شرخ في جدار النظام
د.عصمت سيف الدولة .
جريدة الشعب – 5 أفريل 1988 .
في عدد الجمعة من جريدة الاهرام الصادرة يوم 25 مارس 1988 نشر رئيس التحرير مقاله الأسبوعي تحت عنوان "القضية ليست .. سان استيفانو" ، وسان استيفانو هذا فندق عتيق عريق قائم على نحو 30 ألف متر مربع على شاطئ الإسكندرية . رأى وزير السياحة أن يبيعه أرضا ، وهو جزء من القطاع العام . وأعلن عن هذا في الصحف فاعترضت عليه محافظة الإسكندرية والمجلس المحلي الشعبي في المحافظة وانتقل الاعتراض الى مجلس الشعب حيث تعرض الوزير لهجوم حاد من كثير من الأعضاء قاده نواب المجلس عن مدينة الإسكندرية وانتهى الأمر بإلغاء رئيس الحكومة ما قرره الوزير . ولم يستقل الوزير . والملحوظ في كل هذا أنها معركة دارت حول "القطاع العام" داخل الحكومة وحزبها ، وزراء ضد وزراء ونواب ضد نواب . لم تبق الا صحافة الحكومة . أما مجلة "المصور" فقد نشرت يوم الخميس 24 مارس 1988 حديثا مع رئيس مجلس الشعب الذي اتهم بأنه راعى ، أو نظم ، أو حرض على مقاومة بيع الفندق . وكانت غاية الحديث ومضمونه هي دفع الاتهام عنه . ولقد استطاع الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب ، أن يثبت ببراعة براءته من حيث "الشكل اللائحي" من تهمة الانحياز ضد بيع احدى مؤسسات القطاع العام بقوله أنه كان يرعى اللائحة ولم يتخذ موقفا من موضوع المناقشة . وكما لو كان قد خشي أن ينسب اليه رأي في الموضوع – جواز بيع القطاع العام أو عدم جوازه – فقال :" خلاصة رايي الذي لم اقله في المجلس أنه اذا كانت هناك وحدة من وحدات القطاع العام خاسرة فلنحاول إصلاحها ، فاذا تعذر الإصلاح فلتصف ، هذه فلسفة للإصلاح وليست فلسفة لتصفية القطاع العام " .. وهو رأي مصوغ بمهارة أيضا .. اذ أن "التصفية" كما يعرف الدكتور رفعت معرفة اليقين – قد تتضمن البيع وقد لا تتضمنه . وبالتالي فانه – أو أن الناس – في حاجة الى حديث اخر شارح لموقفه من "البيع" بالذات ..
على أي حال جاء مقال رئيس تحرير الاهرام في اليوم التالي ردا مقصودا أو غير مقصود على مقال رئيس مجلس الشعب وأكثر وضوحا .
استهل الأستاذ ابراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام مقاله بقول طارد أراد به أن يستبعد من اضبارة القضية أصول المواقف والآراء فقال : "بعيدا عن الشعارات والايديولوجيات والعبارات الضخمة التي لا يتحملها الموقف كتصفية القطاع العام أو الحفاظ عليه ، أو الارتداد عن الفكر الاشتراكي أو الانقضاض عليه .. وبفكر لا يهاب الشعارات ولا يضع أمامه سوى المصلحة العليا للبلاد .
وهناك كلمة لا بد أن تقال في موضوع بيع فندق سان استيفانو الذي تحول على يدي المتشنجين الى مبارزة بين تيارات وجماعات ضغط معينة رأت فيها فرصتها الذهبية لتصفية بعض الحسابات " .. ثم انطلق سيادته يكمل رايه مؤيدا بيع الفندق أو أية وحدة من وحداة القطاع العام بحجج تدور حول محورين أولهما ضيق ذات اليد – يد الدولة – وثانيهما فرص عمل أكثر للشباب . ثم رد على المعترضين بما رأى أنها حجة لا ترد ، قال : " ثم نأتي الى نقطة ليست محلا للنقاش .. وهي أن مالك الشيء يملك أن يتصرف فيه بالبيع أو التأجير أو المشاركة سواء أكان هذا المالك قطاعا عاما أم فردا أم اسرة .. فلماذا نسلب من القطاع العام هذا الحق المقرر للمالك في كل قوانين العالم .." .
ليسنا نريد أن ندخل طرفا في الحوار أو في الصراع حول القطاع العام الدائر داخل الحكومة وحزبها . ولكنا نريد أن نشير لكل من يهمه مصير هذا البلد مصر الى أن ثمة شرخا في جدار النظام ذاته بدأ منذ 1974 ولا يزال يتسع ويمتد حتى أدرك الحكومة ذاتها ، وأصبح يهدد بانهيار النظام كله . هذا الشرخ فاصل فالق بين شرعية النظام وممارساته . بدأ بما أسمي الانفتاح كممارسة واقعية وبين الدستور كمصدر واطار للشرعية .. هذا الشرخ الخطير هو بؤرة الخلل الذي لا يزال يهز استقرار النظام الشرعي في مصر وينعكس اضطرابا في سياساتها الدولية والعربية والداخلية على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ثم امتد أخيرا الى الحكومة وحزبها فتقطعت علاقات التفاهم بين العاملين فيها . ولن تتوقف الا بتصفية الانقلاب .
في أوائل عام 1977 قلنا في كتاب منشور تحت عنوان "الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر" – وكان الشرخ في بدايته – " أنه يمثل انقلابا ضد الاشتراكية والديمقراطية الشرعية يحدث في الواقع العملي خطوة خطوة ، وأن دورهم – الانقلابيون – هو التغطية على هذا الانقلاب وشد انتباه الشعب الى قضايا جانبية أو فرعية أو تاريخية حتى لا يشعر بصدمة الانقلاب . "
الانقلاب وصل الان الى ذروته ، ولم تكن معركة "سان استيفانو" الأخيرة الا معركة اختبار انهزم فيها الانقلابيون .. ولكنهم لن يكفوا نهائيا الا اذا انهزموا نهائيا . وغدا أو بعد غد سيعرف جميع الأطراف أن النظام الشرعي في مصر كان مهددا منذ 1974 بالتصدع والانهيار ..
كيف ؟
لنأخذ أولا الموقف الشرعي من القطاع العام والقطاع الخاص ، انه نقطة الانطلاق ألى أي حديث جاد عن واقع ينذر بمخاطر حادة . ذلك لأن كل الآراء والتمنيات والاجتهادات لا تصح اطرا لسياسة دولة مستقرة ، ومهما تكن قيمة ما برر به الأستاذ إبراهيم نافع موقفه من القطاع العام ، وتقديرا لإشفاقه على مستقبل الشباب في مصر ، فانه لا يصلح تبريرا للنتيجة التي انتهى اليها اذ افتقد شرعيته . وحينما نفترض في كل المتحاورين المختلفين حسن النية وصدق النوايا فان الدولة ستتمزق أفرادا واتجاهات ومدارس وغايات الا اذا كان لدى الدولة "حكم " تحتكم اليه في الاختبار "وتنضبط" سياستها بأحكامه .
وذلك هو الدستور ... سواء عجب أحدا منا أم لم يعجب . وعلى الذين يريدون أن يدفعوا بالدولة الى حيث تتجه آراؤهم أو مذاهبهم غير المشروعة دستوريا ان يطالبوا بتغيير الدستور . وهو مباح ، بدلا من أن يناهضوه وهي جريمة معاقب عليها بالأشغال الشاقة .
ما هو الموقف الدستوري الملزم للجميع من القطاع العام والقطاع الخاص ؟
حين صدر دستور 1971 (11 سبتمبر 1971) الذي لا يزال ساريا كان عنوان الباب الثاني منه العقوبات الأساسية للمجتمع . وكان عنوان الفصل الثاني من هذا الباب "المقومات الاقتصادية " ز وهكذا نعرف منذ البداية أن المقومات الاقتصادية هي جزء لا يتجزأ من المقومات الأساسية للمجتمع . أهمية هذا التحديد أن قانون العقوبات جسيمة في المواد 87 وما بعدها على كل من اتفق أو حرض أو شجع أو دعا اخر أو حض على كراهية أو ازدراء . المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم الاشتراكي في الدولة . نذكر بهذا حتى لا يعتقد أحد أن المسألة "بسيطة" .. وان الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية . هذا جائز بين الافراد ولكنه في مواجهة المقومات والمبادئ الأساسية في الدستور مخاطرة غير مشروعة وغير مأمونة العواقب .
فليكن . نعود الى الدستور لنعرف ما هي المقوّمات الاقتصادية والمبادئ الأساسية .
أولها "تنظيم الاقتصاد القومي وفقا لخطة تنمية شاملة تكفل زيادة الدخل القومي وعدالة التوزيع ورفع مستوى المعيشة والقضاء على البطالة وزيادة فرص العمل وربط الاجر بالإنتاج وضمان حد أدنى للأجور ووضع حد أعلى يكفل تقريب الفروق في الدخل" . (المادة 23) . لم تعد توجد منذ 1974 خطة تنمية شاملة للاقتصاد القومي . وبالتالي لم تعد الدولة قادرة على التحكم في زيادة الدخل القومي ولا عدالة التوزيع ولا رفع مستوى المعيشة ولا القضاء على البطالة ولا زيادة فرص العمل ولا ربط الاجر بالإنتاج ولا ضمان حد أدنى للأجور ووضع حدا أعلى يكفل تقريب الفوارق بين الدخول .. في مجال نشاط القطاع الخاص . فاصبح في مصر نظامان اقتصاديان . أحدهما شرعي والأخر واقعي .. ويقول الدستور "في نطاق هذا التخطيط الشامل يسيطر الشعب على كل أدوات الإنتاج وعلى توجيه فائضها وفقا لخطة التنمية التي تضعها الدولة " (المادة24) . نلاحظ أن الدستور على سيادة الشعب على "كل أدوات الإنتاج" ما كان منها مملوكا للدولة وما كانت ملكيته تعاونية أو ملكية خاصة . فقد الشعب سيطرته وأصبح في مصر نظام اقتصادي خاص تسيطر عليه قوى خاصة تمثلها جماعة رجال الأعمال تنشط طبقا وتبعا لحافز الأرباح الخاصة ويخرج فائضها الى جيوب أصحابها أو حساباتهم في الخارج .
ثم تأتي المادة 29 من الدستور فتقول "تخضع الملكية لرقابة الشعب وتحميها الدولة وهي ثلاثة أنواع : الملكية العامة والملكية التعاونية والملكية الخاصة " . ولكن الأستاذ إبراهيم نافع يقول بشكل حاسم قاطع لا يقبل النقاش ، ويستنكر ما يخالفه ، يقول : "ان مالك الشيء يملك أن يتصرف فيه بالبيع أو التأجير أو المشاركة " وينسب هذا الى كل قوانين العالم . ولو كنا نحاوره لطلبنا اليه أن يرشدنا مشكورا الى قانون واحد من أي مكان في العالم يرفع عن مالك الشيء - أي شيء – رقابة الدولة وحمايتها أيضا .
ويحدد الدستور أحكام التعامل "الشرعي" مع القطاع الخاص والقطاع العام . فهو يضع القطاع الخاص (الملكية الخاصة) في حماية الدولة مثلها مثل القطاع العام (المادة29) ، ولكنه فب المادة 32 يحدد وظيفتها الاجتماعية بانها "في خدمة الاقتصاد القومي وفي اطار خطة التنمية دون انحراف واستغلال ولا يجوز أن تتعارض في طرق استخدامها مع الخير العام للشعب" .
(والخير العام ليس كلمة خاضعة لتقدير كل من أراد بل هو ما تستهدفه الخطة الشاملة على وجه التحديد) واذا كان الدستور قد وضع الملكية الخاصة أو القطاع الخاص في حمايته فانه لم يساو بينه وبين القطاع العام بل جعله تحت قيادته (المادة 30) .
أما عن القطاع العام فيقول الدستور "الملكية العامة هي ملكية الشعب" ( المادة 30) وتضيف المادة فتقول عن ملكية الشعب أنها "تتأكد بالدعم المستمر للقطاع العام ليس فقط بإقامة قطاع عام ، أو المحافظة عليه ، أو بدعمه ، ولكن باستمرار دعمه " . ثم تختم المادة 30 نصها بتحديد دستوري لوظيفة القطاع العام . انه ليس مجرد ملكية للشعب ، وليس مجرد قطاع اقتصادي مواز أو منافس أو متعاون مع القطاع الخاص بل : "يقود القطاع العام التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية " .
ومع ذلك فما زال الشرخ غير الشرعي يباعد بين القطاع العام ووظيفته ليفسح للقطاع الخاص مجال المنافسة بعد أن افلت من قيادة القطاع العام . حتى أصبح متكررا في البيانات والتصريحات والنشرات الحكومية اطلاق حرية المنافسة بين القطاعين العام والخاص . هل يمكن ان يتصور احد ان الشرخ في جدار النظام قد بلغ حدا أن تصبح المنافسة بين القطاعين سياسية معلنة برغم انف الدستور ؟ ولكن هذا هو الواقع في مصر منذ أن اصبح فيها نظامان : أحدهما شرعي دستوري والأخر واقعي غير مشروع ، أو منذ أن أصبحت تتنازع خطاها دولتان "في دولة" ، فتضطرب خطاها في كل مجال .
انها كما قال الأستاذ إبراهيم نافع ليست قضية سان استيفانو ... نعم انها ليست قضية هذا الفندق العريق العتيق . فما الذي يراد من بيع سان استيفانو ؟ يراد نقله من ملكية الشعب الى ملكية فرد أو مجموعة من الافراد ليصبح سابقة تشترى فيها دولة الواقع غير المشروع المكونات الأساسية لدولة مصر العربية المشروعة . وهي محاولة بالغة الجرأة .
جرأة على الدستور أولا الذي يقول : "للملكية العامة حرمة . وحمايتها ودعمها واجب على كل مواطن طبقا للقانون باعتبارها سندا لقوة الوطن وأساسا للنظام الاشتراكي ومصدرا لرفاهية الشعب " . فيضع في أيدي المواطن سلاح الشرعية للدفاع عن القطاع العام (المادة 33) .
وجرأة على القانون ثانيا الذي يقول : "تعتبر اموالا عامة العقارات والمنقولات التي للدولة أو الأشخاص الاعتبارية العامة والتي تكون مخصصة لمنفعة عامة بالفعل أو بمقتضى قانون أو مرسوم أو قرار من الوزير المختص وهذه الأموال لا يجوز التصرف فيها أو الحجز عليها أو تملكها بالتقادم " . (المادة 78 مدني) . القطاع العام مخصص بالدستور .
وجرأة على قانون العقوبات الذي اشرنا الى مواده من قبل ونضيف هنا انه يعاقب بالأشغال الشاقة كل موظف سهل لغيره بأي طريقة كانت الاستيلاء بغير حق على مال عام (المادة 113) أو شرع في ذلك (المادة 45) مع النص صراحة على ان تعتبر من الأموال العامة وحدات القطاع العام (المادة 119) .
نقول جرأة .. لانهم يعرفون هذه المحاذير ، ولكن لا يبالون لأنهم أصبحوا دولة غير مقيدة بدستور في دولة لها دستور وانهما لتتجاذبان وحدة النظام .. فانشرخ النظام .
وقد ان الأوان ، اما سيادة الدستور واما سيادة القطاع الخاص . حتى لا ينهار النظام . ولا شك في أن مصلحة الشعب في أن تسود الشرعية الدستورية حتى لا تشيع الفوضى . ففي ظل الشرعية يمكن حل كل المشكلات والاحتكام عند الاختلاف الى احكام الدستور اما في ظل الفوضى فالغلبة للأقوى . وهذه هي الطامة الكبرى . وانا لنرى في جرأة وزير على بيع وحدة من وحدات القطاع العام مؤشرا على أن دولة الانفتاحيين قد بلغت حد تصور أنها الأقوى . الأقوى اقتصاديا من دولة مصر العربية التي نحن من رعاياها ما دامت قادرة على فرض الشرعية ولو بالقوة . وهو وهم غير مشروع دستوريا .. لان المادة 180 من الدستور قد ناطت بالقوات المسلحة "حماية مكاسب النضال الشعبي الاشتراكية" ..
فأفيقوا يا سادة ..
![]() |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق