين والماديين معاً ، الذين يبحثون عن غاية التطور الاجتماعي خارج الانسان نفسه لا بد أن ينتهي بهم الأمر الى الاستبداد ، ولا بد أن تنتهي الدولة في أيديهم الى ديكتاتورية . لانهم عندما يحاولون اكتشاف الحلول الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي المنظم في دولة سيبحثون عنها في ” أفكارهم ” أو في ” أدوات الانتاج المادية ” . وفي الحالتين لن يكونوا في حاجة الى الناس ، ولا يكون ” لدولتهم ” إلا وظيفة إلزام الناس بحكم القوانين التي يضعونها هم على تحقيق ما أرادوه لهم . نريد أن نقول انه طبقاً للنظريات المثالية والمادية . لا يكون للديموقراطية لزوم أصلاً الا أن تكون لازمة لتصديق الناس على ما اختار القادة . أو إلا اذا تعثر القادة وكذبتهم الممارسة فاستعانوا بالشعب وهم عندئذ يغادرون منطلقاتهم المثالية و المادية .
(6) أما نحن فقد كنا عرفنا أن معرفة المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذها يتم عن طريق قانون التطور الاجتماعي (الجدل الاجتماعي) : ” المعرفة المشتركة بالمشكلات الاجتماعية والرأي المشترك في حلها والعمل المشترك تنفيذاً للحل في الواقع الاجتماعي لتتحقق به اضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية وتثور بها مشكلات جديدة فتحل وهـكذا . مع ملاحظة ان حركات الجدل هذه تمثل ايقاعاً ثابتاً للقانون . معرفة المشكلة قبل معرفة الحل وشرط لها . ومعرفة الحل قبل التنفيذ بالعمل وشرط له “ (فقرة 18) . ومنه نعرف ـ أولاً وقبل كل شيء ـ ان الرجوع الى الناس في المجتمع لازم لمعرفة المشكلات الاجتماعية وحلولها وتنفيذ تلك الحلول . فنعرف ان الديموقراطية لازمة لإمكان التطور الاجتماعي في المجتمع المنظم (الدولة) . بمعنى ان أولى وظائف الدولة ان تنظم بالقوانين الوضعية كيفية مساهمة الناس في الجدل الاجتماعي . وعندما تخلو أية دولة من هذا النظام اتكالاً على تلقائية اكتشاف الحلول الصحيحة (الليبرالية) أو اتكالاً على وعي قادتها (استبدادية) تكون دولة ديكتاتورية ، فتكون دولة فاشلة . ومرد فشل الدولة الديكتاتورية الى انها لا تضمن نظامها الوضعي نظماً يسمح للناس بأن يكتشفوا الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية بأسلوب اكتشافها ( الجدل الاجتماعي) فلا يستطيعون ان يكتشفوها . غير ان ليس هذا هو كل شيء ، اذ يقدم لنا “ الجدل الاجتماعي ” ثلاث قواعد لا يتم إلا بها جميعاً وطبقاً لترتيبها المتفق مع ايقاع حركة الجدل : المشكلة الحل فالعمل ( من الواقع الى الفكر الى الواقع) . فيقدم لنا بذلك أسساً ثلاثة للنظام الديموقراطي :
الأول : العلم بالمشكلات الاجتماعية وتبادل العلم بها بين الناس بدون قيود . هذا هو الشرط الأول للجدل الاجتماعي . حرية التعبير والشكوى والمعرفة والعلم والتعليم بدون قيد . وله وجهان : أولهما سلبي يمثل في الالغاء التام والكامل لكل أسباب الخوف . الخوف من أي انسان او من أي مجهول . الأول : تضمنه المساواة بين البشر أمام القانون (سيادة القانون) والثاني : تضمنه قاعدة ألاجريمة ولا عقوبة ولا جزاء من أي نوع كان إلا بناء على قانون عام سابق على وقوع الفعل . أما الوجه الايجابي فيتمثل في ان تطرح جميع المشكلات الاجتماعية بدون تزييف أو تشويه . ان هذا يحتم وضع حد لتلك الجريمة المخربة التي ما تزال مباحة في كل نظم العالم . الكذب ، وما دام الكذب مباحاً بدون عقوبة تحت تأثير القاعدة الليبرالية ” القانون لا يحمي المغفلين ” فان كل شيء في المجتمع سيكون مخلوطاً بالكذب أو كذباً خالصاً . وعندما يكذب الحاكمون ويكذب المحكومون ، ويكذب الموظفون ، وتكذب الصحف ، وتكذب أجهزة الاعلام .. بدون رادع وبدون مسؤولية فإن الحياة كلها تكون زائفة . وعندما يكون الخوف من الشعب أو الخوف من الحكومة وراء الكذب فنحن لسنا في مواجهة حياة زائفة فقط بل هي حياة زائفة ومتعفنة . وتصبح معرفة حقائق المشكلات الاجتماعية مستحيلة . وعندما تستحيل معرفة المشكلات الاجتماعية على حقيقتها يصبح التطور الاجتماعي مستحيلاً . وهكذا حيثما خاف الناس من ان يقولوا ما يحسونه في انفسهم وحيل بينهم وبين ان يعرفوا ما يعانيه الآخرون يصبح التطور الاجتماعي منطلقاً من مشكلات الناس كما يتصورها أو يزيفها فرد أو مجموعة من الأفراد ، ويصبح تنظيم الخائفين المضللين وحشرهم ليسمعوا من غيرهم تشخيصاً لمشكلاتهم عائقاً أساسياً في سبيل التطور الاجتماعي فلا تكون الدولة دولة الشعب ، ولا يكون القانون تعبيراً عن ارادته .
الثاني : ابداء الرأي في المشكلات الاجتماعية بدون قيود . ان هذا مكمل لمعرفة المشكلات الاجتماعية، فقد عرفنا ان المشكلة الاجتماعية تعبرعن حاجة الانسان الى مضمون مادي أو ثقافي يفتقده . وعندما يعبر كل واحد عن آرائه في حل المشكلات الاجتماعية لا يفعل شيئاً في الحقيقة غير التعبير عما يحتاج اليه وكيفية الحصول عليه مهما تكن صيغة التعبير أي حتى لو لم يتحدث عن نفسه . إن حرية الرأي هي الممارسة الفعلية للمشاركة الفكرية في مصير المجتمع . وبالتالي فان القيود التي تفرض على حرية الآراء في حل المشكلات الاجتماعية ليست إلا حرماناً لأحد الشركاء في المجتمع من أن يشترك في تحديد مصيره ، وتعويقاً لحركة التطور بقدر ما كان المحرومون قادرين على تقديمه من حلول لمشكلات تطوره . انه سلب لمقدرة المجتمع على التطور بقدر حرمانه من جهد أبنائه ولو كان فرداً واحداً منهم . ونلاحظ ان التعبير عن الرأي يمثل الحركة الثانية من قانون الجدل ، والتالية لمعرفة المشكلات . بمعنى انه حيث تفرض القيود على حرية معرفة المشكلات الاجتماعية ، أو حيث تزيف المشكلات الاجتماعية ، لا تكون الاراء إلا حلولاً زائفة لمشكلات زائفة .
الثالث : تنفيذ الأقلية لرأي الأغلبية ، ان هذا يفترض انه في ظل حرية المعرفة ـ بدون قيد ـ للمشكلات الاجتماعية ، وحرية الرأي ـ بدون قيد ـ في حلولها لم يتفق الشعب على حل واحد لذات المشكلات . ولما كانت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته فان الاختلاف لا يعني إلا أن الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية إما انها غير معروفة أصلاً أو انها معروفة لفريق دون فريق . ولا يمكن أن تكون الأغلبية العددية بذاتها دليلاً على صحة رأي الأغلبية . ولكن الاختلاف يعني أن الواقع الاجتماعي يطرح مشكلة جديدة من مشكلات تطوره هى عدم اتفاق الناس فيه على ماهية الحلول الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . ولما كان التطور (حل المشكلات) لا يتم إلا طبقاً لقانون الجدل الاجتماعي ، وهو قانون حتمي ، فان حتميته تحتم الصراع بين الناس المختلفين . ولن يؤدي تجاهل هذه المشكلة الجديدة بانكار أسباب الصراع او اخفائه او منعه إلا الى مزيد من الصراع الذي قد يصل في النهاية الى تمزيق المجتمع نفسه (فقرة 18) . ومن هنا تكون مقدرة الشعب على تجاوز الاختلاف منوطة بتنظيم الصراع ذاته على قاعدتين : الأولى ، نفاذ إرادة الأغلبية على الأقلية بمعنى أن يكون من الأغلبية أن تصوغ إرادتها في قانون عام ملزم للأقلية . وذلك لأنه أياً ما كانت مضامين الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية فانها حلول لمشكلات الناس كما يحسونها في أنفسهم . وقمة النجاح أن تكون حلولاً لمشكلات الناس جميعاً . فان اختلف الناس ينفذ الرأي الذي يحل مشكلات أغلبهم بحكم أنهم شركاء بالتساوي في مجتمعهم . والقاعدة الثانية، هي إبقاء مجال تصحيح الاراء المختلفة مفتوحاً . بأن يبقى لكل من الأغلبية والأقلية حق طرح رأيها والدفاع عنه والتدليل على صحته بكل الطرق بما فيها ما تفسر عنه الممارسة وهي المحك الأخير لصحة الآراء . ومن خلال التبادل المستمر للمعرفة والاراء ينتهي الأمر الى معرفة موحدة بالحقيقة الموضوعية للحلول الصحيحة كما هي محددة بالواقع الاجتماعي ذاته . فإما أن تصحح الأقلية رأيها وإما أن تصحح الأغلبية رأيها . إن مصدر حق التصحيح هذا هو كون الواقع الاجتماعي واحد أو مشتركاً .
(7) بعد هذا جاءت نظريتنا القومية منطلقاً من انه ما دام الناس في المجتمع هم قادة التطور فيه فان دراسة مشكلات تطوره يجب أن تبدأ بالناس أنفسهم ليتحدد من خلالهم المجتمع الذي نريد أن نطوره من خلال حل مشكلاته ( فقرة 20) ولم نقف عند القول بأننا أمة عربية واحدة بل سألنا عن علاقة كوننا أمة بالمستقبل الذي نريده . وأجبنا على هذا اجابة تعتبر حجر الزاوية في نظريتنا القومية . وكانت اجابة ذات شقين أحدهما خاص بالماضي والاخر خاص بالمستقبل . فقلنا انه بالتطبيق لقوانين التطور التي عرفناها تصل المجتمعات في تطورها التاريخي الى مرحلة الامة عندما يختص شعب معين بأرض معينة فتكون أرضه الخاصة دون غيره المشتركة فيما بينه ( فقرة 21) . أما عن الشق الخاص بالمستقبل فقلنا انه بالتطبيق لذات قوانين التطور التي عرفناها تكون ثمة وحدة موضوعية قد نعرفها وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات الاجتماعية التي يطرحها الواقع القومي ( فقرة 22) . انهما شقان من اجابة واحدة قائمة على أساس فكري واحد طبقاً لمنهج واحد . ومن هنا فانهما غير قابلين للانتقاء . بمعنى اننا لا نستطيع إلا أن نقبلهما معاً أو نرفضهما معاً . أما اختيار احدهما دون الاخر فهو نقض لأساسهما الفكري معاً . وقد وصلنا من خلال ترجمة الشق الأول الى نظام قانوني ( دولة) الى ان الدولة القومية هي وحدها التي تجسد اختصاص الشعب بالأرض والمشاركة فيها ، أي تجسد وحدة الوجود القومي ( فقرة 23) . وسنرى فيما يلي كيف أن ترجمة الشق الثاني الى نظام في الدولة القومية سيصل بنا الى أن “ الديموقراطية ” هي النظام الذي يتفق مع وحدة المصير القومي . وعندما ننتهي من هذا سنكون قد عالنا علمنا علم اليقين أن دولة الوحدة العربية لا تكون دولة قومية إلا اذا كانت دولة ديموقراطية ، واننا لا يمكن أن نكون قوميين إلا اذا كنا ديموقراطيين .
(8) ذلك لأننا عندما نكون في مواجهة مجتمع قومي (امة) تكون الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية فيه محددة موضوعياً بالواقع القومي كله اوـ بتعبير آخرـ تكون حلولاً قومية لمشكلات قومية لا تنفذ إلا بالعمل القومي . أما كيف يمكن اكتشافها فقد عرفنا ان ذلك يتم عن طريق الجدل الاجتماعي . الجدل الاجتماعي على مستوى الأمة كلها . إذ عندما لا يسهم جزء من الشعب في الجدل الاجتماعي (نتيجة التجزئة مثلأ) يكون الجدل الاجتماعي قائماً في جزء من المجتمع فلا يهتدي الشعب فيه إلا إلى بعض حقيقة المشكلات الاجتماعية وبالتالي لا يعرف إلا حلولها الجزئية ثم يعجز عن حلها . ولما كانت الديموقراطية هي الصيغة القانونية للجدل الاجتماعي فهي لا تقوم في أمة إلا اذا كانت تنظيمأ قانونياً لمساهمة كل أبناء الأمة في الجدل الاجتماعي حتى يستطيع الشعب أن يعرف الحقيقة الاجتماعية لمشكلاته وان يكتشف حلولها الصحيحة و أن يحلها . تطبيقاً لهذا نستطيع أن نقول انه كما ان دولة الوحدة لا تكون دولة الشعب العربي إلا اذا كانت ديموقراطية فان الديموقراطية لا يمكن أن تؤدي غايتها الاجتماعية في الوطن العربي إلا في ظل دولة الوحدة . وبالتالي يستحيل في ظل التجزئة أن تؤدي الديموقراطية الى المعرفة الصحيحة بالمشكلات الاجتماعية او بحلولها او لا يمكن أن تكون ارادة الناس التي عبروا عنها ” ديموقراطياً ” في الدول الاقليمية مصدراً للشرعية في مواجهة باقي الشعب العربي . اننا عندما نتحدث عن ” الديموقراطية ” ونحتكم الى الشعب في مشكلات اجتماعية هي بحكم الواقع القومي مشكلات قومية ، ثم نقبل ـ بحجة الديموقراطية ـ أن نلتزم رأي الأغلبية في الدول الاقليمية ، ننسى ان الأغلبية نسبة ” عددية ” فلا نفطن الى انه لا يمكن معرفة الأغلبية إلا بعد معرفة ” عدد ” أفراد الشعب الذين من حقهم ان يبدو رأيهم بحكم أن الحلول ستنفذ في واقع اجتماعي مشترك فيما بينهم . ونغفل عن عشرات الملايين الذين حرمتهم التجزئة من حق الاستفتاء والانتخاب والتمثيل والحكم لأن مليونا في الكويت أو مليونين في لبنان او خمسة ملايين في سورية قد احتكموا الى الأغلبية منهم فاختاروا لأنفسهم ما أرادوا وهم لا يختارون ـ بحكم وحدة المصير القومي ـ إلا للامة العربية كلها . فهل من الديموقراطية في شيء أن تستبد أغلبية من الأقلية في تقرير ما يؤثر حتماً في حياة عشرات الملايين من الشعب العربي ؟… كلا انه استبداد لا يقوم عليه أمر مشروع ولو قامت عليه دولة اقليمية . وكل نظام قانوني قائم على أساس التجزئة من اول الدولة ، الى الدستور، الى القانون .. الى آخر القرارات الادارية لا يكون إلا صياغة لارادة الاقليميين فهو بالنسبة الى الأمة العربية غير مشروع وليس مصدراً للشرعية . انه نظامهم القانوني ، و دولتهم ، ودستورهم ، ولوائحهم … يعزلون بها جزءاً من الشعب العربي لتنظيمه ويقيمون به دولة ليحكموه بها … ثم يستعملون قوة الدولة والقانون في ردعه حتى لا يسهم مع باقي الشعب العربي في بناء نظامه القانوني ودولته الديموقراطية .
(9) وأخيراً ، عندما التقينا بالواقع العربي في هذا النصف الثاني من القرق العشرين عرفنا واعترفنا بتخلف أغلبية الشعب العربي عن كثير من الشعوب الاخرى في المقدرة الذاتية على معرفة الحقيقة الاجتماعية لذات المشكلات التي يعانونها في أنفسهم وحلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بواقعهم الاجتماعي وعدم اتقانهم العمل المناسب لتنفيذ تلك الحلول في الواقع (فقره 38) . ورددنا هناك ما عرفناه من جدل الانسان : ” عندما نرى الناس أو بعضهم عاجزين عن معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية أو عن اكتشاف حلولها الصحيحة أو نراهم مفتقدين المهارة اللازمة لتنفيذ تلك الحلول في الواقع لا نعزلهم عنا ولا ننعزل عنهم ولا نستعلي عليهم ، بل ننتبه بقوة الى أننا نواجه فيهم أخطر مشكلات التطور الاجتماعي التي يطرحها واقعنا : تخلف البشر، (فقرة 18) . وعرفنا أن تلك ” مشكلة يثيرها التناقض في الناس أنفسهم بين ارادتهم التطور وواقع عجزهم عن التطور… وإن حلها يكون بتغيير الواقع في الناس أنفسهم ، بتغيير تخلفهم في المقدرة على التطور الاجتماعي . وذلك باشتراكهم على أوسع نطاق في معرفة المشكلات التي يثيرها واقعهم الاجتماعي . انهم بهذا يطورون مقدرتهم الجدلية ، ( فقرة 18) . ونعرف الان ما هي الترجمة القانونية للمشكلة والحل . انها مشكلة التخلف في الممارسة الديموقراطية وحلها هـي الممارسة الديموقراطية على أوسع نطاق . اننا إذ ندرك أن مشكلات التطور في المجتمعات المتخلفة أو النامية ـ ومنها امتنا العربية ـ ليست مقصورة على مجالات التنمية الافتصادية لتعويض سنوات الفقر فحسب ، بل تشمل أيضاً مجالات تنمية المقدرة الانسانية على التطور لتعويض سنوات الجهل نعرف أن حل مشكلات التطور حلا صحيحاً يقتضى التزام أولوية الانسان . بناء الانسان العربي القادر على تطوير مجتمعه حتى يتطور مجتمعه . ولن تكون الاخطاء في الممارسة الديموقراطية إلا المقابل العادل الذي يدفعه المتخلفون ليتقدموا . الحرية ومزيد من الحرية حتى يتعلم الناس في دولة الوحدة كيف يكونون أحراراً فلا يستطيع أن يستبد بهم مستبد . والديموقراطية ومزيد من الديموقراطية في دولة الوحدة حتى يتدرب الناس على حل مشكلات التطور . الانسان أولا. بدون أحرار لا توجد حرية . وبدون حرية لا توجد ديموقراطية . وبدون ديموقراطية لن تكون دولة الوحدة هي دولة الشعب العربي .
والمصدر الاساسي للخطر على الديموقراطية في الوطن العربي هم البيروقراطيون ، ذلك القطاع المتعفن من المثقفين . ذلك لأن المثقفين ـ أينما وجدوا ـ هم قادة حركات التطور الاجتماعي . وفي المجتمعات المتقدمة كثرة منهم قد تفيض عن حاجة القيادة . ولكنهم في المجتمعات المتخلفة أو النامية ـ ومنها امتنا العربية ـ قوة نادرة ذات قيمة فائقة . انهم أثمن امكانيات التقدم المتاحة في المجتمع . فهم قوة ذات خطر واكنهم أيضا ، وللسبب ذاته، قوة ذات خطورة لا يستهان بها . ذلك لأنهم أكثر معرفة وعلماً ومقدرة على العمل الاجتماعي من الكتلة البشرية السائدة في مجتمعاتهم فلا تستطيع مجتمعاتهم أن تستغنى عنهم . وهم يحملون في ذواتهم الاسباب التي عرفناهـا ، جرثومة الفردية أكثر المواقف انحطاطاً عن القومية وعداوة لها (فقرة 32) . وعندما يجتمع الامران نكون في مواجهة ” البيروقراطية ” ، مصاصة دماء الشعوب التي لا يكف المنتمون إليها لحظة واحدة عن سرقة الناس ثم احتقارهم لأنهم جهلة . ويتخذون من جهل المسروقين مبرراً لاستحقاقهم ما سرقوا . انهم عادة موظفو الدولة ، الخبراء بقواعد الدستور ، ونصوص القانون ، وخبايا اللوائح الادارية ، والقادرون دائمأ على أن يدفنوا آمال الشعوب في اضبارة من الورق ، وأن يعلقوا حياة الناس على توقيع مجهول ، وأن يحولوا أكثر الشعارات ثورية الى حروف ميتة ، باسم القانون . اولئك البيروقراطيون لا يجهلون القانون وأوامره ونواهيه فلا يهدرون غايتة إلا بعد أن يوفروا لما يفعاون شرعية شكلية . بل انهم يفرطون في توفير الشكل الشرعي بما يضيفونه على تصرفاتهم من توقيعات : توقيع يعرض ، توقيع روجع ، توقيع موافق، توقيع يعتمد … ثم توقيع يصرف، حتى تتوه المسئولية بين عديد من المختلسين ، وهم ليسوا اقطاعيين أو رأسماليين أو اشتراكيين ، انهم ـ ببساطة ـ اقطاعيون أو رأسماليون أو اشتراكيون متى ، والى المدى الذي يكون مناسباً للاستيلاء لأنفسهم على أموال الشعب الذي يحتقرونه . و هم ديموقراطيون متى ، والى المدى ، الذي يبقي وصايتهم على الشعب قائمة . انهم المستغلون في كل مجتمع متخلف أو نام لأنهم ثمرة
التخلف ذاته أو علامته .
وعندما يستولي البيروقراطيون على الدولة لا تكون الدولة دولة الشعب.
والديموقراطية هي الحصانة ضد البيروقراطية . إذ باطلاق حرية الشكوى والرأي وممارستها على أوسع نطاق ، وبدون خوف ، يعري المسروقون السارقين ، ولا يجد البيروقراطيون أحداً ينافقونه إلا الجماهير ذاتها وتلك أول الطريق لتدريبهم على احترام الذين يدفعون أجورهم . ان آخر شيء يمكن أن يكون مجتمعنا المتخلف ، وأي مجتمع متخلف ، في حاجة اليه هو حصانة موظفي الدولة . لأن المشكلة في مجتمعنا المتخلف ليست كيف نحمي الموظفين من التطاول عليهم والمساس ، بهيبتهم ، ولكن كيف يتعلم الشعب العربي الجرأة في المطالبة بحقوقه وكيف يتعلم الموظفون أن يهابوا الناس ويتعلم المثقفون إحترام الشعب . بدون هذا، بدون هذا التدربب الديموقراطي الشاق على الممارسة الديموقراطية سيكون الشعب العربي معزولأ في دولته يخشى حكامه وينافقهم . يتجمع اذا دعوه . وينفض اذا أمروه . ويدلي برأيه إن طلبوا رأيه ولكن على ما يريدون . وبغيره إن أرادوا . واذا بدولة الوحدة ليست دولة الشعب العربى بل دولة الذين أقاموا ليحكموا بها . وعندما تكون على هذا الوجه ” الرديء ” لا تكون دولة قومية ولو أسميت دولة عربية ، لانها لا تكون دولة قومية ، أي دولة الأمة العربية ، إلا بقدر ما تكون أداة الشعب العربي في تطوير واقعه ، أي إلا بقدر ما تكون دولة ديموقراطية .
(10) هكذا تتطور المجتمعات وهذه هي القوانين الاجتماعية لتطورها . وهي قوانين حتمية . إن يلتزمها الناس يطوروا واقعهم بنجاح مطرد . وان لم يلتزموها يتعثروا أو يتوقفوا بقدر ما يخالفونها. والديموقراطية هي صياغة هذه القوانين الاجتماعية في قوانين وضعية ملزمة . انها الصيغة القانونية (الحقوقية) للجدل الاجتماعي . فهي نظام لحركة الحياة الاجتماعية قبل أن تكون نظاماً للاستفتاء والانتخاب والحكم . وهي نظام حتمي للتطور الاجتماعي لأن الجدل الاجتماعي قانون حتمي يضبط حركة تطور المجتمعات .
أما عن الشكل الديموقراطي فهو أمر ” فني ” لا يتضمن قيمة في ذاته وإنما يستمد قيمته من مناسبته لمجتمع معين في مرحلة تاريخية معينة ، بحيث يسمح في كل مجتمع وفي أية مرحل بأقصى إمكانيات الجدل الاجتماعي لكل إنسان في المجتمع ، وليس من اللازم أن يكون ذا شكل عام واحد . إن هذا أحد الأخطاء التي ورثناها من الديموقراطية الليبرالية التي تساوي بين الناس في الشكل الديموقراطي ولا تقيم وزناً للممارسة الديموقراطية . تساوي في الحقوق المكتوبة على صفحات الدساتير ” القوانين الأساسية ” ولا تقيم وزناً لاستعمال الحقوق في الواقع الحي . في حين اننا عندما نعرف أن على الشكل الديموقراطي أن يكون متسقاً مع قانون الجدل الاجتماعي قد نستطيع أن نهتدي في كل مجتمع على حدة وفي كل مرحلة تاريخية معينة الى وسائل متنوعة للممارسة الديموقراطية تبعاً لمستوى التعليم والثقافة والبيئة والظروف القومية والعالمية بحيث تكون صياغتها محققة في كل مكان وبالنسبة الى كل واحد أفضل الامكانيات ليعرف الشعب مشكلاته الاجتماعية ويساهم بالرأي وبالعمل في حلها . ان هذا يعني أننا لا نستطيع أن نحصي هنا كل أشكال الممارسة الديموقراطية . ولكنه لا يعني أن يكون الشكل الديموقراطي منوطاً بالاهواء بغير ضابط . ان ضابطه هو قانون الجدل الاجتماعي وإيقاع حركته . وقد نستطيع أن نضرب هنا أمثلة مما يتفق مع منهجنا ونظريتنا .
فمثلا، عرفنا أن العلم بالمشكلات الاجتماعية وتبادل العلم بها بين الناس بدون قيود هو أول شروط الجدل الاجتماعي وأن ” خوف ” الناس من أن يعبروا عن المشكلات الاجتماعية كما يعرفونها من أنفسهم يشوه تلك المشكلات أو يحجبها فتولد الممارسة الديموقراطية شائهة . وعرفنا في سيادة القانون ضماناً ضد الخوف . غير أننا لا نرى هذا كافياً بل نريد للممارسة الديموقراطية ضماناً ضد الخوف من القانون ذاته . أو بمعنى أدق ضد الخوف من الخطأ الذي يقع تحت طائلة القانون . وتعرف الممارسة التقليدية للديموقراطية مثل هذا الضمان ، وتقره ، ولكن في نطاق محدود هو المجالس التشريعية (البرلمانات) ، حيث من المستقر ، حصانة أعضاء المجالس التشريعية ضد كافة المسؤوليات الجنائية (الجزائية) والمدنية والادارية عن أية آراء يبدونها وهم يؤدون وظائفهم . ومن المهم أن نلاحظ أنها ليست حصانة ضد المسؤولية عن آراء مباحة أصلا ، بل هي حصانة ضد المسؤولية عن آراء لو قيلت بعيداً عن نطاق العمل التشريعي ومن غير الذين يقومون به لكانت جرائم أو لعرضت أصحابها لمسؤوليات مدنية أو ادارية . انها حصانة ضد القانون ذاته . حتى يكون الذين يطرحون المشكلات الاجتماعية ويناقشونها ويبدون الاراء في حلها متحررين من كل أسباب الخوف من أن يقولوا ما يعتقدون أنه الحق . ولسنا نرى لماذا تكون تلك الحصانة التي يرجع اليها الفضل فيما حققه النظام النيابي من نجاح وما أرساه من تقاليد ديموقراطية ، لماذا تكون مقصورة على المجالس التشريعية (البرلمانات) وحدها . لماذا لاتمتد فتشمل كل المؤسسات والمنظمات واللجان والمجالس والمؤتمرات، سواء كانت حكومية أو شعبية ، وسواء كانت ثقافية أو علمية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فنية أو حتى رياضية ، فلا يسأل أعضاؤها على أي وجه عما يبدونه من آراء وهم يطرحون المشكلات ويتبادلون الرأي في حلها . ثم نخص بالذكر النقابات المهنية والعمالية وجمعيات الفلاحين ، ان كل أولئك تستحق آراؤهم في مؤسساتهم أن تكون محصنة ضد الخوف من الخطأ والمسؤولية . ان استعمال الحق يعتبر سبباً من أسباب الاباحة في كل تشريعات العالم . فلسنا نعرف كيف يكون من حق العمال ـ مثلا ـ أن ينتظموا في نقابات واختيار مجالس لادارتها ثم لا يتمتع اعضاء تلك المجالس بالحصانة المقررة لأعضاء المجالس التشريعية . كأن تلك المجالس لا تناقش مشكلات اجتماعية أقوى أثراً في حركة التطور الاجتماعي من كثير مما يعرض ويناقش في المجالس التشريعية . يقال أن ليس لتلك المؤسسات والمنظمات أن تتصدى للعمل ” السياسي ” ، وعلى القانون أن يردعها أن حاولت ، فنقول أن ذلك خطأ آخر ورثناه عن الديموقراطية الليبرالية حيث التفرقة الليبرالية بين المشكلات العامة والمشكلات الخاصة . أما عندنا ، طبقاً لمنهجنا ، فلا توجد في المجتمع مشكلات خاصة ، انها كلها مشكلات إجتماعية ، يؤثربعضها في بعض ، ويتأثر بعضها ببعض ، ولا تحل أي منها إلا في نطاق تقدم المجتمع كله . وبالتالي فليس ثمة حد يفصل مشكلات العمل ـ مثلاً ـ عن مشكلات الحكم حتى تفرض على من يناقشون مشكلات العمل حدود قانونية صارمة لا ينبغي لارائهم أن يتجاوزوها . وعندها ، وطبقاً لنظريتنا، لا يتحدد الموقف الصحيح لكل واحد من مشكلات مجتمعه تبعاً لموقعه من علاقات العمل ، وإنما يتحدد موقفه من خلال وعيه العلاقة الصحيحة بين موقعه ومشكلات مجتمعه ، فلسنا نرى في معرفة ومناقشة وحل المشكلات ” الخاصة ” إلا مدخلأ لمعرفة ومناقشة وحل المشكلات ” العامة “. وبالتالي تسقط حجة التخصص الليبرالية وتستحق الاراء التي تطرح في المؤسسات والمنظمات واللجان والنقابات نفس الحصانة المقررة للاراء التي تطرح في المجالس التشريعية (البرلمانات) ، على أساس أن طرح المشكلات الاجتماعية ومناقشتها بدون خوف هو أول شروط الجدل الاجتماعي .
مثال آخر من الإعلام .
إن أجهزة الإعلام (الصحافة والراديو والتليفزيون .. الخ) أصبحت في كل مجتمع المصادر الأساسية للأخبار. والأخبار هي بيان للواقع الاجتماعي وأحداثه بما ينطوي عليه من مشكلات داخلية وخارجية . وبالتالي فإنه على مدى صدق الوقائع التي تنشر أو تذاع على الناس يتوقف ـ الى حد كبيرـ إتجاه آراء الناس في المشكلات الاجتماعية وحلولها . نريد أن نقول انه قبل أن يبدأ أي إنسان ممارسة الديموقراطية سواء كانت رأياً يبديه ، أو ممثلاً يختاره ، أو موقفاً يأخذه ، يكون وعيه المشكلات الاجتماعية قد تحدد تبعاً لسيل الأخبار التي لم تنقطع أجهزة الإعلام عن صبها في رأسه من خلال حواسه جميعاً ، وبالتالي يكون رأيه قد أصبح محدداً بما وعى . ولسنا نبالغ اذا قلنا أن الحصيلة النهائية للممارسة الديموقراطية ، مهما كان شكلها، أصبحت متوقفة ، إيجابياً وسلبياً ، على تلك الأجهزة التي حولها العلم والفن الى أدوات بالغة المقدرة على التأثير في عقول الناس ومسالكهم . وهي تؤثر إيجابياً لانها تنقل الى الناس وقائع محيطة بكل أوجه النشاط في مجتمعهم وفي المجتمعات الأخرى فتزودهم بمقدرة هائلة على معرفة ومتابعة حركة التطور الاجتماعي ومشكلاته وبالتالي توفر لهم إمكانيات تكوين رأي أكثر نضجاً بكل تلك المشكلات . وهي تؤثر سلبياً لأن الليبرالية التي تفسد كل شيء تفسد أجهزة الاعلام وتحيلها أدوات مدمرة وقد أفسدتها أولاً عندما أحالتها الى مؤسسات رأسمالية تستهدف الربح وتقيّم نجاحها بقدر ما تقترب من احتكار المستهلكين (القراء والمستمعين) وتقضي على غيرها في سوق المنافسة الحرة . وعندما نرى تلك الأجهزة تبذل قدراً كبيراً مما تنشره أو تذيعه لمجرد اغراء القراء والمستمعين بشرائها والاستماع عليها وتتوسل الى هذا بأحط ما يغري الغرائز، و عندما نرى الاعلانات الخادعة تنشر وتذاع على مسئولية أصحابها ما داموا يدفعون الثمن ، ندرك كيف تفتك تلك الأجهزة بوعي الناس مشكلاتهم الحقيقية من خلال اغراق انتباههم في لجة من المشكلات الزائفة . وقد أفسدت الليبرالية أجهزة الاعلام ثانياً لما أن منحتها الحق الليبرالي الشهير : حرية الكذب . وأجهزة الاعلام الليبرالية تكذب في الخبر بوسائل ” فنية ” شتى صيغته، حجم حروف طباعة، مكانه بين الأخبار، اختصاره أو الاضافة إليه ، عدم ذكر مصدره … الخ ، لأن لكل جهاز رأيأ في الخبر ذاته فهو يصوغ الخبر على الوجه الذي يتفق مع رأيه . من هنا تستر أجهزة الاعلام الليبرالية حرية الكذب بحرية الرأي . وينتهي الأمر يأن تكون معرفة الناس بواقعهم الاجتماعي ومشكلاته تحت رحمة قلة من الأفراد يقدمون إليهم الأخبار على الوجه الذي يريدونه ليتحكموا في آرائهم ومواقفهم . ويحجبون أسماءهم لتبدو الكلمة المنشورة بدون توقيع والمذاعة بدون إسم كما لو كانت تقريراً للحقيقة المجردة . ولا حل لهذه المشكلة التي استفحلت إلا بالتزام إيقاع قانون الجدل الاجتماعي ، وفصل الخبر(حقيقة المشكلات) عن الرأي (تقييم المشكلات واقتراح حلول لها) . ان الخبر يجب أن يكون صادقاً . يجب أن يكون الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة ، تنشر وتذاع كما هي بدون مسؤولية . ثم يردع ردعاً حاسماً اللذين يكذبون . اما الرأي فهو اجتهاد صاحبه ينشر ويذاع على مسؤولية صاحبه ، ينشر ويذاع على مسؤولية صاحبه . أما كيف يتم هذا الفصل فتلك وسائل تبحث في مكانها وزمانها . ولكن الذي يجب أن يؤمن وتوفر له كل الضمانات هو صدق الأخبار التي تنشر وتذاع على الناس . صدقها بمعنى مطابقتها للواقع كما هو بدون حذف أو اضافة أو تغيير ، حتى يستطيع الناس أن يعرفوا معرفة صحيحة حقيقة المشكلات الاجتماعية بدون تزييف ، فلا تكون الممارسة الديمقراطية كلها قائمة على اساس زائف .
مثال ثالث وأخير من تجارب الممارسة في الوطن العربي .
لقد ورثت دول العالم الثالث من المفهوم الليبرالي للديمقراطية سلبية الدولة بالنسبة الى الممارسة الديمقراطية . وفي كل دولة من ذلك العالم المتخلف كانت حصيلة الديمقراطية فشلا ذريعا . وكان من آثار ذلك الفشل ظاهرة الانقلابات العسكرية التي تكاد تكون على مستوى العالم الثالث هي المرحلة التاريخية التالية للتحرر . والمرجع الاساسي لكل هذا هو التخلف الديمقراطي . انعدام أو ضعف التقاليد الديمقراطية بفعل الاستعمار الطويل وما صاحبه من تخلف ثقافي ومادي . في تلك الدول النامية المتحررة حديثا التي لا تملك رصيدا من الممارسة الديمقراطية . تباح عادة ـ بعد التحرر ـ الممارسة الديمقراطية بقوانين صادرة من السلطة لشعب يحمل ميراثه التاريخي من عهد العبودية : العزلة عن السلطة والشك فيها والسلبية ازاء ما تدعوه السلطة اليه ، بالاضافة الى العجز الموروث عن ممارسة الديمقراطية . والذين عاشوا مخدوعين دهرا لا ينسون بسهولة معاناتهم الفعلية من اجل وعود ولو كانت صادقة لمجرد أن يقال لهم : لقد اصبحتم احرارا ، وأصبحت السلطة منكم واليكم . ومن ناحية اخرى لا يتوقع من الذين عاشوا مقهورين دهرا أن يمارسوا الديمقراطية على الوجه المثالي الذي يتصوره المشرعون بدون أخطاء قد تكون جسيمة . عندئذ لن تكون سلبية الدولة بالنسبة الى الممارسة الديمقراطية الا ابقاء على سلبية الناس بالنسبة الى ممارسة حقوقهم الديمقراطية . فيبقى الشعب في سلبيته ، تاركا حقه أو يمارسه بقدر كبير أو قليل من الأخطاء . يبقى الماضي ممتدا في المستقبل ، فينكشف قصور الشكل الليبرالي للمارسة الديمقراطية عن حل مشكلات التخلف الديمقراطي في المجتمعات النامية والمتحررة حديثا . وبالرغم من كل الحقوق المسطرة في الدساتير يكون الشعب " غائبا " فتتاح الفرصة لكل قادر على ان يستولي على السلطة ليضع نفسه موضع الوصي على الشعب " القاصر " ، في مثل هذه الظروف الاجتماعية يصبح للشكل الديمقراطي وظائف ايجابية لمواجهة المشكلات الموروثة تاريخيا . الأخطاء في الممارسة علاجها مزيد من الممارسة ، وذلك بأن يكون الانتخاب الديمقر اطي ، والرقابة الشعبية سائدين في كل مجال من مجالات النشاط ، حتى لو لم تكن للمارسة غاية الا الممارسة ذاتها ، ليتعلم الناس من خلال الممارسة الديمقراطية كيف يمارسونها بدون أخطاء . وليتحرروا من رواسب عزلتهم السابقة عن حركة التطور في المحتمع . مجتمعهم . ليتعلموا قانون التطور الاجتماعي : الجدل الاجتماعي من خلال العمل الجماعي . أما عن السلبية ـ ذلك المرض الذي يحيل الحقوق الديمقراطية الى كلمات ميتة ـ فعلاجه أن تكون وسائل الممارسة الديمقراطية احدى الخدمات الأساسية التي تقدمها الدولة الى الشعب فيها ( تشجيع العمل الجماعي ، وتسهيل ممارسته ، وتحمل أعباءه المالية ، ومده بكل ما يحتاج اليه من الامكانيات الثقافية والمادية ، واشراكه في طرح ومناقشة واقتراح حلول المشكلات الاجتماعية ...الخ ) .
وفي الوطن العربي تجربة فذة لحل مشكلة التخلف الموروثة في الممارسة الديمقراطية ، أضافت الى الشكل الديمقراطي اضافتين بالغتي الأهمية قامتا ابتداء في الجمهورية العربية المتحدة .
الاضافة الأولى قامت تحت اسم " الاتحاد الاشتراكي العربي " . وهي مؤسسة شعبية تضم أغلب الذين لهم حق الانتخاب ، وينتمي اليها ـ كقاعدة ـ كل من يقبل الانتماء اليها . وتقدم للمنتمين اليها تسهيلات مادية وثقافية ومالية لممارسة عملهم . وهي بعد تجربة حديثة لم تتبلور تقاليدها بعد . وقد سمح هذا بالاختلاف في تقييمها من حيث هي شكل مستحدث من أشكال الممارسة الديمقراطية . ذلك لأن كل واحد قد قيمها على الوجه الذي فهمها به . فجماعة اللبراليين الذين لا يعرفون من اشكال الممارسة الديمقراطية الا الأحزاب السياسية المستقلة عن الدولة ، فهموا الاتحاد الاشتراكي العربي على انه حزب السلطة فلم يجدوا فيه خصائص الحزب ، وأخذوا عليه أنه مؤسسة من بناء الدولة فقيموه سلبيا ، وجماعة الطبقات والصراع الطبقي فهموه على انه تحالف طبقي فرضته الدولة للحيلولة دون الصراع الطبقي فقيموه سلبيا الا اذا تحول الى تحالف تحت قيادة الطبقة العاملة . وكان في كثير مما صاحب تلك التجربة من تبريرات وتفسيرات واجراءات ما يسمح بهذا الفهم أو ذاك . فالدور القيادي الذي عهد به الى الاتحاد الاشتراكي العربي سمح بفهمه على انه حزب وليس مؤسسة شعبية . وكونه مؤسسة من مؤسسات الدولة سمح بفهمه على انه حزب السلطة . وما قيل على أنه يمثل تحالف قوى الشعب العامل سمح بفهمه على انه جبهة بين قوى مختلفة . وكل هذا ليس جوهريا في تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي ، فلا نفهمه على أي وجه مما ذكرنا ولا نقيمه كما قيموه . ان الايجابي فيه هو الذي يحدد طبيعته ، والايجابي فيه هو انه شكل من اشكال تنمية الوعي الديمقراطي والتدريب على الممارسة الديمقراطية من خلال اشراك الجماهير في طرح ومناقشة المشكلات الاجتماعية واقتراح الحلول لها . يأخذ من تسهيل الممارسة حافزا لاخراج الجماهير من رواسب السلبية الموروثة . وبالتالي فانا نقيمه على قدر ما أحدث من آثار في هذا الاتجاه . وقد كانت آثاره أكثر من رائعة ، فقد أصبح الانتماء اليه والممارسة من خلاله محل اهتمام ذلك القطاع الكبير من الناس الذين كان اتصالهم الشكلي بالعمل السياسي لا يقع الا بضعة أيام كلما جاءت الانتخابات للمجالس التشريعية . ثم ينسون الامر كله ويعودون الى سلبيتهم . لقد حل التنافس على عضوية لجان الاتحاد الاشتراكي في القرى محل المنافسة على منصب العمدة (المختار) ، وأصبحت الانتخابات في القرى ظاهرة " عادية " في حياة الفلاحين ، وهذا غير مسبوق . أما اذا كان الاتحاد الاشتراكي العربي لم ينجح في قيادة الجماهير فذلك لأنه مؤسسة الجماهير وليس مؤسسة حزبية تقود الجماهير . واذا كانت الممارسة الديمقراطية فيه ما تزال مشوبة بالأخطاء ، فلأنه المؤسسة التي يتدرب الناس فيها على الممارسة الديمقراطية الى أن يتعلموا كيف يتجنبون الأخطاء . واذا كانت حصيلة الممارسة فيه لا ترضي القطاعات الأكثر تدريبا على الممارسة الديمقراطية فلأن غايته أن يتدرب الذين لم تسمح الظروف التاريخية بأن يتدربوا وليست غايته أن يكون آداة في أيدي المدربين . واذا كانت القوى فيه مختلطة غير مفرزة فلأن غايته أن يتعلم الناس فيه من خلال الممارسة كيف يتحولون الى قوى مفرزة . ان كل هذه السلبيات جاءت من فهم خاطئ لطبيعة هذه المؤسسة الفذة ، فهي غير مسؤولة عن أخطاء الذين لا يفهمون دورها الايجابي في مجتمع متخلف ديمقراطيا ، فيغفلون عن آثارها الايجابية : توفير شكل الممارسة الديمقراطية المناسب لعشرات الملايين من الفلاحين والعمال والجماهير الأخرى التي لم تكن تهتم أصلا لا بالديمقراطية ولا بممارستها . ادخال القاعدة الجماهيرية العريضة ساحة العمل السياسي عن طريق اخراجها من ركود السلبية الموروثة . وتجربة الاتحاد الاشتراكي العربي التي ما تزال في دور النضج لا شك ستنضج فتتحرر من كل ما هو غريب عن طبيعتها فتتخلص من سلبياتها غير الجوهرية وتبقى على ما هو جوهري وايجابي فيها ، فتكون نموذجا فذا لأحد أشكال الممارسة الديمقراطية في المجتمعات النامية والمتحررة حديثا التي تفتقد التقاليد الديمقراطية ، وتفشل فيها الديمقراطية الليبرالية فشلا ذريعا .
ويمكن أن يقال الشيء ذاته عن الاضافة الثانية : تمثيل العمال والفلاحين بنصف مقاعد المجالس الشعبية على الأقل . لقد قيل أنه تمثيل مهني وهو ليس كذلك ، فان الفلاحين وحدهم يمثلون أكثر من ثلاثة أرباع الشعب . وقيل لأنهم أقدر على معرفة الحلول المناسبة لمشكلاتهم وهو ليس كذلك . فان معرفة المشكلات الاجتماعية التي يعانيها الفلاحون والعمال تتطلب أكثر من أن يكون الانسان فلاحا أو عاملا . تتطلب وعيا متقدما بالمشكلات الاجتماعية وثقافة متقدمة بكيفية حل المشكلات الاجتماعية . انه ببساطة اشراك الفلاحين والعمال في المجالس الشعبية . ان هذا الاشراك هو المقصود في ذاته ، وهو غاية في ذاته لحل مشكلة اجتماعية مقصورة على المجتمعات النامية والمتحررة حديثا : سلبيو الفلاحين والعمال بالنسبة الى العمل السياسي من ناحية ، واستعلاء المثقفين على الفلاحين والعمال من ناحية أخرى .
ان كان المثقف الفصيح يشعر بالضيق من أن محاوره فلاح لا يجيد التعبير ، فهي مشكلة علاجها تدريب المثقفين على الا يضيقوا بشركائهم في المجتمع ولو لم يكونوا فصحاء . وان كان الفلاح يتهيب الحوار مع من هم أكثر منه ثقافة ، فهي مشكلة علاجها تشجيعه على ان يحاور من سبقوه الى المعرفة ولا يهيب أحد . وان كان يبدو غريبا أن يشترك الفلاحون والعمال مع غيرهم من المثقفين فتلك مشكلة علاجها أن يستقر في وعي الناس من كل فئة أنهم شركاء في مصير واحد.
ولقد كانت الآثار الاجتماعية لتلك الاضافة ايجابية الى الحد الذي نستطيع أن نقول معه أنها قابلة للمزيد من مشاركة الفلاحين والعمال في المجالس الشعبية ، وأنه ـ على أي حال ـ لن يجرؤ أحد على المساس بها أو الرجوع عنها .
وبعد .
فلقد اخترنا تلك الامثلة من أشكال الممارسة الديمقراطية ، من خارج نطاق الأشكال التقليدية : الانتخاب والتمثيل ورقابة الرأي العام ، بما استقر فيها من ضمانات لوضع رأي الشعب (أو أغلبيته) موضع التنفيذ الكامل وصياغته في قوانين عامة ملزمة يتولى وضعها عن طريق التشريع وتنفيذها عن طريق السلطة والاحتكام اليها عن طريق القضاء من يختارهم الشعب ديمقراطيا فيمثلونه ويكون له عليهم دائما ـ بدون قيد ـ حق الأصيل على نائبه : يعينه ، ويراقبه ، ويحاسبه ، ويعزله ، ويعين غيره ، متى أراد . اخترناها من خارج هذه الأشكال التقليدية ، أولا : لأن تلك الأشكال التقليدية ليست محل خلاف جدي ، وثانيا لأنها أردنا أن ندلل من نظريتنا ومن واقعنا على أن شكل الممارسة الديمقراطية ، لا يتضمن قيمة في ذاته وانما يستمد قيمته من منسبته لمجتمع معين في مرحلة تاريخية معينة . واننا نستطيع أن نكتشف أنماطا غير مسبوقة من شكل الممارسة الديمقراطية ونرسي تقاليد ما دمنا نقيس الشكل الديمقراطي بمدى ملاءمته لمتطلبات الجدل الاجتماعي .
هذه هي دولة الوحدة الديمقراطية . أو النظام القانوني للمجتمع العربي على الوجه الذي يتفق مع وجوده الموضوعي ، ويسمح للشعب العربي فيه أن يوظف كل الامكانيات البشرية والمادية المتاحة من أجل التطور الاجتماعي . من أجل حل المشكلات الاجتماعية التي يعانيها الشعب العربي . " انه " " يسمح " بتوظيفها ، فهل تكون مشكلة التخلف قد حلت واسترد الشعب العربي كامل مقدرته على التقدم المتكافئ مع ما هو متاح في أمته ، لا أكثر لا اقل ؟
لا ، انما تحل بتوظيفها فعلا في حل المشكلات الاجتماعية . وبدون هذا ، بدون أن يوظف الشعب العربي الامكانيات المتاحة في حل المشكلات الاجتماعية التي يعانيها فيتطور ويتقدم ، يبقى كل الكلام الذي قلناه عن التحرر وعن الوحدة وعن الديمقراطية كلاما فارغا ، لأنه لا يكون قد أدى غايته : حياة أفضل للشعب العربي في وطنه . فما هو النظام الاجتماعي الذي يتم به فعلا توظيف الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الأمة العربية من أجل التقدم الاجتماعي . والذي يتحول به التحرر والوحدة والديمقراطية الى حياة أفضل ؟
أنه النظام الاشتراكي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق