بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الصهيونية في العقل العربي


pdf


الصهيونية في العقل العربي .

د.عصمت سيف الدولة .

مقدمة :

كانت إحدى المجلات العربية تتضمن في كل عدد شهري مقالا بعنوان " على السفود" وبتوقيع " أبو ذر" وكان صاحب التوقيع المستعار لا يكف ، في أي مقال عن  الحديث الى الشباب العربي عن مخاطر جسيمة كان يتوقعها . كان يحذر وينذر تكاد كلماته تشعل النار في صفحات المجلة . كان ذلك في عام 1974 و1975 . تلك الفترة الزمنية التي قيل ان منظمة تحرير فلسطين ، والدول العربية ، قد حققت فيها أروع انتصاراتها  على المستوى الدبلوماسي . عام اتفاق رؤساء الدول العربية على ان منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني . عام تعهد الرؤساء العرب ، وقبول منظمة التحرير ، ان يكون القول في شأن فلسطين من شأن منظمة التحرير الفلسطينية . عام حضور  قيادة  الثورة جلسة هيئة الامم والخطاب التاريخيي لأبي عمار .. عام الاعتراف المتزايد من قبل الدول والمؤسسات الدولية بالشعب  الفلسطيني ومنظمته القائدة . عام قلنا فيه اننا قد صدرنا الهزيمة والتمزق الى اسرائيل .
ولقد كانت كل تلك مكاسب حقيقية . اعني انني كنت اراها كذلك . وبالتالي كنت ارى انه ليس رفضها من الحكمة في شئ ، او من الثورية في شئ . ولكن الجزع والفزع من المستقبل كان يتراكم في نفسي مع كل مكسب جديد . ذلك لا نني كنت ارى معالم " الرشوة " في كل ما قدمه العالم لنا على المستوى الدبلوماسي . كان عربونا لثمن ارض فلسطين ذاتها وكانت المشكلة الأساسية ، في تصوري، هي كيف نقبض العربون ولا نبيع فلسطين . فبدأت ، في ذلك العام نفسه ، وعلى مداه ، اكتب أسبوعيا ما يمكن ان يكون رسائل  موجهة الى الشعب العربي عامة ، والى المناضلين من الشعب العربيي الفلسطيني خاصة  تحت عنوان موحد هو : " التقدم على الطريق المسدود" ، غيرت جريدة" السفير" البيروتية عناوين الرسائل ، ولكنى كنت اكتب إليها تحت هذا العنوان معبرا ، او محاولا التعبير عن المأزق : إنهم يفتحون للثورة سبلا تتقدم عليها او أنهم يتركونها تتقدم بدون مقاومة على الصعيد الدبلوماسي والدولي . وعليها أن تتقدم بصرف النظر عن نوايا أعدائها او أصدقائها . ولكنهم يعدون لها على سبيلها سدا يقطع مسيرتها ، فعلى الثورة ، وعلى الشعب العربي المساند لها ، ان يعد  نفسه وقواه لمرحلة الارتطام بالسد او تجاوزه .. وقلت بصريح العبارة ، ان السد الذي ستكتشف الثورة انه يقف في طريقها . ويقطع مسيرتها سيكون مبنيا من إرادات كل الدول التي  تتعاطف معها في ذلك الوقت ، او ترشوها ، وعلى رأسها الدول العربية . عام كامل نحذر وننذر 
بكلمات تكاد تشعل النار في صفحات الجريدة .
وفى أواخر عام 1975 حين فطن الراشون الى أن الثورة الفلسطينية تأخذ ولا ترتشي ، او هكذا كان موقفها المعلن ، بدأت محاولة إرغامها  على إتمام الصفقة بقوة السلاح في لبنان . وفي أواخر عام 1975 وقعت اتفاقية سيناء الثانية ، وكان ما كان من تلك المرحلة التي اسميها مرحلة " تل الزعتر " .. وان كانت المذبحة خاتمة لها ..
في ذلك  الوقت غرق ابو ذر في ظلمات اليأس ، وودع قراءه ، في عدد مجلة الشورى الذي صدر أوائل أكتوبر 1975 ، تحت عنوان " مأساة ابو ذر ".. قال :
" يؤمن أبو ذر إيمانا مطلقا بان الاكتفاء بالحديث عن الحرية والوحدة والاشتراكية والثورة العربية وفلسطين المغتصبة … الخ ، قد أصبح عارا وضرار ، وبأن قد سقطت قيمة الكلمات اذ انتهكت مضامينها ، واهترأت ألفاظها، فالحر ية عبودية ،
 والوحدة انفصال ، والاشتراكية  استغلال ، والثورة العربية  استرخاء على صفحات  المجلات في حفل المبارزات الكلامية ….. وفلسطين المغتصبة قد حملت سفاحا . ووضعت خيانة  . هكذا يؤمن ابو ذر ، ولكنه ـ وهذا جوهر مأساته ـ عاجز  عن تجسيد   هذا الإيمان  إلا بالكلمات  المرصوصة على الورق يبذل فيها جهدا ضائعا . ويتقزز أبو ذر من الشعور الزائف  بالرضى عن النفس  الذي يتلو  رص الكلمات . ومع ذلك فهو لا يستطيع  ان يدين الكلمات الكبيرة  الا بكلمات اكبر . لا يستطيع ان يحارب العار  إلا إذا شارك فيه . لا يستطيع  ان يلتزم افكاره الا إذا  ألقاها  . من يعرف  منكم عذابا   أكثر هولا من هذا العذب  فليقل  عسى ان يكون فيما يقول عزاء .. أما الذين  لا يعرفون  فليصلوا  من اجل أبى ذر عسى ان يمنحه الله بعض  شجاعة الغفاري فيصمت او يعتزل".
قال هذا ثم كف عن الكتابة . وما ان كف حتى كففت عن الرسائل  أنشئها تحت عنوان : " التقدم على الطريق المسدود" . لماذا ؟  لنفس الأسباب التي شكلت مأساة أبا ذر . ذلك لان أبا ذر وانا لم نكن إلا شخصا واحدا ، أحس بالخطر القادم فحذر فانذر فلما بلغت  الأمور حدا لا تجدي معه الكلمات صمت واعتزل  حفاظا على بقية  من شرف الصدق مع النفس .
من قاع الصمت تلقيت الدعوة  الى الحديث إليكم ، وقيل لي . تحدث عن " الصهيونية  والفكر العربي " . أعود مرة أخرى الى  الكلمات الكبيرة  الرنانة الطنانة المحذرة التي استهلكنا فيها طاقتنا حتى  كادت  تحل بنا الهزيمة النهائية  . كلا ، فوق طاقتي  ان اعتذر عن دعوة الحديث الى شباب هذه الأمة ، ولكن فوق طاقتي  أيضا  ان أعود فأستهلك معاني استهلكت فعلا . فما الذي سأتحدث فيه تحت عنوان " الصهيونية والفكر العربي "؟
سأحدثكم حديثا تقريريا . لن احذر من شئ . لن أعود الى شئ . فكفى جيلنا عارا دعوة . الشباب  الى ما لا يستطيع هو ان يوفي بمسؤولياته ، وما استطاع ان يوفي قط بذات دعوته ودعاويه . ولكنى  سأحدثكم  حديثا غايتهه ان تكونوا على يقين  من ان الصهيونية توشك ان تنتصر انتصارها النهائي ، اعني  ان امتنا العربية توشك ان تنهزم هزيمة نهائية ، اعني أن فلسطين  توشك ان تضيع نهائي … على أيدي جيلنا الغبي التعس ، وان مصير  الأمر كله ، امر الصهيونية ، وأمر  الأمة العربية ، وأمر فلسطين ... قد أصبح متوقفا  على شباب هذه  الأمة من  الجبل الجديد ، عليكم انتم .. وان عليكم  انتم ا ن تقرروا ما تريدون  وتحققوه ان  أردتم ، وعسى  ان لا تستهلكوا  قواكم فى الكلمات الكبيرة التي استهلكنا فيها قوانا … فان لم تفعلوا ، فلا حول ولا قوة الا بالله
فلنبدأ الحديث بعد مقدمته الحزينة ..

ما الصهيونية :

فى البدء  كانت الصهيونية نظرية ، أصبحت إستراتيجية بالعناصر الثلاثة  لكل إستراتيجية : التنظيم . الخطة. الهدف. ثم أصبحت  الصهيونية مواقف  وحركة ومعارك تكتيكية . ولا يعني  قولنا ان الصهيونية كانت ثم أصبحت أنها انتقلت من مرحلة انقضت الى مرحلة جديدة ، بل  يعني انها قد تمتت وأضيف الى مضمونها الفكري مضمون استراتيجي  ثم مضامين تكتيكية . فهي نظرية  على المستوى الفكري. وهي تنظيم ذو خطط  وأهداف محددة على المستوى الاستراتيجي  وهي حركة جزئية  او مرحلية . فكرية او عملية ، فردية او جماعية ، على المستوى التكتيكي ، وكلها صهيونية .
يكون من المفيد لنا ، نحن العرب ، حين نتحدث  عن الصهيونية او نستمع الى حديث عنها ، حين تواجهنا او نواجهها ، أن نعرف  ونحدد  المستوى الصهيوني الذي يدور عليه الحديث  او تجري عليه المواجهة . قلت مفيدا ، وأقول انه حيوي . اعني أن هذه المعرفة بمستويات الصهيونية ، والاستفادة بها مسألة حياة  او موت  بالنسبة إلينا نحن العرب . بحيث ان  أي خلط  او خطأ ، أي جهل او تجاهل ، لمستويات الصهيونية قد يؤدي ـ في صراعنا معه ـ الى هزيمتنا هزيمة لا نعرف كيف وقعت . وأفدح الهزائم وأكثرها تدميرا هي التي لا يعرف المهزوم كيف وقعت .
ترجع هذه الحيوية الى سببين متكاملين :
السبب الاول : ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات أية حركة سياسية يحكم بعضها بعضا ويحدده . فالنظرية  هي المبدأ والمقياس الثابت. فهي تحكم الإستراتيجية وتحددها . بمعنى ان الإستراتيجية ، مهما تعدلت خططها ، او حتى   تغيرت ، لا تستطيع ان تفلت من إطار النظرية  . وستبقى  غايتها دائما تحقيق الهدف الذي حددته تلك النظرية . ثم ان المواقف الفكرية او الحركية ، الجزئية أو المرحلية ، الفردية او الجماعية ، السلمية او العنيفة ، التي تقع على مدى التكتيك تكون  محكومة بالإستراتيجية  طبقا لهذا يكون من الحيوي بالنسبة إلينا ، حين نتحدث عن الصهيونية او حين   نواجهها ، ان نميز بين تلك المستويات الثلاثة   ، ثم نتعرف أين يقع  الحديث او المواجهة منها . ثم ان نكتشف ، بالرغم من كل تمويه  ، حقيقة  الموقف التكتيكي بردّه الى الخطة الإستراتيجية لنعرف  على أي وجه يخدمها . ثم نراقب  الإستراتيجية  وننتبه الى  ما قد يصيبها من تغيرات لا بد لها من ان تكون أكثر ملاءمة  عند أصحابها ، لتحقيق  الهدف . فإذا غم علينا الأمر رددناه الى النظرية .. اذ هي المصدر الأول لكل حركة والمقياس الأخير لكل موقف .
السبب الثانى : ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات أية حركة سياسية أخرى ، تتراكم وتتراكم  متجهة .من الفكر المجرد  الى الواقع العيني . من النظرية الى الإستراتيجية  الى التكتيك حيث تدور المعارك الفعلية  متنوعة المضمون  متنوعة القوى متنوعة الأسلحة . ولكن خط ، الانتصار  أو الهزيمة يتجه ـ بالعكس ـ  من الواقع العيني  الى الفكر المجرد . يتم النصر  أو الهزيمة  على المستوى التكتيكي  ، وبتراكمه تهزم الإستراتيجية أو تنتصر ، ولكن النصر النهائي، او الهزيمة ، لا تتم  إلا بهزيمة النظرية  ذاتها ، أي حين لا تجد أحدا يقتنع بها وينطلق منها الى إستراتيجية جديدة ، أو بانتصار  النظرية ذاتها حين يتمكن الطرف المنتصر تكتيكيا واستراتيجيا من صياغة  الواقع طبقا لنظريته . وبناء على هذا يكون من الأخطاء القاتلة  لأي طرف  ان يحسب النصر التكتيكي نصرا استراتيجيا  أو يحسب  النصر الاستراتيجي حسما نهائيا للنزاع . وبالعكس ان يعتبر الهزيمة التكتيكية  هزيمة إستراتيجية أو يعتبر الهزيمة الإستراتيجية حسما نهائيا للصراع .
في عام 1967 أدرك جمال عبد الناصر مستوى الهزيمة بالرغم من جسامتها ، وقدم مثالا رائعا للقائد الذي يعرف طبيعة المعارك التي يخوضها ، فبعد شهرين فقط من الهزيمة الجسيمة رفع شعار " ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة " ، وشعار " لا مفاوضة ، لا صلح ، لا اعتراف " . وفى العام ذاته سئل وزير خارجية الصهاينة ، ابا ايبان ، عما إذا كانت الصهيونية ستفعل لو نجح العرب في تدمير إسرائيل فقال : كنا سنبدأ من جديد لإقامة دولة إسرائيل . وكان كلاهما يعبران عن السمة التكتيكية  للنصر الصهيوني  والهزيمة العربية عام 1967.

الصهيونية نظرية :

الصهيونية نظرية في القومية . تقول : ان اليهود امة . ولا بد أن ننتبه الى هذا المفهوم  الصهيوني للأمة ..
أولا : لان معرفته معرفة واضحة هي الضابط النهائي  للمواقف  الصحيحة من الصراع العربي الصهيوني .
وثانيا : لان مشكلة الأمة  والقومية مشكلة قائمة في الوطن العربي على المستويين الفكري والحركي . أي أننا ـ على وجه ـ نستعمل في حديثنا عن الأمة العربية ومستقبلها ذات الألفاظ التي يستعملها الصهاينة عن الأمة اليهودية ومستقبلها . وقد يؤدي هذا  الى أن تختلط  في أذهاننا المفاهيم فنتصور ان لنا ولهم نظرية واحدة في الأمة القومية .
اليهودية دين كما نعلم . واليهود هم ممن يؤمنون بذلك الدين ، ولما كان  الإيمان بالدين ، أي دين ، لا يتوقف على الجنس او اللون او اللغة  او الانتماء  الاجتماعي ، فهو انتماء مفتوح لكل من يؤمن ، فإننا نستطيع ان تتبين بسهولة ان اليهود ،  لمجرد أنهم يهود ،  لا يكونون امة . والواقع  انه لا توجد في التراث العالمي كله ، على كثرة ما فيه من نظريات في الأمة والقومية ، نظرية  تقول أن اليهود امة إلا النظرية الصهيونية . فالأمة في الصهيونية لا تحتاج في تكوينها التاريخي الى وحدة الدم او الجنس او اللغة او الأرض او الحياة الاقتصادية .. بل يكفي لتكوين  الأمة الانتماء الديني وما يولده من قرابة روحية تميز بين اليهود وغيرهم من الأمم .
وتختلف هذه  النظرية اختلافا أساسيا عن مفهوم الأمة والقومية في الفكر العربي الحديث . حيث الأمة "  مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على ارض معينة خاصة ومشتركة تكون  نتيجة تطور تاريخي مشترك ". ويدخل في هذا التعريف كل ما تعلمناه من مميزات الأمة  كاللغة او الثقافة او الدين فتلك عناصر التكوين الحضاري وهي تختلف من  امة الى امة  تبعا لظروف لتطور التاريخي الذي كوّنها أما عن المصالح الاقتصادية المشتركة فهي متوافرة في كل مجتمع حتى لو لم يكن امة . وأما الحالة النفسية المشتركة  والولاء المشترك .. الخ . فتلك معبرات في الأفراد عن وعيهم الانتماء الى امة قائمة ، ولكن الوجود القومي ، الأمة ، لا يتوقف عليها .. على أي حال فان  الفارق  الأساسي بين النظرية الصهيونية والنظرية العربية في الأمة هو الاختصاص بالارض والتفاعل معها حضاريا .

الصهيونية استراتيجية :

للإستراتيجية عناصر ثلاثة : الآداة . الخطة . الهدف.
(1) أما الآداة الصهيونية ، فهي المنظمة الصهيونية ، وليس مؤسستها السياسية   المسماة اسرائيل  ، كما قد يتبادر  الى الذهن . الصهيونية  منظمة هي  التي جمعت الصهاينة وحشدت جهودهم من اجل هدفها . وهي التي بدأت بالغزو السلمي قبل 1948 لأرض فلسطين  في شكل  الهجرة وشراء الأراضي ، وهي التي عبأت ودربت وسلحت قواها  استعدادا للغزو المسلح . وهي التي غزت ثم  أقامت  دولة اسرئيل على قطعة محدودة  من الأرض العربية . وهي التي تقف وراء اسرئيل وتستخدمها  كقاعدة انطلاق الى اسرئيل الكبرى التي تمثل  الهدف  النهائي .
او ينبغي  ان ندرك ، ان القول الفصل في مصير الصراع العربي الصهيوني ليس ما تقوله و تفعله او تقبله اسرئيل القائمة  بل ما تقوله او تفعله او تقبله الصهيونية المنظمة على  المستوى العالمي . والواقع ان اسرئيل ليست إلا المشروع المصغر للهدف الصهيوني . وهي لا تمثل  من بين أدوات الغزو الصهيوني  أخطرها وأقواها تأثيرا فيجاورها  ووراءها  وأقوى منها أثرا تلك القوى العالمية التي عبأتها الصهيونية  المنظمة من دول وجماعات وأفراد وأفكار 
وأموال وعلام لتدعم قوة إسرائيل ثم تمد لها الارض العربية حتى تتقدم عليها  بأقل خسائر ممكنة .. وقد تجنح حكومة في اسرائيل  الى السلام  وقد تقبل  التخلي عن التوسع  ولكن هذ ا لن يكون  عند المنظمة الصهيونية  الا استسلاما او خيانة من حكام الدولة القاعدة  ولن تلبث  الصهيونية  ان تغير من تشكيل  الحكم في دولتها الصغرى لتستأنف مسيرتها الى دولتها الكبرى .
(2) اما الخطة الإستراتيجية  الصهيونية ، فتتميز أساسا بأنها  عدوانية . ذلك ، لأنها ، بحكم الفرق بين منشأ القوة وهدفها ، لابد ان تكون هجومية . وقد تقف إسرائيل موقفا دفاعيا . وقد تتقهقر ولكن هذا لن يكون الا موقفا تكتيكيا في معركة تكتيكية في نطاق إستراتيجية هجومية عدوانية أصلا . وهو ما يعني تماما انه بعد أي توقف  او تقهقر لا يملك الصهاينة ، وأداتهم إسرائيل ، إلا ان يعودوا الى الهجوم  الى ان يتحقق هدفهم الاستراتيجي  او الى ان تهزم الصهيونية نهائيا . فهي اذن إستراتيجية  هجومية عدوانية ، هجومية منسوبة الى الصهاينة . عدوانية منسوبة الينا نحن العرب.
(3) أما الهدف ، فقد حددته النظرية على وجه لا يستطيع أي صهيونى ان يحيد عنه او يتوقف دونه ويبقى صهيونيا . وتمكن صياغته على الآتي : مادام اليهود امة  فان من حقهم ان يفعلوا ما تفعل كل الأمم ، وان يعاملوا كما تعامل الأمم . ومن حق الامم ان تقرر مصيرها بنفسها مستقلة عن أية أمم او شعوب  أخرى . وهو ما يعني ان تكون لها دولتها القومية . والدولة لا تقوم الا من شعب معين على ارض معينة . أما الشعب  فهو كل اليهود أيا كانوا من أطراف الأرض . عليهم ان يجتمعوا على ارض دولتهم . أما عن الأرض المعينة ، فهم يقرأون في كتاب يسمونه التوراة ، وهو كتاب ظهر لأول مرة في عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة ( سفر الملوك الثانى ـ اصحاح 22) . يقرأون " لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " (سفر التكوين إصحاح 15 اية 18). ألا أنها أرضهم تاريخيا ؟ ..
لا.
 يقرأون وعد "يهوه" لإسرائيل بان سيقوده " الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وابار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها "( سفر التثنية ـ اصحاح 6 ـ اية 11) .
وماذا عن سكانها وأصحابها ؟..
يقرأون : " اني ادفع الى أيديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك" ( سفر الخروج اصحاح 23 اية 22) .
وهكذا نعرف ما يعرفه الصهيونيون ، وهو ان هدفهم الاستراتيجي الاستيلاء على ارض عربية تمتد من نهر النيل الى نهر الفرات ، وإخلاؤها من سكانها ليقيم فيها يهود العالم كله دولتهم القومية .

الصهيونية تكتيكا :

لا يمكن حصر  المواقف والأساليب والمراحل التكتيكية التى تترجم الخطط الإستراتيجية . ذلك لأنه على المستوى التكتيكي تدور المعارك الفعلية ويلتحم المتصارعون وتتعدد الإطراف المشتركة بحيث لا يستطيع أى طرف ان ينفرد باتخاذ موقف تكتيكي غير متأثر بالموقف  المضاد ، ولا ان يستعمل سلاحا بعيدا عن قياس مضائه على مضاء الأسلحة  التي يواجهها . باختصار يمثل المستوى التكتيكي الميدان المرن للمناورة فيه تتجلى كفاءة المقاتلين والقادة ، لا في ميدان القتال فقط ، ولكن في المقدرة على مواجهة المواقف الطارئة .. والملاءمة بين حركاتهم وحركات القوى المضادة .. وتتوقف تلك المقدرة الىى حد كبير على الإدراك الثابت للتناقض بين الخطط الإستراتيجية للمتصارعين حتى يستطيع كل مقاتل او مشترك في الصراع ان يطور من أساليبه التكتيكية بأقصى قدر من المرونة ، ولكن بحيث لا تنتقل أساليبه من مجال خدمة إستراتيجيته الى مجال خدمة إستراتيجية العدو . فيكون قد هزم نفسه .
ومع ذلك فلا باس من ان نقول ان حكماء صهيون قد أطلقوا حركة الصهيونية  من أية قيود إنسانية او خلقية من أول القتل الى الكذب وقالوا يوصون أبناء صهيون ": اضربوهم وهم يضحكون ، اسرقوهم وهم لاهون ، قيدوا ارجلهم وانتم راكعون ، ادخلوا بيوتهم واهدموها ، تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ".

الهزيمة والاستسلام :

طبقا للمقاييس التي ذكرناها تحقق الصهيونية هدفها بإحدى طريقتين هزيمة العرب  او استسلامهم .
اما بالاستيلاء على الأرض العربية عنوة وإخلائها من البشر وإقامة دولة إسرائيل عليها ، واما تخلى العرب عن الأرض  وتركها لهم خالية ليقيموا عليها دولتهم . ولا نقصد من قولنا خالية ألا يوجد فيها عربي على الإطلاق ، ولكن نقصد ان لا يقيم فيها  إلا العربي الذي تقبل إسرائيل  إقامته . ذلك لأنه لا يخفى ان دولة إسرائيل  ستكون في حاجة الى بشر من الدرجة الثالثة يعفون أبناءها من عبء العمل المرهق او العمل القذر وكمذيعين على موجات البث باللغة العربية ، وجواسيس أيضا.   
المهم انه نتيجة الخلط المضطرب في المفاهيم في المرحلة الحالية أصبح من اللازم التفرقة بين الهزيمة والاستسلام .
ان الهزيمة هي التخلي عنوة عن هدف تكتيكي او استراتيجي . أما الاستسلام فهو قبول التخلي عن هدف تكتيكي او استراتيجي بدون صراع . وقد يبدو الفارق بينهما دقيقا على المستوى التكتيكي . اذ قد يتم  الانسحاب بدون قتال من موقع تكتيكي نتيجة لتقدير القيادة لموازين القوى ، وتجنب خسائر محققةة . هذا ليس استسلاما ولكنه مناورة ، واحدة من فنون الصراع  التي يجيدها الراسخون في علم الصراع وفنونه .  وقد تكون مناورة الانسحاب ، والتخلي عن الأرض ، بل حرقها وتدميرها ، ابرع تكتيك يخدم الهدف الاستراتيجي . كما فعل الروس مرتين أمام نابليون وهتلر. وفي صراعنا مع الصهاينة ، اعني الصراع العسكري ، هزمنا عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 وهزمناهم عام 1973، وكانت كلها معارك تكتيكية . في عام 1948 و1967 تخلى كثيرون من الشعب العربي في فلسطين عن الأرض وغادروها وكان ذلك يبد واستسلاما ، ولكن حين تحول الشعب العربي الفلسطيني خارج الأرض المحتلة الى منظمات مقاتلة وبدا القتال اقتحاما أصبح من الممكن القول بان الهجرة تمثل انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما . وحين أمر الرئيس عبد الناصر بسحب الجيش المصري من سيناء عام 1956 حتى لا تطوقه القوات الانجليزية والفرنسية الهابطة خلف منطقة القتال كان انسحابا تكتيكيا وليس استسلاما .. وهكذا .
ولكن الفارق  بين الهزيمة والاستسلام يبدو واضحا حين تقع الهزيمة على المستوى التكتيكي فيتم التراجع على المستوى الاستراتيجي ، او حين تقع الهزيمة على المستوى الاستراتيجي فيتم قبول وتبنى نظرية المعتدين . وهوو هنا استسلام لأنه ليس النتيجة اللازمة للهزيمة . فليس من شان الهزيمة فيي المعارك التكتيكية ، اعني الجزئية او المرحلية ، ان تحسم المعركة على مستواها الاستراتيجي ، وبالتالي يكون التراجع الاستراتيجي غير مبرر ، أي تراجعا بدون صراع أي استسلاما . كما ان الهزيمة حتى على المستوى الاستراتيجي لا تعني ان الصراع قد حسم وإنما يحسم فقط حين يتبنى المنهزمون نظرية المنتصرين . وأروع مثال على كل هذا معارك العرب ضد الغزو الصليبي . انهزم  العرب في أكثر من موقعة تكتيكية  ولكنهم لم يسلموا أبدا بحق الصليبيين في احتلال  الأرض العربية ، لم يقبلوا أبدا ، ولم يتبنوا  النظرية  الصليبية ، فلم يلبثوا ، ولو بعد حين ، ان حرروا الأرض وهزموا أعداءهم .  ومثاله الأخر حركات التحرر الوطني في العالم كله . بذرة نموها التي لم يصبها العفن أبدا ، هو رفض النظرية الاستعمارية ، نظرية تحضير العالم أوروبيا ، نظرية تفوق الرجل الأبيض ورسالته الحضارية الى البشر … ومن هذه البذرة ، وبعد قرون من العجز المادي عن المقاومة ، واتت الظروف فنبتت البذرة ثورات لم تلبث ان انتصرت .
أليس هذا واضحا ؟.
فما الذى يحدث الان فى العالم العربى ؟..

الاستسلام الوشيك :

هزمتنا الصهيونية عام 1948 واحتلت جزءا من فلسطين . وهزمتنا عام 1956 وخرجت من المعركة مستولية على مياهنا الإقليمية في خليج العقبة . وهزمتنا عام 1967 واستولت على سيناء  والضفة الغربية والمرتفعات السورية . وفي مقابل هذا كنا ندرك ان تلك هزائم تكتيكية ونعد العدة لاستئناف المعارك . تحول شباب اللاجئين الى مقاتلين واقتحموا حدود وطنهم . وتقدم العرب الى القائد الذي انهزم يعوضونه ماليا عن دخل القناة ، ويتعاهدون معه على " الا مفاوضة ولا صلح ولا اعتراف ". ومن مرحلة الاعتراف بالخطأ بدأت خطى التصحيح . وعبأت أكثر من دولة عربية كل قواها المادية والبشرية لإعادة إنشاء الجيوش التي سحقتها الهزيمة ، واستؤنف القتال تحت اسم حرب الاستنزاف بعد اقل من ستة أشهر من الهزيمة علاقاتها الدولية على أساس أن ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة . وحين وجد القادة لم يخذلهم الشعب وجاءت لحظ الاختبار التاريخي حين واجه جنودنا جنود الصهاينة  في فرصة متكافئة  وانهزم الصهاينة  في معركة تكتيكية أيضا .. ولكنها أمدتنا بأقوى أسلحة النصر النهائي : الثقة في إننا نستطيع ان ننتصر .
بكل منطق قومي أو وطني أو علمي أو حتى نفسي .. كان ذلك يعني :
أولا : ان يدرك العرب ان نصر اكتوبر 1973 كان نصرا في موقعة تكتيكية ، لم يحسم الصراع بين العرب والصهيونية على المستوى الاستراتيجي . ولكنه مهد لحسمه لصالح العرب .
ثانيا : ألا يتركوا للعدو فرصة التقاط أنفاسه واسترداد قواه والتحول من  الدفاع الى الهجوم .
ثالثا : ان يحتفظ القادة بالثقة بالنصر التي قدمها إليهم الجنود بعد ان اشتروها بدمائهم  الغالية .
رابعا : ان يكمل العرب ما ينقصهم من عناصر القوة  فيضيفوا الى خططهم التكتيكية الجزئية المرحلية خطة إستراتيجية شاملة بعيدة الامد ..
خامسا : ان يكتشف العرب من خلال عناصر النصر الذي تحقق في أكتوبر 1973 أصوله المبدئية ، ان يكتشفوا من خلال ما حقق عنصر التنسيقق العربي من نصر مدى ما تتضمنه الوحدة من انتصار ، ومدى مسئولية  التجزئة عن مرحلة الهزائم .
بكل منطق كان يجب ان نوالي انتصاراتنا العربية التكتيكية ، لتحقيق النصر على المستوى الاستراتيجي ، لنصوغ الحياة على الأرض العربية طبقا لنظريتنا القومية ، ونقنع الصهاينة بها ليبحث كل منهم عن أرضه التي جاء منها .
ضد كل هذا ، ضد معطياته العينية ، المادية والبشرية والفكرية ، حدث ما لم يحدث في تاريخ الشعوب كلها بقدر ما اعرف من تاريخ الشعوب . وفي ذات اللحظة التي انتصرنا فيها في معركة تكتيكية استسلمنا أو نحن على وشك الاستسلام ، لا أقول على المستوى الاستراتيجي ، بل أقول على المستوى المبدئي . كان أمامنا خيارات عدة  تقع جميعها على مستوى المعركة التي انتصرنا فيها . كان ممكنا ان نواصل المعارك . كان في إمكاننا أن نتوقفف مرحليا . كان في مقدورنا حتى أن نتخلى عن المكاسب التي حققناها ، وهو أقصى ، وأقسى ، ما يمكن ان يختاره المقاتلون على ا لمستوى التكتيكي . وكان يمكن ان يكون لكل هذا مبررات ، من الظروف الدولية ، او من الظروف العربية ، او من الظروف المحلية ، سواء كانت ظروفا سياسية او اقتصادية او حتى ذاتية ،  وسواء ‏كانت ظروفا صحيحة او غير صحيحة .. وكنا سنختلف في هذه المبررات ، ولكن خلافاتنا ما كان لها ان تتجاوز مستواها التكتيكي ، أي أن أقصى ما كنا سنختلف فيه هو : " كيف نواصل الصراع حتى نهزم الصهيونية على جميع مستوياتها .
ولكن شيئا من هذا لم يحدث ..
الذي حدث أننا بطريقة غريبة على التاريخ ، غريبة على الشعوب ، غريبة على تاريخ الشعب العربي بالذات ، انتقلنا ، نحن الذين انتقلنا . من نصر تكتيكي الى استسلام مبدئي ، موفرين على عدونا عناء الصراع على المستوى الاستراتيجي .
ذلك لأننا سلمنا ببساطة بان من حق اليهود ان يقرروا مصيرهم ، أي أنهم امة . أن من حق هذه الأمة أن تكون لها دولة قومية وان تقوم تلك الدولة القومية ، الصهيونية ، على جزء من الأرض العربية ، وان يكون هذا الجزء بالذات ما أشارت إليه التوراة التي يقرأها الصهاينة . لم يحدث أبدا أن أرغمنا الصهاينة  على تبني نظريتهم هذه . لأنه لم يحدث أبدا ان هزمونا على المستوى الاستراتيجي ، ولم يحدث أبدا أن حققوا من الانتصارات ما يحسم الصراع بالنسبة إليهم على المستوى التكتيكي ، وقد كان آخر لقاء بيننا هزيمة لهم .. لهذا قلنا ونقول :  أننا لم نهزم .. بل نستسلم او نوشك ان نستسلم …
   السنا مشغولين بوجود الشعب الفلسطيني ودولته ، السنا فرحين بان اعترف عدونا ، أو بعض أعداءنا  بان هناك شعبا فلسطينيا ، وان من حقه أن يكون له موطنا ، وليس حتى وطنا ؟ السنا نتحاور ونتشاور  ونجادل ونختلف حول  صيغة وجود الدولة الفلسطينية ، هل تقوم مستقلة أم في اتحاد فيدرالي او كونفدرالي مع الأردن او سورية . السنا نركض في أنحاء الأرض جميعا ، فخورين بكرمنا وسماحتنا وسعة أفقنا نعرض السلام مع الصهاينة وندفع ثمنه مقدما قبول الوجود الصهيوني  على ارض فلسطين ؟ .. السنا نسعى الى حد المذلة ، علنا وخفية ، دبلوماسيا وعلى مقاهي أوروبا ، ملتمسين من الصهاينة أن يقبلوا جوارنا مؤكدين صدق نوايانا في قبول جوارهم ، على الأرض العربية .. أليس على الأرض العربية في جنوب لبنان ، جيش مقاتل " صهيوني ـ عربي " موحد الأسلحة والإمدادات والتخطيط وقد يكون موحد القيادة ؟…. أيها الشباب الا نسمي
الآن ، وطننا العربي ، منطقة الشرق الأوسط ؟..
فما الذي بقي ؟..
يقولون :" أنها خاتمة جولة وستأتي بعدها جولات "  .. غدا تسترد دولة الضفة والقطاع ما بقى من إسرائيل ؟..غدا نقوى فنستأنف الصراع ؟ .. غدا .. يأتي جيل يلغي ما فعلناه والتاريخ طويل؟ .
لا يصدق من هذا القول الا القول الأخير . نعم ، غدا يأتي جيل عربي يلغى كل ما فعلوه ، ولماذا غدا ، انه قائم  قادر لن يولد غدا ، بل سيضرب غدا وان غدا لناظره قريب ، ولكن لماذا يطول تاريخ المعاناة ونحن قادرون على اختصاره ..؟ ألسنا جيلا فاشلا ؟.. أفلا يكفيه فشله فيخون جيلا  ناشئا.
أما عن الجولة  التي ستأتي بعدها جولة ، ودولة الضفة والقطاع التي ستحرر باقي فلسطين ، فلا أقول انه عناء . أقول انه احتيال . نصب . خديعة . إننا لم نحرر الضفة او القطاع او حتى جزءا منها ونقيم عليه دولتنا . ولو تم شئ من هذا ولو في القطا ع وحده ، ولو في مدينة واحدة من مدن الضفة لكان نصرا عظيما ، ولكننا مشغولون بقبول عرض مشروط .. مشغولون بدراسة صفقة دولة فلسطين في مقابل دولة صهيونية . مع الاعتراف المتبادل والأمن المتبادل ..  ولن ينتهي الأمر عند هذا الحد.. سيستنأف الصهاينة مسيرتهم العدوانية الى ان تتحقق لهم دولتهم بحدودها التي لا ينكرونها.. فقط بالأسلوب الجديد .. أسلوب الاستسلام العربي . ان كان احد يشك في هذا فقد جاء كارتر يعلنه ، فتح الحدود ، التبادل الثقافي والتجاري والسياحي والدبلوماسي .. لينتشر الصهاينة في داخل دولتهم المقبلة . حينئذ سيعرفون كيف تكون لهم وبأي أسلوب .
هل في هذا شك ؟ .. هل يشك احد في أننا نوشك ان نستسلم ؟ إني لا اشك . وبالله عليكم . لا يقولن احد ، هذا ، فقد خدعنا أنفسنا أكثر مما يجب . ان الحاكم العربي الذي يعلن ما ارفضه ، هو فقط ، أشجع الذين يقولونه وأكثرهم صدقا مع نفسه ، واني لأعلم من أمر الآخرين ، كثير من الآخرين ، بما فيهم فئات تتحدث بمثل ما أتحدث به وان كان أكثر حدة وصخبا ، ما يسمح لي بالقول ان الفارق الوحيد ان هناك استسلاما صريحا وهناك استسلاما خفيا ، لا أكثر ..
وبعد ،
فلماذا استسلم العرب أو يوشكون على الاستسلام ؟ .. هل هي خيانة ؟ لا اعتقد . لا املك دليلا على خيانة احد. ولا اقبل ان اتهم عربيا بالخيانة بغير دليل . ولكني اعتقد ان الصهيونية وحلفاءها ، بعد ان انهزموا عسكريا في جبهة القتال في أكتوبر 1973 ، فتحوا من جباهنا ثغرات ، وغزوا عقولنا . اختصروا الطريق الى النصر النهائي ، فبدلا من احتلال أرضنا جزءا جزءا بدأوا في احتلال رؤوسنا فكرة فكرة .  بدلا من الاستيلاء على الوطن يحاولون الاستيلاء على البشر ليكون الوطن لهم بعد ذلك بدون حاجة الى القهر ..
جردونا من نظريتنا العربية ودسوا في رؤوسنا نظريتهم الصهيونية .
رفعوا من فكرنا القومية العربية ووضعوا بدلا منها القومية اليهودية ، ولما انمحت من ذاكرتنا دولة الوحدة قامت بدلا منها دولة اسرائيل . وكان لهم منذ البداية حلفاء جاهزون . أولئك هم الإقليميون  الذين أنكروا أمتهم ، فتنكروا لقوميتهم ، فمنحوا ولاءهم للتجزئة فيما بينهم . والتجزئة لا تمس بل تتدعم اذا ما أعطيت الصهيونية جزءا مغتصبا  من الوطن  العربي مقابل ان تسكت عن اغتصاب الإقليمين باقي أجزائه..
ولما أنكر الإقليميون أمتهم ، وفقدوا قوميتهم ، تجردوا من نظريتهم ، فلم يستطيعوا ، وما استطاع الإقليميون قط ، ولن يستطيعوا قط ، ان تكون لهم  إستراتيجية موحدة في مواجهة الصهيونية . ما كان ولن يكون للإقليميين أداة نضال عربية واحدة . ما كان ولن يكون للإقليميين خطة مواجهة واحدة . لم يلتق الإقليميون ولن يلتقوا قط على تحرير فلسطين …. وليس هذا قولا جديدا .
في شباط (فبراير) 1968  كتبت ونشرت تحت عنوان " وحدة القوى العربية التقدمية " حديثا طويلا عن المستقبل  قلت فيه مخاطبا المقاومة الفلسطينية  وكانت في ذلك الوقت تحمل ما بقي من أمل لهذه الأمة  قلت : احذروا غدا او بعد غد ستخذلكم الإقليمية من حولكم والإقليمية من داخلكم . وفي نيسان ( ابريل) 1970  في عمان  في ندوة مشتركة بقاعة نقابة المحامين  اشترك فيها ممثلون عن اغلب فصائل المقاومة قلت ان إسرائيل قامت ونمت وتوسعت في ظل حماية الدول الإقليمية . فمن حقي أن أقول الآن : ان الشعب العربي يوشك ان يستسلم بالفعل وفي رعاية القوى الإقليمية دولا وأحزابا وجماعات  وأفرادا ..
ما العمل ؟
لا تسألوني فقد لا اعرفه . ولو كنت اعرفه فقد اعترفت من قبل أنني غير قادر على الوفاء بمسئولياته  فآثرت الصمت ـ مهزوما وليس مستسلما ـ الى أن دعيت الى الحديث  إليكم  ، ها أنا ذا قد تحدثت إليكم هذا الحديث . لا يناسبه عنوان " الصهيونية والفكر العربي"  بل أولى به عنوان يقول :" الصهيونية في الفكر العربي " او" الصهيونية في العقل العربي " . أو . وهذا ما كنت أريده …" العرب الصهاينة "..

وأخيرا ..

فأنى اعتذر  عما أشرت إليه أكثر من مرة من آراء سبق أن قلتها كأني أبحث لنفسي عن براءة كاذبة . وعذري في هذا أنني أحاول أن استرد ثقتي المفقودة بالمستقبل . أحاول أن أقول لنفسي إذا  كانت رؤيتنا قد صحت من قبل فان الانسحاب صمتا او اعتزالا هو انهزام لا ينبغي لقومي ان يقع فيه بينما يوشك  الإقليميون أن يجروا الأمة كلها الى مواقع الاستسلام ، وإننا لعلى قدر من المقدرة في مواجهة معارك العقول …. ثم إنني أخاطب الجيل العربي الجديد … وهو قمين بأن يذكرني  بما كنت اذكره في مثل سنه … قولا  تعلمته من شاب عربي بدأ نضاله على ضفاف النيل ضد إمبراطورية لم يكن يجرؤ احد على تحديها ، وأنشأ حزبه الوطني الذي تحول الى مدرسة …… في تلك المدرسة تعلمنا ذلك الدرس الذي كدنا ننساه وها نحن نلتقطه مرة أخرى من عيون الشباب العربي :
" لا يأس مع الحياة  ولا حياة مع اليأس "
وهكذا ترون أنني أتحدث إليكم  ولكنى أخاطب نفسي واني لأولى بحديث اليقظة منكم  لأنني في حاجة إليه أكثر …



 محاضرة ألقيت في جامعة الكويت في 6  ابريل 1977 .    

   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق