عن العروبة والإسلام ( 1 ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
( فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع
الناس فيمكث في الأرض) .
( الرعد : 17 ) .
صدق الله العظيم .
بيــــان .
في الوطن العربي طائفتان
اختلفتا فاتفقتا . طائفة تناهض الاسلام بالعروبة وطائفة تناهض العروبة بالاسلام .
فهما مختلفتان . وتجهل كلتاهما العروبة والاسلام كليهما فهما
متفقتان . وإنهما لتثيران في الوطن العربي عاصفة غبراء من الجدل تكاد تضل الشعب
العربي المسلم عن سبيله القويم
. وانهما لتحرضان الشباب العربي على معارك نكراء تكاد تلهيه عن
معركة تحرير أمته .
هذا حديث الى الشعب العربي عن الطائفتين تباعاً
. سيقول نفر ممن يقرأونه :
مابال هذا الرجل يتلو آيات الكتاب لايلتمس فيها عوناً من رجال الدين ، فنقول
لأننا مسلمون ، ولا كهانة في الاسلام . وسيقول نفر : ما باله يتحدث
عن الأمة العربية لا يلتمس عوناً من مفكريها ؟ فنقول لهم : هذا مذهبنا . مذهبنا الاسلامي في القومية
ومذهبنا القومي في الاسلام
، فلينظروا ماذا هم فاعلون . أما الطائفتان فسينظرهم الشعب العربي إلى حين ..
( إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ) { يونس : 49 } صدق الله
العظيم .
د . عصمت سيف الدولة .
القاهرة : ايلول / سبتمبر 1985 .
الفصل الأول
الظــــالمــــــون .
لزوم مالايلزم .
1 ـ إن الحديث عن " العروبة والاسلام "
ليس حديثاً عن كل من الاسلام والعروبة بل هو حديث عن العلاقة بينهما . فهل يحتاج
الشعب العربي ، في هذة المرحلة
من تاريخه ، إلى معرفة العلاقة بين العروبة والاسلام ليحل مشكلات تحرره وتقدمه ؟ هل
يقف الشعب العربي ، في هذه المرحلة من تاريخه ، موقف الاختيار الملزم بين العروبة
والاسلام ليدافع عن حرية أمته ووحدتها
وتقدمها ؟ ... هل تلزمه العروبة
بغير مايلزمه به الاسلام ، فعليه أن يختار فيما بينهما لتحرر وطناً ومواطناً ؟ ...
أبداً إنه شعب معتدى عليه من خارجه ، اغتصاباً واحتلالا وهيمنة وتبعية .
ومعتدى عليه من داخله ، قهرا وظلما واذلالا واستغلالا .
فإن هو استجاب لما تلزمه به العروبة ، ولو لم
يع من العروبة إلا انها انتماء
إلى احياء من البشر كفته أدنى قوانين الحركة . إن كل الكائنات الحية مسلحة بقانون
" الفعل المنعكس الشرطي " للدفاع عن ذواتها إذا مأحاط بذواتها الخطر ؛
تردَ الفعل حتى لولم تكن فاعلة
. فما بال العربي تكاد المخاطر المحيطة به أن تعصف بوجوده ذاته .
ومابال الانسان العربي ، وهو المسلَح ، دون الكائنات جميعاً ، بقانون الجدل الذي
يملك به المقدرة على إدراك التناقض بين واقعه وحاجته ، ويعرف به اسباب حل هذا
التناقض ، ويستطيع به أن يجسد بعمله في الواقع مايوقف به معاناته ويفرض به ارادته .
فإن وعى العروبة انتماء إلى أمته لعرف معرفة اليقين ان التناقض الاساسي بين واقعه
وحاجته يتمثل في أن ليس كل ماهو متاح في أمته من أسباب التحرر والتقدم
متاحاً له ليتحرر ويتقدم ، لأن العدوان الخارجي يسلبه إمكانات مادية وبشرية هو
صاحبها بحكم أنها إمكانات أمته
، فيحول دون أن يطَور حياته بما هو ممكن ومتاح لاأكثر ولاأقل ، ولأن العدوان
الداخلي يسلبه القدر الأكبر مما أفلت من العدوان الخارجي فيستأثر به من دونه احتكارا
واستغلالا ، ثم يفرض عليه تلك القسمة الضيزى بالقهر والظلم والاذلال ، ويحول دون
ثورته بما يبقيه عليه من جهل وفقر ومرض فيبقيه عاجزاً عن استرداد امكانات مادية
وبشرية هو صاحبها بحكم أنها إمكانات
أمته فلا يستطيع أن يطور حياته بماهو ممكن ومتاح ، لاأكثر ولاأقل . وإنه ليعرف
معرفة اليقين ان العدوان الخارجي والعدوان الداخلي حليفان عليه يحقق كل منهما
بعدوانه مايمكَن الآخر من العدوان ، ولو لم يكونا متحالفين . فإن كان
أكثروعياً لوعى دلالة الدروس الصارمة التي يتلقاها كل يوم من أحداث عصره ، لعرف
معرفة اليقين أن لاأمل
، لاأمل على الاطلاق ، في أن يتقدم حرية ورخاء بقدر ماهو متاح في أمته إلا بأن
يواجه أعداءه جميعاً فيسترد حريته ويقيم وحدته القومية . وإنه ليتعلم كل يوم أن البشرية
قد دخلت عصر الانتاج الكبير والدول العملاقة ، وان مصير الاقزام من الدول أن تحتمي
، راغبة أو كارهة
، بمظلة التبعية السياسية لدفع خطر العدوان ، والتبعية الاقتصادية لدفع غائلة
الجوع ، وأن تدفع من حرية وطنها اثماناً باهظة لمن يحميها أو يغذيها . يحميها ولو من بطشه ذاته .
ويغذيها ولو من ثروتها ذاتها . وإن بعض هذا
، وليس كله لقمين بأن يحدد للشعب العربي اعداءه بأسمائهم ودولهم ونظمهم ، وبأن
يحفزه ويحرضه على سحقهم سحقاً ،
إذ أن سحقهم سحقا هو الطريق الوحيد المفتوح إلى التحرر والوحدة والتقدم ثم
الرخاء .
أما إن استجاب الشعب العربي لما يلزمه به الاسلام فقد تلقى من الله
أمراً صريحاً بالقتال ضد المعتدين : قال تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) {
البقرة : 194 } ، وقال
: ( ومالكم لاتقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين
يقولون ربنا اخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ) { النساء : 75 } . ثم قضى، سبحانه ، بأن من
سكت على الظلم قد ظلم نفسه ، وأنذره بجهنم مع الظالمين أنفسهم . قال :
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم
قالوا فيما كنتم ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها ؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) { النساء : 97 } . إنه سبحانه ،
لا يحرض على الهجرة ، بل يتحدى بها مماحكات الأذلاء
. قبل الهجرة المقاومة . بكل حيلة وكل سبيل . قال تعالى مكملا نذيره : ( إلا
المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ولايهتدون سبيلا . فأولئك
عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفواً غفورا) { النساء : 98 ، 99 } .
ثم انه سبحانه ، قد حرَم السلبية والتواكل ، وانذر
بأن شيئا من الحياة التي يكرهها الناس لن يتغير إلا إذا غيَر الناس مابأنفسهم .
قال ( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) { الرعد :11 } . وقال : (
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) { هود : 117 } . وذهب في تحريض
المظلومين على المقاومة الى حد أنه علَمهم أنه ، سبحانه ، يحب
منهم المقاومة حتى لو كانت أداتها سيئة ، وإن مقاومة الظلم تبيح كل الوسائل
وتطهرها مما يكون في طبيعتها
من سوء . قال ( لايحب الله الحهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) { النساء : 148 } .
ثم انه قد أخبر بأن الاعتذار عن التقصير فيما يجب ، بأن ثمة من ضلل المقصرين ،
اعتذارغير مقبول . وانه لايقبل من أحد أن يتهم غيره بأنه قد أضله ليبرىء نفسه من الضلال . قال تعالى :
( كلما دخلت أمة لعنت أختها ، حتى إذا ادَاركوا
فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلَونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ،
قال لكل ضعف ولكن لاتعلمون ) { الأعراف : 38 } . فدل على أن الغفلة التي تمكَن المضللين من ضحاياهم
ذنب من ذنوب الضحايا انفسهم يضاف الى ماظلموا به أنفسهم ، فيضاعف لهم العذاب
وأخيرا قضىبأن
من قبل الذل كفر حين قضى بأن : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) { المنافقون :
8 } .
وإن بعض هذا وليس كله لقمين بأن يحدد للشعب
العربي اعداءه باسمائهم ودولهم ونظمهم ، وأن يحفزه ويحرضه على سحقهم سحقا ، إذ أن سحقهم سحقا هو الطريق
الوحيد المفتوح إلى طاعة الله ورضوانه .
إذن ، لا يقف الشعب العربي ، في هذه المرحلة من تاريخه ،
موقف الاختيار الملزم بين العروبة والاسلام ليدافع عن أمته وحريته وتقدمه . يكفيه
ايهما . أمَا هما معا ففوق كفايته . ومع ذلك ، أو
بالرغم من ذلك ، فإن الشعب العربي
في حاجة الى الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام .
الانتماء المتعـدد :
2 ـ فهل يكون ذلك لأن كلاً
من الاسلام والعروبة علاقة
انتماء الى مضمون واحد أو مضامين متشابهة ، مما قد يؤدي الى الخلط بينهما فيلزم
تحديد العلاقة بينهما منعا للخلط ؟ ... أبداً أيضاً . إن الاسلام
علاقة انتماء إلى دين ( عقيدة ) . هكذا جاء رسالة ( هو الذي
أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) {الصف : 9 } .
وهكذا ارتضاه الله لنا حين اكتمل . ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
ورضيت لكم الاسلام دينا ) { المائدة :3 } . ثم وصانا بالابقاء على
علاقة الانتماء الى الدين هذه والمحافظة عليها (شرع لكم من الدين
ماوَصى به نوحاولذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا
الدين ولاتتفرقوا فيه ) { الشورى : 13 } . أما العروبة فعلاقة انتماء إلى أمة
بشطري تكوينها : الشعب والأرض
، وما أثمرشطراها على مدى التاريخ من حضارة : إنها انتماء إلى
وضع تاريخي بينما الدين وضع إلهي .
وقد تلتقي القبائل والشعوب والامم في علاقة انتماء إلى دين واحد
. ألم تر كيف تحدث القرآن عن الرسل والانبياء واقوامهم ثم وحد
بينهم في الدين فكانوا مسلمين
. ( ماكان ابراهيم يهودياً ولانصرانياً ولكن كان حنيفا ً مسلماً ) { آل
عمران : 67 } . ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب : يابنيَ إ ن الله اصطفى لكم الدين
فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) { البقرة : 132 } . ( قولوا آمنَا بالله وماأنزل
إلينا وما أنزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى
وما أوتي النبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) { البقرة : 136 }
. ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار
الله آمنا به واشهد بأنا مسلمون ) { آل عمران : 52 } . إذ ( إن الدين عند
الله الاسلام ) { آل عمران : 19 } مع انه ، سبحانه ، قد شاء
أن تتعدد الأمم . ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين ) { هود :
118 } . ثم ألم تر أن الله
يقول عن كتاب المسلمين ( أأعجمي وعربي ؟ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء )
{ فصلت : 44 } . وحدة الكتاب
هنا لم تلغ تمايز الناس عجما ً وعرباً وإن التقوا عليه هدى وشفاء . وقال الله
تعالى ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) { الحجرات : 13 } . فأقر التمايز بين المجتمعات
من حيث طور التكوين الاجتماعي .إذ القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي تلتقي ،
فتتميز على وحدة النسب العرقي ، حقاً أو وهماً ، ولا تنتسب إلى أرض تخصها من دون الناس ولو كانت مقيمة
عليها أما الشعب فجماعة أكثر تطوراً باستقرارها على أرض تخصها من دون الناس تنتسب اليها
وتتوه فيها الانساب العرقية فلا يعتد بها في التمييز . كذلك قيل ان القبائل هم
الحجازيون ، أما الشعوب فحيث يتميز الناس بنسبتهم إلى الأرض فيما يلي الحجاز
جنوباً من سبأ وحضرموت وما يليهم شمالاً من الروم ، وشرقاً من الفرس . المهم أن القرآن قد أشار إلى
التمايز بين القبائل والشعوب
والأمم ولكنه لم يجعل لهذا التمايز أثراً نافياً لوحدة العقيدة .
وقد يتعدد الانتماء الديني( العقائدي ) في الأمة الواحدة بدون أن يمس التعدد وحدة الأمة . وفي القرآن
عشرات الآيات التي تنظم العلاقة
الاجتماعية بين المنتمين الى أديان متعددة في الأمة الواحدة وتوصي
برعايتها .
( قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء
بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون
الله ) { آل عمران : 64 } . فلنتأمل
. ان الاسلام لايدعوا اهل الكتاب في المجتمع الواحد الى
التخلي عن دينهم والانتماء اليه . لايدعوهم اليه بل يدعوهم
معه . ليعيشوا معاً على كلمة " سواء " .. ليست كلمة المسلمين وليست كلمة
أهل الكتاب ، بل كلمة سواء بينهم جميعاً على ماهو مشترك في الاديان السماوية
( ألا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئاً ) . أما فيما بينهم فلا سيطرة
ولاهيمنة ولا استعلاء ولا قهر . لا من جانب المسلمين ولا من جانب أهل الكتاب . (
ولايتخذ بعضنا بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) . وأهل الكتاب ، كما هو معروف ، هم
النصارى واليهود . إنهم ليسوا مسلمين ، ولكن هذا لايعني انهم ليسوا مواطنين صالحين
بل ( من اهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون
بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك
من الصالحين ) { آل عمران : 113 ، 114 } . إنهم يحققون بعملهم خلاصة
ماجاء للاسلام يأمر به
المسلمين ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر ، واولئك هم المفلحون ) { آل عمران : 104 } .
والقرآن يتحدث عن المسلمين
وأهل الكتاب الذين ينتمون إلى أمة واحدة أو شعب واحد . من أجل هذا نظم علاقات
التعايش فيما بينهم اجتماعيا مع أنهم مختلفون دينا . إنهم
ينتجون معا ويستهلكون معا ويتزاورون ويستضيف بعضهم بعضا ، فقال : ( اليوم أحل لكم
الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) { المائدة : 5 } . وقد تنشأ فيما بينهم أوشاج
المودة فيود المسلم لو تزوج من كتابية تكون سترا له ، ويأتمنها على نفسه وماله
وتربية أولاده ، فأحل الزواج بها ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا
آتيتموهن أجورهن ) . وأمر بحفظ أعراضهن
الى حد ان قرن بين الزنا بالكتابية وتعبير الكفر حتى لو كانت راضية فأتم الآية
بقوله ( محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ، ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو
في الآخرة من الخاسرين ) { المائدة : 5 } . وفي هذه الحياة الاجتماعية المشتركة
، مع اختلاف الدين ، لايستبعد
أن يتحاور المسلمون
وأهل الكتاب حول أيهم أصح انتماء الى عقيدته وأية عقيدة هي الحق ، فحرص القرآن على
ألا يسمح المسلم لهذا الحوار بأن يصل إلى حد المساس بوحدة انتمائهم إلى مجتمع واحد . قال فأمر
:
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي
هي أحسن ) { العنكبوت : 46 } . فإن أوفى المسلم
بما أمر وأحال بعض أهل الكتاب الحوار إلى خصومة أو عداوة فإن القرآن يوصي المسلمين بألا
يحيلوا العداوة إلى شقاق وتمزق ، مقَراً بأن العداوة بين الناس في المجتمع الواحد
لاتقطع علاقة الانتماء المشتركة إلى هذا المجتمع . بل إن القرآن يذهب
إلى حد تنبيه المسلمين إلى أن قد تنتهي العداوة إلى مودة كما نبههم في آية أخرى
إلى أن قد يكون القتال الذي يكرهونه خير كثير . كذلك العداوة
. قال : ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ، والله قدير والله
غفور رحيم ) { الممتحنة : 7 } .
لم يأذن الله
للمسلمين
بقتال غير المسلمين ممن ينتمون معهم إلى مجتمع واحد إلا في حالتين : الأولى ،
محاولة غير المسلمين إكراه المسلمين بالقتال على الردة عن دينهم ، والثانية ، قيام
غير المسلمين بإخراج المسلمين من ديارهم . قال تعالى
: ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
وتقسطوا اليهم ، إن الله يحب القسطين . إنَما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في
الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولَوهم ، ومن يتولَهم فأولئك هم
الظالمون ) { الممتحنة : 8 ،9 } .
فما البرَ
الذي أحب الله من المسلمين أن يبرَوا به ابناء امتهم من غير المسلمين ؟ ... إنه
من ( آتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي
الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في
البأساء والضراء وحين البأس ) { البقرة : 177 }. وما القسط الذي أحب الله من
المسلمين أن يقسطوه إلى أبناء أمتهم من غير المسلمين ؟ إنه العدل : ( فإذا جاء
رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لايظلمون ) { يونس : 47
} . ولا يقوم العدل إلا على أساس المساواة بين الناس .
إذن فهذه
حياة اجتماعية كاملة ينظم الاسلام علاقات الناس فيها على أساس من انتمائهم إلى
مجتمع واحد بما يحفظ للمجتمع أمته ووحدته ، ويساوي بين المنتمين إليه بدون مساس بتعدد
علاقات الانتماء الديني بين أفراده .
3 ـ ثم
أن الاسلام علاقة انتماء تنشأ بالتمييز ، فالادراك ، فللايمان . تقف فيه مهمة
الرسول عند ابلاغ الرسالة : ( ماعلى ارسول إلا البلاغ ) { المائدة : 99 } . . (
وماعلى الرسول إلا البلاغ المبين ) {العنكبوت:18 } . وما ينبغي لرسول أن يذهب إلى
أبعد من هذا . ( ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) { النساء : 80 } . ( فإن
أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا ) { الشورى : 48 } . ( فذكر إنما أنت مذكر . لست
عليهم بمسيطر ) { الغاشية : 21 ، 22} . ( ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم
بالمهتدين ) { النحل : 125 } . وفي كل الحالات حرم الاسلام إكراه غير المسلمين على
الانتماء إليه إكراهاً مادياً أو معنوياً وناط الايمان بحرية الاختيار . ( لاإكراه
في الدين قد تبين ارشد من الغي ) { البقرة : 256 } . ( أفأنت تكره الناس حتى
يكونوا مؤمنين ) { يونس : 99 } .
كان هذا ، ولم
يزل ، سبيل الاسلام إلى الايمان الذي يفترض سلامة العقل ورشده ، وأمثلته كثيرة في
القرآن : ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج .
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) { ق : 6، 7 }
. ( قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله
يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ؟ قل أرأيتم ان حعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم
القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ) { القصص : 71، 72
} ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري
في البحر بما ينفع الناس وماأنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها
وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء ةالأرض لآيات لقوم
يعقلون ) { البقرة : 164 } . ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) { الأنبياء : 22
} . ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) { البقرة : 242 } ...
الخ .
ثم ليؤمن من
يريد وليكفر من يريد . ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) {الكهف
:29 } .
وقد وضع الله في كل
إنسان العقل مقدرة على الايمان أو الكفر وله الخيار . ( إنا خلقنا
الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً . إناهديناه السبيل إما
شاكراً وإما كفوراً ) { الانسان : 2 ،3 } . ثم يأتي يوم
الحساب فيلقى كل إنسان جزاء ما اختار وعمل . ( ولاتجزون إلا ماكنتم
تعملون ) { يس : 54 } . (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) { غافر : 17 } . ( كل
امرىء بما كسب رهين ) { الطور : 21 } .
وهكذا يستطيع
إي انسان مميز غير مكره أن يختار الاسلام ديناً ، أو أن يختار
ديناً غيره أو أن يكفر بكل الاديان على
مسؤوليته في الدنيا والآخرة .
أما العروبة
فعلاقة انتماء إلى وضع تاريخي تدرك العربي منذ مولده وتصاحبه حتى وفاته ولو لم يكن
مميزاً ، ولو لم يدركها ، ولو كفربها . لايستطيع أي انسان أن ينتمي إلى العروبة أو أن ينسلخ منها ،
ولو أراد . إذ الانتماء إلى العروبة وليد تطور تاريخي سبقه ولحقه ،
فكان عربياً بغير ارادته، أو سبقه ولم يلحقه فلم يكن عربياً ولو أراد ، لاحيلة له
في الحالتين . وهل أختار أحد والديه ؟ وهل أختار أحد وطنه ؟ بل هل اختار أحد
" شخصيته " ؟
4 ـ ثم
أن الاسلام علاقة انتماء الى دين خالد في الزمان بحكم انه خاتم الرسالات والاديان
. ( ماكان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) { الأحزاب : 40 }
. وخالد في المكان بحكم أنه رسالة إلى كل البشر . ( قل يأيها الناس اني
رسول الله اليكم جميعاً ) { الأعراف : 158 } . ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) { سبأ : 28 } .
أما العروبة فعلاقة انتماء مقصورة على شعب معين من بين الشعوب ومكان معين من الأرض
، علاقة انتماء الى أمة تكونت خلال مرحلة تاريخية طويلة كاستجابة موضوعية لحتمية تقدم
الشعوب بعد أن استنفذت العلاقة الأسرية ثم العشائرية ثم القبلية ثم
الشعوبية كل طاقاتها على تحقيق التقدم . فهي لم تواكب الزمان بداية . وحين تستنفذ
الأمة العربية كل طاقاتها على تحقيق التقدم سيتقدم البشر الى علاقات انتماء
تتجاوزها تكويناً وطاقة . فهي ليست خالدة في الزمان .
5 ـ لامجال
، إذن للخلط بين علاقة الانتماء إلى العروبة وعلاقة الانتماء إلى الاسلام لافي الأشخاص
، ولا في المضمون ، ولا في حدود الانتماء من الزمان أو المكان . وما تزال علاقة
الانتماء إلى الأسرة ، أو الى القرية ، أو الى المهنة ، أو الى الحزب
قائمة بجوار علاقة الانتماء إلى الدولة أو الوطن أو الشعب بدون خلط أو
اختلاط . فلا يقوم لدى الشعب العربي سبب للخلط بين العروبة والاسلام . ومع ذلك ،
أو بالرغم من ذلك ، فإن الشعب العربي في حاجة إلى الحديث عن العلاقة بين العروبة
والاسلا .
عن الأمـــــــة
:
6 ـ فهل
يكون ذلك لأن العروبة علاقة انتماء إلى " أمة " عربية ، وأن تسمية
العرب " أمة " تخصيص غير مبرر إسلامياً ، إذ الأمة في الاسلام هي
" أمة المسلمين " أو" الأمة الاسلامية " ، فتكون مقولة
" الأمة العربية " بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ؟ ... قد
يكون . ولقد كان نفر ممن يتوهمون أن الاسلام دينهم وحدهم ، وأن الانتماء إليه مقصور عليهم دون الناس
كافة يتخذون من فهمهم الخاص لدلالة كلمة " أمة " مدخلاً إلى
نفي الوجود القومي للأمة العربية بإسم الاسلام . ثم يزيد بعضهم أن الانتماء إلى
الأمة العربية هو في حقيقته انتماء اصطنع اصطناعاً لستر مواقف معارضة أو معادية للاسلام
. ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) { الكهف : 5 } .
فلنحتكم إلى
كتاب الله لعلَهم يهتدون . قال تعالى : ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل
إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه ، قل إنما أمرت أن اعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعو
وإليه مآب .وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم
ما لك من الله من ولي ولا واق ) { الرعد : 36 : 37 } .
7 ـ وردت
كلمة " أمة " في أربع وستين آية من آيات القرآن الكريم وكانت كلها ذات
دلالة واحدة إلا في أربع آيات . أولى هذه الآيات جاءت في سورة النحل . قال الله
تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفا ولم يك من المشركين ) { الآية : 120
} . فدلت الأمة على أن ابراهيم كان قدوة يؤتم به . وجاءت كلمة الأمة بمعنى الأجل في
قوله تعالى : ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) { هود : 8 } .
وجاءت في آيتين بمعنى العقيدة أو الطريق . قال تعالى : ( إنا وجدنا
آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) .
{ الزخرف
: 23 } .
فيما عدا ذلك
جاءت كلمة أمة في الآيات الباقيات للدلالة على مطلق
الجماعة إذا تميزت عن غيرها أياً كان مضمون المميز
. دلَ على أن الأمة جماعة انها في كل موضع جاءت في موقع الفاعل الغائب
أشير اليها في الفعل بواو الجماعة . مثل في قوله تعالى : ( ولتكن منكم أمة
يدعون إلى الخير ) { آل عمران : 104 } .
وقوله ( ومن
قوم موسى أمة يهدون بالحق ) { الأعراف : 159 } . وقوله : ( وممن خلقنا أمة يهدون
بالحق ) .
{ الأعراف
: 181 } . وقوله ( وماكان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) { يونس : 19 }
ودلَ على أن
الأمة مطلق الجماعة أنها قد جاءت في القرآن داَلة على الجماعة من
الناس والجماعة من الجن والجماعة من الحيوان والجماعة من الطير .
قال تعالى : ( قال أدخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والانس ) { الأعراف : 38
} . وقال : ( وما من دابة في الأرض ولاطائر يطير بجناحيه إلا أمم )
{الانعام : 38 } . وبعد ان أخبرنا عن أمر نوح عليه السلام وما اصطحبه
في الفلك من أنواع المخلوقات في قوله تعالى : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار
التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ،
وما آمن معه إلا قليل ) { هود :40 } ، قص علينا ماأمر به نوحاً : ( قيل يانوح اهبط منها
بسلام منَا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) { هود : 48 } . يعني الجماعات
المتميزة نوعيا من المخلوقات التي اصطحبها نوح معه .
8 ـ ولما كان التمايز يفترض
التعدد لتكون الجماعة متميزة عن غيرها علمنا القرآن أن الأمم متعددة في
الزمان والمكان . أثبت التعدد أولا وأرجعه إلى مشيئة الله حتى يكف الجدل في حكمته وأكده
في أكثر من آية .
قال : ( ولو
شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) { النحل : 93 } . وقال : ( ولو شاء الله لجعلهم أمة
واحدة ) {الشورى : 8 } . وتحدث عن الأمم بصيغة الجمع في ثلاث عشرة آية
أخرى .
أما عن
التعدد في الزَمان ففي البدء كان الناس امة واحدة متميزين " أمة
" بأنهم من الناس . قال تعالى : ( كان الناس أمة واحدة ، فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وما اختلف
فيه إلا الذين أوتوه من بعد ماجاءتهم البينات بغيا بينهم ، فهدى الله الذين آمنوا
لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) { البقرة : 213
} . وقال ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي
بينهم فيما فيه يختلفون ) { يونس : 19 } . فالتعدد بدأ نفاذا لكلمة سبقت من الله بأن تكون
الأمم متعددة وسيبقى قائما . قال تعالى : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة
واحدة ، ولايزالون مختلفين ) { هود : 118 } . فإذا جاءت الآخرة فإنهم أمم متعددة . قال تعالى (
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) { النساء : 41 }
. وقال : ( ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا ) .
{ النمل :83 } .
وقال : ( ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم ) { القصص : 75 }
. وقال :
( ولله ملك
السماوات والأرض ، ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون . وترى كل أمة جاثية ، كل
أمة تدعى إلى كتابها ، اليوم تجزون ماكنتم تعملون ) { الجاثية : 27 ،
28 } .
ومابين
البداية والنهاية تتابع الأمم المتعددة على آجال الزمان . لكل أمة أجل معلوم . قال
تعالى : ( تلك أمة قد خلت ، لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ) { البقرة : 134 ،
141 } . وقال : ( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ) {الأعراف : 34 }
. وقال : ( لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ) .
{ يونس: 49
} . وقال ( كذلك أرسلناك فىي أمة قد خلت من قبلها أمم ) { الرعد :30 }
. وقال : ( ماتسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) { الحجر : 5 } .
وقال : ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) {المؤمنون : 43 } . وقال : (
ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء ) { الأنعام : 42 } . وتكرر قوله
هذا أو معناه في { النحل : 63 والعنكبوت : 18 وفَصلت : 25 والأحقاف : 18 } .
وتمايزت الأمم بالرسل فتعددت بتعدد الرسل ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ان اعبدوا
الله ) { النحل : 36 } . وتعددت بتعدد الرسالات : كل امة تدعى إلى كتابها ) {
الجاثية : 28 } . وتعددت بتعدد المناسك ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) { الحج :
67 } .
ثم أن القرآن
قد علمنا أنه كما تتعدد الأمم على مدى الزمان فإنها متعددة في الزمان الواحد ، أو
كما نقول في المكان
( قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) { هود : 48 } .
فهذه أمم متعددة تواجدت معاً في مكان واحد . وثمة أمم متعددة توزعت في الأرض ، قال
تعالى : ( وقطَعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ، وبلوناهم
بالحسنات والسيئات لعلَهم يرجعون ) { الأعراف :
168 } .
9 ـ هذه
الآية الأخيرة - وفي القرآن غيرها كثير - تعلمنا أسباب التعدد في الزمان والمكان كليهما
. إذ هي تطلق كلمة الأمة على الجماعة التي تميزت بأنها صالحة كما تطلقها على
الجماعة التي تميزت بأنهاغير صالحة . فنعرف من الآية
أن الجماعة تكون أمة متى اشترك أفرادها فيما يميزهم عن غيرهم بصرف
النظر عن مضمون هذا المميز . على هذا الوجه كان الناس أمة بما تميزوا به من كونهم
ناسا . تميزوا عن أمة من الجن . وعن أمة من
الحيوان . ولما كانت المميزات متعددة فإن الأمم متعددة بدون تشابه أو تعارض أو تناقض
وان اشتركت جميعا في انها جماعات متميزة . قال تعالى : ولكل أمة رسول )
{ يونس : 47
} . وقال : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله ) { النحل : 36 } .
فدل على أن تلك جماعات كانت متميزة بالكفر فاستحقت رسلا يدعونها الى عبادة الله
. أما بعد الرسل فكل المؤمنين برسولهم أمة بما تميزوا به من رسول وكتاب ومناسك .
أوضح مثال ماجاء متتابعامن الآيات في سورة المائدة ، قال تعالى : ( إنا أنزلنا
التوراة فيها هدى ونور ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) { الآية 44
} وبعد أن فصل بعض آيات التوراة في الآية 45 قال في الآية 46 : ( وقفينا على
آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور
) وبعد أن بيَن في
الآية 47 حكم الخروج على أحكام الانجيل جاءت الآية 48 لتقول : (
وانزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم
بما أنزل الله ) . هكذا تحدث القرآن عن الأديان السماوية الثلاثة تباعا ثم قال :
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) { المائدة : 48 }
. فدَل على أنه في نطاق الأمة المتميزة بالايمان بالله يتوزع المؤمنون أمما تتميز
كل منها برسولها وشرعتها ومنهاجها . وتصدق دلالة الكلمة في الحالتين
بدون تشابه أو تعارض أو تناقض ، إذ أن مناط التميز في كل حالة مختلف عنه في الحالة
الأخرى .
10 ـ ولأنه
لاعبرة في دلالة " الأمة " بمضمون الأمر
الذي تميزت به الجماعة فأصبحت أمة فأن الجماعة المتميزة بالكفر بالرسالة ومناهضة
رسولهاهي أيضاً أمة . ولقد ذكرنا من قبل قوله تعالى :( وقطعناهم في
الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ) {الأعراف : 168 } . نضيف هنا
آيات بينات أخر . قال تعالى : ( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك
يقلبهم في البلاد . كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم
ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ) { غافر : 4،5 } .
وقال : ( وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) { هود : 48 } . وقال (
وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ) { العنكبوت : 18 } . وقال : ( كلما دخلت أمة
لعنت أختها حتى إذا ادَاركوا فيهاجميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا
فآتهم عذاباَ ضعفامن النار ، قال لكل ضعف ولكن لاتعلمون ) { الأعراف :
38 } .
11 ـ وقد
تكون جماعة من الناس لم تلتق زماناً أو مكاناً ولكنهم يشتركون في صفة خاصة بهم
مقصورة عليهم يتميزون بها عن غيرهم . إنهم حينئذ أمة . كذلك أسمى آيات
القرآن جميع الرسل والأنبياء أمة واحدة مع أنه - سبحانه - قد أسمى كل جماعة آمنت
برسول منهم أمة . فابتداء من الآية 48 من سورة الأنبياء يتحدث القرآن عن الرسل
والأنبياء ، فيذكر موسى وهارون وابراهيم ولوطاً ونوحاً وداوود وسليمان وأيوب واسماعيل
وادريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيى ثم يقول : ( إن هذه أمتكم أمة
واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) { الأنبياء : 92 } . ولم يشتبه هذا أو يتعارض أو يتناقض مع
الحديث عن بني يعقوب وحدهم على أنهم أمة حين أخبر باشتراكهم في الايمان بإله أبيهم
. قال تعالى : ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه
ماتعبدون من بعدي ، قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم و إسماعيل وإسحق إلهاً
واحداً ونحن له مسلمون . تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ماكسبتم ولا تسألون عما
كانوا يعملون ) { البقرة : 133، 134} .
وإذا كان المؤمنون
بكل رسول أمة ، فإن منهم من يكونون أمة بما يتميزون به من استراك في
نشاط الدعوة أو منسك من مناسك العبادة . في المعنى الأول
قال الله تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) { الأعراف : 159
} . وفي المعنى الثاني قال تعالى : ( من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون
آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) { آل عمران : 113
} . ويلاحظ أنه عندما أراد أن يتحدث عن جماعة متميزة بالهداية أو
بالتلاوة بين جماعة هي أمة من حيث تميزها برسولها أو بكتابها ايمى الجماعة الأولى
" أمة " وأشار إلى الجماعة الثانية بما يميزها ، مكتفياً به
في التعريف بها دون أن يسميها أمة إظهاراً للمميزات القصود
أظهارها ، وتلك قمة من قمم البلاغة في
القرآن .
على أي حال ،
فإن القرآن قد أسمى الجماعة
المتميزة أمة حتى حين كان مميَزها أمراً لايتصل بالعقيدة ايماناً أو
كفراً . فأسمى الجماعة المتميزة
بعلاقة قربى أمة فتعددت الأمم بتعدد الفروع ، بعد أن كان قد أسمى كل الأقرباء أمة حين اجتمعوا
فتميزوا بأصلهم الواحد . قال تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق
وبه يعدلون ) { الأعراف :
160 } . وهو واضح الدلالة على أنه حيث تتميز الجماعة تكون أمة في لغة
القرآن ، ولايمنع هذا
من أن تكون جزءاً من أمة على وجه آخر مما يميز
الجماعات .
12 ـ بل إن كلمة أمة تدلَ على الجماعة ولو لم تتميز إلا بموقف واحد في حالة واحدة . بهذا المعنى اسمى المقتصدين في الانفاق بدون اسراف أو تقتيرأمة . قال : ( منهم أمة مقتصدة وكثيرمنهم ساء ما يعملون ) {المائدة : 66 } . وقال : ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ) { القصص : 23 } .
وكلمة الأمة في هذه الآية لاتعني مجرد الجماعة بل تعني الجماعة المتميزة بموقف واحد أو حالة واحدة . جماعة تسقي وحدها دون الآخرين . وكانت تسميتهم أمة إبرازاً لهذا المميز حتى تبرز الحالة الأخرى التي أخبر بها في الآية فقال : ( ... ووجد من دونهم امرأتين تذودان ، قال ماخطبكما ، قالتا لانسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) { القصص : 23 } .
13 ـ هذه هي دلالة كلمة " الأمة " في لغة القرآن . وبهذه الدلالة كان المسلمون ، كل المسلمين ، وما يزالون وسيبقون ، أمة واحدة من حيث تميزهم عن غيرهم من الناس بانتمائهم الديني إلى الاسلام ، سواء أخذت كلمة الاسلام بمعناها الشامل الدين كله في قوله تعالى : ( وإذ يرفع اباهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل مناإنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ){ البقرة : 127 ، 128} .
أو أخذت بمعناها الخاص بالذين يؤمنون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام . ولقد خاطب القرآن المسلمين بهذا التخصيص واسماهم أمة . قال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس ) { آل عمران : 110 } ، وقال :
( وكذلك جعاناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء ) { البقرة : 143 } . وقال : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفَرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على سفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن النكر ، وأولئك هم المفلحون . ولاتكونوا كالذين تفَرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيَنات ، وأولئك لهم عذاب عظيم ) { آل عمران : 103 : 104 ، 105 } .
14 ـ وبهذه الدلالة كانت الاغلبية الساحقة من الشعب العربي ، وما يزالون وسيبقون ، جزءاً لايتجزأ من الأمة الاسلامية التي ينتمي اليها كل المسلمين في الأرض بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأممهم ودولهم وأوطانهم . لافضللأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى . في رحاب هذا الانتماء إلى الأمة الاسلامية يلتقي مئات الملايين من البشر . ولو أن مسلماً واحداً قد وجد في أي أرض ، في أي شعب ، في أية أمة ، في أية دولة ، لكان واحداً من الأمة الاسلامية . وما تزال هذه الأمة الاسلامية تنمو عدداً بمن يهتدي إلى الاسلام ديناً في أقطار الأرض جميعاً .
15 ـ وبهذه الدلالة أيضاً ، دلالة كلمة الأمة في لغة القرآن ، يكون كل العرب منتمين إلى أمة عربية واحدة ،حيث يكون مميزهم عن شعوب وأمم أخرىما يميز الأمم عن الشعوب والقبائل ، أو مايميز الأمم بعضها عن بعض من وحدة اللغة كما قال فخته الألماني ، أو وحدة الأرض والأصل والعادات واللغة والاستراك في العادات والشعور كما قال مانتشيني الايطالي ، أو وحدة الرغبة في الحياة المشتركة كما قال رينان الفرنسي ، او وحدة التاريخ واللغة والحياة الاقتصادية والثقافية المشتركة كما قال ستالين السوفياتي ، أو وحدة اللغة والاشتراك في التاريخ كما قال استاذنا أبو خلدون ساطع الحصري ، أو كان مميز الأمة انها " مجتمع ذو حضارة متميزة ، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة تكوَن نتيجة تطور تاريخي مشترك "...
كما اجتهدنا فقلنا ... لايهم هذا الخلاف في بيان عناصر التميز القومي للأمة . المهم أنه حيث يوجد المميز القومي لجماعة من الناس يصح في لغة القرآن كتاب المسلمين ، أن تسمى الجماعة أمة ، ولا ينكره عليها مسلم وهو مسلم ، مادام لاينكر المسلم وهو مسلم أن كل جماعة متميزة حتى من الدواب هي " أمة " فكيف بالمسلم ينكر على جماعة قومية الانتماء أنهم أمة . والأمة كما تتميز بوحدة العلاقة القومية ، لاتتشابه ولا تتعارض ولا تتناقض مع الأمة كما تتميز بوحدة العلاقة الدينية . فلا تتشابه ولا تتعارض ولا تتناقض " الأمة العربية " مع " الأمة الاسلامية " ؛ كما لاتتشابه ولا تتعارض ولاتتناقض الأمة الفرنسية والأمة الانكليزية والأمة الالمانية والامة الايطالية ... مع كون كل هذه الأمم تنتمي عقيدة إلى الأمة المسيحية . كل من الانتمائين قائم ، ولكن كل منهما ذو مضمون مختلف .
16 ـ مرتان في التاريخ الذي نعرفه قيل غير مانقول . قيل إن للانتماء الديني والانتماء القومي مضموناً واحداً وأن لكل دين أرضاً ولكل أرض ديناً . وكان العرب هم الضحايا في المرتين . أما المرة الأولى فحينما اشتعلت الحروب على امتداد الأرض الأوروبية بين أمراء الاقطاع كل يريد أن يزيد مساحة اقطاعيته . فقال لهم البابا أربان الثاني : " إن الأرض التي تقيمون عليهالاتكاد تنتج مايكفي غذاء الفلاحين ، وهذا هو السبب في اقتتالكم ، فانطلقوا إلى الاماكن المقدسة ، وهناك ستكون ممالك الشرق جميعاً بين أيديكم فاقتسموها " . لم يكن للدين المسيحي شأن بما يقتتل من أجله أمراء الاقطاع فقد كانوا جميعاً مسيحيين ، ولم يكن لما نصح به البابا شأن بالمسيحية دين المحبة والسلام ، وإنما كان للمؤسسة الكنيسة التي يرأسها البابا شأن بالأرض التي خربها القتال فقد كانت شريكة في ريعها . وكان القائل والمستمعون اليه يعرفون ألاَ شأن للمسيحية بما قيل . فقال أحد الفرنسيين حينئذ إنها دعوة ‘لى أن يستغل الفرنسيون الدين . وقد استغل الفرنسيون وغير الفرنسيين الدين ليقنعوا الشعوب بأن تقدم ابناءها ضحايا على مذابح أطماع الأمراء الاقطاعيين . كيف ؟ بمقولة بسيطة ، كالناس في ذاك العصر : إن نشأة المسيحية في فلسطين تعني ملكية المسيحيين لفلسطين فعليهم استعادتهامن الغزاة المسلمين . وهكذا وحَد المعتدو بين مضمون الانتماء إلى المسيحية ومضمون الانتماء إلى أرض فلسطين وبدأت الحروب الصليبية التي استمرت قرناً كاملاً ( من عام 1096 الى عام 1192 ) وذهب ضحيتها آلاف البشر . وما توقفت إذ توقفت إلا حينما استطاع العرب ، مسلمين ومسيحيين ، أن يقنعوا الأوروبيين ، بالاسلوب المناسب ، بألا جدوى من الخلط بين الانتماء إلى العقيدة والانتماء إلى الأرض ، فتحررت الأرض العربية . فهل يتبنى المسلم الأفكار الصليبية ؟
أما المرة الثانية ، فحبنما أراد المتخلفون من يهود أوروبا أن يخرجوا من عزلتهم القبلية " الغيتو " ، وأرادت الرأسمالية النامية في أوروبا أن تسخرهم عازلاً بشرياً يحول دون وحدة الأمة العربية ويحرس مصالح الامبريالية ، فصاغوا جميعاً ما يعرف " بالصهيونية " . وليست الصهيونية إلا فكرة متخلَفة تخلَف سكان الغيتو .
تقول : إن كل من توحدوا ديناً لهم حق في أن يتوحدوا وطناً ودولة . وهي فكرة قابلة للستعارة ولو تغير مضمونها اليهودي . فكل زعم أن الانتماء الى الدين يلد حقاً في الأرض ، بصرف النظر عن الانتماء القومي الى الأمة أو الانتماء الوطني الى الدولة ، هو في حقيقته المذهبية " صهيوني " ولو لم يكن يهودياً ، وهم كثير . كما أن من ينكر هذا المذهب لايكون صهيونياً ولو كان يهودياً ، واهم كثيراً أيضاً . ولما كان لابد لكل دولة من أرض ( وطن ) ، فقد أختار الرأسماليون الأوروبيون والصهاينة من اليهود أرض فلسطين اختياراً " صليبياً " .
إن نشأة اليهودية في فلسطين تعني عندهم ملكية فلسطين لليهود ، فعليهم استعادتها من الغزاة العرب . وهكذا وحَد المعتدون بين مضمون الانتماء الى اليهودية ومضمون الانتماء الى أرض فلسطين وبدأ الصراع العربي الصهيوني ، وما يزال مستمراً ، ولن يتوقف إلا حينما يستطيع العرب ، مسلمين وغير مسلمين ، أن يقنعوا الصهاينة ، بالأسلوب المناسب ، بألا جدوى من الخلط بين الانتماء الى العقيدة والانتماء الى الأرض ، فتتحرر الأرض العربية . فهل يتبنى المسلم الأفكار الصهيونية ؟
الحمد لله . لايقوم ، إذن ، لدىالشعب العربي سبب للتشابه أو التعارض أو التناقض بين العروبة والاسلام . ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، فإن الشعب العربي في حاجة الى الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام .
الدين والمجتمع :
17 ـ فهل يكون ذلك لأن عدم تشابه ، أو تعارض أو تناقض ، علاقة الانتماء إلى الاسلام وعلاقة الانتماء إلى العروبة يثير وهم انتفاء العلاقة بين الاسلام والعروبة إلى حد الاستغناء بأحدهما عن الآخر ؟ قد يكون . والمسلم المؤمن لاتغنيه عن دينه أرض الدنيا كلها . والعربي القومي لاتغنيه عن أمته كل أمم الأرض . وما يثير الأوهام إلا الجهل . وهو - هنا - جهل بالاسلام وجهل بالعروبة ، فجهل بالعلاقة " العضوية " بينهما .
الجهل بالاسلام يؤدي إلى أخذه على أنه مجرد دين فلا يحيط بما يميز الاسلام من بين الأديان . والجهل بالعروبة يؤدي إلى أخذهما على أنها مجرد دين فلا يحيط بما يميز الأمة العربية من بين الأمم . ( تمييز وليس امتيازاً ) . فإن اجتمعا انتفى العلم بما بين الاسلام خاصة والأمة العربية خاصة من علاقة خاصة لامثيل لها - فيما نعرف من تاريخ الأديان والأمم - بين أي دين وأية أمة . فهل نبدأ من البداية ؟
قلنا ونعيد إن الاصل في " الدين " عامة أنه كان عنصراً من عناصر التكوينات الاجتماعية المختلفة التي كانت وحدة "الاصل" محور تكوينها ( الأسر والعشائر والقبائل ) وانقلب الأجداد الذين ماتوا آلهة يعبدهم نسلهم من الأحياء ، ويتميزون بهم عن ذوي " الأجداد - الالهة " الاخرين . ثم استقر " الاله " مميزاً لكل قبيلة ، فكان لكل قبيلة إلهها الخاص تختاره طبقاً لظروفها الخاصة ، وتعبده طبقاً لتقاليدها الخاصة ، وتلتمس منه العون في تحقيق مصيرها الخاص . فإذا تعددت مشكلاتها لم يكن ثمة مايمنع أن يكون لكل قبيلة أو مجموعة من القبائل عدد من الآلهة يختص كل منهم بإسداء العون في واحدة من تلك المشكلات على ماكانوا يعتقدون . فثمة إله للحرب ، وإله للزرع ، وإله للصيد ، وإله للملاحة ، وإله للحب أيضاً ... الخ ، ولكنها ، حتىوهي مجموعة خاصة ، كانت تقوم بالوظيفة المشتركة للاله في المجتمعات القبلية وما دونها من مجتمعات عشائرية وأسرية فهي " رمز " يجسد الوجود الاجتماعي المستقل لكل جماعة ويميزها عن غيرها . كل هذا لايزال قائماً في المجتمعات القبلية المعاصرة .
فلما جاءت الرسالات السماوية والرسل من عند الله إلى مجتمعات قبلية أرسل إلىكل قبيلة رسولاً من أبناءها يدعوها إلى إله واحد . ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) { النحل : 36 } . والأمثلة كثيرة في القرآن ( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين ) { هود : 25 } . وإلى عاد أخاهم هودا ، قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ) { هود :50 } . وإلى ثمود أخاهم صالحاً ، قال ياقوم اعبدوا الله مالكم إله غيره ) { هود : 61 } . وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) { هود : 84 } . وكان بنو اسرائيل من المجتمعات القبلية التي أرسل إليها خاصة ، رسول من عند الله :أرسل إليهم موسى عليه السلام أ ولاً :( وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني اسرائيل) {الاسراء : 2 } . ( وإذ قال موسى لقومه لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله إليكم ) { الصف : 5 } . ثم ارسل اليهم عيسى عليه السلام : ( وإذ قال عيسى بن مريم يابني اسرائيل إني رسول الله إليكم ) {الصف:6 } . ولقد كان كل الرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن يحملون دعوة واحدة هي " التوحيد "(اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) ، ولكن لم تكن أي منها دعوة انسانية . نعني موجهة إلى الناس جميعاً . غير أن هذا التوجيه قد بدا محدوداً في رسالة موسى ، ثم فتحت أبوابه في رسالة عيسى ، لتتهيأ الانسانية لاستقبال رسالة محمد ، عليهم السلام جميعاً .
فلقد أمر موسى بأن يتجاوز برسالته محيط قبيلته من بني إسرائيل ، وبأن يذهب الى فرعون ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) { طه : 24 } . فتدخل الحذر القبلي من الاتصال بغير أبناء القبيلة ، فالتمس موسى من مصادر القوة مالم يكن في حاجة إليه وهو آمن في قبيلته . ( قال رب اشرح لي صدري . ويَسر لي أمري . واحلل عقدة من لساني . يفقهوا قولي . واجعل لي وزيراً من اهلي . هارون أخي . اشدد به أزري ) { طه : 25 -31 } . ( قال قد اوتيت سؤالك ياموسى ) { طه : 36 } . ( اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) { طه : 42 : 43 } . موسى وهارون يحملان رسالة إلى من لاينتمون الى بني اسرائيل . إلى طاغية معين بصفته حاكماً ( فرعوناً ) في مصر ، وإلى طاغيين معينيين بالاسم : قارون وهامان ( وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ) { العنكبوت : 39 } . كانت تلك بداية خروج الرسالة الدينية من الاطار القبلي إلى الاطار الشعبي .
فقد كان الناس في مصر مستقرين في وادي النهر لايتمايزون فيما بينهم بما يميز القبائل من وحدة النسب الحقيقي أو الموهوم . وكانت آلهتهم رموزاً للبيئة الجغرافية ولم تكن رموزاً لحدود قبائل متجاورة . وكان فوقهم فرعون إلهاً وابن إله وملكاً ومالكاً وحيداً للأرض والناس وخالداً بعد الموت لايموت . فكانت رسالة موسى وأخيه هارون موجهة إلى " شعب " في مصر مخاطباً في شخص حاكمه فرعون ورجاله .
ولكن هذا الخروج بالدين من الاطار القبلي إلى الاطار الشعبي بقي محدوداً في وسيلته وفي مداه . وإنا لنفهم من الآيات أن موسى وهارون لم يذهبا الى فرعون ويواجهاه منفردين بدون حشد قبلي من بني إسرائيل . إذ ماان رفض فرعون الاستجابة للرسالة وبدأت المطاردة حتى طارد فرعون وجنده " بني إسرائيل " وليس موسى وهارون وحدهما . ( يابني اسرائيل قد انجيناكم من عدوكم ) { طه : 80 } . فنلاحظ أن رفض فرعون رسالة موسى وهارون كان عند بني اسرائيل عداء لهم جميعاً . وتلك إحدى خصائص المجتمعات القبلية . كل هذا يعني - عندنا - أن موسى وهارون لم يكونا وحدهما منذ البداية ، بل كانا يبلَغان الرسالة في حماية قبلية . وقد يكون ذلك ما أفزع فرعون فحسب الأمر ستاراً للاستيلاء على الحكم فنراه يحشد قومه تحت شعار الملك . ( ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر ) { الزخرف : 51 } . ثم إن موسى لم يرسل إلى شعب آخر مرة ثانية .
أياً ماكان الأمر فإن المسيح عيسى بن مريم هو الذي سيسمو بالدين فوق الانتماء القبلي والشعبي ويطرح لأول مرة وحدة الدين في الانسانية ، أو وحدة الانسانية في الدين ، ويبشر بأنه يمهد لتقبل رسالة الاسلام . فلقد عرفنا من القرآن ، أنه ، عليه السلام ، كان رسولاً إلى بني اسرائيل . وقد بقي كذلك ما بقي رسولاً . ولكن رسالته اليهم كانت تتضمن إضافة إلى ماحمله موسى . كانت تتضمن دعوة وبشرى بالخروج من مضيق علاقة الانتماء القبلي إلى رحاب الأخوة في الدين . ( وإذ قال عيسى ابن مريم يابني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديَ من التوراة ومبشراً برسول من بعدي أسمه أحمد ) { الصف : 6 } . فلما كذَبوه حدث ذلك الحدث الجليل الذي تطور به الدين فأصبح علاقة انتماء إلى السماء بعد أن كان مقترناً بعلاقات الانتماء العشائرية على يد إبراهيم ونوح ، والقبلية على يد هود وصالح وشعيب وموسى . سقطت علاقات الانتماء العشائري والقبلي ، وسمت علاقة الانتماء الديني لتكون في " الله " الواحد الأحد وحده . قص علينا القرآن قصة تلك الطفرة العظيمة في الآية 52 من سورة آ ل عمران . قال : ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ، قال الحواريون نحن أنصار الله ، آمنا بالله ، واشهد بأنا مسلمون ) .
18 ـ إنا نتابع تطور الدين على مستوى علاقته بتطور التكوين الاجتماعي من العشيرة الى القبيلة ، الى الشعب ، لنصل إلى حيث نرى علاقة الدين بالأمة أو علاقة الاسلام بالعروبة وهو موضوعنا الأصيل .
وليس مما يلزم لبيان مانريد أن نعرض لتفصيل مضمون الشرائع كيف تطَور متسقاً مع تطور المجتمعات . ومع ذلك لانرى بأساً في أن نشير إلى ماتتضمنه الشريعة الموسوية من خصائص ماتزال تحمل الطابع القبلي.
وما تتضمنه الشريعة المسيحية من خصائص فائقة التجريد الانساني . هذا مع علمنا بأن مايقال له " التوراة " المتداولة الآن ، ليست كلها ماتلقاه موسى ، وبأنها كتبت قبل أن تكتشف " التوراة - الرسالة " في عهد الملك يوشيَا بعد وفاة موسى بنحو سبعة قرون ( سفر الملوك الثاني ، اصحاح 22 ) . وان الاناجيل الأربعة هي ماكتبه أربعة من تلاميذ السيد المسيح . إلا أن تلك الكتب وما أضيف إليها من شروح هي مصادر الشريعتين كما يعيشه اليهود والنصارى في الغالب من مذاهبهم .
إن أظهر الخصائص القبلية في كتاب " التوراة " الموضوع ، الحرص الفائق على بيان الأنساب . إنه يتضمن تاريخ العالم لاعلى أساس التطور البشري أو المادي أو تتابع الأحداث الاحتماعية السلمية أو الحربية ، بل مبتدئاً بمن تزوج ، ثم كم أنجب ، ثم يتتبع الأولاد وأولاد الأولاد ومن تلاهم جيلاً جيلاً ، أسماً أسماً ، الى أن يصل الى البناء القبلي لبني اسرائيل ليقول ، أو ليثبت ، أن كل اليهود في كل مكان من الأرض ، ومن أي جنس وأي لون هم سلالة الاسباط الاثني عشر ابناء يعقوب ( اسرائيل ) بن اسحاق بن ابراهيم . هذه العناية بإثبات وحدة الأصل العرقي واحدة من أهم مميزات المجتمع القبلي لأن وحدة النسب هي مناط الانتماء إلى القبيلة . ( مقابل " الهوية " مناط الانتماء إلى الدولة في عصرنا الحديث ) . ولقد كانت كل القبائل ، وماتزال ، تحرص على حفظ أنسابها كما حرص اليهود في التوراة .
ولم تكن القبائل العربية أقل حرصاً على أنسابها منهم أو من غيرهم . ثم يأتي الاله الخاص " يهوه " الذي وعد شعبه بأن يقوده " إلى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وآبار محفورة لم تحفرها وكروم زيتون لم تغرسها " ( سفر التثنية . اصحاح 6 آية 11 ) . ثم يأتي الرمز القبلي للقوة ( الطوطم ) . وهو عندهم جبل صهيون حيث التقى " يهوه بجدهم يعقوب وتصارعا مصارعة جسدية لم يهزم فيها يعقوب فأعجب الاله به وباركه واختاره وأسماه اسرائيل " ( سفر التكوين : 32 آية 25 - 29 ) . ثم التضامن البشري والمالي بين أفراد القبيلة فتصبح أرملة الأخ المتوفي زوجة لأخيه بعد الوفاة بدون حاجة إلى ايجاب أو قبول أو عقد حتى لاتشرد أنثى من القبيلة بشخصها أو بمالها . ولقد كان هذا النظام سائداً في القبائل العربية قبل الاسلام حيث كانت زوجة الأب المتوفىتصبح زوجة لابنه فحرَمه الاسلام . وأخيراً العداء ، بدون حد أو قيد تشريعي أو اجتماعي أو أخلاقي ، لمن لا ينتمون إلى القبيلة . قال حكماء صهيون : " اضربوهم وهم يضحكون . اسرقوهم وهم لاهون . قيدوا أرجلهم وانتم راكعون . ادخلوا بيوتهم وأهدموها . تسللوا إلى قلوبهم ومزقوها " ومن قبلهم قال إله بني اسرائيل " إني ادفع الى ايديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك ، لاتقطع معهم ولامع آلهتهم عهداً . لايسكنون في أرضك لئلا يجعلوك تخطىء " 0 (سفر الخروج : اصحاح23 آية22و23 ) . إن حديث إله بني اسرائيل عن آلهه آخرين بدون إنكار مكتفياً بمنع التعاهد معهم واضح الدلالة على ماتحمله التوراة الموضوعة من آثار العصر القبلي ، حيث لكل قبيلة إله تعبده ، فيرعاها .
عكس هذا تماماً ماجاءت به المسيحية . لقد جاءت المسيحية تقدم إلى الناس علاقة انتماء إلى " ملكوت الله " بديلاً عن علاقات الانتماء العرقية والاقتصادية . هذا هو جوهر الديانة المسيحية . أخوة البشر جميعاً في الله ودعوتهم إلى أن يتحرروا من علاقات الانتماء القبلية والاقتصادية لينتموا إلى ملكوت الله . أما عن الانتماء الاقتصادي ( الملكية ) التي تميز الناس بعضهم عن بعض ، فقد أدانها السيد المسيح ادانة حاسمة . " وفيما هو خارج إلى الطريق ، ركض واحد وجثا له وسأله : ايها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟ فقال له يسوع : لماذا تدعوني صالحاً . ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله . أنت تعرف الوصايا : لاتزن ، لاتقتل ، لاتسرق ، لاتشهد بالزور ، أكرم أباك وأمك . فأجاب وقال له : يامعلم هذه كلها حفظتها منذ حداثتي . فنظر إليه يسوع وأحبَه وقال له : يعوزك شيء واحد اذهب وبع كل مالك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب . فاغتم علىالقول ومضى حزيناً لأنه كان ذا أموال كثيرة . فنظر يسوع حوله وقال لتلاميذه ماأعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله . فتحير التلاميذ من كلامه . فأجاب يسوع أيضاً وقال لهم : يابنيَ ، ماأعسر دخول المتكلين على الأموال الى ملكوت الله " انجيل مرقص . اصحاح 10 آية 17-25 ) . بقي الانتماء الأسري أو العشائري أو القبلي القائم على قرابة الدم . ولقد أنكر المسيح تقديمه أو مساواته بالأخوة في الدين . " وفيما هو يكلم الجموع أذا أمه واخوته قد وقفوا خارجين طالبين أن يكلموه . فقال له واحد هوذا امك وأخوتك واقفون خارجاً طالبين أن يكلموك فأجاب وقال للقائل له : من هي أمي ومن هم أخوتي . ثم مد يده نحو تلاميذه وقال هاأمي واخوتي . لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي " ( انجيل متى ، اصحاح 12 آية 46- 50 ) .
19 ـ أما عن البشرى بالاسلام فقد التمسها البعض في كلمة " الانجيل " حيث تعني في أصلها اللغوي "البشرى " . وقيل إنما جاءت فيما رواه يوحنا في انجيله من أن المسيح قد قال : " ومتى جاء المعَزي الذي سأرسله انا اليكم من الأب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي " ( الاصحاح 15 آية 26 ) . ولسنا نرى في أي القولين مايدل على البشرى بالاسلام على وجه التحديد . ولعل الصعوبة في الاهتداء إلى البشرى من أقوال عيسى عليه السلام ماغلب على تلك الاقوال من الصيغ الرمزية ، وما قد يكون شاب النقل عنه في الانجيل من قصور . على أي حال فإنَا نعتقد أن أول عناصر البشرى قد جاء في الَزبور ( الكتاب الضي أنزل على داوود ) . ففيه يقول: " الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية " (المزمور118 ). ولقد كان بنو اسرائيل يعرفون في ذلك الوقت أن جدهم ابراهيم كان قد بنى الكعبة للمرة الرابعة ومعه اسماعيل ولده من هاجر ، وفي الكعبة يقوم الحجر الأسود رأساً للزاوية . ولم ينل ذلك مما كان بنو اسرائيل يتباهون به من أن كل الانبياء والرسل منهم واليهم فقال متَى في انجيله : " قال لهم يسوع أما قرأتم قطَ في الكتب . الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية . من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا . لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره " ( الاصحاح 21 آية 42، 43 ،44 ) . فدَل كل هذا على أن ملكوت الله ( الدين ) سينتقل إلى الأمة القائمة عند الكعبة حيث الحجر رأس الزاوية . وذلك ماعرفته جماعة من المطلعين على الكتب المقدسة مثل عبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل .. وورقة بن نوفل فتوقعوا الرسالة الجديدة حيث جاءت ، وصدقها ورقة بن نوفل ابن عم خديجة زوج الرسول بمجرد أن أخبرته بأول الوحي .
على أي حال ، تلك كانت الطفرة في المضمون من دين المجتمعات القبلية إلى دين الانسانية تأكيداً لما قلنا من قبل عن اتساق تطور الدين مع تطور المجتمعات في التكوين من الاسرة إلى العشيرة إلى القبيلة إلى الشعب . بهذا تم التمهيد ليجيء رسول من غير بني اسرائيل يحمل رسالة إلى الناس جميعاً ، فيكون لها شأن ، وأي شأن ، بالأمة العربية .
20 ـ ثم جاء الاسلام ليتوحد الدين ويكتمل . ( هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) { الفتح :28 } . (ألا لله الدين الخالص ){ الزمر : 3 }. جاء شاملاً في المضمون ماجاءت به الاديان السابقة مما يتسق مع كونه آخر الرسالات . فهو الدين منذ إبراهيم حتى محمد . ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملَة ابراهيم ) { الأنعام : 161 } . ( وانزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ) { المائدة : 48 } .
ولقد كان المضمون المشترك في كل الأديان السماوية هو التوحيد ، فجاءت أرقى وأكمل صيغة للتوحيد في سورة الاخلاص ( قل هو الله أحد . الله الصمد لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد ) . ثم أضافت التوراة إلى التوحيد الوصايا العشر . تبدأ " إني أنا الباقي إلهكم الذي أخرجكم من مصرمنزل عبودتكم فلا تتخذوا آلهةً غيري " ثم لاتشرك بي شيئاً . لاتعمل في اليوم السابع . أكرم اباك وأمك ... لاتقتل . لاتزن . لاتسرق . لاتشهد على قريبك شهادة زور . لاتسلب مال قريبك . لاتشته زوجة قريبك ( سفر الخروج . اصحاح 20 الآيات : 2- 17 ) . انها الوصايا إلى المجتمع القبلي تحمل بصماته حين يقتصر التحريم على مايضير الأقارب وحين يقتصر العمل على ستة أيام وهو تقليد قبلي سابق على رسالة موسى .
فجاء المسيح عليه السلام لينزع عن تلك الوصايا لباسها القبلي ويحيلها إلىمواقف " روحية " مجردة من كل مايتصل بظروف الحياة على الأرض . حولها إلى مثل عليا من القيم الانسانية غير متوقفة على ظروف الانسان . قال : " قد سمعتم أنه قيل للقدماء لاتقتل . ومن قتل يكون مستوجب الحكم . وأمَا أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم " .... " قد سمعتم إنه قيل للقدماء لاتزن ، وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى إمرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه . فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك " .... " أيضاً سمعتم أنه قيل للقدماء لاتحنث بل أوف للرب أقسامك . وأما أنا فأقول لكم لاتحلفوا البتة " .... " سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن . وأما أنافأقول لكم لاتقاوموا الشر . بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً " .... " سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك . وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم . باركوا لاعنيكم " ... الخ .( انجيل متى . اصحاح 5 آية : 21-48 ) . في الآية الأخيرة من الاصحاح يحدد المسيح عليه السلام غاية الوصايا بأنها الكمال الالهي . " فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل " .
جاءت الوصايا العشر هذه في القرآن نظاماً للتعامل بين الناس في حياة إنسانية واقعية . لاقبلية ولا تجريدية. جاءت متتابعة في ثلاث آيات من سورة الأنعام : ( قل تعالوا أتل ماحرَم ربكم ،عليكم ( 1 ) ألا تشركوا به شيئاً (2) وبالوالدين إحساناً ( 3 ) ولاتقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم (4) ولا تقربوا الفواحش ماظهر منها وما بطن ( 5 ) ولاتقتلوا النفس التي حرَم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( 6) ولاتقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشَده ( 7 ) وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، لانكلف نفساً إلا وسعها ( 8) وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ( 9) وبعهد الله أوفوا ، ذلكم وصاكم به لعلَكم تذكَرون
(10 ) وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) .
الآيات : ( 151،152،153) .
21 ـ وكان لابد - لكي يكتمل الدين انتماء كما اكتمل مضموناً - من أن يكون الاسلام رسالة إلى الناس كافة ومفتوحاً لانتماء الناس جميعاً بصرف النظر عن انتماءاتهم الاسرية أو العشائرية أو القبلية أو الشعوبية أو القومية . وقد كان . ( قل ياأيها الناس اني رسول الله اليكم جميعاً ) { الأعراف : 158 } . ( وما ارسلناك إلا كافة للناس ) { سبأ : 28 } . هذا هو الجديد على الانسانية مما جاء به الاسلام . ليس دقيقاً فيما نرى _ مايقال من أن الاسلام متميز عن غيره من الاديان بالتوحيد . فقد علَمنا القرآن أن كل الرسل والانبياء كانوا يدعون أقوامهم إلى عبادة الله وحده وينفون الشرك في كل مظاهره الفكرية والوثنية ، كما أن قواعد التعامل فيمابين المؤمنين كما جاءت في القرآن لم تكن جديدة على الأديان وإن كانت أكثر اكتمالاً . إنما الذي يميز الاسلام حقاً هو ما حقق به آخر وأرقى مراحل تطور علاقة الانتماء الديني . وحدة البشر في الدين في كل مكان وفي كل زمان لتتسق مرة واحدة وإلى الأبد ، وحدة الدين مع وحدة الكون مع وحدة البشر . وليس أبلغ ولاأروع من التدليل على لزوم هذا الاتساق لصالح البشر ، وعلى أنه مناط الصلاح في الكون ، من أن الله يتخذه حجة ً على وحدانيته ( لو كان فيهما آلهة إلآ الله لفسدتا ) { الانبياء : 22 } .
أمـــة الاســـلام :
22 ـ الاسلام ، إذن ، ليس مجرد دين . انه على اليقين ليس دين أية أسرة أو أية عشيرة أو أية قبيلة أو أي شعب أو أية أمة . إنه دين الناس كافة فهو ليس دين أية جماعة من الناس خاصة ، ولو كانوا جماعة من المسلمين . هذه السمة الخاصة بالاسلام هي التى أنشأت مابين الاسلام خاصة والأمة العربية خاصة علاقة خاصة لامثيل لها - فيما نعرف من تاريخ الأمم والأديان - بين أي دين وأية أمة . وإنا لنأخذ من هذه العلاقة الخاصة مايوفر لنا الحق في أن نقول ان الأمة العربية ، دون الأمم جميعاً ، هي " أمة الاسلام " . لانعني بهذا التعبير أن الاسلام دين الأمة العربية خاصة ، بل نعني به أن الأمة العربية هي الأمة التي أوجدها الاسلام ولم تكن موجودة من قبله ، وإنها تتميز بهذا عن بقية الأمم ولو كانت أمماً مسلمة .
كيف ؟
نذكر قبل الجواب بأننا نستعمل كلمة " أمة " فيما يلي من حديث بمعناها القومي الحديث للدلالة على " مجتمع
ذي حضارة متميزة ، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة ، تكوَن نتيجة تطور تاريخي مشترك " . فالأمة كما نعنيها طور من التكوين الاجتماعي أرقى من الطور القبلي والطور الشعوبي كليهما . قد نرى فيما بعد كيف كان ذلك ولكن يكفينا الآن الا يفهم أحد غير مانعنيه .
23 ـ خلال احقاب طويلة من الهجرة والصراع سابقة على ظهور الاسلام كانت قد استقرت مجتمعات قبلية متجاورة في رقعة من الأرض التي يحدها من الشمال البحر الأبيض المتوسط وجبال طوروس ، ومن الشرق إيران والخليج العربي ، ومن الجنوب المحيط الهندي ، فهضبة الحبشة ، فالصحراء الأفريقية الكبرى ، ومن الغرب المحيط الأطلسي . كان كل من تلك المجتمعات القبلية متميزاً عن غيره بما ورثه من العهد القبلي ، أي بالأصل الخاص واللغة الخاصة والحياة الاقتصادية الخاصة ، وتراث خاص من الثقافة والعقائد والتقاليد ، والشعور بالانتماء القبلي . وحينما استقر كل منها في مكانه أصبح " شعباً " ودخل كل منها - منفرداً - مرحلة التكوين القومي . التفاعل الحر بين الشعب والأرض المعينة لفترة تاريخية تنشىء من التفاعل حضارة قومية فتكتمل الأمة وجوداً . ولو طال الاستقرار بتلك الجماعات الشعوبية لتطورت أمماً متميزة . غير أن الاستقرار لم يطل بأية جماعة منها حتى تكون أمة . ولم يطل بها جميعاً حتى تتكون أمماً متجاورة . فقد اجتاحتها موجات متعاقبة كاسحة من الغزو الخارجي إما من وسط أفريقيا ، أو من أوروبا ، أو من آسيا . كما أن موجات الهجرة الداخلية ، السلمية والمقاتلة ، لم تنقطع عابرة بها ومستقرة فيها . وكانت فترات الغزو تعطل نموها وتعوق تكوينها القومي بما تعيد من تكوينها البشري : إضافة من الغزاة أو نقصاً بالابادة أو الطرد ، وبما تسببه من انقطاع في اختصاص كل شعب بأرض معينة اضافة بضم أرض جديدة أو نقصاً بالطرد من الأرض ، وبما أدى إليه كل هذا من عدم توفر التفاعل الحر بين الشعب والأرض مرحلة تاريخية كافية لتنأ وتكتمل حضارة قومية . فما أن ينحسر الغزاة أو يستقروا لينشط التكوين القومي حتى تدهمها - كلها أو بعضها - موجة غازية أخرى . وأستمر هذا الوضع : فترات متتابعة من الاستقرار فالاضطراب فالغزو فالاحتلال فالاستقرار ....الخ ، تحبس نمو تلك الشعوب والجماعات دون اكتمال الوجود القومي ، حتى ظهر الاسلام .
24 ـ وعنما ظهر الاسلام لم تكن أية جماعة من تلك الجماعات قد تكونت أمة . ولكنها كانت قد غادرت مرحلتي التكوين الأسري والعشائري . ثم لم تتسق تطوراً . كان أغلبها قد أصبح شعوباً متجاوزة الطور القبلي ولكن كان من بينها من لايزال في الطور القبلي لم يرق إلى مابعده . فهي ، جملة ، كانت إما شعوباً وإما قبائل . ولقد جاء في القرآن مايشير إلى هذه القسمة الثنائية للمجتمعات في الجزيرة العربية بين طورين اثنين من أطوار التكوين الاجتماعي : القبيلة والشعب . ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) { الحجرات : 13 } .
أما الذين كانوا ، عند ظهور الاسلام ، فقد تجاوزوا الطور القبلي واستقروا شعوباً فقد كان منهم الحميريون في جنوب الجزيرة العربية . كان منهم من يعتنقون الديانة اليهودية ، وكان من بينهم كثير من المسيحيين فلَما أن اسرف ملكهم ذو نواس في اضطهاد المسيحيين استفاث أولئك باقربائهم من الحميريين الذين كانوا قد عبروا البحر الاحمر إلى الحبشة وحولوها إلى مملكة مسيحية . فاستجاب الاحباش إلى دعوتهم واغاثوهم وهزموا ملوك الحميريين ( عام 552 م) واجلسوا على العرش أسرة حبشية متحالفة مع جستنيان ، الامبراطور الروماني. فرد الفرس بأن تحالفوا مع ملوك جمير المعزولين ، وطردوا الاحباش ، وأقاموا في اليمن حكماً فارسياً ( 575 م ) . فاستقر الناس " شعباً " وظلوا هكذا لم يتطوروا إلى أمة بفعل خضوعهم للسيطرة الفارسية ، إلى أن ظهر الاسلام .
وفي شمال الجزيرة العربية كانت القبائل العربية من بني غسان قد استقرت في الجزء الشمالي الغربي وما يحيط بتدمر في سورية ، منذ القرن الثالث الميلادي ، وأقاموا حكماً تحت سيادة الولة البيزنطية ، فتحولوا بالاستقرار على أرض معينة إلى " شعب " ، وظلوا هكذا لم يتطوروا إلى أمة بفعل خضوعهم للسيطرة البيزنطية ، إلى أن ظهر الاسلام .
أما في الجزء الشمالي الشرقي ، فإن القبائل العربية من بني لخم كانوا قد استقروا على الأرض الخصبة فيما كان يعرف باسم " العراق العربي " ؛ وأقاموا حكماً في " الحيرة " على نهر الفرات ، تحت السيطرة الفارسية ، فتحولوا بالاستقرار على الأرض إلى " شعب " ، وظلوا هكذا لم يتطوروا إلى أمة بفعل سيطرة الامبراطورية الفارسية ، إلى أن ظهر الاسلام .
وكان الناس فيما بقي من سورية وفلسطين ثم مصر ، وغرباً حتى شاطىء المحيط الاطلسي ، مستقرين شعوباً متجاورة على الأرض ، وعبيداً ( بمعنى الكلمة ) للرومان منذ قرون عديدة . ولقد بلغت عبوديتهم التي كرسها القانون الروماني أن كان للسادة الرومان في تلك الاقطار مدن خاصة بهم محرَمة على غيرهم من السكان ، تأكيداً لعزلة السادة عن العبيد . منها مدينة " أنتيموبوليس " التي بناها في مصر الامبراطور الروماني هادريان الذي حكم عام 130 م . فاستقرت تلك الجماعات شعوباً ، ولكن أياً منها لم يتطور إلى أمة بحكم سيطرة الامبراطورية الرومانية ، إلى أن ظهر الاسلام .
أما ماتبقَى مما نعرفه الآن بالوطن العربي فكان عامراً بمجتمعات قبلية لم ترق بعد حتى إلى مستوى الشعوب ولم يكن تجمَع بعض القبائل حول الواحات الكبيرة أو الصغيرة أو عند ملتقى طرق القوافل التجارية أو في المناطق الجبلية الوعرة سواء في الجزيرة العربية أو في شمال العراق مما كان يعرف باسم " ميزو بوتاما " أو في مشارف صحراء أفريقيا الكبرى ذا أثر في تكوينها القبليَ . فقد كانوا يتجاورون إقامة أكثر دواما من القبائل الجائلة ، ولكن كقبائل متميزة ، كما كان الأمر في يثرب . ويتلاقون تجارة ، ولكن كقبائل متميزة ، كما كان الأمر في مكة . وكانوا في كل مرة لايكفون عن الحروب القبلية ، أو لايكادون يكفون ، إلى درجة أنهم - من أجل إتاحة فرصة لاتمام الصفقات التجارية بدون قتال - تواصوا بتحريم القتال في مناطق التبادل التجاري في أشهر معدودة من السنة ، ماأن تنتهي حتى يعودوا جميعاً ، بعد تلك الهدنة الاستثنائية ، الى القاعدة القبلية : التضامن بين أفراد القبيلة ظالمين أو مظلومين والعداء للقبائل الأخرى بسبب أو بدون سبب .
25 ـ من بين تلك القبائل العربية كانت قريش قبيلة في مكة . حملت اسم جدها " فهر " الذي كان تاجراً فلقب بقريش ، أي التاجر باللغة التي كانت سائدة في القرن الثالث الميلادي . ومن بني فهر كان قصيَ الذي توفي عام 480 م . ومن بني قصيَ كان هاشم الذي توفي عام 510 م . من بني هاشم اولئك كان محمد ابن عبد الله الذي اختاره الله ليبلغ رسالة الاسلام الى الناس جميعا 0 عام 610 م ) . ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) { الأنعام : 124 } .
26 ـ بعد مرحلة تكوين واعداد ومعاناة لنشر الدعوة في مكة بدأ انتشار الاسلام من المدينة يحمله المسلمون إلى الكافة . ومن المدينة بدأت مسيرة الثورة " الحضارية الاسلامية " . إن في هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة ( 24 ايلول / سبتمبر 622م ) من شجاعة اتخاذ القرار وحكمة التدبير ومهارة الأداء ما افاض في بيانه أغلب الذين تحدثوا عن الهجرة . وفي هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة من عمق الايمان وثراء التضحية ومغالبة النفس ماحفظ للمهاجرين ، على مدى التاريخ ، مااستحقوه من فضل القدوة . ولايزال المؤرخون ذاكريه . ثم أن الهجرة قد حققت للمؤمنين خلاص أنفسهم من اضطهاد قريش فأتاحت لهم الأمن على الدعوة وعلى أنفسهم . كل هذا متاح لمن يريد معرفة المزيد في كتب السيرة والتاريخ . ننتبه نحن إلى مايتصل منه بموضوع هذا الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام : التأثير الحضاري للاسلام في تطور التكوين الاجتماعي .
27 ـ يعلم كل المسلمين المحيطين بالسيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد آخى في المدينة بين المهاجرين والأنصار ( عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري ) وغيرهما . وبين المهاجرين بعضهم مع بعض ( بينه عليه السلام وبين عليَ ، وبين أبي بكر وعمر ، وبين طلحة والزبير ، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان ) وأن المؤاخاة كانت سبباً مشروعاً للمشاركة في المال والأرض وأسباب الحياة وحفظها . ولقد فعل الرسول ماهو اكثر من هذا أثراً في الوثيقة المسمَاة " الصحيفة " . سنورد نصها كاملاً فيما يلي ، ولكنَا ننبَه منذ الآن إلى أنها وثيقة تستحق كل الانتباه ، لأننا سنعود اليها في أكثر من موضع آت من هذا الحديث . ثم إنها - عندنا - شهادة ميلاد الأمة العربية .
أول دسـتور :
28 ـ تقول الصحيفة : " بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ( اسم المدينة في الجاهلية ) ومن تبعهم ، فلحق بهم ، فجاهد معهم ، انهم أمة واحدة من دون الناس . المهاجرون من قريش على ربعتهم ( أمرهم ) يتعاقلون بينهم ( يشتركون في المسؤولية ) وهم يفدون عانيهم ( أسيرهم ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين . وبنو عوف على ربعتهم ، يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ( وذكر مثل هذا بالنسبة إلى بني ساعدة ، وبني جشم ، وبني النجار ، وبني عمرو بن عوف ، وبني النبيت ، وبني الأوس ) ثم قال :
"وإن المؤمنين لايتركون مفرجاً ( مثقلاً بالدين ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل . ولايحالف مؤمن مولى مؤمن دونه ( من أسلم على يديه ) ، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم ، أو ابتغى دسيعة ظلم ( طلب بدون حق ) ، أو أثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين . وإن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم . ولا يقتل مؤمن في كافر ، ولاينصر كافر على مؤمن ، وأن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس . وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم . وأن سلم المؤمنين واحدة ، لايسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله ، إلا على سواء وعدل بينهم . وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً ، وان المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله ( يعني أن دماءهم متكافئة ويثأر بعضهم لبعض ) . وان المتقين على أحسن هدى وأقومه ، وأنه لايجير مشرك مالاً لقريش ، ولانفساً ، ولايحول دونه على مؤمن . وانه من اعتبط ( قتل بدون ذنب ) مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به ، إلا أن يرضى ولي المقتول وان المؤمنين عليه كافة ، ولايحل لهم إلا قيام عليه ، وأنه لايحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينصر محدثاً ولايؤويه ، وانه من نصره أو آواه ، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولايؤخذ منه صرف ( توبة ) ولاعدل ( فدية ) ، وانكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مردَه إلى الله وإلى محمد " .
29 ـ " وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين . وان يهود بني عوف أمة مع المؤمنين . لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لايوتغ ( يهلك ) إلا نفسه وأهل بيته . وان ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف ( وذكر مثل هذا بالنسبة الى يهود بني الحارث ، وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني الأوس ، وبني ثعلبة ، وبني جفنة ) وان جفنة بطن من ثعلبة . وان بطانة يهود كأنفسهم ، وان البر دون الاثم ، وان موالي ثعلبة كأنفسهم ، وأنه لايخرج منهم أحد إلا بإذن محمد . وأنه لاينحجز على ثأر جرح ، وأنه من فتك فبنفسه ، إلا من ظلم ، وان الله على أبر هذا ( شاهد على صدقه ) .
30 ـ وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ، وأن بينهم النصر على من حارب اهل هذه الصحيفة ، وان بينهم النصح والنصيحة ، والبر دون الاثم . وانه لن يأثم امرؤ بحليفه ، وان النصر للمظلوم ... وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة . وان الجار كالنفس غير مضاَر ولا آثم وانه لاتجار حرمة إلا بإذن أهلها . وأنه ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَه إلى الله عز وجلَ ، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وان الله على اتقى مافي هذه الصحيفة وأبَره ، وانه لاتجار قريش ولامن نصرها ، وان بينهم النصر على من دهم يثرب . وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه ، واتهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين ، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم . وان ليهود الأوس مواليهم وأنفسهم مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البَر الحسن من أهل هذه الصحيفة . وان البر دون الاثم ، لايكسب كاسب الا على نفسه .
31 ـ " وان الله على أصدق مافي هذه الصحيفة وأبرَه ، وانه لايحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم . وانه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة الا من ظلم او اثم . وان الله جار لمن برَ واتَقى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم " .
32 ـ إن هذه الوثيقة ليست قرآناً ولكنها وضعت في ظل القرآن . وهي ليست عقداً في المعاملات ولكنها نظام للحياة . إنها " دستور " بكل المعنى الحديث لكلمة دستور . ولعلها أن تكون أول دستور وضعي عرفته البشرية . وإنا لنعرف من تاريخ القوانين الموضوعة الالواح الاثنى عشر في روما ( عام 450 قبل الميلاد ) وقبلها بقرنين أو أقل قليلاً ( 620 قبل الميلاد ) وضع دراكون قانونه في أثينا ، وقبله بنحو خمسة عشر عاماً ( 2000قبل الميلاد ) كان قانون حمورابي ، ولكنها جميعاً كانت بالمفهوم الحديث للشرائع قوانين ولم تكن دساتير . إذ كانت تنظم المعاملات بين الناس ولم تكن " نظاماً " للحياة . ثم نلاحظ - أولاً - أنها وثيقة نظام مجتمع من المسلمين ومن غير المسلمين على أسس الحياة المشتركة بينهم جميعاً . و - ثانياً - أن مصدر قوتها الملزمة واستمرارها هو قبولها واستمرار قبولها ممن تنظم حياتهم . و - وثالثاً - أنها تنظم تلك الحياة المشتركة في منطقة جغرافية واحدة هي المدينة . و - رابعاً - انها تنظم المعاملات فيما بين المومنين ( فقرة (28 ) ثم فيما بين اليهود ( فقرة 29 ) ثم فيما بين المؤمنين واليهود وتسميهم معاً " أهل الصحيفة " فتشركهم في المدينة بدون تفرقة ، ثم تلزمهم بالدفاع عن المدينة بدون تفرقة ( فقرة 30 ) . و - خامساً - وأخيراً فإنها تقيم على المدينة حاكماً هو النبي صلى الله عليه وسلم ارتضاه اهل الصحيفة ليرعى الالتزام بها ويفرض احكامها ، بقوة أهل المدينة جميعاً ، على من يخرج على دستورها .
إننا هنا في مواجهة طور جديد من المجتمعات لم تعرفه القبائل العربية في وسط الجزيرة من قبل . هناك تكوَن لأول مرة في تلك البقاع " شعب " تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين ولكن يتوحد الناي فيه ، مع اختلاف الدين ، في علاقة انتماء جديدة . علاقة انتماء إلى أرض مشتركة . علاقة انتماء إلى " وطن " . فترقى العلاقة الجديدة بالناس جميعاً ( أهل الصحيفة وأهل المدينة ) إلى مافوق الطور القبلي . وهناك استقر الناس في وطنهم ، على أرضهم ، ولم يعودوا إلى العلاقات القبلية مرة أخرى قطَ . وهناك سيكون جزاء محاولة نقض العلاقة الجديدة بالوطن والعودة إلى العلاقات القبلية النفي من أرض الوطن . ولقد استحق الجزاء بنو قينقاع وبنو النضير . واستحقه بنو قريظة . جزاء خيانتهم جميعاً في معارك الدفاع المشترك عن الوطن المشترك " المدينة " .
وهناك سيتحدث القرآن عن المؤمنين ، لاجملة ً ، بل حسب انتمائهم . فاما مؤمنون ينتمون إلىقبائل (الأعراب) ، وإما مؤمنون ينتمون إلى شعب " أهل المدينة " . ( ماكان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) { التوبة : 120 } . وهناك سيتحدث القرآن عن المنافقين ، لاجملة ، بل حسب انتمائهم . فاما منافقون ينتمون إلى قبائل " الأعراب " وإما منافقون ينتمون إلى شعب " أهل المدينة " . ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ) { التوبة : 101 } . وأن تلك لثورة حضارية لامثيل لها فيما سبقها من حضارات وثورات ، لالمجرد أنها كانت سلمية وهي ثورية ، ةلالمجرد أنها ارتقت طفرة بمجتمعات قبلية عريقة في العصبية ، إلى شعب قبل في صحيفته ( دستوره ) أن تقطع العلاقات والروابط القبلية في بني عوف ، وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني النجار ، وبني أوس ، فيصبح المؤمنون من تلك القبائل مع المؤمنين ، ويخضعون معهم لنظام معاملات واحد ، ويبقى الشطر الثاني منهم جميعاً ، ينظمون معاملاتهم على ماكانوا . ليست العلاقات القبلية هي وحدها التي قطعت لتفسح مكاناً حضارياًلعلاقة الانتماء الشعبي إلى الوطن ، بل قطعت العلاقات العشائرية ، والأسرية ، والزوجية ، والأبوة ، والبنوَة ، والأخوة . فوق هذا وذاك ، وأكثر منه دلالة على الطفرة الحضارية ، إن تلك العلاقات الجديدة قد شملت العلاقة الدينية في الوطن كما شمل شعب المدينة المسلمين وغير المسلمين ، بدون ان يعوق ذلك تجاوز العلاقة الدينية العلاقة الوطنية إلى الناس جميعاً . ففي الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسوس شعب المدينة بما جاء في الصحيفة ، كان يبعث عبد الله بن حذافة السهمي برسالة ‘لى كسرى امبراطور فارس ، وحاطب بن أبي بلتعة إلى القوقس عظيم القبط في مصر ، ودحية الكلبي إلى هرقل امبراطور الروم ، وعمروبن امية الضمَري إلى النجاشي ملك الحبشة يدعوهم جميعاً إلى الاسلام . الاسلام الذي تطورت به القبائل إلى شعب وتعايشت فيه الأديان ، وسوى بين الناس على أساس ماأرتضوه من دستور في المدينة .
وإنا لندرك أبعاد تلك الثورة الحضارية إذا مالاحظنا أنَ جزءاً كبيراً من البشر في أفريقيا وأستراليا وجنوب شرق آسيا مايزالون حتى اليوم يعيشون في الطور القبلي بالرغم من محاولات تطوير القبائل إلى شعوب عن طريق حصرهم على أرض واحدة وحصارهم داخل حدود دولة واحدة .
33 ـ وهناك بدأت الأمة العربية جنيناً في رحم اول مجتمع ( شعب ) أوجدته ثورة الاسلام الحضارية ، ولدت فيه ، ونمت معه ، واكتملت أمة عربية به ، فقد فتح المسلمون مكة عام 630 م وقضوا على القبائل المرتدة في عهد أبي بكر ، ثم ماان جاء عام 633 حتى كانت كل القبائل والشعوب في الجزيرة العربية قد توحدوا في شعب واحد ، وفتحت دمشق عام 635 م ، وبيت القدس عام 638 م وما بقي من الشام قبل نهاية عام 640 م ، وقبل أن ينتهي عام 643 كان قد تم فتح مصر وفارس . وفتحت برقة 670 م وامتد الفتح حتى شمل المغرب العربي كله 698م ، ومن هناك تم فتح اسبانيا ( الأندلس ) عام 671 م .
34 ـ وإنا لنعلم أن الفتح الاسلامي قد امتد شرقاً وجنوباً إلى أبعد من فارس ، وانه قد شمل قبرص ورودس ( 652-655 م ) وكورسيكا ( 809 م ) وسردينيا ( 810 م ) وكريت ( 810 م ) وصقلية ( 832 م ) ومالطة ( 870 م ) ...الخ . غير أننا نكتفي بماسبق لأنه يلزم ، ويكفي ، لمعرفة كيف كوَن الاسلام الامة العربية وهو يفتح تلك الاقطار منطلقا من المدينة إلى كل الاتجاهات . إلا أنَ هذا لايغني عن معرفة مايلزمنا من مد إسلامي جاء من خارج الأرض العربية متجهاً اليها .
35 ـ ففي القرن السادس الميلادي انطلقت مجموعات قبلية تركية من شمال وسط آسيا حيث إقليم بحيرة بيكال نحو الغرب . كانت كل مجموعة تحت قيادة " خان " . ومازالوا يتقدمون مقاتلين حتى استولوا على فارس بقيادة طغرل بك ، وأرسلوا وفداً إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله يبلغونه أنهم مسلمون ، فاتصل بهم واتصلوا به ( 1055 م ) . بعد هذا التاريخ بقرنين تقريباً ، أي في مستهل القرن الثالث عشر ، اكتسحت العالم المعروف حينئذ ، موجة مغولية تتارية أخرى بقيادة جنكيز خان ، فاستولت على الصين وفارس وتركستان وأرمينيا والهند حتى لاهور ، وروسيا والمجر وبولندا حتى سيليزيا ( 1241 م ) . واجتاحت العراق وسورية وفلسطين ولم تنكسر موجاتهم القبلية الغازية المخربة إلا عام 1260 حين هزمهم جيش عربي بقيادة حاكم مصر ، الظاهر بيبرس ، في معركة عين جالوت . وكانت تلك نهايتهم . غير أن آثارهم لم تنته . فقد دفعت موجاتهم الكاسحة إحدى القبائل التركية ، عرفت فيما بعد بالأتراك العثمانيين من تركستان فاستولوا على آسيا الصغرى ( تركيا الحالية ) ثم عبروا مضيق الدردنيل إلى مقدونيا والصرب وبلغاريا وفتحوا القسطنطينية ثم انثنوا إلى الأرض العربية وغزوها واستولوا على الحكم في الامبراطورية الاسلامية التي عرفت منذ ذلك الحين ( 1506 - 1918 م ) بالامبراطورية العثمانية .
36 ـ يكفي ماسبق ويزيد فنقول : عندما توقف المد الاسلامي كان قد ضم اليه مجتمعات مختلفة في درجة تكوينها الاجتماعي ، وبالتالي كان أثره الحضاري في كل منها مختلفاً طانت منها مجتمعات تجاوزت الطور القبلي والشعوبي وكونت حضارتها القومية . مثالها فارس وأسبانيا .
فقد كانت فارس موحدة شعباً منذ أن حكمها أردشير ( 226 م ) حكماً مركزياً بيروقراطيا كثير الفروع واعاد اليها الديانة القومية ( الزرادشتية ) وقاد الشعب الفارسي لاسترداد الاقاليم التي كان الاسكندر الأكبر قد استولى عليها ، وكانت ماتزال تحت حكم الملوك الأكمينيين . وقد استردها فعلاً ووحد الفرس ارضا وشعباً من نهر جيجون في الشمال إلى العراق في الغرب . وفي عهد خسرو الأول 0 531 - 579 م ) المعروف باسم كسرى أنو شروان كان الشعب الفارسي يتمتع بنظام دقيق للرَي والسدود ، ويمتلك جيشاً نظامياً ومجموعة من القوانين العامة وكانت الحضارة الفارسية قد قاربت أوج ازدهارها . ثم جاء الاسلام وفتح فارس في عهد يزدجر الثالث عام ( 634 م) بعد أربعة قرون من استقرار الشعب الفارسي على أرضه وتفاعله معها تفاعلاً حراً أنتج حضارته الخاصة .
وفي اسبانيا كان الشعب الاسباني يوم الفتح الاسلامي عام ( 711 م) قد قضى نحو ثلاثة قرون من الاستقرار على أرضه والتفاعل معها منذ حكم الملك تيودوريك الثاني ( 456 م ) تفاعلاً حراً أنتج حضارته الخاصة .
أما فيما يعرف الآن باسم الوطن العربي فإن الاسلام ، بعد ان طور سكان الجزيرة العربية من قبائل إلى شعب عربي انطلق إلى ما يجاوره فا لتقى واختلط بمجتمعات كانت قد تجاوزت الطور القبلي واستقرت شعوباً وإن كانت السيطرة الفارسية والرومانية قد عوَقت تطورها فلم تنشأفي أي منها حضارة قومية ( كانت الحضارة الآشورية قد توقفت عن النمو منذ الغزو الفارسي ، وكانت الحضارة الفرعونية قد توقفت عن النمو منذ الغزو الروماني ) هذه الشعوب أكمل الاسلام تكوينها أمة واحدة : رفع عنها العبودية الفارسية والرومانية أولاً . ثم الغى فيما بينها الحدود ، ثانياً . ثم قدَم لها لغة مشتركة ثالثاً . ثم نظم الحياة فيها طبقاً لقواعد عامة واحدة ( القواعد الاسلامية ) رابعاً . ثم تركها تتفاعل تفاعلاً حراً مع الأرض المشتركة قروناً متصلة لم توجد خلالها سدود أو قيود على حرية الانتقال والمتاجرة والعمل والتعليم والتعلم . ثم جمها معاً لتدافع عن الأرض المشتركة في عين جالوت ، ثم على مدى قرن من الحروب المستمرة ضد الغزو الصليبي . ونحسب أن في ذاك القرن كانت الشعوب قد انصهرت في نيران المعارك فاكتملت الأمة تكويناً .
وهكذا صنع التاريخ الاسلامي من تلك الشعوب أمة واحدة هي الأمة العربية ، وصنعت الأمة العربية في ظله حضارتها العربية .
37 ـ بهذا تميزت الأمة العربية عن الأمم والشعوب الأخرى المسلمة . تميزت باللغة العربية ( لغة القرآن ) لغة قومية مشتركة واندثرت اللغات الشعوبية . هذا بينما لم تأخذ الأمة الفارسية من لغة القرآن إلا حروفها .
وقد حدث بعد قرنين من الفتح الاسلامي وعلى مدى نحو قرن كامل ، حينما تولت الأسرة السامانية ( 874 -999 م) الحكم في فارس أن عادت اللغة الفارسية إلى سابق وضعها كلغة قومية . أما الأمة الاسبانية فبعد فتح إسلامي استمر قروناً عدة لم تحتفظ لغتها القومية الا بمفردات محدودة من لغة القرآن . وتميزت الأمة العربية بوحدة الأرض التي أمتدت من حدود فارس وحدود تركيا وحدود اسبانيا ( الأندلس ) ، وحصرتها الصحراء والبحار من الجهات الأخرى ، حتى عندما كانت تلك الأرض ومعها فارس وتركيا واسبانيا تحت حكم الخلافة فقد كانت الأرض العربية ، منذ فتح مكة والجزيرة مقسمة إلى ولايات أو أقاليم على كل منها أمير ، ثم بعد ذلك وال أو سلطان يعينه - ولو اسميا - الخليفة ، ولم يحدث أبداً منذ الفتح الاسلامي حتى الاستعمار الاوروبي ان قامت بين تلك الولايات حدود أو سدود أو قيود . هذا في حين أن اسبانيا تحت الحكم الأموي قد استقلت بحدودها منذ ( 756 م) ، وأن فارس قد استقلت منذ أن استقل بها محمود ابن سبكتكين الغزنوي (998 -1030 م ) .
ولقد تصارع الخلفاء والحكام والامراء والولاة دهرا على السلطة في الأرض العربية التي أصبحت القاهرة ، بعد دمشق وبغداد ، عاصمة الخلافة فيها سواء كان الخليفة عباسيا قادما من الشرق أو فاطميا قادما من الغرب ولكن لم يحدث أبدا أن خليفة أو حاكما أو أميرا أو واليا قسَم الأرض أو البشر أو أراد تقسيمها ، بل كان طموح كل منهم ، حتى الفاشلين ، أن يكونوا حكاماً على تلك الأرض الواحدة . وفي هذه الأرض الواحدة انصهرت الشعوب ، حتى من خلال الصراع ، وتفاعلت فصنعت من أرضها ، وبلغتها ، انماطاً من الفكر والمذاهب والفن والعلم والتقاليد وعناصر الحياة الأخرى ما كان حضارة عربية خالصة حتى عندما كان الاسلام يطبع حضارتها وحضارات الأمم والشعوب الأخرى بطابع اسلامي مميز .
38 ـ ولن نلبث أن نرى أثر هذا حين تتفكك دولة الخلافة العثمانية . فيسفر العالم الاسلامي عن تلك الأمم التي دخلها الاسلام وهي أمم مكتملة التكوين ، فإذا بها هي هي ، كما كانت ، أمما متميزة بشعبها وأرضها ولغتها وحضارتها القومية الخاصة وإن كان الاسلام قد أضاف اليها حروف اللغة ، كما فعل في فارس وهذَب حضارتها القومية . ولكنه يسفر عن تلك الشعوب التي كان لكل منها لغة خاصة وثقافة خاصة عندما دخلها الاسلام لأول مرة ، فإذا بها شعب واحد يعيش على أرض خاصة ومشتركة ، ولغة واحدة وثقافة واحدة ، إذا بها قد اكتملت في خلال القرون التي قضتها معاً في ظل الاسلام أمة عربية واحدة .
اما المجتمعات القبلية من العثمانيين التي لم تستقر شعباً في تركيا الحديثة إلابعد أن كانت الامة العربية قد اكتملت تكوينا ، أو كادت ، فإنها ستأخذ من لغة القرآن حروفه ، ثم يضيق وعيها القبلي بعمق وثراء ورحابة الفكر الاسلامي العربي فتختار واحداً من المذاهب لتفرضه إسلاماً ( المذهب الحنفي ) فيبقى تراثها الاسلامي مذهبياً حنفياً . وعلى مدى قرنين ، قبل أن تكتمل أمة " طورانية " في أواخر القرن التاسع عشر ، كان نموها القومي يتم خلال تفاعل قوي ومؤثر تأثيراً مباشراً مع الحضارة الأوروبية الناهضة بقيمها الفردية وأفكارها الفردية وفلسفتها المادية . فما أن تكتمل أمة حتى تغالب حضارتها القومية الهجينة ماأضافه الاسلام اليها من عناصر حضارية ، فتتخلى عن مذهبها وتستبدل بالحروف العربية حروفا لاتينية وتنزع نزوعا شوفينيا ( مثل كل الحركات القومية الاوروبية في القرن التاسع عشر ) لتحويل الدولة المشتركة بين الترك والعرب إلى دولة تركية تفرض سيطرتها على الأمة العربية ، فتستجيب الأمة العربية للتحدي ، وتبدأ الحركة القومية العربية الحديثة مستهدفة دولة الوحدة العربية .
39 ـ تلك هي العلاقة التاريخية " الخاصة " بين الاسلام والأمة العربية . وهي علاقة جدلية ، انتهت إلى خلق جديد . فكانت الأمة العربية ثمرة تفاعل الاسلام مع تلك الشعوب والمجتمعات والجماعات ، وتفاعلها فيما بينها في ظل الاسلام وحمايته ، تفاعلاً انتهى إلى أن تكون شعباً عربياً واحداً بدلاً من شعوب متفرقة ، ووطناً عربياً واحداً بدلاً من اقاليم متعددة . واستمدت اسمها من تلك النواة التي بدأ بها التكوين القومي في الجزيرة العربية ، وحملت راية الاسلام إلى باقي الوطن العربي ، وقادت حركة التفاعل الخلاق الذي انتهى إلى أن تكون ، كما نحن ، أمة عربية . وما كان هذا ليحدث لولا التقاء أمرين في مرحلة تاريخية واحدة : الاسلام كثورة حضارية قادرة على التطوير والخلق ، والشعوب لم تكتمل أمماً ، فهي قابلة لأن تتطور ويخلق من جديد . ولم يكن أي الأمرين بمفرده بقادر على أن يخلق " الأمة العربية " وهكذا أسهم الاسلام في تكوين الأمة العربية . ولكنها عندما تكونت كانت وجوداً ذا خصائص متميزة عن العناصر التي التحمت معاً فكونتها . فهي " أمة عربية " وليست جماعة مسلمة من ناحية . وهي " أمة عربية " وليست امتداداً نامياً لأي شعب من الشعوب التي كانت من قبل ، ولاحتى لتلك النواة التي بدأت بها مرحلة التكوين القومي منذ ثلاثة عشر قرناً في قلب الجزيرة العربية .
40 ـ وهكذا لم يكن الاسلام ديناً فحسب ، بل كان ثورة اجتماعية ذات مضامين حضارية . أنشأت بينه وبين الأمة العربية علاقة عضوية تاريخية خاصة . ذلك أن الاسلام ، كثورة اجتماعية قد لعب دوراً أساسياً في تكوين الأمة العربية فما ينكر الوجود القومي للأمة العربية إلا من ينكر على الاسلام مضمونه الثوري الحضاري الذي أسهم في تكوين الأمة العربية . وما ينكر أن الأمة العربية " أمة الاسلام " - إذ قد أسهم في وجودها ولم تكن موجودة من قبله - إلا الذين يفرغون العروبة من حضارتها . والحق انه حيث نبحث عن حضارة اسلامية خالصة من الآثار الشعوبية لانجدها إلا في الحضارة العربية . وحيث نبحث عن حضارة عربية خالصة من الآثار القبلية لانجدها إلا في الحضارة الاسلامية . كذلك أصر الأكثر علماً بالتاريخ على التوحيد بين كلمة "مسلم " وكلمة " عربي " في الدلالة على الحركة الحضارية يوم أن كان العرب ينتصرون للاسلام فينتصر الاسلام لهم .
41 ـ وما تزال الأمة العربية تحمل ظواهر حضارية مميزة هي ذاتها ظواهر مميزة للحضارة الاسلامية ، إن تكن اللغة إحدى العناصر التي تؤثر تأثيراً في المضمون الفكري والفني والعلمي للحضارة ، وتطوع الآداب والعادات والتقاليد بما تتسع له من معان أو تضيق ، فإن العربية هي لغة القرآن ، كتاب الاسلام ، وهي في الوقت ذاته لغة الأمة العربية . ولانزيد حتى لانعيد مايقوله كل علماء اللغة والفلسفة والفن والاجتماع ، من دور اللغة في صياغة الحضارات . ولكنا نجتهد فنقول إن في الأمة العربية ظواهر حضارية لايمكن فهمها إلا على أساس من معرفة العلاقة الحضارية الخاصة بين الاسلام والأمة العربية . ولسنا نقصد بالظواهر الحضارية تلك التي يصطنعها الناس عامدين ، ولكنا نقصد بها ماتؤديه الشعوب على السجية وتقوم به كالعادة المستقرة ، بدون تدبير . ولسنا نقصد بها تلك الظواهر التي يحتاج إدراكها إلى علم المتخصصين . فإنا لانخاطب بهذا الحديث غير العربي المسلم البسيط . نخاطبه بما نحسب أنه يحسه من نفسه ولو لم يجهر به ، ولايحتاج في إدراكه إلى علماء ومعلمين . أما الراسخون في علم الحضارات فإنهم يعرفون مانقول كما يعرفون أبناءهم . لاهم في حاجة إلى حديثنا البسيط ، ولانحن في حاجة إلى أن نتحدث إليهم عما هم به عالمون ، فنزعم أن العربي على السجية يضع ذاته موضع السيادة من عناصر الوجود جميعاً . انه في علاقته بالأشياء والظواهر ، وفي تأثيره فيها وتأثره بها ، وفي محاولاته ، الناجحة أو الفاشلة ، في تطويعها لارادته ، ينطلق من وضع مفترض لايفكر حتى في تبريره ، هو أنه " كإنسان " افضل من كل الموجودات وأكرم ، وأنه سيدها وقائدها . آية ذلك ان أيا من المذاهب الفكرية التي تضع الانسان موضع التبعية لعناصر الوجود المادية لم تستطع أن تقنع العقل العربي بأن ينزل عن مكان السيادة والقيادة ، بالرغم من كل ما تقدمه من فلسفات ونظريات . يعبرون عن ذلك في مرسل القول بأن العربي متميز بالأنفة والكبرياء والعزة والكرامة ...الخ . فمن أين جاءته كل هذه القيم ؟ .. نعني القيم الحضارية . من الاسلام . إنها ثمرة التربية الطويلة على المنهج الاسلامي . أربعة عشر قرناً والشعب العربي يتعلم جيلاً بعد جيل ، ويوماً بعد يوم ، أنه في نطاق التأثير المتبادل بين الانسان والطبيعة المادية يكون الانسان هو الفاعل الصانع المغيَر المطوَر ، وتكون الطبيعة المادية موضوع فعله . ويستعمل القرآن تعبير " السخرة " للدلالة على هذه العلاقة . وهو تعبير قوي الدلالة على أن الانسان هو صانع واقعه المادي والقادر والمسؤول عن تغييره ( الم تر أن الله سخر لكم مافي الأرض ) { الحج : 65 } . ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً ) { الملك : 15 } . ( وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الانهار ) { إبراهيم : 32 } . ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) { النحل : 14 } . ( وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ) { إبراهيم : 33 } . ( وسخر لكم مافي السموات ومافي الأرض جميعاً ) { الجاثية : 13 } . . الخ
ويقطع القرآن بأن شيئاً من الواقع لن يتغير إلا إذا تغير الناس . فالانسان القائد هو البداية : ( إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) { الرعد : 11 } . إن هذه القيمة الحضارية ماتزال هي وحدها القادرة على تفسير بعض الظواهر المسلكية التي تبدو مقصورة على العرب . التطلع والتشبث بأهداف يقول غيرهم عنها إنها غير واقعية ، قياساً على الظروف المادية المتاحة آنياً ، تصاعد المقدرة على الاستمرار في التحدَي إذا جاءت البداية منتصرة ، تحوَل الهزائم إلى نقد لاذع واتهام فظيع يتبادلونه . وانهم ليتَهم بعضهم بعضاً بالعمالة والخيانة حين تحلَ بهم الهزيمة ، ويحمَل بعضهم بعضاً مسؤوليتها ، حتى قبل أن يتهموا من هزمهم بالعدوان والبغي . ويعجب بعض الناس من هؤلاء العرب غير الواقعيين الذين قالوا عام 1967 " لامفاوضة " وهم غير قادرين على القتال ، " ولاصلح " وأرضهم محتلة ، " ولا اعتراف " وهم يعرفون من الهزيمة ذاتها مدى ثقل الوجود الذي ينكرون الاعتراف به . ويعجب بعض الناس من هؤلاء العرب الذين لايكفون عن طلب الوحدة بالرغم من كل مابين حكوماتهم من صراع ، وبالرغم من أنَ الوحدة هدف لن ترضى به قوى العالم القادرة . ويعجب بعض الناس من هؤلاء العرب الذين لايتركون فرصة دون أن يتهم بعضهم بعضاً وهم يعلنون أن غاية صراعهم أن يتوحدوا . ثم يعجب بعض الناس من هؤلاء العرب الذين ما ان ينطلقوا منتصرين حتى يحققوا المعجزات بما فيها معجزة الوحدة .
إن وراء كلَ هذا قيمة أكثر ثباتاً في وجدان العربي من كل ظواهرها السلبية . إن كل شيء مسخر له كإنسان وهو قادر على تغييره ومسؤول عن هذا التغيير ، وإن الخضوع للظروف المادية أو الاتكال عليها أو اتهامها يعني انه يتخلَى عن ثقته بذاته كإنسان وبمقدرته ومسؤوليته . تعبيراً عن هذه القيمة لايفهم العربي كيف تكون الوحدة هدفاً غير واقعي بحجة أنَ الظروف لاتسمح بها مادام هو يريدها . ولايفهم كيف تعني الهزيمة الاستسلام مادام هو لايريده . ولايفهم كيف يمكن أن ينهزم بدون أن يكون إنسان غيره قد خان . وتعبيراً عن هذه القيمة ماأن ينتصر العربي - في أي ميدان - حتى يتقبل النصر على أنه استحقاق " طبيعي " له ، فيندفع إلى مزيد من محاولات الانتصار .... وهكذا لم يحتج العرب إلى أكثر من نصف قرن ليحملوا الاسلام دعوة وحضارة إلى أكثر العالم المعروف لهم . ولم يحتج العرب إلى وقت يذكر ليقفزوا إلى المراكز الاولى في الفلسفة والرياضة والطب والفلك والصناعة .... وكلها نشاطات حضارية لم يكن لهم بها علم قبل أن يبدأوها . إن قيل إنها قيم عربية صدق القول . وإن قيل انها قيم اسلامية صدق القول ، إذ الحضارة الاسلامية في وطننا هي الحضارة العربية ، لاتختلفان .
42 ـ ونزعم أن العربي على السجية يضع ذاته موضع المساواة مع أي عربي آخر ، مهما تكن الفروق بينهما في الثقافة أو الثروة أو الجاه أو المقدرة . ان يكن في الوضع الأدنى يعبر عن تمسكه بالمساواة بنقد واتهام اسباب التفوق حيناً والسخرية منها في بعض الأحيان .ولايعترف العربي للعربي أبداً باستحقاقه التفوق إلا حين يأمن أن ليس في هذا الاعتراف مايمسَ قيمة المساواة بين الناس . من اين جاءت هذه القيمة الحضارية العربية ..؟
... من الاسلام . لانقول لأن الاسلام يساوي بين الناس ولايمايز فيما بينهم تبعاً للاصول أو اللون أو الجنس ، وألا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ثم نقف ، بل نقول كيف ربى الاسلام الناس على المساواة حتى أصبح العربي على السجية يضع ذاته موضع المساواة مع أي عربي آخر ؟
نقول إن الشعب العربي هو اول شعب في تاريخ البشرية تعلم أن المساواة بين الناس لاتعني " المثلية " . لاتعني أن يكون كل واحد مثل أي واحد في العلم أو الفكر أو العمل أو الرزق ، بصرف النظر عما يكون بين الناس من تفاوت في المواهب والمقدرة الذاتية ، وإنما تعني المساواة أن تحكم العلاقات بين الناس ، كل الناس في المجتمع قواعد عامة ومجردة سابقة على نشأة تلك العلاقات . هكذا تعلَم الشعب العربي المساواة كما تعرفها البشرية الآن ولكن قبل أن يعرفها أي شعب بعشرة قرون على الأقل . وزاد فعرفها مقدسة لأنه تعلمها من كتاب الله المقدس . ولقد سبقت بعض الشعوب الشعب العربي إلى معرفة القوانين المكتوبة ، ولكنهاكانت كلها ، مجردة من فكرة المساواة . أولاً ، لأنها كانت ، كلها ، قوانين وضعها القادة والحاكمون لينظموا بها مسالك المقودين والمحكومين ولا يلتزمونها هم مسلكاً ، فلم تكن تساوي بين الحاكم والمحكوم . وثانياً ، لأنها كانت كلها تقر صراحة أو ضمناً عدم المساواة بين الناس . فجاء القرآن ليقول ( إنا انزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) { النساء : 105 } . ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ) { المائدة : 48 } . ( وان احكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم ) { المائدة : 49 } . ( ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون ) { المائدة : 44 } . ( ذلك حكم الله يحكم بينهم والله عليم حكيم ) { الممتحنة : 10 } .
في هذه الآيات البينات أحكام عدة ، منها أن محمداً بن عبد الله ، الصادق ، الأمين ، النبي ، الرسول ، القائد ، مأمور مثل غيره من عامة المسلمين بالتزام الدستور القرآني . ليس مباحاً لأحد ، ولو كان الرسول نفسه ، أن يستعلي أو يستثنى أو يخرج عن القواعد العامة التي تحكم العلاقات بين الناس كافة . إنها مانعرفه الآن باسم " المساواة أمام القانون " التي تساوي بين الناس من حيث هم بشر وان افترقت أعمالهم . على هذا تربى العرب ونمت حضارتهم على أنهم " سواسية كأسنان المشط " كما يقولون . وأصبح العربي على السجية ، غير مكره ، يضع ذاته موضع المساواة مع أي عربي آخر ، ولايقبل الاعتراف لأحد بالتفوق عليه إلا إذا أمن ألا يكون في هذا الاعتراف مساس بالمساواة بينهما . وعندما يكون التفوق متضمناً الاستعلاء يتهم أسبابه ولو اتهمها بأنها جاءت لصاحبها " صدفة " . أما إذا كان التفوق قوة مفروضة عليه فهو يرتاب ويكره حكامه لمجرد أنهم حكام ، إلى أن يطمئن إلى أنهم حكَام لديه وليسوا حكاَماً عليه . فإن كانوا حكاماً لديه أحبهم بدون تحفظ وغفر لهم مايرتكبون من ذنوب . إن قيل إنها قيم عربية صدق القول . وإن قيل اتها قيم إسلامية صدق القول . إذ الحضارة العربية في وطننا هي الحضارة الاسلامية ، لاتختلفان .
43 ـ ونزعم أن العربي على السجية لايعترف أبداً بأمانة الاثراء إذا لم يكن ثمرة عمل ، أو ميراثاً . إن كل ثروة لايعرف العربي مصدرها عملاً أو ميراثاً يبادر إلى اتهام أسباب الحصول عليها . أدنى مايعبر عنه إنكاراً لاستحقاق صاحبها لها قوله انها " ضربة حظ " . لايعرف كيف يكون الحظ مولداً للثروة . ولايهمه أن يعرف . ولكن هو يريد أن يقطع صلة الاستحقاق بينها وبين صاحبها مادامت قد جاءت إليه من غير عمل أو ميراث . من أين جاءت هذه القيمة ؟ نعني القيمة الحضارية . من الاسلام .
إذ ، لو جنينا الثروة حصيلة العمل وما قد يكون فيها من تفاوت تبعاً لتفاوت ملكات التفكير والتدبير والمهارة بين البشر ، ثم جنينا الثروة تؤول بالميراث ، كيف تأتي الثروة من غير عمل أو ميراث ؟ ... كيف يلد الجنيه جنيهاً و أكثر ؟ .... وكيف تتكاثر أرقام الثروة بدون تدخل من صاحبها ؟ نجيب : إنه الربا . وقد حرم الله الربا تحريماً قاطعاً :( ياأيها الذين آمنوا لاتأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ) { آل عمران : 130 } . فيقول المنافقون انه لم يحرم الربا إلا أن تكون " الفائدة " مركبة . فماذا يقول المنافقون في قوله تعالى : ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ، والله لايحب كل كفار أثيم ) { البقرة : 276 } . و ( الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) { البقرة : 275 } . و ( ياايها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) { البقرة : 278 ، 279 } . هكذا ربَى الاسلام الشعب العربي على أن كل ثروة من غير عمل أو ميراث قابلة للاتهام بأنها ربوية . وفي هذه الجزئية التقى بالتربية المسيحية في شعوب الشرق . فقد بقي الربا محرماً في المسيحية بالرغم من إباحة الكنيسة الكاثوليكية له منذ أن " باع " البابا انوسنت الرابع " فتواه " بإباحة الربا لينفق ثمنها على حروبه ضد الامبراطور فريدريك الثاني ، بعد أن كان قد اتهمه علناً باعتناق الاسلام خفية . وهكذا ظل الشعب العربي أربعة عشر قرناً يتعلم في مدرسة الاسلام الحضارية ، جيلاً بعد جيل ويوماً بعد يوم ، أن المال الذي يأتي بدون عمل أو ميراث ربا ، وأن المرابين اعداء الله ورسوله ، فكانت تلك القيمة الحضارية : لايعترف العربي على سجيته بأمانة الاثراء إذا لم تكن الثروة ثمرة عمل ، أو ميراثاً .
44 ـ ولقد أثرت هذه القيمة الحضارية بالذات في تاريخ الأمة العربية تأثيراً بالغ القوة ، وكانت عاملاً أساسياً في تشكيل الحياة العربية على مدى ثلاثة قرون من الزمان فلقد عايش الشعب العربي ، وعاش ، مرحلة النمو الرأسمالي حين بدأ تجارة يتبادل فيها الناسالبضائع والخدمات . وتاجر الشعب العربي على أوسع نطاق في البر والبحر ، وكانت الأرض العربية الطريق الوحيد بين أقصى الشرق وأقصى الغرب قبل أن يكتشف طريق رأس الرجاء الصالح . وحمل العرب إلى كل مكان ذهبوا إليه تجارة ، دعوة الاسلام .
كذلك كان الفتح الاسلامي لعقول وأفئدة عشرات الملايين في أقصى الشرق بعشرات الآلاف من التجار العرب : يبيعون ويشترون ويقايضون ويربحون ويخسرون وهم يدعون ويبشرون ويعلمون الناس ديناً يحرم الربا تحريماً قاطعاً ، فلا يرابون ولايتعاملون مع مرابين . حتى إذا بلغ النظام الرأسمالي أوجه حين تحول إلى نظام ربوي محض يسمونه " الرأسمالية المالية " وتحولت التجارة إلى " مضاربة " وتحولت الاجارة إلى استغلال ، وأبيح الغبن في العقود تحت ستار " حرية الارادة " .... توقف نمو النشاط العربي التجاري دون تلك المرحلة من نمو النظام الرأسمالي . لأن قيماً حضارية زرعها الاسلام في وجدان الشعب العربي حالت بينه وبين الربا " والمضاربة " والغرر والغبن والاستغلال . ولقد أتى على الأمة العربية حين من الدهر كان أعداء الاسلام يرجعون مايقولون عنه " سبب تخلفها " إلى أنها قد تعلمت من الاسلام ألا تقرض أو تقترض "بفائدة " ( أي أن ترابي ) وألا تضارب ( في البورصات ) ، وألا تعقد العقود الرابحة إذا أفسدها الغبن ، وإنها لاتريد أن تتخلى عما تعلمته ، وأنها بذلك قد حرمت نفسها من واحد من أهم أسباب التقدم ( الأوروبي ) . ولعل من بين الناس من يردد هذا القول حتى اليوم . وتجاهد كثير من الدول ، اليوم ، من اجل انتزاع الأمة العربية من جذورها الحضارية الاسلامية إلى حيث تكون شريكاً تابعاً في المؤسسة الربوية العالمية التي يسمونها " الامبريالية " وذلك عن طريق سد طرق الرزق الحلال بمؤسسات يسمونها البنوك تتاجر في المال ( النقد ) ولاتسمح لمن يريد أن ينشىء تجارة أو يفلح زراعة أويقيم صناعة أو يبني مساكن أو يفتح معاهد العلم أو يحقق رخاء ...... الخ ، إلا بعد أن يشترك معها في تجارتها المحرَمة : الربا .
على أن الاسلام قد حمى الأمة العربية حين احتمت الأمة العربية بقيمها الحضارية التي غرسها الاسلام فيها .
فلم تمتد للنظام الرأسمالي داخلها جذور يصعب اقتلاعها ، ولم تكن شريكة في عصابة الرأسماليين العالميين .
وإنَا لنحمد الله في الحالتين . في الحالة الأولى ، لأن الأمة العربية مهيأة للأنتقال إلى النظام الاشتراكي ، الذي جاء دواء تاريخياً شافياً من أمراض الانسانية التي نشر النظام الرأسمالي جراثيمها في الأرض ، بدون حاجة إلى جهد جهيد تقتلع به جذور الرأسمالية . وفي الحالة الثانية ، لأن الأمة العربية لم تشارك في المذابح البشرية التي أقامها الاستعمار الرأسمالي لشعوب الأرض ليشق بين تلال الجماجم طرقاً إلى حيث الفوائد الربوية ويربي بها الناس على تمجيد القوة بدون حق ، فبقي تاريخ الأمة العربية فذاً في طهارته من العدوان على الشعوب الأخرى . ولم يحدث في تاريخ الفتح العربي أن سخَرت جيوشهم لانتزاع ثروات الشعوب والعودة بها إلى الجزيرة العربية بدلاً من زرع بذور الثورة الحضارية الاسلامية والبقاء معها حتى تنمو وتثمر ، فنعرف من امر هذا العربي على السجية الذي لايعترف بأمانة الاثراء إذا لم تكن الثروة ثمرة عمل ، أو ميراثاً ، انه لايعترف للثروة بوظيفة الاستغلال ولا يعترف أبداً بأن القوة فوق الحق . وأنها لقيم حضارية . إن قيل عربية صدق القول . وإن قيل إسلامية صدق القول لأن الحضارة الاسلامية في وطننا هي الحضارة العربية ، لاتختلفان .
45 ـ نستطيع أن نضيف إلى ماسبق قيماً عربية كثيرة مثل : الشجاعة لاتخشى الموت لأن الأعمار بيد الله .
والنكوص عن المغامرة حفظاً للنفس من التهلكة ، والنجدة لوجوب الغوث ، والمشاركة الوجدانية للآخرين احتراماً للأخوة ، والعفو عند المقدرة بدون انكار لاستحقاق العقاب الذي قد يسمى تسامحاً ، وقد يسمى تفريطاً .
وليس هو أيهما ؛ إنما هو تعبير عن قيمة حضارية غرسها الاسلام في الوجدان العربي حين تعلم العربي من الاسلام أن الحياة الدنيا ليست هي الفرصة الوحيدة لعقاب المذنبين ... الخ . وهكذا كلما تتبعنا ثمرة حضارية يقال لها " عربية " نبحث عن فرعها ثم جذعها ثم جذرها ، نجد أنها من شجرة حضارية طيبة زرعها الاسلام ونَماها وحفظها حتى أثمرت . ولماذا لاتكون في الأرض العربية إلا شجرة الحضارة الاسلامية . لأن الأمة العربية لم تكن موجودة قبل الاسلام لاشعباً ولاوطناً ولاحضارة ، فلم تخالط القيم الاسلامية قيم قومية سابقة عليها ، وما هكذا كان شأن الاسلام في الأمم والشعوب الأخرى حيث كان الاسلام إضافة حضارية إلى حضارة قائمة ، فاختلطت القيم .
46 ـ الذين لايعرفون كل هذا قد يعرفون الأمة العربية وصفـاً ، ولكنهم يجهلون " كيف " تكَونت . أما الشعب العربي فيعرفها من نفسه حين تكون نفسه على السجيةبدون فعل أو افتعال ، فلا يقوم لدى الشعب العربي سبب ليتوهم أن عدم تشابه ، أو تعرض أو تناقض ، علاقة الانتماء إلى الاسلام وعلاقة الانتماء إلى العروبة بنفي العلاقة بين العروبة والاسلام حتى يستغنى بأحدهما عن الآخر . ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، فإن الشعب العربي في حاجة إلى الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام .
العـدوان :
47 ـ فهل يكون ذلك لأن الانتماء إلى الأمة العربية علاقة " قومية " والقومية عصبية تورث العداء للغير وتجر إلى العدوان ، وكل هذا يكرهه الاسلام وينهى عنه ؟ قد يكون . فإن ممن ينكرون الأمة العربية وجوداً والقومية علاقة انتماء ، ليتهمون القومية بأنها عدوانية ويسمونها " شوفينية " . ولو صح أن القومية عدوانية لكان على المسلم أن يعصم نفسه من الانتماء إليها ويعتصم بحبل الله . فقد حرم الله حتى الاتفاق سراً على العدوان . ( يأيها الذين آمنوا إذا تـناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ) { المجادلة : 9 } . وأمر المسلمين بأن لايساند بعضهم بعضاً فيه . ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ) { المائدة : 2 } . ولقد أباح لهم دفع العدوان بشرط ألا يكونوا هم البادئين به ، والا يبلغوا في دفعه إلا مايكفي لدفعه ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ماأعتدى عليكم ) { البقرة : 194 } . وألزمهم تلك الحدود حتى خلال القتال الذي قد يصعب في معمعته معرفة الحد بين العدوان والدفاع . ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ، إن الله لايحب المعتدين ) { البقرة : 190 } . ولكن من قال إن القومية عدوانية ؟ ولماذا قال ما قال ؟
كثير ، على رأسهم معلمهم ستالين الذي قال : " ليست الأمة مقولة تاريخية فحسب بل هي مقولة تاريخية خاصة بمرحلة تاريخية محددة هي مرحلة التكوين الرأسمالية ... فإن عملية تصفية الاقطاع ونمو الرأسمالية ، هي في الوقت ذاته عملية تكوين الناس في أمم " ( ستالين - المسألة القومية - صفحة 11 ) وهكذا ربط كل الماركسيين من تلامذة المدرسة الستالينية بين القومية والرأسمالية ( البرجوازية ) . ولما كان الماركسيون من أعلم الناس بالجوهر العدواني للنظام الرأسمالي فقد أدى هذا الربط الستاليني بين القومية والرأسمالية إلى ربط بين القومية والعدوانية . واستبدلوا بعلاقة الانتماء القومي إلى الأمة علاقة الانتماء الأممي إلى الطبقة العاملة ، وحذروا العمال من مخاطر نسبوها إلى القومية . قال بعض المحدثين منهم : " ينتمي العمال إلى قوميات مختلفة وأجناس مختلفة ولكن انتماءهم الأول يظل إلى الطبقة العاملة ، وهذا تحدده وحدة مصالحهم الأممية ، وأغراضهم ، ونظريتهم التي تتولى الصدارة لينزاح مادونها من أوجه الاختلاف إلى الوراء . وإذ يتحقق العمال الواعون سياسياً من أن النضال القومي والانعزال القومي يضران المصالح الأممية للطبقة العاملة ، يحاربون كل أنواع التمييز القومي " . أما كيف يكون النضال القومي ضاراً بمصالح الطبقة العاملة فذلك ، كما قالوا ، لأن " خطر القومية الأول يكمن في أنها تلهي العمال عن الصراع ضد عدوهم الطبقي . لقد تضافر الزمان والرجعية البرجوازية على تخطيط مؤقت لعرقلة الصراع الطبقي للطبقة العاملة بإشعال المشاعر القومية . هذا بالاضافة إلى أن انتشار الأفكار القومية والشوفينية يؤدي إلى تفكك وحدة الطبقة العاملة ، ويضر روابط التضامن الأممي ، وما لم تحارب القومية ، والشوفينية ، فإنها ستضعف حتماً حركة الطبقة العاملة " . فيجب إذن ألا ينسى العمال أن " الحركة الشيوعية أممية في ذات جوهرها " ( أسس الماركسية اللينينية -1963 ) .
هذا بعض ماقاله ويقوله بعض الماديين الذين حملتهم فلسفتهم المادية إلى موقف العداء من علاقة الانتماء القومي فاستبدلوا بها الانتماء إلى علاقات الانتاج .
48 ـ نريد أن نجرب إعادة صياغة ماقاله ، ويقوله ، الماديون إلى لغة قالها ، ويقولها ، الذين يريدون أن يستبدلوا بعلاقة الانتماء القومي إلى الأمة العربية علاقة الانتماء الديني إلى الاسلام . يمكن أن يقولوا هكذا : " ليست القومية مقولة تاريخية فحسب بل هي مقولة تاريخية خاصة بمرحلة تاريخية محددة هي مرحلة الجاهلية .. فإن عملية الصراع بين الناس على المراعي هي في الوقت ذاته عملية تكوين الناس في أقوام " لابد أن يكون القائل هذا في مرتبة الاستاذية ليقوم مقام ستالين ويترك للمريدين القول بأن : " ينتمي المسلمون إلى قوميات مختلفة وأجناس مختلفة ، ولكن انتماءهم الأول يظل إلى الأمة الاسلامية ، وهذا تحدده وحدة عقيدتهم الدينية ، ووحدة كتابهم الذي يتولى الصدارة ، لينزاح مادونهما من أوجه الاختلاف إلى الوراء . وإذ يتحقق المسلمون الواعون دينياً من أن النضال القومي والاستقلال القومي يضران المصالح العامة للمسلمين يحاربون كل أنواع التمييز القومي " . أما كيف يكون النضال القومي ضاراً بمصالح المسلمين ، فذلك ، كما يمكن أن يقولوا ، لأن : " خطر القومية الأول يكمن في أنها تلهي المسلمين عن الصراع ضد عدوهم الديني . لقد تضافر الزمان ، والكفرة الملحدون ، على تخطيط مؤقت لعرقلة الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الاسلام بإشعال المشاعر القومية . هذا بالاضافة إلى أن انتشار الافكار القومية والعصبية يؤدي إلى تفكك وحدة صفوف المسلمين ، ويضر التضامن الاسلامي ، ومالم تحارب القومية والعصبية فإنها ستضعف حتماً حركة المسلمين " ..
فيجب اذن ألا ينسى المسلمون أن " الاسلام عالمي في جوهره " .
هذا بعض ماقاله ، أو يمكن أن يقوله ، بعض " الروحيين " الذين يحملهم جهلهم بالقومية إلى موقف العداء من علاقة الانتماء القومي فيستبدلونها بعلاقة الانتماء إلى الدين . وإذ يلتقي النقيضان عقيدة في موقف عداء واحد من القومية لابد من أن يكون أحدهما قد حرف عقيدته . ولسنا نستطيع ، منصفين ، أن نتهم الماركسيين ، أعداء القومية ، بتحريف عقيدتهم . ذلك لأن الماركسيين قد كونوا عقيدتهم في القومية وموقفهم العدائي منها من عناصر وفرتها الملاحظة الدقيقة للحركات القومية في أوروبا . فهناك تعاصر النمو الرأسمالي مع نشوء حركات التوحيد القومي . وقادت البرجوازية فعلاً الحركات القومية ، وأقامت في كل أمة دولة واحدة . ولم تكن الرغبة والمصلحة في توحيد السوق القومي بعيدتين عن بواعث حماس البرجوازية للوحدة القومية . ولما كانت الوحدة القومية تضاعف عائد توظيف الموارد المادية والبشرية المتاحة في أجزاء الأمة ، فقد استفادت الرأسمالية النامية من الوحدة القومية ، وازدادت نمواً . ولكن لأنها رأسمالية مستغلة بحكم جوهرها ذاته فقد استغلت القوة التي نمت بالوحدة القومية في مضاعفة استغلالها لشعوبها ذاتها . فلما ضاقت بنموهاالحدود القومية سخَرت الدولة القومية وطاقاتها الهائلة في الاستيلاء على الأسواق " القومية أيضاً " في الدول الأخرى ، فكانت تلك بداية الاستعمار الذي عانت منه الشعوب جميعاً .
من ذاك الواقع الذي لاحظه الماركسيون ملاحظة دقيقة كونوا عقيدتهم في القومية وموقفهم العدائي منها على أساس ماهو ظاهر من تعاصر واتساق وتفاعل النمو القومي والنمو اللرأسمالي في أوروبا . ولم يكن تحت نظر الماركسيين أية تجربة قومية أخرى لافتة لينتبهوا إلى أمرين : أولهما أن الوجود القومي سابق تاريخياً على الحركة القومية ، وآيته أنه عندما نشأت ونمت الرأسمالية واحتاجت البرجوازية إلى وحدة السوق "القومي " كان التاريخ قد كوَن العناصر البشرية والوطنية والحضارية التي تميز ماهو" قومي" ولو كان سوقاً .
فتعاملت كل برجوازية مع واقع تكوَن تاريخياً هو أمتها . وما كان يضير البرجوازية الأوروبية أن توحَد السوق الاوروبي كله ، ولكنها ، خضوعاً لواقع تاريخي قسم أوروبا أمما ، وحدت السوق الالماني ، والسوق الايطالي ......الخ . ومن هنا كانت الأمة " موضوعاً " مارست فيه الرأسمالية نشاطها ، ولم يكن ثمرة نشاط الرأسمالية ، ثاني الأمرين واكثرهما دلالة هو ، أن الاستعمار كان وما يزال نشاطاً رأسماليا لايمَت إلى القومية بصلة ، لا لأن عائده المغتصب لم يصل إلى الشعوب بل استأثرت به البرجوازية فحسب ، بل لأنه --أيضا - كان عدواناً على قوميات أخرى . وهكذا ، على مدى الصراع المرير الدامي بين المستعمرين وحركات التحرر من الاستعمار ، كان كل من الطرفين يقاتل تحت راية قومية . الراية القومية نفسها التي رفعها ستالين ليحشد تحتها طاقات الاتحاد السوفيتي دفعاً للغزو النازي ، فأفلح بها ولم يكن ليفلح بغيرها . أمَا الرايات القومية التي رفعها المستعمرون فكانت زائفة . وكان على الماركسيين أن ينتبهوا إلى زيفها بحكم معرفتهم للطبيعة الطبقية للبرجوازية ، ومعرفتهم أن " الدولة " كانت أداة قهر في أيدي الرأسماليين وحدهم .
قهروا بها شعوبهم أولاً ، ثم هاهم يقهرون بها شعوباً أخرى . أما الرايات القومية التي ترفعها حركات التحرر من الاستعمار فكانت نداءات مرفوعة لكل المقهورين ، بالتجمع تحت راية القومية من أجل التحرر . أياً ماكان الأمر فإن الصراع القومي ضد الاستعمار قد أثبت أن الاستعمار لم يكن قومياً أصلاً .
وحينما يقدم العالم الثالث تجاربه القومية إلى الماركسيين سينتبهون ويغير بعضهم موقفه من القومية . وهذا ماانتبهوا إليه وقالوه عن الحركة القومية العربية بالذات . قالوا عام 1963 ( أسس الماركسية اللينينية - المرجع السابق ) - مايأتي نصاً : " في السنين الأخيرة برزت شعوب الشرق العربي إلى الصف الأول في الكفاح من اجل التحرر القومي بقيامها بهجوم شامل على مواقع الاستعمار ... ان كفاح العرب ضد الاستعمار ، وفي سبيل الاستقلال القومي ذو دلالة بالغة تتجاوز العرب أنفسهم إلى المصير العام للسياسة الامبريالية والاستعمارية . والواقع أن الشرق الاوسط أصبح يلعب دوراً هاماً في الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية والعسكرية للدول الاستعمارية الكبرى ، وخاصة بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية . فالشرق الأوسط مركز قواعد عسكرية امريكية عديدة . وهناك أيضاً تستولي الاحتكارات الأجنبية على ملايين الأطنان من الزيت ( النفط ) الرخيص سنوياً ، أو مايعادل ربع انتاج العالم تقريباً . ومن هنا نفهم أية ضربة أصابت الاستعماريين من كفاح حركة التحرر القومي العربي ، حيث هب العرب ليستردوا استقلالهم ، وليصبحوا سادة منابع الثروة الطبيعية في الشرق الأوسط . فكانت تلك الضربة أبعد مايكون توقعاً ، إذ أن ادارة الاستعمار الاجنبي والاقطاع المحلي الذي يساند الاستعمار قد أبقت الشعوب العربية في حالة تخلف اقتصادي شديد وأصبحت البلاد التي يسكنونها من أشد مناطق العالم فقراً . وقد ظن الاستعماريون أنَ الصراع من أجل ضرورات الحياة قد استنفذ طاقة العرب ، وان ظروف التخلف الشاملة ستحول بينهم وبين أن يهبَوا وأن ينتظموا في حرب ضدَ الاستعمار . وقد تبددت تلك الأوهام في مصر أولاً بقيادة ضباط من ذوي العقليات القومية .... وإحدى مميزات حركة التحرر في الشرق الأوسط أنها تنمو وتتطور تحت شعار الوحدة القومية .
وقد ولدت هذه الفكرة خلال الصراع ضد الاستعماريين وفي سبيل الاستقلال القومي . وقرَب هذه الشعوب العربية بعضها من بعض . وكتعبير عن التضامن في الصراع ضد الاستعمار ، وكشكل للتعاون الأخوي ، والمساعدة المتبادلة بين الدول العربية ، لعبت وحدتهم دوراً بناءً كبيراً في كفاحهم في سبيل الاستقلال . وفكر الوحدة مقبولة على وجه خاص لدى جماهير الشعب العاملة التي تعاني من الاستغلال الرأسمالي ... الخ " .
هكذا عرف الماركسيون تجربة جديدة ، عربية لا أوروبية ، لحركة قومية تحررية لاعدوانية ، فتعلموا منها ماغَيروا به موقفهم من الانتماء القومي ، وأقروا بالعلاقة الايجابية بين الوحدة القومية وتحرر العمال من الاستغلال . بل لقد ذهبوا في الاعتراف بأصالة العلاقة القومية واحترامها إلى حدَ الارتفاع بها عن مستوى العلاقات الاقتصادية . فهي الوعاء الثابت - نسبياً - بما تتضمنه من تراث ، لما يجتهد البشر في إبداعه ويعملون على تطبيقه من مذاهب في نظام أسلوب الانتاج وأدواته وعلاقاته ففي " رأى علماء الاجتماع السوفيات المعاصرين لاتنتمي بعض موضوعات ومظاهر الوعي الاجتماعي مثل العلاقات العائلية والثقافة القومية والعلوم وماإلى ذلك ، لاتنتمي بكاملها إلى البنيان العلوي " . ( اوسكار لانج الاقتصاد الاشتراكي -1966 ) فيعودون عن قول سبق ويقسمون ذلك البناء إلى قسمين : تراث ومستحدث ويخصون الأخير بالصلة المباشرة بعلاقات الانتاج ويرشحونه للتغيير في ظل النظام الاشتراكي .
هذا ماتعلمه الماركسيون الذين أدانوا - من قبل - العلاقة القومية بأنها عدوانية . فهل تعلَم الذين يدينون العلاقة القومية بأنها عدوانية ، باسم الاسلام ، بينما يرددون الحجج البائدة التي تخلى عنها حتى أصحابها ؟ هل غيَروا مواقفهم ، أو هل يغيرون ؟ . بعضهم تعلم فغيَر ، وبعضهم سيتعلم فيغيَر ، ولن يبقى منهم إلا الذين تطربهم أصواتهم فلا ينتبهون إلى أقدامهم في أي موقف هم واقفون .
أما الشعب العربي فلم يستمع إلى نداء القومية إلا مقترناً بهدفه : التحرر ثم الوحدة من أجل الحفاظ على الحرية . ولم يناضل نضالاً قومياً إلا من أجل دفع العدوان عن أمته العربية . وحتى حينما استمع إلى نداءات قومية عصبية أو متعصبة لم يفهمها إلا على الوجه الذي قصده مطلقوها : نحن أمة مجيدة .. تستحق الحرية . فلا يفهم السعب العربي من انتمائه القومي أنه عداء للغير أو عدوان أو مناجاة بالعدوان . ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، فإن الشعب العربي في حاجة إلى الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام .
الـوحـدة :
49 ـ فهل يكون ذلك لأن ثمة دعوة إلى الوحدة الاسلامية ، وثمة دعوة إلى الوحدة العربية ، وأن الدعوة إلى الوحدة العربية ، أو النضال من اجلها ، أو تحقيقها ، يعوق الدعوة إلى الوحدة الاسلامية أو يعرقل النضال من اجلها أو يحول دون تحقيقها ؟ قد يكون . وإن نفراً من المسلمين ليقولون إن الدعوة إلى الوحدة العربية فتنة وسوست بها الشياطين في صدور بعض العرب لشق صفوف المسلمين وتخريب " جهادهم " في سبيل الوحدة الاسلامية . ويعيدون إلى ذاكرة المسلمين عهداً مجيداً كانت لهم فيه " دولة الخلافة " التي كانوا في ظلها أكثر أمناً ومنعة وقوة وحرية وتقدماً في الفكر والعلم والفن والعمارة مما أصبحوا فيه بعد أن هزمت دولتهم ، فتمزقت وذهبت أ قطارها أسلاباً لدول غير مسلمة ، وتكره الاسلام أصلاً . ويزيدون فيقولون إن التآمر على إسقاط دولة الخلافة في أوائل القرن العشرين لم يكن إلا الحلقة الأخيرة من سلسلة الحروب الصليبية التي بدأت ضد الاسلام في القرن الثالث عشر . ألم يقف الجنرال غورو الفرنسي المنتصر عام 1917 على قبر صلاح الدين في دمشق ليقول : " هاقد عدنا يا صلاح الدين " . أولم يقل الجنرال اللينبي الانكليزي المنتصر في القدس :
" الآن انتهت الحروب الصليبية " . بلى . ثم يضيفون أن آية الصلة الوثيقة بين دعوة الوحدة العربية الحديثة والغزوة الصليبية القديمة في موقفهما الموحد ضد الوحدة الاسلامية أن " بدعة " الأمة العربية ، أو القومية العربية ، أو الوحدة العربية ، قد اصطنعت اصطناعا في المشرق العربي اولا على أيدي نفر من المفكرين والساسة غير المسلمين ، لتزاحم أو تناهض الدعوة إلى الوحدة الاسلامية ، وأن المفكرين والساسة من بلاد المغرب ظلوا مقيمين على الدعوة إلى الوحدة الاسلامية منصرفين عما اصطنع في المشرق من افكار " مستوردة " عن الأمة والقومية والوحدة ، وقد انتصرت أقطارهم وتحررت بدونها ، ولكن بدينها . ثم يختمون قولهم بدعوة المسلمين إلى الجهاد ضد الوحدة العربية في سبيل الوحدة الاسلامية .
50 ـ إن شاء الله سنتحدث فيما بعد عن نفر من العرب آخرين يستعلون على هذا الذي يقال فيتجاهلونه أو يغترَون بما يعرفون من تهافته ، فيكتفون بوصفه بما يوصف به القول المتهافت من أوصاف يستحقها . وانه لخطأ لو تعلمون جسيم . ذلك لأن المسألة ليست حواراً بين جماعة مترفة الفكر من المثقفين القادرين على هذا القول أو القادرين على معرفة تهافته . كلا . انهم جميعاً يتحدثون على مسمع من الشعب العربي البسيط الذي يحمل في دمه من تراث أمته مايعدَه مقدَماً لتصديق كل مايقال باسم الاسلام ، ولايحمل في عقله من العلم مايكفي لكشف تهافت بعض مايقال باسم الاسلام . فلا يكفي لكشف تهافت مايقال على مسمع منه عن التناقض أو العداء بين الوحدة الاسلامية والوحدة العربية أن يقال إنه عداء مصطنع ، أوغير صحيح ، أو انه الرجعية كما يعبَر عنها بعض الرجعيين . لا . فما ينبغي لمثقف أن يستعلي على الاهتمام بما يؤثر في وعي الشعب الذي ينتمي اليه ، أو يهرب من معارك الدفاع عن سلامة وعيه ضد الذين يحاولون تضليله . نحن على الأقل لانستعلي ولانهرب . ولكنا نخاطب الشعب العربي الذي يستمع إلى مايقولون فنقول إن هذا الذي يقال عن الوحدة العربية وتناقضها العدائي مع الوحدة الاسلامية يستحق الاستماع اليه والانتباه إلى بواعثه ومضامينه واهدافه بأكبر قدر من الجدَية . ذلك لأن معرفة مافيه من حق أو باطل مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى مستقبل حياة عشرات الملايين من العرب والمسلمين .
قلنا من قبل ، ونكرر لنؤكد ، ان البشرية قد دخلت عصر الانتاج الكبير والدول العملاقة ، وأن مصير الأقزام من الدول أن تحتمي ، راغبة أو كارهة ، بمظلة التبعية السياسية لدفع خطر العدوان ، والتبعية الاقتصادية لدفع غائلة الجوع ، وأن تدفع من حرية وطنها ومواطنيها أثماناً باهظة لمن يحميها أو يغذيها . يحميها ولو من بطشه ذاته . ويغذيها ولو من ثروتها ذاتها ( فقرة 1 ) . لابد ، اذن ، من الوحدة ، العربية أو الاسلامية ، ليستطيع الشعب العربي أن يتحرر ويتطور ، وليستطيع أن يحافظ على حريته وتطوره ، في غابة الدول العملاقة . وإذا ماكانت إحدى الوحدتين تناقض الأخرى فعلى الشعب العربي أن يختار منهما الوحدة التي يكون بها . وفيها ، أكثر مقدرة على التحرر والتطور . ولو كنا على أقل قدر من اليقين بأقل قدر من التناقض بين الوحدة العربية والوحدة الاسلامية لاستغفرنا الله عما قدمنا على مدى ربع قرن متصل من أجل الوحدة العربية ، ولتبنا ، ودعونا الشعب العربي إلى اختيار الوحدة الاسلامية . لا لأننا مسلمون فحسب ، بل لأنها الوحدة الأعرض أرضاً ، والأغنى ثروة ، والأكثر عدداً فهي الأقدر ، لاشك أقدر ، على توفير أسباب فائقة للتحرر والتطور . ولكنا على أكبر قدر من اليقين بألا تناقض بين الوحدة العربية والوحدة الاسلامية دعوة أو نضالاً أو حقيقة . ثم إننا على أكبر قدر من اليقين بأن الوحدة العربية ممكنة في هذا العصر ، ولسنا على يقين بأن الوحدة الاسلامية ممكنة لافي هذا العصر ولافيما يمكن توقعه من مقبل العصور .
لماذا ؟
قبل أن نجيب ينبغي أن نحدد من أين نجيب . اننا نجيب من موقف عداء صارم لتجزئة الأمة العربية ، ولكل مايمثل التجزئة أو يجسدها أو يبررها من مؤسسات أو مصالح أو أفكار أو قوى أو خلق . ونعتقد أن هذا الموقف وحده هو المصدر الوحيد لحق أي إنسان صادق في الدعوة للوحدة العربية أو الوحدة الاسلامية . من هذا الموقف العدائي لتجزئة الأمة العربية يستطيع من يشاء ، ويكون من حقه ، أن يفاضل أو يقارن بين الوحدة العربية والوحدة الاسلامية وأن يختار بينهما . ولكنَا لانعتقد أن ثمة موقفاً أكثر خطأ ونفاقاً من قبول التجزئة أو مباركتها ثم الدعوة إلى الوحدة ، عربية كانت أو إسلامية . إنه ليس موقفا متناقضا فكريا ومضللا سياسياً فحسب ، بل هو موقف عفن أخلاقياً أيضاً . من هنا يكون على الشعب العربي الذي نخاطبه ، قبل الاختيار بين الوحدة العربية والوحدة الاسلامية ، ولكي يستطيع أن يختار مايحقق حريته وتقدمه ويحفظ عليه عروبته ودينه ، أن يحسم موقفه من التجزئة حسماً لارجعة فيه ، إن كان يقبلها فلا يضيعن وقته فيما يحيط به من " ثرثرة " حول الوحدة العربية والوحدة الاسلامية . وإن كان لايقبلها ، فعليه ان يجعل من " الوحدة " هدف حياته سواء اختار الوحدة العربية أو الوحدة الاسلامية . المهم ، على الشعب العربي الذي نخاطبه أن ينقذ نفسه من زنازين سجن التجزئة التي يسمونها دولاً عربية ، ليطل على وطنه العربي أو عالمه الاسلامي حيث الحياة أكثر حرية وأكثر تقدماً . وسنعرف فيما بعد شيئاً من دور " جريمة التجزئة " في إثارة تلك العاصفة الغبراء التي تكاد تضل الشعب العربي عن سبيله القويم لتشغله بحديث لاينتهي عن علاقة لاتحتاج إلى حديث ، هي علاقة العروبة بالاسلام .
51 ـ أما الآن فنسأل : إننا نعرف أن الوحدة العربية تعني إقامة دولة واحدة على كامل تراب الوطن العربي كما هو محدد تاريخياً . دولة واحدة سواء كانت دولة بسيطة أو اتحادية " فيدرالية " ولكن ليست دولة تعاهدية " كونفدرالية " . تكون السيادة فيها للشعب العربي على أرضه . ويكون الحكم فيها لمن يختاره الشعب العربي. وتكون علاقات الناس فيها متفقة مع اشتراكهم في ملكية الأرض التي هي وطنهم . وتكون علاقتها بالدول الأخرى محكومة دائماً بما يحقق مصلحة الشعب العربي . هضه هي الوحدة العربية كما نريدها . فماهو المقصود على وجه الدقة من تعبير " الوحدة الاسلامية " ؟
52 ـ إن كان المقصود " بالوحدة الاسلامية " وحدة الضين تلقوا أمراً من عند الله بأن يعتصموا بحبله ولايتفرقوا في الدين ، ( ان أقيموا الدين ولا تتفلرقوا فيه ) { الشورى : 13 } . ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا ) { آل عمران : 103 } . فإننا نستطيع أن نقول إن وحدة الأمة الاسلامية متحققة والحمد لله . الأمة الاسلامية كما عرفنا دلالة التعبير عنها من لغة القرآن : كل المنتمين إلى الاسلام ديناً ( فقرة 6 وما بعدها ) بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأوطانهم وشعوبهم و أممهم . انهم ليعبرون كل يوم أو كل ساعة عن وحدتهم هضه بما يفرضه الاسلام من مظاهر الوحدة في الدين . إنهم يشهدون بكل لغة أو بدون لغة بأن : لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله . ويصلون جميعاً خمس مرات كل يوم مستقبلين قبلة واحدة أياً كانت مواقعهم من الأرض . ويصومون جميعاً شهراً واحداً معيناً من كل عام هو شهر رمضان ، حتى لو كانوا يعيشون في بقاع يقتسم عامها الليل والنهار . ويؤدون الزكاة . ويحج كل قادر منهم في وقت واحد من كل عام إلى مكان واحد حيث يلتقون مجردين من كل مظاهر التمييز الدنيوي وحيث يؤدون مناسك واحدة . أما الذين لايؤدون فرض الصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج عامدين أو ساهين وهم مسلمون ، فإن شعورهم " بالاثم " تصديق لانتمائهم إلى الأمة الاسلامية . فهم جزء من وحدتها ولو كانوا آثمين .
أليست هذه هي أركان الاسلام الخمسة التي يتحدّد بها الانتماء إليه فتتحدّد بها الأمة الاسلامية ؟
بلى . الأمة الاسلامية إذن موحدة في دينها . وهي وحدة لا تنقضها ولاتعوقها الدعوة إلى الوحدة العربية أو النضال من أجلها أو تحقيقها ..
53 ـ أما إذا كان المقصود بالوحدة الاسلامية " دولة " واحدة يكون الانتماء اليها مقصوراعلى المسلمين فإنها بدعة لايعرفها الاسلام دينا ولم يعرفها تاريخ المسلمين قط . فلم يحدث قط أن قامت " دولة " مقصورة على المسلمين دون غيرهم . ولاحتى " دولة " المدينة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام . فلقد عرفنا من قبل ( فقرة 28 ومابعدها ) أن دستورها ( الصحيفة ) كان ينظم الحياة فيها بين " رعايا " من المسلمين ومن غير المسلمين ، كما عرفنا بعض ماأنزل في القرآن من أحكام تنظم الحياة في مجتمع مشترك بين المسلمين وغير المسلمين ( فقرة 2 ) . ونعرف أن الرسول عليه السلام قد كتب : " .. للسيد الحارث بن كعب ولأهل ملته ، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها . اعطيهم عهد الله وميثاقه أن أحفظ أقاصيصهم ، وأحمي جانبهم ، وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم وأن أدخلهم في ذمتي وأماني ، ولايهدم بيت من بيوت بيعهم ، ولايدخل شيءمن بنائهم في شيء من أبنية المساجد ولامنازل المسلمين ، فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله " . وكان قد كتب بمثل هذا عهداً لنصارى نجران . فلما تولى أبو بكر الخلافة كتب اليهم مؤكداً عهده : " هذا ما كتب به عبد الله أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران . أجارهم بجوار الله ، وذمة رسوله على أنفسهم وأرضهم ولمتهم وأموالهم وحاشيتهم ، وعبادتهم ، وغائبهم ، وشاهدهم ، وأساقفتهم ، ورهبانهم ، وبيعهم ، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير " . فلَما تولى عمر بن الخطاب الخلافة بعد أبي بكر كتب إلى نصارى المدائن وفارس : " .. أما بعد فإني اعطيتكم عهد الله وميثاقه ، على أنفسكم وأموالكم وعيالكم ورجالكم وأعطيتكم أماني من كل أذى ، والزمت نفسي أن أكون من ورائكم ذابَاً عنكم كل عدوَ يريدني بسوء وإياكم .. وأن أعزل عنكم كل أذى " . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بإجلاء اليهود من المدينة فإن ذلك لم يكن حكماً بأن تكون المدينة خالصة للمسلمين مقصورة عليهم ، ولكن جزاء إخلالهم بدستور المدينة الذي ارتضوه . وآية هذا أنه لم يحكم بإجلائهم جملة ودفعة واحدة ، بل حكم بإجلاء من خانوا منهم ، بني قينقاع ، وبني النضير . ثم إنه لم يأمر بإجلائهم عن الجزيرة العربية أو من حيث يوجدون ، بل استجاب إلى طلبهم أن يكون جلاؤهم عن المدينة إلى خيبر . أما الذين لم يخونوا مثل بني قريظة فلم يحكم بإجلائهم وبقوا في المدينة إلى أن خانوا في غزوة الخندق فحكم بإجلائهم هم الآخرين . وإذا كان الخلفة الثاني عمر بن الخطاب قد أمر بإجلاء غير المسلمين من الحجاز ، واعتبره أرضاً مقدسة لاتجوز الاقامة فيها لغير المسلمين فإن الحجاز لم يكن في عهد عمر إلا جزءأً من " دولته " . وهو الذي سافر من المدينة إلى بيت المقدس ليعاهد المسيحيين هناك عهده المشهور بما يؤمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم في ظل دولة الخلافة التي كان فيها أميراً للمؤمنين . لا معنى ، إذن ، لوحدة إسلامية يكون الانتماء إليها مقصوراً على المسلمين .
54 ـ اما ‘ذا كان المقصود " بالوحدة الاسلامية " دولة واحدة يكون لها وحدها الولاية والرعاية والحماية على كل المسلمين في الأرض حتى تتسق وحدة الدولة مع وحدة الأمة فتلك بدعة أخرى لايعرفها الاسلام ديناً ولم يقف عندها تاريخ المسلمين قط . فمنذ ماقبل الهجرة إلى المدينة أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضاً من أوائل المسلمين بالهجرة إلى الحبشة ؛ فهاجروا إلى الحبشة ليكونوا في كنف دولة عليها حاكم من أهل الكتاب أكثر أمناً على دينهم وأنفسهم من اضطهاد قريش في مكة . ثم إنه إلى أن تمت الهجرة إلى المدينة لم يكن للمسلمين دولة ، ولم يحل هذا دون الدعوة إلى الاسلام وممارسة مناسكه . ثم انه بعد الهجرة وإقامة دولة المدينة على أرضها بحدودها لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ثمة تلازماً بين حدود الدَولة وحدود الدعوة ، فأرسل إلى هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي تلك الرسائل التي أشرنا إليها من قبل ، يدعوهم فيها إلى الاسلام ولم يدعهم إلى أن يكونوا مع المدينة دولة واحدة . أولو قد آمن كسرى أو هرقل أكان مقضياً أن تنضم امبراطورية الروم وامبراطورية الفرس إلى دولة المدينة ؟ كيف اذن دعاهما الرسول إلى الاسلام من قبل أن يعدَ عدَته ليحكم امبراطوريتين ؟ ثم إن عمر بن الخطاب ، الخليفة الثاني ، قد أبرم مع الفرس معاهدة صلح بعد أن فتح سعد بن أبي وقَاص مدينة " المدائن " على أثر انتصاره الساحق في موقعة القادسية ، وكان من بين ماأرتضاه أمير المؤمنين في تلك المعاهدة أن تكون سلسلة الجبال التي تلي العراق شرقاً حدوداً " دولية " بين دولة الخلافةوإمبراطورية الفرس . والتزاماً بتلك المعاهدة أصدر أمير المؤمنين أوامره بالاَ تجتاز جيوش المسلمين تلك الحدود . هذا ماأرتضاه عمر بن الخطاب حدوداً للدولة . فهل أرتضى أمير المؤمنين ، أو كان يمكن أن يرتضي ، أن تكون تلك حدود الدعوة أيضاً ؟ . ثم إنه منذ خلافة عمر بن الخطاب كان الدين الاسلامي قد بدأ في الانتشار خارج الدولة إلى درجة لم يكن يعرف ، حتى الخلفاء ، مداها .
فنرى أنه بينما كان الخليفة العباسي القائم بأمر الله مذعوراً من نبأ الغزو المغولي المندفع نحو دولته قادماً من شمال وسط آسيا حيث إقليم بحيرة بيكال مكتسحاً مايليه غرباً بما فيها فارس ، إذا به يعرف من رسالة قائدهم طغرل بك مالم يكن يعرفه : إنهم مسلمون . فيتصل بهم ويتصلون به ( 1055 م ) ويستعين بهم في شؤون دولة الخلافة فيصبحون فيها دولة داخل الدولة ، هي دولة السلاجقة . ممن بلغتهم الدعوة فأصبحوا مسلمين ؟ لاأحد يدري . فقد كان الرحالة والتجار المسلمون يبشرون بالاسلام ويدعون اليه بعيداً عن حدود دولة الخلافة ويقدمون ، بعد آياته ، نماذج من أنفسهم للانسان المسلم فيهتدي إليه كثيرون . إن مئات الملايين من المسلمين اليوم ، في الهند والصين وماليزيا واندونيسيا والفلبين والاتحاد السوفياتي وشرق أفريقيا ومئات الجزر المتناثرة في المحيطات …. الخ ، كل هؤلاء وأسلافهم وأسلاف أسلافهم لم يهتدوا إلى الاسلام في ظل دولة الخلافة أو بفعلها منذ أن نشأت في عهد أبي بكر إلى أن انقضت ، ولم يكونوا يوماً من رعاياها ، ولا زعم أي خليفة انهم رعاياه . وهم هم الذين يكوَنون اليوم الأغلبية من الأمة الاسلامية ألا نرى في هذا وحده تصديقاً واقعياً لما جاء في القرآن من أن الاسلام رسالة إلى الناس جميعاً ؟ . ألا نرى قدرة ضوء الشمس يصل إلى كل الأركان بدون اصطناع في قوة عقيدة الاسلام على الاقناع بدون دولة مصنوعة ؟ لماذا ، إذن ، يصطنع بعض المسلمين تلازماً بين الاسلام والدولة فيحبسون الاسلام في دولة ؟ إذن ليس ثمة تلازم بين وحدة الأمة الاسلامية ودولة واحدة لكل المسلمين .
55 ـ إن " الوحدة الاسلامية " في دولة بهذا المعنى هي التي كنا نعنيها عندما قلنا بأننا لسنا على يقين بأنها ممكنة لافي هذا العصر ولافيما يمكن توقعه من مقبل العصور . يكفي لمن يظن أنها ممكنة ، أو متوقعة الامكان ، أن يتصور أن إقامة دولة إسلامية واحدة تكون لها الولاية والرعاية والحماية على كل المسلمين لن يحتاج إلى ماهو دون غزو الكرة الأرضية بكل دولها لفرض سيادة الدولة الاسلامية الواحدة على مئات الملايين من المسلمين المقيمين في أنحاء الأرض جميعاً . ثم يكون على هذه الدولة الاسلامية الواحدة أن تتربص بكل إنسان يهتدي إلى الاسلام ديناً لتفرض عليه ولايتها ورعايتها وحمايتها . وقد تكون على الدول الأخرى ، إن بقيت دول أخرى ، أن تساوي بين اعتناق الاسلام ديناً وبين الخيانة العظمى للوطن في عقوبة الاعدام . أو قد يكون أيسر سبيل لمن يريد أن يتحرر من الأعباء الوطنية التي يفرضها عليه انتماؤه إلى دولته مثل الجندية أو الضرائب ..الخ، أن يتظاهر باعتناق الاسلام ديناً ثم يستدعي " دولته " الاسلامية لحمايته فيكون على الدولة الاسلامية أن تضع شروطاً لمن تعترف به مسلماً غير ماوضعه الله ، كما فعل والي خراسان المدعو أشرس حين كثر دخول الناس في الاسلام فقلَت حصيلة الجزية فلم يعترف بإسلامهم وفرض الجزية عليهم وهم مسلمون ( 763 م ) فكانت فتنة " المرجئة " . فإن لم يكن هذا ولاذاك فإن الدولة الاسلامية بهذا المعنى لن تقبل أقل من أن يكون للمسلمين في كل دولة " امتيازات " الاعفاء من الولاء للدولة التي يقيمون فيها فلا يخضعون لقوانينها ولايحاكمون أمام قضائها . شيء مثل تلك " الامتيازات " التي فرضتها الدول الأوروبية على الدولة العثمانية والتي أدت في النهاية إلى التخريب الفكري والخلقي لأصحابها ، والمذلة والهوان والحيف لرعاياها من غير " الممتازين " .في كل هذه الحالات لن يكون الايمان هو السبيل إلى الاسلام ، بل المداهنة والغش والنفاق ، وهو مارفضه الاسلام منذ عرفه في بداية الرسالة ( قالت الأعراب آمنَا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم ) { الحجرات : 14 } . ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولايذكرون الله إلا قليلا ) { النساء : 142 } . ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) { النساء : 145 } . وفي كل هذه الحالات لن يكون الاختيار الحر هو السبيل إلى الاسلام بل الاكراه ، وهذا مايرفضه الاسلام . ( لاإكراه في الدين ) { البقرة : 256 } .
إنها دولة أوهام لا دولة إسلام ..
56 ـ وإننا لانكاد نصدَق أن من بين دعاة الوحدة الاسلامية من يقصد بها - جاداً - واحدة من دولتي الأوهام ، أن تكون مقصورة الانتماء على المسلمين أو أن تكون شاملة الولاية على كل المسلمين . لأننا لانعرف كيف يمكن أن يكون في عقل يعرف الاسلام مكان لمثل هذه الأوهام . ولكن الحديث العام بدون حدود ، المطلق بدون قيود عن الوحدة الاسلامية على مسمع من الشعب العربي قد يثير من الأوهام مايخالط وعيه ، أو قد ينسج من الأحلام المستحيلة مايشد انتباهه بعيداً عن الآمال الممكنة . فأردنا أن نزيح عن موضوع الحديث بعض الأوهام التي يثيرها المتحدثون . ثم نعيد السؤال لنتذكر أصل موضوع الحديث : ماهو المقصود على وجه الدقة من تعبير الوحدة الاسلامية ؟
دولـة الخـلافـة :
57 ـ إن كان المقصود دولة واحدة تضمَ أغلب المسلمين وترعى المسلمين وغير المسلمين فيها رعاية الاسلام لهم كما كان الأمر في دولة الخلافة منذ الخلقة الأول أبي بكر حتى الخليفة الأخير عبد المجيد الثاني ، فإنَا نقول إن دولة الخلافة تلك التي ماتزال ذكراها تعشعش في رؤوس بعض المسلمين ، لم تكن إسلامية في عصرها ، ولاهي ممكنة في هذا العصر .
كيف لم تكن دولة الخلافة حتى في أيام الخلفاء الراشدين دولة إسلامية ؟
هذا السؤال الاستنكاري الذي نتوقعه ذو أسباب مشروعة ، فلا أحد يستطيع أن ينكر أن تاريخ الاسلام بدأ دعوة ثم لم يلبث أن أقام المسلمون لهم دولة في المدينة ينتمون إليها وينتمي إليها غيرهم . وأن قد كان لتلك الدولة دستور عرفناه باسم الصحيفة ، وكان لهم حاكم هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وانه كان يمارس في المدينة سلطات القادة في الدول : فيجنَد الجيش ويعين الأمراء ويبرم المعاهدات ويجبي الضرائب من زكاة وجزية ، ويوزع الفيء .. وكان - كما عرفنا - يحكم بإجلاء من يخونون الدولة خارج حدودها ويقود المدافعين عن تلك الحدود ضد الغزو الخارجي . كل هذا واضح الدلالة على أن قد كانت المدينة " دولة " وكان الرسول حاكماً .
ثم إن أحداً لايستطيع أن يجهل أو يتجاهل إجماع المذاهب الاسلامية من أول أهل السنة إلى الخوارج ومابينهما من معتزلة وشيعة ومرجئة على وجوب قيام " إمام " على رعاية شؤون المسلمين . ثم إن كل مجادلة تنكر علاقة الاسلام ديناً بالدولة حكما ليست إلا سفسطة تسقط إلى مستوى الجهالة إذا ماذكرت آيات القرآن التي تنظم الزواج والطلاق والبنوة والميراث وحقوق القرابة وتحدد الجرائم ، وتعين لبعضها نماذج من العقوبة ، وتبيح المعاملات إلا في بعض الأموال كالخمر ، وتأمر باحترام العقود إلا إذا كانت وليدة إكراه ، وتحمي أموال القصَر حتى يبلغوا سنَ الرشد . ثم تأمر بجمع الزكاة من أصحاب الأموال لتعيد توزيعه على من هم في حاجة إليه …. الخ . إن الاسلام يلزم المسلمين بنظام عام من العلاقات فيما بينهم والعلاقات مع غيرهم . وهو نظام اجتماعي ليس متروكاً لاختيار الأفراد لأنه ليس متعلقاً بأيَ فرد فيلتزمه أو يتركه على مسؤوليته في الدنيا والآخرة ، بل متعلق بالحياة في مجتمع أفراد عليهم جميعاً أن يلتزموه راغبين أو كارهين . وأينما قام نظام ملزم للعلاقات بين الأفراد في المجتمع قامت الضرورة الاجتماعية لمن يقوم على حفظ هذا النظام وإلزام الأفراد به وما يقتضيه الالزام من تشريع وإدارة وقضاء وتنفيذ وردع . أي - باختصار - تقوم الضرورة الاجتماعية للدولة . تلك هي مجمل الحجج التي ساندت وتساند الرأي الحق في علاقة الاسلام بالدولة وتحيل المجادلة فيه إلى مجرد سفسطة .
ومع ذلك فإن دولة الخلافة لم تكن إسلامية في عصرها .
لماذا ؟
58 ـ إن الأسباب بسيطة وبدهية . وماعقَد بساطتها وأفسد بداهتها إلا الذين راحوا يفتشون في كتاب الله عن آية تلزم المسلمين بدولة الخلافة ، والذين أنكروا دولة الخلافة لأنهم لم يجدوا في كتاب الله آية تلزم المسلمين بها ... والحق أن دولة الخلافة لم تكن دولة إسلامية كما أنها لم تكن دولة غير إسلامية . لأن ماهو إسلامي لايكون كذلك إلا إذا كان فرضاً أو واجباً وماهو غير إسلامي لايكون كذلك إلا إذا كان محرَماً أو مكروهاً . أي أن يكون في الاسلام أمر به أو منع له . أما إذا كان مباحاً لاختيار المسلمين : إن شاءوا أخذوا به وإن شاءوا تركوه فمسؤولية اختياره أو تركه عليهم وحدهم ولا ينسب اختياره أو تركه إلى الاسلام . وقد كان هذا شأن دولة الخلافة منذ أبي بكر . ختم القرآن ولم يأمر بها ولم ينه عنها . وتوفي الرسول عليه الصلاة والسلام وما أوصى باختيار ، أو عدم اختيار خليفة من بعده . وعندما قال إن الأنبياء لا يورثون قطع كل شك في أن أحداً من بعده لن يخلفه في شيء . لا الرسالة ولا الحكم ولا المال .
ولكنه ترك في المسلمين كتاب الله ، وفي كتاب الله احكام عدة لنظام عام لعلاقات الأفراد في المجتمع كما ترك فيهم تجربة حية من " دولة " المدينة التي كان هو حاكمها فكانوا من بعده يواجهون ضرورة بقاء الدولة . وهي ضرورة اجتماعية . كانت كذلك قبل الاسلام وستبقى كذلك في كل مجتمع ولو لم يكن فيه مسلمون . ولقد كان الاسلام ومايزال فذَاً من بين الاديان والنظم في إقرار الضرورات وتغليب أحكامها حتى على أحكام المحظورات ..
وهكذا لم يكن قيام " دولة " في المدينة أو مابعد هذا فرضاً من فروض الاسلام خاصاً بمجتمع من المسلمين دون باقي المجتمعات حتى يقال " للدولة " أية دولة ، انها فرض أو واجب أو ضرورة إسلامية . بل جرى المسلمون على ماجرت عليه ، وماتزال تجري عليه ، كل المجتمعات لمواجهة ضرورة قيام من يلي " الأمر " المشترك بين أفراد الجماعة ويرعى الحدود بينهم . أما ماجاء في سورة النساء : ( إن الله يأمركم إن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ، إن الله نعَما يعظكم به ، إن الله كان سميعاً بصيراً . ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردَوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، ذلك خير وأحسن تأويلا ) { الآية 58 ، 59 } ، فإن قصارى مايمكن أن يتصل منه بموضوع " الدولة " أنه ينظم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين فيها ، فيأمر الأخيرين بطاعة الأولين ( أولي الأمر ) مادام الأولون على طاعة الله والرسول ، فإن تنازعوا احتكموا جميعاً إلى القرآن والرسول . ولكن ليس في القرآن ما يأمر بإقامة " دولة " معينة .
" الدولة " أية دولة ، إذن ، ضرورة اجتماعية وليست ضرورة إسلامية . وصدق علي بن أبي طالب حين قال "لابد للناس من إمارة برَة أو فاجرة " .
59 ـ في مواجهة الضرورة الاجتماعية لبقاء " الدولة " التي فقدت حاكمها بوفاة الرسول تشاور قادة المسلمين واختلفوا . ونعلم من أمر ذاك الخلاف وما انتهى اليه انه كان مظهراً للصراع بين علاقة الانتماء إلى" الشعب " ، حديث التكوين وبقايا علاقات الانتماء القبلي التي كانت ماتزال كامنة لم تستأصل بعد . صراع جيل على الانتماءين . الانتماء القبلي منذ مولده والانتماء القبلي منذ الهجرة . وسيعود ذاك الصراع إلى الظهور من مكمنه مرات أخرى بعد ذلك كلما عرض أمر اختيار أمير للمؤمنين .
هكذا بادر سعد بن عبادة زعيم الخزرج والمتحدث باسم الأنصار إلى الاجتماع بهم في سقيفة بني ساعدة ، قبل أن يدفن النبي ، فاختاره الأنصار للامارة . فجاء إليهم قادة المهاجرين وهناك تناظروا فتفاضلوا في أمرين يشير كل منهما إلى إحدى علاقتي انتماء المتصارعتين : القبلية والوطنية . فالمهاجرون - عند أبي بكر - هم " أول الناس إسلاماً " و " عشيرة رسول الله " . أما الأنصار - عند سعد بن عبادة - فلهم " سابقة في الدين وفضيلة في الاسلام ليست لقبيلة في العرب " . أما الامارة - عند علي بن أبي طالب - فلأهل البيت : " لاتخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله ، يامعشر المهاجرين ، لنحن أحق الناس به " . وانتهى التناقض بين طرفي الصراع بحل "جدلي"،
فقد بويع بالخلافة أفضل واحد من عشرة كانوا بمثابة الحكومة في دولة المدينة . " كانوا أمام الرسول في القتال ووراءه في الصلاة " . وقد كان أولئك العشرة معروفين باسم " المهاجرين الأولين " وإن لم يكونوا أوائل المهاجرين . انهم أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعليَ بن أبي طالب ، وطلحة بن عبد الله ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وكلهم من قريش . اختير من بينهم أبو بكر فكان أول خليفة . وهو خليفة بمعنى أنه تولى الحكم بعد وفاة الرسول ولكن - وهذا على أكبر قدر من الأهمية - ليس بمعنى انه تلقى الحكم منه نصاً أو وصية أو ميراثاً . وعندما يلي عمر بن الخطاب الأمر من بعده لن يقبل أن يلقب بالخليفة لأن ذاك أبو بكر ، ولا بخليفة الخليفة لأن ذاك يطول - كما قال - ويختار لقب أمير المؤمنين " ويكون أول من لقب به .
على هذا الوجه نشأت " دولة " الخلافة ، بعد انقطاع الوحي وبعد انقضاء السَنَة كليهما . وكان مصدرها الوحيد هو اختيار قادة المسلمين بعد وفاة الرسول . وهو اختيار جاء بعد خلاف وصراع وتفاضل على أسس خالطتها العصبية القبلية . وما كان لصحابة رسول الله أن يتفاضلوا على تلك الأسس أو أن يختلفوا في الخلافة لو كان في الاسلام حكم بها . ولن يلبث كثير من أولئك الصحابة أنفسهم أن يختلفوا فيها ويقتتلوا عليها بعد وفاة الخليفة الرابع عثمان بن عفان وتكون فتنة . ويتأكد بذلك أن " دولة الخلافة " لم تكن إسلامية وإلا لما اختلف فيها حتى القتال ، أصحاب رسول الله وأعلم الناس بالقرآن والسنَة .
هذا عن نشأة دولة الخلافة . فماذا عن تكوينها ؟
60 ـ إن عناصر تكوين " الدولة " ثلاثة : الأرض والشعب والسيادة . نعني سيادة الشعب على الأرض ، التي تمارسها الحكومة ، فتسمى حينئذ سلطة .
أما عن الأرض ، فقد كانت " دولة "الخلافة على مدى سيادتها الطويلة غير ثابتة الحدود . كانت حدودها تتبع أقدام جيوشها فتقف حيث تقف ، وتمتد حيث تتقدم ، وتنحسر حيث تتقهقر . ولقد بدأت من المدينة ثم الجزيرة العربية ، ومازالت تتسع حتى وصلت يوماً إلى حدود فرنسا في غرب أوروبا ، وحدود النمسا في شرقها ، وحدود الصين والهند وروسيا في آسيا ، بالاضافة إلى كل مانعرفه الآن باسم الوطن العربي الذي لم ينتقص منه شيء منذ الفتح العربي الاسلامي حتى بداية القرن التاسع عشر ؛ وبالتالي كان الأكثر استقراراً على مدى قرون طويلة . أما مايليه في جميع الاتجاهات فقد خرجت منه أقطار وأضيفت إليه أقطار . وكان " السيف " هو الفيصل فيما خرج وما أضيف ، لأنه هو الذي كان يخط الحدود الفاصلة . ومن هنا كانت دولة الخلافة منذ بدايتها حتى نهايتها دولة " مقاتلة " ولانقول " عسكرية " حتى لايختلط مانريد من بيان علاقاتها الخارجية بما لانريد من بيان علاقاتها الداخلية . نريد أن نقول إنها كانت دولة "مقاتلة" بمعنى محاربة ، غزواً كلما استطاعت ودفاعات بقدر ماتستطيع . وكان القتال أو " الجهاد " نشاطاً مستمراً يشترك فيه كل الرعايا متطوعين أو مجنَدين ، وتشترك في التعبئة له كل الولايات ، ولو كان عليها ولاة " متمردون " .
ولقد اتخذ بعض المنافقين الأوربيين من ذاك التاريخ حجة يزعمون بها أن الاسلام قد فرض بالسيف لابالدعوة .
وأجهد بعض المسلمين أنفسهم في محاولة تبرئة الاسلام من تلك التهمة الظالمة . وكان الطرفان فيما ذهبا إليه مخطئين . لأن ارتباط الحدود بالغزو أو الدفاع ، وبالتالي كون الدولة " مقاتلة " لم يكن اختياراً اسلامياً بل كان إحدى خصائص الدولة في عصر الخلافة . أية دولة . فكان محتوماً على دولة الخلافة أن تكون دولة مقاتلة لتبقى .
أما عن الشعب فلم يثبت عدداً ولو عند أرقام الشعوب ، بل كان يتبع امتداد الحدود وانحسارها . وقد ضمت دولة الخلافة مئات التجمعات والجماعات البشرية من قبائل وشعوب وأمم مختلفة في الجنس واللون والعادات والتقاليد والأديان أيضاً . وخرج منها عشرات من تلك التجمعات والجماعات . ولم يستقر فيها بدون خروج أو دخول إلا تلك الشعوب التي أصبحت تعرف فيما بعد باسم الأمة العربية . ولم يكن تعدد الشعوب اختياراً إسلامياً بل كان إحدى خصائص الدولة ، أية دولة ، في عصر الخلافة ، فكان محتوماً على دولة الخلافة أن تضم شعوباً وأمماً شتَى .
أما عن السيادة ، ونعني بها سيادة الشعب على الأرض ، فقد كان تمثلها وتجسدها قيادة مركزية واحدة هي شخص " الخليفة " . وكان يحدث كثيراً أن يتمرد على الخليفة من يطمعون في توليها دونه ويدَعون - بحجج شتَى - انهم أولى بها منه ، وينشئون من تلك الحجج مذاهب وأفكاراً . كما تمرد معاوية بن أبي سفيان في عهد الخليفة عليَ بن أبي طالب ( 657 م ) وانتصر ، فبدأت به ولاية أسرة الأمويين . وكما تمرد أبو العباس السفاح في عهد مروان الثاني ( 749 م ) وانتصر ، فبدأت به ولاية أسرة العباسيين . وكما تمرد عبيد الله بن محمد المهدي في المغرب في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله ( 909 م ) وانتصر ، فبدأت به ولاية الفاطميين التي شملت كل المغرب العربي ومصر والشام ، وكانت القاهرة عاصمتها .. الخ ، ولكن بالرغم من كل هذا ، وحتى حينما كان ثمة " خليفتان " في أيام الفاطميين ، كانت دولة الخلافة واحدة والسيادة فيها واحدة يمثَلها خليفة واحد . ذلك لأن " شرعية " الولاية كانت لخليفة واحد ، وكان كل من يصل ، بطريقة أو بأخرى ، إلى مركز الخلافة ينكرها على غيره ولو كان غيره متوليها فمنكرها على الآخر . كان لابدَ لأي خليفة أن يدعيها لنفسه وينكرها على غيره . ولم يكن ذلك اختياراً إسلامياً ، بل كان إحدى خصائص الدولة ، أية دولة ، في عصر الخلافة ، فكان محتوماً على دولة الخلافة أن تكون ذات قيادة مركزية واحدة ولو كانت قيادة اسمية .
أما عن نظام الحكم فقد كان يتولى الخلافة من يختاره القادة مبايعة في عهد الخلفاء الراشدين ، ثم استقرت الخلافة ميراثاً فيما تلا ذلك من عهود لاتقطعها إلا ثورة تتولى بها أسرة جديدة فيكون الأمر فيها وراثة . ولكن حتى وهي وراثة ، كان لابد من أن تم لها طقوس البيعة من مجموعة محدودة من البارزين في الدولة . وكانت الدولة مقسمة إلى إمارات أو ولايات أو ايالات في عهد العثمانيين . يعين الخليفة ولاتها وأمراءها ويعين بجوار كل وال وأمير " قاضياً " ليحكم بين الناس بما أنزل الله . وكانت واردات الدولة من الزكاة والخراج ( ضريبة الأرض ) والجزية . أما فيما عدا ذلك فقد كان الولاة أو الأمراء على أكبر قدر من الاستقلال الذاتي عن الخليفة بإدارة ولاياتهم أو إماراتهم . وقد حدث كثيراً أن أغرى هذا الاستقلال الذاتي بمحاولة الاستقلال الكامل مثل مافعل الحمدانيون في شمال الجزيرة والشام ( 929 م ) والطولونيون في مصر ( 869 م) والادارسة في المغرب ( 974م ) وبني الأغلب في تونس ( 800 م ) . كما حدث أن أصبح الوزراء من حول الخليفة هم الحاكمين باسم الخليفة يأمرونه فيأتمر كما كان الأمر بين سلاطين السلاجقة من بني بويه وخلفاء من العباسيين على مدى قرن كامل ، حمل خلاله أحدهم ، بأمر الخليفة عضد الدولة ، لقب " ملك الشرق والغرب " . ولم يكن كل هذا اختياراً إسلامياً . بل هكذا كان نظام الحكم في الدولة ، أية دولة ، في عصر الخلافة . فكان محتوماً على دولة الخلافة أن يكون نظام الحكم فيها على ما قدَمنا .
لماذا ؟
61 ، لقد أجهد كثير من الكتَاب أنفسهم وهم يحاولون أن يردَوا خصائص دولة الخلافة إلى الاسلام لتصبح "النموذج " الاسلامي للدولة . ومايزال بعض دعاة الوحدة الاسلامية يجترون ذكراها ويحلمون بعودتها لأنهم يرونها الدولة الاسلامية النموذجية . وليس في كل هذا شيء من الحقيقة . إنما أخطأ الذين قالوا إن دولة الخلافة دولة إسلامية أو إنها النموذج الاسلامي للدولة لأنهم عزلوها عن تاريخها ونموذج " الدولة " في عصرها - وما سبق عصرها أيضاً - لتكون " خاصة " بالاسلام فتستحق أن يقال لها دولة إسلامية . وهي لم تكن كذلك على أي وجه ، بل كانت واحدة من دول عديدة متعاصرة وسابقة تحمل جميعاً الخصائص ذاتها : الأرض غير ثابتة الحدود ؛ الخليط من الشعوب ؛ القتال المستمر ؛ القيادة المركزية الواحدة ؛ الصراع على القيادة المركزية ؛ الولايات المستقلة ذاتياً ؛ تمرد أمراء الولايات على القيادة المركزية ؛ وحتى نظام جباية الأموال . يكفي أن نضرب مثلاً واحداً من تلك الجباية . لقد كانت الزكاة ( او الاعشار ) التي تجبى من الأغنياء وتخصص للانفاق في حماية الدولة وأجور المدافعين عنها ومساعدة المحتاجين معروفة في الامبراطورية الرومانية . وكانت ضريبة الأرض ( الخراج ) معروفة فيها كذلك . أما الجزية ( ضريبة الاعناق ) فقد كانت معروفة في الامبراطورية الفارسية . ذلك لأن دولة الخلافة لم تكن إلا واحدة من نموذج " الدولة " السائد في عصرها - وما قبله - وهو ما يعرف باسم " الامبراطورية " . كل ما يميزها هو المضمون الحضاري لنشاط الدولة ، وهو مضمون إسلامي لاشك فيه .
الامـبراطـوريـة :
62 ـ نحتاج إلى أكبر قدر من بساطة التعبير عن موضوع معقد لنعرف كيف أن دولة الخلافة كانت امبراطورية فنعرف أنها لم تكن إسلامية ثم نعرف ونتأكد من أنها غير ممكنة القيام في هذا العصر . حينئذ نكون قد طهَرنا عقول بعضنا من فكرة ماتزال تعيش فيه ، تعبر عن وجودها من حين إلى حين ، تحت شعار الوحدة الاسلامية مما يسهل علينا المتابعة أن نتابع تطور " الدولة " في علاقتها بتطور المجتمعات . وأن نركز انتباهنا على عنصر " الأرض " بالذات وتطور علاقة الدولة به . ثم أن نتذكر أن كل ذلك التاريخ الذي أمتد مئات القرون كان يجري في ظل قاعدة شرعية مستقرة . شرعية لدى كل المجتمعات ، مستقرة فيما بينها جميعاً كقاعدة لعلاقة الدولة بالأرض . تلك القاعدة هي ما يعرف باسم " حق الفتح " . وهو حق لم يتفق المجتمع البشري على إنهاء شرعيته إلا عام 1919 حين وضع عهد عصبة الأمم على أثر الحرب الأوروبية الأولى . أما قبل ذلك ، وعلى مدى التاريخ فقد كان الاستيلاء بالقوة على أية أرض يكسب الفاتحين حق ملكيتها وضمها إلى ممتلكاتهم .
وهو حق يعرفه الغالب ، ويعترف به المغلوب ، ويقره الذين لم يكونوا طرفاً غالباً أو مغلوباً .
63 ـ في ظل هذا الحق بدأ تاريخ المجتمعات أسراً وعشائر وقبائل متقاتلة على الاستيلاء على مواقع المراعي والصيد ومواطن الأرض الخصبة في أودية الأنهار ، حيث موارد المياه دائمة لاتنضب ، وحيث ثمار الأرض موثوقة النمو لاتغيب ، بدأ استقرار الجماعات القبلية التي أدركتها أولاً . استقرت شعوباً ، وبدأت في تكوين حضارتها فتكونت مجموعات متناثرة من " الممالك " في كل مكان صلح للزراعة بفعل ماء نهر أو ماء مطر .
نموذجها مصر ومابين النهرين . في الأولى قامت الحضارة الفرعونية وفي الثانية قامت الحضارة البابلية . غير أن استقرار بعض الشعوب على الأرض الخصبة لم يكن يعني - عند المجتمعات القبلية التي لم تستقر بعد- أنها قد تحصنت دون " الفتح " بمن استقر عليها . بالعكس . كانت تلك بداية حروب أوسع نطاقاً وأكثر شراسة من الحروب القبلية . كان عصر غزو القبائل للممالك وعصر مطاردتها أيضاً . حتى انك لترى اينما وجهت البصر قبيلة مقاتلة تعتدي على حدود قبيلة أخرى اقل منها استعداداً للقتال ثم تستقر في أرضها مؤسسة " دولة " الى أن تزيحها قبيلة أخرى كما قال أحد المؤرخين . هكذا يحدثنا التاريخ عن تعرض مصر ومابين النهرين لغزوات القبائل الأكادية ( 2000 ق.م ) والهكسوس ( 1750 ق.م ) والحامورية ( 1200 ق.م ) والآشورية ( 800 ق.م ) والميدية ( 700 ق.م ) .. الخ . كما يحدثنا عن قبائل الهون التي اجتاحت " العالم " تقريباً ( 355 م ) ودفعت أمامها مجموعة من القبائل التي كانت تتجول في أوروبا : التورنجية ، والبرغندية ، والانكليزية ، والسكسونية ، والقوط ، والوندال ، والألمان .. الخ . فتقع تلك القبائل على جسم الامبراطورية الرومانية وتمزقها تمزيقاً ... بينما يكون فرع آخر من قبائل الهون قد مزَق جسد الصين وفارس .
في المقابل يحدثنا التاريخ عن القادة " العظام " من مصر وما بين النهرين والصين والهند وروما ووادي الدانوب ، فنلاحظ أن " عظمتهم " قد قامت على أساس واحد هو انتصاراتهم الساحقة " خارج حدودهم " ، أي وهم يطاردون القبائل المغيرة الى مراكز تجمعاتها ، ويضمون تلك المراكز الى الأرض التي انطلقوا منها .
64 ـ لم تكن الأرض ، أية أرض ، تخص إلا من استولى عليها . وهي لاتخصه إلا إلى المدى الذي يستطيع أن يدافع عنها . فاندثر من الممالك وتكونت " دول " بالغة الاتساع هي " الامبراطوريات " . منها الامبراطورية الهيلينية التي بدأت بغزو الاسكندر الأكبر آسيا الصغرى ( 334 ق.م ) ثم غرب آسيا وفارس والهند ومصر . وحين مات عام 323 ق. م . سئل لمن يترك ملكه فردد شعار العصر كله : " لمن هو أعظمكم قوة " .ومنها الامبراطورية الرومانية التي كانت مؤلفة من نحو مائة شعب منذ أن تحولت من مملكة الى امبراطورية على يد أغسطس ( 27 - 14 ق .م ) وشملت كل أوروبا تقريباً وغرب آسيا وشمال أفريقيا، واستمرت 500 سنة . ثم مزقتها القبائل لتعود تحت حكم البابوات فعلياً والأباطرة اسمياً منذ شارلمان ( 805 م ) حتى قضى عليها نابليون عام 1806 ليكون قائداً لامبراطورية جديدة . ومنها الامبراطورية الفارسية التي شملت كل الأرض من أول اليونان حتى الهند وبقيت إلى أن ظهر الاسلام . ومنها امبراطورية الصين تحت حكم أسرة الهان التي استمرت 400 سنة ( 202 ق.م - 221 م ) ثم مزقتها القبائل الغازية لتعود امبراطورية مرة أخرى تحت حكم اسرة التانج وتبقى 300 سنة ( 618 - 609 ) . ثم مزقتها جحافل المغول ليقيم فيها أحد قادتهم ، قوبلاي خان ، امبراطورية جديدة . ولقد بقيت الامبراطورية الصينية تحت أسرة مانشو تأخذ الجزية من منغوليا ومنشوريا وتركستان وبورما ونيبال وكوريا حتى أواخر القرن الثامن عشر . وآخرها الامبراطورية العثمانية . بدأت عام 1324 وأنتهت عام 1919 .
باختصار ، عندما تكون الأرض متاحة لمن يستطيع أن يستولي عليها يترتب على ذلك عدة نتائج محتومة هي ذاتها الخصائص المحتومة للدولة المسماة " الامبراطورية " . فأولاً لاتكون لها حدود ثابتة بل تتبع حدودها أقدام جيوشها فتقف حيث تقف وتمتد حيث تتقدم وتمتد حيث تتقدم وتنحسر حيث تتقهقر ، إذ هي دولة " مكرهة " على القتال ضد ماتتعرض له الحدود من هجمات وغزوات غير منقطعة . وفي كل مرة توقفت فيه امبراطورية عن القتال أواسترخت وضعفت ، فتك بها وتمزقت أو فقدت بعض أرضها وانكمشت . فكان محتوماً على الدولة " الامبراطورية " أن تكون مقاتلة غزواً أو دفاعاً . وثانياً ، إن هذا الغزو والدفاع لم يكن يسمح لدولة الامبراطورية أن تختار شعبها بل كان عليها ، إن غزت ، إما أن تبيد الشعوب أو تضمها ، وإن انهزمت أن تفقد شعوباً ضمتها من قبل . وثالثاً ، كان محتوماً عليها بفعل أنها مقاتلة دائماً على حدود متسعة وأعداء مختلفين أن تكون تحت قيادة مركزية واحدة تعبَيء الجيوش وتسيَرها الى حيث المخاطر التي تهدد الحدود ، أو إلى حيث الحدود المفتوحة لغزو جديد . وكان اختيار القيادة يتم على أساس الكفاءة الشخصية أو يفوض ميراثاً ، ولكن لابد من استشارة القادة فيه . ورابعاً ، كانت مهمة القيادة المركزية ( الامبراطور ) اساساً هي إدارة اعباء النشاط القتالي على الحدود غزواً أو دفاعاً ، أو قيادته بالفعل ، فأوكلت إلى ممثلين لها أمر إدارة الأقاليم أو الولايات أو الامارات مكتفية بإلزامهم بأن يجمعوا الأموال اللازمة للادارة المركزية وتعبئة الجيوش للقتال . فكانت كل إمارة أو ولاية أو إقليم مستقلاً استقلالاً ذاتياً ، مما أدى في كثير من الحالات ، إلى تمرد الحكام الاقليميين على القيادة المركزية فأضاف إلى أعباء الحروب الخارجية أعباء الحروب الداخلية .
هكذا كانت الامبراطوريات نموذج " الدولة " في العصر الذي سبق دولة الخلافة وعاصرها . ولم يكن في استطاعة المسلمين أن يقيموا في الجزيرة العربية " مملكة " بل كان لابد لهم من أن يقاتلوا عند الحدود الشمالية للجزيرة حتى لاتذهب الجزيرة ضحية الامبراطورية الفارسية أو الامبراطورية الرومانية كما ذهبت ممالك جنوب الجزيرة العربية . ولم يكن في استطاعة دولة الخلافة أن تتوقف عن الفتح عند حدود الجزيرة العربية ، ولقد حاول عمر أن يحول دون فتح مايلي العراق شرقاً بعد فتح المدائن ، ولكن هذا لم يكن متوقفاً على الطرف العربي الاسلامي وحده .
ولم يكن من " قوانين " وجود الامبراطوريات ومنها الفارسية والرومانية ، الكف عن القتال قبل أن تصفَى "القوة الجديدة النامية " ، فلم يكف العرب المسلمون عن الفتح طالما كانوا قادرين . وحين عجزت الامبراطورية العثمانية توقفت ثم بدأ الدفاع ثم الاقتطاع ، إلى أن قسم مابقي فيها من شرائح شرائح على مائدة المنتصرين في الحرب الاوروبية الأولى عام 1919 . اقتسموه ثم اتفقوا في عهد عصبة الأمم على إنهاء مشروعية " الفتح " .
65 ـ لم تكن دولة الخلافة بكل خصائصها ، إذن ، اختياراً اسلامياً . نريد أن نقول إنها ليست نظاماً للدولة مقصوراً على المسلمين ، وليس الاسلام مصدر نظامها . ولكنها نموذج " دولة " ساد الأرض جميعاً عشرات القرون قبل ظهور الاسلام ومئات السنين بعد ظهوره فكان محتوماً على دولة الخلافة أن تكون على نموذج الدولة في عصرها أو ألاَ تكون . وقد كانت .
66 ـ هذا النموذج انقضى عصره ولم يعد قابلاً للتكرار . ذلك لأن الحروب القبلية ، والقبلية الشعوبية ، التي اسفرت عن " الامبراطوريات " استمرت في شكل حروب " امبراطورية " قروناً طويلة . وفي قلب كل امبراطورية تجاوز عمرها تلك الحروب فلم تتمزق ، بقيت مساحة كبيرة أو صغيرة من الأرض بعيدة عن تخريب الحروب التي كانت تدور على الحدود ، فتوفرت للشعب أو الشعوب التي تقيم فيها مرحلة تاريخية طويلة نسبياً من الاستقرار دخلت به ، وفي حماية الدولة الامبراطورية ، مرحلة تكوينها القومي ، أو أتمته ، فأصبحت أمة بما تعنيه الأمة من اختصاص شعب معين بأرض معينة . ومن ناحية أخرى فإن المطاردة القبلية والامبراطورية دفعت مجموعات من القبائل الى حيث قاتلوا عن مواقعهم وظهورهم إلى البحر ، فكان لابد لهم من الانتصار ، فالاستقرار ، فبدأوا في تكوينهم القومي واصبحوا فيما بعد أمماً . هكذا تكونت الأمة العربية والأمة التركية في قلب دولة الخلافة . وتكونت الأمة الايرانية في قلب الامبراطورية الفارسية ، وتكونت الأمة الايطالية في قلب الامبراطورية الرومانية . وتكونت أمم أوروبا جميعاً من تجمعات قبلية استقرت على الأرض بعد غزوها .
بدأت الأمة الانكليزية في التكوين بعد أن غزتها قبائل السكسون القادمون من اقليم نهر الالب ، وقبائل الانكليز القادمون من سلزوج ، وقبائل القوط القادمون من جتلنده ، وهناك استمرت الحروب القبلية أكثر من قرن إلى أن انتصر الغزاة على البريطانيين ( السكان الأصليين ) عام 577 ، واسموا الأرض " انجلند " .
وبدأت الأمة الفرنسية في التكوين بعد أن غزاها " الفرنجة " أو الفرانك بقيادة كلوفيس عام 480 م فهزم القوط الغربيين والبرغندين ووحدهما في مملكة واحدة استقرت وأخذت اسمها من " الفرنك " فكانت فرنسا . وكان اولئك القوط الغربيون قد فتحوا اسبانيا بقيادة ثيودريك الثاني فاستقر الأمر فيها وبدأ الشعب الاسباني مرحلة تكوينه القومي ..
وهكذا مازالت القبائل تستقر لتصبح شعوباً مستقرة أو أمما متكونة قادرة على أن تدفع عنها غارات ما تبقى من قبائل هزيلة جائلة . فلما أصبح لكل شعب أو أمة أرض ، كان لابد لحق " الفتح " أن يخلي مكانه لحق " تقرير المصير " . ومؤداه أن من حق كل شعب أو أمة أن يستقل عن غيره من الشعوب والأمم الأخرى " بالارض " التي يقيم عليها .. فنكون قد وصلنا الى القرن العشرين .
ونعجب أنه مايزال في القرن العشرين من يجدون فراغاً من الهموم ليحلموا بعودة دولة الخلافة ، ويزعمون أنها نموذج الدولة الاسلامية . وهو حلم غير قابل للتحقق في هذا العصر لأنه ليس عصر الامبراطوريات وحق الفتح بل عصر " الدول " ثابتة الحدود ، وحق تقرير المصير .فلا يكون على من يريد أن يعيد دولة الخلافة أن يفعل اقل من غزو الكرة الأرضية كلها ، وتلك عودة إلى نموذج الدولة الموهومة التي تكلمنا عنها من قبل . من يريد فليحاول ، فهذا شأنه . ولكن لما كان الاسلام من شأننا جميعاً فنرجو أن يعفي " مشروعه الامبراطوري " من نسبته إلى الاسلام حتى لاينسب فشله إلى الاسلام على الأقل .
67 ـ ولقد فشلت من قبل دولة الخلافة فانقضت ، أفلا يعقلون ؟ لم تفشل لأن الخلفاء من بني عثمان كانوا أقل معرفة بالدين الاسلامي كما يزعم البعض ، فإن أحداً منهم لم يكن " مفتياً " تفسد أحوال الرعية إن أخطأ في الاجتهاد وفسدت فتواه . ومن قبلهم تولَى الخلافة من جهروا بالمنكر من الكفر مثل الأموي وليد الثاني ( 743 - 744 م ) ، ولم تسقط دولة الخلافة أو تنقض . وما نحسبهم أقل معرفة بالدين من البرامكة أو السلاجقة أو المماليك الذين ازدهرت في أيام توليهم السلطة الفعلية دولة الخلافة وأينعت . ولانحسبهم أقل حرصاً على الدين وأحكامه من الفاطميين الذين شوهوا مناسكه بكل البدع المزوَقة التي نعرفها . على أي حال لم تنجب أسرة العثمانيين مثل الحاكم بأمر الله الفاطمي بل إن العثمانيين هم الذين اخترعوا منصب " المفتي " ليحصنوا احكام الدين ضد مخاطر الاجتهاد في شعب لايعرف لغة القرآن . وأول من صاغ احكام الشريعة ( المذهب الحنفي ) في مواد مرقمة كما يفعلون في التشريع الحديث واصدروه فيما يعرف " بالمجلة " حتى لايترك الأمر لمطلق اجتهاد القضاة والمفتين . وفي عهدهم وليس في عهد غيرهم ، عزل خلفاء ، من بينهم عبد الحميد الثاني استناداً - ولو شكلياً - إلى فتوى بعدم صلاحيتهم لتولي الأمر . وأبطل العلماء قرارين باضطهاد المسيحيين لمخالفتهما لأحكام الدين الاسلامي ، فلم ينفذا . القرار الأول أصدره السلطان سليم الأول عام 1517 والقرار الثاني أصدره ابراهيم الأول عام 1645 . ولم تفشل دولة الخلافة لأن الخلفاء من بني عثمان كانوا فاسقين ، فإن قائمة أسماء الفاسقين ممن تولوا الخلافة أطول بكثير من قائمة أسماء كل الخلفاء العثمانيين . ليس هذا دفاعاً عن الخلفاء من بني عثمان ، فإنَا نعرف من أمرهم مايعرفون ، وإنما هو رفع لخطأ شائع يردَ انهيار الدولة الى سبب وحيد يتعلق بأشخاص حكامها . والحق أنه طالما كانت دولة الخلافة في عنفوان شبابها كانت قادرة على الحياة بالرغم ممن تولى الخلافة فيها من الجهلة والفاسقين والأطفال أو الشيوخ العاجزين . فلما هزمت ووهنت قوَتها ، آن لها أن تموت بالرغم من كل تمنيات المسلمين .
68 ـ كذلك لم تفشل دولة الخلافة العثمانية لأن دعاة القومية العربية ، أو العرب عامة ، قد تآمروا ضّدها وخربوها كيداً للوحدة الاسلامية واستكمالاً لدور الصليبيين . ذلك لأن دولة الخلافة قد دبت على طريق نهايتها وأوغلت فيه قبل أن يعرف عربي واحد كلمة القومية ، وقبل أن يحلم عربي واحد بالوحدة العربية ؛ قبل هذا بعشرات السنين . لقد بدأت أسباب أسباب انفراطها منذ أن بدأت تفرط في ولايتها على رعاياها وأرضها . كان ذلك يوم أخذت تبيع " الامتيازات " للدول الأخرى ، ثم تكره على بيعها ، ثم تغتصب منها اغتصاباً . لم يكن أحد قد عرف كلمة القومية أو حلم بالوحدة العربية حين باعت دولة الخلافة الامتيازات لفرنسا ( 1535 ) ثم لانكلترا ( 1579 ) ثم لهولندا ( 1598 ) ثم لروسيا ( 1700 ) ثم للسويد ( 1737 ) ثم لنابولي (1740) ثم للدانمرك ( 1756 ) ثم لبروسيا ( 1797 ) ثم لاسبانيا ( 1782) ثم للولايات المتحدة ( 1830 ) ثم لبلجيكا (1838 ) ثم للبرتغال ( 1848 ) ثم لليونان (1854 ) . والامتيازات تعني أن كلاً من تلك الدول كانت ذات سلطات مباشرة على رعاياها ، مستقلة عن سلطة دولة الخلافة في قلب دولة الخلافة وعلى أرضها . إنها تلك الامتيازات التي بدأت بذوراً ، ثم نبتت نفوذاً ثم أثمرت استعماراً . فقد كانت الجيوش الروسية تكتسح جند الخلافة متجهة إلى العاصمة الآستانة ( القسطنطينية ) عام 1768 فتخلت دولة الخلافة عن قبرص ورودس وكريت لتعزز قواتها على الحدود الشمالية . وقي عام 1829 هزمت جيوش دولة الخلافة في أدرنة ففقدت اليونان وأجزاء من القوقاز ، وسلطتها على بلاد البلقان .
لم تستطع دولة الخلافة أن تصنع شيئاً وهي ترى الاقطار العربية تسلب واحداً بعد الآخر .احتلت فرنسا الجزائر (1830 ) وتونس ( 1881 ) ، واحتلت انكلترا جنوب الجزيرة العربية ( 1838 ) ، والاحساء (1871 ) ، ومصر ( 1882 ) ، ومسقط ( 1892 ) والكويت ( 1899 ) ، واحتلت ايطاليا ليبيا ( 1912 ) أما ماتبقى من الأقطار العربية ولايات من دولة الخلافة ، فقد اقتسمه المستعمرون بعد انتصارهم على دولة الخلافة وحلفائها عام 1918 . القطر العربي الوحيد الذي استطاع أن يقاوم الاستعمار الاوروبي على مدى القرن التاسع عشر كله وحتى عام 1908 هو مراكش ، وذلك لأن مراكش هي القطر العربي الوحيد الذي لم يكن جزءاً من الدولة العثمانية . فأية وحدة اسلامية تلك التي يحلمون بالعودة إليها ؟
69 ـ أما متى تحررت تلك الأقطار العربية ؟ فلنتذكر ، ( إنَ الذكرى تنفع المؤمنين ) . تحررت بعد أن اندثرت دولة الخلافة وبدون دولة خلافة أو دولة وحدة إسلامية من أي نوع كانت . ولكنها ماتحررت إذ تحررت إلا في نطاق حركة التحرر العربي التي بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين . وما تحرر قطر منها إلا بمساندة ومساهمة القوى القومية العربية وجماهير الأمة العربية من الخليج إلى المحيط . فأية قومية تلك التي يناهضونها باسم الوحدة الاسلامية ؟
70 ـ أما لماذا بدأت الحركة القومية العربية في المشرق أولاً فلأنها لم تصطنع اصطناعاً . بدأت حيث توفر مبررها التاريخي ، فكان محتوماً أن تبدأ حيث توفر . ولو أنها بدأت في غير المشرق العربي لكانت جديرة بأن تتهم بالاصطناع الذي يعني انعدام المبرر . ذلك لأنه في مطلع القرن العشرين كانت كل أقطار الوطن العربي تحت سيطرة الاحتلال الأوروبي ماعدا أقطار المشرق فقد كانت ماتزال اجزاء من دولة الخلافة . ولم تلبث الحركة القومية التركية ( الطورانية ) ممثلة في قيادتها جمعية " الاتحاد والترقي " أن ألغت ( فعلياً ) دولة الخلافة من حيث هي دولة مشتركة بين أمتين ، العربية والتركية . وحوَلوها إلى دولة تركية تحكم العرب وتحاول سلبهم خصائص القومية " بتتريكهم " . ولقد كان الشوفينيون الاتراك مسلمين ، ولم تكن غايتهم من قهر العرب إعادتهم إلى الاسلام بعد أن ارتدَوا . بل كانت غايتهم السيطرة على " أمة الاسلام " التي علمتهم كيف يكونون أمة ، وكيف يكونون مسلمين . وحيث بدأ الهجوم بدأت المقاومة . وبدأ الدفاع عن القومية العربية حيث بدأ الهجوم على القومية العربية . كان المهاجمون تركاً فكان المقاومون عرباً . أما في المغرب العربي ومصر وحيث السيطرة الأوروبية فلم يحتج العرب إلى أن يميزوا أنفسهم عن أعدائهم بالعروبة أو بالانتماء القومي إلى الأمة العربية . ولو أنهم فعلوا لكان ذاك اصطناعاً حقاً . فقيل أنهم عرب ، وقيل أنهم مسلمون ، بدون تفرقة ، جرياً على ماكان يطلقه عليهم المستعمرون بدون تفريق .
ومع ذلك فإن الحركة العربية القومية التي بدأت في المشرق لم تلبث أن امتدت إلى كل مكان متاح . فنرى من فصائلها المنظمة " المنتدى العربي " ( 1909 ) ، و " الجمعية القحطانية " ( 1903 ) و " جمعية العهد" (1914) ، تنشأ في قلب العاصمة الآستانة . ونرى " رابطة الوطن العربي " ( 1904 ) ، و " العربية الفتاة " (1912 ) تنشآن في باريس وتنشطان في كل مكان . ونرى في العراق " الجمعية الاصلاحية " ( 1913 ) ، وفي القاهرة " حزب اللامركزية " ( 1912 ) ، ... الخ .
هل كان القادة مسلمين أو غير مسلمين ؟ هذا سؤال لاننزلق إلى وحل الاجابة عليه . نحن نعرفهم جميعاً عرباً دافعوا عن أمتهم واستشهد كثير منهم في سبيل الدفاع عنها . ونعرف منهم دفعة واحدة من الذين استشهدوا على أعواد المشانق السفاح التركي أحمد جمال " باشا " : عبد الحميد الزهراوي ، وعبد الكريم خليل ، ومحمد المحمصاني ، وسالم الجزائري ، وعبد القادر خرسا ، ونور الدين القاضي ، وسعيد عقل ، وجورجي حداد ، وعمر حمد ، وعبد الغني العريس ، وعارف الشهابي ، وأحمد طبارة ، ومحمد الشنطي ، وتوفيق البساط ، وأمين لطفي ، وشفيق المؤيد ، وعبد الوهاب الانكليزي ، ورفيق رزق سلوم .
فمن ذا الذي يجرؤ على أن يخوض في دماء شهداء الأمة العربية ليبحث عن الدين الذي كانوا اليه ينتمون ؟ .
71 ـ ثم ان كل فصائل الحركة العربية قد اجتمعوا في باريس ( 1913 ) يحاولون الدفاع عن الدولة المشتركة ، دولة الخلافة ، أو دولة الوحدة الاسلامية التي يحملون القومية العربية مسؤولية وفاتها ، كان الشوفينيون الأتراك قد أنهوها فعلاً ، متحالفين في ذلك مع سادتهم من المستعمرين فاجتمعت فصائل الحركة العربية في مؤتمر باريس تحاول الابقاء عليها . فنرى المؤتمر ينتهي إلى المطالبة بإصلاح الدولة وتحرير إدارتها من التسلط التركي والمساواة بين رعاياها من العرب والاتراك ولم يطالبوا باستقلال العرب عن الدولة المشتركة أو التي كانوا يريدون لها أن تبقى مشتركة لتكون أكثر مقدرة على مقاومة المد الاستعماري كما كانوا يعتقدون . فلما أن قامر الاتراك بمصير الاقطار العربية في رهان الحرب الأوروبية الأولى واختاروا جانب المهزومين راهن العرب على ثقتهم بالمنتصرين . ومع ذلك فقد بقيت تركيا مستقلة وسقطت بقية الأقطار العربية في قبضة المستعمرين . حينئذ بدأت حركة التحرر العربي تعبيء قواها القومية في سبيل التحرر والوحدة . فما الذي جنته الأفكار القومية والدعوة إلى الوحدة العربية على تلك الدولة التي كانت قد أنقضت قبل أن تبدأ الحركة القومية العربية بسنين ؟
72 ـ لا ، لم تفشل دولة الخلافة لأي سبب من تلك " الأعراض " التي كانت تنبيء بأن في دولة الخلافة ذاتها داءها الدفين : الشيخوخة . ولقد طالت فترة شيخوختها حتى تجاوزت عصرها . عصر الدولة " الامبراطورية" طالت أكثر من أية امبراطورية عرفها التاريخ ، فما بين تولي أبي بكر ( عام 632 ) وسقوط عبد المجيد الثاني ( عام 1924 ) انقضت 1292 سنة . كانت خصائص الدولة " الامبراطورية " التي عرفناها قد أصبحت غير صالحة للحياة في عصر الدول القومية الناشئة . والقوى الرأسمالية النامية . والقوى الاستعمارية الضارية . ولقد حاول نابليون أن ينشيء دولة " امبراطورية " طبقاً لذلك النموذج الموشك على الانقراض فلم تكد تعيش امبراطوريته ربع قرن . هزمتها القوى القومية الناشئة في اسبانيا وألمانيا وروسيا ، وخذلتها القوى اللرأسمالية النامية في فرنسا ذاتها ، وسحقتها القوى الاستعمارية الضارية بقيادة بريطانيا . ولقد كانت دولة الخلافة هي آخر نموذج للدولة الامبراطورية . كانت قد نشأت حولها دول قومية ذات نظام رأسمالي سيطرت على أركان الأرض جميعاً . اسبانيا . والبرتغال . وهولندا . وانكلترا . وفرنسا . وألمانيا . وروسيا . وايطاليا فأغراها اتساع المستعمرات بأن تستعير اسم الدولة المنقرضة فأسمت نفسها امبراطوريات . ولكن وحدة الاسم لاتخفي اختلاف المسميات . كانت الدولة الامبراطورية المنقرضة دولة مشتركة بين كل الشعوب فيها . أما الامبراطورية الحديثة فدولة مستغلة لكل من تسيطر عليه من شعوب .
على أي حال انقرضت دولة الخلافة لأنها فشلت في أن تعيش في غير عصرها ، فهل ثمة من يحلم بالعودة إلى دولة فاشلة ؟
الــدولــة الـمـمـكـنــة:
73 ـ لايبقى من الدلالات المحتملة لتعبير " الدولة الاسلامية " التي يدعون إليها إلا أن تكون دولة يكون "نظامها " إسلامياً . كان يمكن أن تخرج هذه الدعوة من نطاق حديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام ، لولا أن بعض الدعاة إليها في الوطن العربي يطرحونها مقترنة بحجة داحضة ومناهضة للعروبة معاً . يقولون : إنه لكي تكون الدولة إسلامية النظام يجب ألا تقوم على أسس قومية . وهم - في هذا - ينقلون نقلاً شائها عن الداعية الهندي الكبير أبو الأعلى المودودي ، فلا ينصفونه ولا ينصفون أنفسهم .
فالمودودي أولاً وأخيراً داعية إلى ثورة إسلامية عالمية تستهدف تغيير ما بنفوس البشر حتى يكونوا قادرين على تغيير واقعهم الاجتماعي ، وذلك عن طريق التربية الاسلامية ليكون المسلمون المعاصرون في كل مكان من الأرض أشبه إيماناً وتقوى بالمسلمين في عصر الرسالة والخلفاء الراشدين . في نطاق هذا انتقد كل أشكال الدول التي تداولت على الأرض منذ مقتل عليَ بن أبي طالب حتى وفاته ، قياساً على مفاهيم ثابتة في الاسلام وفي الدولة أقام عليها صرح أفكار متماسكة إن يتجزأ ينقض .
يهمنا منها أن " الأمة " عنده غير ذات صلة بالأرض فهي كل جماعة من البشر متميزة دينياً أو عرقياً . أما القومية فهي عنده عصبية عدوانية إطلاقاً . ولعله في هذا كان متأثراً بحملة العداء للقومية التي شنَها الحلفاء خلال الحرب الأوروبية الثانية ( 1939 - 1945 ) وسخروا لها مالايحصى من الكتَاب والكتب لتسهم بدور مرسوم في هزيمة ألمانيا النازية ( النازي مختصر اسم الحزب القومي الاشتراكي الذي كان يقوده هتلر ديكتاتور ألمانيا ) ، فتأثر المودودي بالمفهوم الدعائي العدائي للقومية وهو يكتب ويبشر خلال الحرب وويلاتها كما تأثر - لاشك تأثر - بالصراع الطائفي بين الهندوس والمسلمين في ظل الحكم البريطاني للهند ، فهو يسمي كل طائفة منها " أمة " ، والانتماء إليها " قومية " ، ثم يعمم خبرته بذلك الصراع ، فيقول إن كل قومية هي عصبية عدوانية .
أما مفهوم " الأمة " كطور متقدم من أطوار التكوين البشري ، متميز عما سبقه من أطوار عشائرية أو قبلية أو شعوبية ، والقومية كتعبير عن علاقة مميزة للانتماء إلى أمة معينة وليست ممتازة ، أو بأي مفهوم مما ذكرناه من قبل ( فقرة 15 ) ، فلم يتوقف عنده المودودي .
أياً ماكان الأمر ، فبهذا المفهوم الخاص لم يتصور المودودي إمكان قيام دولة إسلامية وقومية معاً لأن الدولة ، حينئذ ، ستكون عدوانية في سياستها الخارجية ، استبدادية في سياستها الداخلية لمجرد أنها قومية ولو كانت إسلامية . اتساقاً مع هذا المفهوم عارض بقوة الدعوة إلى قيام دولة باكستان الاسلامية منفصلة عن الهند . قال مستنكراً وساخراً في محاضرة ألقاها في الجامعة الاسلامية بمدينة أليجار بالهند يوم 12 أيلول / سبتمبر 1940 : " إن مثل هذه الدولة القومية الاسلامية ستعاقب بالاعدام ، أو النفي ، أفعالاً لاتعاقب عليها الدولة غير الاسلامية إلاَ بالحبس ، ومع ذلك سيطلق على قادة هذه الدولة لقب المجاهدين في سبيل الله حال حياتهم ، وأولياء الله الصالحين بعد مماتهم ، لمجرد أن تصادف أن كانوا مسلمين بالميلاد " . وكان منطقياً مع نفسه ودعوته حين استطرد فقال : " من هنا فإنه من الخطأ الجسيم الاعتقاد بأن طراز الدولة القومية يمكن أن يكون على أي وجه مساعداً على تحقيق الثورة الاسلامية . إن السؤال الذي يواجهنا هو : إذا كان علينا أن نغيَر الحياة الاجتماعية للبشر تغييراً ثورياً ، حتى في دولة قومية إسلامية ، وإذا كان علينا أن نقوم بهذا بدون مساعدة تلك الدولة ، بل بالرغم من معارضتها الايجابية ، وهو الأكثر احتمالاً ، فلماذا يكون علينا أن ننتظر إلى أن تأخذ تلك المعارضة شكل الدولة بدلاً من أن نبادر إلى التقدم عن طريق الثورة ؟ .. لماذا نضيع وقتنا بغباء في العمل من أجل مايسمى الدولة القومية الاسلامية ونبدد جهودنا في إقامتها . إننا نعرف أنها لن تكون غير ذات فائدة لهدفنا فحسب ، بل ستكون عقبة على طريقنا أيضاً " ( حركة الثورة الاسلامية - الطبعة السابعة بالانكليزية . لاهور - صفحة 27 ) .
حينما تقوم دولة باكستان ( آب / أغسطس 1947 ) سيلائم أبو الأعلى المودودي بين بعض أفكاره وبين نظم الحكم في الدول الحديثة فمع استمرار تمسَكه بأن السيادة لله وحده . وأن البشر خلفاء في الأرض جملة ، والمساواة بينهم في الخلافة ، ينتهي إلى قبول أن يكون الدستور مكتوباً ، وأن يقوم بالتشريع نواب عن الشعب وأن تكون الحكومة مسؤولة أمامهم ، وأن يكون رئيس الدولة منتخباً .. الخ ، كما فعل في محاضرته التي ألقاها في كراتشي في تشرين الثاني / نوفمبر 1952 بدعوة من نقابة المحامين ضمن الحوار الذي كان دائراً حول وضع دستور إسلامي لباكستان . ( نشرت بالانكليزية في طبعتها الخامسة عام 1978 في لاهور تحت عنوان " المبادىء الأولية للدولة الاسلامية " ) . وسيفاجأ مصدوره بعد تجربة حية استمرت نحو ربع قرن كامل بأن الدولة الاسلامية التي قامت تحمل اسم " باكستان " على أساس من وحدة الانتماء إلى الدين لم تلبث أن انشقت إلى دولتين إسلاميتي النظام أيضاً على أساس وحدة الانتماء القومي ، فينفصل شعب البنغال ( نحو خمسين مليوناً يتكلمون اللغة البنغالية ) بإقليمها الشرقي مكوناً دولة " بنغلادش " ويبقى شعب البنجاب ( نحو خمسة وأربعين مليوناً يتكلمون اللغة الأوردَية ) دولة مستقلة باسم باكستان في إقليمها الغربي ( 1972 ) ، لتثبت التجربة الحية لمن يعقلون أن وحدة الانتماء إلى الدين لاتلغي وحدة الانتماء القومي ، وإن اختلاف الانتماء القومي لايعارض ولايناقض وحدة الانتماء إلى الدين ، وأن تجاهل أو إدانة أو مناهضة القومية من اجل إقامة دولة إسلامية لايؤدي إلاَ إلى إخفاق هذه الدولة الاسلامية في المحافظة على وحدتها .
74 ـ على أي حال ، وبغير حاجة إلى دروس التجربة الباكستانية ، ومن أجل الاجهاز على مماحكات الذين يناهضون العروبة بالاسلام سنثبت فيما يلي أن الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية بمعنى أن يكون نظامها إسلامياً هي دعوة إلى دولة ممكنة التحقق ، وأنها إذ تقترن بمناهضة العروبة تصبح دولة مستحيلة وأن مناهضة العروبة فكراً ، هي في واقع الأمر وحقيقته مناهضة للدولة الاسلامية ، عملاً .
75 ـ أما أن قيام دولة " نظامها " إسلامي ممكن فلا يستطيع إنكاره بحسن نية إلاَ جاهل بالاسلام أصلاً ، أو جاهل أصيل بماهية " النظام " في الدولة . يهمنا الآن هذا الأخير وسنهتم بالأول فيما بعد .
76 ـ إن " النظام " في الدولة - أية دولة - عبارة عن مجموعة كثيفة من قواعد السلوك العامة ( تخاطب الناس كافة ) المجردة ( لاتنصبَ على واقعة معينة بذاتها مكاناً أو زماناً أو أشخاصاً ) الملزمة للكافة تقوم على حراستها وضمان نفاذها ولو بالاكراه سلطة ( حكومة ) . هذه القواعد تقبل تقسيمات " فنية " عدة من مستحدثات منهج البحث العلمي . فهي قواعد دستورية أو قانونية أو إدارية تبعاً لدرجة سمو بعضها على بعض . وهي قواعد آمرة أو ناهية أو مكملة تبعاً لعلاقتها بما يتفق عليه الأشخاص . وهي قواعد موضوعية أو اجرائية أو تنفيذية تبعاً لموقعها من مراحل العلاقات . وهي قواعد مدنية أو تجارية أو جزائية تبعاً لنوع المضمون الذي تنظمه ... إلى آخر هذه التقسيمات المتداولة في دراسات فقه القانون . ولأنها قواعد سلوك عامة ومجردة _وملزمة فإنها هي المنظم للعلاقات بين الأشخاص في المجتمع ، ومن هنا يطلق عليها جملة " النظام " ؛ وضدَه " الفوضى " . ولقد تفنن بعض الذين يسمونهم فلاسفة التنوير الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر ( هوبز ، لوك مونتسيكو ، روسو ... الخ ) في تبرير نشأة " النظام " فزعموا أنه نشأ اتفاقاً بين الناس ، لأسباب اختلفوا فيها كبديل تعاقدي مشروط عن " حياة الطبيعة " السابقة عليه ، والتي كان كل فرد فيها مطلق الحرية . وكان أهم ماجاؤوا به فلسفتهم التي تحمل عنوان " العقد الاجتماعي " هو الاقرار بالمساواة بين الاشخاص في الحرية ومع أن التاريخ لم يثبت أنَ البشرية قد مرت في أي مرحلة من مراحلها بما يسمَى " حياة الطبيعة " ، ولا أثبت أن قد حدث يوماً اتفاق بين الناس على إنشاء نظام مشروط أو غير مشروط ، إلا أن هذا لم يؤثر في المكسب الحضاري المتمثل في اهتداء الأوروبيين ، أخيراً ، إلى قاعدة المساواة بين الناس بعد أن كان أرسطو معلمهم ، قد أنكرها بأكثر من عشرين قرناً . على قاعدة المساواة ، ومحافظة عليها أن تختلَ ، أصبح مسلماً أن مصدر " مشروعية " أي نظام هو قبول الناس له قبولاً حراً بدون إكراه . نقول " مشروعية " ولا نقول " شرعية " . الأولى تعني صلاحية النظام لمجتمع معين . والثانية تعني اتفاق الممارسة مع قواعده .
غير أنه لم يكن خافياً على أحد ، ومايزال غير خاف ، التناقض الظاهر بين فكرة النظام وفكرة الحرية ، وهو تناقض ممتد على أبعاد عدَة . أولها ، أن النظام إذ ينطوي على إلزام الكافة بقواعد عامة للسلوك لابد أن يحد من حرية افراد - قلوا أو كثروا - في أن يختاروا لأنفسهم السلوك الذي يرتضونه . إذ لايستوي الناس كافة فيما يختارون من سلوك . وثانيها ، أنه إذ ينطوي على الالزام بقواعد مجردة للسلوك ، لابد أن يحد من حرية أفراد - قلوا أو كثروا - في اختيار أنماط السلوك التي تلائم الظروف الواقعية لحياتهم . إذ لايستوي الناس كافة في ظروف الحياة الواقعية . وثالثها ، أنه حتى لو قبل الناس نظاماً معيناً في وقت معين فإن أحوالهم الاجتماعية متغيرة متطورة أبداً ، وبالتالي فإنَ قبول الناس في الماضي القريب أو البعيد ليس دليلاً على استمرار قبولهم في المستقبل البعيد أو القريب .. وحين يبقى نظام كان في الماضي مقبولاً ، بالرغم من انتهاء القبول بانقضاء مبرراته ، لابد أن يحد من حرية افراد - قلوا أو كثروا - وربما أجيال جديدة لم تقبله قط .
فكأن رد مشروعية النظام إلى قبول الناس محال . إنما هي القوة البدنية ، ثم القتالية ، ثم العددية ، ثم الاقتصادية ، ثم الفكرية .. التي تداولت الضعفاء تنشيء لهم نظاماً من قواعد يضعها الأقوياء ويكرهونهم على التزامها ، وهو قول مايزال متردداً .
77 ـ قد ينطوي كل من القولين على قدر من الصحة إذا توازيا زماناً ، ويكون كل منهما صحيحاً إذا تتابعا في الزمان . فمن ناحية أولى مايزال صحيحاً ، منذ الاقرار بالمساواة بين البشر ، أن مصدر مشروعية أي نظام هو قبول الناس . ولكن مايزال صحيحاً من ناحية ثانية أن الاقرار الفكري بالمساواة بين البشر لم يتحول إلى مساواة واقعية . إنه الفارق بين الواقع والمثل الأعلى . غير أنه صحيح من ناحية ثالثة ، بحكم سنَة التطور التي لاتتبدل ، أن البشرية تسعى حثيثاً للاقتراب من المثل الأعلى . فمن أجل التحقق من قبول الناس نظامهم ، أو تحقيقه ، أبدعت البشرية على مدى قرون تلك الأساليب الوضعية المتطورة من أول التعليم حتى الاستفتاء الشعبيَ وما بينهما من إسقاط الاستبداد وتدوين الدساتير وفرض سيادة القانون والفصل بين السلطات والتمثيل النيابي ، والانتخاب السري ، والاقتراع العام ، وحرية الرأي والتعبير والاجتماع والكتابة والنشر وتكوين الجمعيات والأحزاب والمظاهرات والاضراب وحرية الثورة أيضاً . الغاية الأساسية لكل هذه الأساليب متكافلة ، أو ما يسمونه " الديموقراطية " أن يقوم " النظام " في الدولة ويبقى مقبولاً من الناس .
أما علاج مشكلة عدم قبول أفراد - قلوا أو كثروا - لبعض قواعد النظام العامة فهو ترجيح رأي الأغلبية . ليس لأن ماتراه الأغلبية هو الرأي الصحيح . فهذا غير صحيح . إذ الأمر من الصحة والخطأ هو كما قال العالم العربي ابن الهيثم : " كل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً . وإما أن يكونا جميعاً كاذبين ، وإما أن يكونا جميعاً يؤديان إلى معنى واحد ، وهو الحقيقة . فإذا تحقق في البحث وأتعم في النظر ظهر الاتفاق وانتهى الخلاف " . الصحيح إذن هو مايطابق الحقيقة . والحقيقة ذات وجود موضوعي غير متوقف على وعي الناس وإن ظن كل واحد منهم أن قد وعاها . فإن اختلفوا في أمرها وجب الحوار عليهم جميعاً ليكمل وعي بعضهم وعي البعض الآخر . فإن لم يتفقوا تبقى الحقيقة غير معروفة على وجه اليقين . فلا وعي الأغلبية ولاوعي الأقلية دليل بذاته على صحة آرائهم . وفي هذا يستوون . إنما يرجح رأي الأغلبية بحكم المساواة بين البشر ، والحفاظ على وحدة المجتمع . ذلك لأن الأغلبية لاتتعدد وقد تتعدد الأقليات في مجتمع واحد . حينئذ لن يكون بين الأقليات مرجع فلا تبقى ملتئمة إلا مكرهة ، وهي حرب تمزق المجتمع الواحد . ثم انه بحكم المساواة بين البشر والحفاظ على وحدة المجتمع الذي يبرر ترجيح رأي الأغلبية تبقى للاقلية حرية المعارضة والنقد والدعوة إلى رأيها ، وإقناع الناس بصحته بأدلة قد تستقيها من آثار ممارسة رأي الأغلبية ... إلى أن تحصل لرأيها على الأغلبية فيصبح الحكم لها بعد أن كان عليها .
أما عن علاج مشكلة عدم قبول أفراد - قلوا أو كثروا - لبعض قواعد النظام المجردة فإفساح مجال كبير وغالب من النظام لتلك القواعد المسماة " مكملة " أي التي تبيح للناس أن ينظموا العلاقات فيما بينهم على مايختارون غيرمكرهين فيصبح ما اتفقوا عليه جزءاًمن النظام تحرسه السلطة وتفرض نفاذه على من اتفقوا عليه ولو بالاكراه ، وذلك هو مجال العقود . ثم الاباحة لكل ماهو غير ممنوع بقاعدة صريحة من قواعد النظام وهو مجال أكثر اتساعاً من مجال العقود .
أما عن علاج مشكلة عدم قبول أفراد - قلوا أو كثروا - لبعض قواعد النظام الملزمة لمجرد أن من سبقوهم قد قبلوها فبالاحتفاظ للناس - أو أغلبيتهم - بحرية إلغاء أو تعديل القواعد التي لم تعد مقبولة أو اضافة قواعد جديدة يقبلونها .
وهكذا يحتفظ المجتمع بوحدته منظما ، ويحتفظ النظام باستمراره قائما ومشروعا بدون أن يقف عائقا في سبيل التطور في الزمان والمكان . ولكن إلى أي حد ؟ . نعني هل توجد في النظام - أي نظام - حدود لايسمح النظام - أي نظام - للناس بحرية تجاوزها أو الاتفاق على تجاوزها ؟
نعم .
78 ـ ليس الجواب من عندنا ، وليس نقلا عن أي مجيب في العصر الحديث أو العصور السحيقة . إنه جواب البشرية منذ أن وجد بشر على الأرض . إذ لم يحدث قط في تاريخ البشر أن وجد " فرد " بدون مجتمع ولو كان المجتمع أمه وأباه . هكذا كان الأمر من الأسرة إلى العشيرة ، إلى القبيلة ، إلى الشعب ، إلى الأمة ، إلى الدول ، منذ أن وجدت الدول . تختلف تلك الحدود من مجتمع إلى مجتمع في الزمان وفي المكان ، ويختلف الجزاء على خرقها تبعا لصلاحيته في الحفاظ عليها ، وهو أمر لايستوي زمانا أو مكاناً ولكن لم يوجد، ولايوجد ، ولايمكن أن يوجد مجتمع بشري بغير نظام ؛ ولم يوجد ، ولايوجد ، ولايمكن أن يوجد، " نظام " بغير حدود . ذلك لأن الحدود هي الحل الوحيد للتناقض الأزلي بين وحدة المجتمع وتعدد الأفراد فيه . وحدة المجتمع تتطلب وحدة النظام ؛ وتعدد الأفراد - والناس مختلفون سنا وجنسا وفكرا ورغبات ومقدرة على العمل ، أو متميزون - يتطلب حرية كل واحد في اختيار النظام الذي يرتضيه ، أي تعدد النظم . فكان الحل منذ البداية وحتى الآن ، هو الابقاء على وحدة المجتمع ، وبالتالي وحدة النظام ، متمثلة في قاعدة أو مجموعة من قواعد النظام ذاته - قليلة عادة - لها ذات خصائص القواعد الأخرى ، فهي عامة ومجردة وملزمة للكافة ، إنما تتميز بأنه غير مباح مخالفتها أو الاتفاق على مخالفتها . وبالتالي صلح مميزاً للنظام عن غيره . ويحمل كل نظام عادة اسم مصدره الفكري أو الفلسفي أو العقائدي . فيقال نظام ليبرالي ، أو ديموقراطي ، أو اشتراكي ، أو ماركسي ، بمعنى أن تلك المذاهب أو العقائد هي مصدر تلك " القواعد - الحدود " التي لاتباح مخالفتها أو الاتفاق على مخالفتها في كلَ من تلك النظم . وهكذا نجد أن كل النظم ، أياً كان مضمونها ، أو اختلافها أو حتى تناقضها ، في كل الدول ، أياً كان مواقعها من الأرض ، تتضمن تلك " القواعد - الحدود " التي يسمونها في علم القانون " قواعد النظام العام " . وكل المجتمعات منذ بدء الخليقة كانت منظمة على وجه أو على آخر نظما تتضمن تلك القواعد أو الحدود . الخلاف الوحيد بين المجتمعات على مدى الزمان ، أو بين الدول على الأرض ، هو في مضمون تلك القواعد .
ولأن هذه القواعد مستقرة وثابتة فإنَ الناس لايشعرون بها عادة . إنهم يلائمون - بمضي زمن الممارسة - بين مايريدون وبين أحكامها ، أو - بمعنى آخر - بين مصالحهم ومصلحة مجتمعهم ، وما يزالون حتى تتحول تلك الملاءمة إلى ضوابط اجتماعية للسلوك قد لايعرف أحد من أين جاءت ، يسمونها العرف أو التقاليد أو الآداب ، يستنكر الناس الخروج عليها ، فتدخل في نسيج التكوين الحضاري للمجتمع ، ويكون ذلك كافياً لاستقرارها واستمرارها منظما للسلوك والعلاقات . من هنا لم يكن غريبا أن تساوي بعض التشريعات الحديثة بين قوة إلزام قواعد النظام العام وقواعد الآداب ، وتعتدَ بالعرف أو التقاليد منظمين للعلاقات بين الاشخاص في حالة غياب قاعدة تشريعية . هذا هو " النظام " باختصار شديد . فهل يمكن أن تقوم دولة " نظامها " إسلامي ؟
79 ـ يمكن أن يقوم نظام إسلامي في أية دولة يقبله شعبها . وهو يقبله إما بالاجماع وإما بالأغلبية . ليس ثمة صعوبة فنية في هذا . فهكذا تقوم النظم المشروعة في كل الدول . وسيكون مصدر مشروعيته كنظام للدولة هو قبول الناس له . وليس ثمة أية غرابة في هذا . فالقبول العام ( إجماعاً أو أغلبية ) هو مصدر مشروعية كل النظم المشروعة .
80 ـ اما أن يكون الناس قد قبلوه بالاجماع أو بالأغلبية لأنهم " يؤمنون " بقدسيته فإن الايمان باعث على القبول ، وليس قبولا أو بديلا عنه . وهو من طبائع البشر كل البشر . كل إنسان يقبل نظاماً لأن قواعده تصوغ العلاقات بين الأشخاص صيغة تتفق وفكرة أو فلسفة أو عقيدة " يؤمن " هذا الشخص بها . إن النظم الليبرالية القائمة في كثير من دول العالم المعاصر تقبل فتعتبر مشروعة مع أن الباعث على قبولها " إيمان " راسخ بالحرية الفردية التي منحها للانسان " القانون الطبيعي " الأزلي الخالد الذي لايجوز إنكار وجوده أو تكذيب وعوده . وهذه هي الايديولوجية الليبرالية ، أو هذا هو جوهرها . وكثير من دول العالم المعاصر ذوات نظم مقبولة فمشروعة مع أن الباعث على قبولها " إيمان " صمدي بقدرة " وسائل إنتاج الحياة المادية " المحرك الازلي الخالد لارادة الانسان ، والتي لايجوز إنكار قدرتها أو تكذيب وعودها . وهذه هي الايدلوجية الماركسية أو هذا هو جوهرها . ومن قبل هذا كان الايمان بأن الله قد اختار الملوك بعنايته هو الباعث على قبول النظام الملكي . ومن قبل كان الايمان بان بابا الكنيسة الكاثوليكية هو قائم مقام الله في الأرض هو الباعث على قبول كل النظم في اوروبا على مدى قرون طويلة . وكان الايمان بحكمة كونفوشيوس في الصين وقدسية بوذا في الهند ، وألوهية فرعون في مصر ، بواعث على قبول النظم السائدة . ثم إن الايمان بالمصدر العقائدي للنظام ، أيَ نظام ، هو الدليل القطعي على أن قبول الناس له هو قبول حر لاإكراه فيه . إذ لايكره انسان على قبول مايؤمن به . ومن هنا يجاهد كل مجتمع في كل دولة بالنفس والمال لتأصيل ايديولوجيته وتجميلها ، وتطويرها ، ونشرها ، والدفاع عنها . ولقد كان الناس - منذ بداية التاريخ - يقاتلون حتى الموت دفاعا عن النظم التي قبلوها لأن قواعدها تعبَر عما يؤمنون به ، كما أن الدول المعاصرة تتقاتل ، بوحشية لم يعرفها التاريخ ، دفاعا عن الايديولوجيات التي صيغت في قواعد نظمها . ليس هذا - إذن - جديدا على البشرية . وليس جديداً أيضاً أن نقول إن من " يؤمن " بفكرة أو فلسفة أو عقيدة أو ايديولوجية هو " كافر " بما يخالفها من أفكار أو فلسفات أو عقائد أو ايديولوجيات . ولما كان من المحال التحقق من مضمون الايمان بدون التعبير عنه ، وكان من المحال التحقق من صدق هذا التعبير ، فإنه يلزم ويكفي القبول مصدراً لمشروعية النظم بدون تفتيش عما في الصدور من بواعث .
81 ـ مايصدق بالنسبة إلى كل النظم يصدق بالنسبة إلى النظام الاسلامي . فيكفي لقيامه مشروعاً أن يقبله الناس أو أن تقبله أغلبية الناس . وليس لكائن من كان أن يبتدع في النظم بدعة عدم الاعتداد بالقبول العام لأن الباعث عليه ايمان بعقيدة الاسلام .. إنه لغو قبيح لأنه لايبتدع بدعته هذه إلا ليستبدل بالايمان بعقيدة الاسلام ايماناً بعقيدة أخرى إذ لامفر من أن يكون الباعث على القبول ايمانا . وليس لكائن من كان أن يبتدع بدعة في الاسلام نظاما فيقيمه على الايمان ولايعتد بالقبول به .
وهي بدعة لأن الله تعالى قد قال : ( لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) { البقرة : 256 } . وللفظ الدين كما ورد في القرآن دلالات متعددة . وهي في هذة الآية تدل على الاسلام نظاما ، إذ أن الاكراه في العقيدة محال . ولقد قبل الأعراب الاسلام نظاماوقبلوا فيه ، فلما زعموا أن الباعث على قبولهم ايمانهم قال الله تعالى : ( قالت الاعراب آمنَا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولَما يدخل الايمان في قلوبكم ، وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من أعمالكم شيئا ، إن الله غفور رحيم ) { الحجرات : 14 } ، ( ولايلتكم من أعمالكم ) أي لاينقصكم من ثواب أعمالكم . وهو واضح الدلالة على أنَ العبرة في مشروعية الالزام بقواعد النظام الاسلامي قبوله ، وليس بالباعث على قبوله .
وفي يوم فتح مكة دخل الكافرون المنهزمون في الاسلام أفواجا فور الهزيمة فأصبحوا مسلمين . أي قبلوا الاسلام نظاماً ، وقبلوا فيه . ولم يتوقف أحد ليفتش عن الايمان في الصدور ليكتشف كيف يتحول الناس أفواجا من الكفر إلى الايمان في بضع ساعات وبمجرد أن ينهزموا وهم يقاتلون المؤمنين ! ولكن هذا هو الاسلام نظاماً . إحدى قواعده المميزة قبول من يشهد على نفسه علناً بأنه يقبله بصيغة الشهادة المعروفة فيعامله بأحكامه ويترك مافي السرائر إلى عالم السرائر ، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء . ومن السنَة الفعلية المتواترة ماذكرناه من قبل من أمر " الصحيفة " التي اقامت نظاما للعلاقات فيما بين المسلمين وغير المسلمين في المدينة ، يتولى الرسول صلى الله عليه وسلم القيام على نفاذ قواعدها ، ولو بالاكراه ، على من قبلوها ( فقرة 28 وما بعدها ) .
82 ـ ليس ثمة أية صعوبة فنية أيضا في معرفة متى يكون النظام اسلاميا . ونحن نفضل أن يكون حديثنا عن النظام الاسلامي وليس عن الشريعة الاسلامية . لأن تعبير الشريعة الاسلامية أصبح يطلق على مايشمل الآراء والمذاهب الفقهية المختلفة . ويسيء البعض استعماله فيعتبر أن رأيه أو مذهبه هو الشريعة الاسلامية ويكاد أن يفرضه بالقوة ، مع أنَ كل الآراء والمذاهب التي يشملها تعبير الشريعة الاسلامية ليست إسلامية بذاتها ، وليس أصحابها رسلاً بعد الرسول ، إنما تستمد هذه النسبة من أنها اجتهادات تدور في نطاق مالا يجوز الاجتهاد فيه ، لاتتجاوزه . مناط التمييز إذن هو تلك القواعد التي لااجتهاد فيها . وليس لهذه القواعد مصدر في الاسلام إلا القرآن والأحاديث المتواترة . وقد أرشد علم أصول الفقه من لايريد أن يضل إلى مناط التمييز بين مالا تباح مخالفته أو الاتفاق على مخالفته من أحكام الاسلام وبين مايرد فيه الخلاف اجتهاداً بدون إثم . فنقول أنه أرشد من لايريد أن يضلَ إلى مناط تمييز " قواعد النظام العام " التي يتميز بها النظام ، فيصحَ أن يقال إنه نظام إسلامي . إنها كل قاعدة سلوك عامة ( تخاطب الكافة ) مجردة ( لاتنصبَ على واقعة معينة بذاتها زماناً أو مكاناً أو أشخاصا) ملزمة ( آمرة أو ناهية ) يقينية الورود ( من عند الله أو الرسول ) قطعيَة الدلالة ( لاتحتمل التأويل ) .
القرآن كله يقيني الورود من عند الله . هذا مسلَم لدى المسلمين كافة ( نتجاهل فئة تافهة أنكرت نسبة سورة يوسف إليه ) ، أما الدلالة فقد قال الله تعالى : ( هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنَ أم الكتاب وأخر متشابهات ) { آل عمران : 7 } . الآيات المحكمات هنَ وحدهن قطعيَات الدلالة . أما المتشابهات فقابلات للتأويل . وفي تأويلهن اختلف المسلمون ويختلفون بدون إثم . من أخطأ فهو مثوب ومن اصاب فهو مثوب مرتين . قد يرجع الخلاف إلى دلالة اللفظة على معنيين ، وقد يرجع إلى المفاضلة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي .. إلى آخر أسباب هذا الخلاف المعروفة في فقه القرآن . المهم أن كل قاعدة تجيء عن طريق التأويل هي قاعدة " وضعية " وليست " الهية " ، فهي ليست من قواعد النظام العام الاسلامي .
أما بالنسبة إلى السنَة ، ونعني بها ماصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته رسولا عليه البلاغ المبين فمنها ماورد بطريق التواتر ومنها ماورد بطريق الآحاد . والتواتر أن ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع ثم ينقل عنهم جمع مثلهم ، وهكذا يصل إلينا ، وأن يبلغ الناقلون من كل طبقة حداً من الكثرة يستحيل معه التواطؤ على الكذب . أو هو كما يقال نقل الكافة عن الكافة . ومع ملاحظة أن دلالة " الكثرة " و "الاستحالة " و " الكافة " مسألة يرد فيها الخلاف ، فإن التواتر ثابت للسنَة الفعلية في أداء فروض العبادات . اما السنَة القولية فالمتواتر منها غير موجود في الأحاديث المروية في الكتب المدونة على مايرى بعض العلماء أما الذين يرون أنه موجود في الكتب المدونة فيشترطون لأخذه مأخذ التواتر أن تخرجه كتب الحيث جميعاً ، وأن تتعدد طرق إخراجه كي لايكون بعضهم مكرراً ماقال البعض الآخر ، وأن يثبت هذا التعدد في طرق الاخراج في أول الرواية ووسطها وآخرها . إن وجد هذا الحديث فهو يقيني الورود من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكن يقين وروده لايعني بالضرورة أنه قطعي الدَلالة . فقد يكون قابلاً للتأويل ولو كان متواترا . وفي تأويله اختلف المسلمون ويختلفون بدون إثم لأسباب كثيرة معروفة في فقه السنَة . المهم أن كل قاعدة تستند إلى حديث غير متواتر ، أو تجيء عن طريق تأويل حديث متواتر ، هي قاعدة " وضعية " وليست " بيانا " ، فهي ليست من قواعد النظام العام الاسلامي .
83 ـ كل قاعدة سلوك عامة مجردة آمرة أو ناهية بالمعنى الذي أشرنا اليه من قبل جاءت بها آية من آيات القرآن محكمة أو حديث متواتر قطعَي الدلالة ، هي قاعدة ملزمة للكافة ، لايجوز لأحد أن يخالفها ، وليس مباحاً الاتفاق على مخالفتها . ليس هذا محل خلاف ولااجتهاد . وبالتالي يكون نظام الدولة إسلاميا ويتميز بأنه إسلامي إذا تضمنت قواعد النظام العام فيه تلك القواعد كلها غير منقوصة . نقول تضمنت لأنه مباح للناس أن يضيفوا إليها مايرون ، لأسباب تتصل بظروفهم المتغيرة في المكان ، المتطورة في الزمان ، قواعد وضعية يرفعونها عن مخاطر الخلاف إلى مرتبة قواعد النظام العام .
84 ـ كلَ ماعدا هذا مما يقال إنه من مصادر الشريعة الاسلامية هو من عند البشر فهو موضوع ، وكل ماجاء من قواعد بناء عليه جاء بها البشر ، فهي موضوعة . الاستنباط موضوع ، والقياس موضوع ، والاستحسان موضوع ، والاستصحاب موضوع ، والضرورة موضوعة ، والمصالح المرسلة موضوعة والاجماع موضوع . .الخ . وكل مابني عليه من فقه ومذاهب موضوع . وكل موضوع ينسب إلى من اجتهد فوضعه ، أو من اجتهدوا فوضعوه ، لايحتج به على الاسلام بل الاسلام حجة عليه . فلا يحتجَ به على المسلمين إلا إذا قبلوه ، وفي حدود مايقبلون منه ، فإن يكرهوا عليه يصبح غير مشروع .
85 ـ لايعني هذا أنه مرفوض ولكن يعني تماماً أنه غير مفروض . والواقع من الأمر أن أجيال المسلمين الذين وضعوه ، أو وضعوا أصوله ، كانوا أكثر منا فهماً لدلالة لغة القرآن ، وأقرب منا زماناً بمن نقلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأكثر منا اهتماما ببناء حياة إسلامية ، واكثر منا تحرراً من تأثير النظم غير الاسلامية ، فكانوا اكثر منا كفاءةً ذاتية في الاجتهاد ووضع المذاهب ، بحيث يكاد ماتركوه لنا أن يكون مجرد إعادة النظر في بعض القواعد الفرعية ، أو استحداث قواعد جديدة ملائمة لتنظيم علاقات الناس في أزمنة وأمكنة ومجالات لم تكن لتخطر لهم على بال . ومع ذلك فهي قواعد ومذاهب غير مفروضة ، وليست من النظام العام الاسلامي . يحول دون هذا ، ذلك الحد الفاصل بين الايمان والكفر : التوحيد . إن شهادة أن " لاإله إلا الله " تعني على سبيل القطع أن ليس مقدَساً إلا كلام الله ، وليس ملزماً للمسلمين كافة إلا أوامره ونواهيه . كل ماعدا ذلك ليس مقدَسا وغير ملزم للمسلمين إلا إذا حولوه إلى نظام ارتضوه فالتزموه . وإذا كان أئمة السلف قد وضعوا تلك المذاهب العبقرية في زمانهم فإنَ زماننا يتيح مالم يكن متاحاً لهم موضوعياً . فنحن نقرأ القرآن محفوظاً في مصاحف متاحة بيسر لمن أراد ، ونعيد قراءته كلما أردنا ، وكان أسلافنا يفتشون في أطراف الأرض عن مسلم يحفظ القرآن ليستمعوا إليه . ونحن نحصل بيسر على مادونوه ، مطبوعا في كتب في متناول أيدينا ، وكانوا يجهدون أنفسهم سفرأً وإقامة لاستنساخ كتاب منسوخ . ونحن نستمع إلى التفسير والشروح ونتلقَى الدروس مذاعة أو مسجلة ، مقروءة أو مسموعة ، ونحن جلوس في بيوتنا ، أما هم فكانوا يقطعون الفيافي والقفار ويعبرون الجبال والأنهار إلى العواصم القليلة لعلهم يجدون مكاناً من حلقة في مسجد حول عالم يلقي درسا . وكان علمهم بالطبيعة المادية والطبيعة البشرية محدوداً فأصبح علمنا بهما يكاد يكون غير محدود . أهم من هذا كله أنَ أياً منهم ماكان ليستطيع أن يعرف إلاَ ماقاله غيره ممن سبقوه ، ولكنَا نستطيع أن نضيف إلى معرفتنا ماقاله هو ومن سبقوه مالم يكن يعرفه أي منهم : ماقاله من جاء من بعده . وماكان يجتمع منهم أثنان فيتحاوران إلا نادرا ، أما نحن فنستطيع أن نجمعهم جميعا في مكان واحد لنقرأ حوارهم ونحاورهم ، ونرد كل خلاف إلى كتاب الله ، هو كتابنا كما هو كتابهم . وهكذا نستطيع في نطاق الالتزام بقواعد النظام العام الاسلامي ، أن نستنبط كما استنبطوا ، ونقيس كما قاسوا ، ونستحسن كما استحسنوا ، ونستصحب كما استصحبوا ، ونرعى مصالحنا المرسلة كما رعوا ، ونجمع إن كانوا قد أجمعوا ، فإن اختلفنا كما اختلفوا يرجح مذهب الأغلبية منا ، لالأن الاغلبية هي مناط الصحة والخطأ ، ولكن للأسباب التي أوردناها من قبل ( فقرة 76 ) ، لأننا نؤمن كما آمنوا بأن الاسلام دين المساواة . وكل ماقد ننشئه من قواعد دستورية أو قانونية أو ادارية ، آمرة أو ناهية أو مكملة ، .. ، وكل مانلغيه منها أو نعدَله أو نضيفه سيكون جزءا من النظام الاسلامي مادام دائرا في نطاق قواعد النظام العام الاسلامي ملتزما حدوده .
86 ـ ليس ثمة - إذن - أية صعوبة فنية في قيام نظام إسلامي في أية دولة يقبله شعبها ، أو اغلبيته ، قبولا حرا مطهرا من الاكراه ( يمكن أن يقال ديموقراطيا) . ولكن هناك صعوبات واقعية لاتتصل بإمكانية إقامة النظام الاسلامي بل بتحقيق شرط قبوله . ماهي ؟ . إنني اريد أن اترك الجواب للسيد " أبو الأعلى المودودي " الذي قد يختلف معه كثيرون في بعض أفكاره ؟ ونحن نختلف معه في بعضها ، ولكن لايمكن لأحد أن يتهم بحق ، إخلاصه في دعوته إلى النظام الاسلامي . قال في محاضرته التي أشرنا إليها من قبل :
" لقد أصبح تعبير الدولة الاسلامية في أيامنا هذه مثل لعبة أطفال . لقد سيطرت الفكرة على خيال بعض الناس ، وذهب بعضهم إلى حد تبنيها كهدف واقعي . ولكن تلك الأساليب الغريبة المقترحة لتحقيقها تجعلها غاية مستحيلة كما هو مستحيل الوصول إلى أمريكا ( من الهند ) بالسيارة . يرجع هذا التفكير الخاطيء إلى واقع أن أسبابا تاريخية وسياسية معينة قد فجرت الرغبة في دولة مثل أعلى يمكن أن يطلق عليها اسم دولة إسلامية غير أنه لم تحدث أية محاولة لتحديد طبيعة هذه الدولة بطريقة علمية ، أو دراسة كيفية إقامتها . اهذا فقد تضاعفت ضرورة تناول هذه المشكلة تناولاً علمياً . إنني في غير حاجة ، في هذا الجمع من المثقفين ( كانت المحاضرة في الجامعة الاسلامية ) إلى أن اضيع وقتا طويلا في بيان أن الدولة أيا كانت طبيعتها ، لاتقوم بأساليب مصطنعة ، إنها ليست جهازاً صناعياً تركَب أجزاؤه في مكان ، ثم ينقل لاقامته في مكان آخر ، حسب هوى الناس . بالعكس . إن الدولة ناتج طبيعي لتفاعل عوامل معنوية ونفسية وثقافية وتاريخية ذات وجود سابق في مكان معين .. إنه من غير القابل للانكار في علم الاجتماع أن الدولة ليست إلا محصلة طبيعية لظروف متحققة من قبل مجتمع معين " . ( المرجع السابق - صفحة 5 و 6 ) وفي محاضرته اللاحقة التي ألقاها في كراتشي بعد قيام دولة باكستان ، يعدَد المودودي الصعوبات الواقعية التي تعترض محاولة وضع دستور اسلامي ، فيذكر منها الجهل العام باللغة العربية ، وبدلالة ألفاظ القرآن والحديث والفقه ، والأسلوب غير المألوف الذي دونت به المذاهب ، والعيب الدامغ لنظام التعليم ، حيث يتخصص البعض في دراسة القرآن والحديث والفقه ويبقون جهلة جهلاً يكاد يكون مطبقاً بالعلوم الحديثة مثل العلوم السياسية والاقتصادية والدستورية ، اما الذين يتخصصون في دراسة هذه العلوم فلا يكادون يعرفون شيئا عن التراث الاسلامي العظيم ( المباديء الأساسية للدولة الاسلامية - المرجع السابق - صفحة 6 وما بعدها ) .
كان أبو الأعلى المودودي يتحدث عن الصعوبات الواقعية التي تعترض محاولة وضع دستور إسلامي في باكستان ( استمر الحوار حول الدستور عشر سنوات بعد محاضرته فلم يوضع إلا اول آذار / مارس 1962 )، ومن هنا كانت وقفته الصلبة ضد إقامة دولة اسلامية قبل أن توفر الثورة الاسلامية العوامل المعنوية والنفسية والثقافية والتاريخية لقيامها . فهل يصدق هذا على الأمة العربية ؟
87 ـ إلى حد محدود . فالجهل بدلالة ألفاظ القرآن والحديث والفقه عام في الأمة العربية . ولكن اللغة العربية هي لغة هذه الأمة ، لغتها القومية ، وبالتالي فإن عامة شعبها قابلون بيسر لفهم دلالة ألفاظ القرآن والحديث ، إذا أوفى من يفهمونها من العلماء ، وهم كثر ، بواجبهم ، بأن قدموا هذه الدلالات إلى الناس مصوغة بلفة يفهمها العامة بدلاً من مجابهتهم بآيات عربية ولكنهم لايفهمون دلالة ألفاظها كما كانت عند النزول منذ أكثر من أربعة عشر قرنا . فيبتزون ايمانهم بقدسيتها حتى لايتساءلوا ، ويضفون من قدسيتها قدسية على مذاهبهم فيسيطرون . كذلك الأمر بالنسبة إلى كتب التراث واسلوب تدوينها ودلالة ألفاظها . إن اكثر العرب لايفهمونها إلا بجهد جهيد لايقدر على بذله إلا الدارسون . ولكن معرفة اللغة الأصيلة للمدونات قادرة على إدراك الناس ماقاله السلف ، بعيداً عن مخاطر الترجمة ، لو قدمت اليهم بصيغ مألوفة وتبويب مما يألفون . والفارق بين اليسر والعسر في كل من الأمة العربية والهند أو أي مجتمع غير عربي واضح في مشكلة التخصص . إذ لايوجد في الأمة العربية فصل قطعي بين التخصص في العلوم الاسلامية والتخصص في العلوم الحديثة لوحدة لغة المعرفة في المجالين . يوجد تفاوت يمكن أن يزول بالاجتهاد الذاتي والجهد الجماعي ، وهو يسير . والواقع من أمر الأمة العربية أنها منذ مطلع القرن الحالي - على الأقل - وهي تتهيأ ثقافيا لقبول النظام الاسلامي ، بفضل الجامعات المتخصصة في العلوم الاسلامية المنتشرة في الوطن العربي ، ومعاهدها العديدة ومدارسها التي لاحصر لها ، وحركة التجديد التي بدأها الامام محمد عبده ، وما تزال نامية ، والجمع بين دراسة التراث والعلوم الحديثة في أغلب الجامعات وعلى رأسها الجامعة الأزهرية العتيدة ، مما أضعف من فارق التخصص إلى حد أن الفقه أصبح مجالاً مفتوحا للحوار في الصحف العامة !
نقول تتهيأ ثقافياً ولم نقل تتهيأ معنوياً ونفسياً . افتقاد العوامل المعنوية والنفسية اللازمة لاقامة دولة إسلامية صعوبة كأداء عرفها المودودي في الهند ويعرفها كل داعية في أي مجتمع غير عربي ، اما في الأمة العربية فلا وجود لها أصلاً ، ذلك لأن مصدر العوامل المعنوية والنفسية في مجتمع مَا ، حضارته . ولقد عرفنا من قبل ( فقرة 40 وما بعدها ) كيف أن الحضارة العربية هي حضارة إسلامية ، وضربنا هناك أمثلة من شواهدها . نضيف هنا من حياة العامة من العرب ، مسلمين وغير مسلمين ، أمثلة من المعايير القيمية الحضارية التي تفرق بين ماهو مقبول اجتماعيا وماهو مرفوض ، المعترف - علمياً - بأنها شواهد ومميزات الانتماء الحضاري .
88 ـ في أنفسنا نرى أن أيَ إنسان عربي ، مسلماً أو غير مسلم ، لايكاد يكفَ طوال يومه عن الحكم بمقاييس حضارته على مالا حصر له من الأحداث الصغيرة ، أي التي يحكم في أمرها تلقائيا معبراً عن مكنون شخصيته . فالكذب " حرام " حتى لو كان أبيض . والقسوة " حرام " حتى على الحيوانات ، والسخرية " حرام" حتى ممن يثيرها ، والحكم التلقائي على بؤس مخلوق بائس هو " حرام " ، ويؤكد بأنه " والله حرام " .. والظلم " حرام " . والحصول على أموال الغير بدون حق ، حتى برضاء هذا الغير " خدعوه والله ده حرام ". وعدم النكافؤ بين الزوجين سنَاً " والله حرام " ، والشفقة بصبية مشغولين بعمل شاقَ عليهم يعبر عنها العربي بقوله التلقائي " والله حرام " .. وما يقال تلقائيا ، نصحاً أو عتابا أو احتجاجا ، على المستعلين أو المغرورين أو المفترين أو المستبدين هو " ياناس حرام عليكم " .. واذا اعترض شخص من لايعرفه ، يمازحه ، فاضطرب الغريب ، قيل له تلقائيا : " ياشيخ سيبه ، حرام عليك " .. وإن فقدت الأم ابنها " فياحرام " .. إلى آخر عشرات الألوف بل ربما الملايين من الأحداث الصغيرة التي لاتكفَ عن المرور بحياة العربي يقيمها حين لايقبلها ، وقبل أن يعرف أسبابها ، وبدون أن تكون له صلة مباشرة بها ، وحتى لو كان حادثاً مرحاً .. بأنها "حرام " . ثم يفصح عن المصدر الاسلامي لذلك المعيار القيمي حين يقول مؤكدا مذكرا : " والله حرام " . ولايعلق بهذا ابدا على الاحداث التي يقبلها لأن إحدى قيمنا الحضارية ايضا هي أن كل ماليس حرام مباح .
يستوي في هذه الأحكام العربي المسلم وغير المسلم ، الشاب والكهل والشيخ ، ساكن المدن والمقيم في القرى والجائل في الصحارى ، الرجال والنساء ، اخترناها - أولاً - لأن الانسان العربي يرددها بدون أن يختارها مذهبا، وثانيا: لأنها أحكام تصدر بدون تحضير أو دراسة أو رجوع إلى المراجع ؛ تصدر على السجية . وثالثاً : لأنها أحكام لاتصدر ضد أحد ولايرجى منها أن تكون ملزمة لأحد ، ولكنها تعبير تلقائي عن الشخصية العربية في مواجهة موقف ليست هي طرفاً فيه . رابعا : لأنها أحكام سابقة على أية قواعد سلوك وضعية ، وقائمة فوق أية قواعد سلوك وضعية ، وباقية بعد أية قواعد سلوك وضعية ، يضمرها في ذاته حتى الذي يخالفها جهراً . خامسا لأنها معايير حضارة المجتمع العربي تعبر عن ذاتها من خلال ماينطق به الأفراد من أحكام .
وماالجديد في هذا ؟ .. إن لكل حضارة ضوابط سلوك تعبر عن ذاتها من خلال ماينطق به تلقائيا الأفراد من أحكام . لكل حضارة ذلك التعبير المتداول في كتب الاجتماع الغربية : " تابو " أي ضابط تحريم ! هو كذلك ، فنحن لانأتي بجديد . إنما نريد أن نؤكد من جديد مالم نكفَ عن تأييده على مدى ربع قرن أو يزيد من " أن الاسلام هو الهيكل الأساسي للحضارة العربية " .
لقد كانت تلك المعايير القيمية في أول عهد العرب بالاسلام من قواعد النظام العام المفروضة يلقى من يخالفها جزاءه . وشغل ردها إلى مصدرها الاسلامي ، وشرحها ، مكاناً ملحوظا في المذاهب وآراء المجتهدين . ومازال العرب مسلمين وغير مسلمين يلائمون بين أحكامها وما يريدون حتى تحوّلت خلال تلك الملاءمة إلى ضوابط اجتماعية للسلوك ، بالرغم من أن قد كف الجزاء وقفل باب الاجتهاد منذ قرون . فيستنكر الناس الخروج عليهم بقولهم " حرام " أو " والله حرام " معبرين بدون وعي عن أصلها الاسلامي . فنقول أنها قد دخلت في نسيج التكوين الحضاري العربي فهي الآن عرف أو تقاليد أو آداب نسميها إسلامية إن شئنا ، أو عربية إن شئنا ، لأنهما بالنسبة إلى الحضارة العربية مترادفان . وعلى الذين يبحثون عن التراث في كتب صاغها أسلافنا أن ينتبهوا إليه في أنفسهم . فالماضي لايعود ولايمكن إعادته : ( لكل أجل كتاب ) { الرعد : 38 } إنما تحمل الحضارة التراث ، وليس ماكتب عنه ، من جيل إلى جيل : فتراث أية أمة هو مابقي صالحاً للحياة منذ سالف الزمان ، وليس كل ماكتبه عن حياتها السلف الصالح .
إذن ، لاتحتاج الأمة العربية الى تهيئة معنوية أو نفسية لقبول النظام الاسلامي إذ هي مهيأة حضارياً .
89 ـ وهكذا نرى بوضوح أنه ، إذا صدقت الدعوة وحسنت النية ، وقيل للدعاة الصادقين إلى دولة إسلامية ، إن إقامة النظام ممكنة بلا ريب ، ولكن على أي أرض تقوم ؟ إذ لابد لكل دولة من أرض محددة ، وماهو الشعب الذي سيقيمها ؟ إذ لابد لكل دولة من شعب معين ، فلن يجد الصادقون أمة من أرض محددة وشعب معين مهيأة لقبولها أكثر من الأمة العربية .
فإن عقدوا العزم على إقامتها لاتواجههم إلا صعوبة تاريخية وهي صعوبة جدّية ولكنها غير مستعصية . إن الشعب العربي معتدىً عليه من خارجه اغتصاباً واحتلالاً وهيمنة وتبعية . ومعتدى عليه من داخله قهراً وظلماً وإذلالاً واستغلالاً . إنه يعاني من تناقض أساسي بين واقعه وحاجته يتمثل في أن ليس لكل ماهو متاح في أمته من أسباب التحرر والتقدم متاحاً له ليتحرر ويتقدم ، لأن العدوان الخارجي يسلبه إمكانات مادية وبشرية هو صاحبها بحكم أنها إمكانات أمته ، فيحول دون أن يطوّر حياته بماهو ممكن ومتاح لاأكثر ولا أقلّ ولأن العدوان الداخليّ يسلبه القدر الأكبر مما أفلت من العدوان الخارجي فيستأثر به من دونه احتكاراً واستغلالاً ، ثم يفرض عليه تلك القسمة الضيزى بالقهر والظلم والاذلال ، ويحول دون ثورته بما يبقيه عليه من جهل وفقر ومرض فيبقيه عاجزاً عن استرداد إمكانات مادية وبشرية هو صاحبها بحكم أنها إمكانات أمته فلا يستطيع أن يطوّر حياته بما هو ممكن ومتاح لاأكثر ولاأقل . وأن العدوان الخارجي والعدوان الداخلي حليفان عليه يحقق كل منهما بعدوانه مايمكّن الآخر من العدوان ولو لم يكونا متحالفين . وأن العصر ليلقي عليه كل يوم دروساً صارمة . اليقين فيها أن لاأمل ، لاأمل على الاطلاق ، في أن يتقدم حرية ورخاء بقدر ماهو متاح في أمته إلا بأن يجاهد أعداءه جميعاً فيسترد حريته ، ويقيم وحدته القومية . وأنه ليتعلم كل يوم أن البشرية قد دخلت عصر الانتاج الكبير والدول العملاقة ، وأن مصير الدول العربية التي تجسد تجزئة الأمة أن تحتمي ، راغبة أو كارهة ، بمظلة التبعية السياسية ، لدفع خطر العدوان والتبعية الاقتصادية لدفع غائلة الجوع وأن تدفع من حرية أوطانها أثماناً باهظة لمن يحميها أو يغذيها . يحميها ولو من بطشه ذاته ، ويغذيها ولو من ثروتها ذاتها . وإن المعتدين لمعروفون بأسمائهم ودولهم ونظمهم ...
إذن ليس الشعب العربي في حاجة - في هذه المرحلة من تاريخه - إلى غير حديث صادق ودعوة حارة إلى الثورة العربية التى تحرره شعباً ووطناً ليقيم دولته ، حينئذ - وليس قبل ذلك - يكتمل تهيؤ الأمة العربية معنوياً ونفسياً وثقافياً وتاريخياً لتلقي وقبول الدعوة الى أن يكون نظام دولة الوحدة إسلامياً . ولسنا نشك لحظة في أنها ستقبله ، لأن الأمة العربية هي أمة الاسلام ، وإنجاز ثورته ، وحاضنة حضارته ، وحاملة رسالته ، إلى كل شعب يقبلها بدون إكراه في أية دولة من دول الأرض .
وهذا مافطنت إليه جماعة الاخوان المسلمين بإرشاد قائدها الشهيد حسن البنا . فبعد أن كان قانون " الاخوان المسلمين " الاول ، يتضمن هدف " تقوية روابط التعارف والاخاء بين الشعوب الاسلامية كافة بالتأليف بين قلوبهم والعمل الدائب على إزالة أسباب الفرقة والانقسام من صفوف المسلمين " عاد الاخوان المسلمون بعد تسع عشرة سنة ( 1948 ) من النمو والخبرة ، فأضافوا إلى قانونهم هدفاً محدداً هو : " تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعاً ، والوطن الاسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي ، ومساعدة الاقليات الاسلامية في كل مكان ، وتأييد الوحدة العربية تأييداً كاملاً ، والسير إلى الوحدة الاسلامية " .
الهـــروب إلــى الماضــي :
90 ـ في الوطن العربي حركة قومية تتحدث إلى الشعب العربي حديثاً صادقاً عن وحدته القومية وتدعوه دعوة حارة إلى الثورة العربية ضد أعدائه جميعاً ليتحرر شعباً ووطناً ويقيم دولته الواحدة ، وتحاول أن تستخدم كل أسلحة العصر من علم ومناهج ونظريات ومنظمات وخطط وأدوات لحشد الشعب العربي وتنظيمه وانتصاره في معركة ضارية ضد أعداء متعددين يستعملون في قهرها الاسلحة ذاتها ، وماهو أكثر منها أثراً .
وما تزال الحركة القومية متعثرة ، ما ان تنتصر حتى تهزم ، وما أن تتقدم حتى تتراجع ، ولكنها لم تهرب أبداً من ميدان الصراع ، لأنها تعلم تماماً أن تلك معارك مؤقتة وجزئية في حرب طويلة وشاملة لابديل فيها عن النصر العربي ...
فيترحم بعض الظالمين على المناضلين من أجل تحرير أمتهم ووحدتها الذين فقدوا جذورهم وراحوا يلتمسون أسباب القوة عند الغرب ويستوردون منه أفكارهم وأساليبهم وينسون أن الأوروبيين هم الذين استعمروا بلادهم وأذلوا قومهم وحطموا حضارتهم عامدين ، وأن مفكري الغرب قد أضلوهم أولاً ، ويضللونهم اليوم ، ولن يكفوا عن تضليلهم إلى يوم يبعثون ، لأنهم بهذا التضليل سادوا وبهذا التضليل يسودون وأن السادة لايصدقون مع العبيد أبداً . ونواجه بدعوة عاطفة حيناً ، عاصفة حيناً آخر ، غاضبة في كل حين : أن عودوا إلى تراثكم تعرفوا كل شيء ، فقد سبق أسلافكم الغرب إلى معرفة ماتحاولون معرفته لو كنتم تعقلون ..
لبيكم إن كنتم صادقين عطفاً .
ولنتفق ، أولاً ، على أننا راغبون في أن نعود إلى تراثنا ، لا لنعرفه فقط بل لننميه ، وهل يستطيع أحد ، حتى لو رغب ، أن يجتث جذوره ، وينسلخ من تراثه ؟ قد يغالط نفسه ، ولكن تراثه يبقى فيه . إن بقاء التراث في الانسان هيكلاً لشخصيته ومصدر استوائها ومنبع قوتها ، هو أحد أسباب اهتمام القوميين بدراسة الأمة ، والدفاع عن وحدتها ، وهو الضوء الذي أثار مداركهم فعرفوا مايرددون : إن وحدة تاريخ الأمة يحدد وحدة مصيرها ، لو كنتم تعلمون .
ولنتفق ثانياً ، على أن الأوروبيين المستعمرين الذين قضوا قروناً طويلة في " عز " السيادة على العالم سيحتاجون إلى وقت طويل ، وإلى دروس صارمة ، ليتعلموا المساواة بين البشر . إن التحرر من الاستعمار الأوروبي ، واسترداد سيادة الشعب العربي على وطنه ، هو الذي يعدّ له القوميون ما استطاعوا من قوة تلقنهم دروساً صارمة ، ليتعلموا أننا وهم ، في البشرية متساوون .
ولنتفق ، أخيراً على أن بعض القضايا العلمية والفكرية التي ينقلها عنهم القوميون قد طرحها وناقشها أسلافنا من الأئمة والعلماء والمتكلمين على أوسع نطاق قبل بداية الألف الميلادية الثانية . وكانت لهم فيها مذاهب ومدارس وصراعات وصلت إلى حد القتل والقتال انتصاراً للفكرة . ونعرف أن كثيراً من أسلافنا قد سبقوا كثيراً من مفكري أوروبا إلى كثير من الأفكار والنظريات . نعرف أن محيي الدين بن عربي قد سبق اكهارت إلى معرفة " وحدة الوجود " . وأن الغزالي سبق ديفيد هيوم إلى معرفة " السببية " . وأن ابن رشد سبق وليم جتنر إلى معرفة " المنفعة " . وأن جبير الاندلسي سبق سبينوزا إلى معرفة " وحدة المادة والروح " . وأن الفارابي سبق داروين إلى معرفة " التطور " . وأن ابن سينا سبق ديكارت إلى معرفة " الآنية " . وأن ابن خلدون سبق ماركس إلى معرفة " المادية التاريخية " ... الخ . ونعرف أنه منذ القرن التاسع الميلادي ، وقبل أن يسجن الأوروبيون غاليليو بسبعة قرون ، كان كل من ابن خرداذبة ، وابن رسته ، والمسعودي قد اكتشف أن الأرض كروية ، واستنبط ابن سينا فكرة عن الجاذبية ، وتولّى البيروني قياس محيط الأرض هندسياً ...الخ
ونعرف أن أسلافنا قد اخترعوا الرقّاص ، ورسموا الخرائط ، وأنشأوا صناعة الطب والصيدلة ، وابتكروا الصفر ،وعلّموا الناس الجبر واللوغرتمات ( ماتزال في اسمها اللاتيني ، الذي نكتبه بحروف عربية ، تنبيء بمبتكرها ومعلمها الأول الخوارزمي ) ... الخ . بل نعرف أن إخوان الصفا كانوا في دراساتهم الفلكية قد أسموا يوم الأحد " يوم الشمس " ويوم الاثنين " يوم القمر " ويوم الثلاثاء " يوم المريخ " ويوم الاربعاء " يوم عطارد " ويوم الخميس " يوم المشتري " ويوم الجمعة " يوم الزهرة " ويوم السبت " يوم زحل " فترجمها الأوروبيون وأطلقوها أسماء لأيام الاسبوع ، ولم تزل .
كل هذا نعرفه جيداً ويعرفه بعض الأوروبيين ويعترفون به .
ولكن المسألة كلها ليست هنا . إنما المسألة هي أننا كما حملنا بذور المعرفة عمن سبقونا ، ونّميناها ، ثم نقلناها إلى أوروبا ، تلقاها الأوروبيون فنمّوها ، فإذا بنا نلتقي بها مرة أخرى متطورة ، مصقولة ، مبلورة ، مرتبة ، مبوبة ، أغنى في المضمون ، وأتقن في الصنعة . نحن إذن لاننهل من مورد للمعرفة متطفلين عليه ، بل نحن ، مثل كل الأمم التي أسهمت في التقدم الحضاري ، شركاء في التراث الانساني ، ومن حقنا أن نستفيد منه إذا أردنا أن نعود إلى تراثنا لننميه ، ثم نقدم إلى البشرية مرة أخرى إضافة إلى مايقدمه الآخرون .
هذا من ناحية ..
ومن ناحية أخرى فإن العودة إلى تراثنا ليست كلمة تقال ، بل جهداً يبذل في معركة ضارية نخوضها ضد الذين يريدون أن يقطعوا جذورنا وأن يسلخونا من ذلك التراث . والعبرة هنا ليست بالمقدرة على اجترار التراث ولكن بالمقدرة على إنمائه . وتلك معركة لن ننتصر فيها إلا بذات الأسلحة متقنة الصنع ماضية الأثر التي تدور بها معارك العصر . إن إعجابنا ببطولة المبارزين يلتحمون في قتال مباشر لايعني أن نواجه طائرات الفانتوم بالخناجر . كذلك إذا كنا نريد أن نحافظ على تراثنا وننميه ، فإننا لانستطيع هذا بالهروب إلى مخازن السلف الصالح ، بل نستطيعه فقط عندما نقبل التحدي الحضاري ونخوض صراعاته بأدواته .
مثلاً :
قال الله تعالى : ( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) { الانفال : 60 } فهل إعداد القوة المستطاعة هو الأمر الملزم ، أو رباط الخيل ؟ لقد كان رباط الخيل أقوى نماذج طاعة أمر الله في الاعداد للقوة ، فهل مايزال كما كان ؟ وهل يرهب عدواً اليوم ؟ أو أن طاعة أمر الله لاتتم - اليوم - إلا بأقوى مانستطيع من أسباب القوة الرهيبة ، الفكرية والبشرية والتنظيمية والبرية والبحرية والجوية ... الخ ؟ وهل نعد الآن القادة العلماء بأسلحة الحرب الالكترونية ، أم يكفينا ماقاله الامام ابن تيمية وهو يحرض ويقود الجند المتطوعين دفاعاً عن سورية " العربية " ضد غزو التتار " المسلمين " ؟
ثم إن تراثنا جميعا خال مما يشبه مانحن فيه : فمنذ القرن الثامن عشر - على نطاق واسع أوجد الأوروبيون الرأسماليون صيفة لاستعباد الشعوب والأمم . الغزو حرباً أو الهيمنة بدون حرب ، لنزح ثروات المستعمرات ونقلها إلى دولهم في صورة مواد خام أو بضائع أو أموال أو أرباح ، وتسخير قوة العمل في الشعوب المستعمرة لخدمة التقدم في بلاد الغالبين . ونعاصر - اليوم - فرض التبعية عن طريق مؤسسات علمية وثقافية وصناعية وتجارية ومالية بدون حرب .. بل في بعض الأوقات بناء على طلب نفر من التابعين .. فما الحل ؟ .. وهل له سابقة في التراث ؟
ثم ألا يتذكرون ؟
لقد بعدنا عن تراثنا يوم أن تستر الاستبداد بالدين ، وأصبح للأحاديث الموضوعية وللاجماع المصطنع ، وللقياس الخاطيء وللمذاهب الخاصة ، قدسية النص القرآني . وأطلقت الأحكام من حدودها في الزمان والمكان ، وتحولت دولة المسلمين إلى دولة " كهانة " يسوسها نفر من العجزة يسمونهم الخلفاء أو أمراء المؤمنين ، يلقّنهم نفر من الجهلة يقال لهم " رجال الدين " مايضفي الشرعية على مايريد نفر من القادة المستبدين يستخدمون الأولين والاخيرين ، فتجمّدت المذاهب في الشريعة على مضامين كسبتها في مراحل تاريخية سابقة فأصبحت قاصرة عن أن توفي بالحلول الصحيحة لمشكلات الحياة في مراحل تالية ، فقام جمودها عائقاً في سبيل التطور الذي هو حصيلة حرية فاعلة .
اجتهد كهنة الاستبداد فقالوا لايجوز الاجتهاد . لو صحت المقدمة لبطلت النهاية . ولو صحت النهاية لبطلت المقدمة . وحين أرادوا أن يفرضوا على المسلمين مذهباً ناقضوا أنفسهم ، فقد اختاروا المذهب الذي ينسب إلى الامام أبي حنيفة من بين أحد عشر مذهباً ( الحنفي ، والمالكي ، والشافعي ، والحنبلي ، والزيدي ، والجعفري والأوزاعي ، والثوري ، والليثي ، والظاهري ، والطبري ) . ويتميز المذهب الحنفي عن المذاهب الأخرى بالتوسع في الأخذ بالرأي ( الاجتهاد ) ، وبأنه مذهب لم يضعه أبو حنيفة ، بل وضعه معه ومن بعده جماعة من تلاميذه أشهرهم أبو يوسف ومحمد وزفر ، ثم بأنه قد وضع نتيجة حوار بين عديدين يجلسون إلى الامام ويناقشون ما يعنّ لهم من مسائل ، حتى إذا ماانتهوا إلى رأي في مسألة دوّنها أحدهم ، ثم جمعت المدونات فيما بعد . فكأنهم حين اختاروا مذهباً وفرضوه استبداداً بالرأي ، اختاروا المذهب الذي يرفض الاستبداد بالرأي . فلو طبق عليهم المذهب الحنفي لبطل رأيهم . وكل استبداد ينطوي بالضرورة على تناقض مفضوح .
ومازالوا يستبدون بنا حتى أوهنوا قوانا الفكرية وأضعفوا إرادتنا الفعلية ، ودربونا على الضعف ، فأصبحنا مستضعفين . فانقضت علينا شعوب متحررة الفكر ، نافذة الارادة ، طاغية القوة ، باغية القصد ، فلم نستطع لهم دفعاً ! فاستولوا علينا أرضاً وبشراً ، وأقاموا بيننا وبين العودة إلى تراثنا حاجزاً من نظامهم الربوي العدواني ، فهل يتركون لنا حرية العودة إليه أم أن علينا أن نحطم ماأقاموه حائلاً بيننا وبينه ويكون التحرر هو البداية ؟
هل يصح قول آخر ؟ هل يصح القول إن شعباً عربياً مسلماً يقيم وهو متحرر صرحاً حضارياً ثم يتخلى عنه بدون إكراه . أليس هذا ظلماً بيّناً للتراث ؟
91 ـ لاجدوى ، إذن ، من الهروب إلى الماضي ، فهو محال . ومن ضروب الهروب إلى الماضي المحال أفكار الأمة العربية وجوداً ، والعودة إلى الروابط الشعوبية أو القبلية الدارسة ، ومنها استنكار القومية انتماء والعودة إلى أنماط الدول البائدة . وهو مايفعله الذين يناهضون العروبة بالاسلام ، فيستعدون الشعب العربي المسلم ، ويختلفون تناقضاً من عندهم بين أمة العرب وأمة المسلمين ، ويحرفون الكلم ، فلا يفعلون إلا أن يظلموا الشعب العربي فيصدوه عن دعوتهم ، ويظلموا أنفسهم كمسلمين بما يفترون كذباً ، فلا يصدقهم أحد ، ولا يثق بهم أحد ، فيحيلون الدعوة إلى الدولة الاسلامية الممكنة دعوة إلى دولة مستحيلة . ( ومن أظلم ممن أفترى على الله كذباً أو كذّب بالحق لّما جاءه ) { العنكبوت : 68 } . صدق الله العظيم .
ولكن لماذا ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق