الوحدة العربية ضرورة العصر .
د.عصمت سيف الدولة .
ـ 1 ـ
لا يكون الحديث عن علاقة الوحدة العربية بالدولة العصرية مفهوما الا إذا كان تعبير " الدولة العصرية " ذا دلالة محددة أو ـ على الأقل ـ إلا إذا حدد كل متحدث ما يعنيه بالدولة العصرية . بغير هذا قد يرفض الحديث لمجرد الاختلاف الكامن بين ما يتصوره الكاتب وما يتصوره القارئ من مفهوم الدولة العصرية . عندئذ يكون الحوار بين الكاتب وقارئه عبثا . ولما كنا لا نريد أن يكون حديثا عن الوحدة العربية والدولة العصرية عبثا فانا بادئون نعتقد ـ اجتهادا - انه تحديد لمفهوم الدولة العصرية وذلك بالقدر الذي يلزم ، ويكفي لإيضاح العلاقة بين الوحدة العربية والدولة العصرية ، راجين أن يصبر القارىء على ما قد يبدو له من تعريفات لفظية لا أكثر؛ فان أكثر أسباب الفرقة الفكرية يرجع الى أن المتحاورين يستعملون الألفاظ ذاتها للتعبير عن معان جد مختلفة فيختلفون ، أما نحن فغايتنا أن نتفق .
الدولة العصرية دولة منسوبة الى عصر تمثله ، ولما كان التاريخ سلسلة من العصور المتتابعة فثم لكل عصر دولته العصرية . والدولة العصرية التي نعنيها في هذا الحديث هي دولة عصرنا الراهن . وهكذا نتخلص دفعة واحدة من جاذبية البحث عن خصائص الدولة العصرية في نوعين من الدول :
أولهما تلك الدولة التي كانت مثال التفوق في عصرها طبقا لمقاييس ذلك العصر . وهي جاذبية ملحة بحكم أنه قد كانت لنا يوما الدولة العربية الإسلامية التي ظلت عصرا كاملا رمزا للتقدم الإنساني . هناك جذورنا الحضارية وتراثنا التاريخي ، ولكن التاريخ لا يعيد نفسه ، وغاية الجذور أن تمدنا بعصارة لازمة للمقدرة على الإثمار الحضاري، غير أن كل ثمرة بنت أوانها . كذلك الدولة التي يستهدفها النضال العربي ستكون دولة العصر الذي نعيش فيه مع أنها امتداد لتاريخنا الخصيب .
ثانيهما هو تلك الدولة المثالية التي نتصورها تحت تأثير أحلامنا وأوهامنا ، ونلفق لها عناصر من أمانينا دون أن يكون لهذا التصور المثالي مبررات من واقعنا الموضوعي وقوانين التطور في هذا العصر . إنها الدولة التي لا نعرف كيف نبنيها لأن متطلبات بنائها التطور في عصرنا الراهن .
بهذا تصبح السمات التي يجب أن تجتمع لدولة ما لتكون دولة عصرية سمات موضوعية مصدرها حقائق العصر ذاته وليس الاختيار التحكمي . فواقع العصر ـ إذن - هو موضوع بحثنا عن خصائص الدولة العصرية . غير أن العصر ذاته حقبة تاريخية تتعايش فيها ، وتتعاقب ، دول مختلفة التكوين السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، متباينة الغايات ، متنوعة الحركة ولو كان في كل منها شيء من روح العصر وهذا يعني اننا لا نستطيع أن نختار دولة بعينها نموذجا للدولة العصرية . إن الدولة العصرية لا تستمد خصائصها من مدى مطابقتها هذه الدولة أو تلك ، بل من المميزات العامة للعصر ذاته . وهي مميزات يمكن معرفتها عن طريق الدراسة المقارنة للعصور المتتابعة كمراحل تاريخية إنسانية ، وليس من الجوانب التي تستهوينا من حياة بعض الدول المعاصرة . مؤدى هذا اننا عندما نتحدث عن الدولة العصرية نعني بها الدولة التى تتحمل ذلك الطابع الذي يميز عصرنا عن العصور السابقة فما الطابع المميز لهذا العصر ؟
لقد أسمي عصر البخار عندما بدأ اكتشاف طاقة البخار المحركة وبذلك تميز عن كل العصور من قبله بتوليد الطاقة صناعيا بعد أن كانت الإنسانية تعتمد على الطاقة المتاحة تلقائيا بالقوة البشرية أو قوة الدواب أو قوة المياه والرياح . ثم لم يلبث حتى أسمي عصر الذرة عندما كسر الحاجز الذي كان مستقرا في كل العصور بين المادة والطاقة ، فاستطاع أن يحول كل منهما إلى الآخر، وأن يستعمل كليهما . ثم أسمي عصر الفضاء عندما تجاوز الأرض بحثا عن مجالات جديدة في العالم الخارجي . وأسمي ... الخ . انه عصر متميز بمنجزات مادية وفكرية واجتماعية لا حصر لها ، فلكل من يستهويه احد منجزاته أن يسميه ، فهو عصر الصناعة ، وهو عصر الديمقراطية وهو عصر الاشتراكية ... الخ . إلا أن دراسة تلك المنجزات تكشف لنا حقيقة جديدة . إنها منجزات ذات دلالة مشتركة هي : انتقال البشرية من عصور كان طابعها العام خضوع الإنسان لقوى الطبيعة والظروف الاجتماعية وقبول ما تؤدي إليه حركتها التلقائية ، الى عصر - هذا العصر - طابعه العام تسخير الإنسان و قوى الطبيعة واستعمالها في تحقيق غايات يحددها ، وسيطرته على ظروفه الاجتماعية وقيادتها الى المصير الذي يختاره . من هنا نستطيع أن نقول بشكل عام إننا نعيش عصر سيادة الإنسان .
هذا الذي يميز عصرنا لا يرجع الى امتياز أبناء هذا العصر على أسلافهم من أبناء العصور السابقة امتيازا طبيعيا في الخلقة أو الذكاء ، فلا زالت المجتمعات الإنسانية مجتمعات من ذات بني الإنسان ؛ ولا يرجع إلى أن الطبيعة قد منحت هذا العصر إمكانات لم تكن كامنة فيها من قبل ، فما زالت الطبيعة بعناصرها كما كانت يوم أن وجدت لأول مرة . ولكن هذا التميز يرجع بصفة أساسية الى الطريقة أو " المنهج الذي يتناول به الإنسان ما تطرحه الطبيعة والظروف الاجتماعية من مشكلات . فبينما بددت عصور سابقة قرونا كثيرة تلتمس فيها التغلب على مشكلاتها في متاهات الميتافيزيقيا ، أو تتجاهل تلك المشكلات هروبا إلى أحلام لفرض إرادته على الطبيعة وعلى الظروف الاجتماعية معا فتميز به . فهو عصر العلم ، عصر المنهج العلمي في التفكير والتدبير والعمل . وآية هذا أن أيا مما أنجزه الإنسان في هذا العصر، وكل ما أنجزه من تطور صناعي أو اجتماعي وتميز به هو - هو في التحليل الأخير - ثمرة طبيعية للمنهج العلمي .
ذلك هو المميز الأساسي لعصرنا في ما نعتقد .
- 2 -
والمنهج ليس خلقا في ذاته بل طريقة الخلق . ليس مستوى معينا من التطور بل أسلوب للتطور . والمنهج العلمي هو معرفة القوانين الطبيعية والاجتماعية التي تضبط حركة الأشياء والظواهر والمجتمعات ؛ واستعمال تلك القوانين استعمالا واعيا لتطوير وصياغة الظروف الطبيعية والاجتماعية إلى حيث غاية التطور الإنساني : إشباع حاجات الإنسان المادية والثقافية المتزايدة أبدا . فهو من ناحية ، ينفي المثالية التي تتطلع إلى تحقيق غايات الناس من غير الطريق الذي تسمح به القوانين التي تحكم الظروف . وهو من ناحية أخرى، ينفي المادية التي نتوقع من الظروف أن تؤدي إلى ما يريده الإنسان دون تدخل واع لقيادة حركتها . وهو من ناحية ثالثة ، ينفى تعليق مصائر الناس على مصادفات النجاح خلال التجربة والخطأ . ومع هذا فانه يبقى منهجا خاصا بـ " كيفيه " التطور لا بـ ” مستوى” التطور . فإذا قلنا هذا مميزا للنشاط الإنساني في هذا العصر ، ترتبت عليه نتيجتان هامتان :
أولاهما : تكون الدولة عصرية بقدر ما تنتهج الأسلوب العلمي في إدراك مشكلاتها وفي تدبير أمورها وفي تخطيط سياستها ، فلا تحكمها ولا تحدد أغراضها ولا تتحكم في سياستها النزاعات المثالية أو المادية أو التجريبية .
ثانيتهما : أن عصرية أية دولة غير متوقفة على مدى ما حققته فعلا من نجاح في تاريخ معين على طريق التقدم . فحتى الدول المتخلفة والنامية تستطيع أن تكون دولا عصرية إذا أخذت نفسها بالمنهج العلمي في حركتها نحو تعويض مراحل التخلف لتلحق بالسابقين .
باب العصر إذن ؛ غير مغلق دون أية دولة تريد أن تدخل منه إلى التقدم مهما تكن العقبات التي تقوم على طريقها مادامت تنتهج الأسلوب العلمي في تخطي تلك العقبات . وبالتالي ؛ فإننا نحن العرب ، نستطيع أن نكون دولة عصرية . ان هذا يتوقف علينا . على كيف نفكر وكيف ندبر وكيف نعمل . ولأننا نستطيع أن يكون حديثنا عن الدولة العصرية ذا مبرر وذا فائدة ، ولأن الأمر يتوقف علينا يكون حديثنا عن العلاقة بين الوحدة العربية والدولة العصرية ؛ دعوة إلى الانطلاق على طريق مفتوح - الطريق الوحيد - وليس تجريدا فكريا . فما العلاقة بين الوحدة العربية والدولة العصرية ؟
- 3 -
أننا لا نستطيع أن ندرك علاقة الوحدة العربية بالدولة العصوية إدراكا علميا إلا إذا عرفنا القوانين التي تحكم التطور الإنساني في عصرنا الراهن على المستويين : الطبيعي والاجتماعي ، ونحدد اتجاه ذلك التطور . والأمر في هذا منتهى الوضوح على مستوى علاقة الإنسان بالظروف الطبيعية التي يعش فيها . فمنذ أمد غير قصير كفت الطبيعة أو عجزت ، عن إشباع حاجات الإنسان بما تمنحه تلقائيا . وتجاوزت البشرية عصور الصيد وارعي والهجرة وراء مصادر الثروات الطبيعية ، بل إنها تكاد تتجاوز - أو تجاوزت - مرحلة الزراعة بعنصريها القديمين : الأرض والفأس . ولم تعد إنتاجية الأرض متروكة لما هو كامن فيها من أسباب الخصوبة ؛ أو لما يرويها هن مياه الأمطار ؛ بل أصبح تصنيع الزراعة طريقا لتخصيبها وريها وحرثها ورفع إنتاجها كمّا ونوعا على وجه لم يعرفه الزارعون في أي عصر . وفي غير الزراعة ، لم يعد الإنتاج الطبيعي يشكل نسبة تذكر في اقتصاديات الدول في هذا العصر . حتى الأسماك أصبحت لها مزارع صناعية تتكاثر فيها وننمو طبقا لمخططات تحدد مقدارها وأنواعها . وهكذا أصبحت الصناعة هي وسيلة انتزاع المواد الخام ومعالجتها وتشكيلها وتحويلها إلى بضائع استهلاكية وأدوات للخدمات والثقافة تنفق كمّا ونوعا مع احتياجات الإنسان المتعددة المتجددة . أصبحت الصناعة هي الدولة العصرية منظورا إليها من حيث هي مؤسسة اقتصادية .
أصبحت الحياة العصرية حياة مصنوعة في كلياتها وجزئياتها ، في ضرورياتها وكمالياتها ، في منطلقاتها وغاياتها .
وليس التصنيع مجرد مصانع بل بناء علمي له متطلباته وقواعده .
فمن أجل التصنيع ؛ وفي خدمته ؛ لا بد من أن تتوافر إمكانات مادية بالغة الضخامة والتنوع من المواد الخام مصادر القوة المحركة . لم تعد الصناعة تحويلا أو تشكيلا لمادة واحدة من مواد الطبيعة ، بل أصبحت أية سلعة محتاجة إلى مئات الموارد الطبيعية والكيميائية وآلاف العناصر التحويلية المساعدة وما لا حصر له من المواد المكملة لتصبح في شكل إبرة الخياطة التي لا يأبه بها أحد .
ومن أجل التصنيع وفي خدمته ، لا بد من توفير أكبر قدر من المتخصصين في فروع الصناعات المختلفة المؤهلين لإنشاء المصانع المدربين على تشغيلها وصيانتها وتجديدها . ومن هنا كان ذلك الصعود المذهل في عدد الجامعات والمعاهد المتخصصة ومراكز التدريب والتأهيل المهني ، المسخرة جميعها لخلق تلك الثروة القومية من الفنيين والعمال المهرة .
ومن أجل التصنيع ؛ وفي خدمته ، قامت في عصرنا تلك الظاهرة التي لم يسبق لها وجود في أي عصر . إنها إعفاء مجموعات غير قليلة من أكثر أبناد الشعب تفوقا وامتيازا في عملية الإنتاج الفعلي وتفرغهم للبحث العلمي . لقد أصبح مسلما أن التصنيع لا يمكن أن يقوم ويستمر دون أن تحضر له وتقوده طليعة متفوقة من العلماء المتفرغين لمجرد البحث والابتكار والإبداع والتجريب العلمي . إنهم فئة خلاقة توضع تحت تصرفهم - من ناحية - مراكز عديدة للبحوث وأسباب الثقافة وأدوات البحث ومعامل الاختبار دون قيود مالية تشل مقدرتهم على الإبداع ودون خوف يشل مقدرتهم على مواجهة مخاطر الفشل في التجارب العلمية ، يعفون – من ناحية أخرى - من هموم البحث عن متطلبات حياتهم الخاصة وتأمين مستقبل عائلاتهم بما يوفره لهم المجتمع من أسباب الحياة والأمن .
ومؤدى هذا كله أنه إذا كان التصنيع أحد الاتجاهات المستقرة للتطور في هذا العصر فانه لا يتحقق بالتمنيات والأحلام ؛ بل انه اتجاه تصاحبه ـ بحكم الضرورة العلمية - اتجاهات عديدة أهمها توفير الإمكانات المادية والعلمية والبشرية والمالية اللازمة لإنشاء دولة صناعية عصرية .
ـ 4 ـ
وإذا كان هذا واضحا ، فقد يكون أقل منه وضوحا تلك الاتجاهات السياسية والاجتماعية التي تحدد مسيرة العلاقات الإنسانية داخل الدول ، وفى ما بينها ، والتي استلزمها الاتجاه إلى دولة الصناعة من أجل الرخاء ، وأصبحت بحكم ارتباطها العلمي به قانونا لما يجب ان تكون عيه سياسة أية دولة حتى تكون دولة عصرية . ونحن نتكلم عن الدول المتحررة من القهر الخارجي والقهر الداخلي ؛ فان الدول المحتلة ملحقات لدول المستعمرين والدول الدكتاتورية إقطاعيات للمستبدين ، وهذه وتلك أينما وجدت من مخلفات عصور العبودية السابقة التي لن تلبث أن تنقرض لتبقى الدول المحررة جديرة بأي حديث عن الدولة العصرية كيف تكون .
فمن حيث عناصر تكوين الدولة - الإقليم والشعب بوجه خاص- صاحب الثورة الصناعية اتجاه ثابت نحو النمو بحكم ضرورة توفير اكبر قدر من المواد الخام في أوسع رقعة جغرافية وأكبر رصيد من القوى البشرية المنتجة . ومن هنا كانت حركة التصنيع إلى عهد قريب مصحوبة بتوسع استعماري غايته الاستيلاء - بالقهر- على أرض جديدة ؛ ومنابع جديدة للثروة ، وقوة بشرية جديدة لازمة كلها للتقدم الصناعي في الدول الاستعمارية فلما انحسر الاستعمار تحت ضربات حركات التحرر اتجهت الدول الصناعية إلى البحث عن التكامل لاقتصادي عن طريق الاتفاقات الثنائية أو الجماعية أو الأسواق المشتركة . وهكذا أخرج طابع العصر الدويلات والدول الصغيرة من سباق التقدم ، وأصبحت عمليات التكتل والتجمع والتوحيد والاندماج تمثل المنهج العلمي في السياسة الدولية لأية دولة عصرية . وآية هذا ، أننا على أي مستوى نظرنا إلى العلاقات الدولية المعاصرة ؛ وعلى أي موضوع أردنا البحث في هذه العلاقات ، وجدنا كتلا سياسية ، أو كتلا عسكرية ، أو كتلا اقتصادية ؛ أو كتلا تجارية ، أو كتلا نقدية أو كتلا مذهبية ... الخ . وتتجمع كل كتلة حول دولة كبرى أو تتجمع كل كتلة لتخلق من نفسها وحدة دولية كبرى ، أي الحصول على المقدرة العسكرية أو الاقتصادية أو التجارية ... الخ .. اللازمة موضوعيا وعلميا للبقاء والتقدم طبقا لمنطق العصر التي تتجاوز إمكانيات أية دولة منفردة .
اتجاه التطور في تركيب الدولة يتجه – إذن - من نقطة العزلة إلى التجمع ، ومن التفرد إلى التكتل ، ومن التجزئة إلى الوحدة ، ومن الدولة الصغيرة الى الدولة الكبيرة .
وهكذا يتجه التطور داخل الدول من نقطة التدخل المحدود إلى الإدارة الشاملة محددا مسيرة التاريخ في هذا العصر من الرأسمالية الى الاشتراكية .
بناء على هذا ، يمكن القول إن الدولة العصرية التي تتجه كل الدول - بقدر أو بآخر من معدل السرعة ـ إلى تجسيدها هي الدولة الكبرى الصناعية الاشتراكية . فأين نحن من هذا كله ؟
من أشق الأمور محاولة إثبات الديهيات . ومن البديهي - يعدما قلناه - أن العناصر اللازمة لتكون لنا تلك الدولة الصناعية الاشتراكية الكبرى التي يتجه إليها التطور في هذا العصر، غير متوافرة ولا يمكن توافرها ماديا بوحدة الوطن العربي وتكامل الثروات الطبيعية الكامنة فيه ، وبشريا إلا بوحدة الأمة العربية وتكامل الكفاءات المبعثرة فيها .
أن كثيرين لا يجادلون في هذا ، إذ من الصعب إنكار أن الإضافة مقدرة مضافة . ولكن كثيرين أيضا لا يرتبون عليها النتيجة البديهية ، الحتمية : إذا كانت الوحدة العربية لازمة - لزوما علميا - لتكون لنا دولة على النمط الذي تفرضه ظروف العصر الذي نعيش فيه ، قادرة على البقاء والتقدم ، قادرة علي أن تحقق الاشتراكية رخاء وحيوية .. الخ ، فان أية دولة عربية إقليمية تكون بذاتها عاجزة - عجزا علميا - أن تكون لها تلك المقدرات ، أي عاجزة عن أن تكون دولة حقيقية في هذا العصر .
- 5 -
ومن المؤسف حقا أننا ندفع أثمانا باهظة للمعرفة ثم لا نتعلم . وأكثر ما يدعو الى الأسف أنه يتولى أعداء أمتنا تلقيننا الدروس فلا نفطن . دعونا من الأقطار العربية المستعمرة أو التي تدور في فلك الاستعمار .
أفليس من حقنا على أنفسنا أن نتساءل لماذا تعجز بعض الأقطار العربية المتحررة عن الاستفادة من الثروات الطبيعية الكامنة أو المتدفقة من أرضها الا بالقدر، وبالشروط التي تقررها الدول الكبرى؟ لماذا تدفع بعض الأقطار العربية التي تحاول التصنيع كلفة فادحة لكل مصنع يقام ، ولماذا تتوقف محاولات التصنيع على قبول ، واستمرار قبول ، الدول الكبرى؟ لماذا تتعثر بعض الدول العربية التي تحاول بناء الاشتراكية في تحقيق وعود الرخاء الا إذا أمدتها بالخبز اليومي إحدى الدول الكبرى؟ ... بل لماذا كلما شددنا الأحزمة على البطون ، وحشدنا الجهود ، فتقدمنا خطوات محدودة على الطريق الى التقدم نكتشف إنها خطوات معدودة تتولى بعدها واحدة أو أكثر من الدول الكبرى وصنائعها قطع طرقنا بالعدوان الاقتصادي أو بالعدوان المسلح ؟ ...
ولماذا نضطر، ونحن ندافع عن قضايانا المصيرية العادلة ، الى مداورة ومداهنة ونفاق الدول الكبرى؟ ولماذا على الرغم من استعدادنا لقبول التضحيات وعلى الرغم من الجهود التي نبذلها لا نستطيع أن نزعم أن القرارات النهائية التي تمس وجودنا ذاته غير متوقفة على إرادة الدول الكبرى؟
ألف لماذا ... فلماذا لا نتعلم ؟
إن إدانة أعدائنا وكشف مخططاتهم العدوانية وفضح نياتهم الاستعمارية لا يجدي شيئا كثيرا ، فالصراع بين الأمم أحد معالم هذا العصر . ولا يمكن أن نتوقع من أعدائنا أن يصبروا علينا حتى نقوى على ردعهم . ولن يردعهم السباب و تهديد الأغاني . أولى من هذا أن ننتبه الى أن قوانين التطور في هذا العصر لا تسمح لمثال الدول والدويلات والإمارات والمشيخات ... الخ العربية بأن تبقى أو بأن تبني أو بأن تتقدم . إن كياناتها السياسية ذاتها عقبات على طريق التقدم ، ودساتيرها الإقليمية قيود على مقدرتها على الانطلاق . والتجزئة القائمة عليها هي مقابرها وغدا أو بعد غد سيدفنها التاريخ . وبين الغد وما يعده ستدفع ـ كما دفعت من قبل - الثمن الفادح لوقوفها ضد تيار التاريخ وتجاهلها منطق العصر .
أن هذا ليس حكما علينا وحدنا ، بل هو حكم على كل الدول الصغرى في العالم . أنه مأزق تاريخي لا بد لمن يريد أن يخرج منه : من العزلة إلى التجمع ، من التفرد إلى الاتحاد ، من التجزئة إلى الوحدة ... وعلى كل دولة ، تختار لنفسنا ، والا فلن تغنيها فرحة الأطفال بالاستقلال والأعلام والأناشيد وتبادل السفراء ومقاعد هيئة الأمم المتحدة ... وهل أغنت عنا شيئا يوم 5 حزيران / يونيو المشؤوم ؟
كل هذا بديهي ولكن المشكلة ليست هنا مشكلة بناء الدولة العصرية في الوطن العربي تكمن في كيف يمكن من واقع التجزئة تحقيق الوحدة العربية .
ـ 6 ـ
لقد قلنا من قبل إن أية دولة تكون عصرية بقدر ما تنتهج الأسلوب العلمي في إدراك مشكلاتها ، وفي تدبير أمورها ، وفى تخطيط سياستها ، فلا تحكمها ولا تحدد أغراضها ولا تتحكم في سياستها النزعات المثالية أو المادية أو التجريبية ، وأن عصرية أية دولة غير متوقفة على مدى ما حققته فعلا ، وقلنا أن المنهج العلمي هو معرفة القوانين التي تحكم التطور واستعمالها استعمالا واعيا . وعرفنا أن قوانين التطور في هذا العصر تحتم " دولة الوحدة الاشتراكية " مصيرا للأمة العربية إذا كنا راغبين في البقاء والتقدم في عصر الدول الكبرى الصناعية والاشتراكية .
مؤدى هذا جميعا أن " العصرية ” في الوطن العربي تتوقف وجودا وعدما على الموقف من " دولة الوحدة الاشتراكية " ولما كان كل موقف يعبر عن اتجاه فان الاتجاهات في الوطن العربي تقاس من حيث هي عصرية أو متخلفة ، رجعية أو تقدمية ، بمدى استهدافها " دولة الوحدة الاشتراكية " أو انحرافها عنها . ولما كان كل اتجاه ذا منطلق ، فان المنطلقات في الوطن العربي تكون عصرية تقدمية بقدر ما هي قومية ، وتكون متخلفة رجعية بقدر ما هي إقليمية .
وينطبق هذا على المنطلقات والمواقف والاتجاهات الفكرية والحركية .
كما ينطبق على منطلقات ومواقف واتجاهات الدول والأحزاب والجماعات والأفراد .
ذلك لأنه يكشف عن مدى علمية أي منطلق أو موقف أو اتجاه .
فمتخلفون رجعيون ـ إذن - كل الذين يجسدون الإقليمية فكرا أو حركة ، الذين يخصون دولة التجزئة بولائهم ، الذين يقيسون مشكلاتهم بمعايير إقليمية ، ويعتمدون في حلها على أدوات إقليمية ، ويستهدفون في حركتهم أغراضا إقليمية . لا ينفي عنهم التخلف والرجعية ما يستهدفون ولو استهدفوا أن يقيموا في أقاليمهم دولا كبرى صناعية واشتراكية ، ذلك لأنهم عندئذ مثاليون يستهدفون ما لا تسمح قوانين التطور في هذا العصر بتحقيقه ، لأنهم لا يملكون المتطلبات التي تقتضيها تلك القوانين لوجوده .
وعصريون تقدميون – إذن - أولئك الذين يجسدون القومية فكرا وحركة ؛ الذين يخصون الأمة العربية بولائهم ، الذين يقيسون مشكلاتهم بمعايير قومية ، ويعتمدون في حلها على أدوات قومية ، ويستهدفون في حركتهم دولة الوحدة الاشتراكية ، لا ينفي عنهم العصرية والتقدمية أن يبدأوا في أقاليمهم بناء الصناعة والاشتراكية ، ذلك لأنهم وهم يبنون ، ينتهجون العلم أسلوبا للبناء فلا يجيء بناؤهم بديلا عن دولة الوحدة الاشتراكية ، ولكن خطوة إليها ، وهم في هذا يلتزمون قوانين التطور في هذا العصر فهم قادرون على تحقيق ما يستهدفون .
ومتخلفة رجعية الأحزاب الإقليمية ولو كانت اشتراكية ... وعصرية تقدمية القوى القومية الاشتراكية .
فليكن ، ولكن كيف تتجسد العصرية في الواقع ؟ كيف تصبح العصرية حركة فعلية في الوطن العربي ؟
- 7 -
أما الأقطار العربية فتكون عصرية بقدر ما تتحول من دول زراعية إلى دول صناعية وبقدر ما تعمل على القضاء على الرواسب الإقليمية التي خلفتها التجزئة ، وبقدر ما تحد من نمو الاتجاهات الإقليمية الفكرية والسياسية ، وبقدر ما تلتحم مع باقي الأقطار العربية على المستويات الثقافية والفنية والاقتصادية والعسكرية بقصد تسهيل مولد دولة الوحدة الاشتراكية . نقول بقصد تسهيل مولد دولة الوحدة الاشتراكية لنفي العصرية عن اتجاهات خبيثة تريد أن يكون التقارب ، والالتقاء ، والتعاون ؛ والتضامن العربي بديلا عن الوحدة العربية ، أي تكريسا للتجزئة وتدعيما للإقليمية . غير أننا لا نستطيع أن نتجاهل أن طريق الدولة العربية التي تسير عليه لحساب وجود د لة الوحدة الاشتراكية . ولما كانت الدولة أيه دولة ، عبارة عن قوى ومصالح مرتبطة بالسلطة التي تمثلها الدولة ، فان المتوقع ألا تتنازل تلك القوى عن مصالحها ولو لحساب دولة الوحدة ، وانه لن تقبل في
نهاية المطاف بإلغاء وجودها بإرادتها .
مؤدى هذا أن الأقطار العربية لا يمكن أن تكون دولا عصرية الا بقدر محدود في مرحلة محددة على المستوى الداخلي ببدء التصنيع والاشتراكية ، وعلى المستوى الخارجي بالتعاون العربي ، أما ما يتجاوز هذه البداية فهو وحدة الموارد الطبيعية والقوى البشرية في دولة الوحدة المصطدم بوجودها ذاته . ومن هنا أصبح قيام الدولة العصرية في الوطن العربي منوطا بقوة أخرى غير قوة الدول الإقليمية . إنها قوة الجماهير العربية التي تدفع الدول العربية على الطريق الى الوحدة الاشتراكية ثم تكون قادرة ـ من حيث إنها غير مرتبطة بسلطة الدولة الإقليمية - على إلغاء الوجود السياسي وإقامة دولة الوحدة الاشتراكية .
غير أن مقدرة الجماهير العربية ذاتها على تحقيق الدولة العصرية في الوطن العربي متوقفة بدورها على مدى التزامها المنهج العلمي في حركتها . فهي أن اكتفت باجترار آلامها متوقعة أن تؤدي الظروف العربية وتطورها التلقائي إلى قيام دولة الوحدة الاشتراكية ، دون أن يحرك تلك الظروف ويقودها تنظيم طليعي منبثق من الجماهير ذاتيا ، تكون قد وقعت فريسة المادية الفاشلة . وهي إن اكتفت بترديد أحلامها متوقعة أن تسقط الإقليمية وتقوم الوحدة بتنظيمات جماهيرية إقليمية تكون قد وقعت فريسة المثالية العقيمة . فلا يبقى أمامها ، لكي تنجح في إقامة الدولة العصرية في الوطن العربي إلا أن تكون هي حركة جماهيرية عصرية . وهي لا تكون كذلك الا أن تكون أداتها لصنع المستقبل مجسدة لهذا المستقبل ، فتخلق تنظيمها القومي الذي يلغي في ذاته التجزئة تنظيما وقيادة ، ويؤكد في حركته الوحدة فيقود نضال الجماهير العربية في كل أنحاء الوطن العربي ؛ ويلتزم غايته القومية فيناضل حيث يناضل ، وتحت كل الظروف طبقا لاستراتيجيا واحدة ، في اتجاه واحد ، نحو غاية واحدة : دولة الوحدة الاشتراكية .
بمجرد أن يقوم هذا التنظيم القومي نكون قد أصبحنا أمة عصرية ، لأننا نكون قد التزمنا منهج العصر ، والعصرية كما قلنا منهج للتطور وليست مستوى للتطور . وعندما نكون أمة عصرية نستحق أن تكون لنا دولة عصرية .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق