انتحار أنور...
د . عصمت سيف الدولة .
لماذا فقد السادات الشرعية الأخلاقية قبل الشرعية
الدستورية ؟
وكيف اختار جلاده بدقة وجهز مسرح النهاية الطبيعية ؟
من أهم وأصعب النظريات
التي يدرسها الطلبة في كليات القانون وتشغل فقهاءه وقضاءه وفيها يختلفون ما تسمى
"نظرية السببية" . فالقانون يرتب آثاراً مجزية نافعة أو جزائية رادعة
على أفعال يحددها . ومع وقوع الفعل يبدأ تحديد المسؤول عن وقوعه . ويتحدد المسؤول
أو المسؤولون تبعاً لتحديد "سبب" وقوع الفعل . هنا ، عند محاولة تحديد
السبب ، تثور أعوص الإشكالات الفقهية . ففي الواقع يكون كل فعل نتيجة نهائية
لسلسلة من الأسباب المتعاقبة أو المتعاصرة ويكون على القائمين على تطبيق القانون
تعيين السبب المسؤول عن وقوع الفعل بحيث لو استبعدت كافة الأسباب الأخرى لوقع
الفعل ولو تخلف هو ما وقع . بعد ذلك وليس قبله يمكن تحديد الفاعل المسؤول .
نضرب مثلاً من وفاة أنور
السادات . تقول تقارير الأطباء أن سبب الوفاة صدمة عصبية مصحوبة بتهتك في أنسجة
الجسم الداخلية ونزيف دموي حاد . ما سبب الصدمة العصبية .. الخ ؟ اختراق عدة أجسام
صلبة جسم المجني عليه وإحداثها الإصابات . ما سبب الاختراق ؟ انطلاقها من بندقية
سريعة الطلقات مخشخنة . وما سبب ذلك ؟ .. إنها كانت مصوبة إلى اتجاه المجني عليه .
لماذا ؟ .. لأن مطلقها قد أعدها وصوبها نحوه . وما سبب الإعداد والتصويب ؟ .. قصده
قتل المجني عليه . وما سبب نجاحه فيما قصد إليه ؟ . مناسبة المكان وإهمال الحراسة
وهروب الحراس . وما سبب قصد القتل ؟ .. لأنه قد حدث كذا وكيت من فلان أو علان ..
وهكذا يمكن متابعة سلسلة الأسباب متراجعة في الزمان إلى درجة يمكن القول معها ان
المجتمع الذي وقع فيه الفعل هو السبب في وقوعه . وقد قيل هذا فعلاً . وساد . منذ
أن نشأت المدرسة الوضعية (الاجتماعية) في علم الإجرام بريادة الفقيه الايطالي
لمبروزو وقيادة زميله العبقري الفقيه فري .. وانكمشت حتى كادت تتلاشى المدرسة
الفردية التي حملتها الثورة الفرنسية من مخلفات عهد الإقطاع والتي تحصر السببية
فيما يسمى السبب المباشر وتنسبه إلى قصد صاحبه منه .
طبقاً لهذه
النظرية الأخيرة قتل أنور السادات لأن خالد الاسلامبولي قد قصد قتله وأعدّ لذلك أداة القتل فلما أن اقترب منه يوم ٦ أكتوبر ١٩٨١ أطلق عليه الرصاص فقتله . وقد
حوكم خالد الاسلامبولي طبقاً لهذه الصيغة وحكم بإعدامه وأعدم وانتهت "القضية"
..
هنا يبدو واضحا
الخطأ القاتل في نظرية السببية المباشرة . وتساهم شخصية المقتول وشخصية القاتل في كشف هذا الخطأ إلى درجة لا يمكن تجاهلها . فمن غرائب تلك القضية أنه بينما استطاع الدفاع عن خالد الاسلامبولي أن
يقدّم إلى المحكمة العسكرية عشرات الأسباب الخلقية والفكرية والسياسية والمالية لإدانة
المقتول ، لم يستطع أن يقدّم سببا مباشرا واحدا ليكون قاتله هو خالد الاسلامبولي
بالذات .
وقد كشفت
التحقيقات أن دور القاتل كان من اختيار خالد الاسلامبولي شخصياً ، وأنه حين عرض اختياره على قادة تنظيم الجهاد ، لم يوافقوه على ما أراد ، ولم يقبل رأيهم
. ونفذ ما أراده على مسؤوليته الشخصية . أهم من هذا أن خالد الاسلامبولي لم يستطع
خلال التحقيق ولا خلال المحاكمة أن يبرّر الدور الذي اختاره لنفسه بأي سبب مباشر
يتصل به شخصيا ٠ فكأنما كانت أسباب متراكمة عبر الزمان متواكبة عبر المكان ، متداخلة
في نسيج المجتمع ذاته قد قضت بإعدام السادات ، ولم يكن خالد الاسلامبولي إلا
الجلاد الذي نفذ الحكم بدون أن يعرف من أسبابه ما يكفي تبريرا للدور الذي قام به .
ومن هنا فإن قضية مقتل السادات لم تنته بإعدام الاسلامبولي ، بل ستظل مفتوحة
لتحقيق تاريخي واجتماعي يتبع سلسلة الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى أن يختار شاب
سوي الشخصية والسلوك مهمّة قتل رجل ليس بينه وبينه أي سبب مباشر يبرّر هذا
الاختيار .
لقد كان أنور
السادات قد تعهد بالالتزام .
1- بدستور اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة .
2- أنه لا صلح ولا تفاوض ولا تنازل عن أي شبر من الأراضي العربية
المحتلة .
3- أنه لا تفريط في القضية الفلسطينية ولا مساومة عليها .
فلنتأمل الرجل وهو يصطنع عامدا أسباب
نهايته :
لم يكن ملتزماً
ولم يلزمه اًحد بإقامة إتحاد الجمهوريات العربية في ذلك الوقت الذي تحكم المواقف الصحيحة فيه مقتضيات القتال . ولكنه ألزم نفسه واشترك في إقامته ،
ولم يكن من مقتضى إقامة الاتحاد دستورياً أن تتحول المواقف السياسية إلى التزامات
دستورية ، ومع ذلك فقد ألزم نفسه بلا مفاوضة
ولا صلح مع المؤسسة الصهيونية المسماة إسرائيل .
وقد كان يمكن إرجاء
إصدار الدستور الدائم ولو إلى أن تنتهي المعركة وكان ممكناً إرجاء قيام اتحاد الجمهوريات العربية والاكتفاء بالوحدة العسكرية إلى أن يتحقق النصر
في المعركة ٠ وما كان أحد ليستطيع أن ينكر هذا على أنور السادات إذا ما تمسك بشعار
المرحلة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" . ولكنه هو نفسه الذي اختار وأراد
وسعى ليلزم نفسه بما لم يكن ملزما به لو قنع بأن يبقى رئيس جمهورية مصر العربية ،
ثم أنه هو الذي حول التزامه من موقف سياسي إلى دستور . ليضع بين أيدي الشعب قانون
الاشتراكية وقانون الوحدة العربية وقانوناً جزائياً يحرم المفاوضة أو الصلح مع إسرائيل
... ليحاكمه الشعب طبقاً لقوانينه التي اختارها بدون أن يكون ملزماً كرئيس جمهورية
بهذا الاختيار .
فما الذي حدث ؟
باختصار شديد انتهك
أنور السادات كل ما التزم به دستورياً وسياسياً وخالف كل القوانين التي اختارها بنفسه ليحكم ويحاكم بمقتضاها .
فعلى الصعيد الاقتصادي
أعلنت الحكومة لأول مرة في بيانها أمام مجلس الشعب يوم ٢١ ابريل ١٩٧٣ عن "الانفتاح الاقتصادي" وانبرت لجنة مشتركة من مجلس الشعب
برئاسة السيد محمود ابو وافية (عديل السادات) ووضعت برنامجاً اقتصاديا شاملا
للانفتاح الاقتصادي بقصد "تغيير المقومات الأساسية للاقتصاد المصري" .
(هكذا قالت اللجنة بصراحة) وهو عنوان الفصل الثاني من الباب الأول من الدستور .
فلما قيل أن هذا يخالف الدستور رد أحد أعضاء اللجنة " إذا كان المشروع
متعارضاً مع الدستور فلنغير الدستور وكان السادات قد لخص التزاماته فيما قاله يوم
أول مايو ١٩٧٣ . ونصه "أمريكا عايزة تحقق لإسرائيل عن طريق المفاوضات اللي ما
قدرتشي إسرائيل تحققه في سنة ١٩٦٧ بعد هزيمة جيوشنا إسرائيل ما استطاعتش تحقيق حاجة
بالهزيمة اللي حصلت سنة ١٩٦٧ أبدا احتلت أرض صحيح لكن ما قهرتش إرادتنا أبدا ما خلتناش
نسلم ما خدتش منا توقيع على مجرد الاعتراف بأي شيء . أبدا . النهارده الحل السلمي
الأمريكي ليس إلا خرافة جديدة ليه ، علشان تحقق لإسرائيل عن طريق المفاوضات اللي ما
قددرتش إسرائيل تحققه عن طريق المعركة العسكرية تماما زي ما حصل سنة ٥٦ . عدوان ٥٦
حصل علينا ما استطاعتش إسرائيل تحقيق حاجة لا هي ولا انجلترا ولا فرنسا في ذلك
الوقت . عايزين يعملوه اليوم لينا إحنا . لا احنا مش حنفرح بفتح قناة السويس وضياع
القضية . ولازم يكون موقفنا واضح لهم علشان كثر الكلام وكثر اللت يبطل . ما فيش حل
جزئي مفيش حل منفرد مع مصر لوحدها مفيش مفاوضات إطلاقا أدي موقفنا واضح برضة باكرّر
لا حل جزئي لا حل مرحلي لا حل منفرد لا مفاوضات موقفنا واضح " .. فلما فاوض واصطلح
منفردا لم يكن ظلما له أن يدان طبقا لما قدمت يداه من قوانين الحكم والمحاكمة .
الفرعون
الأخير يختار جلاده :
4- كما
اختار أنور السادات القوانين التي سيحاكم بها ، واختار أن ينتهك أحكامها ، اختار
جلاده ولم يكن ملزماً باختياره .. فأنور السادات هو المسؤول الأول عن ظاهرة التعصب الديني والتطرف التي أفرزت جلاده . بدأ يخلقها بداية متواضعة ولكنها كانت أول
الطريق الى نهايته استرجع إلى اسمه ما لم يكن يذكره . فبدلا من أنور السادات الذي
عُرف به أُضيف "محمد" ولم يكن إسلامه المعروف متوقفاً على هذه الإضافة ،
ثم أعطى لنفسه لقب "الرئيس المؤمن" فأقحم نفسه كرئيس دولة في دائرة التمييز الديني . إن إصراره على أنه "الرئيس
المؤمن" لم يكن يعني فقط إدانة ضمنية لغيره بأنه لم يكن مؤمناً ، ولكنه تقديم
لنفسه بأنه متميز بدينه ، تلك كانت البذرة ثم تكاثرت .
ومن بين الذين أيدوه
يوم ١٥ مايو ١٩٧١ اختار مستشارا له وأمينا للدعوة في الاتحاد الاشتراكي العربي شخصاً تربي ونشأ في أحضان جماعة الأخوان المسلمين فنظم جماعات منهم
وسلحها بالمطاوي (كانت توزع في مكتب مستشاره بمقر الاتحاد الاشتراكي العربي)
ثانياً . ثم أباح لهم الردع بالعنف للحد من نشاط الماركسيين والناصريين في الجامعات
ولما كانت تلك الجماعات من حيث هي متميزة بإسلامها يأبى عليها اعتزازها بانتمائها
الديني أن تتحول إلى مجرد أدوات في يد حاكم فإنها لم تلبث أن قطعت وخرجت على الحدود
التي أرادها لها أنور السادات . فانتشرت تحت ستار الشرعية الواقعية التي منحها لها
السادات . خارج أسوار الجامعات . واستبدلت بأهدافه أهدافها ٠ ونمت أدوات العنف فبدلا
من المطاوي تملكت الرشاشات وما هو أكثر .. ومن بين صفوفها برز جلاد أنور السادات
نفسه .
وكان طبيعيا طبيعة ميكانيكية أن إنشاء
تشكيلات دينية (الجماعات الإسلامية) ومنحها شرعية "ساداتية" (أعني
واقعية لا قانونية) سيكون له رد فعل سلبي أو ايجابي لدى طائفة المسيحيين فشكلت وسلحت جماعاتها وبعثت بأفواج منهم للتدريب على القتال
(.............................)
يريد أن يوحد الأديان
ويُنشئ لوحدتهاً نصباً من مسجد وكنيسة وكنيس فى أرض سيناء (كان القصد إضافة المعبد اليهودي إلى المسجد والكنيسة المتجاورين منذ القدم)
وهو يريد أن يصحح الخطأ التاريخي الذي بدأ بين اليهود والمسلمين بإجلاء اليهود عن
المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال انه يصححح خطأ وقع منذ ١٤٠٠
سنة) وهو الذي يعتكف ليتعبد وهو الذي يلهمه الله ما لم يكن له به علم من قرارات .
ومع ذلك فهو لا يلتزم شخصيا ولا كرب أسرة بآداب الإسلام وهو إثم لا يغتفر عند
المسلمين الذين وضع أنور السادات بنفسه بين أيديهم قانون الإسلام ليحاكموه به .
أغرب من هذا
وأكثر دلالة على أن الرجل كان يسعى لحتفه ، انه وقد انقلب على ما التزم به ورأى - ايا كانت الأسباب - أن يفاوض ويصطلح مع العدو الصهيوني . كان يستطيع
أن يحقق غايته بالأساليب الهادئة العلنية أو الخفية التي تتبعها الدول عادة وكان
ذلك رأي وزير خارجيته والمحيطين المودين تلك الغاية . ولم يكن ما يتطلب الصلح مع
دولة الصهاينة أن يتحدى مشاعر الملايين من البشر ويهين ذكرى ألوف الشيداء فيزور القدس
المحتلة لم تكن تلك الخطوة الجارحة لازمة لا للمفاوضة ولا للصلح ولا للاعتراف ولا دولياً
ولا دستوريا ولا قانونياً ولا سياسياً . ومع ذلك قام بها لمجرد أن يضيف إلى أسباب
نهايته سبباً لم يكن في حاجة إليه .
لقد قيل عن تلك
الخطوة أنها دليل "جسارة" وهي كذلك ولقد كان أنور السادات جسورا الى
درجة مذهلة ولكنها جسارة "فرودية" يعرفها علماء النفس .
(...............................)
عادية محتملة (غير
محسوبة) على أي حال . هكذا أراد السادات واختار بدون أن يكون ملزما - كرئيس
جمهورية - بما أراده واختاره .
5- وكما لو كان أنور السادات قد
خشي ألا يصدق الناس انه ليس مجرد رئيس جمهورية له وظائف محددة في دستور . فانتحل لنفسه لقب كبير العائلة . وكبير العائلة هو
التعبير المستعمل في مصر منذ حكم الفاطميين الشيعة للدلالة المحلية على ولاية الإمام .. وهي
صيغة أيضا لمفهوم متخلف موروث من مرحلة ما
قبل الدولة العصرية ، فهو المشرع المنفذ القاضي في أمر الجماعة ، الذي لا يخضع لقانون
غير قانونه ولا تنفذ إرادة غير إرادته ويحاكم الناس ولا يحاكمونه ، ويعتبر ولاء
أفراد القبيلة له التزاما خلقيا وتحولت في لبنان (نشر هذا الخبر في جريدة مايو -
جريدة السادات) وهكذا نشأت الأحداث التي أطلق عليها السادات اسم "الفتنة الطائفية"
أو وضعت بذورها غرسها أنور السادات نفسه فلما نمت قليلا وأراد أن يوجهها غذاها ، ففي
واحد من تصرفاته المسرحية غير المبررة توجه ومعه ممدوح سالم رئيس الوزراء حينئذ
وبعض الوزراء المسلمين والأقباط إلى مكتب البابا شنودة ، وهناك انقسموا إلى فريقين
مسلمين وأقباط ، ثم صوتوا جميعا في المكتب ذاته . رئيس الدولة أنور السادات يؤم
المسلمين والبابا شنودة يؤم الأقباط ونشر كل ذلك في الصحف ووسائل الإعلام ...
وقد كان عبد
الناصر احتمل كل ما يصاحب مراحل التحول التاريخي من متاعب دولية وسياسية واقتصادية كان قد شق الطريق في الصخور الصلدة وحمل أتربته ، ومهّده لمن
يأتي بعده . وكان من يأتي بعده يستطيع أن يدب على طريق واضح بدون معاناة كثيرة .
كان عبد الناصر قد استطاع بمجهودات خارقة ، وبصعوبات بالغة ، تخللتها عثرات وكبوات
ونكسات مؤلمة ، ان يكسب جماهير الشعب في مصر وفي العالم العربي إلى جواره ، وأن
يوحد بين رؤيته للمستقبل وبين آمالها . ثم مات وهو عندها بطل قومي بالرغم من هزيمة
١٩٦٧ .
ثم جاء السادات
ليلزم نفسه ، خارج نطاق التزاماته الدستورية ، بأن يكمل مشوار عبد الناصر على طريقته إلى غايته طبقاً لمواثيقه . ولكنه لم يلبث حتى خرق التزامه . وقد
كان يمكنه كحاكم في زمان آخر أن يبرّر الردّة بما يريد ولكنه اختار أن يشن على
ذكرى عبد الناصر حرباً شعواء لا مبرّر لها من مصلحته كحاكم أو مصلحة مصر كدولة .
سيطرت عليه فكرة مرضية فلم يترك مناسبة الا واهتبلها لمحاولة تصحيح ما اعتبره
معادلة تاريخية مختلفة . فهو الذي أسس تنظيم الضباط الأحرار . وهو الذي أعلن
الثورة ، وهو الشريك الكامل في كل ما قام به عبد الناصر ، وهو الذي استعلى بذاته
عن الأدوار القيادية وتركها لمن يتصارعون عليها من أعضاء مجلس قيادة الثورة . وهو
الذي لم يعرف الحقد الذي أكل قلب عبد الناصر، وهو الذي أشفق وهو يكاد يغرق طفلا في
ترعة القرية على مصير مصر بدونه . وهو الملهم الذي يبيت باحثاً عن قرار ويصحو وقد ألهمه
الله القرار الصائب ٠ ثم هو - بعد - يمتاز على شريكه في الثورة عبد الناصر، ببعد
النظر الاستراتيجي فلا يخطئ ، وقد اختاره الله الذي لا يسأل إلا أمامه ، لتصحيح
أخطاء "ثورته" التي ارتكبها عبد الناصر في فترة قيادته .. الخ .
بصرف النظر عن
حكم التاريخ على الرجلين فقد كان ذلك انتهاكا من أنور السادات ، لا للدستور . ولكن ، للقانون ، الذي اختاره هو ، والتزم أمام الشعب
باحترامه لم يلزمه اًحد .. وقبل أن يحكم ويحاكم طبقا له .. وبه أدانته جموع هائلة
من أفرد الشعب العاديين الذين ما يزالون متمسكين "برمز" أمتهم عبد
الناصر ، في أعماق ضمير كل واحد منهم نما ، بنمو انتهاكات أنور السادات لما التزم
به ، شعور إنساني بأن الرجل استدرجهم وخدعهم ليحكمهم ففقد أنور السادات عندهم
الشرعية الأخلاقية قبل أن يفقد الشرعية الدستورية . كان الاتحاد الاشتراكي هو التنظيم
السياسي الذي يتولى الترشيح وكان مجلس الشعب ، وهو سلطة دستورية ، أنور السادات هو
الذي أضفى على الاتحاد الاشتراكي العربي سلطة دستورية أو فوق دستورية إذ رد وجوده في
ورقة أنشأها تحت عنوان ورقة أكتوبر إلى الإرادة الشعبية المباشرة فقال أن الشعب هو
الذي اختاره صيغة للممارسة السياسية . وبهذا المعنى أفرد له المادة الخامسة من الدستور
الصادر في ١٩٧١ . هو - أنور السادات - إذن الذي اختار أن يجعل من الاتحاد
الاشتراكي العربي مصدرا لشرعية اختيار رئيس الجمهورية لتأكيد شرعية اختياره حينما
اختاره . وهكذا وضع بنفسه بين أيدي الشعب مقياسا لشرعية حكمه بدون أن يكون ملزما
دستوريا بإضافة مصادر للشرعية غير ما جاء في الدستور .
قبل أقل من عام
على توليه رئاسة الجمهورية اختلف مع أعوانه الذين عيّرهم بأنهم مراكز قوى .. وأطاح بهم وانفرد بالسلطة في حين أنهم لو لم يكونوا مراكز قوى ما كان
هو مرشحهم للرئاسة ثم لم يلبث حتى زج في السجون بأعضاء اللجنة التنفيذية الذين
اختاروه مرشحاً وحل اللجنة المركزية التي زكت ترشيحه ، ثم حل مجلس الشعب الذي رشحه
... وكان كل هذا بحجة غريبة وغبية معاً لقد اتهمهم جميعاً ، بمن فيهم أعضاء مجلس
الشعب .. بأنهم قد شغلوا مراكزهم الشعبية والدستورية كنتيجة زائفة لانتخابات مزورة
وأنه هو شاهد على ذلك ( كان سيادته هو الذي أشرف على الانتخابات) .
فلم يكن عسيرا على
أي مواطن أن يحكم على شرعية توليه السلطة على ضوء مصدر الشرعية الذي اختاره بنفسه لينتهي ببساطة إلى نتيجة لا تقبل المناقشة مؤداها أن
رئاسة انور السادات للجمهورية غير مشروعة لأن ترشيحه للرئاسة كان نتيجة تواطؤ
مؤسسات شعبية ودستورية غير مشروعة لأنها كانت نتيجة انتخابات اعترف هو بأنها كانت
مزورة .. ولا شك في أن كثيرين قد استخلصوا هذه النتيجة وتعاملوا معه - ولو صامتين
- طبقاً لها والشرعية في مصر مصدر قوة رهيبة واحترام منذ أن قامت في مصر دولة . فقدها
أنور السادات قبل أن ينقضي عام من ولايته . فقدها متخليا عنها باختياره وإرادته لم
يسلبها منه احد غيره .. وأختار وأراد أن يبقى حاكماً بدون شرعية يوم لم يقنع
بالشرعية الدستورية .
6 - حينما صدر بيان ٣٠ مارس ، آخر مواثيق الثورة التي ألزم أنور السادات
نفسه بها طريقا للحكم لا يحيد عنه كان الهدف أنه لا صوت يعلوا على صوت المعركة حتى إزالة
آثار العدوان وفي ظل الإعداد للمعركة والطوارئ المعلنة لم يكن من الممكن أن يتوفر
المناخ الديمقراطي اللازم للمشاركة الشعبية في عرض واقتراح ونقد وحوار مبادئ مرشحة
لتكون دستورا دائماً للحياة العادية .
وبالتالي لم يكن
اًحد يتوقع أو طلب من أنور السادات إصدار دستور دائم أو غير دائم ، لم يكن ملزماً بذلك لا دستورياً ولا قانونيا ولا سياسيا ولا أخلاقياً ، ولكنه - الله
يرحمه - شاء أن يصدره . وكانت تلك أول معركة خفية خاضها ضد ذكرى عبد الناصر، فقد بدا
كما لو كان المبرّر الوحيد لإرجاء إصدار الدستور الدائم أن عبد الناصر لم يكن يريد
ذلك . ولما كانت المعركة هي في جوهرها مزايدة أو منافسة على احتلال صدارة الثورة
في كتب التاريخ فقد اختار أنور السادات لقيادة عملية إصدار الدستور مجموعة نشيطة
من اليساريين ليثبت أنور السادات أنه أكثر حرصاً على الاشتراكية من عبد الناصر وقد
كان له ما أراد .
جاء دستور ١٩٧١
أكثر إحكاما وأكثر تقدماً وأكثر اشتراكية من كثير من الدساتير حتى في دول أوروبا الشرقية يكفي انه تضمن سلطة دستورية غير معروفة إلا في الاتحاد
السوفييتي اسماها "المدعي الاشتراكي" وأوكل إليه سلطة حراسة المكاسب
الاشتراكية بل ورقابة مدى اتفاق السلوك الشخصي مع قواعد النظام الاشتراكي وآدابه .
أما في الموضوع فقد تحول "ميثاق العمل الوطني" إلى دستور دائم ، كما
تحول إعلان حقوق الإنسان الفرنسي من قبل إلى دستور (قضت المحكمة العليا فيما بعد
بأن الميثاق هو بمثابة إعلان حقوق الإنسان المصري فلا يجوز لأية سلطة أن تنحرف عن
أحكامه ) .. ودخل اثنان من الماركسيين القادة التاريخيين للحزب الشيوعي المصري
الوزارة تأكيدا لتفوق أنور السادات على عبد الناصر في السباق إلى الاشتراكية ..
المهم أن أنور السادات
لم يكن ملزما بكل هذا ولكنه - بهذا ذاته - وضع بين أيدي الشعب دستورا اشتراكيا أقسم اليمين على الولاء له فأصبح محكوماً عليه أن يلتزمه وأنه إن
لم يحكم به فسيحا كم به ..
صدر دستور ١٩٧١
يوم ١١ سبتمبر ١٩٧١ عن طريق الاستفتاء الشعبي . قبل ذلك بعشرة أيام أي في يوم ١ سبتمبر
١٩٧١ ٠ استفتى أنور السادات الشعب العربي في مصر على دستور آخر اشترك فيه مع سوريا
وليبيا في إنشاء اتحاد الجمهوريات العربية .. ونص هذا الدستور على أنه أسمى من أي
دستور يصدره أي قطر من أقطار الاتحاد . أهم من هذا وأخطر أن الدستور الاتحادي الذي
وقع على وثائقه أنور السادات واستفتى فيه الشعب وأصدره قبل أن يصدر دستوره الدائم تضمن
ما أسماه الدستور الاتحادي وحدة الأمة العربية بينما عاد السادات في دستوره الدائم
من الأمة إلى القبائل إلى القرى ، فأصبح من "أخلاق القرية" قبول "
كبير العائلة ، حاكماً وحكماً لا يسأل عما يفعل وأهل القرى يسألون ، ويملك هو كل
ما يملكون ونموذجه الأسبق في تاريخ مصر هو فرعون .. فلقب "فرعون" الذي
يعرف به حكام مصر القدامى ، يعني على وجه التحديد ، صاحب البيت الكبير .. أي مالك
القطر كله ..
فحين اختار انور
السادات لنفسه لقب كبير العائلة ، واحتكم إلى أخلاق القرية . وافتتن بالفراعنة حين قال أنه آخر الفراعنة (كان يعبر عن علاقته بالشعب وقواه ومعاركه ،
فرعونيا ، فيقول : شعبي ، جيشي ، معركتي ، أولادي .. ) كان يؤكد لذاته ولغيره بصيغ
متعدّدة رفضه أن يبقى رئيس جمهورية دولة دستورية لا تلزمه إلا بأن يؤدي الوظائف
المحدّدة له في الدستور . ولو قنع بأن يبقى رئيس جمهورية ما قتل ، ولكنه لم يقنع
واختار لنفسه دستوره ونظامه وقوانينه الخاصة التي لم يلبث حتى انتهك أحكامها .
فحوكم بها ، وأعدمه جلاد اختار نوعه بنفسه وتصادف أن اسمه خالد الاسلامبولي ..
فنقول انتحر السادات ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق