الاسلام والديمقراطية .
د.عصمت سيف الدولة .
بسم
الله الرحمن الرحيم
،
تقول في
رسالتك ، وكأني أراك جزعا ، إن السلطة السياسية التي قد تنشأ داخل الأمم الإسلامية
لن تكون ذات طبيعة واحدة من حيث المضمون والشكل . فالأمة العربية مثلا، وهي أمة
كاملة التكوين التاريخي والإجتماعي تغلب عليها آراء أهل السنة في مسألة الخلافة أو
الإمامة أو الحكم ولكن هذا التصور "السني" قد لا يلقى إجابة من أهل
الشيعة في إيران مثلا، وهي أمة كاملة التكوين يغلب عليها المذهب الشيعي الذي له
فقه كامل ومتميز في مسألة الحكم .
ومن ناحية ثانية ،
كل أمة من الامم الإسلامية، تحتوي بين ظهرانيها أقليات أو طوائف إسلامية لا تشارك
الأغلبية موقفها العقائدي أو السياسي، فالأمة العربية يوجد بها شيعة ودروز
واسماعيلية وعلويون فضلا عن المذاهب الفقهية الأخرى، فكيف يمكن فرض تصوّر الأغلبية
الدينية على هذه الأقليات ؟ وكيف العمل حينئذ ؟
أ- جاء ذلك في سياق
سؤالك عن أهل الذمة وقد عرضت عليكم فيما سبق ما خطر لي بالنسبة لنظام الذمة
وأهلها، ورايت أن أكمل الجواب على ما استطردت إليه في سؤالك ويدور أساسا على
الموقف من أصحاب المذاهب المتعددة غير مذهب الأغلبية، ثم جاء سؤالك الإستنكاري :
" كيف يمكن فرض تصور الأغلبية الدينية على هذه الأقليات وكيف العمل حينئذ ؟
كان يكفي جوابا أن أقول لك أنه في مجتمع معيّن وفي وقت معيّن تتعدد الآراء
والمواقف والمذاهب ويختلف الناس ويتخاصمون وقد يتقاتلون ، ولا سبيل الى اجتناب
القتال إلا تطبيق ما تراه الأغلبية مع الإحتفاظ للاقلية بحق المعارضة ليحتكم
الجميع بعد التطبيق إلى حصيلة التطبيق لمعرفة ما إذا كان راي الأغلبية صحيحا أم
خاطئا، وذلك بشرط المساواة في حرية الرأي. ذلك لأنه لا يوجد لأية مشكلة في زمان
معيّن إلا حلّ واحد صحيح . فإذا اختلف الناس فإما أن تكون حلولهم كلّها خاطئة وإما
أن يكون أحدها صحيحا وما عداه خطأ. كيف يُعرفُ هذا ؟ بتطبيقه ، أي تفضيل رأي
الأغلبية ، إذ أنه الذي يحقق مصالح الأغلبية . ولا يوجد معيار آخر للتفضيل ما دمنا
نحافظ على المساواة بين الناس في حرية الرأي (من شروح الجدل الاجتماعي) . ليس معنى
هذا أن الأغلبية دليل على صحة رأيها، أي مطابقته للحل الصحيح موضوعيا، فقد يتضح من
التطبيق أن الأغلبية كانت ضحية خطأ في فهم المشكلة أو في الاهتداء إلى الحل .
فيتحول التطبيق إلى اختبار صحة وليس دليل صحة ، ومن هنا تبقى حرية المعارضة وسيلة
وحيدة لمراقبة الإختبار التطبيقي وتصحيح الرأي الذي كان للأغلبية حين تصبح
المعارضة أغلبية. واعتقد ان هذا أصبح مسلّما فكريا على الأقل في العالم الحديث -
مع تحفّظات شديدة - على توافر شرطية المساواة في حريّة الرأي، وحق المعارضة في هذا
العالم الذي نسميه حديثا لأنه حادث واقع ليس إلا.
ولعلّ
هذا أن يلفتك، وقد يقنعك، بأن ما كان يمكن أن تتعدد المذاهب في الإسلام، ولا تقل
مذاهب إسلامية، إلا لأن الإسلام قد قرّر ثم أقرّ، ثم حرص، على المساواة بين الناس(
ومنهم أهل الذمة وحتى الكفار كما أسلفنا) واحترام حرّيتهم في الرأي وفي المعارضة.
وهو وحده، من بين كل النظم والأديان والأيديولوجيات الذي أرسى قاعدة " من
اجتهد فأخطأ فلهُ أجر ومن اجتهد فأصاب فلهُ أجران" حتّى لا يخشى أصحاب الرأي
من أن تكون آراءهم خاطئة وحرّض الذين يخشون "السوء من القول" فيحجمون عن
إبداء آرائهم على أن يبدوه ولو بالقول السيء.
ولكن
كيف تتعدد المذاهب والآراء في مجتمع يؤمن بإله واحد، ورسول واحد، ويأخذ دينه من
كتاب واحد؟ لأن هذا هو الإسلام كما هو، والذي ينكشف للمتأمل فيه لإتساق آياته مع
القوانين الكونية الموضوعية التي لم يكن أحد يعرفها حين نزل القرآن.
ب - يقول الله تعالى:
" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر
متشابهات" (آل عمران 7) وفي القرآن 180 آية تستعمل كلمة "صالح"
ومشتقاتها في التعبير عن "العمل" المفضّل في كل نشاط إنساني. والصالح ضد
الفاسد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الله غنيّ حميد، فبالنسبة لمن يتحدد
الصلاح أو نقيضه الفساد؟. بالنسبة للناس، للبشر، من هنا ننتهي، وهذا مذهبنا ، إلى
أن لمشروعية النّشاط الإنساني في الإسلام
مصدران أساسيان : 1- الآيات المحكمات. 2- مصالح الناس أو ما أسماها بعض الفقهاء
:"المصالح المرسلة" وهو وضعي وما جاءت اللايات المتشابهات، أي القابلة
للتأويل (وقد كان في قدرة الله سبحانه أن تأتي كل الآيات محكمات) إلا لأن من سنن
الله التي لا تتبدل أن كل شيء مؤثّر متأثّر فمتغير فيلاحقه تأويل الأيات
المتشابهات على ما يتفق ومصالح الناس المؤثرة المتأثرة المتغيّرة، فيبقى التاويل
الوضعي في حدوده الشرعية. لا يستطيع أحد أن ينتقص كلمة من هذا الرأي ولا أن يضيف
إليه. ذلك لأن مصدره القرآن، وقد ختم القرآن بقوله تعالى" اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتلإ لكم الإسلام دينا".(المائدة 3). فكل إضافة
إلى القرآن لا يعتد بها مصدرا للشريعة. وهكذا نعود إلى قصر مصادر الشريعة على الآيات
المحكمات، وتأويل الآيات المتشابهات على ما يتفق ومصالح الناس.
وقد كان
الرسول عليه الصلاة والسلام يفسر الآيات المحكمات لمن غمت عليه دلالتها بالشرح أو
بالاداء (السنة العملية). ولكنه في الوقت ذاته كان يتأول الآيات المتشابهات على ما
يتفق مع مصالح الناس في حياته بما يسمّى الأحاديث النبوية. وانتهى كل بوفاته،
وتبعه المسلمون من بعده، يلتزمون الآيات المحكمات ويتأولون الآيات المتشابهات على ما
... ماذا
؟ .. ما يتفق مع مصالح
الناس في مجتمع المسلمين الذي اتسع طولا وعرضا وأرضا بالفتح الاسلامي. فظهرت
اجتهادات فكرية تحوّلت على مدارس فقهية أو مذاهب، في ظل القاعدة " من اجتهد
فأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر". عنوان حرية الراي في الإسلام
إلى أن جاء عصر الحكام المستبدين في العصر العباسي وما بعده فإختار كل حاكم مذهبه
ليكون مذهب المسلمين كافة واستعمل في ذلك
بطش السلطة. وما زالت المذاهب في الاسلام أكثر اتساعا وشمولا وأكثر تفريعا من كل
ما جاء في القرآن من آيات محكمات..
وبما
كثرت الآراء، وتحوّلت إلى مذاهب، وأصبح الإنتصار إلى المذاهب سياسة ، أراد اصحاب
كل مذهب أن يدعموه بما جمع لهم واستعملوه أو استغلوه من أقوال أسندت إلى الرسول
قبل أن تجمع بحوالي قرنين، وقيل أنها احاديث نبوية. فلمّا استفحل أمر الجمع
والإنتحال والإدعاء والتلفيق إلى درجة زعمهم
أن ثمة كلاما نسبوه إلى الله وأسندو روايته إلى محمد غير ما جاء في القرآن
وأسموها الأحاديث القدسية، وهو هرطقة صريحة، فتولّى علماء الحديث ( إذ أصبح البحث
في الاحاديث علما) تصنيف ما نشر منها حسب قوّتها الملزمة فانتهوا إلى أن من بين
عشرات الألوف من الأحاديث ليس ثمة إلا أربعين حديثا "متواتر"، أي قطعي
الإسناد إلى رسول الله ونفى بعضهم وجود أي حديث متواتر، وبقيت الأحاديث المتواترة
قطعية الإسناد خاضعة للتقسيم الثنائي
فمنها أحاديث محكمة ومنها أحاديث متشابهة.
ج - القيمة الحيوية
لتلك المذاهب وصلتها بالإسلام مستمدة من أنها كانت تعبر عن رؤية كل متحدث أو مجتهد
أو فقيه لما "يصلح " للمتغيرات في مجتمعه في زمانه، فتفرقت المذاهب
الفقهية تبعا لتغيّر و"تطور" مصالح المسلمين في الاقطار والأمصار، وظهرت
"المصالح المرسلة" و "الراي" و "القياس" و
"الإجماع" كمصادر للشريعة في بعض المذاهب على اختلاف فيما بينها. فعندما
يقال مثلا، إن الامام الشافعي قد وضع مذهبه الاول حين كان في العراق، ثم وضع مذهبه
الثاني حين جاء إلى مصر فأقام فيها، لا يكون ذلك ان الإمام الشافعي كان "
مُلفّقا " كما قال أحد الجهلة في رسالة دكتوراه قدّمها إلى كلية الآداب جامعة
القاهرة ، ولم تقبل ، بل لأن الإمام الشافعي كان يجتهد طبقا للأصل القرآني في
تأويل الآيات المتشابهات على ما يلائم مصالح الناس وهي لم تكن متطابقة في العراق
ومصر على عهده. فقيل بحق إن اختلاف الفقهاء رحمة بالمسلمين.
د - نعود إلى البداية .
كيف يمكن معرفة مصالح الناس وهي متغيّرة ؟ الجواب : إذا كان القرآن قد أمر في آية
محكمة أن "لا إكراه في الدين" فلا إكراه في مذهب في الدين وهذا واضح ،
هذا وحده لا يؤدي مباشرة إلى معرفة مصالح الناس ، المصدر الثاني للشريعة : "الجدل
الاجتماعي" يقدّم إليك الجواب ، حرية الناس بدون حدود في المشاركة في اقتراح
حلول تلك المشكلات. العمل الجماعي لتطبيق تلك الحلول التي هي " مصالح
الناس" كما يعرفونها من مشكلاتهم التي لا يمكن أن يعرفها غيرهم. فإذا لم
يتّفقوا فيُطبّقُ ما تراه الأغلبية بحكم المساواة، ويتبقّى للأقلية حق المعارضة
إلى أن يتم إختبار مدى مطابقة راي الأغلبية لمصالح الناس جميعا. وبذلك تكمل
الدائرة ويصبح الجدل الإجتماعي ( القانون الموضوعي للديمقراطية) جوهر مصالح الناس
من حيث هو نظام اكتشاف مصالحهم في زمن معيّن في مجتمع معيّن.
ولولا
أن المساواة من ثوابت نظام الحياة في الإسلام ، ولولا أن مصالح الناس غاية ثابتة
في الإسلام ، لما أمكن أن يؤدي الجدل الإجتماعي إلى تطور المجتمع في الإسلام ، ولما
قيل أنه نظام إسلامي وهو وضعيّ وليس إلهيا.
والله
أعلم ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق