الوحدة العربية ومعركة تحرير فلسطين .
د. عصمت سيف الدولة .
منذ أن اغتصبت الصهيونية جزءا من الارض العربية في فلسطين سنة 1948 … رفع في الوطن العربي شعار يقول ان الوحدة هي الطريق الى تحرير فلسطين “. على أساس من القول بأن دولة الوحدة هي القادرة ـ وحدها ـ على أن توفر المتطلبات المادية والبشرية والاستراتيجية الكافية لتصفية دولة اسرائيل في معركة قصيرة تضع فيها العالم أمام الامر الواقع . وكان لا بد من أن تتحرر الدولة العربية أولا حتى تقيم الوحدة فتحرر فلسطين … وهكذا كانت هزيمة 1948 . التي عرفت باسم ” النكبة ” محركا أول لقوى التحرر العربي التي استطاعت خلال العشر سنوات التالية أن تجلي الجيوش المحتلة عن كثير من أجزاء الوطن العربي . ومع كل خطوة تحررية كان يبدو كما لو كان موعد الوحدة قريبا . وأن الارض المغتصبة من فلسطين في طريقها الى الحرية . وبلغ التفاؤل ببعض العرب حد دراسة تفاصيل الوحدة التي هي الطريق الى تحرير فلسطين فقيل أنها تلك التي تقوم فيما بين الدول العربية المحيطة بالارض المحتلة وأسموها ” دولة الوحدة الطوق” . وظل ذاك الشعار سائدا الى ان تحققت الوحدة بين مصر وسورية سنة 1958 . وانتظرت الجماهير العربية في كل مكان أن توفي دولة الوحدة مسئولياتها فتكمل الطوق أو تحرر فلسطين .. وطال الانتظار الى أن وقع الانفصال سنة 1961 . وقع سهلا بدون مقاومة . وقبل سريعا بدون انتظار . وثبت من كل هذا أن الامل الذي عقد على وحدة 1958 في تحرير فلسطين كان أملا غير واقعي ومتسرعا معا . اذ أن وحدة 1958 لم تفشل في تحرير فلسطين فحسب ، بل فشلت حتى في الحفاظ على وجودها . ومنذ سنة 1961 التقت أغلب القوى في الوطن العربي ، وفي العالم ، على محاولة دفن قضية الوحدة وقضية تحرير فلسطين معا تحت ركام من الصراعات الدولية والاقليمية . الى أن جاء حزيران ( يونيو ) 1967 فاذا بالقدر الاكبر من القوة العربية يقاتل متراجعا في صحراء سيناء بينما كان قد تقدم اليها دفاعا عن دمشق .
وكان ماكان .
وكان طبيعيا أن تعصف هزيمة حزيران ( يونيو ) بكثير مما كان سائدا في الوطن العربي من أفكار واتجاهات ، وأن تثير الشك في مبررات وجود كثير مما كان موجودا من قوى ونظم ، وأن تشيع اضطرابا شديدا في المقدرة على رؤية المستقبل الذي كان يبدو ـ حينئذ ـ حالك السواد . غير أننا الان . وبعد ما يقارب ثلاث سنوات من الهزيمة نستطيع أن نرى بوضوح أن ليس كل ما كان في حزيران ( يونيو ) 1967 كان سيئا .
لقد كان اسوأ ما فيه أن الامة العربية ، ذلك الطرف الاصيل الذي لم يكن ممثلا في المعركة ، قد دفعت من أرضها ، وأبنائها ، وكرامتها ، ثمنا فادحا لاخطاء القوى الاقليمية . غير أنه في مقابل هذا كشفت الهزيمة العاجلة للدول العربية عن عجزها الذي لا مفر منه عن تحرير فلسطين . وأدى هذا الى أن دخلت الجماهير العربية ساحة المعركة في يومي 9 و10 حزيران ( يونيو ) 1967 لتفرض الصمود أولا . ثم لتستمر في القتال بعد هذا في شكل منظمات جماهيرية مسلحة . وهذا كسب لا شك فيه . فلأول مرة في التاريخ العربي المعاصر توجد في الارض العربية قوة مقاتلة لا تحمل هوية أية دولة عربية .
هذا من ناحية ..
ومن ناحية أخرى انهار الركام الذي حاولت قوى كثيرة أن تدفن تحته قضية تحرير فلسطين . لم يعد أحد يذكر الاسباب التي كانت ذرائع القتال في حزيران ( يونيو 1967) . ونسي الناس خليج العقبة وحق المرور فيه . وتجاوزت المعركة ازالة آثار العدوان . وفرض على الدول العربية الا تسترد أرضها الى أن تحدد لها موقفا صريحا من تحرير فلسطين . وهكذا برغم كل شئ . برغم المناورات ، وبرغم التآمر ، وجد جميع الاطراف أنفسهم وجها لوجه أمام حقيقة المعركة : أما الوجود العربي واما الوجود الاسرائيلي في فلسطين ، وهو كسب لا شك فيه .. كسب من حيث أننا قد عرفنا ، ولو بعد دفع ثمن فادح للمعرفة ، أن أحدا في الوطن العربي لا يستطيع أن يزعم لنفسه الحرية قبل أن تتحرر فلسطين . أو أن يحلم احلام الرخاء فى جوار الوجود الاسرائيلى في فلسطين .
وعندما فرضت معركة تحرير فلسطين ذاتها على الناس ، عاد الحديث عن علاقة الوحدة بتحرير فلسطين . ورفع في الساحة شعار مختلف يقول : ” ان تحرير فلسطين هو الطريق الى الوحدة العربية وليست الوحدة العربية هي الطريق الى تحرير فلسطين “. وزاد أصحابه فأسموه ” استراتيجية “ .
وهو قول غير واقعي ، ومتسرع معا .
أما انه غير واقعي فلان القوى المعادية هي التي بدأت معركة احتلال جزء من الارض العربية في فلسطين سنة 1948 وفي غيبة دولة الوحدة .. وهي التي بدأت معركة تأمين الوجود الاسرائيلي سنة 1956 وفي غيبة دولة الوحدة . ثم انها هي التي بدأت معركة فرض الاعتراف بدولة اسرائيل سنة 1967 وفي غيبة دولة الوحدة أيضا . فحتى لو كانت هزيمة الدول العربية في حزيران ( يونيو ) سنة 1967 ، ورفض الجماهير العربية للهزيمة واستمرارها في القتال ، قد حول المعركة مما أراد بها الصهاينة الى معركة تحرير فلسطين ، فان هذا لا يغير شيئا من حقيقة أن العدو هو الذي اختار وحده تاريخ المعركة ، وفرضها في الوقت الذي اختاره وحده . وعلى هذا يمكن القول بأن القوى المعادية قد استعجلت معاركها سنة 1948 وسنة 1956 و سنة 1967 لتثبيت الوجود الاسرائيلي ” داخل حدود آمنة ومعترف بها ” في غيبة دولة الوحدة لان تلك القوى تعرف أن الوحدة العربية هي الطريق الموثوق الى تصفية الوجود الاسرائيلي وتحرير فلسطين ، وأن غيبة دولة الوحدة تقدم لها أكثر الظروف ملاءمة لتحقيق غاياتها العدوانية .
ان هذا يبدو لنا أكثر اتفاقا ، واتساقا ، مع الواقع الذي نعرفه ، من الزعم الذي يوحي بأن القوى العربية ، أو أية قوة عربية ، هي التي اختارت أن تبدأ وتخوض المعركة القائمة من أجل تحرير فلسطين وفي غيبة دولة الوحدة تنفيذا ” لاستراتيجية ” أعدت من قبل على أساس أن ” تحرير فلسطين هو الطريق الى الوحدة العربية وليست الوحدة العربية هي الطريق الى تحرير فلسطين “ .
وهو قول متسرع ، لان أصحابه لم يصبروا على أنفسهم ، ولا على الظروف حتى يتبينوا : أولا ـ ما اذا كان النضال القائم في سبيل تحرير فلسطين سيحقق غايته في غيبة دولة الوحدة أم أن تطورات المعركة المسلم بأنها طويلة ومعقدة ، وصعبة ، ستضعهم ـ ربما أقرب كثير مما يتصور الكثيرون ـ أمام خيار حيوي : فاما اقامة دولة الوحدة التي توفر لهم العمق الاستراتيجي اللازم لمواصلة القتال واما هزيمة اخرى . وحتى يتبينوا ـ ثانيا ـ ما اذا كان بعض المناضلين في سبيل تحرير فلسطين سيكفون عن القتال ليقيموا على الارض المحررة دولتهم الفلسطينية المسماة ” ديمقراطية ” أم أنهم سيواصلون القتال الى أن تقوم دولة الوحدة الديمقراطية .
ذلك لانه اذا كانت المعركة تدور الان في ظل تأييد ودعم ” حلف الخرطوم ” الذي انعقد بين الدول العربية فى آب (أغسطس) سنة 1967 من أجل ” ازالة آثار العدوان ” فان هذا الحلف موقوت ـ على أحسن الفروض ـ بغايته . وعندما تنتهي مرحلة ” ازالة آثار العدوان ” . على أي وجه تكون نهايتها ، يكون الحلف قد استنفذ اغراضه فينفض . حينئذ تبدأ ” فعلا ” معركة تحرير فلسطين . ولم يقل لنا أحد ـ بعد ـ كيف تستمر المعركة وقد كفت الدول العربية ، راغبة أو كارهة ، عن دعم المعركة . وأغلقت حدودها . وصفت أو حاولت تصفية قواعد المناضلين ؟.. نقول كيف تستمر الا اذا سقطت الاقليمية العربية المتراجعة واقيمت على انقاضها دولة عربية توفر للقتال أسباب الاستمرار حتى النصر . انها عندئذ دولة الوحدة النواة أو نواة دولة الوحدة .
ومن ناحية أخرى ، لم يقل لنا أحد ـ بعد ـ كيف يكون تحرير فلسطين طريقا الى الوحدة العربية خاصة اذا كان ذلك الشعار المسمى ” استراتيجية ” متضمنا كهدف اقامة دولة فلسطين المسماة ” ديمقراطية ” كيف تكون تلك الدولة الاقليمية طريقا الى الوحدة العربية ؟.. ما هي المعطيات الجديدة المتوافرة أو التي يمكن أن تتوافر لدولة فلسطين . ولم تكن متوافرة لدول عربية كثيرة تحررت ولم تتوحد . ان كل ما نعرفه من المميزات الخاصة بدولة فلسطين المسماة ” ديمقراطية ” هو ان نسبة اليهود غير العرب فيها سيكون أكبر منها في أية دولة عربية أخرى . فهل يصلح هذا سببا جديدا لتكون طريقا الى الوحدة ؟..
ان هذه اسئلة لا تكفي النوايا ـ ولو كانت حسنة ـ للاجابة عليها .
أين الحقيقة اذن ؟.
هل ثمة علاقة بين الوحدة العربية وتحرير فلسطين ؟ وان وجدت فما هو مضمونها ، وأين تقع ، وكيف تتجسد في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها النضال العربي ؟.
في الاجابة على هذه الاسئلة نجتهد بقدر ما يطيق هذا الحديث المحدود .
عندما يكون الحوار دائرا بلغة واحدة ثم لا ينتهي الى اتفاق فلا بد من أن يكون ثمة خلاف في مضامين الكلمات التي يستعملها المتحاورون . وتكون الخطوة الاولى أن نعرف ما يعنيه كل طرف بالكلمات التي يقولها . والحوار حول علاقة الوحدة بتحرير فلسطين يدور بين الذين ينكرون الوحدة ولا ينكرون تحرير فلسطين ، فلا بد اذن من أن يكون ثمة خلاف بين ما يعنيه كل منهم ” بالوحدة العربية ” أو ” بتحرير فلسطين “ .
ونحن نعتقد أن مرجع الغموض وعدم التحديد في هذه العلاقة الى الذين يتحدثون عن الوحدة العربية أو أنهم هم المسؤولون عن القدر الاكبر منه . ولولا هذا لما رأينا أن كل الناس ـ فيما يقولون ـ راغبون في الوحدة العربية ومن دعاتها ، ومع ذلك ما تزال الوحدة أبعد الاهداف العربية عن التحقق . بل أن أغلب الناس لا يعرفون كيف تتحقق وما هو الطريق اليها . ولو عرفوا لعرفوا موقع تحرير فلسطين من هذا الطريق .
وآية هذا أن كثيرين من اولئك الذين يتحدثون أو يكتبون عن الامة العربية . وعن القومية العربية . وعن الوحدة .. الخ . حديثا يبدو كالمناجاة الذاتية . ويعز معه الحوار . لاننا لا نستطيع أن نعرف مما يقولون كيف عرفوا ماي تحدثون فيه الا أن يكون عن طريق شعورهم بالانتماء القومي ، أي حالتهم النفسية ، والشعور بالانتماء القومي دلالة صحيحة على وجود امة ينتمي اليها المتحدث ولكنه لا يصلح منطلقا الى تحديد أهداف المستقبل . ونحن نعرف هذا مثلا من قول مطروح ومتردد فى الادب القومي العربي . في كل الادب القومي العربي تقريبا كما لو كان بديهيا . ذلك القول بأننا ما دمنا امة عربية واحدة ” فيجب ” أن تكون لنا دولة سياسية واحدة . أو أننا ما دمنا أمة عربية واحدة ” فيجب” أن نساهم جميعا في تحرير فلسطين . والشعور بالانتماء القومي يبرر أننا امة عربية واحدة . اما لماذا ” يجب” ما بعد هذا فلا جواب . أو أن ثمة اجابات غير وافية . او اجابات غير صحيحة وان كانت هي ذاتها غير مبررة قوميا . مثل تلك الاجابة التي تقول ” يجب” أن تقوم الوحدة لانها الطريق الى تحرير فلسطين ، لان دولة الوحدة ـ وحدها القادرة على توفير المتطلبات اللازمة لتحقيق نصر عسكري ضد الصهيونية . وهو قول صحيح . ولكن المسألة هي كيف عرفنا أنه صحيح . ان كنا عرفناه عن طريق ممارسة القتال الفاشل عشرين عاما ضد اسرائيل . لا أكثر . ثم تنفض الوحدة بعد أن تكون قد أدت مهمتها . وفي هذه الحالة تكون الوحدة غير لازمة بالنسبة الى الدول التي لا تحيط باسرائيل ، بل وتكون الوحدة العسكرية بين الدول التي تحيط بها بديلا صالحا من الوحدة السياسية لانها توفر المتطلبات اللازمة للتفوق العسكري أو يمكن توفرها . بل نزيد فنقول ان حتى الوحدة العسكرية لا تكون لازمة لو احسنت بعض الدول العربية استخدام امكانياتها المتاحة ماديا وبشريا . اذ لو احسنت لكانت قادرة على هزيمة اسرائيل . وفي كل الاحوال ستكون علاقة الوحدة بتحرير فلسطين موضوعا من ” صلاحية ” العسكريين ، قادة المعركة ، الذين يقررون مضمون تلك العلاقة ، وأين تقع ، وكيف تتجسد طبقا لتطورات استراتيجية أو تكتيك القتال ضد اسرائيل .
اما اذا كنا قد عرفنا أن ” الوحدة العربية ” لازمة لتحرير فلسطين عن طريق البحث العلمي في تلك الظاهرة الاجتماعية التي تسمى ” أمة “ واكتشاف العلاقة الموضوعية بين الوجود القومي والوحدة القومية . فان الوحدة تكون لازمة لزوما موضوعيا ، فنلتزمها غاية فى معركة تحرير فلسطين ، وفي غير معركة تحرير فلسطين ، ولا نعفي منها أحدا مهما يكن بعيدا عن ساحة معركة فلسطين ، ولا نتراجع عنها حتى بعد أن تتحرر فلسطين .
هنا يكون موقفنا من الوحدة وتحرير فلسطين موقفا عقائديا ، وليس موقفا انتهازيا .
والموقف العقائدي القومي يقوم ـ باختصار ـ على خمسة أسس متكاملة :
اولا : ان الامة جماعة بشرية تكونت تاريخيا من جماعات وشعوب كانت مختلفة لغة وتراثا ومصالح ومتصارعة ومتفاعلة خلال ذاك الصراع ، انتهت بعد مرحلة تاريخية طويلة من المعاناة الى أن تلتحم لتكون شعبا واحدا ذا لغة مشتركة وتراث مشترك ومصالح مشتركة . وهذا لا خلاف عليه . انما الخلاف حول الارض الخاصة والمشتركة كعنصر من عناصر التكوين القومي . ونحن نرى أن الاختصاص برقعة مشتركة من الارض هو العنصر الجوهري المميز للامة . ذلك لان كافة العناصر الاخرى مثل وحدة اللغة التي تركز عليها النظرية الالمانية ، ووحدة المصالح الاقتصادية التي تركز عليها النظرية الماركسية . أو وحدة الثقافة التي تشيد بها الكتابات العربية . أو حتى وحدة الارادة التي تركز عليها النظرية الفرنسية .. الخ . كل هذه عناصر ممكن أن تتوافر ، وأن تجتمع ، لجماعات بشرية لا ترقى الى مستوى ” الامة ” كالمجتمعات القبلية مثلا . انما تجاوزت المجتمعات الطور القبلي ودخلت طور التكوين القومي بالاستقرار على أرض معينة . ثم اكتملت تكوينا باختصاصها بتلك الارض المشتركة ، وبهذا أصبحت أمة .
ثانيا : يترتب على هذا أن الامة تكوين واحد من الناس (الشعب) والارض (الوطن) معا . فنحن عندما نقول أننا أمة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل (الامة) الذي يتضمن الجزء (الوطن) فالشعب العربى (الناس) والوطن العربى (الارض) يكونان معا الامة العربية . التي ما تحولت من شعوب لا تختص شعبا بعينه الى أمة الا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجودا اجتماعيا واحدا هو الامة العربية . من هنا ندرك انه عندما يتعرض الوطن العربي ، كله أو بعضه ، للابادة أو الطرد من أرضه . وعندما يتعرض الوطن العربي كله أو بعضه للغزو الاستيطاني أو الاقتطاع أي عندما تقوم أية محاولة لفصل الناس (الشعب) عن الارض (الوطن) لا نكون بصدد خطر يتهدد بعض أبناء الشعب العربي يمكن تعويضهم عنه أرضا بأرض ، ولا بصدد خطر يتهدد جزءا من الوطن العربي يمكن الاستغناء عنه أو المساومة عليه ، بل نكون بصدد خطر يتهدد الوجود القومي العربي ذاته .
وهكذا تقدم لنا القومية أول ضوابط الموقف العقائدي من الغزو الصهيوني لفلسطين .
ثالثا : ثم أنه لما كانت الامة تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب في الوطن هي مشاركة تاريخية تحول من ناحية دون الشعب وأن يتصرف في وطنه أو جزء منه في أية مرحلة تاريخية معينة لان الوطن شركة تاريخية بين الاجيال المتعاقبة . وتحول من ناحية أخرى دون أي جزء من الشعب وأن (يتصرف) في الاقليم الذي يعيش عليه أو في جزء منه بالتنازل عنه للغير أو تمكين الغير من الاستيلاء عليه (علاقة خارجية) وتحول من ناحية ثالثة دون أي جزء من الشعب وأن يستأثر بأي اقليم عن بقية الشعب (علاقة داخلية) .
ومن هنا نصل الى عدة نتائج هامة وملزمة قوميا .
أولها أن فلسطين كجزء من الوطن العربي اقليم مملوك ملكية مشتركة للشعب العربي كله وليس ملكا خاصا لشعب فلسطين .
ثانيها ؛ ان الشعب العربي كله ، ومن باب أولى شعب فلسطين وحده ، لا يملك الحق في التنازل ، أو التفريط ، أو المساومة ، على حرية فلسطين .
ثالثهما : ان مسؤولية تحرير فلسطين واقعة على الشعب العربي كله وليس على شعب فلسطين وحده .
رابعا : ان كل الاتفاقات ، او المعاهدات أو القرارات ، والدساتير ، والقوانين ، والمواقف ، والتصريحات ، سواء كانت صادرة من دول أجنبية أو دول عربية ، في الماضي أو الان أو في المستقبل ، تمس حرية فلسطين ، غير مشروعة قوميا ، فهي ليست حجة على الامة العربية ولا قيدا على حقها في تحرير فلسطين .
ان الامة كتكوين تاريخي لم تتكون اعتباطا أو مصادفة . بل تكونت من خلال بحث الناس عن حياة أفضل . فاذا كنا قد بلغنا خلال المعاناة التاريخية الطور القومي ، أي مادمنا أمة عربية واحدة فان هذا يعني أن تاريخنا ، الذي قد نعرف احداثه وقد لا نعرفها ، قد استنفذ خلال بحث اجدادنا عن حياة أفضل كل امكانيات العشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معا لتكون أمة عربية واحدة وانها عندما اكتملت تكوينا كانت بذلك دليلا موضوعيا غير قابل للنقض على أن ثمة ” وحدة موضوعية ” قد نعرفها ، وقد لا نعرفها بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أيا كان مضمونها ، وأنها بهذا المعنى ، مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح الا بامكانيات قومية ، وقوى عربية ، في نطاق المصير القومي . قد يحاول من يشاء أن يحل مشكلاته الخاصة بامكانياته القاصرة ، ثم يقنع بما يصيب ولكنه لن يلبث أن يتبين ، في المدى القصير أو الطويل ، أن الحل الصحيح المتكافئ مع الامكانيات القومية المتسق مع التقدم القومي ، قد أخطأه عندما اختار أن يفلت بمصيره الخاص من الوحدة الموضوعية للمشكلات التي تشكل حلولها المصير القومي الواحد .
وهكذا بينما احتاج الاقليميون الى الهزيمة المرة في حزيران (يونيو) 1967 ليتعلموا أن أحدا لا يستطيع أن ينتصر في معركة التحرر ما دامت فلسطين محتلة لا يحتاج القوميون الى تجارب مريرة ليعرفوا أن أحدا لن ينتصر في معركة تحرير فلسطين ما دام للاستعمار قدم وقاعدة في الوطن العربي ، وأن فلسطين لن تتحرر بغير امكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق معركة التحرر العربي واطار المصير القومي .
خامسا : وأخيرا ، فان هذه الوحدة الموضوعية بين المشكلات التي يطرحها الواقع القومي بما نعنيه من أن حلولها الصحيحة المتكافئة مع المقدرة القومية غير قابلة للتحقق الا بامكانيات وقوى قومية في اطار المصير القومي . تفرض الوحدة العربية كأداة يستحيل بدونها وضع كل الامكانيات والقوى القومية ، واستعمالها ، في سبيل حل كل المشكلات العربية ، وتحقيق المصير العربى الواحد . ان هذا لا يعني أن الاقليميين ودولهم عاجزون تماما عن تحقيق أي نجاح في مواجهة المشكلات التي يتصدون لها ، بل يعني تماما انهم لا ينجحون الا مؤقتا وأنهم لن يلبثوا أن يتبينوا ، في المدى القصير أو الطويل ، أن الوحدة لازمة لاطراد النجاح أو الحفاظ عليه .
وهكذا نعرف من الان . أن فلسطين لن تتحرر في غيبة دولة الوحدة ، وأنها حتى لو تحررت لن تستطيع أن تحافظ على تحررها الا في ظل دولة الوحدة . كيف اذن فشلت وحدة 1958 في تحرير فلسطين ؟ .. لاسباب بسيطة . لانها كانت استجابة قومية ولكنها لم تكن وحدة قومية فشلت في أن تتحول الى وحدة قومية . كانت اشتراكا بين اقليمين في الرئاسة وفي الحكومة ، وبقي الاقليمان منفصلين جماهيريا ، واقتصاديا ، وماليا ، وعسكريا فلم تكن تجسيدا لوحدة المصير داخلها . ثم انها اقتنعت بالاقليمين وتوقفت عن الامتداد ، فارتضت التجزئة ولم تجد وحدة المصير خارجها وهكذا انقلبت الى دولة اقليمية في اقليمين ، بدلا من أن تكون دولة الوحدة النواة ففقدت أساسها العقائدي ومضمونها القومي ، ففشلت .
الى هنا نكون قد عرفنا الموقف القومي العقائدي من الوحدة وعلاقتها بتحرير فلسطين .غير أن هذا لا يكفي ، لان الموقف القومي العقائدي تعبير سلبي في مواجهة الواقع ، ويبقى أن نعرف كيف يحدد قوانا ويضبط حركتها الايجابية ، أي كيف تتحول القومية من وعي على الواقع الى حركة لتغيير الواقع وأين تقع العلاقة بين تحرير فلسطين والوحدة العربية في تلك ” الحركة ” .
وأرجو الا يكون غائبا عنا أن حقيقة المشكلة التي نعالجها آخذة في الوضوح خلال الحوار فنحن الان لسنا أمام القضية الشكلية الاولى : أيهما الطريق الى الاخر ، الوحدة أم تحرير فلسطين ، بل نحن أمام الحقيقة الموضوعية لتلك القضية ، علاقة النضال من أجل الوحدة بالنضال من أجل تحرير فلسطين .
ولما كانت الحركة النضالية ، أية حركة لتغيير الواقع تتضمن خمسة عناصر هي : المنطلق والغاية والقوى والاستراتيجية والتكتيك ، فسنرى فيما يلي ـ باختصار شديد ـ كيف تحدد لنا القومية العناصر الخمسة للحركة القومية وموقع معركة تحرير فلسطين منها .
(1) اما عن المنطلق فهو محدد بالوجود القومي ذاته ، بالامة كواقع موضوعي ، وبواقع الامة في مرحلة الانطلاق ، وفي الواقع العربي وقائع كثيرة أولها أننا أمة واحدة ولكن مجزأة وأن فلسطين جزء من الامة العربية ولكن مغتصبة ، من هنا تكون البداية .
(2) أما عن الغاية فهي محددة بوحدة الوجود القومي التي تعني اختصاص الشعب العربي كله بالوطن العربي كله ، فيما يتفق مع تلك الوحدة يبقى ، وما لا يتفق معها يجب أن يزول . ولما كانت الصهيونية تغتصب جزءا من الوطن العربي وكانت كل دولة عربية تستأثر بجزء من ذلك الوطن . وكان هذا وذاك لا يتفقان مع وحدة الوجود القومي ، فان غاية النضال القومى تكون استرداد الارض العربية من غاصبيها ، والغاء تجزئتها واقامة دولة عربية واحدة عليها ، بما فيها فلسطين .
(3) أما عن القوى فمحددة بوحدة المصير القومي . ولما كانت وحدة المصير القومي تعني أن الحل الصحيح لا يمكن أن يتحقق الا بامكانيات قومية وقوى قومية . فان القوى المناضلة من أجل الوحدة لن تكون قادرة على النصر النهائى الا اذا كانت قوى قومية . أي الا اذا كانت مجسدة في ذاتها هدف الوحدة . وهي لا تكون كذلك اذا قبلت التجزئة الاقليمية فيها ، أي اذا قبلت أن تكون قوى اقليمية ولو كانت متحالفة .
وهكذا تكون وحدة القوى القومية شاملة المناضلين في معركة فلسطين ، ولكنها تنفي تجزئة القوى الى قوى قومية وقوى فلسطينية .
(4) اما عن الاستراتيجية فهي محددة بالوحدة الموضوعية للمشكلات التي يطرحها الواقع القومي فلا بد من أن تكون استراتيجية واحدة تصل بين الواقع القومي والمصير القومي . ولما كانت الوحدة العربية الشاملة لا تقوم الا بعد التحرر الكامل لكل اجزاء الوطن العربي فان التحرر يشكل المرحلة الاولى من استراتيجية النضال من أجل الوحدة . وهي استراتيجية ملزمة للمناضلين في كل جزء : التحرر كمرحلة اولى من نضال غايته الوحدة . وهكذا تدخل معركة تحرير فلسطين في نطاق المرحلة الاستراتيجية الاولى من النضال القومي من أجل الوحدة العربية : مرحلة التحرر . ويصبح القول بأن تحرير فلسطين هو الطريق الى الوحدة بشرط أن نفهمه على أنه طريق دخول ” فلسطين ” الى دولة الوحدة العربية .
ومن ناحية أخرى فان وحدة الاستراتيجية تعنى أنه كلما انتصرت القوى القومية في ساحة معركة ألقت بقوتها في الساحات الاخرى الى أن تحقق الوحدة العربية الشاملة . وهكذا يكون النضال القومي ملتزما بسحق الاقليمية والغاء التجزئة في الاجزاء المحررة واقامة دولة الوحدة النواة ثم الدخول بها معارك تحرير وتوحيد باقي الاجزاء وتضاعف المقدرة على النصر ـ هنا ـ لا شك فيه ، ولكن ليس مصدر الالتزام بتحقيق الوحدة النواة والدخول بها معركة التحرير ، بل مصدره الموقف القومي العقائدي . وعلى هذا يصح القول بأن الوحدة هي الطريق الى تحرير فلسطين بشرط أن نفهمه على أنه طريق الوحدة النواة الى الوحدة الشاملة .
أما عن التكتيك فلا يتوقف على القوى القومية . ولكن على ظروف المعارك ، وقوى الاعداء ، وأساليببهم ، وغايتهم ، والقوى القومية مطالبة في هذا بأن تلتزم الاسلوب العلمي في المواقع التكتيكية لهزيمة القوى المعادية . ولكن ـ وهذا بالغ الاهمية والخطورة ـ في نطاق الالتزام الاستراتيجي أي الا تترك للقوى المعادية فرصة استدراجها من خلال المناورات التكتيكية الى خارج خطها الاستراتيجي ، أو أن تندفع هي الى قبول أي نصر تكتيكي يكون على حساب الغاية الاستراتيجية . وهكذا لا يجوز أن نتننازل أو نتراجع عن هدف الوحدة العربية من أجل النصر التكتيكي فى أية معركة ولو كانت معركة تحرير فلسطين .
وهكذا يستقيم لنا ـ كما أرجو ـ فهم العلاقة بين الوحدة وتحرير فلسطين في هذه المرحلة ، على وجه يمكن تلخيصه في جملة قصيرة : التحام القوى القومية في قوة مناضلة واحدة تخوض معركة تحرير فلسطين وتفرض الوحدة فى الاجزاء المتحررة ثم تدخل بها المعركة لتأمين النصر النهائي في معركة تحرير فلسطين حتى تستطيع أن تكسب فلسطين لدولة الوحدة .
فهل هى علاقة صحيحة ؟
هنا يأتي دور الممارسة لتكون محكا لاختبار صحة المعرفة العلمية .
فماذا تثبت الممارسة ؟.
(5) أما على الجانب العربي فلم يكف أي قادر على الكلام ، منذ حزيران (يونيو)1967 عن القول بأن معركة تحرير فلسطين معركة عربية ، وأن مسؤولية تحرير فلسطين تقع على الامة العربية كلها ، وأن التعامل مع ” الواقع الملموس” ـ كما قالت احدى النشرات الصادرة من الجبهة الشعبية أثبتت أنه : ” من الواضح أن النضال من أجل تحرير فلسطين ليس مهمة الشعب الفلسطيني وحده بل مهمة الشعوب العربية كلها وان انجاز هدف التحرير وتصفية الكيان الاسرائيلي لا يمكن أن يكون الا حصيلة نضال الشعوب العربية كلها في حرب شعبية طويلة الامد ضد الامبريالية والصهيونية على امتداد الارض العربية . ”. وأنه مالم تتم تعبئة طاقات الجماهير العربية كلها فان سحق العدوان الاسرائيلي وتدمير جذوره يبقى حلما غير قابل للتحقيق (الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين) ـ (حركة المقاومة الفلسطينية فى واقعها الراهن) . كلهم كل المساهمين في المعركة ، قادة ، وقواعد ، وحكومات لا يكفون عن الاستغاثة بالمائة مليون عربي ، وتحميلهم مسؤولية معركة التحرير التي لا يمكن أن يتم النصر فيها بغير قوة الجماهير العربية . حتى الاقليمية الفلسطينية تدعو الجماهير العربيية الى أن تحشد نفسها في جبهة مساندة .
اذن ” فالواقع الملموس” قد أثبت أن النصر لا يتم الا بالتحام الجماهير العربية وفاء لمسؤولياتها عن تحرير فلسطين ، وهو صحيح .
ولكن الذين يستغيثون بالامة العربية ، وبالمائة مليون عربي . ويحملونهم مسئولية تحرير فلسطين لم يقولوا شيئا عن حقوق المائة مليون عربي في فلسطين ( المتحررة ) أو فى ازالة آثار العدوان . لم يقل أحد كلمة واحدة اجابة عن السؤال الذي يهم الجماهير العربية : لماذا يموتون من أجل تحرير فلسطين ؟ أليست المسؤولية هي الوجه الاخر للحق ؟ فأين حق الامة العربية في فلسطين وكيف يتجسد ؟ ان من أغرب ما قرأنا في هذا ما قاله اولئك الذين اصدروا نداءهم المنشور عن حلم التحرير الذي لا يتحقق الا بنضال الشعوب العربية تبريرا لدخول الجماهير معركة التحرير ، قالوا : لان الجماهير الكادحة لا تملك الحياة ، مع أنها تملك مع الحياة أمل الوحدة والتقدم . ويستغيثون بالجماهير العربية دفاعا عن الكرامة العربية . والكرامة العربية عزيزة وتستحق القتال دفاعا عنها . ولكنها ليست كلمة فارغة ، انها تعني حياة كريمة مطهرة من المذلة ولا يريد أحد أن ” يعد” الجماهير العربية حتى بالحياة الكريمة المطهرة من المذلة ولو بعد التحرير ، ربما لانهم يعرفون أن ذلك لا يتحقق الا فى دولة الوحدة العربية وهم لا يريدون أن يلتزموا بوعد الوحدة بعد التحرير . ان الجماهير العربية ليست بلهاء وقد كان لها في حزيران ( يونيو ) 1967 عبرة لا تنسى ، فاذا كان أحد يظن أنها ستقاتل حتى الموت الى أن تتحرر فلسطين لمجرد أن يعود الامر في الوطن العربي الى ما كان عليه قبل حزيران ( يونيو ) 1967 فسيتعلم أن الغباء لا ينفع صاحبه أبدا . والغباء وباء في الاقليمية العربية . بدليل انهم ما زالوا يتصرفون على أمل أن كل شئ سيبقى كما كان . بل أن منهم من هو مشغول عن المعركة بمخططات التوسع بعد المعركة فهو يدخر قواه ليبني في الارض العربية امبراطوريته الخاصة . وكل هذه أوهام . لا يساويها وهما الا توقع استجابة الجماهير العربية لدعوة الالتحام من أجل الموت لا شيء أكثر ، واستنفارها بالحديث عن المسؤولية بدون التزام بحقها في الارض العربية ولما كان هذا الالتحام لا يتم الا على هدف الوحدة فان هذا ” الواقع الملموس ” يقدم دليلا من الممارسة على أن النصر لا يتم الا بالتحام تحرير فلسطين بالوحدة العربية .
أما عن الجانب الآخر ، جانب القوى المعادية فان الامر أكثر وضوحا . فهي تخوض معركتها ضد الامة العربية وليس ضد أية دولة عربية . وهذا واضح من أن الحركة الصهيونية عندما وضعت مخططاتها لغزو الوطن العربي في مؤتمر بال سنة 1897 لم تكن هناك أية دولة عربية قائمة لا فلسطين ولا غير فلسطين . قد تصطدم الصهيونية تكتيكيا مع دولة عربية قائمة أو اخرى تبعا لما تتبينه من مخاطر مؤقته . ولكن خطتها الاستراتيجية تستهدف اقامة دولة يهودية من الفرات الى النيل ، بصرف النظر عما هو قائم على تلك الارض من دول أو نظم أو قوى . الغزو الصهيوني موجه اذن الى الامة العربية . فهي الطرف الاصيل في المعركة وهذا يقتضي أن تكون قواها في المعركة قوى قومية ملتحمة .
واذا كانت الحركة الصهيونية ذات أهداف محددة واستراتيجية خاصة ، فان من عناصر تلك الاستراتيجية التحالف مع القوة الاستعمارية المتفوقة . تحالفت مع المانيا أولا ، ثم مع بريطانيا ثانيا ثم مع الولايات المتحدة الامريكية أخيرا ، تبعا لانتقال قيادة الاستعمار العالمي . وللاستعمار العالمي موقف عدائي لم يتغير ضد الوحدة العربية . هو الذي صنع التجزئة ابقاء للتخلف حتى يظل مسيطرا على مقدرات الامة العربية . وهو الذي يحرس التجزئة حتى لا تقوم دولة الوحدة . وهكذا التقت المصالح الاستعمارية مع المصالح الصهيونية لاقامة دولة يهودية على الوطن العربي تحقق أهداف الصهيونية وتحول دون الوحدة معا .
قرأنا كلنا عن تقرير كاميل بونومان سنة 1907 الذي انتهى الى أن حماية المصالح الاستعمارية في الوطن العربي تستلزم اقامة حاجز بشري قوي وقريب يفصل المشرق العربي عن المغرب العربي ويحول دون الوحدة العربية المتوقعة . ولقد كنت مهتما بالتعرف على هذا التقرير في مصدر رسمي تحقيقا لصحة الاشارة اليه في الكتابات الخاصة ، الى أن اطلعت على ملخص له منشور فى وثيقة عربية رسمية ، فأصبح حقيقة تمكن الاشارة اليها . ولكنها ليست الحقيقة الوحيدة ، فقد كان من ضمن المكاسب التي تحققت بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967 أن أصبح للقضية العربية أنصارا من الدارسين في أوروبا وخاصة من الفرنسيين . وعرفنا مما كشفوه من وثائق علاقة الغزو الصهيونى بالوحدة من هذه الوثائق ما نشره بيير ديستريا في كتابه ” من السويس الى العقبة ” صفحة 56 نقلا عن كتاب نشر في فرنسا سنة 1937 بعنوان ” الله أكبر” ألفه ” محمد أسعد بك” وهو اسم مستعار لاحد عملاء الصهيونية في الوطن العربي . والكتاب عبارة عن تقرير كان مقدما الى حد قادة الحركة الصهيونية العالمية هو المستشرق النمساوي الدكتور فولفجانج فايست . يقول كاتبه :
” ان خلاصة الاسباب الجدية للكفاح من أجل الارض المقدسة هو موقعها الاستراتيجي وتأثيره في مستقبل المنطقة . فلو عادت فلسطين الى دولة عربية موحدة تضم مصر لقامت هناك قوة عربية مسلحة تستطيع أن تتحكم في قنال السويس والطريق الى الهند . اما اذا ظلت فلسطين مستقلة ، أو أصبحت دولة يهودية ، فانها ستقوم عقبة في سبيل انشاء الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية وأخرى على جانبي فلسطين . ان دولة صغيرة ” حاجزة ” تقوم على 100.000 كيلو متر مربع على ضفتي نهر الاردن ستحمي كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية اخرى ..
ان توازن القوى حول قنال السويس يتوقف اذن على استقلال فلسطين بالنسبة الى العالم العربي ، يتوقف على دولة فلسطين تكون كسويسرا عند ملتقى القارات الثلاث . ان هذا الاستقلال يتفق تماما مع طموح الاستعمار اليهودي ، ذلك لان اليهود وحدهم هم الذين ستكون لهم مصلحة في هذا الاستقلال وليس العرب اذ ان هؤلاء سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج في دولة عربية كبرى “ .
ان هذا الكلام القديم يبدو حديثا ، لانه يعبر عن استراتيجية معادية وضعت قديما وما تزال تحكم تكتيك القوى المعادية . ومن حين الى آخر يعبرون عنها بوضوح وقوة . في تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1958 أي بعد قيام وحدة 1958 نشرت مجلة ” الابسرفاتور دي مويان اوريان ” مقالا بمناسبة الذكرى الثانية لحرب 1956 قالت فيه : ان التفوق الاسرائيلي قدم ضمانا لحماية الوضع القائم ضد المحاولات الوحدوية . لقد أصبح واضحا أن حفظ التوازن فيما بين الدول العربية المجاورة لاسرائيل والدول العربية عموما مهمة يتولاها الاسرائيليون وتدخل في نطاق واجباتهم . اننا نقوم هنا ، اذا صح التعبير ، على تنفيذ ” مبدأ مونرو ” خاص بالشرق الاوسط . ان القرار الذي اتخذناه بهذا الخصوص منذ عشر سنوات ( أي منذ 1948 ) قد أدى الى الاستقرار والسلام بدلا من الخوف ” وفي كانون أول ( ديسمبر ) سنة 1966 قال ليفي أشكول في رسالة بالراديو أن سياسة اسرائيل منذ سنة 1958 (أي منذ الوحدة) أن تحول ولو بالقوة دون أي تغيير يحدث في الوضع القائم للدول العربية ” . وفي شباط ( فبراير ) سنة 1967 قال أبا ايبان في تصريح أدلى به في لندن : ” يجب أن يكون واضحا أن مصير المنطقة العربية لا يمكن أن يكون الوحدة . بالعكس انه الاستقلال القائم على التجزئة “ .
وهكذا تثبت الممارسة ـ ممارسة المعركة ضدنا ـ أن القوى المعادية قد غزت فلسطين مقدمة لغزو مزيد من الاراضي العربية لاقامة دولة يهودية وظيفتها أن تحول دون الوحدة العربية الشاملة كهدف استراتيجي لتلك القوى المعادية .
وهذا يعني أن طبيعة معركة تحرير فلسطين التي تفرض التحام الجماهير العربية تحتم أن يكون التحامها من أجل الوحدة كهدف استراتيجي للقوى العربية . وبهذا تقدم طبيعة المعركة الدليل على صحة الموقف القومي من العلاقة بين الوحدة وتحرير فلسطين . اذا كان هذا هو الحل الصحيح : فما الذي يحول دونه ؟.
أولا : وقبل كل شيء ، عدم وفاء القوى القومية بمسؤولياتها ، فلو أرادت الوفاء لما حالت أية قوة على الارض دون أن تلتحم في قوة مناضلة لتحرير فلسطين واقامة دولة الوحدة .
ثانيا : الاقليمية العربية ، والاقليمية كنقيض للقومية تقوم على أساس أن لكل اقليم عربي تكوين اجتماعي (مجتمع) قائم بذاته مستقل بمصيره ، ولما كان الاستقلال علاقة ذات طرفين أو أكثر (الاستقلال بالذات عن الغير) فان دلالة الاقليمية تتجاوز أي اقليم لتصبح علاقة قائمة على تبادل الاعتراف بتجزئة الوطن العربي تجمع الاقليمين في كل مكان ، حتى الذين لا ينتمون الى دولة عربية ، لتضعهم جميعا في مواجهة الشعب العربي في موقف مضاد لوحدته القومية . وتتجسد هذه الاقليمية في الموقف الاقليمي من المشكلات العربية ، ومن معركة تحرير فلسطين بوجه خاص ، لان الاقليمية متصدية فعلا للمعركة دفاعا عن فلسطين أو دفاعا عن الاجزاء التي احتلت بعد 1967 ولكن من موقف اقليمي .
وقد قلنا دائما ونقول الان ان الاقليمية فاشلة .
ولسنا نحتكم لتجربة الفشل في السنين الماضية ، لان هناك من يتوهمون أن تغيير القيادات الاقليمية قد يكون سببا للنصر . وذلك من أوهام الاقليمية . لان فشل الاقليمية كامن فى ذاتها مهما تكن نوايا قادتها . ففي معركة تحرير فلسطين مثلا ، تفتقد الاقليمية (غير الفسطينية) حتى مبررات القتال . ان استقلال الدول الاقليمية ذاتا ومصيرا يجردها من أى حافز للقتال من أجل تحرير فلسطين لسبب بسيط هو أن فلسطين تقع خارج حدود الدول الاقليمية المستقلة ذاتا ومصيرا . وأكثر الاقليميين امانة هم الذين يعترفون بهذا ويبحثون عن مخرج لاسترداد ماضاع من أرضهم ثم يلقون مسؤولية تحرير فلسطين على شعب فلسطين واذا قيل أن اسرائيل تمثل خطرا على الدول العربية فان المسألة ـ بمنطق الاقليمية ـ تكون كيف تؤمن وجودها من هذا الخطر . وهو ممكن ولو بالمساومة على أرض فلسطين ذاتها ، ولو بقبول حماية واحدة أو أكثر من الدول . كل هذا ممكن بدون حاجة الى تحرير فلسطين ، واذا لم يكن ممكنا فان الاقليميين سيقاتلون دفاعا عن أرضهم ان استطاعوا ، ولكنهم لن يصلوا أبدا ـ ولو استطاعوا ـ الى حد دخول معركة تحرير فلسطين .
هذا من ناحية ..
ومن ناحية أخرى فان ” الاقليمية ” المستقلة ذاتا ومصيرا تعني أولا استئثار كل دولة عربية بالجزء الذي تقوم عليه فهي تغتصبه من الامة العربية . وتعني ثانيا حرمان الشعب العربي فيها من حقه في الارض العربية خارجه فهي تحبسه فيه وبهذا تحول ـ سلبيا وايجابيا ـ دون التحام الجماهير العربية فى قوة موحدة لتحرير فلسطين واقامة دولة الوحدة . وبهذا لا تخدم الا الغزو الصهيوني لفلسطين . ولهذا عندما يتحدث الاقليميون عن تحرير فلسطين لا يصدقهم أحد ويسخر منهم العالم كله . والعالم على حق لان الاقليمية المستقلة بمصيرها عن فلسطين تكون غير منطقية عندما لا تترك فلسطين لمصيرها المستقل . ان على الشعب العربي فى كل مكان أن يفلت من شراك التضليل ولو احتراما لارواح الشهداء من ابنائه الذين راحوا ضحية التضليل الاقليمي . والحقيقة أننا ما دمنا متفقين على أن التجزئة قد سهلت غزو فلسطين . فيجب أن نعرف ونعترف بأن الغزو الصهيوني لفلسطين قد بدأ واتسع وما يزال قائما في حماية الاقليمية العربية التي تجسد تلك التجزئة . واذا كنا متفقين على أن الاقليمية العربية مشتبكة في صراع ضد الصهيونية دفاعا عن استقلالها ، فيجب أن نعرف ، ونعترف بأن هذا الاستقلال لا يعني أنها ستخوض معركة تحرير فلسطين ، بل يعني أنها طالما بقيت في الوطن العربي فستحول ، بكل الطرق ، من أول المغالطة اللفظية الى آخر التصفية الجسدية ، دون التحام القوى القومية لدخول معركة تحرير فلسطين ، أي أن استقلالها ذاته يحول دون تحرير فلسطين . وأنها يجب ان تسقط لتقوم دولة الوحدة حتى تتحرر فلسطين .
أما الاقليمية الفلسطينية فلها مصلحة مؤكدة في تحرير فلسطين ولا شك في أنها ستقاتل ما استطاعت لتحرير فلسطين ، ولكن الاقليمية ستخذلها . الاقليمية فيها والاقليمية خارجها . هذا لا شك فيه . ان شعار الاستقلال عن الدول العربية بمعركة تحرير فلسطين يتضمن حتما استقلال الدول العربية عن معركة تحرير فلسطين . وليس صحيحا أن يقال أنه مع ذلك لا يعني الاستقلال عن الجماهير العربية ولا يحول دون التحامها فى معركة تحرير فلسطين . لان مجرد الدعوة الى التحام الجماهير العربية يعنى دعوتها الى كسر القيود الاقليمية وهو أمر يمس صميم وجود الدول الاقليمية ويتناقض مع استقلالها عن فلسطين واستقلال فلسطين عنها . ان كان هذا تكتيكا فهو تكتيك فاشل لانه ينطوي على مغالطة مكشوفة . وكل تكتيك ناجح يجب أن يكون منضبطا عقائديا واستراتيجيا والا فهو مغامرة أو مقامرة .
الحل القومى ، اذن ، هو الحل الصحيح لمشكلة تحرير فلسطين . فهل هناك موضع في هذا الحل لمشكلة الاقامة في فلسطين المتحررة . تلك المشكلة التي يقدمون لها صيغة فلسطين المسماة ” ديمقراطية “ : حلا يرضي ـ فيما يقولون ـ الرأي العام العالمي ؟.. ان حلها القومي واضح وصريح . اذ بمجرد أن ننسى التمييز الديني والعنصري تقدم لنا ” القومية ” الحل لصحيح . فالقومية لا تقبل الاستقلال الاقليمي لفلسطين عن الامة العربية وفلسطين الاقليمية فاشلة من الان في حل مشكلة الاقامة فيها . فهي ” دويلة ” يواجه فيها مليونان من المجني عليهم مليونين من الجناة حول جسم الجريمة : الدار المهجورة وقد سكنت ، والارض المتروكة وقد زرعت ، والاموال المنهوبة وقد أصبحت أموال الاخرين . ثم يقال لهم لا تذكروا ما كان وعيشوا ”ديمقراطيين” . كأن الديمقراطية تعويذة سحرية تطهر النفوس بأمر من القائلين . ان فلسطين مهما تكن أرض السلام ستضيق بمن فيها وتنتهي حرب التحرير لتبدأ الحرب الاهلية في أرض فلسطين .. القومية لا تقبل الا دولة الوحدة ودولة الوحدة أكثر رحابة من فلسطين . وفي دولة الوحدة مكان لكل الذين يريدون أن يعيشوا آمنين . هذا من ناحية .. ومن ناحية أخرى فان للامة العربية أبناء من اليهود في فلسطين المحتلة وفي أماكن كثيرة من الارض . اولئك العرب اليهود . انهم يحملون لسبب أو لآخر الهوية الاسرائيلية أو هويات اخرى أجنبيه . وهم لسبب أو لآخر قد انتقلوا الى فلسطين أو غادروا الارض العربية الى اماكن أخرى . كل هؤلاء عرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية . ولكل هؤلاء حق قومي في أن يقيموا في رحاب أمتهم وعلى وطنهم العربي في فلسطين أو في غير فلسطين . ولكل هؤلاء حق في أن تكون دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية دولتهم القومية التي تحميهم ضد التعصب وتوفر لهم الامن وأسباب التقدم الاجتماعي . وكل هؤلاء مطالبون بأن يعبروا عن ولائهم لامتهم ، وأن يرتفعوا بوعيهم الى مستوى المسؤولية القومية ، وأن يعرفوا أن أرض فلسطين هي أرض أمتهم العربية ، وأن لهم حق الاقامة فيها سواء كانوا فيها من قبل ، أو كانوا وافدين اليها من أقطار عربية أخرى . وأن من حقهم أن يعودوا اليه ، أو الى مكان من الوطن العربي ان كانوا قد غادروا أرضهم العربية . بل انهم في القومية سواء مع اخوانهم العرب الذين أكرهوا على مغادرة فلسطين ، لا فضل لأحد منهم على الآخر الا بقدر ما يجسد فكرا ومسلكا ولاءه القومي لامته العربية . وحتى الذين تورطوا منهم فوجدوا انفسهم فى مواقع الخيانة لامتهم ، ويقتلون اخوتهم العرب طاعة لسادتهم الصهاينة فان جزاءهم سيكون متعادلا مع ما كان لهم من حرية في الاختيار ، وعلى ما يكون لهم من موقف يختارونه في الصراع العربي ضد الغزو الصهيوني . ولكنهم في كل الاحوال لن يكرهوا على مغادرة أرضهم العربية ولن يفتقدوا حماية دولة الوحدة .
أما الذين خانوا وطنهم فهجروها ، وجاءوا غزاة للوطن العربي فلا مكان لهم في الارض العربية وعليهم أن يلحقوا بأممهم حيث كانوا ولسنا مطالبين بأن ندفع لهم ثمن الخيانة أو أن نقدم لهم مكافأة على العدوان .
ذلك هو الحل السلمي الوحيد المقبول قوميا .
وهو حل لا نبتكره نفاقا لدفاع السلام . انما نقدمه دليلا على سهولة الاهتداء الى الحلول السلمية الصحيحة من الموقف القومي العقائدي لانه الموقف الصحيح . وليس أدل على أنه الحل السلمي الصحيح من أن المهاتما غاندي كان رمزا خالصا للسلام الانساني مع أنه لم يكن عربيا قوميا ، قال غاندي في 14 تموز ( يوليو) سنة 1946 :
” ان فلسطين للعرب بذات المعنى الذي تعتبر فيه انجلترا للانجليز وفرنسا للفرنسيين . انه لخطأ بين ، وأمر غير انساني ، أن يفرض اليهود على العرب . أن ما يجري في فلسطين اليوم لا يمكن أن يوجد له مسوغ من أي قانون اخلاقي للسلوك .. انها لجريمة ضد الانسانية أن يقبر العرب الاعزاء لكي يتخذ اليهود كل فلسطين أو جزءا منها وطنا قوميا لهم ان التصرف ألامثل هو الاصرار على معاملة اليهود معاملة عادلة في أي مكان ولدوا ونشأوا فيه ” .
ونحن باسم القومية العربية نصر على معاملة اليهود العرب معاملة عادلة في وطنهم العربي وما على الامم الاخرى الا أن توفي بمسؤولية السلام فتحمي أبناءها اليهود من التعصب ضد السامية ، وبهذا تحل المشكلة ويسود السلام .
ان دعوتنا القومية اذن دعوة سلام في جوهرها ، واننا لمسؤولون قوميا عن تحرير العرب اليهود من القهر العنصري المفروض عليهم في أرض فلسطين . ومسؤولون قوميا عن عودة العرب اليهود الذين غادروا وطنهم العربي وتعويضهم عن أي عسف لم يحترم انتماءهم القومي للامة العربية . ولكننا غير مسئولين على أي وجه عن ارضاء التعصب الاوروبي ضد اليهود أو التعصب الصهيوني ضد البشر جميعا . بأن نقيم للصهيونية دولة في أرضنا ، سواء في فلسطين أو حتى في الربع الخراب من الصحراء القاحلة . لا أحد يملك هذا ولا أحد يستطيعه فان جنحوا الى السلم جنحنا . وان اصروا على البقاء اكرهناهم على العودة الى أوطانهم ونعد لهم ما نستطيع من قوة .
أهي عودة الى شعار القائهم فى البحر ؟
ان هذا لا يتوقف علينا ، ولكن على الطريقة التي يختارونها للجلاء عن الارض العربية . وعلينا أن نكف عن النفاق باسم الانسانية فان الحرب ليست مباراة رياضية بل هي صراع وحشي ومجزرة بشرية . وان كان ثمة من يدعي الانسانية نفاقا فليبحث أولا عن المسؤول عن المجازر البشرية والعرب لم يكونوا أبدا مسؤولين .
في أواخر الحرب الاوروبية الثانية كانت أغلبية اليهود الالمان في سجون النازية . وكانت النازية في مأزق اقتصادي وعسكري لا يمكنها من الابقاء عليهم ، فاتفقت النازية والصهيونية في مفاوضة مباشرة جرت في سويسرا على ترحيلهم من المانيا . وعرض الامر على الحلفاء ، فأحالوه الى لجنة برئاسة اللورد موين الانجليزي . ثم استقر الرأي على أنه بالرغم من مخاطر الابادة الجديدة التي تعدها لنازية للتخلص منهم الا أن ترحيلهم من المانيا سيخفف عنها بعض متاعبها ويعوق انتصار الحلفاء وقرروا جميعا ترك اليهود للموت فأبيدوا بالوحشية التى نذكرها . ونذكر أيضا ان الحركة الصهيونية طاردت من أجل هذا الورد موين حتى قتلته في شوارع القاهرة .
انها الحرب والصهاينة أول من يعلمون هذا ويعاملوننا وفقا له . فاذا كان واحد من العرب قد قال ـ أخيرا ـ اننا سنلقي الاسرائيلين في البحر فليتذكر المنافقون أن الزعيم الصهيوني وايزمان قد قال : ” لا أذيع سرا اذ قلت أننا اتفقنا مع بريطانيا على تسليمنا فلسطين خالية من العرب قبل نهاية الانتداب “. وأن الزعيم الصهيوني جابوتنسكي قال : ” ان فلسطين يجب أن تكون لليهود أما العرب فلهم الصحراء . ان اتباع سياسة اللين مع العرب للتوصل الى اركان الوطن القومي اليهودي في فلسطين ثم اجلاء العرب عنها تدريجيا مع الزمن سياسة مملة يطول شرحها لانه اصبح معروفا لدى العرب ما هي الغايات التي يسعى اليها اليهود ولذلك بات من الضروري مجابهة العرب بالامر الواقع وافهامهم ضرورة الجلاء الى الصحراء “. وأن الزعيم الصهيوني اسرائيل زانكويل قال : ” ان فلسطين وطن بلا شعب فيجب أن تعطي لشعب بلا وطن وواجب اليهود في المستقبل أن يضيقوا الخناق على سكان فلسطين العرب حتى يضطروهم الى الخروج منها ” . وان الزعيم الصهيوني سيملانسكي قال : ” ان فلسطين يجب أن تكون وطنا للشعب اليهودي وأنه من الممكن نقل أهل فلسطين العرب الى الاقطار العربية المجاورة “. وان الزعيم الصهيوني مناحم بيجين قال” : ان مذابح الاسر العربية عمل رائع من أعمال الاستراتيجية العسكرية “. وان الزعيم الصهيوني بن جوريون قال : ” علينا أن نتلقن الدرس بأن الهزائم العسكرية في حد ذاتها لا جدوى من ورائها ما لم يعقبها اجراء فعال وعلينا ان نستخدم الانتصارات العسكرية كأساس للتوطن السكاني الذي لا يمكن اغفاله ” . وأنه فيما بين يومي 11/11/1948 و17/11/1966 أصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة ثمانية عشر قرارا بعودة الشعب العربي الى فلسطين فقال الزعيم الصهيوني أبا ايبان : “ حتى لو صوتت الامم المتحدة بنسبة 121 الى واحد فلن نقبل قرارها “ .
فهل فقدوا بهذا كثيرا من الرأي العام العالمي ؟
لنكف اذن عن ” النفاق” باسم الانسانية فان النفاق لا يخدع أحدا ان الاوربيين الذين يريدون كسبهم نفاقا هم الذين القوا باليهود في الافران الموقدة وليس في البحر . وهم الذين أهلكوا من أنفسهم خمسين مليونا في حربين خلال ربع قرن دفاعا عما يعتقدون أنه حق . وتعلموا من كل هذا أن دعوة الحق التي تهرب من حلبة الصراع دفاع عنه دعوة منافقة .
ولنقلها صريحة قاطعة اذا فرض علينا العالم أن نختار بين أن يذهب العرب الى جوف الصحراء أو أن يذهب الصهاينة الى أعماق البحر فليذهب الصهاينة الى أعماق البحر . ولن نكون المسؤولين . بل العالم هو المسؤول .
* * *
“ محاضرة القيت في نادي المحامين في عمان ( الاردن) يوم 10 مارس 1970 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق