القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها

القدس عنوانها وفلسطين بوصلتها
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

القرية / د.عصمت سيف الدولة .

PDF

 القرية

د.عصمت سيف الدولة .

مجلة أدب ونقد – العدد 206 – أكتوبر 2002

(1)                                                 

لما أن اختار المرحوم علي باشا مبارك أن يفلت التاريخ من زمانه ومكانه وأحداثه وميراثه كتبه تبعا لترتيب الحروف الأبجدية ، فقال في كتابه "الخطط التوفيقية" تحت حرف القاف : ان "قاو" بقاف وألف وواو بلدة . بالصعيد الأوسط تجاه ما بين "طهطا" و "طما" تحت سفح الجبل في شمال قرية "الهريدي" . وكلمة قاو قبطية معناها الجبل لأنها بقرية ، وعندها بهذا الجبل مغارات كثيرة منحوتة كانت مساكن رهبان النصارى في الازمان السابقة . وكانت هذه البلدة تسمى عند قدماء المصريين "تكوو" وفي بعض كتب القبط "كوو" وكان اليونان يسمونها "أنطيوبوليس" . وهي كلمة مركبة من كلمتين : "أنطيو" الذي هو اسم لأحد الأعيان عند الرومانيين و "بوليس" التي معناها مدينة . فيكون معنى الكلمتين بعد التركيب "مدينة انطيو" . وزعم اليونان أن "أنطيو" هو "ابن الأرض" الذي قتله "هرقول" خنقا بين السماء والأرض بعد أن تحير في امره لأنه كان كلما مس الأرض برجليه ازداد قوة فلم يتمكن من قتله الا في السماء . وهذا من خرافات اليونان ، أو أن ذلك لغز .. له معان اشارية يفهمها أربابها كما كتب الفرنساوية . قالوا وكانت هذه البلدة في الأزمان السابقة على شاطئ البحر تباعد عنها (...) . وفي زمن الرومانيين كان يقيم بقرب هذه البلدة على بعد أميال فرقة من عساكرهم . وكانت تلك المدة "رأس خط" ثم تخربت ولم يبق بها الا الاثار . فلهذا أسماها المقريزي "قاو الخراب" (...) . وقد خلفت هذه البلدة ثلاث قرى في تلك الجهة . احداها تسمى "قاو الكبيرة" و "قاو الشرق" وهي في شرق النيل في جنوب "ريانية ابي احمد" وفي الجنوب الشرقي لناحية "طما" الواقعة غرب النيل . والثانية "قاو النواورة" في شرق البحر أيضا في جنوب "قاو الكبيرة" وفي شمال "رياينة الهريدي" والثالثة تسمى "قاو الغرب" في غربي النيل تجاه "قاو الكبرى" بين "مشطا" و"طما" . وأبو الجميع واحد ، وطباعهم وعوائدهم وتكسباتهم متحدة . ولغتهم تقلب الجيم دالا . والشين المعجّمة سينا مهملة . فيقولون في "الجمل" مثلا "دمل" وفي "الشعير" "السعير" . وقد كانوا قديما أهل بلد مغفلين ، حتى يقال أنهم أغاروا مرة على قرية غربي النيل ونهبوها فملأ أحدهم غرارة من الدجاج وأنزلها البحر وعدّى البحر بالعوم وهو يجرها خلفه في الماء الى البر الاخر فمات الدجاج وهو لا يدري أن الماء يغرقه . وملأ أحدهم غرارة من السكر وجرها في البحر حتى نفذ ما فيها وهو لا يدري (...) الى أن كانت سنة 80 أو احدى وثمانين (1281 هجرية 1864 ميلادية) فأتاهم رجل من الصعيد الأعلى كانوا يسمونه الشيخ أحمد الطيب يزعم أنه شريف جعفري ويدعي العلم والولاية والمكاشفات فلغفلتهم احتفلوا به ودخلوا في طاعته وأعطوه العهود على أنفسهم بالطاعة لله ورسوله ، فجرهم الى معاصي الله تعالى حتى جعلهم من البغاة الخارجين عن طاعة الامام . آل أمرهم الى أن سلط عليهم الخديوي إسماعيل باشا شرذمة من العساكر مع بعض الأمراء فقتلوا كثيرا منهم وخربوا بيوتهم وسلبوا أموالهم وأمر بكثير منهم الى البحر فنفوا الى البحر الأبيض مدة حياتهم ، ثم عفا عنهم ولكن ذهبت بهجتهم وقلت أموالهم وظهرت عليهم الكآبة والفاقة من يومئذ وقد بسطنا الكلام في تلك الواقعة عند الكلام عن "العقال" فانظره :

حاضر يا باشا ... ننظر :

"العقال" قرية بجوار الجبل الشرقي بقسم "بوتيج" من مديرية أسيوط في جنوب البداري وفي شمال رياينة ابي احمد ، فيها مساجد عامرة ونخيل وأشجار وأبنيتها من أحسن ابنية الأرياف لحضرية ارضها وجودة محصولها ويسار أهلها . وتمر بقربها ترعة "قاو" التي فمها من بحري "قاو" تقطع جسر العقال بقنطرة في غربها حتى تصب في حوض البداري (...) وللناحية جملة كفور متفرقة منها كفر على شاطئ البحر يقال له "كفر العقال" وكفر يقال له "كفر  علام" فيه بيت عمدتها المرحوم عبد العال العقالي على شاطئ البحر . وكان صاحب ثروة وزراعة كبيرة ، وقد أحسن اليه الخديوي برتبة "قائمقام" (أصبح اغا) بعد واقعة "قاو" لما جمع اهل بلده ومنعهم من العصيان مع من عصى ، بل قام بهم مع العسكر على العصاة فحظي بالقبول (...) وسبب تلك الواقعة رجل من الصعيد الأعلى يزعم أنه شريف جعفري ويسمى باسم أحمد الطيب ، وانما هو الشقي . كان يتردد على هذه الجهة والأهالي تعتقده واجتمع عليه كثير من الناس وأعطوه العهود على انفسهم بالطاعة فكانت طاعتهم معصية وصلاحهم فسادا ونصرهم للدين اذلالا . وذلك أنه أتت اليه ذات يوم "أمة" مسلمة مملوكة لبعض نصارى "قاو" تشكو اليه سيدها يريد وطأها وهي ممتنعة منه . فأحضر النصراني وخيره بين بيعها وعتقها منعا للحرمة فامتنع النصراني وأصر على تملكها . فلم يحسن الشيخ التدبير وأخذها جبرا من النصراني واذاه وهم بسلب أمواله فرفع النصراني الشكوى للحكومة فطلب حاكم الجهة الجارية من الشيخ فامتنع عن تسليمها فتوجه اليه ناظر القسم فلم يعبأ به وازداد في اذى النصارى وأظهر عدم المبالاة بالحكومة واجتمع عليه كثير من اهل بلاد الشرق فجاء مدير جرجا واسيوط ورفاعة اغا صنجق الاربعمائة ومعهم بعض عساكر وعرب . فرفعوا السلاح ورفعوا رايات الحرب وجعل من جماعته سر عسكر وضباطا كترتيب الجهادية وأغراهم الحمق والسفه اغراء كثيرا فتعين عليهم الامر شاهين باشا لشرذمة قليلة من العسكر ومعهم بعض مدافع . وبوصولهم هناك ضربوهم بمدفع مزقهم كل ممزق . وقتل الشيخ وكثير من جماعته شر قتلة . ونفي كثير منهم الى البحر الأبيض وخرجت "قاو" و"الرياينة" و"الشيخ جابر" و"النظرة" وتفرقت نساؤهم وذراريهم في البلاد وسلبت أموالهم ومات كثير منهم في الجبال ثم أدركتهم المراحم الخديوية فعفا عمن بقي منهم فرجعوا الى اوطانهم ورد اليهم ما بقي من أموالهم . ذكرنا من ذلك طرفا في الكلام على قرية "قاو" .

(2)

تلك القرية "النظرة" نسبة الى قبيلة "عرب مطير" كما يزعم أهلها ، أو "الشيخ جابر" نسبه الى مقام لولي الله الصحابي جابر بن عبد العزيز الذي اعتكف فيها حتى توفي ودفن في مقامه كما يزعم أحفاده الاشراف من سكانها ، أو "الهمامية" نسبة الى همام بك عميد عائلة اقطاعية من قرية "ساحل سليم" كما اسمتها الحكومة في أواخر القرن الماضي .

قبل أن يوجد كل أولئك وأجدادهم ، يوم أن كانت أمواج البحر الأبيض المتوسط ترتطم بموقع من مصير يسمى الان القاهرة ، ولم تكن الدلتا قد ولدت بعد (حوالي 4000 سنة قبل الميلاد) ، كانت القرية قائمة على احد المدرجات التي نحتها النيل في حجر الجبل الشرقي متتابعة الهبوط الى الوادي تبعا لنحر النيل مجراه على مدى عشرات من القرون هابطا الى حيث مجراه . كانت حينئذ مركزا لأقدم حضارات الانسان على الاطلاق . ظلت مجهولة حتى اكتشفها برنتون (1928) ونسبها الى البداري العاصمة الإدارية التي تتبعها الهمامية حين اكتشفها مع أن البداري تبعد عن الجبل الشرقي بنحو عشرة كيلومترات .

ان أردت أن تزور فهناك أعلى القبور تقتفي خطى "الخواجات" الذين يترددون عليها زائرين ، على ما تختار من سلالم عدة منحوتة في صخر الجبل صاعدة من حافة الوادي نحو مائة متر تنتهي الى فتحات أبواب مستقيمة الاضلاع متوسطة الارتفاع تؤدي من خلال طرقات حجرية مصقولة الى حجرات مرصوصة فيها منازل الى ابار وأغوار . ستعجب كيف يغمرها الضوء حتى الأعماق والضوء كاف لتتأمل ما على الجدر الملساء من صور ورسوم ، ستلاحظ ، لا شك ، أن سكانها كانوا قصار القامة ، دقيقي الملامح ، غير ملتحين ، يرسلون شعر رؤوسهم الأسود المتموج على أكتافهم ، بينما لا يزيد طول شعر الانثى عن شبر مضفور في غدائر عدة . وقد تعلم من أهل العلم أنهن كن يكتحلن بمسحوق الاردواز الأسود . ويصبغن شفاههن باللون الأحمر . فان لفتتك كثافة الرسوم على الجدر المصقولة فلا تعجب . انها تعبير عن اعجاب الانسان بما أبدع قبل ان يبدع أي انسان منذ الخليقة الى أن سكن حيث تقف وتتأمل . فهناك ، صدق أو لا تصدق ، اخترع الانسان في العصر الحجري (البليوسيني) الكتابة ابداعا ذاتيا عبقريا بدون مؤثر خارجي قبل أن يهتدي اليها سكان "سومر" في العراق بقرون طويلة .. وباختراع الكتابة ولد التاريخ ، فكأنك في وقفتك تلك قابلة التاريخ أو قابلته وهو وليد .

فان التمست مخلفات اباء التاريخ الغابرين ستجدها قللا وأقساطا وأزيارا وأواني من الفخار لا تزيد الا بقايا عظام حيوانات صغيرة كالغزلان والقطط ولا تزال باقية في اغوار المقابر التي أفرغها المستكشفون من بقايا سكانها . قبل أن تفارق "الهمامية" لن يفارقك تاريخها العتيق ، فلا تزال القرية تحمل في الفؤوس وفوق الرؤوس بعض الطقوس بصمات تاريخها . كما لا تزال تصنع أوعيتها من طينها وتحيله فخارا على نار وقودها لم تضف الا أشكالا الى ما شكل الأولون . فمنها "الزير" الكبير ومنها "القسط الصغير" ومنها "البرمة" ذات الحجم المستدير ، ومنها "المواجير" كبيرها للعجين وصغيرها للثريد ، ومنها "اللواحيق" صحاف القرية وصحونها . ومنها "البلاليص" جرار تحمل فيها الماء من الابار وترع الأنهار ، وخزائن لبن معتق بخميرة "الحلبة" ومسحوق الشطة والملح الكثير . نفاذ الرائحة ، لزج البنية ، يسمونه "المش" يسبح فيه دود أبيض صغير يقولون أنه "منه فيه" فلا يبالون .

تلك القرية بادت . دكت دكا ، وأصبحت يوم الغارة كوما من التراب . وعلى أنقاضها جرت مذبحة من أبيدوا فريا على الخوازيق من أهل القرية المتمردة . وهرب من لم يبد .

(3)

أدركت المراحم الخديوية أهل القرية بشرط "كفالة" استقرارهم على الخضوع . فكفل عثمان بن الأحدب من بني سالم "قاو الكبيرة" فأسموها العتمانية . واتخذها اقطاعية ومازال يسخّر العائدين اليها من أهلها في تنمية أسباب الثراء حتى اتسعت طولا وعرضا (وغربا) ثم توزع فائض سكانها "نجوعا" تحيط بالقرية الكبيرة على بعد قليل منها ، وكفل حليف السلطة "القائمقام" عبد العال العقالي عمدة "العقال" الذي تولى جيشه الخاص بعد أن توقف القتال نهب القرى الثلاث الثائرة ، عبودية العائدين الى "الرياينة" فاقتطعها لنفسه وأهله وبنى قريته وأسماها "العقال القبلي" . فامتد الرخاء والثراء اليها من قرية متخمة في الأصل ثراء ورخاء . وكفل من يُدعى همام بك العائدين الى "الشيخ جابر" و "النظرة" فاصبح الكفران قرية واحدة اسمها نزلة همام بك ، ثم "الهمامية" . ولم يكن همام بك في حاجة الى مزيد من الأرض . كفل أهل الهمامية وجاهة ليكون من الكافلين . اذ هو الجد الأكبر لعائلة اقطاعية تسمى "السيلنية" موطنها قرية "ساحل سليم" شمالي القرية بنحو ثلاثين كيلومترا كانت تملك جيشا من الرقيق الأسود المستجلب من جنوب الوادي تفرض به سلطتها وتستكثر أفرادها ممن "ملكت أيمانها" من نسائهم فغلبت عليهم الدماء الحارة وأصبحوا سودا كالزنوج أو اقل سوادا . أما الذين احتفظت لهم جينات الوراثة بلون أجدادهم من الترك فيحملون أنوف وشفاه الاخرين . لم يقم همام بك في القرية أو قريبا منها وان بقيت أطماع السيادة كامنة في ذريته الى ان يعود منهم الى القرية من يحرس فقرها الى حين .

بعد قرن من ذلك الحدث لا يزال اهل القرى يستعملون فيما بينهم من حديث أسماء قراهم البائدة ، ولا يزال "للهمامية" اسمان : الشيخ جابر ، والنظرة ، سيان . ولا يزالون يطلقون على ما جرى اسم "الغارة" ، غارة عدوانية شنها جيش مشترك من قسم "بوتيج" بقيادة ناظره ، وقوة مديرية جرجا أسيوط ، وقوة صنجق الاربعمائة بقيادة رفاعة اغا ، انهزم في مواقع كثيرة ، فجاءهم مدد من العاصمة جيش بمدافعه ، انضم اليه المرتزقة من أهالي العقال بقيادة عمدتها وتولى القيادة العامة الأمير فاضل باشا وليس الأمير شاهين باشا كما ذكر الباشا . ذكريات أهل القرى الموثقة في أغاني الدعوة الى الثأر تذكر فاضل باشا ولا تذكر شاهين ، كما تحصي ما نهبه المرتزقة من اهل العقال وتصفه عينيا . ولم تنسحب قصة "الغارة" من قصص الهمامية فهي تشغلهم في موعد معلوم من كل عام .   

يبدأ الحديث توقعا لما سيحدث ، ثم يحمى أواره مع الأيام ، ثم ستوهج ويتحول الى معارك "بالشوم" تشج فيها الرؤوس ، وتسيل فيها الدماء ، وتكاد تقتل نزيفا لولا أن يغقوا افواه الجراح بمسحوق البن أو بالتراب ، فتلتئم فتهدأ ثم تطيب النفوس الى أن يفيض ماء النيل في الصيف التالي حين يدنو موعد جني بلح النخيل فيعودون الى حديث الغارة .

يشهد المعاصرون نقلا عن المعاصرين بان الشيخ أحمد ، من عائلة المشاهرة ، "أولاد مشهور" ، وولده عبد الرحمان واخرين كثيرين قد وقعوا أسرى في يد فاضل باشا ساري عسكر افندينا ، ثم يدعي ورثة الشيخ أحمد من فروع اخوته أن فاضل باشا قد نصب الخوازيق أسفل مغارات "المساخيط" وقد هم بأن يرفع جدهم الشيخ أحمد على خازوق يفري أمعاءه . وكان ولده عبد الرحمان شابا فتيا ذا جرأة ووفاء ، وكان قد تمكن من الهرب ولكنه كمن قريبا وراء صخرة في الجبل ينتظر أباه ، فلما شاهده من اعلى أسيرا يهمون برفعه على الخازوق لم يهن عليه أبوه ، فهبط الى الوادي وتقدم الى فاضل باشا يقبل قدميه ويتوسل اليه ألا يحمله عذاب رؤية والده الشيخ التقي الولي يقتل أمام عينيه ، وقال لقد كنت ناجيا فعدت لأفدي بحياتي من منحني الحياة . فأعجب به فاضل باشا ورفعه قبل ابيه على خازوق يفريه . ولكنه لم يقبل الفداء . فلما مات أحمد على الخازوق ذاته بعد أن انتزع من أحشاء ولده مات بغير وارث من صلبه فآلت تركته التي ورثها عن أبيه الى اخوته شرعا .

فيقول ورثة عبد الرحمان : أبدا . نعم لقد كان عبد الرحمان شابا فتيا ذا جرأة ووفاء فلم يهرب تاركا أباه الشيخ . وكان فاضل باشا يقتل الشباب من الاسرى قبل الاسرى من الشيوخ لأن الشباب اشد خطرا . فلما هم بأن يرفع عبد الرحمان على الخازوق تقدم اليه والده الشيخ أحمد وخاطبه والدمع يبلل لحيته البيضاء ، يا سيدي لا تحملني عذاب رؤية فلذة كبدي يموت قبلي فكأنك تقتلني مرتين . واني لأعدك ، وانا شيخ تقي ، بانني ان سبقت ولدي الى جوار الله سأدعو الله ألا يريك مكروها في ذريتك ، فسأل فعلم أن دعوات الشيخ مجابة ، فاستعجل دعاءه ورفعه أولا على الخازوق .

فلما مات فريا الت تركته الى ولده عبد الرحمان ، فلما مات بعد والده الت تركته الى ولده محمود وزوجته الهاربة بطفلها ويشارك كل حاضر في رواية ما جرى ، ثم يتأوه شيخ منهم ويقول : لا يفض هذا الخلاف الا الشيخ أحمد الطيب الذي شاهد المجزرة وهو مختبئ في مغارة المساخيط البحرية . مرق طيفه النوراني اليها فلم يره الجند المرابطون عند سلم الحجر الصاعد اليها . فلما تفقده الكفرة فافتقدوه ظنوا أنه مات وبعض الظن اثم . ولقد وعد الشيخ بأنه سيعود . سيعود ان شاء الله ولو بعد ألف عام . ان أولياء الله لا يخلفون الميعاد . ويوصي بالتراضي على قسمة التركة مناصفة . فقد مات الشيخ أحمد وولده عبد الرحمان شهيدين في سبيل الله . والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون . فلا يقبل الطرفان ويناطح الشوم الرؤوس فيقبلون . ويقتسمون ثمار عشر نخلات أو ما لا يزيد الا قليلا .

(4)

مات الشيخ محمد معتوق امام مسجد الشيخ جابر بن عبد العزيز وأهل القرية يؤمنون بصدق ما أفاض عليهم من علمه . تنزل مياه النيل المباركة من أنهار الجنة خلال مزراب في السماء عند التقاء الأرض ببحر الظلمات . في القرآن "جنتان" واحدة في السماء فأين الثانية ؟ انها جنة الأرض التي يطميها النيل كل صيف بما يحمله من تراب الجنة ذهبي اللون وسبب حياة النبات والحيوان والانسان . في الذكر الحكيم جنة عرضها السماوات والأرض لأن جنة الأرض متصلة بجنة السماء عند التقاء الأرض ببحر الظلمات . لم يشاهد اللقاء أحد الا الخضر عليه السلام . ولا يخفى أن أرحام أمهات المؤمنين لم تستنبت بذرة النبوة ذكرا الا السيدة مارية المصرية لأنها نبتت وترعرعت من نبات أرض جنة الأرض وشربت من مياه نهر يتنزل من انهار الجنة ، فولدت إبراهيم عليه السلام الذي توفاه الله طفلا ليعيش في جنة السماء وقد ولد بعيدا عن جنة الأرض . ولو كان إبراهيم عليه السلام قد ولد في مصر لعاش فيها عمرا . ولكن ذلك حكم الله سبحانه وتعالى ولكل حكم لا يعلمها الا هو . فاللهم لا اعتراض .. هرب المصلون منذ أعوام فتوضأ وصلى صلاة الاستشهاد وحمل كفنه وترك "الشيخ جابر" وسعى مع الساعين الى حيث دلفوا الى الجنة في السماء شهداء في "وهجة عرابي" ضد الكفار وخلفه في الامامة ولده الشريف أحمد .

النيل يجري من منابعه في وسط افريقيا حيث تتجمع الامطار والسيول الى مستقر له في البحر الأبيض المتوسط . يحف به واديه الخصيب ، تحرس الوادي جانبيه حين يدخل مصر سلسلتان من الجبال جرداء . تواكبانه حتى تسلماه الى الدلتا فسيحة الأرض فيتفرق فروعها شمالي "مقر المحروسة" . هذا ما علمه بعد أبيه الشيخ احمد معتوق امام مسجد "الشيخ جابر" افتتحت في القرية مدرسة في مقر لصيق ببيت العمدة ، طليت حوائطها بالجير الأبيض ، وزوقت أبوابها ونوافذها باللون الأخضر . فيها ارائك مرصوصة ، وألواح سوداء معلقة على الجدران ، يكتبون عليها بقطع من الطباشير ويمحون ما يكتبون حين يشاؤون . وفي ردهتها أعجوبة الزمان ، صوان مرتفع عريض ذو ضلفتين من قطع من الاخشاب متقاطعة ، طليت من كل وجه بمثل اللون الأخضر الذي زوق الأبواب والنوافذ ، فاذا ما انفجرت ضلفتاه كشفتا عن طور جديد من تاريخ القرية . فوراء ضلفة "زير" معلق ، تحته اناء من صفيح . الزير ملئ بالماء العكر ، ماء القرية . ولكنه ينضح ما فيه ، فيتحول في اناء الصفيح الى ماء رائق ، ماء "كالبنور" لم تذقه القرية قط . تلك هي "المزيرة" الاعجوبة ، يحرسها "فراش" يحمل أكوابا من الصفيح ، يملأها ماء رائقا ويقدمها بدون مقابل لمن يطلبها من التلاميذ . فكل الناس في "المناضر" يشربون من قلة واحدة تنتقل من "خشم" الى "خشم" ولا يبالون و لقد كانت "المزيرة" سببا في تهافت الكثير من أهل القرية على زيارة المدرسة ، فعهدهم بالأزيار في بيوتهم أن تقوم على الأرض فلا تلبث أن يغطيها فطر لا يقل اخضرارا عن طلاء المزيرة ، ولا يشربون الا من جوفها بإناء من الفخار يسمونه "المنطال" خلدوه في أغانيهم :

عطشان يا صبايا       دلونا ع السبيل

أدي السبيل قدامك      وعليه المناطيل

ولقد كان اشيخ أحمد محمد معتوق من بين الزائرين للمدرسة بعد أن غلق "الكتاب" الذي كان يعلم فيه الصبية القراءة والقرآن ثم الكتابة على الواح من الصفيح بأقلام من الغاب ومداد من الصمغ الأسود . لم يتوقف عند المزيرة وقارا وان كان قد استمع الى من توقفوا عندها معجبا . ولكنه كان من الزائرين الذين استمعوا الى الشيخ حفنى أول ناظر لها وهو يشرح لهم مسيرة مجرى النيل على خريطة مزوقة معلقة على جدار حجرته . كان يشرح منفعلا فخورا كما لو كان رب النهر العظيم . وكان الزوار يستمعون منبهرين بالنيل وشارح النيل .

.. وابن بلدنا ...

اطرح الناظر المؤشر الخشبي . جمع بيده اليسرى كم القفطان عن اليد اليمنى وشده فانحسر عن ذراع ضامر ويد معروقة . أمر الزائرين طالبا أن ينظروا الى طرف اصبعه السبابة وأن يتبعوه مبتدئا من أوغندا حتى دخل مصر من سودانها . ما زال اصبعه طافيا على مجرى النيل يعرج يمينا ويسارا ويكاد يهم بالعودة عند قنا لولا أن يعود شمالا حتى يقترب من أسيوط ، يبطئ زحف أصبح الناظر تمهيدا للتوقف كما يفعل القطار . حتى اذا ما بلغ موقعا جنوبي أسيوط بنحو خمسين كيلومترا انحرف اصبعه الى الشرق ووقف عند أدنى الجبل الأصفر مغادرا الوادي وقال بحسم وحزم : هنا . نعم هناك حيث يلتقي النهر بالجبل اللقاء الأول والأخير في نقطة لا مثيل لها بين المنابع والمصب توجد القرية على سفح الجبل . نصيبها من الأرض الخضراء أقل من أن يستحق الظهور على الخرائط ولو خطا أخضر . هناك يجيب غياب الوادي على سؤال حاضر . لماذا يقتتل أعواما أخوة وأعمام ويشج بعضهم رؤوس بعض بالشوم من أجل ثمار عشر نخلات . ويسخر الجواب العيني مما أجاب به الباشا حين قال أنهم أهل بلد مغفلون ، وزعمه الساذج أنهم أضاعوا في المياه من فرط غفلتهم ما اغتصبوه من قرية على الضفة الأخرى من النيل . ولم تقل لماذا يسبحون عبر النيل غارة ليغتصبوا دجاجا وسكرا ، لما كانوا من الغاصبين الباشوات لا يعرفون الأجوبة الصحيحة على أسئلة الفلاحين ، انهم وهم من أبناء واد النيل الخصيب قد حرموا من أن يكون لهم من أرضه نصيب ، هو كذلك ، ولا يزال البشر يقتتلون من أجل قسمة عادلة للأرض المكورة منذ أن استخلفوا فيها واستأثر بها الغاصبون .

فاذا كان الباشا أو الفرنساوية قد ظنوا الأسطورة اليونانية لغزا به معان اشارية يفهمها أربابها ، فأهل القرى من أربابها . جاء الرومان المغتصبون يفرضون "العبودية" بحكم القانون الروماني على غير الرومانيين حتى التقوا بتلك القرى التي مردت على التمرد ، فأقاموا لجندهم حصنا في "قاو" جنوبي الشيخ جابر . فلما تصاعد التمرد تكاثر الجند فضاق بهم الحصن فانشأوا لفائض جندهم معسكرا على شاطئ النيل شمالي "النظرة" فانحصرت الهمامية بين شقي الرحى الرومانية . واذا كان الخديوي إسماعيل قد اختار إبادة المتمردين فلأنه كان أقل ذكاء من هرقل بكثير ، هرقل انتزع منهم الأرض مصدر قوتهم المتمردة التي حيره أمرها أو انتزعهم من الأرض ، فقالت الأسطورة اليونانية "قتل ابن الأرض خنقا ما بين السماء والأرض بعد أن تحير في أمره لأنه كلما مس الأرض برجليه ازداد قوة" . الفلاح هو ابن الأرض ، وهي مصدر قوته ما دام قائما فيها ولكن الباشوات يتغافلون .

(5)

حين عاد المطرودون من أهل القرية الى حيث كانت قريتهم عاد كل ذوي قربى قريبة معا كما هاجروا معا . فعادوا جميعا على مراحل ليعيدوا بناء قريتهم مبتدئين من ذلك المبنى الذي لم يجرؤ فاضل باشا على أن يهدمه أو يقتل خدمه مخافة الله . خاف الله فهدم مباني القرية الا هو ، ضريح ولي الله الشريف جابر بن عبد العزيز وخدم الضريح هم ذريته "الاشراف" من آل المعاتيق . مفردهم "معتوق" الذي دلف الى جنة السماء تحت قيادة أحمد عرابي . الضريح مقام عند التقاء حجر الجبل الشرقي بارض الوادي فوازاه العائدون بيوتا من حجر أو لبن متراصة من الضريح صفا ممتدا جنوبا وشمالا على خط مستقيم . ثم توالت الصفوف متسلقة سفح الجبل يطل بعضها على بعض كان بعضها طوابق تعلو البعض الاخر . تقطعها دروب صاعدة مبطنة بحجر الجبل ذاته تحيلها كتلا منفصلة من المباني الداكنة يحتضن كل منزل من كتلة أصم الجدران منزلا لصيقا به لا تقل جدرانه صمما ، كما يحتضن الخائفون بعضهم بعضا في خباء واحد .

وتعفو كل كتلة عن مكان فسيح تصب فيه أبواب المنازل يسمونه "الرهبة" تحيط بها مجالس من الطين مستندة الى الجدران يسمونها "المساطب" . المنازل للنساء والماشية ولهم فيها مآرب أخرى . والمصاطب للرجال . والرهبة للأفراح والمعارك والصبية والدواجن والكلاب ، أما "المنظرة" فبناء عبقري الموقع من الرهبة ، عبقري الهندسة بين البيوت عبقري الغاية يكاد يجسد القرية بالطوب اللبن مبنى ومعنى وتاريخا وحضارة يبنونه على السجية بدون افتعال .

"فللمنضرة" ،خلافا للمنازل ، نوافذ ترتفع قواعدها عن الأرض تبعا لارتفاع المنازل المحيطة بالرهبة . فهي تختلف ارتفاعا من منضرة الى منضرة ، فلا يرى الجالسون في المنضرة ، أية منضرة ، المحصنات الصاعدات النازلات من أسطح المنازل . وباب المنضرة مفتوح أبدا لاستقبال الاضياف ، فهو دعوة دائمة لكل غريب زائر أو ابن سبيل تعبيرا عن الكرم أسمى فضائل الفقراء . ولكن الوافدين اليها لا يستطيعون منها ، ولو شاءوا ، أن يتبصصوا على الرشيقات الرائحات الغاديات الى "الابيار"، مستويات القامات يمشين الهوينا تحت ثقل "بلاليص" المياه المستقرة فوق رؤوسهن على حاشية من طوق قماش ملفوف يسمونه "لواية" اذ لكل كتلة من المنازل "بئر" تتسرب اليها المياه من جوف الأرض كالرائقة من الطين سائغة للشاربين . والى كل بئر طريق مرسوم ترد عنه الابصار هندسة المناضر .

والمنضرة شائعة الانتفاع يستقبل فيها المعزون فيمن يتوفى من الكبار أربعين يوما ، والضيوف في أي يوم يكرمون . ويشارك افراد العائلة في الاستقبال ويتعاونون في الاكرام فلا يعلم أحد غيرهم لمن القريب الميت ولمن الضيف الحي وفي ذلك يتكافلون . وفصلت كل عائلة منضرتها تفصيلا ثم فضلتها حين تعلموا من أمر المدرسة كيف تطلى الحوائط وتزوق النوافذ والأبواب .

كل كتلة من المباني الصماء تضم عائلة ، وكل عائلة تتوزع بيوتا ، وكل بيت يتفرع اسرا ، تلتقي الأسرة عند ربها ، وتصبح الأسر بيتا عند جدها ، ولكل البيوت جدا واحد تنتسب اليه العائلة وتسمى عادة باسمه . فهم ، "أولاد سالم" و "أولاد مشهور" و "أولاد عمران" و "أولاد دويب" و "أولاد عيسى" ويقولون أن كل أولئك كانوا اخوة ، ولا يزعم الأشراف ما يزعم الاخرون اذ هم متميزون بأصولهم المقدسة . ويرد النسّابون من القرية كل بنيها الى جد واحد يسمونه "فرج قداح" ، وهو اسم لم يحمله أحد من بعده على غير عادة أهل القرى . ويكون ذكره عادة في فترات التنقيب في الماضي عن أسباب الفقر الحاضر . وهي فترات ممتدة . لماذا اختار فرج قداح من دون الأرض جميعا ذلك الواقع المتميز وحده ببخل الأرض الخصيبة ؟ ويقول الجادون لأنه كان راعي غنم وليس الرعاة فلاحين بل هم حريصون على أن يبعدوا أغنامهم عن مزارع الناس . فسكن فرج قداح الجبل بعيدا عن الأرض المزروعة كي يصون أغنامه في مغارته من سطو الذئاب ليلا ، واستنبت في شريط الأرض الضيق غابة من النخل ليرعى اغنامه وهي ترعى في ظلالها نهارا . وعاش مائة عام وعشرة يأكل التمر واللبن كما كان يفعل قبل أن يحضر من أرض الحجاز . ونشأ أولاده على ما نشأ عليه فكانت ثمار النخل أعز أسباب الحياة والرفاه .ويقول الساخرون مرحين بل لم يكن قد رأى أو لمس في أرض الحجاز ماء فلما رآه في النيل عشقه فمازال يبحث حتى اهتدى الى هذا المكان حيث يرعى غنمه جالسا على صخر الجبل "مدلالا" قدميه في منياه النيل .

ثم تكاثرت الذرية فاصبحوا عائلات تمردت مرارا ثم هاجرت اضطرارا ثم عادت كل عائلة تبني كتلة من المنازل المتحاضنة المستقلة برهبتها وبئرها . المنعزلة بعوازل من الدروب الصاعدة الى الجبل ، فلما اقتلعت الأجيال من أشجار النخيل ما يخلى الأرض للزراعة أصبحت غيطان كل عائلة امتدادا لمساكنها حتى نهاية الأرض لا تحيد . فوثقت الجيرة في المساكن والجيرة في المزارع والعزلة عن الاخرين رابطة القربى وأصبحت كل عائلة فيما بين افرادها قبيلة على راسها "شيخ" تحكمها شرائع الحياة القبلية وقيمها الجمعية وتقاليدها الاجتماعية ، التضامن بين الافراد حتى فناء الفردية ، والعداء للقبائل الأخرى حتى العدوانية ، والاحتكام الى الشيخ ونفاذ حكمه اذا حكم ، ووحدة الاعتبار ، ووحدة العار ، ومع ذلك فهم في مواجهة قرية أخرى قبيلة واحدة من بني "فرج قداح" .

(6)

تطل القرية على بقايا غابة من النخيل ضعيف الأكمام يفصلها عن بيوت الناس وعلى امتدادها "مصرف" يصب فيه ما يسيل اليه من مياه الأبيار حين تستخدم الابيار ، وما يتخلف فيه من مياه الفيضان كل صيف من كل عام فيبقى فيه راكدا الى أن يجيء العام . قاعه الحجري يردها فلا تتسرب الى باطن الأرض ، تتخلله برك طينية صغيرة ، تتمطى فيها الجواميس ويسبح فيها بط أسود واوز أبيض ويلهو في طينها أطفال عراة كأنهم لعب من طين . والمصرف لا يجف أبدا وطينه عفن أبدا يسمونه "الخرارة" ويضربون به المثل في القذارة . اذا اختفى منه الأطفال ليلا اختفت بالهدوء ومن بعدهم الضفادع الخفية بنقيق الا اذا ظهر النهار . ويمتد غربا من عند اقصى جنوب القرية جسر عريض سميك من التراب حتى يتصل بجسر اكثر عرضا وسمكا هو الجسر الشرقي بترعة "قاو" القادمة من الجنوب ممتدة الى ما يلي البداري شمالا ، تقطع اول جسر القرية "سحارة" و "السحارة" فتحة مبنية بالآجر والحجارة تخترق بطن الجسر فتصل ما بين جنبيه . وتقطعه سحارة ثانية قبل أن يدرك جسر الترعة ، ليتلاقى خلال السحارتين مصرفان قادمان من الجنوب ، من العتمانية ، يغذيان المصرف الأول ، مصرف الهمامية ، بما يحملان من بقايا مياه الري فلا يجف ابدا . فاذا عبر الجسر ترعة "قاو" على ذاك الكوبري الخشبي الركيك التقى بمصرف رابع يبدأ منه ويتجه شمالا موازيا الجسر الغربي للترعة ، فاذا تقدم غربا نحو عشرين مترا اخترقته سحارة ينتهي اليها مصرف خامس يحمل كل فضلات مياه الري من "قاو" ليصبها في أرض القرية . فاذا انطلق الجسر غربا اخترقته سحارتان تنفثان في مصرفين اخرين يصبان في ارض القرية ما تخلف من مياه ري مزارع "العقال القبلي" الشاسعة وما يخلفه النيل في الحياض بعد انحسار مياه الفيضان . هكذا رأى القائمون على غزل شباك الري أن تحفر في ارض القرية شقوق واسعة من الترع تحمل المياه الى ما يليها من القرى شمالا وجنوبا ، وشقوق من المصارف تحمل اليها الماء الفاسد الذي تتطهر منه مزارع تلك القرى حتى اذا بلغتها ركدت . وعلى جانبي كل ترعة وكل مصرف ما رفع من الأرض حفرا والقي على الأرض جسرا . ففقد أهل القرية من ارضهم القليلة قدرا غير قليل اما حفرا واما كفرا ، وهكذا قيل "من ليس عنده يؤخذ منه ومن عنده يعطى ويزاد" .

حين يفيض النيل واعدا الناس بالنماء والرخاء يزيد طين القرية بلة ، اذ يطارد أهلها حتى شعاب الجبل . تمتلئ الترع أولا فيكون ذلك نذيرا لهم بان يهجرها القادرون من الشباب والغلمان وصغار الفتيات عابرين النيل الى الغرب حيث تمتد مزارع القطن الى ما لا نهاية . أهل الغرب لا يرون الجبل الغربي من فرط ابتعاده عن النيل . هنالك المدن الكبيرة والقرى وافرة الثراء ، والحدائق الغناء ، وهنالك تجري قطارات السكك الحديد . لا تتوقف الا عند المحطات . والمحطة نقطة يقف فيها القطار لتنطلق منها المدينة . فهي بناء حديث متين فيه مخازن أدوات تحتاج الى حراس . وفيها موظفون في حاجة الى ناظر . وكل أولئك كانوا في حاجة الى مساكن فأنشئت لهم المساكن الحكومية لموظفي الحكومة . ولموظفي الحكومة ، مثل باقي البشر ، أسر من زوجات وأولاد وبنات وربما حماوات ، فتحولت المحطة منذ البداية الى قرية صغيرة حديثة ، يفد اليها ويقيم فيها باعة المأكولات والمشروبات لمن يعبرون في القطارات .  وانشئت المقاهي والمطاعم لمن يفدون اليها ينتظرون القطار . وأنشأ أصحابها بجوارها مساكن لهم ولأسرهم ، والزحام حاضن الجرائم ، فأنشئت نقط الشرطة للمحافظة على أمن مجتمع المحطة فجاء الى المحطة ضباط ومساعدون وجند وأسلحة و"تلفون" وخيول وكتبة ودفاتر وحراس وخدم من افراد الشعب للشرطة التي هي في خدمة الشعب . ولكل أولئك أو لأكثرهم أسر من زوجات وأولاد وبنات وربما حماوات ، في حاجة الى مساكن تليق بهم ، وهكذا بينما كانت محطة القطار تحمل أهل الغرب الى شيء من مدينة الغرب بقي الشرق شرقا لا يريم .

والى الغرب يذهب شباب القرية صيف كل عام قطعانا لجني القطن لأصحابه . لكل قطيع راع من الرجال . سبق الرجال أن باعوا عمل القطيع الى أصحاب مزارع القطن واقتطعوا لأنفسهم جزءا من أجر كل رأس جانية ، بعد نحو شهر يعودون جميعا الى القرية فرحين بما جمعوا من نقود معدودة ثلاثة قروش مقابل جمع ما يزن قنطارا من القطن ، ولكل حسب جهده ناقصا ما يقتطعه حزب رعاة القطيع .

حين يعودون تكون أرواح المتخلفين عن الترحال من الشيوخ والكهول والنساء قد كادت أن تبلغ الحلاقيم . فقد كان عليهم منذ نذير الفيضان أن يسارعوا الى قطع "الدرة" نبات طويل السيقان أغلبه اناث مثمرات يلقحها ما تنقله الريح من عيدان الذكور المتناثرة بينها . العود الذكر ذو عصارة سكرية ، فما أن يؤدي وظيفته في حفظ النوع وتبرز الثمار حتى يجمعونه انتقاء على ضوء العقم ويمصوه مصا كما يفعل الناس بقصب السكر الذي لا تعرف القرية زراعته . تبقى المثمرات على رأس كل واحدة ثمرة واحدة ، بيضاء مكورة كقناديل الإضاءة في مساجد المماليك . فهي عند أهل القرية "قناديل" . القنديل كتلة متماسكة من حبوب دقيقة مشدودة الى عشب اسفنجي البنية يسمونه "القيشة" لا يفيد شيئا فتعافه حتى البهائم . فيسمون من هو غير ذي فائدة من الرجال "قيشة" . تحصد الدرة بقطع السيقان عند ما يلي الأرض ثم تفصل القناديل عن السوق ، يستعملون في ذلك منجلة من حديد مسنون يسمونها "الشرشرة" . أما السوق فهي "البوص" فيترك في "الغيط" حتى يجف ثم تحمله الجمال والدواب الى المنازل ويخزن فوق اسطحها اكواما ، فتكتسي بيوت القرية بغطاء ذهبي اللون من البوص . وهو مصدر الطاقة التي تتحول الى نيران ذات لهب في كوانين الطبخ و"أفران الخبيز" وبين الساهرين في ليالي الشتاء قارسة البرد . وهو مصدر الكوارث حين تطيش شرارة من نار فتدركه في مقامه العالي فيمتد اللهب منه الى ما جاوره من بوص فوق اسطح المنازل المجاورة .

أما القناديل فتفرش على ارض ممتدة مربعات مسطحة يسمونها "المساطيح" . لكل زارع مسطاح معلوم ، تحميها وحدة المصير . مساطيح الدرة واجران القمح ، وهو قليل ، متجاورة يصونها من الحريق المتعمد أن من يحرق مسطاحا فقد حرق مساطيح العائلة كلها ، ويصونها من السرقة والغربان فصيل مختلط من الغلمان . يقلبونها ذات اليمين وذات الشمال حتى تجف بعد نحو خمسة أيام ، والغلمان لا يستعجلون جفافها شغفا نهما بالقناديل المشوية ، يسمونها "فراخ" ، توضع غضة على نار ذات لهب توقد جنوبي المساطيح ، الرياح هناك شمالية دائما ، ثم تنحت بالاسنان نحتا . ويهلكون من الحصاد قدرا غير قليل اذ لا يكف ، أولئك الأطفال الحراس ، عن شي القناديل ونحتها ، يدفنون بقاياها في "ترب" من التراب ، وان سأل سائل يتهمون الغربان .

فاذا جفت القناديل في المساطيح تعانوا فتكاثى كل مسطاح وقد جمعت في مثل التل الصغير يسمونه "سماط" ولا يزالون يضربونها بعصي غليظة من خشب السنط ضربا منتظم الإيقاع وهم يرددون في جماعة "هيلا هوب والدايم الله" ، اعلانا عن أنهم يبذلون كل جهدهم ولا يخافون الموت ، وراء حاد منهم يجيد الحداء الحزين . فاذا انفرطت الحبوب من القناديل تاركة أكمامها الاسفنجية التي لا تفيد شيئا ألقوا القيشة خارج المسطاح ثم جمعوا الحب الأبيض ، وجاء الكيال يحمل معيارا من الخشب ومختوما يختم الحكومة ، فهو – أي الكيال – من القائمين على وظيفة عامة بدون أجر من الحكومة . ويكون قد توافد الى المسطاح نفر لكل منهم أجر معلوم يستوفونه عينا اخر العام مقابل ما قدمت أيديهم طوال العام . "المزين" الذي يقص شعر الرؤوس والذقون . والسقا حامل قرب الماء من الابيار والانهار الى من يريدون . و"اللحاد" حارس المقابر ودافن الموتى فيها . و"الفقي" قارئ القرآن . و"الدلال" القائم على رسم الحدود بين الغيطان و "الصرماتي" الذي يرتق النعال . وصاحب السفن الخشبية التي تعبر بالناس الى "الغرب" في موسم جني الاقطان . و"الداية" التي تولد النسوان وكل من ساعد ذاك العام في الزرع أو القلع أو القطع او شارك في معركة العصي الغليظة التي طردت الحب من اكمامه . وأخيرا الكيال الذي يحمل معيارا من خشب مختوما بختم الحكومة . بعد أن يكون كل أولئك المستحقين قد استوفوا أجورهم كيلة من درة لكل واحد حسب التساهيل ، والارزاق على الله والحمد لله وكل عام وأنتم بخير . ما تبقى يكال في أكياس من شعر الماعز يسمونها "التلاليس" . في كل تليس ثمان كيلات تحملها الدواب الى المنازل يعد جولة مباراة في حمل الاثقال . وهي رياضة قديمة كان يمارسها شباب الفراعنة الغابرون فيتبارون ويفوز منهم من يرفع الى كتفه كيسا من الكتان مليئا بالرمل . الان يتبارى فيها الشباب من الهمامية ويفوز منهم بكيلة درة من يستطيع أن يرفع التليس بما فيها من الأرض الى كتفه أو الى ظهر الحمار . وهو غير هين . كل هذا وأسراب من الأطفال تحوم حول المسطاح حتى يفرغ منه أهله فيبدأ سباق الأطفال . فسواء شاء اهل المسطاح أم لم يشاؤوا قد دفع الضرب الشديد بالعصي الغليظة بعض الحبوب الى باطن الأرض فدفنها . الأطفال يعرفون ذلك وينتظرون . فما أن تخلو لهم الأرض حتة ينكبوا عليها متزاحمين على الحب المدفون ، فما هي الا ساعة حتى يحظى كل منهم بما لا يزيد من ملء كفيه الصغيرين من بقايا الحبوب . هي كافية على أي حال ليشتري بها من البائعة المتربصة منذ البداية قطعة من "العسلية" يلوكها في فمه وهو يسابق غيره الى مسطاح اخر ليحصل على نصيب اخير من عائد "القرقرة" .

أما الحب الذي حمل الى المنازل فقد استقبلته ربة المنزل وأودعته الصوامع أو الحوامل . وحاصل الدار غرفة ضيقة من بناء في ركن الدار . تصب فيه الحبوب من فتحة في أعلاه صبا ، وتؤخذ منه الحبوب من فتحة في اسفله غبا . فاذا ما أفرغ المحصول في جوفه سدت ربة المنزل فتحته بالطين سدا . ولا يفتح بعد ذلك الا بإذنها . أما الصوامع فهي اوعية من الطين المتبل بروث الحيوانات والتبن ، تتدرب على انشائها الفتيات منذ الصغر ويتفاخرن بإتقان صنعها متى كبرن . اذ الصومعة على هيأة "الفاز" الذي يبدأ بناؤه على قاعدة ضيقة مستديرة ثم تتباعد جدرانه حتى اذا ما بلغ غايته ارتفاعا تلاقت تلك الجدران عند رقبة ضيقة مقابلة للقاعدة استدارة واتساعا . تختلف عن "الفاز" في انها بالغة الضخامة . قد تبلغ المترين ارتفاعا وتزيد . تبنى على مراحل متتابعة ، القاعدة أولا ثم تترك الى أن تجف ثم تنهض الجدران من اطراف محيط القاعدة شبرا شيرا ويترك كل شبر حتى يجف ، وهكذا يستغرق انشاؤها أشهرا كثيرة . الاعجاز فيها أنها حين تتم فكأنها في وحدة مادة انشأتها الة حاسبة لا تخطئ المعايير والابعاد ولا المحاور ولا الدوائر . تصبح "كالفاز" هندسة واتقانا . هذا مع ان البنات ينشئنها وهن من خارجها ومن حولها دائرات . وهن لا يعرفن المقاييس ولا الحسابات ، ولا يملكن من حيلة الا الحس الجمالي والاعين الثاقبات . ان الصوامع قطع من الفن المعماري الذي تمتد جذوره الى بديع الفنون البدائية في العصر الحجري وحضارة الهمامية . ولا يزال للصوامع دور حضاري غير تخزين المحاصيل .

للصومعة ، مثل الحاصل ، فتحتان ، فتحة في اعلاها تصب فيها الحبوب ، وفتحة في ادناها تؤخذ منها الحبوب ، فاذا انطوت على ما جمع فيها سدتها ربة المنزل بالطين فلا يؤخذ منها الا بإذنها .

يجري كل هذا بينما مياه الفيضان الجارية تزحف على الأرض تهدد المتخلف نموا من الزرع ، المتأخر جفافا من البوص ، ومساطيح الكسالى عن دق القناديل حتى تنفرط الحبوب فتجمع قبل الطوفان . ويجري كل هذا تحت اشعة الشمس الحارقة في القيظ الشديد . ومن القيظ تشتق كلمة "القيضى" . فهم يزرعون "القيضى" وهم يقطعون "القيضى" وهو يدقون "القيضى" وهم يجمعون "القيضى" وهم يخبزون "القيضى" ... "عيش القيضى" . وحينما يقولون "ادرة" يعنون نباتا اخر هو المسمى "اذرة" وهو قليل في القرية ويسمونه "شامي" . أما اذا كان لا بد من الحذلقة فمن يقول "ذرة عويجة" يعني "القيضى" . والقيضى أبلغ على نبات يزرع في اول الصيف ويحصد في اوج القيظ .

حتى اذا ما انقضى شهر الشقاء وكادت أرواح المتخلفين من الرجال والنساء تبلغ الحلاقيم يكون قد عاد الى القرية من تركها من عمال تراحيل جني القطن في ارض الذين لا يرون الجبل الغربي ، فيشاركون في جني البلح الذي لا تدركه في عليائه مياه الفيضان . يجزون سباطه ويجرونه فيما يكون تحت النخل من ماء أو يحملونه حتى اذا بلغوا المنازل فرطوه من السباط وفرشوه على الاسطح أياما ثم قدموه الى الافران يقددونه على نار هادئة ثم يحشرونه حشرا في بلاليص ويودعونه الخزائن . والخزانة غرفة أساسية ضيقة في كل دار . غير ذات نوافذ أو منافذ . يحفظون فيها بلاليص البلح والجبن والمش والدهان . وفيها يودع الخبز وما يلزم "المطبخ" من بصل وثوم وملح وفلفل . بابها ضيق ذو "علقة" من الخشب ومفتاح خشبي  واحد لا يهتدي اليه ولا يستعمله الا ربة المنزل . ولا تأذن لغيرها باستعماله .

حينئذ يكون الفيضان قد بلغ ذروته فعزل القرية عن باقي الدنيا . تدرك مياهه المنازل أدنى المنازل الى الوادي ، وتطمى الابيار ، وتحصر القرية فيما بينها وبين الجبل وتقطع الطرق اليها الا ذلك الجسر الذي يصلها بشبكة من الجسور . فيكون على قاصدي بيوتهم أن يصعدوا الدرب الصاعد من أدنى الجسر الى الجبل يلتمسون منازلهم دائرين خلال شعابه حتى اذا ما بلغ أي واحد قمة منازل عائلته وتأمل القرية المسجاة كجثة هائلة لفظها النيل وألقاها على شاطئه ، ثم مد بصره الى ما لا نهاية له غربا من صفحة الماء وقد رسمت عليها خطوط داكنة من جسور الترع والمصارف ودوائر قاتمة من أطراف غابات النخيل يلفته من كل هذا ذلك التقاطع العمودي ، غربي الكوبرى بين جسر القرية الممتد من الجبل غربا ، وجسر ترعة قاو الممتد شمالا وجنوبا ، كأنها صليب هائل عائم على صفحة المياه الساكنة . يسمي اهل القرية ذاك الموقع "الصليبة" . يمر بها كل وافد الى القرية أو مغادر لها أو عابر  من الجهات الأربع . تظللها ثلاث شجرات باسقات من السنط ، يجتمع في ظلها الذين لا يطيقون الصبر على الشعور بانهم في القرية محاصرون .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق