هل كان عبد
الناصر ديكتاتورا ؟ (1)
الدكتور عصمت
سيف الدولة .
هناك اتصال عضوي بين الاشتراكية والديموقراطية حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديمقراطية الاقتصاد كما أن الديموقراطية هي اشتراكية السياسة ..
جمال عبد الناصر .
1 ـ مقدمات :
الكتابة على جدار المعبد :
بعد 3199 سنة من وفاة
الفرعون رمسيس الثاني أرسلت الدولة جثته الى باريس ليعالج الاخصائيون ”
بثورا ” تكاد تشوه بشرته اليابسة . وأحيطت رحلته الى مدينة الجمال والتجميل
باهتمام العالم كله . وهكذا نجح ذاك الفرعون في أن يجذب اليه اهتمام العالم ولو
انه جثة . وفي أن يصبح جزءا من يوميات التاريخ المعاصر بعد وفاته بمئات القرون ،
ولو كان حظه من تلك اليوميات ان يعرض على الناس فيثير دهشة المشاهدين.
ولا شك في ان كل هذا
يسعد ويرضي روح رمسيس الثاني . فلقد كان رمسيس الثاني محبا لذاته الى حد العشق .
كان مريضا بما نعرفه اليوم بمرض ” النرجسية ” . ومن آيات مرضه انه كان مفتونا بالخلود الى حد استغرق جل نشاطه .
كان يريد ان يكون خالدا . ولم يكن يدرك أن الخلود حكم تاريخي تملكه البشرية
فيما يأتي من أجيال فأراد ان يخلد نفسه بأن يكتب هو التاريخ . ويكتبه على أكثر الاحجار مقاومة للزمن . وان يشيد من تلك الاحجار تماثيل
ومعابد أقامها على طول وعرض أرض مصر. وهكذا استطاع فعلا ان يعيش في ذاكرة الاجيال
المتعاقبة بشرا ثم مومياء ثم معابد وتماثيل وتاريخا مكتوبا الى ان يدرك عصر الذرة
فيذهب الى معامل التجميل في باريس .
شئ واحد لم يفطن اليه
رمسيس الثاني . ذلك هو ان الاجيال التي فتنته فكرة الخلود في ذاكرتها ستكتشف انه
لم يكتب التاريخ بل زيفه . فقد اكتشف علماء التاريخ المصري القديم ان الفرعون
رمسيس الثاني قد زيف التاريخ بقصد نسبة كل انتصار جليل الى ذاته . وزيفه بأسلوبين
: اولهما بان سطر على جدران معابده تاريخ انتصارات لم يكن هو صاحبها ونسبها الى
نفسه . وثانيهما بأن قوض أركان بعض ما شيده أسلافه من معابد ، وانتقى منها أحجارها
المسطورة بتاريخ النصر والحكمة وحشرها في بناء جدران معابده . وهكذا ترك لنا رمسيس
الثاني مجموعة من التماثيل والمعابد تحمل تاريخا مغلوطا جمع مفرداته من خياله ومما
سطر أسلافه من تاريخ .
ثم أضيفت على جدران
المعابد كتابات جديدة . مئات الالوف من زوار المعابد ، من كل الاجناس ، ومن كل
الاعمار ، بهرتهم فكرة الخلود التي تثيرها آثار رمسيس الثاني ، و نمت فيهم بذور ”
النرجسية ” الكامنة ” بقدر ” في كل انسان فأضافوا الى ما ترك رمسيس ، وبكل اللغات
، كتابات من عندهم نحتوها نحتا فجا شائها . تختلف تلك الكتابات مضمونا ولكنها ـ
كلها ـ تحمل أسماءهم في أبرز مكان منها . أراد كل هؤلاء من أول الشيوخ الجادين الى
الصبية العابثين ، ان يقفزوا الى مركبة التاريخ ولو في شكل أسماء منحوتة نحتاً فجا
وشائها على اقدام تماثيل الفرعون النرجسي وجدران معابده .
شئ مثل هذا جرى ويجري
فيما كتب ويكتب في الوطن العربي منذ بضع سنين حين طرح الرئيس أنور السادات مشكلة
الديموقراطية في مصر فاهتبل البعض الفرصة ليكتبوا تاريخ عبد الناصر ومشكلة
الديموقراطية في مصر . مع فارق ملحوظ . ان الذين يتبارون في نقض ما شيده عبد
الناصر، ويختارون من بين أنقاضه ما يضيفونه الى بناء معابدهم الخاصة أكثر عددا من
كل فراعين مصر . أما الذين ينحتون أسماءهم نحتا فجا شائها على جدران معابد التاريخ
الذي يكتب الآن فهم أكثر من ان يحصوا عددا .
الا نرى كيف ان كثيرا من
الذين كتبوا او قالوا شيئا عن جمال عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر قد
دخلوا الى ساحة الجدل مداخل ذاتية ، مدخل الوفاء او مدخل الجفاء او مدخل العداء ، فهم
يشاركون في حوار يدور حول مشكلة تهم الشعب كله ، وفي كتابة تاريخ أخصب مراحل تطور
الامة العربية وأكثر ها تعقيدا ، بما يشبه ” المذكرات الخاصة “، متأثرين بالمواقع
التي كانوا يشغلونها ، محصورين في حدود تجاربهم الخاصة ، محدودي الرؤية بقدر ضيق
الزوايا الفردية ، مركزين كل مقدرتهم على نحت الكلمات في أسمائهم ذاتها ..؟؟
بلى . انهم لا يسهمون في
حل مشكلة مطروحة بل يسهمون في تزييف تاريخ يكتب .
والا ،
فما هي المشكلة المطروحة
وكيف طرحت ؟؟
مشكلة تبحث عن حل :
طرحت مشكلة الديموقراطية في مصر العربية ، بعد أقل من عام على غياب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وما تزال مطروحة بقوة . ومما هو جدير بأكبر قدر من الانتباه ان الذي طرحها هو الرئيس أنور السادات نفسه . طرحها أولا، وتابع طرحها على مراحل متتابعة انتهت ـ حتى الآن ـ ” الى قانون معروض على مجلس الشعب بشأن تنظيم الاحزاب ، وهو جدير بأكبر قدر من الاهتمام والانتباه لان طرح رئيس الدولة لمشكلة الديموقراطية في مصر يعني تماما ان هناك مشكلة ديموقراطية في مصرتبحث عن حل . ان سيادته، من موقع قيادته ، وبحكم رؤيته الأكثر اتساعا ، ومعرفته بما قد لا يعرفه غيره ، لا شك قد أدرك أكثر من أي شخص اخر ان هناك مشكلة حقيقية للديموقراطية في مصر، وانها قد بلغت من الحدة ما اقتضى ان يتصدى لطرحها والبحث عن حل لها رئيس الدولة نفسه . بعد هذا القدر المتيقن من موقف الرئيس قد يختلف الناس في طبيعة المشكلة والحلول المناسبة لها، وهم يختلفون فعلا، ولكن لا أحد يستطيع أن يجادل في وجود المشكلة .
ولقد طرحت المشكلة من
خلال مواقف متتابعة …
في 15 مايو 1971 صفى
الذين أطلق عليهم اسم “مراكز القوى ” باسم الديموقراطية ، وحلت ـ بقرار من رئيس
الجمهورية ـ كافة المؤسسات الدستورية والشعبية حتى تلك التي قامت بدور أساسي في
تصفية مراكز القوى ( مجلس الشعب) وأعيد تشكيلها من جديد . ولكن التشكيل الجديد وقف ، بالنسبة الى الإتحاد
الاشتراكي العربي ، عند مستوى اللجنة المركزية و لم تشكل أبدا اللجنة التنفيذية
العليا . و باسم الديموقراطية صدر الدستور (الدائم) واستفـتى فيه الشعب في 11
سبتمبر 1971 ، بعد ان كان الشعب قد استفتى في عام 1968 في بيان ” 30 مارس ” الذي
تضمن قرارا بتأجيل اصدار الدستور الدائم الى ما بعد ازالة آثار العدوان . وقد تضمن
الدستور الجديد احكاما جديدة لم تكن من قبل . منها انه لم يعد من حق رئيس الجمهورية حل مجلس الشعب الا بعد اجراءات بالغة
التعقيد . ومنها النص على ان المسؤولية المترتبة على الاعتداء على الحريات لا تسقط
بمضي المدة . ومن ناحية اخرى فقد خول الدستور لرئيس الدولة سلطات لم تكن له من قبل
أهمها ما نصت عليه المادة 74 ، المأخوذة عن الفقرة الاولى من الدستور الفرنسي
الصادر في عهد الرئيس ديجول عام 1958 . بمقتضى هذه المادة أصبح لرئيس دولة مصر
العربية اذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية او سلامة الوطن او يعوق مؤسسات الدولة عن
اداء دورها الدستوري ان يتخذ الاجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ويوجه بيانا
للشعب ويجري الاستفتاء على ما اتخذه من اجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها. وقد
بقيت هذه المادة بدون استعمال الى ان استعملها الرئيس أنور السادات يوم 3 فبراير
1977 باصدار القانون رقم 2 لسنة 1977 الذي رفع العقوبة على انشاء الأحزاب او الجمعيات
السياسية او الجماعات ، او الدعوة لها او تحبيذها او تشجيعها الى الاشغال الشاقة
المؤبدة .. مثل الخيانة او القتل العمد .
ولقد كان النشاط السياسي
المنظم خارج اطار الاتحاد الاشتر اكي العربي محرما بنص في قانون الوحدة الوطنية
رقم 34 لسنة 1972. جاء فيه ” الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الوحيد
المعبر عن تحالف قوى الشعب العاملة. وهو يكفل أوسع مدى للمناقشة الحرة داخل
تشكيلاته والتنظيمات الجماهيرية المرتبطة به . ولا يجوز انشاء تنظيمات سياسية خارج
الاتحاد الاشتراكي العربي “. وهكذا دخل التشريع المصري لاول مرة منذ عام 1953 نص
صريح يحرم النشاط السياسي المنظم خارج الاتحاد الاشتراكي العربي . و مع قانون
الوحدة الوطنية صدر قانون حماية حريات المواطنين رقم 37 لسنة 1972. وبه الغى قانون تدابير أمن الدولة الذي كان قد صدر عام 1964. والغيت الحراسات
. ولكنه أعاد تأكيد حق رئيس الجمهورية في حالة الطوارئ ـ وهي قائمة في مصر منذ
1967 ـ في ” وضع قيود على حرية الاشخاص في الاجتماع والانتقال والاقامة والمرور في
أماكن وأوقات معينة والقبض على المشتبه فيهم او الخطرين على الامن والنظام العام
واعتقالهم والترخيص في تفتيش الاشخاص والاماكن دون التقيد بأحكام قانون الاجراءات
الجنائية ـ والامر بمراقبة الرسائل أيا كان نوعها ومراقبة الصحف والنشرات
والمطبوعات والمحررات والرسوم وكافة وسائل التعبير والدعاية والاعلان قبل نشرها
وضبطها ومصادرتها وتعطيل واغلاق أماكن طبعها على ان تكون الرقابة على الصحف
والمطبوعات ووسائل الاعلام مقصورة على الامور التي تتصل بالسلامة العامة او اغراض
الامن القومي ، وتحديد مواعيد فتح المحال العام واغلاقها وكذلك الامر باغلاق هذه
المحال كلها او بعضها ، وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الاعمال والاستيلاء على أي
منقول او عقار ويتبع في ذلك الاحكام المنصوص عليها في قانون التعبئة العامة فيما يتعلق
بالتظلم وتقدير التعويض ، وسحب التراخيص بالاسلحة او الذخائر او المواد القابلة
للانفجار او المفرقعات على اختلاف أنواعها والامر بتسليمها وضبط واغلاق مخازن
الاسلحة ، واخلاء بعض المناطق او عزلها وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات
وتحديدها ” .
في مواجهة هذه السلطات
الشاملة أعطى قانون حماية الحريات لمن يصدر أمر باعتقاله او القبض عليه حق التظلم
أمام ” محكمة امن الدولة ” وأبقى لرئيس الجمهورية حق الاعتراض على قرارات الافراج
التي تصدر منها .
وفي 15 مايو 1974 أصدر
الرئيس أنور السادات ” ورقة اكتوبر ” وطرحت على الاستفتاء الشعبي فأقرها . ولقد
جاء فيها على لسان السيد رثيس الجمهورية : ” لقد أرتضى الشعب نظام تحالف قوى الشعب العامل اطارا لحياته السياسية. واننا في معركة البناء والتقدم لاحوج ما نكون لهذا التجمع . ومن ثم فاني ( أي السيد رئيس الجمهورية ) أرفض الدعوة الى تفتيت الوحدة الوطنية بشكل مصطنع
عن طريق تكوين الاحزاب “. وفي أوائل عام 1976 تشكلت لجنة برئاسة السيد المهندس سيد
مرعي رئيس مجلس الشعب أطلق عليها اسم ” لجنة مستقبل العمل السياسي ” وجمعت واستمعت
الى كافة الآراء التي دارت حول ” ورقة تطوير الاتحاد الاشتر اكي العربي ” التي
وضعها رئيس الجمهورية نفسه . وكونت لجانا أربع لتجميع وتحليل كل ما قيل أمامها وما
نشر في الصحف وانتهت الى ان الرأي العام في مصر العربية يرفض الاحزاب ويبقى على
الاتحاد الاشتر اكي مع السماح ـ داخله ـ بالمنابر والاتجاهات الفكرية المتميزة .
وعرض تقريرها على الهيئة البرلمانية للاتحاد الاشتر اكي العربي ( أي أعضاء مجلس
الشعب) ولجنته المركزية مجتمعتين فأقرتاه . كان ذلك في 16 مارس 1976. لكن المنابر
الثلاثة لم تلبث ان تحولت الى تنظيمات ثلاثة مستقلة القيادة والهيكل و العضوية .
ثم بعد سبعة أشهر فقط ،
أي في 11 نوفمبر 1976، ألقى السيد رئيس الجمهورية بيانا في مجلس الشعب بمناسبة
افتتاح دورة انعقاده الاول جاء فيه : ” لقد اتخذت قرارا سيظل تاريخيا يرتبط بكم وبيوم افتتاح مجلسكم الموقر هو ان
تتحول التنظيمات الثلاثة ، ابتداء من اليوم ، الى أحزاب … ان هذا القرار ينطوي على
تحول أعمق مما يبدو منه وعلى مسؤوليات أكثر مما ترى العين من النظرة الاولى “ .
وبينما استجابت
التنظيمات لقرار تحويلها الى أحزاب فتحولت ، عرضت على مجلس الشعب ثلاثة مشروعات
بقوانين تستهدف تنظيم الاحزاب وما تزال معروضة لم تصدر بعد .
وتشير الصحف الصادرة
أخير ا الى ان المعالم التي اتضحت من القانون المنتظر هي اقرار شرعية الاحزاب
الثلاثة القائمة بدون شروط ، واشتراط عضوية عشرين نائبا في مجلس الشعب لاقامة أي
حزب جديد…الى آخره .
ولم يكن هذا بدون افعال
وبدون ردود افعال . ولم يذهب بدون ان يجذب الى مشكلة الديموقراطية في مصر انتباه
الشعب ومساهمات القادرين على القول او الفعل . بل نستطيع ان نقول ان الرئيس أنور
السادات قد استطاع بنجاح فائق ، من خلال طرحه مشكلة الديموقراطية في مصر ومتابعة
طرحها ، ان يدخل الحوار حول الديموقراطية مشكلة والديموقراطية حلا ، حتى في أكواخ
الفلاحين ، وان يجعلها قضية حية في أحاديث كل الاحياء في مصر العربية أيا كانت
مواقفهم الاجتماعية او مواقفهم السياسية او حظهم من الثقافة والعلم .. هذا ـ طبعا
ـ بالاضافة الى أجهزة
الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة والندوات و المحاضرات والكتب والنشرات ..
التي لم تكف ـ منذ عام 1971 ـ عن طرح ومناقشة مشكلة الديموقراطية والابقاء عليها
مشكلة حاضرة في الحياة اليومية للشعب …
هكذا طرحت مشكلة
الديموقراطية في مصر وما تزال مطروحة. وكان كل ذلك ، ولم يزل ، على أكبر قدر من
الايجابية ، اذ ما دامت الديموقراطية في مصر مشكلة فمن الايجابى ان تطرح وان تبقى
مطروحة الى أن تجد حلها المناسب .
ولكن ،
أين تقع المشكلة ويقع
الحل على خط الزمان ؟.. أفي الماضي أم في المستقبل ؟
هذا سؤال في صميم صميم
مشكلة الديموقراطية في مصر.
التقدم الى الخلف :
لا يمكن القول ـ علميا ـ بان مشكلة الديموقراطية في مصر قد نشأت اليوم او في هذا العام او بضعة أعوام قبله. تقطيع عمر التاريخ إلى سنوات منفصلة مستحيل القبول به علمياً لأن التاريخ حركة تراكم مستمرة. وعلى هذا نستطيع ـ اذا أردنا ـ ان نتتبع جذور مشكلة الديموقراطية حتى بدء تاريخ مصر الحديث . ولن يكون هذا الا سردا لما يعرفه المؤرخون من أزمات وصراعات دارت أحقابا طويلة بين الشعب العربي في مصر وبين المستبدين به من أبنائه ومن غير أبنائه.
ثم ان كثيرا من الاسباب
لا تكشف عن نتائجها الا بعد زمن يتجاوز رؤية الذين بدأوها أو توقعاتهم . ولا شك في
أن سعيد بن محمد علي، والي مصر، حين رأى ان يقطع أوصال أخصب جزء من أرض مصر ويوزعه
” أبعديات ” على من يريد لم يكن يعلم انه ينشئ النظام الذي أفرخ الاقطاعيين (كبار
ملاك الأراضي الزراعية) منذ عهده حتى الآن ، وانه يسهم بذلك في تكوين مشكلة
الديموقراطية في مصر . كما انه لا شك في ان طلعت حرب ، حين أراد ان يستفيد من
الظروف الدولية التي صاحبت وتلت الحرب الاوروبية الاولى (1914- 1918) للعمل على
استقلال مصر اقتصاديا ، كما كان يعتقد ، فأنشأ بنك مصر وشركاته لم يكن يعلم انه
يرسي قواعد النظام الذي أفرخ الرأسماليين منذ عهده الى الآن ويمد بذلك في ابعاد
مشكلة الديموقراطية في مصر. وهل كان يعلم او يتوقع ان سيأتي أحد تلاميذه ـ أحمد
عبود ـ فيستطيع ان يقيم الوزارات ويسقطها ويدفع الثمن لمن بيده القيام والسقوط
فيكون واحدا من الذين أفسدوا حكم مصر ورشحوها للثورة ؟
يكفي أن نذكر تاريخ
دستور 1923، وهو أول دستور في تاريخ مصر كما يقولون (الواقع ان اول دستور صدر عام
1882 إبان تصاعد الحركة الشعبية التي انتهت بالثورة العرابية ولم يطبق الا 47
يوما) . لقد وضعت دستور 1923 لجنة من ثلاثين أسماها سعد زغلول زعيم الشعب وقتئذ ”
لجنة الاشقياء “. وأصدره الملك فؤاد عام 1923 وخرقه خرقا مشينا عام 1924. وعطله
محمد محمود عام 1928. وألغاه اسماعيل صدقي عام 1930. وعاد عام 1935 ليعطل فعليا عام 1939 باعلان
الاحكام العسكرية ووضع مصر ـ أرضا وشعبا ـ في خدمة الحلفاء في الحرب الاوروبية
الثانية (1939- 1945) .
وأهدرت أحكامه اهدارا
مشينا عام 1942 حين حمل حزب الوفد الى الحكم بقوة السلاح . وأهدرت أحكامه اهدارا
مشينا حين تآمرت ، أحزاب الاقلية مع الملك فتولوا الحكم في مرحلة ما بعد الحرب.
وأهدرت أحكامه اهدارا مشينا حين دفع حزب الوفد ثمن استرداده موقعه الشرعي في الحكم
صلحا مع الملك . وأهدرت أحكامه اهدارا مشينا حين أقيل حزب الاغلبية من الحكم بعد
حريق القاهرة في يناير 1952 لتأتي تلك الوزارات مقطوعة الصلة بالشعب ويكون آخر
قرار يصدر منها هو القرار الذي أصدره مرتضى المراغي وزير الداخلية يوم 12 أبريل
1952 بايقاف الانتخابات .
وسنعرف مما يأتي من حديث
، بعد هذه المقدمات ، ان عبد الناصر قد عاش ومات تصاحبه مشكلة الديموقراطية في مصر
. وان ثورة 23 يوليو 1952، تحت قيادته ، قد كانت في جوهرها ثورة من أجل
الديموقراطية . وانها قد حاولت بأساليب عديدة حل مشكلتها ، ولكنها ـ الى ان توفي
قائد الثورة ـ لم تكن قد حلتها الحل الصحيح وان كانت قد اتجهت اليه . كما سنعرف ان
قدرا من التطورات التي مرت بها مشكلة الديموقراطية منذ 1952 قد كان أقل مما توقعت
قيادتها أو أكثر مما توقعت او كانت خارج نطاق توقعها .
كل هذا يقدم أسبابا
مشروعة للحديث عن الماضي القريب او البعيد حين تطرح مشكلة الديموقراطية في مصر،
لنتزود منه بالمعرفة الكافية بأسباب المشكلة المطروحة ومقدماتها حتى نستطيع ان نجد
لها حلا صحيحا. ان هذا يعني ان تناول الماضي لا بد ـ ليكون مشروعا ـ من ان يكون
مقدمة للتقدم الى المستقبل. هذا ـ على الاقل ـ بالنسبة الى من يريدون حقا ان يسهموا في تطوير مجتمعاتهم عن طريق
الاسهام في حل مشكلات تطورها ، تاركين كتابة التاريخ للمؤرخين ذوي الاذهان الباردة
المحايدة ..
اما ان نبدأ بالمشكلة
المطروحة لنتقدم الى الماضي ـ الى الخلف ـ فهي ردة عابثة . نريد ان نقول انه حين
طرح الرئيس أنور السادات مشكلة الديموقراطية في مصر فهم الذين تعنيهم ـ قبل أي شئ
وأي احد ـ مصلحة الشعب العربي في مصر ان سيادته قد فتح أبواب الاجتهاد في البحث عن
أفضل صيغ المستقبل ، ولم يفتح أبواب المحاكم ليقيم كل قادر من نفسه ” مدعيا عاما ”
لاتهام الماضي و ادانته . كأنهم يريدون ـ الآن ـ حل مشكلة الديموقراطية في
مرحلة تاريخية انقضت بدلا من أن يحلوا مشكلة الديموقراطية كما طرحها الرئيس أنور
السادات في المرحلة القائمة . ويجهلون او يتجاهلون انهم بهذا لا يقدمون الى الشعب
العربي في مصر او الى رئيس مصر العربية مساهمة ايجابية لحل مشكلة الديموقراطية . بل
يطيلون في عمر المشكلة المطروحة بقدر ما يبددون من جهد ويشدون من انتباه الناس الى
مشكلة لم تعد مطروحة .
ونحن نقدم الآن لحديث
يدور عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر . أي اننا سنتحدث عن الماضي القريب . ولكن أحدا لن يخطى ـ فيما نرجو ـ في ادراك
اننا ننظر الى الماضي او نعيد النظر اليه ، من خلال متطلبات المستقبل . او ان أحدا
لن يخطىء ـ فيما نرجو ـ في ادراك ان حديثنا عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في
مصر هو مقدمة تاريخية لحديث عن حل مشكلة الديموقراطية في مصر، سواء أكملنا الحديث
او حال حائل دون اكماله…
فمن أين نبدأ ؟؟
قال روسو وآخرون :
في عام 1762 قال جان جاك
روسو في كتابه ” العقد الاجتماعي ” : ” لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه
بأسلوب ديموقراطي اذ ان هذا النوع من الحكم الذي يبلغ حد الكمال لا يصلح للبشر “.
وقال أيضا : ” اذا أخذنا تعبير الديموقراطية بمعناه الدقيق فان الديموقراطية
الحقيقية لم توجد أبدا ولن توجد “ .
بالرغم من هذا التشاؤم ،
يأتي من فيلسوف الحرية ، فان الشعوب لم تكف عن محاولة الوصول الى هدف الديموقراطية
المقدس . وهي تحقق في كل مكان ، وفي كل زمان ، خطوة مهما تكن قصيرة فانها تقربها
من هدفها. قد تتعثر المسيرة او تتوقف او حتى ترتد في مكان محدود او في زمان معين ،
ولكن الاتجاه العام لمسيرة الشعوب نحو الديموقراطية في تقدم مستمر . ولعل من
علامات تقدمها ان أحدا لا يستطيع ان يجهر ـ الآن ـ وهو آمن بانه ضد الديموقراطية
فنرى المستبدين يحرصون أكثر من غيرهم على الزعم بان استبدادهم هو الديموقراطية
عينها . وليس أقل من هذا دلالة على تقدم الشعوب نحو الديموقراطية رهافة وحدة
الشعور بالاستبداد . ان الشعوب تثور اليوم ، ان كانت قادرة على الثورة ، وتجهر
معترضة ان كانت قادرة على الجهر او تصمت غاضبة اذا لم يتوفر لها الا أضعف الايمان
، ولكنها- في كل حالاتها- تنكر الاستبداد في صور كانت منذ قرنين حقوقا مقدسة،
وكانت منذ قرن حقوقا طبيعية معقولة . هذه الرهافة والحدة في الشعور بالاستبداد هي
التي حولت مشكلة الديموقراطية الى أزمة حادة اذ لا يمكن ان يشعر بثقل قيود
العبودية الا الأحرار . وهي التي تفسر الانذار الدي أطلقه الفيلسوف الانجليزي
هارولد لاسكي في تقديمه لكتابه ” الحرية في الدولة الحديثة “. فهذا رجل عاش حياته في ظل نظام يقال انه نموذج
التقدم الديموقراطي ، ومع ذلك فهو يقول : ” كل من يعتبر الحرية أساس الحياة
المتمدينة يمكنه ان يرى ان الاخطار التي تهددها هي جزء من أزمة عالمية لم يعد فيها
الزمن الى جانبنا . فنحن نندفع بثبات نحو كارثة جديدة ليست أسبابها غامضة علينا
ولا نحن جاهلين لطرق العلاج التي يمكننا ان نقابلها ونقاومها بها ولكن مأساتنا هي
ان طبيعة تفكيرنا ما زالت مصوغة بأساليب تفكير القرن التاسع عشر “ .
ان هذا لا يعني ، في
رأينا ، ان القيود في القرن العشرين قد أصبحت أكثر ضيقا منها في القرن التاسع عشر .
ولكن يعني ان مضمون الحرية قد أصبح أكثر اتساعا ، فضاقت به نظم الماضي ومع ذلك ،
يبدو ان الفجوة التي تتسع مع الزمن بين مضمون الحرية من ناحية ونظم ممارستها من
ناحية أخرى قد أدت الى شعور قريب من اليأس . فهذا مفكر فرنسي معاصر هو رينيه
كابيتان يكتفي بعد قرنين من روسو (1972) بان تكون الديموقراطية مثلا أعلى يوجه و
يقود جهد البشر وليست نظاما للحكم . ثم يندب جورج فيريير ، وهو مفكر فرنسي معاصر
أيضا .
يندب الديموقراطية فيقول ان مأساة
الديموقراطية كامنة في انها لم تستطع ان تحقق الديموقراطية .
لسنا على هذا القدر من
التشاؤم من مستقبل الديموقراطية لاننا نثق في مقدرة الانسان على الانتصار على
مشكلاته . وهي ثقة يبررها التقدم الفكري والعلمي الذي أنجزه الانسان وينجزه
بمعدلات متزايدة .
كل ما في الامر ان
الديموقراطية ، وهي نظام حديث لم تعرفه البشرية الا منذ قرنين ، ما تزال غامضة
الدلالة على المستوى النظري على وجه يسمح لاعدائها بادعائها . وماتزال غائمة
المعالم على المستوى التطبيقي على وجه يسمح بان تنتحل اسمها أشد النظم استبدادا .
ان هذا يعني ، على وجه ،
ان للديمقراطية مشكلات ما تزال تفتقد الحل وتستدعي كل قادر الى ان يسهم بما يستطيع
في حل مشكلة تهم الناس جميعا . ويعني ، على وجه آخر، ان الكلمات الاخيرة في الديموقراطية لم تقل بعد
وان باب الاجتهاد ما يزال مفتوحا .. وتكون أصعب نقاط البحث هي بدايته . اذ يكون
علينا ان نختار من بين عديد المشكلات التي تثيرها الديموقراطية أكثرها حدة او
أكثرها الحاحا.. بالنسبة للمجتمع الذي يعنيها : مجتمعنا .
التخلف الديمقراطي :
أهم مشكلات الديمقراطية على الاطلاق هو ـ في رأينا ـ التخلف الديموقراطي . والتخلف الديموقراطي ليس صنو التخلف الاقتصادي دائما كما تزعم بعض المذاهب الفكرية وان كان يتأثر به حتما . ففي فرنسا المتقدمة صناعيا التي أنجبت أساتذة الديموقراطية فلسفة وأساتذة الديموقراطية نظاما ، لا يكف أساتذة النظم السياسية ، منذ ان دخل أسلوب الاستفتاء الشعبي في دستور 1958، عن التحذير من ان فقدان النضج السياسي الذي يميز بعض الشعوب ومنها ـ كما يقولون ـ الشعب الفرنسي يحيل الاستفتاء أداة خطرة في يد القادة . لان الشعب الفرنسي ـ كما يقولون أيضا ـ ما يزال ، منذ جان دارك ، يبحث عمن يقوده لينقاد له .
اذا كان الامر على مثل
هذا في دولة كفرنسا فان المشكلات التي يثير ها التخلف الديموقراطي في الشعوب
النامية أشد وأنكى . فليس أسهل من صياغة الافكار ديموقراطيا الا صياغة النظام
الديموقراطي نصوصا دستورية . الصعب حقا ان تعي الشعوب حقوقها وان تمارسها . والناس
ـ أغلبية الناس ـ في المجتمعات النامية، ومنها مجتمعنا العربي ، لا يعون حقوقهم
وان وعوها لا يمارسوها لانهم يعيشون ازمة صدق وتصديق . الدساتير مصوغة على أعلى
درجة ومستوى بلغته الدساتير في المجتمعات المتقدمة ديموقراطيا وهو ما يعني ـ ضمنا ـ ان الذين صاغوها مقطوعة الصلة بالواقع ، وان كانت أسمى منه ، لم يصدقوا
في انهم قد وضعوها لتنفذ فلم يجدوا بأسا في ان تقترب من الكمال في صيغتها على
الاقل . والذين وضعت لهم الدساتير لا يصدقون ان لهم كل تلك الحقوق فلا يمارسونها
ان بقيت ولا يفتقدونها ان الغيت ولا يدافعون عنها في أي حال . ولا يزالون ـ كعهد
أجدادهم ـ يسلكون الى غايتهم مسالك الزلفى ويجتنبون الاستبداد بالسكوت . انه ميراث
عهود طويلة من العبودية ربتهم على الخوف حتى أصبحوا بشرا خائفين …
في هذه المجتمعات قد لا
يفتقد احد الشكل الديموقراطي . حق التصويت العام . التصويت السري . المجالس
المنتخبة.. الخ ، والحكومات لا تتردد في دعوة الشعب الى الانتخاب او الى الاستفتاء
. ولكن كل هذا يتوقف على اللحظة التالية . حين يقف أخونا الانسان في لحظته المصيرية
وهو يحاول جاهدا ان يبدي رأيه في مقار الاستفتاء او الانتخاب . انه هناك بعيد عن
أي تدخل . لا أحد يملي عليه ارادته ولا أحد يكتب له رأيه لانه لا يعرف الكتابة
مثلا . نفترض هذا افتراضا لنصل الى جوهر المشكلة . ان أخانا وراء الستار يبدي رأيه
ليس وحيدا . انه يحمل فيه ـ ولا نقول معه ـ تراثه التاريخي . يحمل فقره الذي يشيع
في نفسه الخوف من ان يكون في ستار السرية خرق تطل منه عين السلطة . يحمل تجربته وتجربة أجداده التي علمته وعلمتهم ان الامور في دولته لا تتوقف ،
وما توقفت قط ، على ما يقوله الناخبون وراء الستار . باختصار انه في وحدته وراء
الستار لا يجد معه الا خوفه مما هو حقيقي أحيانا وما هو وهمى في أغلب الاحيان .
فيكون امام الخياريين رأيين : رأي الانسان الذي يريد ان يمارس حريته السياسية ،
ورأي الانسان الخائف الذي يخشى مزيدا من القيود . الارجح انه سيختار الرأي الأخير. يخسفر الانتخاب او الاستفتاء عن رأي الاغلبية
الخائفة، او عن ممثلين خائفين لن يلبثوا- بدورهم- ان يضيفوا الى خوفهم خوفآ من
الهبوط إلى القاع بعد أن صعدوا إلى مقاعد البرلمانات وأصبحوا قريبين من السلطة…
الى آخره .
وهكذا نجد ان مشكلة
الديموقراطية في المجتمعات النامية ، ومنها مجتمعنا العربى ، ليست مجرد مشكلة
دساتير وقوانين وحقوق سياسية وضمانات لتلك الحقوق بل قبل هذا وفوقه مشكلة تخلف
ديموقراطي . ان ادراكنا لهذه الحقيقة يضع في أيدينا اول مفاتيح الحديث المقبل .
اننا لسنا في مبارا ة ديموقراطية مع الدول المتقدمة . أية مقارنة بين الافكار
والنظم و الممارسات مقارنة غير واقعية . اننا نعيش مع تلك الدول في عصر واحد ولكن
مجتمعاتنا متخلفة عنهم عصورا . هناك بذلت الشعوب على مدى قرون من دمائها ، ثورات
وحروبا ، لتحصل على الديموقراطية وتفرضها على الحاكمين وهي تمارسها كأغلى وأثمن
مكتسباتها التاريخية. أما هنا ، فما أسهل ان نستعير او نقتبس تلك الدساتير بما
فيها من حقوق مسطورة، ولكننا نفتقد ـ تاريخيا ـ المقدرة الشعبية على حراستها . لان
شعوبنا لم تدفع بعد الاثمان الغالية التي دفعتها الشعوب المتقدمة مقابل انتزاع
حرياتها .
اذن ،
ان أي حديث جاد عن مشكلة
الديموقراطية في مصر العربية او في أي قطر عربى آخر، لا بد له ـ ان أراد ان يكون
علميا ـ من ان ينطلق من حقيقة ان الديموقراطية ليست مجرد نظام دستوري نطبقه بل
حياة ديموقراطية نسعى الى تحقيقها . هنا ، لا يكون السؤال الاساسي هو : هل ثمة
نظام ديموقراطي . بمقياس العصر ام لا، بل هل نحن نتقدم نحو نظام ديموقراطي بمقياس
العصر ام لا ؟ . وتكون كل خطوة فكرية او قانونية او سياسية او اقتصادية او اجتماعية او تربوية
تحررنا ، او تساعد على تحررنا، من قيود التخلف الديوقراطي هي خطوة ديموقراطية نحو
النظام الديموقراطي الذي سيبقى هدفا الى ان يستحقه الشعب . وهو يستحقه حين يستطيع
ان يفرضه بارادته ويحرسه ضد ارادة المستبدين .
الوقوف مع الشعب :
كانت فقرتنا السابقة على قدر من التجريد. لقد كنا نتحدث فنقول ” نحن ” فمن نحن؟ . ونقول ” مجتمعنا ” كأن الناس في مجتمعنا سواء في التخلف الديموقراطي . وهو غير صحيح . وهو غير صحيح على وجه خاص بالنسبة الى مصر العربية . ان في مصر العربية بضعة ملايين من المتعلمين والمثقفين والواعين سياسيا المتفوقين ديموقراطيا الذين لا يقلون مقدرة على الممارسة الديموقراطية ، بأسلوب العصر، عن أمثالهم في أي مجتمع متقدم ومع ذلك فانهم أقلية .
مشكلة الديموقراطية
بالنسبة إلى هؤلاء ـ ان وجدت ـ هي كيف يستعملون مواهبهم وما يملكون من مقدرات في
حكم شعب يعلمون تماما ان أغلبيته الساحقة متخلفة عنهم . ان لديهم أفكارا وفلسفات
وآراء يريدون التعبير عنها، فالديموقراطية عندهم هي ـ اولا ـ حرية الكتابة
والخطابة والصحافة والنشر. وهم قادرون على أن يكونوا حكاما او هكذا يعتقدون
فالديموقراطية عندهم هي ـ ثانيا ـ الاحزاب والترشيح والانتخابات ومقاعد المجالس النيابية . وهم قادرون
بما يملكون على ان يشقوا طريقهم بأنفسهم فالديموقراطية عندهم هي ـ ثالثا ـ عدم
تدخل الدولة في شؤونهم وشؤون الناس .
ولكن بجوار هؤلاء هناك
أغلبية الشعب من الفلاحين والعمال والحرفيين وصغار التجار والمهنيين والطلاب
والعاطلين ظاهرين ومقنعين . انهم الأغلبية . ولسنا نعتقد ان أي ديموقراطي او مدع
للديموقراطية يستطيع ان ينكر ـ بحق ـ انه اذا لم تكن الديموقراطية هي حكم الشعب كله فهي على اليقين حكم الاغلبية . ان
هذه الاغلبية لا تملك أفكارا او فلسفات او آراء ، تريد التعبير عنها ، ولا هي
راغبة او قادرة على ان تحكم ، ولا هي مستغنية عن تدخل الدولة وبالتالي فان مشكلة
الديموقراطية منسوبة اليها ليست ـ بالدرجة الاولى ـ حرية الكتابة والخطابة
والصحافة والنشر والانتخابات . الى آخره . مشكلة الديموقراطية بالنسبة لهذه
الأغلبية تتلخص ـ بشكل عام ـ في كيف يكون جهاز الحكم في خدمة مصالحهم الحياتية .
ومن بين مصالحهم الحياتية ان يكون الحكم في موضوع الخدمة منهم لا في موضع الوصاية
عليهم .
وهذا ليس مقصورا على مصر
العربية بل هو انتباه عالمي حديث لابعاد كانت خافية من مشكلة الديموقراطية .
قال جورج بوردو، أستاذ
العلوم السياسية في جامعة باريس ، في كتابه ” الديموقراطية ” : ” ما أهمية ان يكون الانسان حرا في تفكيره اذا كان تعبيره عن
الفكر يعرضه للاضطهاد الاجتماعي وان يكون حرا في رفض شروط العمل اذا كان وضعه
الاقتصادي يرغمه على قبولها . وان يكون حرا في التمتع بالحياة اذا كان البحث عن
لقمة العيش يستغرق كل حياته . وان يكون حرا في ان ينمي شخصيته بالثقافة واكتشاف العالم
المتاح للجميع اذا كانت تنقصه الامكانيات المادية الحيوية “ .
هناك اذن أكثر من مفهوم
لمشكلة الديموقراطية في مصر العربية كما هو الحال في العالم . وهي مفاهيم متكاملة
على المستوى الفكري المجرد . ولكنها على المستوي الواقعي في مجتمع معين في زمان
معين يكون بعضها أكثر حدة من بعضها الآخر، فتفرض على كل جاد في البحث عن حل لمشكلة
الديموقراطية اولويات يحددها التكوين الاجتماعي و درجة التطور الديموقراطي وتصبح
كل جدوى من الحديث متوقفة على المقياس الموضوعي لتلك الاولويات .
ونحن نعتقد ان المقياس
الموضوعي الوحيد للترجيح في شأن الديموقراطية هو الوقوف مع الشعب ” أغلبية الشعب ”
والنظر الى المشكلة على ضوء معاناته . والبحث عن حلها في ضوء احتياجاته بدون انكار
او تنكر للجوانب الاخرى من مشكلة الديموقراطية كما تعانيها القلة الممتازة . ذلك
لان الديموقراطية نظام لحكم الشعوب وليست نظاما لطموح القلة الى الحكم . وسيكون
هذا المقياس الموضوعي هو ضابط ما سيأتي من حديث عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية
في مصر .
بهذا تكون هذه المقدمات
التي يبدو انها طالت أكثر مما يجب قد انتهت الى ما أردناه بها . ولقد أردنا ان
نحدد المقياس الموضوعي لحديثنا عن المشكلة . لنوفر على القارئين ـ منذ البداية ـ عناء البحث عن اجابات على الاسئلة التي
تثور حول كل كاتب . أين يقف ؟.. من أية زاوية يرى ؟.. ما هو منهجه في الرؤية ؟..
اذ حتى لو كانت كل الوقائع التاريخية معروفة ومسلما بصحتها فان لكل واحد منهجه في
فهم التاريخ وتفسيره .
2 ـ لماذا
قامت ثورة 1952 ؟
في سبيل الديموقراطية :
في اجتماع
حاشد في ميدان التحرير، يوم 26 نوفمبر 1953، أكد جمال عبد الناصر بقوة ، على ان
الهدف الاول للثورة كان الديمقراطية قال :
” اني أعلنها
صريحة . ان هذه الثورة كان هدفها الاول الديموقراطية لاننا نؤمن بارادة الشعب
وقوته . ولكن لن تكون للشعب قوة ولن تكون له ارادة الا اذا أحس بالديموقراطية .
اننا ، أيها المواطنون ، لم نفكر لحظة واحدة في الديكتاتورية لاننا لم نؤمن بها
أبدا فهي تسلب الشعب ارادته وقوته ولن نتمكن من ان نفعل شيئا الا بقوة الشعب وارادته
.
” هذا ايها
المواطنون هو هدف الثورة الاول فانها ثورة ديموقراطية تعمل لكم ومن أجلكم ليشعر كل
انسان انه مصري وانه مصر كلها .. اننا ما قمنا بهذه الثورة التي تدعو الى الحرية
لنتحكم فيكم او لنستبد بكم . ولكننا لا نريد الديموقراطية الزائفة. نريد
ديموقراطية تعمل لكم ومن أجلكم، ليشعر كل انسان انه مصري ومتساو والفرص متساوية
أمامه في هذا الوطن . ولذلك فاني أقول لكم ان واجبكم أكبر مما تتصورون . فأنتم يا
أبناء مصر ـ وليس مجلس الثورة ـ أنتم الذين سترسمون الطريق الذي سنسير فيه ، ويقرر
مصير الوطن أجيالا طويلة. ولذلك فاني أوجه حديثي الى كل فرد واقول له أنت مسؤول عن
وطنك وبلادك . ولن نتواكل ولن نسمع وعودا كاذبة كما كنا نفعل في الماضي . فطالما
وعدنا وغرر بنا. فاذا أردنا ان نبني وطننا عزيزا ونحقق الحرية التي نؤمن بها جميعا
فيجب أن نتبصر ونعرف طريقنا فالماضي يختلط بالمستقبل والحاضر يرسم الطريق للمستقبل .
” يجب أن نتحرر من
الخوف. يجب ان نتحرر من الفزع . يجب ان يحرر كل منا نفسه وان نتخلص من السياسة
التي رسمت في الماضي ، فقد كانوا يخلقون من كل مواطن طاغية “ .
هكذا قال
عبد الناصر.
ثم نتذكر
ان الرئيس أنور السادات قد ردد في أكثر من مناسبة قصة الخلاف الذي ثار في مجلس
قيادة الثورة حول الموقف من نظام الحكم . موجز ما قاله ان مجلس قيادة الثورة قد و
اجه منذ البداية اختبار الاختيار بين الديموقراطية والديكتاتورية نظاما لحكم مصر.
وقال ان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وحده، هو الذي اختار الديموقراطية لحكم
شعب مصر في حين ان باقي أعضاء مجلس الثورة ـ كلهم ـ ومن بينهم الرئيس أنور السادات
نفسه ـ كما قال سيادته ـ قد اختاروا الديكتاتورية نظامآ يحكمون به شعب مصر. وأصروا
فاستقال جمال عبد الناصر. فتراجعوا فتراجع عن استقالته…
خلاصة ما
قاله عبد الناصر وما قاله السادات معاً ، ان ثورة 23 يوليو سنة 1952، كانت ـ في
وعي عبد الناصر ـ ثورة من أجل الديموقراطية ، وكان هو منسجمآ مع الثورة التي قادها
فكان ديموقراطياً .
أية ديموقراطية ؟
ولكن كل
تلك الأقوال تبدو على قدر كبير من التعميم . فلا نفهم منها أين كان القصور في
الديموقراطية الذي حرك الثورة وما هي الديموقر اطية التي قامت الثورة من أجلها .
لقد كان
في مصر دستور ليبرالي هو دستور 1923 يكاد يكون منسوخاً من أرقى دساتير أوروبا في
ذلك الوقت وهو الدستور البلجيكي . وفي ظله كانت الأحزاب الليبرالية مباحة : الحزب
الوطني، حزب الوفد ، حزب الأحرار الدستوريين ، حزب الاتحاد، حزب الشعب، حزب مصر
الفتاة ، حزب السعديين ، حزب الكتلة الوفدية، حزب الفلاح ، جبهة مصر بالإضافة إلى
جماعة الأخوان المسلمين . ولقد مورست في ظله قواعد الديموقراطية الليبرالية :
ترشيحات وانتخابات ومجالس نواب ومجالس شيوخ وصحافة لكل حزب ولكل من يقدر.
وإذا كنا
قد قلنا أنه دستور ليبرالي فلا يمكن لأحد أن يتهم الليبرالية بالتقصير في سرد
الحريات ” الطبيعية ” ورصها في الدساتير، لأن الليبرالية ضد التدخل في حياة
الأفراد من حيث المبدأ . وحتى إذا كان دستور 1923 قد تضمن بعض الأحكام الاستبدادية
حفآطاً على امتيازات الملكية فإن بقية أحكامه لم تكن تحول دون إلغاء تلك الأحكام
الاستبدادية. منع الدستور تغيير النظام الملكي والنظام البرلماني فقط .
والواقع
أن عبد الناصر كان يرى ، حين قامت الثورة ، ان الدستور (دستور 1923) يضارع أرقى
الدساتير و ان الحياة البرلمانية والانتخابات المتتالية كان من الممكن أن تتيح
للشعب حياة ديموقراطية سليمة. وقد عبر عن رؤيته تلك بعد ثلاثة أشهر من قيام الثورة
محدداً هدف الثورة الديموقراطية بإعادة الحياة الدستورية . قال يوم 15 نوفمبر 1952
في ذكرى الشهداء ” اني لا أود أن أغادر هذا المكان قبل أن أقول لكم أن حركة الجيش
ما قامت إلا لتحرير الوطن وإعادة الحياة الدستورية السليمة للبلاد “ .
الحياة الدستورية
السليمة ؟!
وما هي
الحياة الدستورية السليمة التي كان يقصدها ؟
يجيب عبد
الناصر على هذا السؤال الجوهري في تاريخه وتاريخ الديموقراطية في مصر. فيقول في
مدينة شبين الكوم يوم 23 فبراير 1953: ” كان الظلم الاجتماعي يتجسم في كابوس
الاقطاع البغيض فقد ورثنا طبقة من الحكام والأشراف ترفعوا عن الشعب وراحوا يتمتعون
بنفوذهم وأموالهم . وانقسمت البلاد إلى فئتين كل منهما تكره الأخرى وهما من طينة
واحدة . معسكر العبيد وطائفة الأسياد “ .
ويربط هذا
الوضع الاجتماعي بالدستور ومشكلة الديموقراطية في مصر فيقول في ميدان الجمهورية
بالقاهرة يوم 16 سبتمبر 1953 : ” لقد حكمتم زهاء ربع قرن في ظل دستور يضارع أرقى
الدساتير وفي برلمانات متعددة جاءت وليدة انتخابات متتالية . حكمتم باسم
الديموقراطية ولكنكم باسم الديموقراطية المزيفة لم تنالوا حقوقكم ولم تنالوا
استقلالكم . ولم تنعموا يوماً واحداً بالحرية والكرامة التي لم يكفلهما الدستور في
عهودهم إلا لهم من دون الشعب فخسرتم كل شيء وكسبوا كل شيء حتى ثرتم على هذه
الأوضاع فحطمتموها . فمن منا يمكن أن يقبل أن تسلم الثورة أمر الشعب باسم
الديموقراطية الزائفة، باسم الدستور الخلاب ، و باسم البرلمان المزيف إلى تلك
الفئة المخادعة ؟. هؤلاء الذين عاشوا لتحقيق شهواتهم ومطامعهم من دماء هذا الشعب
جيلأ بعد جيل . هؤلاء القوم الذين ثرتم من أجل تصرفاتهم ومظالمهم واستغلالهم ” .
لا شك أن
عبد الناصر لم يكن يرى مشكلة الديموقراطية في النظام الدستوري . كما لا شك في أنه
لم يكن يراها في النظام الاقتصادي وإن كانت رؤيته متضمنة انتباها متقدماً للعلاقة
بين مشكلة الديموقراطية ومشكلة الإقطاع بالذات . أوضح جوانب رؤيته في ذلك الحين
كانت متصلة بالحاكمين أنفسهم . نظام دستوري ” يضارع أرقى الدساتير ” ولكن طغمة من
الحكام الفاسدين لا يرعون الدستور ولا يحترمون البشر، أفسدوا الحياة الديموقراطية .
نتوقف هنا
لنسأل : هل كانت هذه الرؤية مبررة من الواقع ؟
عودة إلى الواقع :
كان
النظام الذي يسود مصر قبل 1952 نظاماً ليبرالياً سياسياً واقتصادياً . في هذا
النظام كانت للمصريين حقوق سياسية وفيرة (الجانب السياسي) ولكنهم كانوا
مجردين من المقدرة الفعلية على استعمالها بفعل النظام شبه الإقطاعي شبه الرأسمالي
الذى كان سائداً (الجانب الاقتصادي) . ذلك لأن القانون الأساسي للنظام كله ،
سياسياً واقتصادياً ، كان المنافسة الحرة . وقانون المنافسة الحرة يبيح لكل شخص أن
يكسب معركة الديموقراطية كما يشاء . ولكن لا يكسبها فعلأ إلا القادرون
اقتصادياً . فكانت المقدرة الاقتصادية - بشكل عام ـ هي التي تلعب الدور الحاسم ـ
بعد استنفاد كل الطقوس الشكلية - لتحديد من يحكم ولمن إرادة التشريع والتنفيذ .
في القمة
لا يرشح نفسه للانتخابات إلا القادرون مالياً ، كان يشترط في أعضاء مجلس الشيوخ أن
يكونوا على سبيل الحصر من بين : ” الوزراء ، الممثلين الدبلوماسيين ، رؤساء مجلس
النواب ، وكلاء الوزارات ، النواب العموميون ، رؤساء ومستشاري محكمة الاستئناف أو
أية محكمة أخرى من درجتها أو اعلى منها ، نقباء المحامين ، موظفي الحكومة من درجة
مدير عام فصاعداً سواء في ذلك الحاليون أو السابقون ، كبار العلماء والرؤساء
الروحيون ، كبار الضباط المتقاعدين من رتبة لواء فصاعداً النواب الذين قضوا مدتين
في النيابة ، الملاك الذين يؤدون ضريبة لا تقل عن مائة وخمسين جنيهاً في
العام (حوالي 3000 جنيه بسعر العملة الحالي) من لا يقل دخلهم السنوي عن ألف
وخمسمائة جنيه (حوالي 30000 بسعر العملة الحالي) من المشتغلين بالأعمال المالية
والتجارية أو الصناعية أو بالمهن الحرة ” (المادة 78 من دستور 1923) وكان من حق
الملك أن يختار ثلث الأعضاء ويعينهم .
أما
بالنسبة إلى النواب فكان يشترط للترشيح دفع أمانة مقدارها 150 جنيهاً (حوالي 3000
جنيه بسعر العملة الحالي) . هكذا كان يشترط قانون الانتخاب في مادته الخامسة
والخمسين . ولقد اشترط هذا المبلغ عمدآ وبعد نقاش طويل . إذ كان الاتجاه عند وضع
قانون الانتخاب إلى إشتراط أن يكون النائب من بين كبار الملاك أو ذوي الدخول
الكبيرة . ولما كان هذا الشرط قد استنفد حين اشتراطه لعضوية مجلس الشيوخ ، فقد
احتالوا لإعادة النص عليه بصيغة أخرى هي اشتراط أن يدفع المرشح مبلغآ مالياً ، كأمانة،
يكون من الجسامة بحيث لا يستطيع دفعه إلا كبار الملاك أو ذوو الدخول الكبيرة .
هذا في
القمة ،
أما في
القاع حيث يقبع الشعب ، أغلبية الشعب التي يحتكم إليها المتنافسون في الانتخابات
فإن الشعب كان مرتبطآ منذ أجيال من أمعائه بالمسيطرين عليه اقتصادياً القادرين على
وصل الأرزاق وقطعها كان الفلاحون اقنانآ أو في مرتبة الأقنان بالنسبة لملاك
الأراضي . فحرية الإرادة ، أو حرية التعاقد ـ ذلك الطوطم المقدس ليبراليا ـ كانت
تعني أن الفلاحة مزارعة أو إيجاراً ، كانت خاضعة خضوعاً تاماً في انعقادها وفي
استمرارها وفي انهائها وسعرها لإرادة المالك وحده . وأسعار المحاصيل كانت خاضعة
خضوعاً تاماً لمضاربات الرأسماليين في السوق . وفي المتاجر والمصانع كان عقد العمل
خاضعاً خضوعاً تاماً في انعقاده واستمراره وانهائه وقيمة الأجر فيه والجزاءات التي
تقتطع منه لمالك المتجر أو المصنع وحده . وكانت النخاسة المقنعة التي يسمونها ”
توريد الأنفار ” سوقاً رائجة من فرط البطالة وفيها يبيع المصريون قوة عملهم بأبخس
الأثمان لكي يعيشوا ، ويدفعون من الثمن البخس قدرا معلوماً لمن يجد لهم العمل أو
يضمن لهم الاستمرار فيه .
كان
مطلوباً من كل هؤلاء الأقنان الاجراء العاطلين المرضى الجاهلين أن يستعملوها
حقوقاً سياسية مقتبسة من دستور بلجيكا وأن ينافسوا غيرهم في سباق الديموقراطية .
ولم يكن ذلك ممكناً . كان أجدى عليهم ، وأكثر واقعية ، أن يبيعوا حرياتهم السياسية
لمن يشتريها أو أن يتنازلوا عنها مقابل الاستمرار في الحياة . ولقد كانوا - كما
لاشك يذكر كل الذين عاصروا تلك المرحلة - يبيعونها أو يتنازلون عنها صفقة واحدة لكل
عائلة من كل قرية ، وسيطها رئيس العائلة أو عمدة القرية ليكسب هو أيضاً . ولم يكن
في أي من هذا شيء غريب . فقديماً قال روسو ” ان الغني الفاحش والفقر المدقع
متلازمان وعندما يجتمعان في مجتمع ما ، تباع فيه الحرية وتشترى ، يبيعها الفقراء
ويشتريها الأغنياء ” . ولم يكن روسو يلوم أحداً ولكنه كان ينقد نظاماً .
و لقد كان
شعب مصر- أغلبية شعب مصر- قبل ثورة 1952 عاجزاً اقتصادياً عن الممارسة الفعلية
لإرادته . كان حراً سياسياً بحكم الدستور مقهوراً اقتصادياً بحكم تبعيته الاقتصادية
لملاك الأراضي والرأسماليين . ولا ذنب في هذا للسادة أو للعبيد انما هو ذنب النظام
. فحيث يوجد سادة لا بد متن وجود العبيد . ولا عيب في الحرية السياسية ولكن العيب
في العبودية الاقتصادية فحيث لا يكون الإنسان حراً اقتصادياً لا يستطيع أن يمارس
حريته السياسية، فتبقى جملاً منمقة في الدساتير .
وهكذا
كانت في دستور 1923.
و ما بين
القاع والقمة كان اصدار الصحف مباحا ولكن لم يكن يصدر الصحف الا القادرون ماليا .
وكانت حرية الكتابة مباحة ولكن لم يكن ينشر الا ما يرضى عنه ملاك الصحف أو من
يمولونها عن طريق الاعانات والاعلانات . وكان تأسيس الاحزاب الليبرالية مباحا ولكن
لم تكن تلك الاحزاب مؤثرة الا بقدر ما تملك من مال ليكون لها الدور والصحف ووسائل
الانتقال والاتصال والاجتماع وفوق هذا وقبله أن يكون اعضاؤها من القادرين ماليا
على اجتياز الانتخابات الى مجلس النواب أو الشيوخ .. ( لم تستطع جماعة الاخوان
المسلمين بالرغم من قاعدتها الشعبية العريضة أن تحصل على مقعد في البرلمان في أية
انتخابات ) . لقد كان مجتمع الـ ½ في المائة .
هل ½%
حقاً ؟
حديث الأرقام :
ان حديث
الارقام ثقيل ، ولكنه بليغ في دلالته . طبعا بشرط الا تكون أرقاما منتقاة سلفا
للتدليل . فمن الذي يحدثنا حديث الارقام ؟ .. لن يكون عبد الناصر ، ولن يكون أحدا
ممن شاركوا عبد الناصر مسئولياته طوال حياته . سنختار عالما اقتصاديا رأسماليا كان
له من عبد الناصر وثورة 23 يوليو موقف سلبي . غادر مصر ولم يعد اليها
الا بعد وفاة الرئيس الراحل . ولكنه من حيث هو عالم اقتصاد يجيد لغة الارقام . ومن
حيث هو رأسمالي لا ينتقي لغة الدفاع عن عبد الناصر .
قال
الاستاذ علي الجريتلي في دراسة نشرها أخيرا عن ” التاريخ الاقتصادي للثورة ” :
” قبل الثورة كان عدد قليل من الملاك يستأثرون بنحو ثلث
الارض الزراعية ، وكانت هناك مظاهر للاحتكار في الصناعة منها الاحتكار المعزز من
الحكومة التي تمتعت به شركات السكر والدخان والطيران والملاحة . وفضلا عن ذلك كان
عدد قليل من الشركات الكبرى في صناعات الغزل والنسيج والاسمنت والمشروبات الروحية
يملك التأثير في الاسعار ويؤلف انتاجها نسبة عالية من المعروض المحلي وراء سياج
عال من الحماية الجمركية . ونظرا لقلة عدد ارباب الاعمال كانت تعقد بينهم اتفاقات
لتحديد الاسعار والانتاج وتقسيم السوق ، ومن ذلك اتفاقية أسعار الخدمات المصرفية.
وكانت هناك اتفاقات مماثلة بين شركات الحلج في الوجهين البحري والقبلي وبين شركات
الكبس الكبرى .. وكانت تسيطر على القطن عشر بيوت بلغ نصيبها 80% و90 % . من مجموع
الصادرات ( كان القطن يمثل 90 % من صادرات مصر) وفي مراحل التصنيع الاولى
كانت الشركات تتمتع باحتكار فعلي نظرا لقلة عددها وتعضيد الحكومة لها . وكانت
الشركات الصناعية و المالية ترتبط مع الاحتكارات العالمية بوشائج وثيقة وتشترك
معها في انشاء مشروعات مشتركة. ومن أمثلة ذلك اشتراك شركات التأمين العالمية
(بورنج واسيكارزبوني) في انشاء شركة مصر للتأمين واتفاق شركات برادفورد
وكالبكبووكوهوون مع بنك مصر لانشاء شركات غزل القطن وصباغته وتصنيع الحرير الصناعي
بقصد تخطي التهرب من التعريفة الجمركية .
نستطيع
بسهولة أن نحول هذه الفقرة الى أرقام مذهلة ليرى الجيل الجديد الذي لم يعاصر تلك
المرحلة السوداء كيف كانت القوة الاقتصادية لمجموعة محدودة من الناس تسيطر على
مقدرات شعب مصر او كيف كانت تحكم مصر. ولكننا نريد ان نبقى في حدود حديثنا عن عبد
الناصر ومشكلة الديموقراطية .
يكفي أن
نلفت الانتباه الى قول الدكتور علي الجريتلي :
” عدد قليل من
الملاك يستأثرون بنحو ثلث الأرض الزراعية ” وهذا رمز لها :
61 مالكا يملك كل منهم أكثر من
2000 فدان ومجموع ملكيتهم 277258 فدانا .
28 مالكا يملك كل منهم أكثر من 1500 فدان ومجموع ملكيتهم
97454 فدانا .
99 مالكا يملك كل منهم أكثر من 1000 فدان ومجموع ملكيتهم
112216 فدانا .
92 مالكا يملك كل منهم أكثر من 800 فدان ومجموع ملكيتهم
86472 فدانا .
ومعنى ذلك
ان 280 مالكا كانوا يملكون 583400 فدان ، أي ان واحدا من مائة الف من الشعب يملك
12% من الأرض .
هذا مثال
من الاقطاع الثقيل … الذي كان في ذهن جمال عبد الناصر وهو يتحدث عن مشكلة
الديموقراطية في مصر . انه ذات الواقع الذي حدد هدفين أساسيين من أهداف الثورة
الستة : القضاء على الاقطاع والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم .
الهدف
الاول كان يعني تحرير الفلاحين من التبعية للملاك . والهدف الثاني كان يعني ان
يكون الحكم في خدمة الشعب وليس تحت سيطرة رأس المال . وكلاهما كان هدفا ديموقراطيا
لحل مشكلة الديموقراطية في مصر كما يحددها ـ موضوعيا ـ الواقع الاجتماعي الاقتصادي
السياسي الذي كان سائدا قبل ثورة 1952.
لماذا
الضباط الاحرار؟
ان في
حديثنا ثغرة لا ينبغي ان نقفز عنها او ان نتجاهلها . قد يبدو واضحا من الواقع الاجتماعي
الاقتصادي السياسي الذي كان سائدا قبل ثورة 1952 ان مصر كانت مرشحة موضوعيا لثورة
يسترد بها الشعب حريته ومقدرته على فرض ارادته في حدود دستور 1923 أودستور يضعه
بنفسه . ولكن هذا الواقع لايبرر وحده ثورة 23 يوليو 1952 بكل خصائصها .
ولقد
اتضحت اولى خصائصها مما قلنا من قبل . فبينما يؤكد الواقع الموضوعي للحياة
الاجتماعية الاقتصادية والسياسية ان مشكلة الديموقراطية في مصر ـ قبل الثورة ـ
كانت مشكلة ” نظام ” غير ديموقراطي كان قائد الثورة يراه ” فسادا ” أحدثه أشخاص
فاسدون يستغلون نظاما دستوريا يضارع أرقى النظم . ألم يكن ذلك قصورا في الرؤية
يكشف عن قصور في النظرية ؟
بلى .
ثم ان من
خصائصها ان الشعب ، أغلبية الشعب ، لم تخطط لها ولم تسهم في تفجيرها لا عن طريق
انتفاضة عفوية تكملها قوة منظمة ، ولا عن طريق حزب من الاحزاب الي كانت تقود الشعب
في معارك الحفاظ على الدستور والديموقراطية . ألم يكن ذلك سلبا لشعبية الثورة لا
يغني عنه تأييد الشعب لها بعد ان قامت ونجحت وأصبحت في السلطة ؟
بلى .
ثم ان من
خصائصها ان الذين خططوا لها وأعدوا قوتها ونفذوها جماعة من ضباط القوات المسلحة لم
يكن لتنظيمهم ” السري ” امتداد جماهيري ولم يكونوا هم معروفين شعبيا ولا كانت
مزاياهم وأهدافهم معروفة . ألم يكن ذلك سلبا لديموقراطية الثورة ذاتها ؟
بلى .
كيف اذن
يبدأ الحديث بربط الثورة بمشكلة الديموقراطية الى حد القول بانها كانت ثورة من أجل
الديموقراطية اتكالا على ما قال قائدها او اتكالا على ان الواقع الاجتماعي و
الاقتصادي والسياسي في مصر، قبل 1952 ، كان يرشحها لثورة من اجل الديموقراطية ،
اذا كانت ثورة 23 يوليو 1952 بكل خصائصها المسلمة لا تحمل تأكيدا بانها هي الثورة
التي كانت تستدعيها ظروف مصر قبل 1952 .
واذا
أضفنا بعضا من سوء الظن يمكن أن نضيف سؤالا أذكر انه تردد في بعض الاوقات على
ألسنة هواة الجدل النظري . يقول السؤال : لماذا لا تكون ثورة 23 يوليو 1952
انقلابا قام من أجل اجهاض وضع ثوري ليحول دون قيام ثورة شعبية ديموقراطية في مصر ؟
أسئلة على
أكبر قدر من الجدية .
كل ما
يعيبها هو الجهل المطبق ، أو التجاهل المتعمد، للواقع الاجتماعي و الاقتصادي و
السياسي في مصر . ذلك الواقع الذي كان من حظنا ان عاصرناه كبارا وعشناه نشاطا
وطنيا سريا وعلنيا، سلميا وعنيفا، في مواقع شعبية ، وهياكل حزبية ، من أجل ذات
الاهداف التي سبقنا اليها تنظيم الضباط الاحرار. وما كان يمكن ان تكون الثورة فكرا
وقوة وبشرا الا كما كانت ، أعني ان الواقع الموضوعي في مصر ما كان يمكن ان يفرز
قوة ثورية قادرة على الثورة الا تنظيم الضباط الاحرار، بكل خصائص الثورة التي لم
ننكرها من قبل .
لماذا ؟..
بعد قيام
ثورة 23 يوليو 1952 ، تدخل أساتذة النظم السياسية في الجامعات ليبرروا قيام الثورة
بقوة من الضباط . قال أحدهم . ” لأن الشعب أعزل من القوة المادية التي يمكن عن
طريقها وحدها وضع الامور في نصابها ” . ( الدكتور عبد الفتاح ساير داير) وقال آخر
. ” لأن الجبهة المدنية لا تستطيع القيام بمثل هذه الثورة لافتقادها الى الاسلحة
والعتاد ” ( الدكتور مصطفى أبو زيد فهمي ) .. وقال استاذنا وأستاذهم المرحوم
الدكتور سيد صبري : ” لأن الضغط على صاحب التاج يحدث في البلاد العريقة في
الديموقراطية بواسطة الشعب او ممثليه بينما تم الضغط في مصر عن طريق الجيش ” (
مقال في جريدة الاهرام يوم 27 يوليو 1952) .
وكل هذا
صحيح الى حد محدود .
حد الصحة
فيه انه يشير الى عجز الشعب عن القيام بالثورة ولكنه لم يقل لماذا كان الشعب عاجزا
ومن المسئول عن هذا العجز ؟ .. ان يكن افتقاد السلاح فان الشعب قد ثار عام 1882
ووضع لنفسه أرقى دساتير العالم وقتئذ تحت قيادة عرابى ، وثار عام 1919 وواجه جيوش
الاحتلال والشرطة التي كانت هي الاخرى تحت قيادة الانجليز وهو بدون عتاد او انه لم
يفتقد العتاد فقد صنعه في نيران الثورة . وان يكن الاحتلال فإن الثورة قامت في ظل
الاحتلال لتنهيه . وان يكن الملك فان الذين قاموا بالثورة ضباط أقسموا يمين الولاء
لجلالته . وان تكن الاحزاب فلقد قامت الثورة ونجحت بدون حزب والغت الاحزاب .
كل هذه قد
تكون عوامل مساعدة او معوقة للثورة الشعبية . ولكن عجز الشعب عن الثورة كان راجعا
الى ذلك النظام الذي حرم الشعب من امكانيات الثورة فلم يبق إلا العسكريون ليثوروا
. هو ذلك النظام الذي حرم الشعب من تكوين أحزابه الثورية فلم يجد العسكريون حزبا
ثوريا يستندون اليه في ثورتهم . هو ذلك النظام الذي فشل في أن يمكن الشعب من خلال
التربية الديموقراطية والممارسة الفعلية للديموقراطية من ان يمتلك المقدرة على ردع
الذين لم يستجيبوا لارادته .
ان مجرد
ان يصل شعب مصر في ظل دستور 1923 ، و بعد ثلائين عاما من الممارسة ، الى درجة من
العجز تسمح لاعدائه باهدار دستوره واقصاء حزب أغلبيته ثم تحول دون ان يفرض هو
ارادته دستوريا او بثورة شعبية فلا يقوم بالثورة التي توافرت أسبابها الموضوعية الا
نفر من القوات المسلحة هو الدليل الحاسم على ان مشكلة الديموقراطية في مصر ، قبل
عام 1952 ، كانت قد وصلت الى حد المأساة الشعبية .
نريد ان
نقول ان طبيعة مشكلة الديموقراطية في مصر قبل عام 1952 هي التي عينت طريقة حلها :
ثورة عسكرية .. ومن رحم النظام الذي كانت تحكم به مصر قبل 1952، وبكل خصائصه، ولدت
ثورة 23 يوليو 1952 بكل خصائصها وما كان يمكن ان يكون المولود غريبا عن والدته…
الا ـ طبعا ـ في اذهان المثاليين .
نضرب مثلا
…
وفاة الدستور:
في يوم 19
نوفمبر 1924 قتلت احدى المنظمات الوطنية السرية السيرلي ستاك قائد الجيش المصري
وحاكم السودان . فاستغل الانجليز الفرصة وقدموا الى حكومة سعد زغلول مطالب لا تمت
أغلبها الى الحادث بصلة ( الاعتذار ـ عقاب الجناة ـ منع المظاهرات ـ دفع
غرامة مليون جنيه ـ ارجاع الجيش المصري من السودان ـ اطلاق يد الانجليز في تحديد
مساحة الأرض التي تزرع قطنا في السودان) .
رفضت
حكومة سعد زغلول وأعلن استقالته أمام البرلمان يوم 24 نوفمبر 1924 واكتفى البرلمان
بالاحتجاج . فأصدر الملك أمرا الى أحمد زيور بتأليف الوزارة التي يسميها المؤرخون
” وزارة تسليم ما يمكن تسليمه “. فسلمت بمطالب الانجليز وصدر مرسوم يوم 25 نوفمبر
1924 بتأجيل انعقاد البرلمان شهرا . وفي 9 ديسمبر 1924 عين إسماعيل صدقي
وزيراً للداخلية كمؤشر لاتجاه النية الى حل مجلس النواب واجراء
انتخابات جديدة ” يطبخها “. وفعلا في يوم 24 ديسمبر 1924 أي قبل نهاية الشهر
المضروب لتأجيل البرلمان بيوم واحد ، استصدرت الحكومة مرسوما بحل مجلس النواب
وتحديد يوم 6 مارس 1925 لانعقاد المجلس الجديد ، كانما تريد ان تحتكم الى الشعب .
ولكنها سوفت في الانتخابات الى ان أنشأ الملك حزب الاتحاد يوم 25 يناير 1925، والى
ان غير اسماعيل صدقي الدوائر الانتخابية بما يتفق مع رغبات مرشحي الحكومة، وأخيرا
حدد للانتخابات يوم 12 مارس 1925.
فما الذي
حدث ؟
أطاح شعب
الفلاحين ، صاحب ثورة 1919 ، بكل ما أراده الانجليز والملك والحكومة . وما ان
افتتح البرلمان يوم الاثنين 23 مارس 1925 حتى انتخب سعد زغلول رئيسا له . كان ذلك
في الجلسة الصباحية . وفي الجلسة المسائية كان قد صدر مرسوم جديد بحل مجلس النواب ،
وتقرر وقف الانتخابات .. واعتبر الشعب ان هذا الحل غير شرعي فتربص حتى اقترب يوم
21 نوفمبر 1925، اليوم المحدد دستوريا لانعقاد البرلمان ، وقامت حركة شعبية عارمة
تجمع النواب والشيوخ من بيوتهم وتحملهم على الاجتماع في احد الفنادق تحت حراسة
الشعب الذي بقي محتشدا أمام الفندق ( الكونتننتال ـ ميدان الاوبرا ) يحرس نوابه ..
وأدى كل هذا الى اذعان الحكومة للحركة الشعبية فحددت موعدا للانتخابات يوم 22 مايو
1926..
الى هنا
لا يستطيع احد ان يقول ان شعب مصر كان عاجزا عن فرض ارادته ، او انه كان عاجزا عن
استئناف نشاطه الثوري الذي بدأه عام 1919 ، او انه كان في حاجة الى ضباط من القوات
المسلحة ليثوروا بدلا منه ..
ولكن
لنتأمل ما فعل السادة في مجتمع الـ ½ في المائة ؟..
في يوم 3
ابريل 1926 عقدت الاحزاب اجتماعا عقدوا فيه اتفاقا أذاعوه في اليوم نفسه .
كان الاتفاق يتضمن امتهانا لأي معنى من معاني الديموقراطية . ويمثل مؤامرة موجهة
أساسا ضد الشعب نفسه. ذلك لأن الاحزاب قد اتفقت على ان تقتسم فيما بينها الدوائر
الانتخابية فاختص حزب الوفد بمائة وستين دائرة (وقع بالنيابة عنه سعد زغلول) واختص
حزب الاحرار الدستوريين بخمس وأربعين دائرة (وقع بالنيابة عنه محمد محمود) واختص
الحزب الوطني بتسع دوائر ( وقع بالنيابة عنه محمد حافظ رمضان) وهكذا عينت الاحزاب
” نواب الشعب ” وحرمت الشعب في بدء تجربته الديموقراطية من أن يختار نوابه … وقتل
الحلف الاقطاعي الرأسمالي دستور 1923 بعد ثلاثة سنوات فقط من أصداره .
ومنذ عام
1926، تكررت اللعبة عشرات المرات ، وانحصرت أطرافها في شريحة قليلة تتصارع على
كراسي الحكم في القاهرة ، ولم يكن الشعب ـ في أي يوم من الأيام ـ طرفا أصيلا في
هذه اللعبة . كان يدعى الى الانتخابات فينعقد سوق بيع الاصوات وشرائها . وينقض
السوق فيعود الشعب الى عزلته الواعية . الواعية بانه ، منذ أن تآمرت عليه الاحزاب
التي قاتل ضد الملك من أجل تمكينها من الحكم عام 1925، لم يعد طرفا في الصراعات
الحزبية ولا شريكا في لعبة كراسي الحكم .
وقبيل
1952 ، كانت السيطرة الاقتصادية والسياسية قد تحولت الى سيطرة اجتماعية ونفسية
وأخلاقية أيضا . كانت تلك السيطرة قد أصبحت مقبولة اجتماعيا ونفسيا وأخلاقيا
وتحولت الى ” قيم وأخلاق وسلوك القرية ” التي أضفت على تلك السيطرة نوعا من
القدسية وحصنتها ضد الرفض والتمرد بآداب القناعة الذليلة التي تعبر عنها الامثال
الشعبية : ” الفلاح لا فلح ” .. ” العين لا تعلى على الحاجب ” .. ” الاصابع مش
متساوية ” .. ” من يتزوج أمي أقول له ياعمي ” .. ” القناعة كنز لا يفنى ” .. الخ .
وحين يصل
القهر المتصل بأحد الشعوب الى حد عدم الاحساس بالقهر ، يكون من المثالية أن نتوقع
منه أن يثور ضد قاهريه .. وسنعرف فيما بعد أن أكثر جوانب مشكلات الديموقراطية في
مصر تعقيدا كانت ـ قبل ثورة 1952 ـ عدم وعي أغلبية الشعب بأن ثمة مشكلة ديموقراطية
. سنعرف هذا ونعرف كيف واجهت ثورة 23 يوليو 1952 وقائدها عبد الناصر هذا الجاني
المعقد من المشكلة .
قال ..
فهل فعل ؟
يكفينا
الآن أن قد عرفنا ” شيئاً ” عن مشكلة الديموقراطية في مصر قبل عام 1952، وان
الثورة قد قامت من أجل حلها ، و ان عبد الناصر، قائد الثورة ، كان واعيا ان على
الثورة ان تحل المشكلة التي قامت من أجل حلها ، وانه هو ـ شخصيا ـ كان مع
الديموقراطية ضد الديكتاتورية وانه كان يمتلك ـ حين قام بالثورة ـ قوة قاصرة نظريا
وشعبيا وديموقراطيا .. أضاف اليها ـ بانتصار الثورة ـ قوة جهاز الدولة التي ثار
ضدها والمتميز أساسا بانه كان غير ديموقراطي ..
بعد عشرين
شهرا من قيام الثورة ، أي في يوم 13 أبريل 1954، قال جمال عبد الناصر ضمن خطاب
ألقاه في قرية ” الفاروقية ” :
” ماذا يعنون
بالحرية التي ينشدونها والبرلمان الذي يريدونه ؟ . انهم يعنون بذلك الاستغلال في
أبعد حدوده والاحتماء في الاستعمار من أجل مصالحهم في القرى وفي الأرض وفي البنوك
وفي كل شيء بالرغم من ان الفلاحين يمثلون الاغلبية العظمى اذ يبلغ عددهم 18 مليون
نسمة يعيشون وقد حرموهم الشعور بالحرية والعزة والحرية الاجتماعية ولقمة العيش .
حرموهم وحرموا اخوانهم في الريف . ومن بدرت منه بادرة الدفاع عن حق مشروع كان له
جزاء خاص !.. فماذا كان يحدث لهم أيها الاخوان وماذا كانوا يذوقون على أيدي سادة
مصر المنحلين في العهود الغابرة " ؟
" أنا أعرف جيدا وأنتم تعرفون
كذلك ان أصحاب الاقطاع الذين يتحكمون فيكم كانوا يخرجون الرجل بعائلته وأولاده
شريدا لا يجد لقمة العيش . هل هذه هي الحرية التي ينادون بها " ؟ .
” لقد قامت الثورة
لتحرير الشعب من الاستعباد و الاحتكار وقد حققنا الحرية للمواطنين جميعا “ .
هكذا قال
عبد الناصر، فهل كانت الثورة قد حققت الحرية للمواطنين جميعا بعد عشرين شهراً من
قيامها ؟؟ ..
3 ـ خطان في الحركة الوطنية :
بريد
الامبراطورية :
عام 1919 ...
” زفتي ” مدينة صغيرة في وسط الدلتا . يتكون شعبها من الفلاحين . ويحكمها
مأمور المركز تسانده قوة محدودة من رجال الشرطة وبعض الموظفين الاداريين و من
بينهم مسئول مكتب البريد . وكما قد نصادف بعض الزهور البرية في الارض القاحلة ،
كان يمكن ان نصادف زهورا مصرية من أبناء الفلاحين كان من حظهم ان يعبروا بجامعة
القاهرة ويتخرجوا فيها . كان من بينهم يوسف أحمد الجندي. محام لم يبلغ الثلاثين ..
في زفتي .
ثم انفجرت ثورة 1919 الوطنية . ودخل الشعب كله في المدن والقرى
معاركها الشرسة ضد قوات الاحتلال . ولما لم تكن ثمة قيادة مركزية للنشاط الثوري
فقد أفرزت كل مدينة وكل قرية قياداتها ونظمت قواها ووضعت خططها وخاضت معاركها و
قدمت ضحاياها… تحت الشعار الموحد ” الاستقلال التام او الموت الزؤام ” … شعار ثورة
1919.
ولقد استطاعت القوات الانجليزية ان تسيطر على الموقف بسرعة نسبية في
الريف مستفيدة بعزلة القرى وغياب القيادة المركزية . وأخمدت بقسوة ووحشية ثورة
الفلاحين . قتلت الآلاف وحرقت مئات القرى . وسلبت المحاصيل والماشية . وهتكت
الاعراض .. كانت مذابح جماعية تعرض لها الفلاحون على اثر معارك غير متكافئة
استعملت فيها قوة الاحتلال كل ما تملك من جيوش وعتاد حى الطائرات .
ولما كانت زفتي تقع عند مفترق طرق برية و نهرية وحديدية فقد بادر
الانجليز الى مهاجمتها بقوة كثيفة. وصمدت زفتي . فلما حوصرت أعلنت استقلالها باسم
” امبراطورية زفتي ” . هو اسم ينبىء تركيبه المرح عن أرفع مستويات التحدي للواقع .
وتكونت حكومتها المستقلة تحت رئاسة يوسف الجندي من أعضاء ظاهرين وأعضاء مستترين .
يهمنا الاعضاء المستترون . انهم ممثلو السلطة المركزية الانجليزية ذاتها . المأمور
الذي كان يتبع قيادته الانجليزية . ومعاون المالية الذي كان يتبع وكيل الوزارة
الانجليزي . ومسئول مكتب البريد الذي كان يتبع مديرها الانجليزي .
وكانت القوات المسلحة في زفتي تتكون من الفلاحين أنفسهم . تساندهم ـ
للحق والتاريخ ـ قوة ” كوماندوز ” من الذين كانوا هاربين من القانون . تحولوا في
أتون الثورة من مجرمين الى ثوار . المهم أن زفتي قد استطاعت أن تصمد للحصار وان
تقاتل ضد محاولات ” فتحها ” مدة تجاوزت صمود الثورة في القاهرة ذاتها …
وفي كل دولة ، حتى ولو كانت ” امبراطورية زفتي ” الثائرة يوجد
الخونة والعملاء . وقد كان فيها نفر قليل يكتبون ” رسائل الخيانة الى
الحكومة ويفشون أسرار الثورة . غير ان في كل دولة ثائرة ومنها ” زفتي ” رقابة على
الرسائل . فكان موظف البريد ” يراقب ” الرسائل التي تسلم اليه ويحجز منها ما
يضر ” بأمن الثورة ” . وهكذا تجمعت لديه أسماء الخائنين وهم لا يعلمون
.. فلما ان أطبقت القوات الانجليزية على زفتي ، وغادرتها القيادة خفية الى مقر الثورة
في القاهرة ، لم يبق الا الفلاحون والمأمور وموظفو الحكومة . وأقسم الفلاحون ـ كل
الفلاحين رجالا ونساء ـ أغلظ الايمان انهم لا يعرفون ما حدث ولا كيف حدث ولا من
أحدثه .. فلم تجد سلطة الاحتلال الا ان تطلب من المأمور ومعاونيه ان يقدموا اليها ـ
فورا ـ المسئولين عن ثورة زفتي والا كانوا هم مسئولين . اذ لا يعقل ان تقوم ثورة
في مدينة هم حكامها وممثلو السلطة فيها ثم لا يعرفون منظميها وقادتها . الا
اذا كانوا متواطئين !! وقدم المأمور قائمة المسئولين عن الثورة فلاقوا
جزاءهم فورا .
نفس قائمة الخونة الذين كان موظف البريد قد رصد اسماءهم .
وليست زفتي الا مثلا ..
حتى لا نخطيء
:
كان ذلك هو شعبنا العربي في مصر وكانت تلك هي روحه ومقدرته الثورية
على التحدي والتنظيم والقتال والصمود بدون أن يفقد ذرة من ” مرحه ” الشهير . ولكن
ذلك قد كان عام 1919 إبان الثورة الوطنية. فهل كانت هذه الروح الثورية قد انطفأت ،
فانتهت الحركة الوطنية بعد الثورة ببضع سنين .
يبدو فعلاً من حديثنا أن الحركة الوطنية في مصر قد انتهت بعد ثورة
1919. ثم انبثقت مرة أخرى كمعجزة من فراغ عام 1952. كأن جمال عبد الناصر بطل
أسطوري خرافي جاء إلى مصر من خارجها ليشعل الثورة في جثة شعب ميت .
لا . أبداً . أن هذا خطأ جسيم في فهم التاريخ عامة وتاريخ مصر خاصة ،
وتاريخ عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية بالذات . ثم أنه خطأ في فهم ما قلنا
من قبل . لقد أردنا فقط أن نقول في حديث عن مشكلة الديموقراطية ، ان شعبنا
العربي في مصر الذي كان يموج ثورة 1919 واستطاع في عام 1924 أن يصل بقيادته الى
الحكم ثم استطاع عام 1926 أن يفرضها مرة أخرى ضد إرادة الاحتلال والملك والحكومة
معاً ، قد تآمرت ضده الأحزاب التي كونها قادة ثورة 1919 أنفسهم فعزلوه عن شئون
السياسة بعد أن تحولوا من ثوار إلى ساسة ، وأخضعوه للسلطة بعد أن أصبحوا شركاء
للمحتلين والملك في السلطة ، وما زالوا به يقهرونه باسم الوطنية بعد أن كانوا
يحرضونه على الثورة باسم الوطنية ، ويستولون من دونه على خيرات الوطن بعد أن
قادوه إلى التضحية في سبيل الوطن .. حى اقنعوه فاقتنع، أو حتى يئس فأقتنع ، أو حتى
تعلم فاقتنع ، أن مشكلة الديموقراطية كما كانت مطروحة في ذلك الوقت ليست مشكلته.
فلم يرفع اصبعا واحداً لحلها .
الى من تنتمي إذن ، ثورة 1952، ومن أين جاء جمال عبد الناصر ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي أن نلقي نظرة سريعة وعامة على الحركة
الوطنية في مصر وهو أمر مؤسف . أعني انه من المؤسف ألا نستطيع ـ في سياق هذا
الحديث ـ الا الاكتفاء بنظرة سريعة وعامة… ذلك لأننا نستطيع أن نقطع بأن أغلب من كتبوا عن
ثورة 23 يوليو 1952 أو قالوا عنها شيئاً ، لم يحددوا موقعها من الحركة الوطنية في
مصر تحديداً صحيحاً . ربما لأن أحداً لم يهتم بتحديد ذلك الموقع .
ننتهز نحن فرصة هذا الحديث لنلقي نظرة سريعة وعامة لعلها تكون كافية
لمعرفة الانتماء السياسي لثورة 1952 وقائدها جمال عبد الناصر .. وستفيدنا هذه
النظرة إلى حد بعيد في فهم الصراع المرير الذي خاضته الثورة و قاثدها ، فور قيامها
، ضد فصائل أخرى من قوى الحركة الوطنية حول ” مشكلة الديموقراطية ” والأثر السلبي
الذي تركه ذلك الصراع على امكانيات حلها .
في البدء
كانت الوحدة :
باختصار شديد…
من المفارقات التاريخية الملفتة أن الحركة الوطنية في مصر قد بدأت من
خلال الكفاح من أجل الديموقراطية وليس من أجل التحرر الوطني . ذلك لأنها بدأت قبل
الاحتلال الانجليزي بثلاثة أعوام تقريباً . واتخذت شكل تنظيم سري أسماه أعضاؤه ”
الحزب الوطني ” وجعلوا مركزه في مدينة حلوان خارج القاهرة .. كان من مؤسسيه الضباط
أحمد عرابي و عبد العال حلمي وعلي فهمي أبطال الثورة العسكرية ضد الخديوي فيما بعد
.. وقد بدأ نشاطه داخلياً يوم 4 نوفمبر 1879 إذ أصدر بياناً سياسياً طبع منه عشرين
ألف نسخة ووزعها . وامتد نشاطه خارج مصر فاوفد أديب إسحاق إلى باريس حيث أصدر أولى
الصحف الوطنية باسم ” القاهرة ” . تطبع في باريس وتوزع في مصر …
في أول يناير 1882 نشرت جريدة التايمز الإنجليزية برنامج الحزب
. وجاء فيه :
” يخضع الحزب للجناب الخديوي الحالي . وهو يصمم على تأييد سلطته ما دامت
أحكامه جارية وفقا للعدل والقوانين حسب ما وعد به المصريين في شهر سبتمبر سنة
1881. وقد قرن رجاله هذا الخضوع بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام
الظالمة التي أورثت مصر الذل ، وبالإلحاح على الحضرة الخديوية بتنفيذ ما وعدت به
من الحكم النيابي واطلاق عنان الحرية للمصريين ، ويعدونه بمساعدته قلباً و قالباً
، كما أنهم يحذرونه من الاصغاء إلى الذين يحسنون إليه الاستبداد والاجحاف بحقوق
الأمة أونكث المواعيد التي وعد بإنجازها ” .
يشير البر نامج إلى وعد أصدره الخديوي في سبتمبر 1881.
فما هي حكايته ؟
في عصر يوم الجمعة 9 سبتمبر 1881 حاصرت القوات المسلحة ، بقيادة أحمد
عرابى ، قصر عابدين لتعرض على الخديوي ” طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان
مستقبلها ” يقول المؤرخون .
” كان أول من حضر إلى الميدان آلاي
الفرسان بقيادة أحمد بك عبد الغفار ، ثم جاء عرابى ممتطياً جواده ، شاهراً سيفه
يقود آلأي العباسية ويصحبه آلاي المدفعية يقوده اسماعيل بك صبري ولما وصل عرابي
تفقد على بك فهمي فلم يجده ، وأخبره بعض الضباط أنه وزع آلاي الحرس داخل السراي ..
فبعث إليه من فوره بالملازم محمد أفندي علي ليستدعيه ، فحضر علي بك فهمي ، فسأله
عرابي عن سبب جعله العسكر على أبواب السراي ومنافذها و لم يكن هذا اتفاقهم من قبل
، فطمأنه علي بك فهمي وقال له : ان السياسة خداع ، أي أنه لم يفعل هذا إلا لمخادعة
الخديوي ، وأنه باق على عهده ، فطلب إليه عرابي أن يسحب الآلاي من السراي ويأخذ
مكانه في الميدان ففعل .. وجاء بعد ذلك الآلاي الثاني من قصر النيل يقوده بعض
ضباطه وهم أحمد أفندي صادق اليوزباشي ، وأحمد أفندي عبد السلام ورسول أفندي
اليوزباشي ، وذلك لامتناع قائد الأمير الاي محمد بك شوقي ، والبكباشية عن الاشتراك
في الحركة، ثم جاء الآلاى الثالث قادماً من القلعة بقيادة البكباشي فودة أفندي حسن
، والآلاي السوداني قادماً من طرة بقيادة عبد العال بك حلمى ثم أورطة المستحفظين
(الشرطة العسكرية) يقودها القائمقام إبراهيم بك فوزي وبذلك اكتمل الجيش في ميدان
عابدين “ .
” فلما جاء الخديوي ” في هذه المواجهة فإنه صاح بالضباط الذين جاؤا خلف
عرابي :
” أن أغمدوا سيوفكم وعودوا إلى بلوكاتكم (ثكناتكم) فلم يفعلوا ، وظلوا
وقوفاً في أماكنهم، وكانوا كحرس خاص لعرابي، فلم يغادروه حتى انتهى الحوار بينهما :
الخديوي : ما هي اسباب حضورك بالجيش إلى هنا ؟
عرابي : جئنا يا مولاي لنعرض عليك طلبات الجيش و الأمة وكلها طلبات
عادلة .
الخديوي : وما هي هذه الطلبات ؟
عرابي : هي عزل رياض باشا، وتشكيل مجلس النواب وإبلاغ عدد الجيش إلى
العدد المعين في الفرمانات السلطانية .
الخديوي : كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها وأنا خديوي البلد وأعمل زي
ما أنا عاوز .
عرابى : و نحن لسنا عبيداً ولا نورث بعد اليوم .
وانتهى الحوار.. وخضع الخديوي للثورة .. إلى حين .
بالمناسبة، ينسب المؤرخون الثورة التي قادها أحمد عرابي إلى قائدها
فيسمونها ” الثورة العرابية ” مجارين في ذلك المؤرخين الأوروبيين .. و لكنها ـ في
أيامها ـ كانت تسمي ” ثورة العرب ” أو ثورة ” أولاد العرب ” ضد سيطرة العناصر
الشعوبية من أتراك وشركس .. ولقد كان أحمد عرابى حريصاً على تأكيد انتمائه للعرب
وأنه من نسل قبيلة عربية وفدت من العراق .. فلعل هذه الملحوظة العابرة أن تفيد
المشغولين بالسؤال والتساؤل عن عروبة مصر.
وبعد ،
فلست أعتذر عن استرجاع صورة تاريخية بكل تفاصيلها وبأسماء قادتها . لا
لأنها تذكرنا بصورة قريبة الشبه لقواتنا المسلحة وهي تحاصر قصر عابدين صباح يوم 23
يوليو 1952، ولا لأنني أكاد أسمع صوت عرابي ابن الفلاحين وهو يقول : ” لسنا عبيداً
ولن نورث بعد اليوم ” في صوت عبد الناصر ابن الفلاحين وهو يقول : ” ارفع رأسك يا
أخي فقد مضى عهد الاستعباد ” ، ولكن لأنني أشعر بنشوة سعادة عارمة ، يؤججها الوفاء
، حين استعيد أسماء أبطال مصر الذين لم يعد أحد يذكر حتى أسمائهم …
لقد كانوا حريصين على أن يثبتوا في ذاكرتنا أسماء الذين انهزموا
واستسلموا ، أما الأبطال الذين قاتلوا واستشهدوا فلا يذكرهم أحد .. ومن الذي يذكر
الآن أحد أبطال ثورة ” أولاد العرب ” اليوزباشي (النقيب) حسن أفندي رضوان الذي قاد
ثلاثة الآف مصري ضد أحد عشر ألفاً من المشاة و 2000 من الفرسان وستين مدفعاً
يقودهم الجنرال ولسلي في معركة التل الكبير، فلما أبيدت القوة المصرية وأسر قائدها
الشاب جريحاً تقدم إليه الجنرال الإنجليزي وقدم إليه سيفه تقديراً لبسالة ضابط
وطني لم يسلم ولم يستسلم ولم ينسحب إلى أن أبيدت قواته وسقط جريحاً ..
على أي حال ،
فإن الحركة الوطنية التي بدأت موحدة من أجل الديموقراطية لم تلبث أن
أضافت إلى أهدافها مقاومة الإحتلال الإنجليزي الذي بدأ في الساعة السابعة من صباح
يوم الثلاثاء 11 يوليو 1882. وما أن بدأ القتال حتى انحاز الخديوي وبطانته إلى
المحتلين ولجأ إلى الإسكندرية ليكون في حماية أسطولهم . والتحم الجيش بالشعب في
معارك متتابعة اشترك فيها شعبنا العربى في مصر رجالاً ونساء وأطفالاً بكل ما
يملكون من قوة وعتاد وأموال .. ثم انهزمت الثورة واحتل الإنجليز مصر… فتغيرت طبيعة
وقوى ومهمات وخطط الحركة الوطنية ..
بين الثورة
والإصلاح :
ابتداء من الاحتلال ، وبعد استبعاد الخونة والعملاء وصنائع المحتلين،
انقسمت الحركة الوطنية فى مصر الى اتجاهين . سار كل منهما على خط متميز. ولم يكن
يفرق بينهما الرغبة في الاستقلال ، بل أسلوب تحقيق الاستقلال . أحدهما الخط الثورى
الذي يرفض الاحتلال وينكر شرعيته ولا يتعامل معه ، ولا يتولى الحكم في ظله ، ولا
يفاوضه ، ويلتمس إلى مقاومته كل سبيل ، علني أو سري ، محلي أو دولي، سلمي أو عنيف ..
والخط الثاني يقبل الاحتلال كأمر واقع ، ويتعامل معه ويلتمس إلى إنهائه التدرج
الإصلاحي في التعليم والتربية والتقدم الإقتصادي ، ثم التفاوض مع المحتلين أنفسهم
بقصد إقناعهم أن شعب مصر قد بلغ من التمدين ـ على الطريقة الأوروبية ـ ما يجعله
مستحقاً للاستقلال مؤهلاً لحماية نفسه .
الخط الأول : كان
مشغولاً ، بالدرجة الأولى ، بالتعبئة الشعبية لمقاومة المحتلين .
الخط الثاني : كان
مشغولاً ، بالدرجة الأولى ، بالتربية الشعبية في ظل الاحتلال .
ولقد تجسد كل من الخطين ، بعد الاحتلال ، في قوى منظمة (أحزاب) .
أما عن الخط الأول ، الثوري ، فقد عرفنا أنه بدأ قبل الاحتلال في شكل
منظمة سرية تحت إسم ” الحزب الوطني ” فلما ان انهزمت الثورة اختفى الحزب الوطني
كمنظمة . وبعد الاحتلال بعشر سنوات ، وعلى وجه التحديد، في عام 1893 دعا لطيف سليم
، أحد ضباط الثورة العرابية بعضاً من رفاقه القدامى وبعضاً من شباب الجيل الجديد،
حينئذ، إلى منزله في حلوان ، حيث تشكل الحزب الوطني لأول مرة عام 1879 وأعيد تشكيل
المنظمة السرية وباسم ” الحزب الوطني ” أيضاً . وكان ألمع المؤسسين هو
الزعيم الوطني مصطفى كامل فاختير زعيماً للحزب وكان سنه 20 عاماً وكان شعار الحزب
” لا مفاوضة إلا بعد الجلاء ”
.
ولقد استطاع الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل أن يوقظ الشعب ويعبئه ضد
الاحتلال وأن يصدر ثلاث صحف يومية ، بالعربية ( اللواء عام 1900 وبالإنجليزية (ذي
اجيبشيان ستاندرد عام 1907) وبالفرنسية (ليندرا اجيبشيان عام 1907) ، قبل أن يصبح
حزباً علنياً ذلك لأنه لم يؤسس علنياً إلا عام 1907، وكان ذلك لمواجهة الخط الوطني
الإصلاحي .
كانت في مصر شركة تجارية مساهمة تصدر صحيفة بإسم الجريدة تأسست في
أغسطس 1906 من ” الأثرياء وذوي المراكز العليا في البلاد ” كما قال مؤسسوها
. وفي 20 سبتمبر 1907 قررت الجمعية العمومية للشركة تحويل الشركة إلى حزب
بإسم ” حزب الأمة ” . جاء في برنامجه :
(1) تأييداً
لسلطة الخديوية فيما تضمنتها الفرامانات من استقلال مصر الإداري .
(2) الاعتماد
على الوعود والتصريحات التي أعلنتها بريطانيا العظمى عند احتلال القطر
المصري ومطالبتها بتحقيقها والوفاء بها .
(3) المطالبة
بمجلس نيابي مصري يكون تام السلطة فيما يتعلق بالمصريين والمصالح المصرية .
من هذا البرنامج يتضح ما عرف في تاريخ الحركة الوطنية في مصر ” بخط
حزب الأمة ” أو ” مدرسة حزب الأمة “.. تقديم مطلب الدستور والحكم النيابي (
الديموقراطية) على مطلب الإستقلال . حينئذ تخوف الزعيم مصطفى كامل من أن يؤدي
إستمرار غياب الكيان التنظيمي العلني ” للحزب الوطني ” إلى أن ينجح حزب الأمة
والأحزاب الجديدة ذات الكيانات التنظيمية ( كان الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد
قد أعلن نيته في تأليف حزب الإصلاح الذي ينتمي إلى مدرسة حزب الأمة أيضاً ) .. في
استقطاب أنصار الحزب الوطني فأجتمع 1019 واعتذر 846 ، وانعقدت الجمعية التأسيسية
يوم 27 ديسمبر 1907 وأعلن برنامجه :
(1) إستقلال
مصر مع سودانها وملحقاتها استقلالاً تاماً غير مشوب بأية حماية أو وصاية أو سيادة
أجنبية أو أي قيد يقيد هذا الاستقلال .
(2) إيجاد
حكومة دستورية في البلاد حيث تكون السيادة للأمة وتكون الهيئة الحاكمة مسئولة أمام
مجلس نيابى تام السلطة… الخ .
وهكذا تميز الخطان ، الثوري والإصلاحي ، في تنظيمين لم يلبثا أن أصبحا
مدرستين أو تيارين قاد الأول مصطفى كامل ثم من بعده محمد فريد ثم من بعده انتمى
الى مدرسته من المعاصرين لثورة 23 يوليو 1952 ، الحزب الوطني ، الحزب الوطني
الجديد ، الحزب الاشتراكي ، وإلى حد كبير جماعة الاخوان المسلمين التي كانت تشارك
في الاحتفال بذكرى مؤسسي المدرسة الوطنية وتتخذ منهم نماذج تقتدى في تربيتها
السياسية لكوادرها .
والخط الثاني انتمت إليه أعداد كثيفة من الأحزاب ، حزب الإصلاح على
المباديء الدستورية (عام 1907) ، حزب النبلاء (1908) الحزب المصري (1908) حزب
الأحرار ( 1907 ) الحزب الدستوري (1910) حزب الوفد (23 نوفبر 1918) ، حزب الأحرار
الدستوريين (1922) الهيئة السعدية (1938) الكتلة الوفدية (1942) .
وبالرغم من تعدد الأحزاب والفصائل المنتمية إلى كل خط من خطوط الحركة
الوطنية، ظل الفارق بينهما واضحاً ، حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، حول أسلوب التحرر
من الاستعمار وما يتبعه من تقرير الأولوية بين هدف الاستقلال .. وهدف
الديموقراطية ..
ولقد ضرب المحتلون ” الخط الوطني ” ضربة قاسية على إثر قيام الحرب
الأوروبية الأولى 1914، وفرض الحماية على مصر، فنفيت بعض قياداته وهرب بعضهم إلى
أوروبا وسجن الباقون إلى أن انتهت الحرب .. وكان زعم الحزب الوطني هارباً من حكم
صادر ضده بالحبس .. ومقيماً في أوروبا فأوصى رجال الحزب الباقين في مصر بالانضمام
إلى الوفد فانضموا وكان من بينهم ” مصطفى النحاس ” الذي سيصبح فيما بعد رئيسآ
للوفد وخليفة لسعد ، ويثبت في مواقف عدة انه خريج مدرسة الحزب الوطني … ولما أصبح
زعماء حزب الأمة حكاماً ، وتوفي زعيم المدرسة الوطنية محمد فريد في ألمانيا شريداً
فقيراً ، لم يهتموا حتى بإحضار جثمانه فأحضره أحد تجار طنطا على حسابه ..
وفي 23 يوليو 1952 قامت الثورة بقيادة عبد الناصر. والسؤال الآن هو :
إلى أي الخطين كان ينتمي جمال عبد الناصر قائد الثورة ..؟؟
إن أغلب الذين أرخوا لثورة 23 يوليو 1952 وقائدها ، خدعوا في الترتيب
الزمني فاعتبروا أن ثورة 23 يوليو 1952، إذ جاءت بعد قيادة حزب الوفد للحركة
الوطنية ، تكون خليفة في خطه لتكمل مسيرته .. وهو خطأ فظيع حال دون هؤلاء المؤرخين
وبين تفسير أو فهم موقف الثورة بعد نجاحها من الوفد ومدرسته حول قضية ”
الديموقراطية “ ..
نحن نقطع بيقين . أن ثورة 23 يوليو 1952، تنتمي إلى الخط الوطني
الثوري وان عبد الناصر كان القائد الرابع لهذا الخط بعد عرابي ـ مصطفى كامل ـ محمد
فريد . ولنا على هذا خمسة أدلة قاطعة :
أولاً : ان
التنظيم الثوري السري ، الذي كان موجوداً ونشيطاً منذ 1907 كامتداد ـ تحت الأرض ـ
للحزب الوطني العلني هو الذي بدأ تشكيل الضباط الأحرار . ان هذه قصة طويلة وممتدة
من تاريخ الحركة الوطنية في مصر وتاريخ ثورة 23 يوليو .. قد نكتبها في يوم من
الأيام .. بعد أن يستنفد كل الراغبين في نسبة حركة الضباط الأحرار إليهم أشواقهم
إلى القفز في مركبة التاريخ . يكفي الآن أن أقول ان مؤسس تنظيم الضباط الأحرار هو
” عبد العزيز علي ” (أطال الله بقاءه) الذي كان يقود التنظيم الثوري السري في
الحركة الوطنية . وان أول ضابط حمل هذا الإسم وأقسم اليمين أمام عبد العزيز على هو
” وجيه أباظة ” من سلاح الطيران .. وانه بانضمام جمال عبد الناصر إلى التنظيم أدرك
عبد العزيز علي ، الذي كان عبد الناصر يعتبره بمثابة والده الروحي ، ان تنظيم
الضباط الأحرار قد وجد قيادته القادرة . فاكتفى بأن يكون أبا روحياً ومستشاراً
للضباط الأحرار ولعبد الناصر..
ان الذين لا يعرفون أسرار الحركة الوطنية ، ولا أسرار الضباط الأحرار،
قد أصابتهم دهشة بالغة حين رأوا عبد الناصريختار موظفاً صغيراً في القسم المالي
بمحافظة القاهرة ليكون وزيراً في أول وزارة للثورة . رجل لعب أخطر الأدوار في
النضال الثوري في مصر ابتداء من 1910، أراد أحد تلاميذه أن يكرمه فأظهره من
” تحت الأرض ” وأولاه الوزارة . كان ذلك هو وزير الشئون البلدية في وزارة عبد
الناصر الأولى : عبد العزيزعلي .
ثانياً : بعد
أن ألغى رئيس الوفد مصطفى النحاس ( خريج مدرسة الحزب الوطني ) معاهدة 1936 يوم
الإثنين 8 أكتوبر 1951 وبدأ الكفاح الشعبي المسلح ضد الاحتلال في منطقة ومحافظة
الشرقية ، تألفت، وتحت مظلة المد الشعبي الذي اندفعت إلى المشاركة فيه كل القوى
الحزبية ، قوة مقاتلة مشتركة من كوادر الحزب الوطني والضباط الأحرار.. قدم الحزب
المتطوعين وتولى الضباط الأحرار التدريب في داخل معسكرات الجيش نفسه. وتحمل الحزب
( شباب الحزب من وراء ظهر شيوخه) مسئولية القيادة السياسية وتولى الضباط الأحرار
مسئولية القيادة العسكرية . وكان القائد العسكري هو ـ مرة أخرى ـ وجيه أباظة ..
أما القائد السياسي فلا مبرر لذكر اسمه .. وكان حلقة الاتصال هو الضابط عبد المجيد
فريد الذي أصبح فيما بعد سكرتيراً لرئاسة الجمهورية طوال عهد عبد الناصر .. وقد
انتهت الحركة بحريق القاهرة يوم السبت 26 يناير 1952.. وكانت كتيبة ” مصطفى كامل ”
آخر من غادر قطاع نشاطها ( في محافظة الشرقية) يوم 30 يناير 1952…
ثالثاً :
لهذا لم يكن غريباً أبداً ، وإن كان قد استغربه وما زال يستغربه الكثيرون من أصحاب
” المذكرات الشخصية ” أن أول وزارة ألفتها الثورة بعد انتصارها عام 1952 كانت
مناصفة تقريباً بين الضباط الأحرار والحزب الوطني . خمسه من الضباط الأحرار على
رأسهم جمال عبد الناصر وخمسة من رجال الحزب الوطني على رأسهم سليمان حافظ .. ليس
غريباً لأن وراءه تجربة مشتركة وانتماء موحداً إلى مدرسة وطنية أو خط وطني واحد ..
رابعاً :
وهو - في رأينا - دليل على أكبر قدر من الأهمية : الاتجاه الشعبي . لقد كانت مدرسة
الحزب الوطني ترفض الاحتلال ، ولا تقبل المشاركة في الحكم في ظله وترفض التفاوض
معه، كما عرفنا، فلم يكن لها مصدر قوة من السلطة أو التشريع . فاتجهت من البداية
إلى الشعب تطرح عليه أفكارها وتستمد منه قوتها .. ولقد استطاع مصطفى كامل في حياته
أن يستقطب إلى الخط الوطني الأغلبية الساحقة من الشعب . ثم من بعده جاء محمد فريد
(1908) فاتجه بعد التعبئة إلى التنظيم . الجامعة المصرية مشروع من مشروعاته ، نادي
المدرسة العليا (مقارب لاتحاد الطلاب) مشروع من مشروعاته .
المدارس الليلية فتحها الحزب في كل الأحياء الشعبية وكان قادته يلقون
فيها بجوار دروس محو الأمية .. الدروس السياسية .. ” التعاونيات الزراعية ” انشأها
الحزب للفلاحين .. ثم نقابات العمال ..
يقول أستاذ الاقتصاد الإنجليزي فريزر عن تاريخ الحركة النقابية في
العالم أنه منذ أن وجدت أول نقابة عمالية في التاريخ (في نيوزيلاندة) كان تطور
الحركة النقابية يبدأ من النقابة، ثم باللجان الانتخابية لمساعدة بعض العمال على
الوصول الى البرلمان ، ثم ينتهي إلى حزب سياسي تابع للحركة النقابية ومعبر عنها في
الوقت ذاته .. الا ـ هكذا يقول فريزر ـ استثناء واحد حدث في مصر سبق الحزب فيه
النقابة، إذ أن الحزب الوطني الذي أنشأ نقابات العمال ضمن اهتمامه بالحركة الشعبية
وتنظيمها…
هذا الاهتمام ، أو لنقل الانتباه ، الى القواعد الشعبية من عمال وفلاحين
وطلبة وغيرهم .. الذي كان مميزاً تقليدياً لمدرسة الحزب الوطني ، كبديل عن ممارسة
السلطة التي انتبهت إليها مدرسة حزب الأمة، سنجده ـ بعد غيبة بدأت عام 1914 ـ يبرز
مرة أخرى في موقف ثورة 23 يوليو وانتباه عبد الناصر، فنعرف منه، ربما أكثر من أي
شيء آخر، إلى أي خط وطني تنتمي ثورة 1952 وقائدها .
خامساً وأخيراً : فإن
عبد الناصر نفسه يفصح عن انتمائه حين يقيّم الأحزاب خلال الحوار الذي دار يوم 19
مارس عام 1963 بمناسبة مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا فيقول : ”
كل الأحزاب عندنا كانت أحزاب رجعية وتعاونت مع الاستعمار ما عدا الحزب الوطني ..
ثانياً : الحزب الوطني كانت قواعده قليلة .. أما بقية الأحزاب كلها فإما أحزاب
إقطاعية أو أحزاب رجعية “
.
عودة إلى
المشكلة :
هذا التعليق الأخير الذي قاله عبد الناصر يعود بنا إلى مشكلة
الديموقراطية بعد أن يلقي عليها ضوءاً قوياً . في عام 1952 كان الخط الثوري الوطني
قد أصبحت ” قواعده قليلة ” بعد ضرب ” تنظيمه العلني عام 1914، وبقيادة سعد زغلول (
أحد أركان مدرسة حزب الأمة) ثورة الشعب عام 1919 التي أنهاها هو ” نفسه بعد صدور
الدستور ليتولى الحكم ، ومن مدرسة حزب الأمة خرجت أحزاب كثيرة كلها ” رجعية
وتعاونت مع الاستعمار ” . وضد هذه المدرسة السائدة قام فصيل من فصائل
المدرسة الوطنية الثورية ، تشكل تحت اسم الضباط الأحرار فقاد ثورة 1952، واستولى
على السلطة ، ليعيد الأولويات طبقاً لمنطق مدرسته : التحرر والديموقراطية أو
الديموقراطية في إطار متطلبات التحرر . ثم يعود إلى تقاليد مدرسته التي أرساها
محمد فريد فينتبه إلى أن مشكلة الديموقراطية ، وحل مشكلة الديموقراطية ، كليهما
كامنان في القاعدة الشعبية ..
وسنعرف على ضوء هذا كيف نفسر، ونبرر، ونفهم، وننقد أيضاً ، كثيراً من
المواقف التي اتخذتها ثورة 23 يوليو 1952، وعبد الناصر شخصياً ، من مشكلة الديموقراطية
في مصر. تلك المواقف التي ما كنا لنفهمها لولا معرفتنا ” الخلفية السياسية ” أو ”
الخط السياسي ” الذي تنتمي إليه الثورة وقائدها، والذي ما يزال مجهولاً ، من هواة
” الكتابة ” على جدار المعبد … أو هواة التقدم إلى الخلف …
الأمبراطورية
الأخرى :
ولكنا نعرف من الآن أن مشكلة الديموقراطية كانت ثائرة وحاضرة في ساحة
الصراع السياسي في مصر . واننا إذا كنا قد قلنا ان الشعب بعد عام 1926 خاصة ، قد
تراجع عن النشاط الديموقراطي إلى أن أصبح راكداً ، فلأن الديموقراطية ومشكلاتها
وحلولها قد أصبحت في مصر من صلاحيات الحلف الإقطاعي الرأسمالي ومثقفيه وصحافته
وأبعد الشعب عمداً ، عن ممارسة حقوقه السياسية، وجرد ، عمداً ، من إمكانيات
المقاومة ولعب القهر الاقتصادي الدور الأساسي في الأبعاد والتجريد …
في هذه الحدود لا أحد ينكر المواقف البطولية لحزب الوفد ضد الملك
حفاظاً على الدستور ولا المعارك التي خاضها المثقفون من الطلبة ضد أحزاب الأقلية ،
وكلها مواقف ومعارك من أجل الديموقراطية . ولكن ، كما سألنا من قبل أية ديموقراطية
؟.. انها ديموقراطية السادة في القمة .. وفي غيبة الشعب .
ومع ذلك ، كما يحدث دائماً ، لم تخل معارك السادة من التفاتة إلى
الشعب ، ولا ينكر أحد ما كان يفيده الشعب ، فعلاً ، من فترات حكم الوفد . كما لا
ينكر أحد أن تلك الأحزاب ـ وخاصة الوفد ـ كان قد بدأ ـ قبل عام 1952 ـ يفرز جيلأ
جديداً يحاول أن يشرك الشعب في قضية الديموقراطية باعتباره صاحبها الأصيل …
ومن المؤشرات المبكرة لهذا الذي لا ننكره ، أن يوسف الجندي ، الذي
عرفناه أمبراطوراً لمدينة ” زفتي ” الثائرة يقود قوات الفلاحين ، قد أصبح
نائباً عن مدينته في أول برلمان عام 1924، وعضواً في حزب الوفد الذي يرأسه سعد
زغلول زعيم الحزب ورئيس الحكومة . وقد استهل سعد زغلول وحزبه عهده بمحاولة تعديل
قانون الانتخاب على وجه ينتقص من حق الفلاحين الأميين فانبرى يوسف الجندي يعارض
زعيمه وحزبه وكان من بين ما قاله : ” ان الحكومة تكلف الشخص ـ سواء كان أمياً أو
غير أمي ـ اداء الخدمة العسكرية فيتقلد سلاحه ويدافع عن بلاده مهاجماً ومدافعاً .
فالحكومة تعرض أبناءها قبل بلوغ العشرين سنة لرصاص الأعداء والآن يراد ألا يكون
لهم رأي في شئون بلادهم قبل سن الرابعة والعشرين … الخ (23 يوليو 1924) .
ثائر ديموقراطي .. نعم ، في حزب لاثوري ولا ديموقراطي .. نعم أيضا .
كانت في مصر إذن حركة وطنية ديموقراطية قبل 1952 ولكنها تدور في إطار
مدرسة إصلاحية وتقودها أحزاب الإقطاع والرأسماليين . وضد هذا الإطار وتلك المدرسة
بالذات وضد قياداتها قامت ثورة 1952 تحت قيادة عبد الناصر .
فلم تنبثق الثورة من فراغ ، ولم يكن قائدها معجزة ، بل كانت وكان الرد
الطبيعي على ما كان سائداً قبلها .. وكان انتصار جمال عبد الناصر عام 1952 هو
انتصار عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد وخطهم الثوري بعد سبعين عاماً من الكفاح
الوطني .
حتى لا ننسى :
ثورة 23 يوليو 1952، وعبد الناصر ينتميان إلى الخط الوطني الثوري ،
الذي يتميز أساساً عن الخط الوطني الإصلاحي ، بأنه يعطي مشكلة التحرر أولوية على
مشكلة الديموقراطية وحين يتصدى لحل مشكلة الديموقراطية يعطي الأولوية لجانبها
الشعبي .
لو نسينا هذه المقولة البسيطة لن نفهم شيئاً من الحديث عن ” عبد
الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر “… ذلك لأن مشكلة التحرر الوطني ـ بالذات ـ
كانت ذات أثر بالغ على فهم عبد الناصر ومواقفه من مشكلة الديموقراطية في
مصر، كما أن أولوية الجانب الشعبي كانت ذات أثر بالغ على فهم عبد الناصر ومواقفه
من حل مشكلة الديموقراطية في مصر…
فأرجو ألا ننسى .
4 ـ القيود..
و الحدود ..
من البداية الى النهاية :
خطونا ، حتى
الان ، ثلاث خطوات على الطريق للالتقاء بالرئيس جمال عبد الناصر في مواجهة مشكلة
الديموقراطية في مصر. كانت الخطوة الاولى تعريفا بالزاوية التي ننظر منها الى هذه
المواجهة ، وكانت الخطوة الثانية تعريفا بمشكلة الديموقراطية في مصر قبل ان تواجه
عبد الناصر، وكانت الخطوة الثالثة تعريفاً بعبد الناصر قبل ان يواجه
مشكلة الديموقراطية في مصر… وكانت كلها خطوات محدودة بموضوع الحديث وحدوده .
فكان
المفروض او المتوقع ان تكون الخطوة الحالية خطوة نبتعد بها عن الموضوع لنترك عبد
الناصر ومشكلة الديموقراطية يحكيان لنا قصتهما بدون التدخل منا . ولنتابع جولات
الصراع المرير بين قائد ثورة ومشكلة شعب الذي استمر ثمانية عشر عاماً .
ولكنا قد
تبينا ان ذلك قد بدأ واستمر وانتهى تثقل حركته مجموعة من القيود ، وتتحكم في مداه
مجموعة من الحدود . وهي قيود ورثها عبد الناصر ولكنه لم يستطع أبدا ان يحرر الحركة
الديموقراطية في مصر منها ، وما تزال حتى هذه اللحظة تثقل حركة التطور الديموقراطي
، فهي عنصر ثابت في عهد عبد الناصر ، من عناصر مشكلة الديموقراطية
في مصر . اما عن الحدود فهي معطيات موضوعية نشأت مع ثورة 23 يوليو وتحكمت ، طوال
حياة عبد الناصر، في نظام الممارسة الديموقراطية وأسلوبها . او انها ـ على وجه ـ
قد حددت مضمون مشكلة الديموقراطية في مصر ـ وبالتالي ـ حددت نوعية حلها ، فهي أيضا
عنصر ثابت من عناصر مشكلة الديموقراطية في مصر في عهد عبد الناصر.
فرأينا ،
بدلا ان نشير اليها في كل خطوة نخطوها ، او نعود اليها في كل خطوة لبيان ثقلها وما
تفرضه على الحركة الديموقراطية من حدود لا تستطيع ان تتجاوزها ، ان نخصص لها هذا
الجزء من الحديث ، حى اذا ما بدأنا ـ فيما بعد ـ نراقب من بعد قريب جولات الصراع
المثير بين قائد الثورة ومشكلة الشعب نكون واعين بان الصراع لم يكن ” مصارعة
حرة ” بل كان يدور مثقلا بقيود لم يستطع أن يتحرر منها، في مجال محدود، لم يستطع
ان يتجاوزه . وسنعرف من تطور الصراع ذاته من المسئول عن القيود والحدود…
نبدأ بالقيود :
نحن خديوي مصر :
قلنا من
قبل ان دستور 1923 كانت فيه بعض الاحكاء الاستبدادية ولكنه لم يكن يحول دون الشعب
وممارسته الديوقراطية ، بل لم يكن يحول دون الغاء الاحكام الدستورية التي كانت
تحمي امتيازات الملكية . وانه اذا كنا قد قلنا انه دستور ليبرالي فلا يمكن لاحد ان
يتهم الليبرالية بالتقصير في سرد الحريات ” الطبيعية ” ورصها في الدساتير
لان الليبرالية ضد التدخل في حياة الافراد من حيث المبدأ .
قصرنا
حديثنا على الدستور ولم نتناول القوانين واللوائح والقرارات الاستبدادية لاننا كنا
نريد ان نركز على الاساس في النظام . لنتبين بأكبر قدر من الوضوح انه، بصرف النظر
عن الحكام ونواياهم وقوانينهم، أي حتى لو صدق الدستور الليبرالي فيما وعد من حريات
سياسية فان القهر الاقتصادي سيسلب هذه الحريات اذ يحرم أصحابها من المقدرة الفعلية
على ممارستها .
لم يكن كل
ذلك يعني ان الليبراليين لا يتدخلون عن طريق القوانين لشل حركة الشعب حين يستشعرون
ان الشعب او قطاعا منه قد تحرك، او ممكن ان يتحرك، للمساس بسيادتهم، ابدا . ان
الليبراليين لا يترددون لحظة واحدة في تقنين سيطرتهم الاقتصادية ولو اقتضى الامر
مخالفة مبادئهم الليبرالية. وقد يصل بهم الامر الى الديكتاتورية كما هو الحال في
الفاشية. فليست الفاشية الا ذلك النظام الاستبدادي الذي يقيمه الرأسماليون لحماية
سيطرتهم الاقتصادية بقوة الدولة البوليسية حين يستشعررن ان ذلك هو البديل الوحيد
عن ثورة شعبية متوقعة .
على أي
حال فان سادة مصر قبل عام 1952 لم يتركوا فرصة للمخاطرة بمصالحهم، واتخذوا من
سيطرتهم على الحكم وسيلة للتحوط ضد مخاطر أية حركة شعبية . نختار أمثلة لها بضعة
قوانين ” ارهابية وبربرية “.. ارهابية لأنها موجهة ضد الشعوب وبربرية لأنها مخالفة
لمبادئ التشريع المعترف بها في العالم . ثم اننا قد اخترناها لأنها ، منذ أن بدأ
اصدارها ” خديوي مصر ” ما تزال سارية حتى الان .
الجريمة.. الملحوظة :
في كل
بلاد العالم المتمدين لا يعاقب القانون على النوايا اطلاقاً . ولا يعاقب على
الاعمال التحضيرية لارتكاب الجرائم إذا وقف الامر عند الاعمال التحضيرية أي اذا
عدل صاحب المشروع الاجرامي عن اكماله. هل سمع أحد عن رجل حوكم لأن امرأته دخلت
عليه فوجدته يشحذ سكينا ، قالت مابالك ، قال اني أحضرها لذبح فلان لذات السبب الذي
تعرفينه فقالت له : يا رجل دعه لله فانه المنتقم الجبار، فقال : صدقت والله..
وألقى سكينه ؟.. تلك أعمال تحضيرية لجريمة قتل عمد لا عقاب عليها لأن صاحبها قد
عدل عن مشروعه .
ان
القانون في كل بلاد العالم المتمدين لا يعاقب على الاتفاق والمساعدة او التحريض
على أية جريمة الا اذا ادى هدا الاتفاق أو المساعدة او التحريض الى وقوع الجريمة
فعلا . وهل سمع احد عن محاكمة وسجن أسرة لأن امرأة قالت لزوجها لا بد ان تقتل
فلانا للسبب الذي تعرفه . فجمع أولاده واتفقوا على ان يقتلوه ولما افتقدوا السلاح
قال خالهم اليكم سلاحي وأنجزوا ما وعدتم به امكم فبعثوا بواحد منهم يترصد الذي
أرادوا قتله فقيل لهم انه غادر البلاد… او مات ؟… ذلك تحريض واتفاق ومساعدة على
جريمة قتل عمد لا عقاب عليه لأن الجريمة لم تتم .
هذا في كل
بلاد العالم المتمدين . اذ ما دام الافراد لم يبدأوا فعلا تنفيذ الفعل
الممنوع فان فرض عقوبة لا يكون مقصودا به حماية المجتمع ولكن محاسبتهم على نواياهم
وأقوالهم أي ـ باختصارـ ارهابهم . ولم تزل الشريعة الاسلامية أكثر مدنية من كل
الشرائع فلا عقاب فيها الا على ما وقع من فعل وتركت لما قبل ذلك باب الرجوع عن
الخطأ مفتوحا تشجيعاً على التوبة . حتى الكفر لا عقاب عليه ما دام كامنا في ضمير
صاحبه .. الى ان يلتقي بالمطلع على السرائر. ولقد كان قانون العقوبات في مصر يحترم
هذه المبادئ حى عام 1910.
كان رئيس
مجلس النظار (رئيس الوزراء) في ذلك الوقت واحدا من الذين يحفظ لهم التاريخ
خياناتهم لمصر ( بطرس غالي) . فأراد ان يمد امتياز قناة السويس فوثب عليه بعض
الشباب الوطني وقتله. فاتهمت النيابة تسعة من الشباب. أولهم ( ابراهم الورداني)
بتهمة القتل العمد ، و الباقين بتهمة الاشتراك في الجريمة. وتبين من المحاكمة أن
الشباب جميعاً أعضاء في جمعية وطنية سرية. تجمعهم مبادىء واحدة ولكنهم لم يشاركوا
في مقتل بطرس غالي . فصدر الحكم باعدام القاتل ، ولم يعاقب الآخرون .
فاستصدرت
الحكومة من خديوي مصر القانون رقم 28 لسنة 1910 باضافة المادة 47 مكرر الى قانون العقوبات
لتفرض العقاب على مجرد اتفاق شخصين او أكثر على أي شيئ اذا كان ارتكاب الجنايات او
الجنح من الوسائل التي ” لوحظت ” في الوصول اليه .
” لوحظت ” مبنية للمجهول دون تحديد من الذي ” لاحظ ” ودون
ان يكون المتفقون قد أدخلوها صراحة في اتفاقهم، ودون ان تكون قد أدت فعلا الى
ارتكاب أية جريمة .
كان ذلك
هو اول سيف أصلت على رقاب الناس في مصر لمنع أي نشاط سياسي شعبي حتى لو اقتصر على
ثلاثة ، حى لو توقف عند التفكير معا، حتى لو كانت غايتهم مشروعة ما دام ما فكروا
فيه واتفقوا عليه قد ” لوحظ ” ان الوصول اليه قد يؤدي الى ارتكاب جنحة ( توزيع
منشورات مثلا) ، وحتى لو لم يفعلوا الا مجرد الكلام ، ثم ” يعفى من
العقوبة ” كل من بادر منهم باخبار الحكومة بوجود اتفاق . وبهذه الفقرة بدا التخريب
الاخلاقي وتشجيع الناس على الخيانة والغدر والتجسس على غيرهم مقابل مكافأتهم
باعفائهم من العقوبة . وبها بدأ تدريب الناس على عدم ثقة بعضهم ببعض .
ومنذ عام
1910 كانت هذه المادة هراوة ترهب كل الجماعات والجمعيات والاحزاب والتحركات التي
تفكر مجرد تفكير في مقاومة الاستبداد . وتفسد الضمائر وتعلم الناس الحذر من مجرد
الحوار خوفا من ان يؤدي الحوار الى اتفاق . وتشكك الناس في أقرب الناس اليهم خوفا
من التبليغ عما يتحاورون فيه او يتفقون عليه حتى في جلساتهم العائلية الخاصة .
سبب آخر لتحديد النسل :
هذا قانون
آخر أصدره خديوي مصر في 18 اكتوبر 1914 برقم 10 وما يزال ساريا حى الان . وهو يسد
ثغرة في قانون 1910 . اذ ماذا يحدث لو ان بعض المصريين قد اجتمعوا لمراقبة
حدث او بمناسبة حدث اجتماعا تلقائيا بدون اتفاق سابق او لاحق وبدون ان يكون
وراءهم او امامهم من نظمهم او ينظمهم؟ وماذا يحدث لو ان معتوها او مجنونا أو صبيا
صغيرا قد ارتكب في هذا الاجتماع او التجمع جريمة ما؟.. يقول القانون
انه اذا زاد عدد المجتمعين عن خمسة فهو” تجمهر” ويفرض العقاب على المتجمهرين
اذا أمرهم رجال السلطة بالتفرق فلم يفعلوا ، او اذا كان غرضهم ” التأثير ”
على السلطة في أعمالها. اما اذا وقعت جريمة بقصد تنفيذ الغرض من التجمهر فان جميع
الذين حضروا التجمهر يعتبرون مسئولين عن الجريمة حتى لو لم يعرف فاعلها او
ثبت ان الاخرين لا يعرفونه، حتى لو كانوا يعرفونه ولكنهم لم يتوقعوا الجريمة
ولم يوافقوا عليها .
وهكذا كان
على الناس منذ الخديوي ان يحذروا ان يزيد عدد المجتمعين منهم على خمسة حتى لا
يكونوا تجمهرا.. فان وافاهم مصادقة صديق سادس فعليهم ان ينفضوا . وكان على
العقلاء او الحريصين منهم على سلامتهم أن يسارعوا بالاختفاء في أقرب مكان اذا
لاحظوا- ولو على بعد- لفيفا من المتجمهرين يقفءلى طريقهم . وكان عليهم ان يدخلوا
السجن اذا عنّ لواحد او مدسوس في تجمهر ان يرتكب جنحة ( توزيع منشور مثلا) فانهم
جميعا سيكونون مسئولين عنه، من رأى مثل من لم ير.
ولما كان
” الخمسة ” اقل من متوسط عدد افراد الاسرة في مصر، وكان من عادة الاسر في مصر أن
يخرجوا معا في ليالي الصيف لينعموا بالاجتماع على ضفاف النيل ، فقد يكون على الاسر
المصرية ان تحدد نسلها فلا تتجاوز الاسرة خمسة والا كان من حق أي شرطي ان يعتبرهم
تجمهرا ويأمرهم ان ينفضوا..
ضيوف بحكم القانون :
وماذا
يحدث لو ان بعض المصريين قد رأوا الا يتركوا الامر للمصادفات فأرادوا ان يجتمعوا
اجتماعا منظما. هذا من حقهم . ذلك لان القانون رقم 14 لسنة 1923 (30 مايو 1923 )
يقول في مادته الاولى : ” الاجتماعات العامة حرة على الوجه المقرر في القانون “.
أما الوجه المقرر في القانون فهو :
بالنسبة
الى الاجتماعات العامة فانها تعتبر ” عامة ” اذا كانت في مكان عام او محل عام او ”
خاص ” يدخله او يستطيع ان يدخله أشخاص ليس بايديهم دعوات شخصية فردية . او ـ وهذا
هو بيت القصيد ـ اذا رأى المحافظ او المدير او سلطة البوليس ، بسبب ” موضوعه ” او
عدد الدعوات او طريقة توزيعها او ” بسبب أي ظرف آخر ” انه اجتماع عام
. اي ان مناط اعتبار الاجتماع عاما او خاصا هو في النهاية ما تراه السلطة حتى ولو
كان اجتماعا بين أصدقاء في شقة مغلقة ما دام موضوعه عاما (سياسيا بالدرجة الاولى) .
مثل هذا
الاجتماع الحر ” يتعين إخطار السلطة به قبل موعده بثلاثة أيام وان يشمل الاخطار
موضوعه والغرض منه وان تشكل لجنة مسئولة عنه وان يوقع الاخطار خمسة من المواطنين ”
المعروفين بحسن السمعة ” ( كذا..) وللشرطة حق حضوره ، واختيار المكان الذي يستقر
فيه رجالها وان تفضه ولو بالقوة ” اذا القيت في الاجتماع خطب او حدث صياح او أنشدت
أناشيد مما يتضمن الدعوة الى الفتنة ” .. ” او ” خرج الاجتماع عن الصفة المعينة له
في الاخطار ” كما للشرطة ان تمنع هذا الاجتماع من البداية اذا رأت ان من شأنه ان
يترتب عليه اضطراب في النظام .. والامر متروك لتقديرها .
قوانين تحت الطلب :
أما
بالنسبة الى المظاهرات .. فانها ـ بالرغم من انها منظمة ـ تخضع لاحكام التجمهر
فيكون كل من يشترك فيها مسئولاً عن كل ما يقع من أي فرد اشترك فيها . ولكن ـ لانها
منظمة ـ فيجب ان يتم اخطار الشرطة عن خط سيرها وللشرطة ان تختار لها خط سير آخر ،
ولها بداهة ان تمنعها من البداية وان تفضها في اي وقت ولو من اجل ” تأمين
المرور في الطرق والميادين ” هكذا يقول القانون .
هذه
القوانين التي تحرم اتفاق الناس ، وتحرضهم على الغدر ، وتمنعهم من التجمهر أو
الاجتماع وتأخذ البريء منهم بذنب المذنب ، وتفرض على الناس مسئولية جماعية بصرف
النظر عن نواياهم أو مواقفهم ، تبدو في غاية السخف الذي يجردها من امكانية التطبيق
الجاد . هو كذلك انها لا تطيق ” عادة ” .. مثلها مثل عشرات الجرائم المستعارة
من قوانين لا تمت الى مجتمعاتنا بصلة ( زحم الطريق العام ـ غسل عربة في الطريق ـ
ترك الحيوانات تركض ـ الاصوات المرتفعة في الليل ـ العويل في الجنازات ـ القاء مياه
في الطريق ـ قطع الخضرة في الحدائق ـ المشاجرات الخفيفة … الخ ) .
ولكنها ما
تزال قائمة وسارية منذ ان أصدرها الخديوي فهي قوانين ” تحت الطلب ” تطبق حين يراد
لها ان تطبق وتتجاهلها السلطة حين ترى تجاهلها . ومحصلة كل هذا عمليا ان الامكانية
الفعلية للاتفاق او الاجتماع او التظاهر متوقفة على ارادة السلطة .. فان وقع ما لا
تريده فان لديها كل ما تحتاج اليه من القوانين الرادعة . ويعلم الناس هذا فيهمهم ـ
قبل أي شيئ آخر ـ ان يعرفوا ما اذا كانت السلطة تريد لهم التجمهر او الاتفاق او
الاجتماع او التظاهر أم لا .
القيد الحديدي :
اذا كانت
تلك قيود واهنة فان ثمة قيدا فرض يوم 25 أغسطس 1939 وما يزال قائما حتى الان . كان
اسمه قانون الاحكام العسكرية يوم ان صدر لاول مرة بمناسبة دخول ” الحلفاء ” الحرب
. ثم أصبح اسمه قانون الطوارئ حتى عام 1972 فادخلت عليه تعديلات ضمن قانون ” حماية
حريات المواطنين“ …
ولقد سبق
أن أشرنا الى السلطات التي تمنحها حالة الطوارئ للحكومة . يكفي ان نجمل القول هنا
فنقول انه في ظل قانون الطوارئ منذ 1939 تصبح للحكومة سلطة مطلقة لا حدود لها من
دستور او قانون ولا مجال فيها لأي نوع من الحريات السياسية او المدنية. ولا رقابة عليها
من أية هيئة قضائية .
رؤوس الذئاب الطائرة :
كانت تلك
هي القيود الحديدية والواهنة . ولقد بلغ من قسوة الاولى وسخافة الثانية انها لم
تستعمل الا قليلا ، وحين تريد السلطة . ولكن حياتها الطويلة منذ أوائل هذا القرن
حولها الى قيود وحدود للحياة العادية للبشر. وأدت تلك المعايشة الطويلة الى آثار
لا يستطيع ان يتجاهلها الا الواهمون . وان آثارها لأكثر خطورة ، بالنسبة لمشكلة
الديموقراطية ، من عقوباتها . هذه الاثار هي تدريب الناس على معايشتها وتحولها ،
وهي صامتة في نصوص القوانين ، الى ضوابط لافكار الناس وسلوكهم . استطاعت تلك
القيود الى حد كبير ان تعود الناس ” ضيق ” الحركة حتى بدون ان تكبل أرجلهم . ولم
يعتادوا ذلك بدون مبرر، بل ان رؤوس الذئاب الطائرة كثيرة علمتهم ـ منذ الخديوي
عباس الثاني ـ الا يراهنوا بسلامتهم على قانون نائم مادام القانون يستطيع ان
يجد في أي لحظة، من يوقظه .
والحدود :
أما
الحدود فقد ولدت مع ثورة 23 يوليو عام 1952.
لقد قامت
الثورة ومصر محتلة عسكريا منذ سبعين عاما. وجاءت هي ذاتها حلقة من حلقات النضال
الوطني من أجل انهاء ، الاحتلال الانجليزي . وكان اول أهدافها المعلنة : ” القضاء
على الاستعمار وأعوانه “.. وكان عبد الناصر القائد الرابع للخط الثوري التحرري
الذي بدأ بأحمد عرابي ثم مصطفى كامل ثم محمد فريد…
ولقد أصرت
الثورة على هدف التحرر الوطني منذ مولدها وفي كل مراحلها ولم تنخدع ـ كغيرها ـ حين
غير الاستعمار شكله فتحول من الاحتلال العسكري الى التبعية . وتعرضت الثورة في
سبيل التحرر الوطني لكل أنواع الاعتداء الخارجي والتآمر الداخلي . وخاضت معاركه
على ساحته داخل مصر وخارجها. والتحمت بأعدائها في كل أرض وبكل وسيلة
وعلى كافة المستويات . وانتصرت مرارا وانهزمت مرارا. ولكنها لم تتخاذل . ولم تساوم
ولم تستسلم أبدا حتى خسرت كل شيئ تقريبا الا ارادة التحرر كما حدث عام 1967. وكان
قائدها ، جمال عبد الناصر رمزا مصريا ، ثم عربيا ، ثم دوليا لابطال معارك التحرر الوطني الذين لا يستسلمون
، ومن هنا ـ بالدرجة الاولى ـ استحق مكانته العالية بين أبطال التاريخ .
ولقد دفع
الشعب المصري في مصر وخارج مصر ثمن النضال التحرري تحت قيادة جمال عبد الناصر..
ولقد كان الثمن في بعض الاوقات فادحا . ولعل من أفدح الاثمان التي دفعتها مصر
مقابل تحررها، والحفاظ على حريتها، بعد الضحايا البشرية الغالية ، ما أصاب قضية
الديموقراطية .
لا ينكر
احد ان المعارك الخارجية تفرض حدودا ضيقة للنشاط الديموقراطي في الداخل . ولدى كل
دولة من دول العالم سلسلة جاهزة من القوانين، ما ان يتهدد سلامتها خطر، حتى تعطل
بها أكثر احكام الدساتير الديموقراطية وتوقف بها أعز الحريات التقليدية . ولقد جرب
الشعب المصري (العربي) في مصر تلك الحدود الضيقة . فلاكثر من خمس سنوات ابتداء من
عام 1939، عاش معدوم الحرية تقريبا: حرية المأكل ، حرية الملبس، حرية المتاجرة ،
حرية الانتقال ، حرية الرأي والنشر والاجتماع وحرية اختيار حكومة ولو اختيارا
شكليا . في 4 فبراير 1942 فرضت على مصر حكومة بقوة السلاح الانجليزي . بل ان كل
قيمة من قيم هذا الشعب قد انتهكت علنا تحت أقدام الجند من أشتات البشر الذين أبيحت
لهم مصر أكثر من خمس سنوات . ولا يزال جيلنا يذكر كيف كان المصريون يجتنبون المذلة
والاذلال بان يقبعوا في بيوتهم . وكيف كانت الحياة تسلب و الاموال تغتصب والاعراض
تنتهك علنا في المدن والقرى والطرقات في وضح النهار، تحت حكم أحزاب مصر .. ”
لتأمين سلامة قوات الحلفاء والترفيه عن جنودهم “. ولم يذرف أي من المنافقين اليوم
دمعة واحدة على الحرية او على الديموقرقراطية .
ان عزاء
الشعوب في هذا ان الحرب موقوتة مهما طالت . وهو عزاء مشروع . اذ حيث تكون سلامة
الوطن في خطر تتحدد الديموقراطية مشكلة والديموقراطية حلا بحدود سلامة الوطن . أما
الذين لا يرون علاقة بين معارك التحرر الوطني ومشكلة الديموقراطية فهم جاهلون .
وأما الذين يرفعون أصواتهم فوق صوت المعركة هاتفين للديموقراطية فهم يريدون ان
ينسحبوا من المعركة تحت غطاء الدعوة الى الديموقراطية . انم يريدون ـ نفاقا ـ ان
يقال عنهم ديموقراطيون بدلا من انهزاميين .
ولقد طالت
معارك التحرر الوطني التي خاضتها ثورة 23 يوليو تحت قيادة عبد الناصر حتى كادت ان
تستغرق كل حياتها وأثرت في مشكلة الديموقراطية وحلها في مصر من نواح عدة .
الحرية والتحرر :
فرضت
معارك التحرر الوطني حدودا للحرية على ثورة 23 يوليو وقائدها عبد الناصر .. نريد
ان نقول ان عبد الناصر قد واجه مشكلة الديموقراطية في مصر داخل نطاق تلك الحدود لم
يستطع ، ولم يرغب في ، ان يتخطاها بدون انكار لاثرها على المشكلة وامكانات حلها .
ما هي تلك الحدود ؟
ـ منها
الاصرار على الوحدة الوطنية وعدم السماح بأي صراع اجتماعي حاد او سياسي عنيف
او أية انقسامات في الجبهة الداخلية . وقد أثر هذا في موقفه من الاحزاب التي لم
يسمح بتعددها ابدا بالرغم من انه كان يتوقع نشوء الاحزاب وتعددها في
مصر ولا يعترض عليه . قال يوم 10 مارس 1957 في حديث الصحفي الهندي كارنجيا ممثل
صحيفة بليتز : ” ان الزعماء الوطنيين المخلصين سينتخبون وان البرلمان ستقوم فيه
تكتلات ومجموعات وربما تكون فيه معارضة في المدى الطبيعي للاحداث كما تبرز بعد
ذلك ، طبعا ، قوى سياسية جديدة ، ومن المحتمل ان تكون هناك أحزاب “. ولا شك في ان
الوحدة الوطنية تمثل حدا على النشاط الديموقراطي يجعل الفاصل ، بين النشاط المشروع
والنشاط المعادي او بين المعارضة والتآمر فاصلا دقيقا وقد يختلطان على مستوى
القاعدة النشيطة او في تقدير السلطة المتوترة ، فتدفع الحركة الديموقراطية ثمن
التآمر او الخوف من التآمر .
ـ ومنها استمرار حالة الطوارئ مما تستدعيه من تركيز في
السلطة ورقابة على الصحف ووسائل النشر وأجهزة الاتصال والاجتماع وتحركات الوافدين
والمقيمين واستبدال المحاكم الاستثنائية بالمحاكم الطبيعية وتجاوز اجراءات التحقيق
العلني الى التحقيق السري والاعتقال والحبس المطلق .. الخ . وكلها حدود ضيقة
تحصر او تحاصر النشاط الديموقراطي . الغى عبد الناصر حالة الطوارئ عام 1964 ولكنه
لم يلبث ان أعاد اعلانها بمناسبة عدوان 1967. ولا تزال قائمة .
ـ ومنها صعود القوات المسلحة الى المركز الاول من مراكز
القوى في الدولة على أساس انها المسئولة الاولى عن سلامة الوطن . واكتسابها ، بحجة
الحرب او خطر الحرب او الاستعداد للحرب ، سلطة تعلو في كثير من المجالات على
السلطة المدنية التي تصبح احدى وظائفها الاساسية تنفيذ متطلبات القوات المسلحة
ماديا واقتصاديا وبشريا وتأمينا وأمنا ، وتحصينها ضد المعرفة او النشر او النقد .
أي قيام دولة عسكرية فوق الدولة المدنية . وقد بلغ أمر هذا الصعود حد صدور قانون
(160 لسنة 1962) يحرم على ديوان الموظفين والوزارات والمصالح والهيئات والشركات
العامة والخاصة والجمعيات تعيين أي موظف او عامل في أية وظيفة الا بعد أخطار مكتب
نائب القائد الاعلى ( المرحوم المشير عبد الحكيم عامر) ، ثم الانتظار شهرا لمعرفة
ما اذا كان لدى سيادته من افراد القوات المسلحة العاملين فعلا من يرشحه لاشغال
الوظيفة الخالية. فاذا ما رشح لها أحدا أصبحت له الاولوية في التعيين على
المرشحين معه من نفس مرتبة النجاح . ثم ـ وهذا أغرب ـ اذا تم تعيين مرشح القيادة
فانه لا ينتقل اليها ليشغلها فعلا بل تبقى شاغرة ويحتفظ له بها ويكون في حكم
المعار الى القوات المسلحة أي يتقاضى راتبها . صدر هذا القانون بمناسبة حرب اليمن
وكاد يشل الجهاز المدني للدولة . كما ان الذين تابعوا او يتابعون اجراءات اسقاط
الدولة العسكرية التي اتخذها عبد الناصر بعد هزيمة 1967 وما جرى من محاكمات وما لا
يزال يجري عن جرائم التعذيب لا بد قد لاحظ ان كل الجرائم قد ارتكبت في السجن
الحربي التابع للقوات المسلحة وان كل المتهمين من أفراد وقيادات القوات المسلحة (الشرطة
العسكرية او المخابرات العامة) وان كان أغلب المجني عليهم مدنيين أسندت اليهم
اتهامات بارتكاب جرائم تدخل في نطاق القانون العام .. ثم انه لم تحدث حادثة تعذيب
لاي متهم ابتداء من عام 1968. علة ذلك ان ” الدولة العسكرية ” كانت قد استطاعت ان
تجرد وزارة الداخلية وأجهزتها ، بما فيها جهاز أمن الدولة ومصلحة السجون ، من
سلطاتها وتسند الى الاجهزة العسكرية وظائف المحافظة على الامن الداخلي فما ان سقطت
” الدولة العسكرية ” وعادت صلاحيات وزارة الداخلية اليها انقطع سيل الجرائم
الجسيمة التي كان بعض المتهمين يتعرضون لهـا .
ـ ومنها ، مصيبة العصر في العالم كله ، تضخم أجهزة الامن
الداخلي (أمن الدو لة) و الخارجي (المخابر ات العامة) وتزويدها بامكانات مالية غير
معروفة و غير قابلة للمعرفة ، وبسلطات مطلقة الا من حد الحفاظ على أمن الدولة كما
تقدره هي ، وبمعدات خيالية تسمح لها بان تضع كل مواطن تحت مجهرها من حيث لا يدري ،
وبالمقدرة على ان تباشر مهمتها خفية : تراقب خفية، وتتابع خفية ، وتدرس خفية ،
وتقرر خفية ، وتنفذ خفية كأنها أشباح محبطة. ذلك ـ كما يقال ـ لتستطيع ان تصارع
أشباحا لا تقل عنها خفاء تمثلها أجهزة التجسس والتخريب التابعة لدول معادية أكثر
مالا وأدوات ورجالا مزروعين خفية أيضا في قلب المجتمع . تستطيع أجهزة الأمن ـ لمن
يريد ان يعرف ـ ان تلتقط ، وهي على بعد كيلومترين او أكثر أي حديث يدور ولو في
حجرة مغلقة . نعرف هذا من القضايا التي طرحت على المحاكم . وعرفنا من الصحف ،
ورأينا على صفحاتها صور عقل الكتروني قالت الصحف انه يستطيع ان يدلي بكافة
المعلومات عن أي مواطن في أقل من دقيقة . وهذا يعني ان كافة المعلومات الخاصة بأي
مواطن كانت قد جمعت من قبل وأودعت بطن الجهاز ذي الذاكرة الحديدية. وكل هذا مخيف
ومصدر للخوف . الخوف من المجهول قبل الخوف من المعلوم . والخوف شلل يصيب البشر
فيعجزهم عن الششاط الديموقراطي .
ـ ومنها خضوع الاعلام ووسائله الحديثة بالغة التأثير
(الصحف والاذاعة والتليفزيون والكتب) لمقتضيات معارك التحرر، اما عن طريق الرقابة
الصريحة او الضمنية واما بواعز الحذر الوطني السليم من التورط في خدمة العدو او
اضعاف ثقة الشعب بنفسه. وليس من بين وظائف الاعلام، خلال الصراع من أجل التحرر الوطني ، ان يتطوع بوضع
الحقائق الاقتصادية او الاجتماعية او السياسية أو العسكرية تحت تصرف أجهزة
الاستماع المعادية . بل من وظائفه ان يذيع وينشر ما يخدم معركته الوطنية (
بلغ مجموع السفن الالمانية التي أعلن الحلفاء اغراقها في الحرب الاوروبية الثانية
1939- 1945 أضعاف أضعاف ما ملكته المانيا من سفن في كل تاريخها منذ غزوات الفيكنغ
. وخاضت مصر وسورية حربا اعلامية مدعومة فكريا وسياسيا واحصائيا استمرت عاما ثم
انتهت في لقاء في أقل من خمس دقائق مصافحة في مؤتمر الرياض لتتعانق أجهزة الاعلام
في الهواء وعلى الورق وفي رؤوس البشر) .
ولما كانت
معرفة الحقائق هي المادة الخام التي يكوّن منها المواطنون آراءهم ويحددون على
ضوئها مواقفهم ويمارسون ـ على أساسها حرياتهم ، او ينكصون عن ممارستها فان كل
تزييف في الحقائق ولو كان لتضليل الاعداء وحماية الوطن ، ينعكس زيفا على
الديموقراطية وممارستها .
ـ ومنها
أخيرا وليس آخرا ، تحمل الاقتصاد الوطني أعباء المعارك التحررية اقتطاعا من بنية
اقتصادية ضعيفة أصلا . ولقد أصبحت تكلفة المعارك أبهظ من ان تطيقها الدول المتقدمة
اقتصاديا مما حمل دولة مثل بريطانيا على قبول تصفية امبراطوريتها ، وربما
حمل الدول الاستعمارية كافة على أن تستغني بالاستعمار الجديد (التبعية الاقتصادية)
عن الاستعمار القديم لتوفر ـ كما كان ذلك ممكنا ـ نفقات جيوش الاحتلال . فما بالنا
بالدول الفقيرة او النامية . في مثل هذه الدول تعوق معارك التحرر التي لا بد منها
بتكلفتها الباهظة حركة التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي . فتبقى على الفقر
ولا تسمح بالانتقاص منه الا قليلا . ليبقى الفقراء عائقا فعليا ـ أكثر العوائق
صلابة في الواقع ـ دون الممارسة الديموقراطية .
ولقد كان
هذا موجودا حدودا وقيودا على عهد عبد الناصر.
قبل اللقاء :
في تلك
الحدود واجه عبد الناصر مشكلة الديموقراطية في مصر وحاول حلها. وابتداء من الان
سنترك الحديث لعبد الناصر والمشكلة التي واجهها . وسنكتفي بمراقبة الصراع بينهـما.
وسيلتقي معنا كل القراء في موقع المراقبة . فدعونا نتفق ، من الان على أمرين :
الاول : ان يحاول كل منا، وبقدر ما يستطيع، ان يحتفظ لنفسه
باحكامه السابقة على مشكلة الديموقراطية في مصر او على عبد الناصر وان يكتفي
بالمراقبة الى ان ينتهي الحديث على الاقل . ان الحيدة ، او اصطناع الحيدة ـ مؤقتا
ـ سيجعل المراقبة أكثر فائدة وأكثر متعة أيضا . وليس أسخف من القول ” لو كنت مكان
عبد الناصر لفعلت كذا… ” الا القول ” لو كنت عبد الناصر لفعلت كذا.. فلا احد غير
عبد الناصر كان في مكانه . وعبد الناصر الذي مات لا يتكرر . دعونا اذن نراقب حديث
الرجل مع مشكلة الديموقراطية في مصر بأكبر قدر من الموضوعية .
الثاني : اذا لم تكن الحيدة ممكنة، وهي على أي حال صعبة ، فعلى
كل واحد ان يحدد موقفه من حرية وطنه قبل أن يحدد موقفه من حريته الشخصية . وقبل ان
يتشدق أي واحد منا بالكلمات الكبيرة عن الديموقراطية عليه ان يختار بين الاستقلال
والتبعية . لقد اختار عبد الناصر، قائد ثورة 23 يوليو حرية الوطن واستقلاله منذ
البداية . وقضى وهو في ميدان معارك التحرر العربي . وسيكون على أي منصف مهما
يكن اختياره ، ان يتتبع تاريخه مع مشكلة الديموقراطية في مصر انطلاقا من البداية
التي اختارها الرئيس الراحل … الى النهاية .
التجربة والخطأ :
في يوم 21 مايو 1962 قدم الرئيس
الراحل جمال عبد الناصر الى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية ” ميثاق العمل الوطني ”
بقوله : ” الميثاق عبارة عن مبادئ عامة واطار للعمل او للخطة . نتج عن ايه؟.. نتج
عن تجربة وممارسة عشر سنوات .. العشر سنوات اللي فاتت كانت فترة تجربة ، فترة ممارسة .. كانت فترة مشينا فيها بالتجربة
والخطأ !.
ولم تكن تلك هي المناسبة الوحيدة
التي ذكر فيها الرئيس الراحل افتقاد الثورة ، حين قامت عام 1952، نظرية ومنهجا ،
وانتهاجها التجربة والخطأ أسلوبا للممارسة . تجرب فتخطىء فتصحح . قال يوم 7 أبريل
1963: ” بالنسبة لنا تجربتنا قابلتنا أسئلة كثيرة بهذا الشكل . وكان لا بد ان نوضحها في أول يوم لم يكن عندنا منهج .
لم يكن عندنا نظرية . ولم يكن عندنا منظمة شعبية ولكن كان عندنا المباديء الستة “ .
وقد أسند الرئيس جمال عبد الناصر
تلك الظاهرة ، أعني الاسلوب التجريبي ، الى أسبابها التاريخية وظروف قيام ثورة
1952 ذاتها : تلك الظروف التي أشرنا الى بعضها من قبل . قال يوم 25 نوفمبر 1961: ”
ناس كتير بيقولوا ما عندناش نظرية. بدنا والله نقول لنا نظرية . فين النظرية اللي
احنا ماشيين عليها؟ بيقول اشتر اكية ديموقراطية تعاونية . إيه هي النظرية ؟ إيه
حدود النظرية ؟.. انا بأسال ، ايه هي أهداف النظرية ؟.. انا باقول اني ما كنش
مطلوب مني ابدا في يوم 23 يوليو اني اطلع يوم 23 يوليو معايا كتاب مطبوع واقول ان
هذا الكتاب هو النظرية . مستحيل . لو كنا قعدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ما
كناش عملنا 23 يوليو لان ما كناش نقدر نعمل العمليتين مع بعض ” .
وهكذا مع الاعتراف بغيبة النظرية ،
طرح المشكلة الفكرية طرحا يتضمن الاشارة الى سباق بين الفكر الذي لا بد له من كل
الوقت اللازم والكافي لنضجه وبلورته وهو وقت قد يستغرق حياة جيل او أجيال، وبين
موقف مصر المتردي بسرعة متزايدة . قبل 1952، مما كان يستوجب الانقاذ بالممكن بدون
انتظار لما يجب ان يكون . وكان الممكن هو ما عرف باسم المبادئ الستة للثورة ومن
بينها اقامة ديموقراطية سليمة .
هذا فضلا عما يعرفه الذين كابدوا
مشاق المعرفة العلمية من ان اشعال الثورة أسهل بكثير من ابداع نظرية. المهم ان هذا
المنهج التجريبي قد أدى إلى ان كان لثورة 23 يوليو أكثر من موقف واحد من مشكلة
الديموقراطية في مصر. وفي بعض الاوقات تغير موقف الثورة من المشكلة من النقيض الى
النقيض في شهر واحد. ويبدو هذا واضحا من تتبع القرارات المتتالية التي أصدرتها
الثورة في سنواتها الاولى .
قرارات .. للالغاء :
بعد الثورة مباشرة أبقت الثورة علي
دستور 1923. واستبدلت بملك فاسد ملكا طفلا بريئاً تحت الوصاية. وشاورت الاحزاب وحاورتها
. وارتضت منها ان تطهر نفسها من بعض قادتها وان تعيد صياغة برامجها كما لو كانت
مشكلة الديموقراطية مشكلة أشخاص فاسدين ان سقطوا قامت الحياة الديموقراطية السليمة.
هذا موقف .
ومع هذا فقبل ان ينقضي عام
1952 رأت قيادة الثورة ان مشكلة الديموقراطية أكثر من مشكلة أشخاص فاسدين فأصدرت
يوم 10 ديسمبر 1952 قرارا جاء فيه : ” أعلن باسم الشعب سقوط ذلك الدستور، دستور
1923 وانه ليسعدني ان أعلن في نفس الوقت الى بني وطني ان الحكومة آخذة في تأليف
لجنة تضع مشروع دستور جديد يقره الشعب ويكون منزها عن عيون الدستور الزائل محققا
لآمال الامة في حكم نيابى نظيف وسليم “ .
وهذا موقف آخر.
أغرب من الموقفين موقفها من النظام
الملكي . فقد أسقطت دستور الملك في 10 ديسمبر 1952 ولم تعلن سقوط الملكية
وقيام الجمهورية الا بعد ستة أشهـر تقريبا في 18 يونيو 1953.
ثم انها ارتضت من الاحزاب تطهير نفسها
واعادة صياغة برامجها ، وأصدرت أول قانون لتنظيم الاحزاب في تاريخ مصر، تقول مادته
الثانية : ” للمصريين الحق في تكوين الاحزاب السياسية ولكل مصري الحق في الانتماء
لاي حزب “. وتقول مادته الثالثة : ” ان الحزب لا يحل الا بحكم قضائي يصدر من محكمة
القضاء الاداري بمجلس الدولة . “
هذا موقف .
ولكن قبل أن ينقضي ثلاثة أشهر أصدرت
يوم 16 يناير 1953، اعلانا بحل الاحزاب السياسية القائمة وتحريم انشائها في
المستقبل (مرسوم 37 لسنة 1953) . وجاء في الاعلان : ” اتضح لنا ان الشهوات الشخصية
والمصالح الحزبية التي أفسدت أهداف ثورة 1919 تريد ان تسعى بالتفرقة في هذا الوقت الخطير من تاريخ الوطن فلم تتورع بعض
العناصر عن الاتصال بدولة أجنبية وتدبير ما من شأنه الرجوع بالبلاد الى حالة
الفساد السابقة.. “
وهذا موقف آخر .
ثم انها أصدرت يوم 13 يناير 1953
مرسوما بتشكيل لجنة من خمسين عضوا لتعمل في ” وضع دستور يتفق مع أهداف الثورة ” .
ومع انها لم توقف عمل اللجنة ولم تلغها الا انها لم تصبر الا يومين حتى أصدرت
اعلان 16 يناير 1953 : ” بتحديد فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات “. وأصدرت يوم 10
فبراير 1953 اعلانا دستوريا ببيان نظام الحكم في فترة الانتقال : يتولى مجلس قيادة
الثورة أعمال السيادة العليا. يتولى مجلس الوزراء السلطة التشريعية. ويتولى السلطة
التنفيذية مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه . ويتولى المتابعة والمراقبة مؤتمر
يتألف من مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة مجتمعين .
فبدا كما لو كانت الثورة قد اختارت
تأجيل حل مشكلة الديموقراطية الى ما بعد فترة الانتقال . هذا موقف . غير انه لم
يمض عام واحد على هذا الموقف حى أصدرت الثورة في 5 مارس 1954 قرارا ينص على : ”
اتخاذ الاجراءات فورا ( لاحظ فورا ..) لعقد جمعية تأسيسية تنتخب عن طريق الاقتراع
العام المباشر على ان تجتمع خلال شهر يوليو 1954 وتكون لها مهمتان : الاولى مناقشة
مشروع الدستور الجديد و اقراره . والثانية القيام بمهمة البرلمان الى الوقت الذي
يتم فيه عقد البرلمان الجديد وفقا لاحكام الدستور الذي ستقره الجمعية التأسيسية “ .
فبدا كما لو كانت الثورة قد اختارت
، النظام البرلماني حلا لمشكلة الديموقراطية .
غير ان هذا القرار لم ينفذ .
اذ ما لبثت الثورة ، وقبل مرور شهر
واحد على اصداره ، ان أصدرت يوم 26 مارس 1954 قرارا آخر جاء فيه : ” اولا : ارجاء
تنفيذ القرارات التي صدرت يوم 5 مارس الحالي حتى نهاية فترة الانتقال . ثانيا: يكل
فورا ( فورا ايضا..) مجلس وطني استشاري يراعى في تمثيله الطوائف والهيئات والمناطق
المختلفة ويحدد تكوينه واختصاصاته بقانون ” . وهو قرار مستخرج من عصور ما قبل
الديموقراطية يوم ان كان الملوك يختارون ممثلين للطوائف والمناطق في مجالس استشارية
تكون مهمتها مقصورة على ابداء الرأي والنصيحة بدون التزام او الزام .
ولسنا في حاجة الى القول بان قانون
تكوين ذلك المجلس الوطني الاستشاري لم يصدر قط وبالتالي فان قرار 29 مارس 1954، في
هذه الجزئية ، لم ينفذ أيضا .
ثم ، أخيرا وليس آخرا ، ان لجنة
الخمسين التي كانت قد تشكلت بمرسوم 13 يناير 1953 لوضع مشروع دستور ” يتفق مع
مباديء الثورة ” كما جاء في قرار تشكيلها ، او دستور يحقق ” امال الامة في حكما
نيابى نظيف وسليم ” كما جاء في اعلان سقوط دستور 1923 ، قد أعدت مشروعها وقدمته
فعلا الى مجلس الوزراء يوم 17 يناير 1955. ولكن قيادة الثورة لم تقبله بحجة ان
نظام الحكم فيه نيابي أكثر مما يجب ووضعت بدلا منه دستورا الغته يوم 16 يناير 1956
اخر يوم في فترة الانتقال وأرجأت العمل به الى يونيو 1956 التاريخ الذي كان محددا
لتمام اجلاء قوات الاحتلال البريطاني .
ولم يكن دستور 1956 هو آخر المواقف
. فهو ذاته قد الغي قبل مرور عامين (5 مارس 1958) . بمناسبة الوحدة بين مصر وسوريا
ثم عاد ذاته بعد أربعة أعوام تقريبا (27 سبتمبر 1962) . بمناسبة الانفصال، ثم ألغي
مرة اخرى بعد عامين ، بصدور دستور جديد مؤقت (23 مارس 1964) .
هذه أمثلة ضربناها من التطور
الدستوري لتعدد مواقف الثورة من مشكلة الديموقراطية (في جانبها القانوني) خلال
تجربة البحث عن طريق حلها . ولقد أثارت تلك التجارب وما صاحبها من صراع علني وخفي
كاد يصل في مارس 1954 الى حد انهاء الثورة ذاتها .
ولا شك في ان متغيرات موضوعية كثيرة
قد أسهمت في تعدد مواقف الثورة ، وتناقضها في بعض الاوقات ، من مشكلة الديموقراطية
. ولكن هذا لا يحجب العامل ” التجريبي ” ودوره الاساسي في ان الثورة قد افتقدت
لفترة طويلة المنهج العلمي الذي كان قادراً ، لو توفر لها ، على أن يمكنها من
السيطرة على تلك المتغيرات ودفع حركة التطور في اتجاه الموقف الذي تحدده لها
نظريتها في الديموقراطية .
التجربة الخصيبة :
بدأ جمال عبد الناصر ، اذن ، قائدا
ينتهج التجربة والخطأ أسلوباً . ولم يبدأ مثقفا يملك كل الوقت اللازم للاجتهاد
الفكري لمجرد ، ويملك ـ بشكل خاص ـ ان يحجب أفكاره او يراجعها و يغيرها قبل ان
يطرحها على الناس افعالا تؤثر في حياتهم العينية . ذلك لأنه كان قائد ثورة مهمته
الاولى ان يغير ويطور وينفذ ويصحح في الواقع الاجتماعي بما يحمله من أفكار .
ولكن عبد الناصر الذي لم يبدأ بنظرية قد كان ـ بالضرورة ـ أكثر قبولا للتعلم من
التجربة من أصحاب النظريات . وفي حياته تجربة انسانية خصيبة لامتزاج التقدم الفكري
بالتقدم العملي . فقد أعطى التجربة أفكاره واسترد من التجربة أفكارا
أكثر نموا فعاد وأعطاها للتجربة ثم استرد منها .. وهكذا في عملية نمو فكري خصيبة
ما تزال في حاجة الى دراسات علمية مطولة . اذ لا شك في ان دراسة عبد الناصر المفكر
شيء أكثر لزوما وفائدة وصعوبة من دراسة أي مفكر آخر لم يتحمل بنفسه عبء وضع
أفكاره موضع التنفيذ . كما لا شك في ان دراسة عبد الناصر الثائر أكثر لزوما وفائدة
وصعوبة أيضا من دراسة أي ثائر كان قصارى دوره ان يغير ويطور وينفذ نظرية وضعت له
والتزم بها من قبل ان يثور .
على أي حال فان خصوبة التجربة ستبقى
مقصورة على ما تتيحه للدراسة من مجالات واسعة وخبرات هائلة في كيفية ابداع التصحيح
، خلال الممارسة ، من بين التجربة والخطأ . ولكن خصوبتها لن تطهرها من المعاناة
الفعلية لآثار التجريب في حياة الشعوب . وسيبقى الخطأ خطأ حتى لو لاحقه التصحيح .
وكلاهما محسوب على التجربة وصاحبها .
غير أننا لا نستطيع إلا أن نؤكد ما
أكده عبد الناصر نفسه في لقائه وفود المعلمين بالقاهرة يوم 26 يونيو 1956. قال : ”
ولكني أقول لكم إذا أخطأت في المستقبل فإنما يكون هذا الخطأ عن يقين وتأكد من أن
العمل في مصلحة مصر وفي مصلحة أبناء مصر” .
نؤكد هذا لأن الخطأ في التجربة ،
نتيجة لقصور في المنهج والنظرية ، لا يمكن أن ينال ، على أي وجه، من أن جمال
عبد الناصر قد عاش ومات ابناً باراً ومخلصاً إخلاصاً مطلقاً لشعبه وأمته . ويكفيه
نبلاً أنه لم يدع في أي وقت أنه يملك أكثر مما يملك فعلاً وهو كثير . وأنه لم
يخطىء قط إلا واعترف بالخطأ وبادر إلى تصحيحه بما يستطيع . فلقد كان ـ عليه رحمة
الله ـ أكثر الناس صدقاً مع نفسه وهي قمة الفضائل في الحاكمين .
أزمة المثقفين :
في 25 نوفمبر1961 كانت قد انقضت على
قيام الثورة تسع سنوات تقريباً ، ومع ذلك لم تكن الثورة قد امتلكت بعد منهجاً أو
نظرية . لماذا ؟ .. لا يكفي ، بعد تسع سنوات من التجربة والخطأ ، أن نعود فنسند
غياب النظرية إلى الأسباب التاريخية التي سبقت ثورة 1952 أو صاحبت قيامها. لماذا
إذن ؟
لنستمع ـ أولأ ـ إلى جواب عبد
الناصر على هذا السؤال الجوهري .
قال في ذلك اليوم ، 25 نوفمبر 1961،
” ما نقدرش نقول ان احنا عملنا نظرية . ويا جمال إعمل لنا نظرية. انتم اللي عليكم
تعملوا النظرية . المثقفين هم اللي عليهم يعملوا نظرية . يوم ما لاقي كتاب طالع عن
الاقتصاد بتاعنا والتجربة بتاعتنا أو إيه اللي يجب أن يحصل فيها بأشعر بأن هذا
الكتاب هو جزء كبير من النظرية “ .
على هذا الوجه حدد الرئيس الراحل
مسئولية البناء النظري للثورة وأسلوب هذا البناء . فمسئوليته تقع على عاتق
المثقفين .
والواقع أن هذا بديهي . ففي
مصر وفي غير مصر لا يمتلك القدرة اللازمة للبناء الفكري إلا المثقفون . بل انهم
يتميزون بصفتهم هذه تمييزاً لمقدرتهم تلك . غير أنه ينبغي الانتباه هنا إلى من كان
يعنيهم جمال عبد الناصر بالمثقفين .
في الحوار الذي دار يوم 9 أبريل
1963 في الاجتماع الخامس لمباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا اقترح
أحد أعضاء الوفد السوري التفرقة بين المثقفين الثوريين والمثقفين غير الثوريين .
فعلق الرئيس جمال عبد الناصر على تلك التفرقة وقال : ” فيه فرق بين المثقفين
والمتعلمين. يعني ممكن واحد متعلم يبقى بورجوازي .. ده ما اقدرش أقول عليه مثقف .
أنا بأقول عليه أنه متعلم وأستاذ كبير في أي فرع من فروع العلم .. يمكن .. لكن
المفروض بالمثقف أنه مثقف اجتماعياً . زي ما بتقول مثقف اجتماعياً .. لكن إذا
أطلقنا تعبير المثقفين على كل المتعلمين يبقى تعبيرنا بالنسبة لهذه
العمليات غلط“ .
خلاصة هذا أن عبد الناصر كان يرى أن
عبء البناء النظري للثورة يقع على عاتق المثقفين اجتماعياً ، وهو ما يمكن فهمه على
أنهم المثقفون النشطون في الحقل السياسي أو العاملون بالقضايا العامة .
أما عن كيفية أو أسلوب البناء
النظري فقد كان عبد الناصر يرى أنه تأصيل وتطوير ” التجربة بتاعتنا ” ولو من خلال
الدراسات التخصصية المقصورة كل منها على أحد المجالات أو بعضها . وهو يقول في
الميثاق ان : ” الثورة العربية وهي تواجه هذا !لعالم لا بد لها من أن تواجهه بفكر جديد لا يحبس نفسه في نظريات مغلقة يقيد
بها طاقته وان كان في نفس الوقت لا ينعزل عن التجارب الغنية التي حصلت عليها
الشعوب المناضلة بكفاحها “. ويقول : ” ان التسليم بوجود قوانين طبيعية للعمل
الاجتماعي ليس معناه القبول بالنظريات الجاهزة والاستغناء بها عن التجربة الوطنية
. أن الحلول الحقيقية لمشاكل أي شعب لا يمكن استيرادها من تجارب شعوب غيره .. ان
التجربة الوطنية لا تفترض مقدماً تخطئة جميع النظريات السابقة عليها أو تقطع برفض
الحلول التي توصل إليها غيرها فإن ذلك تعصب لا تقدر أن تتحمل تبعاته ، خصوصاً وإن
إرادة التغيير الاجتماعي في بداية ممارستها لمسئولياتها تجتاز فترة أشبه بالمراهقة
الفكرية تحتاج خلالها إلى كل زاد فكري . ولكنها في حاجة إلى أن تهضم كل زاد تحصل
عليه وان تمزجه بالعصارات الناتجة من خلاياها الحية “ .
وهو صريح في أن البناء الفكري
للثورة لا يكون بالانكفاء والاكتفاء ” بالتجربة بتاعتنا “، والرفض المتعصب للتراث
الفكري العالمي ، ولا يكون باستعارة أسس فكرية غريبة عن تجربتنا لنسند إليها تلك
التجربة ، ولكن باستيعاب التراث الفكري العالمي والتجربة الخاصة معاً كمقدمة
لإبداع فكري يكون خلاصة تفاعلهما الجدلي يقوم به .. ” المثقفون“ .
هذا ما كان يراه عبد الناصر حتى عام
1961.
فلماذا لم يقم المثقفون في مصر
بدورهم ذاك ؟
لأن معركة ضارية حول ” مشكلة
الديموقراطية في مصر ” كانت قد نشبت بين عبد الناصر قائد الثورة وجماعة المثقفين
. إنها المعركة التي عرفت باسم ” أزمة مارس ” .. والتي قال عنها عبد الناصر
فيما بعد (7 أبريل 1963) : ” احنا اجتزنا عقبات كثيرة قوي وقابلنا مراحل
أرادت الرجعية فيها أن تستولي على السلطة. وكانت أقرب
ما يكون أن تستولي على السلطة في سنة 1954.. وحصل تحالف بين الرجعية والشيوعية “ .
كل يغني على ليلاه :
نحن نعرف الآن أن الوجه السياسي
لعملة الرأسمالية هي الديموقراطية الليبرالية التي كانت ساثدة في مصر قبل الثورة .
وحين حددت الثورة أحد أهدافها في ” القضاء على سيطرة الرأسمالية على الحكم ” كانت
تتقدم ـ حتى بدون أن تدري ـ إلى مواقع الصدام مع الليبراليين وأفكارهم الخاصة
عن الديموقراطية أي مع مثقفي مرحلة ما قبل الثورة . نقول حتى بدون أن تدري
لأن الثورة لم تكن تدري فعلأ أن أولى معاركها الخطيرة ستكون مع أنصار الديموقراطية
الليبرالية . وقد كان للديموقراطية أنصارها التقليديون من الأحزاب وجماعات
المثقفين في مصر قبل الثورة . وكان بعض من هؤلاء المثقفين قد دافعوا دفاعاً مجيداً
وقدموا تضحيات فعلية في دفاعهم عن الدستور الليبرالي ضد الاستبداد الملكي .
وبالتالي فقد كان هؤلاء مع الثورة منذ البداية من أجل ” الديموقراطية ” كما
يفهمونها . أما بعد الثورة فقد أصبح للديموقراطية الليبرالية أنصار جدد مرحليون
أولئك هم الماركسيون . ولم تلبث المعركة أن نشبت فعلاً في أوائل مارس 1954.
بدأت المعركة في القمة ( مجلس قيادة
الثورة ) وامتدت الى الشعب فشارك فيها . أما في القمة فقد كان السؤال هو : استمرار
الثورة أم إعادة الحياة البرلمانية ؟ وكانت القرارات المختلفة والمتناقضة
التي ذكرناها من قبل تمثل المراحل المتتابعة لانتصار فريق على فريق .
في ذلك الصراع اختار الليبراليون
داخل مجلس الثورة ، ورمزهم محمد نجيب ، يساندهم رجال الأحزاب المنحلة وجماعات
المثقفين العودة إلى النظام البرلماني الليبرالي . وكانت حججهم المعلنة أن الثورة
وقد نجحت في القضاء على ” المفسدين ” للديموقراطية ( الملك والأقطاع ) فقد استنفدت
غايتها وعليها أن تنهي ذاتها لتعود الحياة الديموقراطية الليبرالية إلى استئناف
مسيرتها التي عوقها المفسدون. وان على مجلس قيادة الثورة وضباط القوات المسلحة أن
يعودوا إلى ثكناتهم لاستئناف دورهم في حماية الحدود وأن يسلموا السلطة إلى حزب
الأغلبية ( الوفد) . كانت تلك هي الحجة الظاهرة تساندها حجج خفية أهمها أن مجلس
قيادة الثورة نفسه لم يكن يملك في ذلك الوقت بديلا لحل مشكلة الديموقراطية في مصر
عن الحل الليبرالي . ولقد سبق أن أشرنا إلى ما وعدت به الثورة من عودة الحياة
الدستورية وإلى أنها كانت ترى في دستور 1923الليبرالي نموذجاً راقياً لنظام الحكم
الديموقراطي وإلى أن رؤيتها لمشكلة الديموقراطية في مصر كانت محصورة أو مقصورة على
من أفسدوا النظام وليس على فساد النظام نفسه . يضاف إلى هذا ان الأحزاب كانت قد
قبلت شروط الثورة فاستغنت عن بعض قياداتها وأعادت صياغة برامجها قبل أن تلغيها
الثورة . يضاف إليه النظرة المتعالية التي كان ينظر بها المثقفون الليبراليون
وقادة الأحزاب السابقة إلى ” شوية الضباط ” صغار السن غير المعروفين من الشعب
المجردين من الخبرة حتى لو كانوا غير مجردين من الإخلاص … الخ .
كان أولئك انصاراً تقليديين
للديموقراطية الليبرالية .
أما الأنصار المرحليون فكان يمثلهم
في مجلس قيادة الثورة خالد محي الدين يسانده الماركسيون ( رشح محمد نجيب
اليميني خالد محي الدين اليساري ، في أزمة مارس 1954، ليكون رئيساً للوزراء في مقابل
انهاء الثورة) . أما لماذا انحاز الماركسيون إلى الليبراليين فلأنهم لم يكونوا من
القوة بحيث يفرضون مذهبهم التقليدي في ديكتاتورية البروليتاريا أو مذهبهم المتطور
في الديموقراطية الشعبية فانحازوا إلى الليبراليين على أساس ان الليبرالية ـ كما
اعتقدوا ـ ستتيح لهم فرصة أكبر لتعميق التناقضات الطبقية وتعبئة الجماهير تحت
قيادة الطبقة العاملة للاستيلاء في النهاية على السلطة . وكما هي العادة كانت هناك
أسباب مساعدة منها أن تطوراً سابقاً كان قد حدث في حزب الوفد نفسه فأصبح يضم
جناحاً شبابياً متنامياً يتجه بإطراد إلى اليسار وبالتالي يقترب بإطراد أيضاً من
الماركسيين أو جناحهم الأيمن . وقد تعاون الجناحان من قبل في مواقف عدة أهمها
المظاهرات الطلابية التي قامت عام 1946 وأسقطت مشروع الأتفاق مع إنجلترا المسمى
مشروع صدقي ـ بيفن . وقد تعرض الطلاب في ذلك الوقت لعنف بالغ استحق بسببه يوم 21
فبراير 1946 أن يكون يوم الطلاب العالمي كما استحقت أحداث شيكاغو يوم 30 مايو سنة 1886 أن يكون يوم أول مايو عيد العمال
العالمي . المهم أن المواقف المشتركة بين الماركسيين و الجناح الشبابي في الوفد ،
واقتران عودة الليبرالية بعودة الوفد كانا ـ في تقدير الماركسيين ـ مبرراً كافياً
أو مساعداً لانحيازهم إلى أنهاء الثورة وعودة الليبرالية .
يضاف إلى هذا سبب تاريخي لا بد من
الإشارة إليه . ذلك ان الماركسيين كانوا قد انتهوا قبل الثورة ، من تحليلهم النظري
، وعلى ضوء الانقلابات العسكرية التي حدثت في سورية بفعل المخابرات المركزية
الأميركية إلى أن انقلاباً عسكرياً أمريكياً مشابهاً متوقعاً في مصر . فما
أن قامت الثورة بقيادة الضباط الأحرار حتى وقفوا منها الموقف الذي كانوا يدخرونه
للانقلاب الذي كانوا يتوقعونه وقد انقضت سنون طويلة قبل أن يدركوا الخطأ الجسيم
الذي ارتكبوه عندما راهنوا بكل ما يملكون على جواد النظرية .
أياً ما كان الأمر فإن الماركسيين
عامة قد تبنوا ، في أزمة مارس 1954، الموقف الليبرالي وأصبح الصراع حول مشكلة
الديموقراطية في مصر قائماً بين الليبراليين والثوريين . فأي الفريقين كان
ديموقراطياً ؟
كلاهما !!!
الأولون كانوا ديموقراطيين بالمفهوم
الليبرالي للديموقراطية .
والآخرون كانوا ديموقراطيين
بالمفهوم الشعبي للديموقراطية .
الأولون انحازوا إلى القلة الممتازة
الحاضرة . إلى أنفسهم . والآخرون انحازوا إلى الأغلبية المسحوقة الغائبة .
إلى الشعب .
هذا على مستوى التفسير النظري حتى
لو كان غامضاً ، ولكن يمكن إستخلاصه بسهولة من فكرة المساواة التي كانت حجة عبد
الناصر الأساسية في أزمة مارس . المساواة بين الأقلية الممتازة والأغلبية
المسحوقة، إذ ان المساواة هنا تعبر عن موقف ” منحاز إلى المسحوقين . قال عبد
الناصر في احتفال رابطة سائقي القطارات يوم 31 مارس 1954 : ” انني أعتقد
جازماً بأن الثورة بدأت تحقق أهم أهدافها الرئيسية في المساواة بين أبناء
هذا البلد الذي كانت تتحكم فيه قلة في الماضي .. كان في البلد 18 مليوناً ليس لهم
حزب والباقي إما مخدوعون وإما مغلوبون على أمرهم وإما مضللون . ” وقال في نادي
رجال الإدارة ؟ مساء يوم 15 أبريل 1954 : ” أنتم كرجال أتيحت لكم الفرصة لكي
تأخذوا حظكم من التعليم ولكن هناك 18 مليوناً لم ينالوا هذا الحظ ويجب أن ننظر إلى
أولئك الذين لم تتح لهم الفرصة لنأخذ بيدهم ” .
أما على المستوى الواقعي ، نعني
واقع مصر عند قيام الثورة ، فإن الأولين لم يكونوا ديموقراطيين بأي معنى
وكان الثوار وحدهم هم الديموقراطيين . ذلك لأن القلة الممتازة التي انحاز
اليهما الليبراليون لم تكن تعاني من أية مشكلة ديموقراطية . فهي قادرة فكراً
وعلماً وخبرة ومالاً على ممارسة حقوقها السياسية . وقد استنفذت ثلاثين عاماً قبل
الثورة وهي تمارسها . الذي كان يعاني مشكلة ديموقراطية حقيقية هو الشعب ، أغلبية
الشعب ، الراكد الغائب الضعيف المستضعف المحكوم بدون أي أمل في أن يشارك في الحكم
. وكان اختيار الليبراليين العودة إلى نظام ما قبل الثورة يعتي تماماً ابقاء مشكلة
الديموقراطية في مصر بدون حل . وكان موقف الثوريين ( أنصار استمرار الثورة) يتضمن
، كحد أدنى ، معرفة صحيحة باين تقع مشكلة الديموقراطية في مصر، وإرادة متمسكة
بضرورة حلها ، حتى لو لم يكونوا في ذلك الوقت عارفين على وجه التحديد العلمي كيف
تحل .
تحيا الحرية .. تسقط الحرية !!
ولقد كان الصراع في الشارع المصري
أكثر تحديداً ووضوحاً في الصراع في القمة . أبطال الليبرالية من المثقفين والكتاب
والصحفيين و المهنيين ورجال الأحزاب .. إلى آخرهم احتشدوا في مبنى نقابة المحامين
وأعلنوا انتهاء الثورة التي لم يقوموا بها وعودة الضباط إلى ثكناتهم وتسليم السلطة إلى المدنيين . يعنون أنفسهم .
أما العمال ( النقل العام خاصة) فقد
احتشدوا في الشوارع يعلنون تمسكهم باستمرار الثورة ويهتفون بأعلى أصواتهم ”
تسقط الحرية ” .. ” يسقط المحامون الجهلة “!! و نشهد أن الهتاف قد استفزنا حتى
كدنا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة تحديدا للعمال الأشداء . فقد كنا شباباً ندعي
الثقافة وكان هتاف العمال بسقوط الحرية يتحدى كل الأفكار المنمقة الرومانسية
الجميلة التي تعلمناها في الكتب . وكنا من بين القلة القليلة من المحامين
الشبان الذين دافعوا عن استمرار الثورة في مقر نقابتهم وتعرضوا لموقف يكاد يكون
جماعياً يتراوح بين السخرية بهم والإشمئزاز منهم ومع ذلك فإن العمال لم يفرقوا
وهتفوا بجهل المحامين كافة .
ولكنا الآن بعد قدر من النضج ولو
بحكم السن إن لم يكن بحكم العلم والتعلم نتذكر فنسأل : ما هي الحرية التي هتف
العمال بسقوطها في مارس 1954 ؟ .. ونجيب : انها ذات الحرية التي رفع الليبراليون
الويتها الممزقة في مجلس قيادة الثورة أو في مبنى نقابة المحامين . انها الحرية
التي نصلي الآن كل يوم داعين الله أن يسقطها في كل مكان في العالم ” .
( لم نعد نستطيع إلا الصلاة ) انها الحرية بمفهومها الليبرالي : عدم تدخل
الدولة وترك المنافسة الحرة تصفي حسابات البشر كما يحدث بين الوحوش في
الغابات ، وتحدد أسعار السلع . والعمال في الاقتصاد الليبرالي ليسوا إلا سلعاً
تباع وتشترى ويخضع ثمنها (الأجر) للمضاربة في سوق العمل . وكما تلقى السلع
المستهلكة في صناديق القمامة يلقي البشر غير المرغوب فيهم أو العاجزون عن العمل
على الأرصفة . ليموتوا أو يسرقوا أو يتسولوا.. ولقد كان المتسولون من المعالم
الرئيسية لشوارع مدينة القاهرة قبل الثورة . إلى درجة أنه حين تحسب المواقف التي
مهدت الثورة تحتل مكاناً منها صورة نشرتها مجلة ” الاشتراكية ” التي كان يصدرها
الأستاذ أحمد حسين تتضمن عدداً من المتسولين تحت عنوان واحد : ” هؤلاء رعاياك يا
مولاي ” . كيف يمكن أن ننسى ؟ نهايته .
ولقد كان وراء موقف العمال في مارس
1954 أنهم كانوا قد تلقوا من الثورة القانون 165 لسنة 1953 الذي حرم فصلهم من
العمل بدون مبرر وقضى لمن يفصل تعسفياً بأن يوقف قرار فصلة على وجه الاستعجال وان
يدفع له راتبه حتى لو لم يقبل رب العمل إعادته إلى عمله . وتلقوا من الثورة قرارها
الصادر يوم 16 أبريل بعدم جواز توقيع أكثر من عقوبة واحدة عن المخالفة الواحدة
وعدم جواز الجمع بين أية عقوبة واقتطاع جزء من الأجر . وكان إنقاص الأجر عن طريق
توقيع عقوبات الخصم منه هي ” الهواية المفضلة ” لأصحاب الأعمال يمارسونها بدون
رقابة إدارية أو قضائية. وكان العمال في مارس 1954 قد تلقوا من الثورة القانون رقم
244 لسنة 1953 بحصر كل العمال العاطلين في مصر وإنشاء سجل لهم وتشغيلهم وإلزام
أصحاب الأعمال بالإبلاغ عن طلبات العمل ومنع الوساطة وكفالة الدولة لمصروفات نقل
العامل وأسرته من محل إقامته إلى حيث يقدم إليه العمل .
باختصار كان العمال في ذلك الوقت ،
مارس 1954، قد بدأوا يلمسون ، لأول مرة في تاريخ مصر، ” الحرية ” المتحققة لهم
بتدخل الدولة لحمايتهم من الفصل والاستغلال والبطالة فبدأو يدركون زيف ”
الحرية ” الموهومة حين لا تتدخل الدولة في علاقات العمل . حرية التعاقد
وحرية الفصل وحرية تحديد الأجر وحرية الاقتطاع منه .
ومن واقع الدفاع عن حريتهم هتفوا بسقوط حرية الليبراليين . وكانوا في ذلك
أكثر ديموقراطية من أنصار الردة في مجلس قيادة الثورة وأنصار الليبرالية من
المحتشدين في نقابة المحامين لأنهم كانوا أكثر منهم واقعية . ونندم على أننا في
يوم من أيام الشباب لم نفهم لغة الشعب الذي ننتمي إليه فلم نعرف كم كانت
صادقة التعبير عن الحقائق الاجتماعية . وقد كان من الحقائق الاجتماعية في مارس
1954 ان المحتشدين في مبنى نقابة المحامين كانوا ” يجهلون ” فعلاً مشكلة
الديموقراطية كما يعانيها العمال .
ثم نعجب إلى حد الدهشة ممن وضعوا
أنفسهم في مقاعد التقدمية ثم كتبوا ذكرياتهم عن تلك المرحلة ، أو سودوا ما توهموا
انه تاريخها فقالوا ان الصراع كان يدور في القمة بين الديموقراطيين وأنصار
الديكتاتورية ، وهذا صحيح ، ثم أخطأوا خطأ فاحشاً فقالوا أن دعاة انهاء
الثورة والعودة إلى الليبرالية وأحزابها كانوا هم الديموقراطيين . كأن
الديموقراطية ، كلمة تقال وليست حرية مكتسبة . كأن الديموقراطية هي حكم الأقلية
وليس حكم الأغلبية “. كأن ثورة 23 يوليو 1952 ما قامت إذ قامت إلا من أجل أن
يستأنف حزب الوفد وأحزاب مدرسة ” حزب الأمة ” حكمها الشعب العربى في مصر بعد اكثر من سبعين
عاماً من تحالفها ضد الخط الوطني الثوري وبعد ثلاثين عاما من ممارستها الفاشلة
للديموقراطية الليبرالية في مصر .
هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً :
كان عبد الناصر في ذروة الصراع في
مجلس قيادة الثورة قد استقال . وكانت حجته في ذلك ديموقراطية . لقد اختارت
الأغلبية انهاء الثورة وكان هو مع استمرارها . وكان على الأقلية أن تخضع لرأي
الأغلبية . وعبد الناصر لا يريد أن يخضع ويريد في الوقت ذاته أن يبقى ديموقراطياً فوجد الحل في الانسحاب . هذا الموقف لا بد أن
نتذكره لأننا سنعود إلى دلالته فيما بعد . يهمنا هنا أن ننبه إلى أن قبول رأي
الأغلبية حتى في المسائل المبدئية موقف ديموقراطي ليبرالي . ولكن رفض الخضوع لرأي
الأغلبية والانسحاب ليس موقفاً ليبرالياً . وموقف عبد الناصر بشقيه ـ يعتبر ـ
مؤشراً واضح الدلالة على أن عبد الناصر في ذلك الوقت لم يكن قد كوّن رأياً
قاطعاً في الديموقراطية الليبرالية . لم يكن يرفضها تماماً ولم يكن يقبلها
تماماً . وسيكون لهذا الموقف دلالات أخرى وآثار عميقة فيما يأتي من صراع بين عبد
الناصر ومشكلة الديموقراطية .
نكتفي الآن بالقول بأنه وقد حسم
الصراع في الشارع فقد عاد عبد الناصر الى موقعه من قيادة الثورة . وسقطت كل
القرارات التي صدرت في 5 مارس 1954 : اتخاذ الاجراءات فوراً لعقد جمعية تأسيسية
تنتخب عن طريق الاقتراع العام المباشر على أن تجتمع خلال شهر يوليو 1954
وتكون مهمتها الأولى مناقشة مشروع الدستور الجديد وإقراره . والثانية القيام بمهمة
البرلمان إلى الوقت الذي يتم فيه عقد البرلمان الجديد . وبقي قرار 13 يناير 1953
بتشكيل لجنة وضع الدستور وقرار 16 يناير 1953 بإلغاء الأحزاب وتحديد فترة انتقال
لمدة ثلاث سنوات .
ومنذ ذلك الوقت ، منذ مارس 1954،
أولت الثورة ظهرها لليبراليين ولم تثق في مثقفي الليبرالية ودعاتها ولا في
الماركسيين قط بعد مارس 1954 ولسنين طويلة . ولم يثق فيها أولئك المثقفون بدورهم
وقامت تلك القطيعة التي استمرت عشر سنوات تقريباً . ولقد كانت ذات آثار خطيرة على
مشكلة الديموقراطية في مصر وعلى مقدرة الثورة وقيادتها على حلها وذلك من نواح عدة :
أولاً : إن المثقفين في مصر لم يقوموا بدورهم التاريخي
في البناء النظري للثورة وهو الدور الذي لم ينكره عليهم عبد الناصر قط ولم يدعه
لنفسه من دونهم قط فبقي بدون إنجاز لمدة طالت أكثر مما يجب .
ثانياً : إن أسلوب التجربة والخطأ قد استمر يحكم موقف
عبد الناصر في معالجته مشكلة الديموقراطية في مصر أكثر من تسع سنوات بعد قيام
الثورة .
ثالثاً : إن الثورة قد اعتمدت في إدارة الدولة وإنجاز
مشروعات التنمية ـ بدلاً من المثقفين الذين قاطعوها وقاطعتهم ـ على التكنوقراطيين
البيروقراطيين الذين لم يلبثوا أن تحولوا إلى طبقة جديدة ، عازلة تحيط بقيادة
الثورة . وهي طبقة بحكم تكوينها ومصالحها تعتبر من أعدى أعداء الديموقراطية لا في
مصر وحدها ولكن في كل العالم وفي كل النظم . وسيستنفد عبد الناصرقدراً كبيراً من
جهده ومن فترة حكمه في محاولات حل التناقض بين الثورة ومضامينها المتطورة وبين
الطبقة البيروقراطية المعادية للثورة واتجاهها غير الديموقراطي ، والتي لا تستطيع
الثورة ـ في الوقت نفسه ـ الاستغناء عنها لأنها كانت البديل الوحيد المتاح بعد
مقاطعة المثقفين للثورة أو مقاطعة الثورة للمثقفين على أثر أزمة مارس 1954.
ويقول كثير من الذين يؤرخون لأزمة
مارس 1954 إن الديكتاتورية قد انتصرت في تلك الأزمة على الديموقراطية وإن عبد
الناصر قد أصبح منذ ذلك التاريخ ديكتاتوراً صريحاً ، ولهم على ذلك شواهد عدة. فهل
كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟
فذلكة فكرية :
الحديث عن غائب إلى غائبين صعب إذا
صاحبه شعور قوي بالمسئولية . حينئذ لا يبرز الحديث إلا بعد أن يشق له طريقاً وعراً
خلال ركام من الأسئلة التي يتصور المتحدث أنها ثائرة أو يمكن أن تثور في اذهان
الذين يتحدث إليهم . ويكون عليه أن يجعل من الحديث حواراً من طرف واحد وهو أمر
عسير . أو يكون عليه أن يقاوم ـ بصعوبة أيضاً ـ اغراء الهرب المريح من أسئلة يتصور
أنها تحاصره وان كان لا يعرف أصحابها . والهرب هنا سهل أيضآ بالنسبة للطرفين . ما
على المتحدث إلا أن يتجاهل تصوراته ويستمر في الحديث كما لو كان يتحدث إلى نفسه .
وما على القارىء إلا أن يكف عن قراءة حديث لا يشعر بأنه موجه إليه ما دام
يتجاهل أسئلة يثيرها في ذهنه . فتكون قطيعة سهلة ولكنها مجردة من الشعور
بالمسئولية .
هناك مصدر آخر لصعوبة الحديث عن
غائب إلى غائبين . ذلك هو أن لكل حديث موضوعاً ينبغي أن يلتزم حدوده . ولما كان كل
موضوع ، وأي موضوع ، ذا صلة بموضوعات أخرى فإن الاستجابة إلى تداعي المعاني أو
الرغبة المشروعة في أن يجيب الحديث على كل الأسئلة التي يمكن أن يثيرها الموضوع هي
إستجابة مغامرة . إذ أنها تتضمن مخاطر تجاوز حدود موضوع الحديث ليصبح ” دردشة ” في
موضوعات غير محددة وهو عقيم .
نحن لا نريد هرباً أو قطيعة أو
دردشة فما العمل ؟
لا بد من الانتقاء . نواجه الأسثلة
التي نكاد نوقن بأنها ، في مكان ما، قد ثارت ولا ينبغي تجاهلها لأنها وثيقة الصلة
بسياق الحديث . ونعتذر عن الإجابة على الأسئلة التي قد تثور وتستحق الإجابة عليها
في حديث آخر.
ولقد خطر لنا كل هذا حين انتهينا في
حلقة سابقة من هذا الحديث إلى انتماء ثورة 23 يوليو وقائدها جمال عبد الناصر إلى
الخط الوطني الثوري الذي بدأه أحمد عرابي . وتجسمت لنا مصاعب الحديث إلى غائبين
حين ركزنا تركيزاً قوياً على هذا الانتماء السياسي ورجونا القراء ألا ينسوه
. حينئذ خطر لنا أنه في مكان ما قد ثار سؤال عاطف أو عاصف أو ممتعض يمكن أن تكون
صيغته : ” لماذا هذا التركيز على الانتماء السياسي لثورة 23 يوليو وعبد الناصر؟
وما قيمته العلمية “ ؟ ان المقياس العلمي للانتماء هو الانتماء الطبقي ، وليس
الموقف السياسي إلا انعكاساً له ، ولقد كان أجدر وأجدى أن يقول لنا صاحب الحديث
إلى أية طبقة كان ينتمي الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر لنستطيع ـ بدون عناء ـ أن
نفهم ونفسر ونبرر مواقفهم السياسية من كافة القضايا بما فيها قضية الديموقراطية ؟
سؤال جاد لا مهرب منه .
ومع ذلك فإن الإجابة ” الوافية ”
عليه تخرج بنا، حتماً ، من نطاق موضوع حديثنا إلى مجالات فكرية مجردة تكاد تكون
غير محدودة . ذلك أن الطريق إلى الإجابة عليه يعبر بسؤال قبله يمكن أن تكون صيغته :
ما هي العلاقة بين الموقع الاجتماعي والموقع السياسي لكل إنسان على حدة ؟….
وهذا السؤال يسبقه سؤال : ما هي العلاقة بين الموضوع والذات ؟.. و هذا يسبقه سؤال
: ما هي العلاقة بين العيني والمجرد ؟ .. وهذا يسبقه سؤال : ما هي العلاقة بين
المادة والفكر؟..
و نكاد نخرج من الموضوع ومع ذلك لا
مهرب .
فنقول بإختصار.. ونترك التفاصيل في
المراجع لمن يريد.. ان مقولات كثيرة مثل : ” أن حركة الفكر ليست إلا انعكاساً
لحركة المادة منقولة إلى دماغ الإنسان ” (ماركس) أو : ” ليس وعي الناس هو الذي
يحدد وجودهم، بالعكس فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ” (ماركس) .. قد أصبحت حتى عند أصحابها مقولات تقليدية .
ولقد كان من شأن التسليم بصحة تلك
المقولات أن يكون الموقف السياسي انعكاساً للموقع الطبقي حتماً ..
ولكن ـ كما قلنا ـ أصبحت مقولات تقليدية . فمن قبل أعتذر أحد صاحبي هذه
المقولات بقوله : ” لقد كنا، ماركس وأنا ، مسئولين جزئياً عن تركيز الشباب على
الجانب الاقتصادي تركيزاً أكثر مما يستحقه . لقد كان لا بد لنا ، نحن من أن
نركز على المبدأ الأساسي في مواجهة معارضينا الذين ينكرونه . ولم يكن يتوافر لنا
دائماً ، الوقت والمكان والفرصة المناسبة لنسمح للعناصر الأخرى بالتدخل في التأثير
المتبادل بالقدر الذي تستحقه ” (انجلز) . ومن بعده قال واحد من كبار ثوار التاريخ يصحح
من واقع التجربة نظريته : ” ان عقل الإنسان لا يعكس العالم الواقعي فحسب بل يخلقه
” . والان يقولون ” إن المعرفة ليست مجرد انعكاس للموضوع المدرك وإنما هي أيضاً
خلق جديد وتغيير لحالته بهدف تلبية احتياجات الإنسان. إن نظرية الأستجابة السلبية
والمدخل الانعكاسي السلبي تجاه المعرفة لا يروح لها إلا العوام وبعض الفلاسفة
الذين يتصورون أنفسهم ماديين دياكتيكيين . ذلك أن هذه النظرية تتصور الذات العارفة
، لا على أنها فاعلة وخلاقة، ولا على أنها هادفة الى تحقيق إرادتها ورغبتها ، ولا
على أن منشئها المجتمع بل ان هذه النظرية تلحق هذه الصفات كلها بموضوع المعرفة ومن
ثم فإن الذات العارفة تنحول من كونها محددة ومحركة لعملية المعرفة إلى كونها محددة
من قبل الموضوع المعروف . وهكذا تتحول العلاقة المعرفية إلى علاقة شيئية ، علاقة
بين أشياء (دبوفاسكوي وشيلين) .
وخلاصة هذا أن العيني لم يعد وحده
الذي يحدد المجرد ، وان الموضوعي لم يعد هو وحده الذي يحدد الذاتي وان … الانتماء
الطبقي لم يعد هو وحده الذي يحدد الموقف السياسي . وبالتالي فاننا لا نستطيع أن
نعرف أو نفهم أو نفسر الموقف السياسي لعبد الناصر ـ مثلأ ـ على ضوء موقعه الطبقي
وحده . وذلك لأن ” بين نقطة البداية ونقطة النهاية ثمة عمليات بيولوجية ونفسية و
اجتماعية ” كما يقولون الآن (النيكف) وهي أقوال تصوغ حصيلة الممارسة. تلك الممارسة
التي حملت أبناء ” البورجوازية ” من أمثال ماركس (دكتور في الفلسفة) وانجلز ( رجل
أعمال ) ولينين ( دكتور في القانون) وماو وتسي تونغ (أديب وشاعر رومانتيكي) .. إلى
آخرهم ، من مواقعهم الطبقية إلى مراكز القيادة السياسية للطبقة العاملة .. وهي
الممارسة التي حملت أحمد عرابي ( فلاح مجند) ، ومصطفى كامل (محام) ومحمد
فريد (اقطاعي أنفق كل ثروته على الحركة الوطنية ومات معدماً) .. من مواقعهم
الطبقية المختلفة إلى موقف سياسي واحد في مركز القيادة للخط الثوري الوطني في مصر .
لذلك نترك الانتماء الطبقي لمن يريد
أن يبحث عن انعكاسه في الموقف السياسي لعبد الناصر ونكتفي بموقفه السياسي لأن ذلك
هو الموقف الذي اختاره وتعامل منه مع مشكلة الديموقراطية في مصر وهو ما يهمنا في
حدود هذا الحديث .
وقبل أن نعتذر عن الاختصار في
الإجابة لأصحاب النظريات نضع أمامهم هذه الحقيقة الاجتماعية مادة يستطيعون أن ”
يحللوها ” كما يشاؤن : ان جمال عبد الناصر ينتمي إلى قرية ” بني مر ” في صعيد مصر.
ولكنه لم يكن فلاحاً ، و لا كان ابن فلاح ، ولا عاش مع الفلاحين ، وما كان هو أو
والده أو أعمامه أطرافاً في علاقة إنتاج زراعية ، ولم تكن ” بني مر ” بالنسبة إلى
عبد الناصر إلا قرية مثل كل قرى مصر، وقد نشأ وشب وتعلم وناضل ومات ، وهو ينتمي
إلى أبناء الموظفين سكان المدن .
ومع ذلك ، أو ـ اذا أردتم ـ بالرغم
من ذلك …
فإن تحرير الفلاحين من القهر
الاقتصادي والاجتماعي والسياسى الذي كانوا يعانونه كان أوضح أهداف عبد الناصر منذ
أن قامت الثورة إلى أن انتقل إلى جوار ربه . كما أن أوضح جوانب مشكلة الديموقراطية
في مصر، في وعي عبد الناصر، كان الجانب المتصل بالحقوق السياسية للفلاحين .. وكانت نسبة متفوقة من كل انجازات عبد الناصر
موجهة بالدرجة الأولى إلى الفلاحين … بحيث لو أردنا أن نختار عنواناً ، لثورة 23
يوليو لكان أقرب العناوين إلى حقيقتها انها ثورة تحرير الفلاحين في مصر…
الاصلاح الزراعي :
كان الهدف الأول ، الأكثر وضوحاً ،
لثورة 23 يوليو هو تحرير الفلاحين . ومن أجله صدر قانون الإصلاح الزراعي يوم 9
سبتمبر 1952، أي بعد شهر ونصف من قيام الثورة . ولقد كان تحديد الملكية الزراعية
هو التحدي الظاهر الذي واجهت به الثورة الأحزاب فرفضته . قال عبد الناصر في
المؤتمر الشعبي الذي انعقد في الأسكندرية يوم 26 يوليو 1955 !؟ ” منذ أول يوم من
أيام الثورة قلنا لهم إذا أردتم فعلأ أن تحققوا الحرية التي طالما طالبتم بها
وناديتم بها لهذا الشعب ، هذا الشعب الطيب الذي خدعتموه تحت إسم الحرية..
فلتوافقوا ولتعلنوا معنا القضاء على الاقطاع ولتعلنوا تحديد الملكية “ .
ومنذ أن صدر قانون الإصلاح الزراعي
لم تتوقف دراسته ونقده وتعديله والإضافة إليه .
ولقد أنصبت أغلب الدراسات على جانبه
الاقتصادي وبلغ التحيز ضده إلى حد اسناد كثير من متاعب الإنتاج الزراعي إليه .
وبلغ التحيز اليه حد القول بأنه قانون اشتراكي . والواقع كما نراه أن قانون
الإصلاح الزراعي لا يستمد أهميته من علاقته بالاقتصاد لأنه لم يصدر من أجل زيادة
الإنتاج . ولا من علاقته بالنظام الاشتراكي لأنه لم يغير من علاقات الإنتاج . و
لكنه ـ إذا صح رأينا ـ القانون الديموقراطي الأول في تاريخ مصر الحديث . ذلك لأنه
يتضمن محاولة لحل مشكلة الديموقراطية بالنسبة لأغلبية الشعب من الفلاحين . ولقد
اتجهت تلك المحاولة اتجاهين : اتجاهاً إلى الإقطاعيين بالحد من
قوتهم وكسر شوكتهم ، وتحطيم ما تراكم لهم من هيبة طاغية في الريف . والاتجاه
الثاني إلى الفلاحين لخلخلة القيود التي تكبلهم وتشجيعهم على ” التمرد
” أو الفكاك من التبعية وتدريبهم على الجرأة على تحدي استغلال الملاك وهيبة
الاقطاعيين .
و لقد كان الاتجاه الأول محدود
الأثر اقتصادياً و ديموقراطياً ، فقصارى ما أصاب الاقطاعيين أن نزل بالحد
الأقصى لملكية الفرد منهم إلى مائتي فدان . فلما احتالوا على الحد فوزعوا ما
يملكون على أفراد أسرهم لكل منهم مائتا فدان صدر القانون رقم 34 لسنة 1958 أي بعد
خمس سنوات كاملة من قيام الثورة يقضي بألا يزيد ما يمتلكه الشخص هو وزوجته وأولاده
القصر عن ثلاثمائة فدان . ولقد كان أثر هذا التحديد تافهاً لأسباب كثيرة .
منها انه ، بالنسبة إلى ضيق المساحة
المزروعة في مصر وكثافة السكان في الريف وتدني مستوى المعيشة، كانت الثلاثمائة
فدان أو المائتان أوحتى المائة كافية وأكثر من كافية للإبقاء على سيطرة الملاك على
الأغلبية الساحقة من سكان الريف المعدمين أو شبه المعدمين . لأن التبعية تتوقف على
العلاقة النسبية بين طرفيها، ومهما كان من أثر تحديد الملكية بالنسبة الى الملاك
فإنه لم يغير شيئاً من موقع التابعين .
ومنها أن السيطرة الاقتصادية كانت
قد تحولت الى سيطرة اجتماعية ونفسية وإخلاقية أيضا ، كانت تلك السيطرة قد أصبحت
مقبولة اجتماعياً ونفسيا وأخلاقيا وتحولت إلى ” قيم وأخلاق وسلوك القرية ” كما
ذكرنا من قبل . ولم يكن من شأن تحديد الملكية على الوجه الذي جاء به القانون أضعاف
هذه السيطرة القبلية أو غيرها من القيم القروية البالية. فبالرغم من أن الفلاحين
قد وقفوا ” يتفرجون ” على مملكة الاقطاعيين تنتهك وهيبتهم تجرح وقصورهم تقتحم
وفائض أطيانهم يسترد ورأوا الطغاة يشكون ” ويتمسكنون ” ، إلا أن الأمر سرعان ما
عاد ببعضهم إلى ما كان عليه وبلغ الأمر حد أن بعض الفلاحين لم يصدقوا أنهم قد
أصبحوا ملاكاً لأراضي سادتهم فكانوا يحملون إليهم المحاصيل خفية .
ومنها ، أخيراً ، وربما أهمها، أن
تحديد الملكية لم يمس إلا شريحة ضئيلة من الملاك لا تزيد عن ألفي شخص هم أصحاب
الملكيات الواسعة . أولئك كانوا في الواقع قد تحولوا من إقطاعيين إلى رأسماليين
زراعيين ، وأصبحت ممتلكاتهم مزارع متقدمة الأدوات مخصصة لانتاج البضائع الزراعية
من أجل المضاربة في السوق . وكان جلّهم قد قطعوا علاقتهم بالقرى وأقاموا في
المدن وتولى وكلاؤهم و عملاؤهم مهمة إدارة تلك الممتلكات وممارسة الجانب القهري في
علاقتهم المباشرة مع الفلاحين . ولكن القانون لم يمس شريحة أعرض من الملاك
يبلغ عددها 64822 وهم الذين يملكون ما بين خمسة أفدنة ومائتي فدان ويواجهون ـ في
ساحة الصراع الاجتماعي في الريف ـ ثلاثة ملايين ونصف مليون تقريباً ممن يملكون أقل
من خمسة أفدنة والمعدمين وأسرهم .
هذه الشريحة تعتبر موضوعياً أعدى
أعداء تحرر الفلاحين لأنهم هم الذين يقومون بدور الوسطاء والمقاولين بين
الاقطاعيين والفلاحين . وهم الذين يضاربون على الأرض بيعاً وشراء ورهناً .
وهم المرابون الذين يتخذون من الأقراض بالربا وسيلة ناجحة للاستحواذ على مزيد من
الأرض . وهم الذين يضاربون على حاجة الفلاح إلى الأرض فيرفعون الإيجار ويشتركون
بالمزارعة في المحصول ويقدمون الخدمات الزراعية إلى الفلاحين بأثمان باهظة ثم
يطردون المستأجرين ليعيدوا تأجير أرضهم وأرض الإقطاعيين للحصول على مزيد من عرق
الفلاحين . وهم الأقرب إلى السلطات المحلية فهم الذين يستعدونها ويرشونها و
يستخدمونها في قهر الفلاحين . وأخيراً هم وسطاء الانتخابات الذين كانوا يبيعون
الاصوات صفقات أو صفقة واحدة في كل قرية …
هذه الشريحة المفسدة لم تتاثر
بتحديد الملكية، بالعكس ، لقد كانوا هم أنفسهم ” أعياناً ” من الدرجة الثانية
فأصبحوا ” أعياناً ” من الدرجة الأولى ، كانوا وسطاء للسادة فاحتلوا المواقع التي
خلت وأصبحوا هم السادة ولم يكن ينقصهم التدريب على قهر الفلاحين وإذلالهم .. وسنرى فيما بعد كيف أفسدت هذه الشريحة كل ما
كان مأمولاً من قانون الاصلاح الزراعي إقتصادياً وديموقراطياً .
هذا عن الاتجاه الأول : تحديد
الملكية .
الوجه الديموقراطي :
الاتجاه الثاني، الذي لا توليه
الدراسات اهتماماً كبيراً ، كان أكثر أثراً في حل مشكلة الديموقراطية في ريف مصر .
ذلك لأن القانون قد أنصب فيه على علاقة
الفلاحين بالملاك عموماً سواء كانوا اقطاعيين أو غير اقطاعيين . وحاول أن يحررهم
مما يخشاه الفلاح خشية الموت ونعني به فقدان الأرض التي يزرعها . فجاء القانون
وحرم تأجير الأرض إلا لمن يزرعها . وبذلك قضى على طائفة الوسطاء الذين كانوا
يستأجرون الأرض الزراعية ليعيدوا تأجيرها من الباطن لمن يزرعها مستفيدين بفارق
الأسعار التي يقبلونها أو يفرضونها . ثم حدد القيمة الإيجارية بسبعة أمثال الضريبة
الأصلية المروبطة عليها . مع ابقاء عبء الضريبة على المالك . وبذلك حرم المضاربة
على الانتفاع بالأرض واستغلال حاجة الفلاحين لفرض إيجارات باهظة وعطل قانون
المنافسة الحرة بين الفلاحين من أجل الحصول على الأرض، تلك المنافسة التي كانت
تزيد من أعبائهم المالية وتزيد من تبعيتهم للملاك أيضاً . ثم أوجب القانون أن يكون
عقد الإيجار ثابتاً بالكتابة حتى يستطيع أن ” يضبط ” المخالفات ويوقع عليها
العقوبة وحتى يجرد الملاك من المقدرة على المقدرة على إنكار علاقة التأجير تمهيداً
لطرد الفلاحين . ثم أوجب أن تكون مدة الإيجار ثلاث سنوات على الأقل حتى يطمئن
الفلاحون إلى استقرار بقاثهم في الأرض لمدة معقولة . وقد امتدت العقوبة بقوانين
متتالية حتى عام 1961 . ثم إن القانون قد حرم إخراج المستأجرين من الأرض وكانت تلك
ضربة قاضية لقيد الخوف من فقدان الأرض ذلك الخوف الذي استعبد الفلاحين دهراً .
بالإضافة إلى هذا حاول القانون الزج
بمجموع الفلاحين زجاً إلى مواقف جماعية إيجابية يواجهون بها احتياجاتهم بدلاً من
علاقة الاتكال والتواكل التي كانوا قد اعتادوا عليها سنين طويلة . فأنشأ الجمعيات
التعاونية الزرأعية واشترط أن تكون عضويتها لمن تقل ملكيتهم عن خمسة أفدنة وجعل من
مهامها الحصول لصالح أعضائها على السلف الزراعية ومدهم بالبذور والسماد والماشية
والآلات الزراعية وتنظيم زراعة الأرض واستغلالها وبيع المحصولات الرئيسية لحساب
أعضائها والقيام بجميع الخدمات الزراعية الأخرى التي تتطلبها حاجات الأعضاء وكذلك
القيام بمختلف الخدمات الاجتماعية .
مثال من الهند :
هذا هو الجانب الديموقراطي من قانون الاصلاح
الزراعي وبه نستطيع أن نقول إنه كان قانون تحرير الفلاحين من القهر الاقتصادي الذي
مارسه الملاك وتحطيم علاقة التبعية التي تربطهم بسادتهم الأقدمين ولقد نعرف ،
وسنعرف فيما بعد ، إلى أي مدى استفاد الفلاحون ـ فعلاً ـ من هذا القانون
الديموقراطي . يكفينا الآن أن نسجل أنه حيث كان جانب من مشكلة الديموقراطية في مصر
قبل 1952 يتمثل في سيطرة الاقطاعيين وكبار الملاك الزراعيين على الفلاحين فإن
الثورة ، منذ بدايتها ، قد اتجهت إلى الحد من سيطرة الاقطاعيين وكبار الملاك .
وحيث كان جانب من مشكلة الديموقراطية يتمثل في استسلام الفلاحين للقهر وقبول
المذلة والعبودية وتبريرها وتحويلها الى قيم قروية قبلية منحطة فإن الثورة اتجهت
منذ بدايتها إلى محاولة تحصينهم ضد الخوف من فقدان الارض وتأمين استمرارهم في
العمل الزراعي بدون مضاربة فأتيحت لهم ، لأول مرة ، فرصة ممارسة الديموقراطية …
كيف ؟
هل لمجرد أن أصبح الفلاحون باقين في الأرض
يزرعونها قد أصبحوا ديموقراطيين ؟
لا .
إنما تحقق لهم شرط التحرر من سيطرة الملاك فأتيحت
لهم ـ في هذه الحدود ـ فرصة الممارسة . لم يعودوا مضطرين ـ اقتصادياً ـ إلى بيع
أصواتهم في مقابل البقاء في الأرض أو الحصول على الخدمات الزراعية التي كان الملاك
يحتكرون توريدها إليهم . وهذا أكثر ديموقراطية من كل ما سطره فلاسفة
الليبرالية منذ مونتسكيو حتى الآن .
لقد قيل في نقد قانون الإصلاح الزراعي أنه أفسد
أخلاق الفلاحين إذ علمهم الجرأة والتطاول والفظاظة و” قلة الأدب ” مع أسياد البلاد
، وأفسد حياتهم إذ حرمهم من الكنز الذي لا يفنى (القناعة) وفتح عيونهم فشعروا أكثر
من أي وقت مضى بمدى ما يعانونه من حرمان ، وعلمهم التطلع والطموح فلم يعد
يرضيهم شيء ولا حتى قانون الإصلاح الزراعي . فمن وزعت عليهم الأرض المستردة لم
يدفعوا ثمنها ، ومن بقوا مستأجرين لم يسددوا الإيجار في مواعيده ، وأصبح العمال
الزراعيون يعملون بالساعات ويحددون الأجور . وأصبح الشغل الشاغل للفلاحين عقد
المقارنات بين ما لديهم وما لدى الآخرين فما أن تسأل فلاحاً شيئاً أو
تلومه على شيء حتى يصعر خده ويقول ” بجلافة “ : اشمعنى فلان … ؟
ان كان هذا قد حدث فالحمد لله . لقد نجحت الثورة ـ إذن ـ وتحرر الفلاحون . لأن
هذا هو على وجه التحديد ما كان الفلاحون في حاجة إليه فعلاً لتحل مشكلة
الديوقراطية في مصر. صحيح أنه شيء تافه بالنسبة إلى سكان المدن ، و هو لا يستحق
الالتفات عند جماعة المثقفين ، وهو شيء مقزز عند السادة ومع ذلك فهو هو الذي كان
يحتاجه الفلاحون فعلياً وواقعياً لحل مشكلة الديموقراطية بالنسبة إليهم . والأمور
نسبية حتى الديموقراطية . ونحن ننسب أمور الديموقراطية إلى الأغلبية . ولا بأس في
أن نضرب مثلأ ولو لتخفيف حدة الحديث .
حين أراد المشرعون في الهند إصدار قانون العقوبات
(القانون الجزائي) استغرق عملهم أربع سنوات . استنفد القانون كله سنتين واستنفدت
المواد الخاصة بالدفاع الشرعي ـ وحدها ـ سنتين . ذلك لأن الدفاع الشرعي هو تلك
الحالة التي يباح فيها للأفراد أن يستعملوا القوة دفاعآ عن انفسهم أو أموالهم . وقالت اللجنة التي وضعت القانون ، في تقريرها ، أن
صعوبة تنظم الدفاع الشرعي في الهند لم يكن راجعاً إلى ذلك الاتجاه التقليدي في
الدول الأوروبية إلى تضييق الحدود التي يباح فيها للأفراد استعمال القوة دفاعاً عن
أنفسهم بل العكس تماماً : كيف يمكن تشجيع الأفراد في الهند على استعمال القوة
دفاعاً عن أنفسهم وأموالهم . إذ كانت سلبية الفرد الهندي ، نتيجة عوامل تاريخية
فكرية وروحية ونتيجة الاستبداد الطويل به ، أكبر مشجع للصوص وقطاع الطرق على
الاعتداء .
ولقد كانت مشكلة الديموقراطية في ريف مصر تتلخص في
كيف يمكن اقناع الفلاحين ” بالمساواة ” بينهم وبين الاقطاعيين ، وكيف يمكن تشجيعهم
على الاستقلال بإرادتهم عن ارادة المسيطرين عليهم اقتصاديا فاجتماعيا فسياسيا ؟
وكان قانون الاصلاح الزراعي هو الاجابة التي قدمتها الثورة على هذا السؤال .
5 ـ البحث عن الطريق :
التجربة والخطأ :
في يوم 21 مايو 1962 قدم الرئيس
الراحل جمال عبد الناصر الى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية ” ميثاق العمل الوطني ”
بقوله : ” الميثاق عبارة عن مبادئ عامة واطار للعمل او للخطة . نتج عن ايه؟.. نتج
عن تجربة وممارسة عشر سنوات .. العشر سنوات اللي فاتت كانت فترة تجربة ، فترة ممارسة .. كانت فترة مشينا فيها بالتجربة
والخطأ !.
ولم تكن تلك هي المناسبة الوحيدة
التي ذكر فيها الرئيس الراحل افتقاد الثورة ، حين قامت عام 1952، نظرية ومنهجا ،
وانتهاجها التجربة والخطأ أسلوبا للممارسة . تجرب فتخطىء فتصحح . قال يوم 7 أبريل
1963: ” بالنسبة لنا تجربتنا قابلتنا أسئلة كثيرة بهذا الشكل . وكان لا بد ان نوضحها في أول يوم لم يكن عندنا منهج .
لم يكن عندنا نظرية . ولم يكن عندنا منظمة شعبية ولكن كان عندنا المباديء الستة “ .
وقد أسند الرئيس جمال عبد الناصر
تلك الظاهرة ، أعني الاسلوب التجريبي ، الى أسبابها التاريخية وظروف قيام ثورة
1952 ذاتها : تلك الظروف التي أشرنا الى بعضها من قبل . قال يوم 25 نوفمبر 1961: ”
ناس كتير بيقولوا ما عندناش نظرية. بدنا والله نقول لنا نظرية . فين النظرية اللي
احنا ماشيين عليها؟ بيقول اشتر اكية ديموقراطية تعاونية . إيه هي النظرية ؟ إيه
حدود النظرية ؟.. انا بأسال ، ايه هي أهداف النظرية ؟.. انا باقول اني ما كنش
مطلوب مني ابدا في يوم 23 يوليو اني اطلع يوم 23 يوليو معايا كتاب مطبوع واقول ان
هذا الكتاب هو النظرية . مستحيل . لو كنا قعدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ما
كناش عملنا 23 يوليو لان ما كناش نقدر نعمل العمليتين مع بعض ” .
وهكذا مع الاعتراف بغيبة النظرية ،
طرح المشكلة الفكرية طرحا يتضمن الاشارة الى سباق بين الفكر الذي لا بد له من كل
الوقت اللازم والكافي لنضجه وبلورته وهو وقت قد يستغرق حياة جيل او أجيال، وبين
موقف مصر المتردي بسرعة متزايدة . قبل 1952، مما كان يستوجب الانقاذ بالممكن بدون
انتظار لما يجب ان يكون . وكان الممكن هو ما عرف باسم المبادئ الستة للثورة ومن
بينها اقامة ديموقراطية سليمة .
هذا فضلا عما يعرفه الذين كابدوا
مشاق المعرفة العلمية من ان اشعال الثورة أسهل بكثير من ابداع نظرية. المهم ان هذا
المنهج التجريبي قد أدى إلى ان كان لثورة 23 يوليو أكثر من موقف واحد من مشكلة
الديموقراطية في مصر. وفي بعض الاوقات تغير موقف الثورة من المشكلة من النقيض الى
النقيض في شهر واحد. ويبدو هذا واضحا من تتبع القرارات المتتالية التي أصدرتها
الثورة في سنواتها الاولى .
قرارات .. للالغاء :
بعد الثورة مباشرة أبقت الثورة علي
دستور 1923. واستبدلت بملك فاسد ملكا طفلا بريئاً تحت الوصاية. وشاورت الاحزاب وحاورتها
. وارتضت منها ان تطهر نفسها من بعض قادتها وان تعيد صياغة برامجها كما لو كانت
مشكلة الديموقراطية مشكلة أشخاص فاسدين ان سقطوا قامت الحياة الديموقراطية السليمة.
هذا موقف .
ومع هذا فقبل ان ينقضي عام
1952 رأت قيادة الثورة ان مشكلة الديموقراطية أكثر من مشكلة أشخاص فاسدين فأصدرت
يوم 10 ديسمبر 1952 قرارا جاء فيه : ” أعلن باسم الشعب سقوط ذلك الدستور، دستور
1923 وانه ليسعدني ان أعلن في نفس الوقت الى بني وطني ان الحكومة آخذة في تأليف
لجنة تضع مشروع دستور جديد يقره الشعب ويكون منزها عن عيون الدستور الزائل محققا
لآمال الامة في حكم نيابى نظيف وسليم “ .
وهذا موقف آخر.
أغرب من الموقفين موقفها من النظام
الملكي . فقد أسقطت دستور الملك في 10 ديسمبر 1952 ولم تعلن سقوط الملكية
وقيام الجمهورية الا بعد ستة أشهـر تقريبا في 18 يونيو 1953.
ثم انها ارتضت من الاحزاب تطهير نفسها
واعادة صياغة برامجها ، وأصدرت أول قانون لتنظيم الاحزاب في تاريخ مصر، تقول مادته
الثانية : ” للمصريين الحق في تكوين الاحزاب السياسية ولكل مصري الحق في الانتماء
لاي حزب “. وتقول مادته الثالثة : ” ان الحزب لا يحل الا بحكم قضائي يصدر من محكمة
القضاء الاداري بمجلس الدولة . “
هذا موقف .
ولكن قبل أن ينقضي ثلاثة أشهر أصدرت
يوم 16 يناير 1953، اعلانا بحل الاحزاب السياسية القائمة وتحريم انشائها في
المستقبل (مرسوم 37 لسنة 1953) . وجاء في الاعلان : ” اتضح لنا ان الشهوات الشخصية
والمصالح الحزبية التي أفسدت أهداف ثورة 1919 تريد ان تسعى بالتفرقة في هذا الوقت الخطير من تاريخ الوطن فلم تتورع بعض
العناصر عن الاتصال بدولة أجنبية وتدبير ما من شأنه الرجوع بالبلاد الى حالة
الفساد السابقة.. “
وهذا موقف آخر .
ثم انها أصدرت يوم 13 يناير 1953
مرسوما بتشكيل لجنة من خمسين عضوا لتعمل في ” وضع دستور يتفق مع أهداف الثورة ” .
ومع انها لم توقف عمل اللجنة ولم تلغها الا انها لم تصبر الا يومين حتى أصدرت
اعلان 16 يناير 1953 : ” بتحديد فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات “. وأصدرت يوم 10
فبراير 1953 اعلانا دستوريا ببيان نظام الحكم في فترة الانتقال : يتولى مجلس قيادة
الثورة أعمال السيادة العليا. يتولى مجلس الوزراء السلطة التشريعية. ويتولى السلطة
التنفيذية مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه . ويتولى المتابعة والمراقبة مؤتمر
يتألف من مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة مجتمعين .
فبدا كما لو كانت الثورة قد اختارت
تأجيل حل مشكلة الديموقراطية الى ما بعد فترة الانتقال . هذا موقف . غير انه لم
يمض عام واحد على هذا الموقف حى أصدرت الثورة في 5 مارس 1954 قرارا ينص على : ”
اتخاذ الاجراءات فورا ( لاحظ فورا ..) لعقد جمعية تأسيسية تنتخب عن طريق الاقتراع
العام المباشر على ان تجتمع خلال شهر يوليو 1954 وتكون لها مهمتان : الاولى مناقشة
مشروع الدستور الجديد و اقراره . والثانية القيام بمهمة البرلمان الى الوقت الذي
يتم فيه عقد البرلمان الجديد وفقا لاحكام الدستور الذي ستقره الجمعية التأسيسية “ .
فبدا كما لو كانت الثورة قد اختارت
، النظام البرلماني حلا لمشكلة الديموقراطية .
غير ان هذا القرار لم ينفذ .
اذ ما لبثت الثورة ، وقبل مرور شهر
واحد على اصداره ، ان أصدرت يوم 26 مارس 1954 قرارا آخر جاء فيه : ” اولا : ارجاء
تنفيذ القرارات التي صدرت يوم 5 مارس الحالي حتى نهاية فترة الانتقال . ثانيا: يكل
فورا ( فورا ايضا..) مجلس وطني استشاري يراعى في تمثيله الطوائف والهيئات والمناطق
المختلفة ويحدد تكوينه واختصاصاته بقانون ” . وهو قرار مستخرج من عصور ما قبل
الديموقراطية يوم ان كان الملوك يختارون ممثلين للطوائف والمناطق في مجالس استشارية
تكون مهمتها مقصورة على ابداء الرأي والنصيحة بدون التزام او الزام .
ولسنا في حاجة الى القول بان قانون
تكوين ذلك المجلس الوطني الاستشاري لم يصدر قط وبالتالي فان قرار 29 مارس 1954، في
هذه الجزئية ، لم ينفذ أيضا .
ثم ، أخيرا وليس آخرا ، ان لجنة
الخمسين التي كانت قد تشكلت بمرسوم 13 يناير 1953 لوضع مشروع دستور ” يتفق مع
مباديء الثورة ” كما جاء في قرار تشكيلها ، او دستور يحقق ” امال الامة في حكما
نيابى نظيف وسليم ” كما جاء في اعلان سقوط دستور 1923 ، قد أعدت مشروعها وقدمته
فعلا الى مجلس الوزراء يوم 17 يناير 1955. ولكن قيادة الثورة لم تقبله بحجة ان
نظام الحكم فيه نيابي أكثر مما يجب ووضعت بدلا منه دستورا الغته يوم 16 يناير 1956
اخر يوم في فترة الانتقال وأرجأت العمل به الى يونيو 1956 التاريخ الذي كان محددا
لتمام اجلاء قوات الاحتلال البريطاني .
ولم يكن دستور 1956 هو آخر المواقف
. فهو ذاته قد الغي قبل مرور عامين (5 مارس 1958) . بمناسبة الوحدة بين مصر وسوريا
ثم عاد ذاته بعد أربعة أعوام تقريبا (27 سبتمبر 1962) . بمناسبة الانفصال، ثم ألغي
مرة اخرى بعد عامين ، بصدور دستور جديد مؤقت (23 مارس 1964) .
هذه أمثلة ضربناها من التطور
الدستوري لتعدد مواقف الثورة من مشكلة الديموقراطية (في جانبها القانوني) خلال
تجربة البحث عن طريق حلها . ولقد أثارت تلك التجارب وما صاحبها من صراع علني وخفي
كاد يصل في مارس 1954 الى حد انهاء الثورة ذاتها .
ولا شك في ان متغيرات موضوعية كثيرة
قد أسهمت في تعدد مواقف الثورة ، وتناقضها في بعض الاوقات ، من مشكلة الديموقراطية
. ولكن هذا لا يحجب العامل ” التجريبي ” ودوره الاساسي في ان الثورة قد افتقدت
لفترة طويلة المنهج العلمي الذي كان قادراً ، لو توفر لها ، على أن يمكنها من
السيطرة على تلك المتغيرات ودفع حركة التطور في اتجاه الموقف الذي تحدده لها
نظريتها في الديموقراطية .
التجربة الخصيبة :
بدأ جمال عبد الناصر ، اذن ، قائدا
ينتهج التجربة والخطأ أسلوباً . ولم يبدأ مثقفا يملك كل الوقت اللازم للاجتهاد
الفكري لمجرد ، ويملك ـ بشكل خاص ـ ان يحجب أفكاره او يراجعها و يغيرها قبل ان
يطرحها على الناس افعالا تؤثر في حياتهم العينية . ذلك لأنه كان قائد ثورة مهمته
الاولى ان يغير ويطور وينفذ ويصحح في الواقع الاجتماعي بما يحمله من أفكار .
ولكن عبد الناصر الذي لم يبدأ بنظرية قد كان ـ بالضرورة ـ أكثر قبولا للتعلم من
التجربة من أصحاب النظريات . وفي حياته تجربة انسانية خصيبة لامتزاج التقدم الفكري
بالتقدم العملي . فقد أعطى التجربة أفكاره واسترد من التجربة أفكارا
أكثر نموا فعاد وأعطاها للتجربة ثم استرد منها .. وهكذا في عملية نمو فكري خصيبة
ما تزال في حاجة الى دراسات علمية مطولة . اذ لا شك في ان دراسة عبد الناصر المفكر
شيء أكثر لزوما وفائدة وصعوبة من دراسة أي مفكر آخر لم يتحمل بنفسه عبء وضع
أفكاره موضع التنفيذ . كما لا شك في ان دراسة عبد الناصر الثائر أكثر لزوما وفائدة
وصعوبة أيضا من دراسة أي ثائر كان قصارى دوره ان يغير ويطور وينفذ نظرية وضعت له
والتزم بها من قبل ان يثور .
على أي حال فان خصوبة التجربة ستبقى
مقصورة على ما تتيحه للدراسة من مجالات واسعة وخبرات هائلة في كيفية ابداع التصحيح
، خلال الممارسة ، من بين التجربة والخطأ . ولكن خصوبتها لن تطهرها من المعاناة
الفعلية لآثار التجريب في حياة الشعوب . وسيبقى الخطأ خطأ حتى لو لاحقه التصحيح .
وكلاهما محسوب على التجربة وصاحبها .
غير أننا لا نستطيع إلا أن نؤكد ما
أكده عبد الناصر نفسه في لقائه وفود المعلمين بالقاهرة يوم 26 يونيو 1956. قال : ”
ولكني أقول لكم إذا أخطأت في المستقبل فإنما يكون هذا الخطأ عن يقين وتأكد من أن
العمل في مصلحة مصر وفي مصلحة أبناء مصر” .
نؤكد هذا لأن الخطأ في التجربة ،
نتيجة لقصور في المنهج والنظرية ، لا يمكن أن ينال ، على أي وجه، من أن جمال
عبد الناصر قد عاش ومات ابناً باراً ومخلصاً إخلاصاً مطلقاً لشعبه وأمته . ويكفيه
نبلاً أنه لم يدع في أي وقت أنه يملك أكثر مما يملك فعلاً وهو كثير . وأنه لم
يخطىء قط إلا واعترف بالخطأ وبادر إلى تصحيحه بما يستطيع . فلقد كان ـ عليه رحمة
الله ـ أكثر الناس صدقاً مع نفسه وهي قمة الفضائل في الحاكمين .
أزمة المثقفين :
في 25 نوفمبر1961 كانت قد انقضت على
قيام الثورة تسع سنوات تقريباً ، ومع ذلك لم تكن الثورة قد امتلكت بعد منهجاً أو
نظرية . لماذا ؟ .. لا يكفي ، بعد تسع سنوات من التجربة والخطأ ، أن نعود فنسند
غياب النظرية إلى الأسباب التاريخية التي سبقت ثورة 1952 أو صاحبت قيامها. لماذا
إذن ؟
لنستمع ـ أولأ ـ إلى جواب عبد
الناصر على هذا السؤال الجوهري .
قال في ذلك اليوم ، 25 نوفمبر 1961،
” ما نقدرش نقول ان احنا عملنا نظرية . ويا جمال إعمل لنا نظرية. انتم اللي عليكم
تعملوا النظرية . المثقفين هم اللي عليهم يعملوا نظرية . يوم ما لاقي كتاب طالع عن
الاقتصاد بتاعنا والتجربة بتاعتنا أو إيه اللي يجب أن يحصل فيها بأشعر بأن هذا
الكتاب هو جزء كبير من النظرية “ .
على هذا الوجه حدد الرئيس الراحل
مسئولية البناء النظري للثورة وأسلوب هذا البناء . فمسئوليته تقع على عاتق
المثقفين .
والواقع أن هذا بديهي . ففي
مصر وفي غير مصر لا يمتلك القدرة اللازمة للبناء الفكري إلا المثقفون . بل انهم
يتميزون بصفتهم هذه تمييزاً لمقدرتهم تلك . غير أنه ينبغي الانتباه هنا إلى من كان
يعنيهم جمال عبد الناصر بالمثقفين .
في الحوار الذي دار يوم 9 أبريل
1963 في الاجتماع الخامس لمباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا اقترح
أحد أعضاء الوفد السوري التفرقة بين المثقفين الثوريين والمثقفين غير الثوريين .
فعلق الرئيس جمال عبد الناصر على تلك التفرقة وقال : ” فيه فرق بين المثقفين
والمتعلمين. يعني ممكن واحد متعلم يبقى بورجوازي .. ده ما اقدرش أقول عليه مثقف .
أنا بأقول عليه أنه متعلم وأستاذ كبير في أي فرع من فروع العلم .. يمكن .. لكن
المفروض بالمثقف أنه مثقف اجتماعياً . زي ما بتقول مثقف اجتماعياً .. لكن إذا
أطلقنا تعبير المثقفين على كل المتعلمين يبقى تعبيرنا بالنسبة لهذه
العمليات غلط“ .
خلاصة هذا أن عبد الناصر كان يرى أن
عبء البناء النظري للثورة يقع على عاتق المثقفين اجتماعياً ، وهو ما يمكن فهمه على
أنهم المثقفون النشطون في الحقل السياسي أو العاملون بالقضايا العامة .
أما عن كيفية أو أسلوب البناء
النظري فقد كان عبد الناصر يرى أنه تأصيل وتطوير ” التجربة بتاعتنا ” ولو من خلال
الدراسات التخصصية المقصورة كل منها على أحد المجالات أو بعضها . وهو يقول في
الميثاق ان : ” الثورة العربية وهي تواجه هذا !لعالم لا بد لها من أن تواجهه بفكر جديد لا يحبس نفسه في نظريات مغلقة يقيد
بها طاقته وان كان في نفس الوقت لا ينعزل عن التجارب الغنية التي حصلت عليها
الشعوب المناضلة بكفاحها “. ويقول : ” ان التسليم بوجود قوانين طبيعية للعمل
الاجتماعي ليس معناه القبول بالنظريات الجاهزة والاستغناء بها عن التجربة الوطنية
. أن الحلول الحقيقية لمشاكل أي شعب لا يمكن استيرادها من تجارب شعوب غيره .. ان
التجربة الوطنية لا تفترض مقدماً تخطئة جميع النظريات السابقة عليها أو تقطع برفض
الحلول التي توصل إليها غيرها فإن ذلك تعصب لا تقدر أن تتحمل تبعاته ، خصوصاً وإن
إرادة التغيير الاجتماعي في بداية ممارستها لمسئولياتها تجتاز فترة أشبه بالمراهقة
الفكرية تحتاج خلالها إلى كل زاد فكري . ولكنها في حاجة إلى أن تهضم كل زاد تحصل
عليه وان تمزجه بالعصارات الناتجة من خلاياها الحية “ .
وهو صريح في أن البناء الفكري
للثورة لا يكون بالانكفاء والاكتفاء ” بالتجربة بتاعتنا “، والرفض المتعصب للتراث
الفكري العالمي ، ولا يكون باستعارة أسس فكرية غريبة عن تجربتنا لنسند إليها تلك
التجربة ، ولكن باستيعاب التراث الفكري العالمي والتجربة الخاصة معاً كمقدمة
لإبداع فكري يكون خلاصة تفاعلهما الجدلي يقوم به .. ” المثقفون“ .
هذا ما كان يراه عبد الناصر حتى عام
1961.
فلماذا لم يقم المثقفون في مصر
بدورهم ذاك ؟
لأن معركة ضارية حول ” مشكلة
الديموقراطية في مصر ” كانت قد نشبت بين عبد الناصر قائد الثورة وجماعة المثقفين
. إنها المعركة التي عرفت باسم ” أزمة مارس ” .. والتي قال عنها عبد الناصر
فيما بعد (7 أبريل 1963) : ” احنا اجتزنا عقبات كثيرة قوي وقابلنا مراحل
أرادت الرجعية فيها أن تستولي على السلطة. وكانت أقرب
ما يكون أن تستولي على السلطة في سنة 1954.. وحصل تحالف بين الرجعية والشيوعية “ .
كل يغني على ليلاه :
نحن نعرف الآن أن الوجه السياسي
لعملة الرأسمالية هي الديموقراطية الليبرالية التي كانت ساثدة في مصر قبل الثورة .
وحين حددت الثورة أحد أهدافها في ” القضاء على سيطرة الرأسمالية على الحكم ” كانت
تتقدم ـ حتى بدون أن تدري ـ إلى مواقع الصدام مع الليبراليين وأفكارهم الخاصة
عن الديموقراطية أي مع مثقفي مرحلة ما قبل الثورة . نقول حتى بدون أن تدري
لأن الثورة لم تكن تدري فعلأ أن أولى معاركها الخطيرة ستكون مع أنصار الديموقراطية
الليبرالية . وقد كان للديموقراطية أنصارها التقليديون من الأحزاب وجماعات
المثقفين في مصر قبل الثورة . وكان بعض من هؤلاء المثقفين قد دافعوا دفاعاً مجيداً
وقدموا تضحيات فعلية في دفاعهم عن الدستور الليبرالي ضد الاستبداد الملكي .
وبالتالي فقد كان هؤلاء مع الثورة منذ البداية من أجل ” الديموقراطية ” كما
يفهمونها . أما بعد الثورة فقد أصبح للديموقراطية الليبرالية أنصار جدد مرحليون
أولئك هم الماركسيون . ولم تلبث المعركة أن نشبت فعلاً في أوائل مارس 1954.
بدأت المعركة في القمة ( مجلس قيادة
الثورة ) وامتدت الى الشعب فشارك فيها . أما في القمة فقد كان السؤال هو : استمرار
الثورة أم إعادة الحياة البرلمانية ؟ وكانت القرارات المختلفة والمتناقضة
التي ذكرناها من قبل تمثل المراحل المتتابعة لانتصار فريق على فريق .
في ذلك الصراع اختار الليبراليون
داخل مجلس الثورة ، ورمزهم محمد نجيب ، يساندهم رجال الأحزاب المنحلة وجماعات
المثقفين العودة إلى النظام البرلماني الليبرالي . وكانت حججهم المعلنة أن الثورة
وقد نجحت في القضاء على ” المفسدين ” للديموقراطية ( الملك والأقطاع ) فقد استنفدت
غايتها وعليها أن تنهي ذاتها لتعود الحياة الديموقراطية الليبرالية إلى استئناف
مسيرتها التي عوقها المفسدون. وان على مجلس قيادة الثورة وضباط القوات المسلحة أن
يعودوا إلى ثكناتهم لاستئناف دورهم في حماية الحدود وأن يسلموا السلطة إلى حزب
الأغلبية ( الوفد) . كانت تلك هي الحجة الظاهرة تساندها حجج خفية أهمها أن مجلس
قيادة الثورة نفسه لم يكن يملك في ذلك الوقت بديلا لحل مشكلة الديموقراطية في مصر
عن الحل الليبرالي . ولقد سبق أن أشرنا إلى ما وعدت به الثورة من عودة الحياة
الدستورية وإلى أنها كانت ترى في دستور 1923الليبرالي نموذجاً راقياً لنظام الحكم
الديموقراطي وإلى أن رؤيتها لمشكلة الديموقراطية في مصر كانت محصورة أو مقصورة على
من أفسدوا النظام وليس على فساد النظام نفسه . يضاف إلى هذا ان الأحزاب كانت قد
قبلت شروط الثورة فاستغنت عن بعض قياداتها وأعادت صياغة برامجها قبل أن تلغيها
الثورة . يضاف إليه النظرة المتعالية التي كان ينظر بها المثقفون الليبراليون
وقادة الأحزاب السابقة إلى ” شوية الضباط ” صغار السن غير المعروفين من الشعب
المجردين من الخبرة حتى لو كانوا غير مجردين من الإخلاص … الخ .
كان أولئك انصاراً تقليديين
للديموقراطية الليبرالية .
أما الأنصار المرحليون فكان يمثلهم
في مجلس قيادة الثورة خالد محي الدين يسانده الماركسيون ( رشح محمد نجيب
اليميني خالد محي الدين اليساري ، في أزمة مارس 1954، ليكون رئيساً للوزراء في مقابل
انهاء الثورة) . أما لماذا انحاز الماركسيون إلى الليبراليين فلأنهم لم يكونوا من
القوة بحيث يفرضون مذهبهم التقليدي في ديكتاتورية البروليتاريا أو مذهبهم المتطور
في الديموقراطية الشعبية فانحازوا إلى الليبراليين على أساس ان الليبرالية ـ كما
اعتقدوا ـ ستتيح لهم فرصة أكبر لتعميق التناقضات الطبقية وتعبئة الجماهير تحت
قيادة الطبقة العاملة للاستيلاء في النهاية على السلطة . وكما هي العادة كانت هناك
أسباب مساعدة منها أن تطوراً سابقاً كان قد حدث في حزب الوفد نفسه فأصبح يضم
جناحاً شبابياً متنامياً يتجه بإطراد إلى اليسار وبالتالي يقترب بإطراد أيضاً من
الماركسيين أو جناحهم الأيمن . وقد تعاون الجناحان من قبل في مواقف عدة أهمها
المظاهرات الطلابية التي قامت عام 1946 وأسقطت مشروع الأتفاق مع إنجلترا المسمى
مشروع صدقي ـ بيفن . وقد تعرض الطلاب في ذلك الوقت لعنف بالغ استحق بسببه يوم 21
فبراير 1946 أن يكون يوم الطلاب العالمي كما استحقت أحداث شيكاغو يوم 30 مايو سنة 1886 أن يكون يوم أول مايو عيد العمال
العالمي . المهم أن المواقف المشتركة بين الماركسيين و الجناح الشبابي في الوفد ،
واقتران عودة الليبرالية بعودة الوفد كانا ـ في تقدير الماركسيين ـ مبرراً كافياً
أو مساعداً لانحيازهم إلى أنهاء الثورة وعودة الليبرالية .
يضاف إلى هذا سبب تاريخي لا بد من
الإشارة إليه . ذلك ان الماركسيين كانوا قد انتهوا قبل الثورة ، من تحليلهم النظري
، وعلى ضوء الانقلابات العسكرية التي حدثت في سورية بفعل المخابرات المركزية
الأميركية إلى أن انقلاباً عسكرياً أمريكياً مشابهاً متوقعاً في مصر . فما
أن قامت الثورة بقيادة الضباط الأحرار حتى وقفوا منها الموقف الذي كانوا يدخرونه
للانقلاب الذي كانوا يتوقعونه وقد انقضت سنون طويلة قبل أن يدركوا الخطأ الجسيم
الذي ارتكبوه عندما راهنوا بكل ما يملكون على جواد النظرية .
أياً ما كان الأمر فإن الماركسيين
عامة قد تبنوا ، في أزمة مارس 1954، الموقف الليبرالي وأصبح الصراع حول مشكلة
الديموقراطية في مصر قائماً بين الليبراليين والثوريين . فأي الفريقين كان
ديموقراطياً ؟
كلاهما !!!
الأولون كانوا ديموقراطيين بالمفهوم
الليبرالي للديموقراطية .
والآخرون كانوا ديموقراطيين
بالمفهوم الشعبي للديموقراطية .
الأولون انحازوا إلى القلة الممتازة
الحاضرة . إلى أنفسهم . والآخرون انحازوا إلى الأغلبية المسحوقة الغائبة .
إلى الشعب .
هذا على مستوى التفسير النظري حتى
لو كان غامضاً ، ولكن يمكن إستخلاصه بسهولة من فكرة المساواة التي كانت حجة عبد
الناصر الأساسية في أزمة مارس . المساواة بين الأقلية الممتازة والأغلبية
المسحوقة، إذ ان المساواة هنا تعبر عن موقف ” منحاز إلى المسحوقين . قال عبد
الناصر في احتفال رابطة سائقي القطارات يوم 31 مارس 1954 : ” انني أعتقد
جازماً بأن الثورة بدأت تحقق أهم أهدافها الرئيسية في المساواة بين أبناء
هذا البلد الذي كانت تتحكم فيه قلة في الماضي .. كان في البلد 18 مليوناً ليس لهم
حزب والباقي إما مخدوعون وإما مغلوبون على أمرهم وإما مضللون . ” وقال في نادي
رجال الإدارة ؟ مساء يوم 15 أبريل 1954 : ” أنتم كرجال أتيحت لكم الفرصة لكي
تأخذوا حظكم من التعليم ولكن هناك 18 مليوناً لم ينالوا هذا الحظ ويجب أن ننظر إلى
أولئك الذين لم تتح لهم الفرصة لنأخذ بيدهم ” .
أما على المستوى الواقعي ، نعني
واقع مصر عند قيام الثورة ، فإن الأولين لم يكونوا ديموقراطيين بأي معنى
وكان الثوار وحدهم هم الديموقراطيين . ذلك لأن القلة الممتازة التي انحاز
اليهما الليبراليون لم تكن تعاني من أية مشكلة ديموقراطية . فهي قادرة فكراً
وعلماً وخبرة ومالاً على ممارسة حقوقها السياسية . وقد استنفذت ثلاثين عاماً قبل
الثورة وهي تمارسها . الذي كان يعاني مشكلة ديموقراطية حقيقية هو الشعب ، أغلبية
الشعب ، الراكد الغائب الضعيف المستضعف المحكوم بدون أي أمل في أن يشارك في الحكم
. وكان اختيار الليبراليين العودة إلى نظام ما قبل الثورة يعتي تماماً ابقاء مشكلة
الديموقراطية في مصر بدون حل . وكان موقف الثوريين ( أنصار استمرار الثورة) يتضمن
، كحد أدنى ، معرفة صحيحة باين تقع مشكلة الديموقراطية في مصر، وإرادة متمسكة
بضرورة حلها ، حتى لو لم يكونوا في ذلك الوقت عارفين على وجه التحديد العلمي كيف
تحل .
تحيا الحرية .. تسقط الحرية !!
ولقد كان الصراع في الشارع المصري
أكثر تحديداً ووضوحاً في الصراع في القمة . أبطال الليبرالية من المثقفين والكتاب
والصحفيين و المهنيين ورجال الأحزاب .. إلى آخرهم احتشدوا في مبنى نقابة المحامين
وأعلنوا انتهاء الثورة التي لم يقوموا بها وعودة الضباط إلى ثكناتهم وتسليم السلطة إلى المدنيين . يعنون أنفسهم .
أما العمال ( النقل العام خاصة) فقد
احتشدوا في الشوارع يعلنون تمسكهم باستمرار الثورة ويهتفون بأعلى أصواتهم ”
تسقط الحرية ” .. ” يسقط المحامون الجهلة “!! و نشهد أن الهتاف قد استفزنا حتى
كدنا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة تحديدا للعمال الأشداء . فقد كنا شباباً ندعي
الثقافة وكان هتاف العمال بسقوط الحرية يتحدى كل الأفكار المنمقة الرومانسية
الجميلة التي تعلمناها في الكتب . وكنا من بين القلة القليلة من المحامين
الشبان الذين دافعوا عن استمرار الثورة في مقر نقابتهم وتعرضوا لموقف يكاد يكون
جماعياً يتراوح بين السخرية بهم والإشمئزاز منهم ومع ذلك فإن العمال لم يفرقوا
وهتفوا بجهل المحامين كافة .
ولكنا الآن بعد قدر من النضج ولو
بحكم السن إن لم يكن بحكم العلم والتعلم نتذكر فنسأل : ما هي الحرية التي هتف
العمال بسقوطها في مارس 1954 ؟ .. ونجيب : انها ذات الحرية التي رفع الليبراليون
الويتها الممزقة في مجلس قيادة الثورة أو في مبنى نقابة المحامين . انها الحرية
التي نصلي الآن كل يوم داعين الله أن يسقطها في كل مكان في العالم ” .
( لم نعد نستطيع إلا الصلاة ) انها الحرية بمفهومها الليبرالي : عدم تدخل
الدولة وترك المنافسة الحرة تصفي حسابات البشر كما يحدث بين الوحوش في
الغابات ، وتحدد أسعار السلع . والعمال في الاقتصاد الليبرالي ليسوا إلا سلعاً
تباع وتشترى ويخضع ثمنها (الأجر) للمضاربة في سوق العمل . وكما تلقى السلع
المستهلكة في صناديق القمامة يلقي البشر غير المرغوب فيهم أو العاجزون عن العمل
على الأرصفة . ليموتوا أو يسرقوا أو يتسولوا.. ولقد كان المتسولون من المعالم
الرئيسية لشوارع مدينة القاهرة قبل الثورة . إلى درجة أنه حين تحسب المواقف التي
مهدت الثورة تحتل مكاناً منها صورة نشرتها مجلة ” الاشتراكية ” التي كان يصدرها
الأستاذ أحمد حسين تتضمن عدداً من المتسولين تحت عنوان واحد : ” هؤلاء رعاياك يا
مولاي ” . كيف يمكن أن ننسى ؟ نهايته .
ولقد كان وراء موقف العمال في مارس
1954 أنهم كانوا قد تلقوا من الثورة القانون 165 لسنة 1953 الذي حرم فصلهم من
العمل بدون مبرر وقضى لمن يفصل تعسفياً بأن يوقف قرار فصلة على وجه الاستعجال وان
يدفع له راتبه حتى لو لم يقبل رب العمل إعادته إلى عمله . وتلقوا من الثورة قرارها
الصادر يوم 16 أبريل بعدم جواز توقيع أكثر من عقوبة واحدة عن المخالفة الواحدة
وعدم جواز الجمع بين أية عقوبة واقتطاع جزء من الأجر . وكان إنقاص الأجر عن طريق
توقيع عقوبات الخصم منه هي ” الهواية المفضلة ” لأصحاب الأعمال يمارسونها بدون
رقابة إدارية أو قضائية. وكان العمال في مارس 1954 قد تلقوا من الثورة القانون رقم
244 لسنة 1953 بحصر كل العمال العاطلين في مصر وإنشاء سجل لهم وتشغيلهم وإلزام
أصحاب الأعمال بالإبلاغ عن طلبات العمل ومنع الوساطة وكفالة الدولة لمصروفات نقل
العامل وأسرته من محل إقامته إلى حيث يقدم إليه العمل .
باختصار كان العمال في ذلك الوقت ،
مارس 1954، قد بدأوا يلمسون ، لأول مرة في تاريخ مصر، ” الحرية ” المتحققة لهم
بتدخل الدولة لحمايتهم من الفصل والاستغلال والبطالة فبدأو يدركون زيف ”
الحرية ” الموهومة حين لا تتدخل الدولة في علاقات العمل . حرية التعاقد
وحرية الفصل وحرية تحديد الأجر وحرية الاقتطاع منه .
ومن واقع الدفاع عن حريتهم هتفوا بسقوط حرية الليبراليين . وكانوا في ذلك
أكثر ديموقراطية من أنصار الردة في مجلس قيادة الثورة وأنصار الليبرالية من
المحتشدين في نقابة المحامين لأنهم كانوا أكثر منهم واقعية . ونندم على أننا في
يوم من أيام الشباب لم نفهم لغة الشعب الذي ننتمي إليه فلم نعرف كم كانت
صادقة التعبير عن الحقائق الاجتماعية . وقد كان من الحقائق الاجتماعية في مارس
1954 ان المحتشدين في مبنى نقابة المحامين كانوا ” يجهلون ” فعلاً مشكلة
الديموقراطية كما يعانيها العمال .
ثم نعجب إلى حد الدهشة ممن وضعوا
أنفسهم في مقاعد التقدمية ثم كتبوا ذكرياتهم عن تلك المرحلة ، أو سودوا ما توهموا
انه تاريخها فقالوا ان الصراع كان يدور في القمة بين الديموقراطيين وأنصار
الديكتاتورية ، وهذا صحيح ، ثم أخطأوا خطأ فاحشاً فقالوا أن دعاة انهاء
الثورة والعودة إلى الليبرالية وأحزابها كانوا هم الديموقراطيين . كأن
الديموقراطية ، كلمة تقال وليست حرية مكتسبة . كأن الديموقراطية هي حكم الأقلية
وليس حكم الأغلبية “. كأن ثورة 23 يوليو 1952 ما قامت إذ قامت إلا من أجل أن
يستأنف حزب الوفد وأحزاب مدرسة ” حزب الأمة ” حكمها الشعب العربى في مصر بعد اكثر من سبعين
عاماً من تحالفها ضد الخط الوطني الثوري وبعد ثلاثين عاما من ممارستها الفاشلة
للديموقراطية الليبرالية في مصر .
هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً :
كان عبد الناصر في ذروة الصراع في
مجلس قيادة الثورة قد استقال . وكانت حجته في ذلك ديموقراطية . لقد اختارت
الأغلبية انهاء الثورة وكان هو مع استمرارها . وكان على الأقلية أن تخضع لرأي
الأغلبية . وعبد الناصر لا يريد أن يخضع ويريد في الوقت ذاته أن يبقى ديموقراطياً فوجد الحل في الانسحاب . هذا الموقف لا بد أن
نتذكره لأننا سنعود إلى دلالته فيما بعد . يهمنا هنا أن ننبه إلى أن قبول رأي
الأغلبية حتى في المسائل المبدئية موقف ديموقراطي ليبرالي . ولكن رفض الخضوع لرأي
الأغلبية والانسحاب ليس موقفاً ليبرالياً . وموقف عبد الناصر بشقيه ـ يعتبر ـ
مؤشراً واضح الدلالة على أن عبد الناصر في ذلك الوقت لم يكن قد كوّن رأياً
قاطعاً في الديموقراطية الليبرالية . لم يكن يرفضها تماماً ولم يكن يقبلها
تماماً . وسيكون لهذا الموقف دلالات أخرى وآثار عميقة فيما يأتي من صراع بين عبد
الناصر ومشكلة الديموقراطية .
نكتفي الآن بالقول بأنه وقد حسم
الصراع في الشارع فقد عاد عبد الناصر الى موقعه من قيادة الثورة . وسقطت كل
القرارات التي صدرت في 5 مارس 1954 : اتخاذ الاجراءات فوراً لعقد جمعية تأسيسية
تنتخب عن طريق الاقتراع العام المباشر على أن تجتمع خلال شهر يوليو 1954
وتكون مهمتها الأولى مناقشة مشروع الدستور الجديد وإقراره . والثانية القيام بمهمة
البرلمان إلى الوقت الذي يتم فيه عقد البرلمان الجديد . وبقي قرار 13 يناير 1953
بتشكيل لجنة وضع الدستور وقرار 16 يناير 1953 بإلغاء الأحزاب وتحديد فترة انتقال
لمدة ثلاث سنوات .
ومنذ ذلك الوقت ، منذ مارس 1954،
أولت الثورة ظهرها لليبراليين ولم تثق في مثقفي الليبرالية ودعاتها ولا في
الماركسيين قط بعد مارس 1954 ولسنين طويلة . ولم يثق فيها أولئك المثقفون بدورهم
وقامت تلك القطيعة التي استمرت عشر سنوات تقريباً . ولقد كانت ذات آثار خطيرة على
مشكلة الديموقراطية في مصر وعلى مقدرة الثورة وقيادتها على حلها وذلك من نواح عدة :
أولاً : إن المثقفين في مصر لم يقوموا بدورهم التاريخي
في البناء النظري للثورة وهو الدور الذي لم ينكره عليهم عبد الناصر قط ولم يدعه
لنفسه من دونهم قط فبقي بدون إنجاز لمدة طالت أكثر مما يجب .
ثانياً : إن أسلوب التجربة والخطأ قد استمر يحكم موقف
عبد الناصر في معالجته مشكلة الديموقراطية في مصر أكثر من تسع سنوات بعد قيام
الثورة .
ثالثاً : إن الثورة قد اعتمدت في إدارة الدولة وإنجاز
مشروعات التنمية ـ بدلاً من المثقفين الذين قاطعوها وقاطعتهم ـ على التكنوقراطيين
البيروقراطيين الذين لم يلبثوا أن تحولوا إلى طبقة جديدة ، عازلة تحيط بقيادة
الثورة . وهي طبقة بحكم تكوينها ومصالحها تعتبر من أعدى أعداء الديموقراطية لا في
مصر وحدها ولكن في كل العالم وفي كل النظم . وسيستنفد عبد الناصرقدراً كبيراً من
جهده ومن فترة حكمه في محاولات حل التناقض بين الثورة ومضامينها المتطورة وبين
الطبقة البيروقراطية المعادية للثورة واتجاهها غير الديموقراطي ، والتي لا تستطيع
الثورة ـ في الوقت نفسه ـ الاستغناء عنها لأنها كانت البديل الوحيد المتاح بعد
مقاطعة المثقفين للثورة أو مقاطعة الثورة للمثقفين على أثر أزمة مارس 1954.
ويقول كثير من الذين يؤرخون لأزمة
مارس 1954 إن الديكتاتورية قد انتصرت في تلك الأزمة على الديموقراطية وإن عبد
الناصر قد أصبح منذ ذلك التاريخ ديكتاتوراً صريحاً ، ولهم على ذلك شواهد عدة. فهل
كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟
6 ـ تحرير ا لفلاحين :
فذلكة فكرية :
الحديث عن غائب إلى غائبين صعب إذا
صاحبه شعور قوي بالمسئولية . حينئذ لا يبرز الحديث إلا بعد أن يشق له طريقاً وعراً
خلال ركام من الأسئلة التي يتصور المتحدث أنها ثائرة أو يمكن أن تثور في اذهان
الذين يتحدث إليهم . ويكون عليه أن يجعل من الحديث حواراً من طرف واحد وهو أمر
عسير . أو يكون عليه أن يقاوم ـ بصعوبة أيضاً ـ اغراء الهرب المريح من أسئلة يتصور
أنها تحاصره وان كان لا يعرف أصحابها . والهرب هنا سهل أيضآ بالنسبة للطرفين . ما
على المتحدث إلا أن يتجاهل تصوراته ويستمر في الحديث كما لو كان يتحدث إلى نفسه .
وما على القارىء إلا أن يكف عن قراءة حديث لا يشعر بأنه موجه إليه ما دام
يتجاهل أسئلة يثيرها في ذهنه . فتكون قطيعة سهلة ولكنها مجردة من الشعور
بالمسئولية .
هناك مصدر آخر لصعوبة الحديث عن
غائب إلى غائبين . ذلك هو أن لكل حديث موضوعاً ينبغي أن يلتزم حدوده . ولما كان كل
موضوع ، وأي موضوع ، ذا صلة بموضوعات أخرى فإن الاستجابة إلى تداعي المعاني أو
الرغبة المشروعة في أن يجيب الحديث على كل الأسئلة التي يمكن أن يثيرها الموضوع هي
إستجابة مغامرة . إذ أنها تتضمن مخاطر تجاوز حدود موضوع الحديث ليصبح ” دردشة ” في
موضوعات غير محددة وهو عقيم .
نحن لا نريد هرباً أو قطيعة أو
دردشة فما العمل ؟
لا بد من الانتقاء . نواجه الأسثلة
التي نكاد نوقن بأنها ، في مكان ما، قد ثارت ولا ينبغي تجاهلها لأنها وثيقة الصلة
بسياق الحديث . ونعتذر عن الإجابة على الأسئلة التي قد تثور وتستحق الإجابة عليها
في حديث آخر.
ولقد خطر لنا كل هذا حين انتهينا في
حلقة سابقة من هذا الحديث إلى انتماء ثورة 23 يوليو وقائدها جمال عبد الناصر إلى
الخط الوطني الثوري الذي بدأه أحمد عرابي . وتجسمت لنا مصاعب الحديث إلى غائبين
حين ركزنا تركيزاً قوياً على هذا الانتماء السياسي ورجونا القراء ألا ينسوه
. حينئذ خطر لنا أنه في مكان ما قد ثار سؤال عاطف أو عاصف أو ممتعض يمكن أن تكون
صيغته : ” لماذا هذا التركيز على الانتماء السياسي لثورة 23 يوليو وعبد الناصر؟
وما قيمته العلمية “ ؟ ان المقياس العلمي للانتماء هو الانتماء الطبقي ، وليس
الموقف السياسي إلا انعكاساً له ، ولقد كان أجدر وأجدى أن يقول لنا صاحب الحديث
إلى أية طبقة كان ينتمي الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر لنستطيع ـ بدون عناء ـ أن
نفهم ونفسر ونبرر مواقفهم السياسية من كافة القضايا بما فيها قضية الديموقراطية ؟
سؤال جاد لا مهرب منه .
ومع ذلك فإن الإجابة ” الوافية ”
عليه تخرج بنا، حتماً ، من نطاق موضوع حديثنا إلى مجالات فكرية مجردة تكاد تكون
غير محدودة . ذلك أن الطريق إلى الإجابة عليه يعبر بسؤال قبله يمكن أن تكون صيغته :
ما هي العلاقة بين الموقع الاجتماعي والموقع السياسي لكل إنسان على حدة ؟….
وهذا السؤال يسبقه سؤال : ما هي العلاقة بين الموضوع والذات ؟.. و هذا يسبقه سؤال
: ما هي العلاقة بين العيني والمجرد ؟ .. وهذا يسبقه سؤال : ما هي العلاقة بين
المادة والفكر؟..
و نكاد نخرج من الموضوع ومع ذلك لا
مهرب .
فنقول بإختصار.. ونترك التفاصيل في
المراجع لمن يريد.. ان مقولات كثيرة مثل : ” أن حركة الفكر ليست إلا انعكاساً
لحركة المادة منقولة إلى دماغ الإنسان ” (ماركس) أو : ” ليس وعي الناس هو الذي
يحدد وجودهم، بالعكس فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ” (ماركس) .. قد أصبحت حتى عند أصحابها مقولات تقليدية .
ولقد كان من شأن التسليم بصحة تلك
المقولات أن يكون الموقف السياسي انعكاساً للموقع الطبقي حتماً ..
ولكن ـ كما قلنا ـ أصبحت مقولات تقليدية . فمن قبل أعتذر أحد صاحبي هذه
المقولات بقوله : ” لقد كنا، ماركس وأنا ، مسئولين جزئياً عن تركيز الشباب على
الجانب الاقتصادي تركيزاً أكثر مما يستحقه . لقد كان لا بد لنا ، نحن من أن
نركز على المبدأ الأساسي في مواجهة معارضينا الذين ينكرونه . ولم يكن يتوافر لنا
دائماً ، الوقت والمكان والفرصة المناسبة لنسمح للعناصر الأخرى بالتدخل في التأثير
المتبادل بالقدر الذي تستحقه ” (انجلز) . ومن بعده قال واحد من كبار ثوار التاريخ يصحح
من واقع التجربة نظريته : ” ان عقل الإنسان لا يعكس العالم الواقعي فحسب بل يخلقه
” . والان يقولون ” إن المعرفة ليست مجرد انعكاس للموضوع المدرك وإنما هي أيضاً
خلق جديد وتغيير لحالته بهدف تلبية احتياجات الإنسان. إن نظرية الأستجابة السلبية
والمدخل الانعكاسي السلبي تجاه المعرفة لا يروح لها إلا العوام وبعض الفلاسفة
الذين يتصورون أنفسهم ماديين دياكتيكيين . ذلك أن هذه النظرية تتصور الذات العارفة
، لا على أنها فاعلة وخلاقة، ولا على أنها هادفة الى تحقيق إرادتها ورغبتها ، ولا
على أن منشئها المجتمع بل ان هذه النظرية تلحق هذه الصفات كلها بموضوع المعرفة ومن
ثم فإن الذات العارفة تنحول من كونها محددة ومحركة لعملية المعرفة إلى كونها محددة
من قبل الموضوع المعروف . وهكذا تتحول العلاقة المعرفية إلى علاقة شيئية ، علاقة
بين أشياء (دبوفاسكوي وشيلين) .
وخلاصة هذا أن العيني لم يعد وحده
الذي يحدد المجرد ، وان الموضوعي لم يعد هو وحده الذي يحدد الذاتي وان … الانتماء
الطبقي لم يعد هو وحده الذي يحدد الموقف السياسي . وبالتالي فاننا لا نستطيع أن
نعرف أو نفهم أو نفسر الموقف السياسي لعبد الناصر ـ مثلأ ـ على ضوء موقعه الطبقي
وحده . وذلك لأن ” بين نقطة البداية ونقطة النهاية ثمة عمليات بيولوجية ونفسية و
اجتماعية ” كما يقولون الآن (النيكف) وهي أقوال تصوغ حصيلة الممارسة. تلك الممارسة
التي حملت أبناء ” البورجوازية ” من أمثال ماركس (دكتور في الفلسفة) وانجلز ( رجل
أعمال ) ولينين ( دكتور في القانون) وماو وتسي تونغ (أديب وشاعر رومانتيكي) .. إلى
آخرهم ، من مواقعهم الطبقية إلى مراكز القيادة السياسية للطبقة العاملة .. وهي
الممارسة التي حملت أحمد عرابي ( فلاح مجند) ، ومصطفى كامل (محام) ومحمد
فريد (اقطاعي أنفق كل ثروته على الحركة الوطنية ومات معدماً) .. من مواقعهم
الطبقية المختلفة إلى موقف سياسي واحد في مركز القيادة للخط الثوري الوطني في مصر .
لذلك نترك الانتماء الطبقي لمن يريد
أن يبحث عن انعكاسه في الموقف السياسي لعبد الناصر ونكتفي بموقفه السياسي لأن ذلك
هو الموقف الذي اختاره وتعامل منه مع مشكلة الديموقراطية في مصر وهو ما يهمنا في
حدود هذا الحديث .
وقبل أن نعتذر عن الاختصار في
الإجابة لأصحاب النظريات نضع أمامهم هذه الحقيقة الاجتماعية مادة يستطيعون أن ”
يحللوها ” كما يشاؤن : ان جمال عبد الناصر ينتمي إلى قرية ” بني مر ” في صعيد مصر.
ولكنه لم يكن فلاحاً ، و لا كان ابن فلاح ، ولا عاش مع الفلاحين ، وما كان هو أو
والده أو أعمامه أطرافاً في علاقة إنتاج زراعية ، ولم تكن ” بني مر ” بالنسبة إلى
عبد الناصر إلا قرية مثل كل قرى مصر، وقد نشأ وشب وتعلم وناضل ومات ، وهو ينتمي
إلى أبناء الموظفين سكان المدن .
ومع ذلك ، أو ـ اذا أردتم ـ بالرغم
من ذلك …
فإن تحرير الفلاحين من القهر
الاقتصادي والاجتماعي والسياسى الذي كانوا يعانونه كان أوضح أهداف عبد الناصر منذ
أن قامت الثورة إلى أن انتقل إلى جوار ربه . كما أن أوضح جوانب مشكلة الديموقراطية
في مصر، في وعي عبد الناصر، كان الجانب المتصل بالحقوق السياسية للفلاحين .. وكانت نسبة متفوقة من كل انجازات عبد الناصر
موجهة بالدرجة الأولى إلى الفلاحين … بحيث لو أردنا أن نختار عنواناً ، لثورة 23
يوليو لكان أقرب العناوين إلى حقيقتها انها ثورة تحرير الفلاحين في مصر…
الاصلاح الزراعي :
كان الهدف الأول ، الأكثر وضوحاً ،
لثورة 23 يوليو هو تحرير الفلاحين . ومن أجله صدر قانون الإصلاح الزراعي يوم 9
سبتمبر 1952، أي بعد شهر ونصف من قيام الثورة . ولقد كان تحديد الملكية الزراعية
هو التحدي الظاهر الذي واجهت به الثورة الأحزاب فرفضته . قال عبد الناصر في
المؤتمر الشعبي الذي انعقد في الأسكندرية يوم 26 يوليو 1955 !؟ ” منذ أول يوم من
أيام الثورة قلنا لهم إذا أردتم فعلأ أن تحققوا الحرية التي طالما طالبتم بها
وناديتم بها لهذا الشعب ، هذا الشعب الطيب الذي خدعتموه تحت إسم الحرية..
فلتوافقوا ولتعلنوا معنا القضاء على الاقطاع ولتعلنوا تحديد الملكية “ .
ومنذ أن صدر قانون الإصلاح الزراعي
لم تتوقف دراسته ونقده وتعديله والإضافة إليه .
ولقد أنصبت أغلب الدراسات على جانبه
الاقتصادي وبلغ التحيز ضده إلى حد اسناد كثير من متاعب الإنتاج الزراعي إليه .
وبلغ التحيز اليه حد القول بأنه قانون اشتراكي . والواقع كما نراه أن قانون
الإصلاح الزراعي لا يستمد أهميته من علاقته بالاقتصاد لأنه لم يصدر من أجل زيادة
الإنتاج . ولا من علاقته بالنظام الاشتراكي لأنه لم يغير من علاقات الإنتاج . و
لكنه ـ إذا صح رأينا ـ القانون الديموقراطي الأول في تاريخ مصر الحديث . ذلك لأنه
يتضمن محاولة لحل مشكلة الديموقراطية بالنسبة لأغلبية الشعب من الفلاحين . ولقد
اتجهت تلك المحاولة اتجاهين : اتجاهاً إلى الإقطاعيين بالحد من
قوتهم وكسر شوكتهم ، وتحطيم ما تراكم لهم من هيبة طاغية في الريف . والاتجاه
الثاني إلى الفلاحين لخلخلة القيود التي تكبلهم وتشجيعهم على ” التمرد
” أو الفكاك من التبعية وتدريبهم على الجرأة على تحدي استغلال الملاك وهيبة
الاقطاعيين .
و لقد كان الاتجاه الأول محدود
الأثر اقتصادياً و ديموقراطياً ، فقصارى ما أصاب الاقطاعيين أن نزل بالحد
الأقصى لملكية الفرد منهم إلى مائتي فدان . فلما احتالوا على الحد فوزعوا ما
يملكون على أفراد أسرهم لكل منهم مائتا فدان صدر القانون رقم 34 لسنة 1958 أي بعد
خمس سنوات كاملة من قيام الثورة يقضي بألا يزيد ما يمتلكه الشخص هو وزوجته وأولاده
القصر عن ثلاثمائة فدان . ولقد كان أثر هذا التحديد تافهاً لأسباب كثيرة .
منها انه ، بالنسبة إلى ضيق المساحة
المزروعة في مصر وكثافة السكان في الريف وتدني مستوى المعيشة، كانت الثلاثمائة
فدان أو المائتان أوحتى المائة كافية وأكثر من كافية للإبقاء على سيطرة الملاك على
الأغلبية الساحقة من سكان الريف المعدمين أو شبه المعدمين . لأن التبعية تتوقف على
العلاقة النسبية بين طرفيها، ومهما كان من أثر تحديد الملكية بالنسبة الى الملاك
فإنه لم يغير شيئاً من موقع التابعين .
ومنها أن السيطرة الاقتصادية كانت
قد تحولت الى سيطرة اجتماعية ونفسية وإخلاقية أيضا ، كانت تلك السيطرة قد أصبحت
مقبولة اجتماعياً ونفسيا وأخلاقيا وتحولت إلى ” قيم وأخلاق وسلوك القرية ” كما
ذكرنا من قبل . ولم يكن من شأن تحديد الملكية على الوجه الذي جاء به القانون أضعاف
هذه السيطرة القبلية أو غيرها من القيم القروية البالية. فبالرغم من أن الفلاحين
قد وقفوا ” يتفرجون ” على مملكة الاقطاعيين تنتهك وهيبتهم تجرح وقصورهم تقتحم
وفائض أطيانهم يسترد ورأوا الطغاة يشكون ” ويتمسكنون ” ، إلا أن الأمر سرعان ما
عاد ببعضهم إلى ما كان عليه وبلغ الأمر حد أن بعض الفلاحين لم يصدقوا أنهم قد
أصبحوا ملاكاً لأراضي سادتهم فكانوا يحملون إليهم المحاصيل خفية .
ومنها ، أخيراً ، وربما أهمها، أن
تحديد الملكية لم يمس إلا شريحة ضئيلة من الملاك لا تزيد عن ألفي شخص هم أصحاب
الملكيات الواسعة . أولئك كانوا في الواقع قد تحولوا من إقطاعيين إلى رأسماليين
زراعيين ، وأصبحت ممتلكاتهم مزارع متقدمة الأدوات مخصصة لانتاج البضائع الزراعية
من أجل المضاربة في السوق . وكان جلّهم قد قطعوا علاقتهم بالقرى وأقاموا في
المدن وتولى وكلاؤهم و عملاؤهم مهمة إدارة تلك الممتلكات وممارسة الجانب القهري في
علاقتهم المباشرة مع الفلاحين . ولكن القانون لم يمس شريحة أعرض من الملاك
يبلغ عددها 64822 وهم الذين يملكون ما بين خمسة أفدنة ومائتي فدان ويواجهون ـ في
ساحة الصراع الاجتماعي في الريف ـ ثلاثة ملايين ونصف مليون تقريباً ممن يملكون أقل
من خمسة أفدنة والمعدمين وأسرهم .
هذه الشريحة تعتبر موضوعياً أعدى
أعداء تحرر الفلاحين لأنهم هم الذين يقومون بدور الوسطاء والمقاولين بين
الاقطاعيين والفلاحين . وهم الذين يضاربون على الأرض بيعاً وشراء ورهناً .
وهم المرابون الذين يتخذون من الأقراض بالربا وسيلة ناجحة للاستحواذ على مزيد من
الأرض . وهم الذين يضاربون على حاجة الفلاح إلى الأرض فيرفعون الإيجار ويشتركون
بالمزارعة في المحصول ويقدمون الخدمات الزراعية إلى الفلاحين بأثمان باهظة ثم
يطردون المستأجرين ليعيدوا تأجير أرضهم وأرض الإقطاعيين للحصول على مزيد من عرق
الفلاحين . وهم الأقرب إلى السلطات المحلية فهم الذين يستعدونها ويرشونها و
يستخدمونها في قهر الفلاحين . وأخيراً هم وسطاء الانتخابات الذين كانوا يبيعون
الاصوات صفقات أو صفقة واحدة في كل قرية …
هذه الشريحة المفسدة لم تتاثر
بتحديد الملكية، بالعكس ، لقد كانوا هم أنفسهم ” أعياناً ” من الدرجة الثانية
فأصبحوا ” أعياناً ” من الدرجة الأولى ، كانوا وسطاء للسادة فاحتلوا المواقع التي
خلت وأصبحوا هم السادة ولم يكن ينقصهم التدريب على قهر الفلاحين وإذلالهم .. وسنرى فيما بعد كيف أفسدت هذه الشريحة كل ما
كان مأمولاً من قانون الاصلاح الزراعي إقتصادياً وديموقراطياً .
هذا عن الاتجاه الأول : تحديد
الملكية .
الوجه الديموقراطي :
الاتجاه الثاني، الذي لا توليه
الدراسات اهتماماً كبيراً ، كان أكثر أثراً في حل مشكلة الديموقراطية في ريف مصر .
ذلك لأن القانون قد أنصب فيه على علاقة
الفلاحين بالملاك عموماً سواء كانوا اقطاعيين أو غير اقطاعيين . وحاول أن يحررهم
مما يخشاه الفلاح خشية الموت ونعني به فقدان الأرض التي يزرعها . فجاء القانون
وحرم تأجير الأرض إلا لمن يزرعها . وبذلك قضى على طائفة الوسطاء الذين كانوا
يستأجرون الأرض الزراعية ليعيدوا تأجيرها من الباطن لمن يزرعها مستفيدين بفارق
الأسعار التي يقبلونها أو يفرضونها . ثم حدد القيمة الإيجارية بسبعة أمثال الضريبة
الأصلية المروبطة عليها . مع ابقاء عبء الضريبة على المالك . وبذلك حرم المضاربة
على الانتفاع بالأرض واستغلال حاجة الفلاحين لفرض إيجارات باهظة وعطل قانون
المنافسة الحرة بين الفلاحين من أجل الحصول على الأرض، تلك المنافسة التي كانت
تزيد من أعبائهم المالية وتزيد من تبعيتهم للملاك أيضاً . ثم أوجب القانون أن يكون
عقد الإيجار ثابتاً بالكتابة حتى يستطيع أن ” يضبط ” المخالفات ويوقع عليها
العقوبة وحتى يجرد الملاك من المقدرة على المقدرة على إنكار علاقة التأجير تمهيداً
لطرد الفلاحين . ثم أوجب أن تكون مدة الإيجار ثلاث سنوات على الأقل حتى يطمئن
الفلاحون إلى استقرار بقاثهم في الأرض لمدة معقولة . وقد امتدت العقوبة بقوانين
متتالية حتى عام 1961 . ثم إن القانون قد حرم إخراج المستأجرين من الأرض وكانت تلك
ضربة قاضية لقيد الخوف من فقدان الأرض ذلك الخوف الذي استعبد الفلاحين دهراً .
بالإضافة إلى هذا حاول القانون الزج
بمجموع الفلاحين زجاً إلى مواقف جماعية إيجابية يواجهون بها احتياجاتهم بدلاً من
علاقة الاتكال والتواكل التي كانوا قد اعتادوا عليها سنين طويلة . فأنشأ الجمعيات
التعاونية الزرأعية واشترط أن تكون عضويتها لمن تقل ملكيتهم عن خمسة أفدنة وجعل من
مهامها الحصول لصالح أعضائها على السلف الزراعية ومدهم بالبذور والسماد والماشية
والآلات الزراعية وتنظيم زراعة الأرض واستغلالها وبيع المحصولات الرئيسية لحساب
أعضائها والقيام بجميع الخدمات الزراعية الأخرى التي تتطلبها حاجات الأعضاء وكذلك
القيام بمختلف الخدمات الاجتماعية .
مثال من الهند :
هذا هو الجانب الديموقراطي من قانون الاصلاح
الزراعي وبه نستطيع أن نقول إنه كان قانون تحرير الفلاحين من القهر الاقتصادي الذي
مارسه الملاك وتحطيم علاقة التبعية التي تربطهم بسادتهم الأقدمين ولقد نعرف ،
وسنعرف فيما بعد ، إلى أي مدى استفاد الفلاحون ـ فعلاً ـ من هذا القانون
الديموقراطي . يكفينا الآن أن نسجل أنه حيث كان جانب من مشكلة الديموقراطية في مصر
قبل 1952 يتمثل في سيطرة الاقطاعيين وكبار الملاك الزراعيين على الفلاحين فإن
الثورة ، منذ بدايتها ، قد اتجهت إلى الحد من سيطرة الاقطاعيين وكبار الملاك .
وحيث كان جانب من مشكلة الديموقراطية يتمثل في استسلام الفلاحين للقهر وقبول
المذلة والعبودية وتبريرها وتحويلها الى قيم قروية قبلية منحطة فإن الثورة اتجهت
منذ بدايتها إلى محاولة تحصينهم ضد الخوف من فقدان الارض وتأمين استمرارهم في
العمل الزراعي بدون مضاربة فأتيحت لهم ، لأول مرة ، فرصة ممارسة الديموقراطية …
كيف ؟
هل لمجرد أن أصبح الفلاحون باقين في الأرض
يزرعونها قد أصبحوا ديموقراطيين ؟
لا .
إنما تحقق لهم شرط التحرر من سيطرة الملاك فأتيحت
لهم ـ في هذه الحدود ـ فرصة الممارسة . لم يعودوا مضطرين ـ اقتصادياً ـ إلى بيع
أصواتهم في مقابل البقاء في الأرض أو الحصول على الخدمات الزراعية التي كان الملاك
يحتكرون توريدها إليهم . وهذا أكثر ديموقراطية من كل ما سطره فلاسفة
الليبرالية منذ مونتسكيو حتى الآن .
لقد قيل في نقد قانون الإصلاح الزراعي أنه أفسد
أخلاق الفلاحين إذ علمهم الجرأة والتطاول والفظاظة و” قلة الأدب ” مع أسياد البلاد
، وأفسد حياتهم إذ حرمهم من الكنز الذي لا يفنى (القناعة) وفتح عيونهم فشعروا أكثر
من أي وقت مضى بمدى ما يعانونه من حرمان ، وعلمهم التطلع والطموح فلم يعد
يرضيهم شيء ولا حتى قانون الإصلاح الزراعي . فمن وزعت عليهم الأرض المستردة لم
يدفعوا ثمنها ، ومن بقوا مستأجرين لم يسددوا الإيجار في مواعيده ، وأصبح العمال
الزراعيون يعملون بالساعات ويحددون الأجور . وأصبح الشغل الشاغل للفلاحين عقد
المقارنات بين ما لديهم وما لدى الآخرين فما أن تسأل فلاحاً شيئاً أو
تلومه على شيء حتى يصعر خده ويقول ” بجلافة “ : اشمعنى فلان … ؟
ان كان هذا قد حدث فالحمد لله . لقد نجحت الثورة ـ إذن ـ وتحرر الفلاحون . لأن
هذا هو على وجه التحديد ما كان الفلاحون في حاجة إليه فعلاً لتحل مشكلة
الديوقراطية في مصر. صحيح أنه شيء تافه بالنسبة إلى سكان المدن ، و هو لا يستحق
الالتفات عند جماعة المثقفين ، وهو شيء مقزز عند السادة ومع ذلك فهو هو الذي كان
يحتاجه الفلاحون فعلياً وواقعياً لحل مشكلة الديموقراطية بالنسبة إليهم . والأمور
نسبية حتى الديموقراطية . ونحن ننسب أمور الديموقراطية إلى الأغلبية . ولا بأس في
أن نضرب مثلأ ولو لتخفيف حدة الحديث .
حين أراد المشرعون في الهند إصدار قانون العقوبات
(القانون الجزائي) استغرق عملهم أربع سنوات . استنفد القانون كله سنتين واستنفدت
المواد الخاصة بالدفاع الشرعي ـ وحدها ـ سنتين . ذلك لأن الدفاع الشرعي هو تلك
الحالة التي يباح فيها للأفراد أن يستعملوا القوة دفاعآ عن انفسهم أو أموالهم . وقالت اللجنة التي وضعت القانون ، في تقريرها ، أن
صعوبة تنظم الدفاع الشرعي في الهند لم يكن راجعاً إلى ذلك الاتجاه التقليدي في
الدول الأوروبية إلى تضييق الحدود التي يباح فيها للأفراد استعمال القوة دفاعاً عن
أنفسهم بل العكس تماماً : كيف يمكن تشجيع الأفراد في الهند على استعمال القوة
دفاعاً عن أنفسهم وأموالهم . إذ كانت سلبية الفرد الهندي ، نتيجة عوامل تاريخية
فكرية وروحية ونتيجة الاستبداد الطويل به ، أكبر مشجع للصوص وقطاع الطرق على
الاعتداء .
ولقد كانت مشكلة الديموقراطية في ريف مصر تتلخص في
كيف يمكن اقناع الفلاحين ” بالمساواة ” بينهم وبين الاقطاعيين ، وكيف يمكن تشجيعهم
على الاستقلال بإرادتهم عن ارادة المسيطرين عليهم اقتصاديا فاجتماعيا فسياسيا ؟
وكان قانون الاصلاح الزراعي هو الاجابة التي قدمتها الثورة على هذا السؤال .
الجديد هو
الحرية :
حين أصدرت الثورة قانون الاصلاح الزراعي لم يكن مطلب تحديد الملكية الزراعية
جديدا على ساحة الحياة السياسية في مصر. بالعكس . لقد وصلت الثورة في قانونها
الأول الى أقل بكثير مما كان يطالب به غيرها من قبل .
ففي يوم 25 يونيو 1945 ، قدم السيد محمد خطاب ، عضو مجلس الشيوخ ، مشروعا
بقانون يقضي بأن يكون الحد الاقصى للملكية الزراعية خمسين فدانا . ولقد قبلته لجنة
الشؤون الاجتماعية والعمل من حيث المبدأ ورفعت الحد الى مائة فدان . وهو الحد الذي
كان يطالب به الحزب الشيوعي المصري ( السري ) في ذلك الوقت . ولكن المشروع واجه
معارضة قوية عند المناقشة ووصف ـ فعلا ـ بأنه شيوعي . المهم أنه رفض في النهاية .
وقد عاد صاحبه الى عرضه مرة أخرى في المؤتمر الزراعي الثالث عام 1949 فأصدر
المؤتمر توصية بوضع حد أعلى للملكية الزراعية دون أن يحددها . ولقد كان الشيعيون
والاخوان المسلمون وحزب مصر الفتاة ـ قبل الثورة ـ يساندون ، الدعوة الى تحديد الملكية
الزراعية .
ومع ذلك فان هناك فارقا اساسيا بين دعوات الاصلاح الزراعي قبل الثورة والاصلاح
الزراعي بعدها . كانت بواعث الدعوات قبل الثورة ومبرراتها وأغراضها اقتصادية بحتة
. ترشيد الانتاج الزراعي بالحد من الملكيات الكبيرة وتشجيع الملكيات المتوسطة
باعتبارها النموذج الأمثل للوصول بالانتاج الزراعي الى أعلى مستوى . لهذا كانت
المبررات التي استند اليها مجلس الشيوخ في رفض مشروع محمد خطاب دفاعا عن الملكيات
الكبيرة وفائدتها الاقتصادية وعن قدرة المالك الكبير على تحسين الانتاج وزيادته .
ولم يحظ الفلاحون في كل تلك الدعوات والمشروعات بأكثر مما تحظى به أدوات الانتاج المادية . فهم ، باعتبارهم أدوات
انتاج بشرية ، محتاجون الى حد أدنى من العناية الصحية والتعليم ليكونوا أكثر مقدرة
على " الخدمة " في المزارع . ولم يحدث أن تضمنت الدعوة الى تحديد
الملكية ، قبل الثورة ، اعادة لصياغة العلاقات بين الملاك الزراعيين على أي وجه
يمس سيطرة الملاك على الفلاحين أو يحد من حريتهم المطلقة في تحديد الأجور والايجار
وطرد الزارع الستأجر أو العامل الزاراعي في أي وقت . كانت كلها دعوات ومشروعات
وملاك الأراضي أنفسهم لاصلاح " بيوتهم " .
عكس هذا تماما ما جاء في قانون الاصلاح الزراعي الذي أصدرته الثورة كما أوضحنا
من قبل . فقد غير تغييرا كاملا وجذريا العلاقة بين المالك والمستأجر وبينه وبين العامل الزراعي . فهل كان ذلك مقصودا لذاته
أم جاء بالتبعية لتحديد الملكية أم كان مصادفة ؟ هل كانت الثورة معنية ـ بالدرجة
الأولى ـ بالاصلاح الزراعي أو بالاصلاح الديمقراطي ؟
نسمع الجواب من عبد الناصر .
ماذا كان يريد عبد الناصر ؟
لم يركز عبد الناصر قط على المبرر الاقتصادي للاصلاح الزراعي . ولكنه برره
دائما تبريرا تحرريا ديمقراطيا . وهو ما يعني أن الاصلاح الزراعي كان مرتبطا في
وعيه بمشكلة الديمقراطية في مصر . وأن مشكلة الديمقراطية أو حل مشكلة الديمقراطية
في مصر كان ـ في ذهنه ـ الهدف الاساسي من الاصلاح الزراعي .
قال يوم 13 أبريل 1954 : " وأنتم أدرى الناس بالاقطاع وكيف كان يؤثر في
الحياة السياسية . ان طلبنا الرئيسي لم يكن اقتصاديا وانما تحرير الفلاح من سيطرة
السيد " .
وقال يوم 19 أبريل 1954 ضمن خطبة القيت في وفود الفلاحين : " الحقيقة يا
اخواني أننا اذا تكلمنا عن تحديد الملكية واذا تكلمنا عن الاصلاح الزراعي واذا
تكلمنا عن توزيع الارض وعن تمليك الارض ، اذا تكلمنا عن كل هذا ، فيجب ان نفهم ما
هو المعنى الاساسي لهذا التمليك وما مغزاه .. ان أهم شيء في تحديد الملكية ، هذا
التحديد الذي خلصنا من الاقطاع الذي استمر سنين
طويلة ، انه يعبر عن معنيين اساسيين : الأول هو الحرية السياسية ، والثاني
هو التخلص من الاستبداد السياسي . فقد كانت الارض التي يمكلها الاقطاعي والتي يعمل
فيها الفلاح هي العامل الأول الذي كان يستغل دائما في التوجيه السياسي . العامل
الذي كان يستغل دائما في التحكم في مصير الفلاح وفي مورد رزقه ولا يترك له فرصة
للتخلص من الاتجاه السياسي الذي كان يدفعه اليه صاحب الاقطاع . وكانت النتيجة هي
تحكم الاقطاع في الحكم وفي سياسة الدولة ، ولذلك استمر أصحاب الاقطاع طوال السنين
الماضية يتحكمون في مصيرنا " .
وقال يوم 2 مايو 1954 في قرية باتاج بمناسبة حفل توزيع الأراضي المستردة على
الفلاحين :
" فلما قامت الثورة وجدت أن الفلاح الذي يعتبر الدعامة الأولى في هذا
البلد يجب أن يتحرر ، وأنه لن ينال هذه الحرية بالكلام وحده ولكن ينالها بالعمل .
ولهذا بدأنا بتحديد الملكية الزراعية لنحرر الفلاح من الاستعباد ونحرره من الاستغلال
فان الهدف الاول لهذه الثورة كان مركزا في كلمة واحدة هي "الحرية"
" .
وقال في يوم 3 يوليو 1955 في حفل توزيع الاراضي المستردة على الفلاحين في نجع
حمادي : " ولكن تحرير الأرض يحرر الفرد من كل أنواع الذل والاستعباد والاقطاع
. كيف يتحرر هذا الفلاح الذي يعمل عند الاقطاعي ويشعر أنه تحت رحمته ، يستطيع أن
يخرجه متى شاء هو وأولاده . ومعنى هذا انه لن نطمئن على حريته ولن تتحقق حرية
الفلاح اذا الفلاح كان مهددا في رزقه وفي حياته . واذا كانت الحرية كلاما وخداعا
فاننا لا نوافق على الخداع لأننا نؤمن أن حرية الوطن لا يمكن أن تتم اذا لم يتحرر
الفرد . وكيف يتحرر الوطن والغالبية العظمى لم تتحرر ؟ " .
هذه نماذج مما قاله عبد الناصر معبرا عن معنى واحد هو أن الحرية والديمقراطية
لا يمكن أن تتحققا بالنسبة الى الفلاحين ، أغلبية شعب مصر ، الا بعد تحريرهم من
سيطرة الاقطاعيين والتبعية لملاك الأرض . هذا المعنى الذي يربط بين الواقع
الاجتماعي والاقتصادي وبين الحرية والديمقراطية كان يتضمن ـ كما لا شك نلاحظ ـ
بذور المفهوم الاشتراكي للديمقراطية التي ستنبت ثم تنمو ثم تثمر
"الميثاق" بعد عشر سنوات .
السؤال مرة اخرى :
نعيد السؤال الذي طرحناه في نهاية الحلقة السابقة من هذا الحديث . هل كان عبد
الناصر ديكتاتورا ؟؟
يجيب الفلاحون في مصر…. لا .
فهل ثمة جواب آخر ؟
في 11 يونيو 1940 طار ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وقائدها في
الحرب الاوروبية الثانية (1939- 1945) الى مدينة ” تور ” في فرنسا لمحاولة اقناع
القادة الفرنسيين بالاستمرار في الحرب ضد الغزو الالماني . لم تكن باريس قد سقطت
بعد ( سقطت في 14 يونيو 1940) ولكن القادة الفرنسيين كانوا قد استسلموا هم فقرروا
ان تستسلم فرنسا فلما تجد زيارة تشرشل شيئاً .
فلما ان هم بدخول طائرة العودة دخل معه جنرال فرنسي شاب . كان هو
الجنرال ديجول الذي اختار وحده ان يقاوم الغزو الالماني وان يحرر فرنسا . كانت كل
المعطيات الموضوعية ضد اختياره . قوة العدو كاسحة . وفرنسا مسحوقة . وبطل فرنسا
العتيد ” الماريشال بيتان “، الذي كان يحظى من اجلال الفرنسيين بما يقارب التقديس
هو رئيس الحكومة التي قررت الاستسلام . وانجلترا الحليف الوحيد لفرنسا كانت تقف
وحيدة في جزيرتها تنتظر ما كان يبدو مصيراً محتوماً بالسقوط . وكان شارل
ديجول وحيداً أيضا . لم يكن وراءه حزب ، ولا جماهير ولا جيوش ولا أموال ولا حتى
أعوان . كان كل ما يملكه ” ايمانا صوفيا مطلقا ” بانه قادر على تحرير وطنه وانه
يجب ان يحرره . ولقد بدأت به ” فرنسا الحرة “، او فلنقل ان قد بدأت ” فيه ”
فرنسا الحرة فلم يبقى وحيدا . انحاز اليه الاحرار في فرنسا وفيما وراء البحار بدون
تردد وبدون مناقشة ، كما لو كانوا ينحازون الى فرنسا ذاتها . ولقد كان ديجول مؤمنا
ايمانا صوفيا مطلقا بانه رمز فرنسا وتجسيدها العيني في انسان . وكان أحرار
فرنسا يقبلون منه هذا الايمان ويؤمنون به ويعترفون له اعترافا غير قابل للمناقشة
بانه رمز فرنسا وتجسيدها البشري . حتى لو كانوا ينقدون بعض ما يفعل .
لم تلبث فرنسا الحرة ان أصبحت تملك الجيوش وتشارك في الحرب وفي تحرير
فرنسا . وبعد تحرير باريس يوم 25 أغسطس 1944 احتشد مئات الالوف من الفرنسيين على
جانبي شارع الشانزليزيه في باريس وهم يهتفون لمسيرة النصر، ويكاد بعضهم ان
يجن انفعالا وهم يرقبون قائد فرنسا العظيم شارل ديجول يتقدم المسيرة مترجلا متجها
الى قوس النصر يتبعه كل أبطال تحرير فرنسا . وخطر لاحد اولئك الابطال ان
يقترب حتى يوازي القائد . فلم تحجب انفعالات يوم تحرير باريس دلالة هذا
الاقتراب من فطنة ديجول . فالتفت الى رفيقه في النضال قائلا ” مسافة.. من
فضلك ” .. معبراً بذلك عن حرصه على حقيقة لا ينبغي ان يحجبها التواضع او
المجاملة او الحرج . هي ان من حق الشعوب ان تتعرف على أبطالها بدون لبس او غموض
وان تبقى بين القائد التاريخى ورفاقه مسافة مميزة للقيادة حتى لا يختلط الامر على
الشعوب .. ولعل ديجول كان يعرف ان الأمة الواحدة ذات التاريخ الواحد والمصير
الواحد لا يمثلها الا رمز واحد كما لا تصلح لها الا دولة قومية واحدة ، وبالتالي
حرص على الا تختلط الرموز او تتعدد في أذهان شعب الامة الفرنسية يوم تحريرها .
أياً ما كان الامر فتلك عناصر نفسية وذاتية تدخل في بناء التاريخ
وتصعد في بعض مراحله الى المرتبة الاولى من تكويناته اثرا بحيث ان جهلها او
تجاهلها قد يؤدي الى عدم المقدرة على فهم التاريخ او تفسيره . ولم تزل في بولندا
شعبة من المدرسة الماركسية تحاول تفسير كفاح الطبقة
العاملة على أسس من علم النفس .. ولم يزل علم السياسة يعترف بظاهرة ” البطل
التاريخي ” ..
المهم ان هذه المسافة ” التاريخية ” بين القائد ورفاقه كانت محفوظة في
علاقة عبد الناصر بأعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952.. والضباط الاحرار، بحيث
لم يحتج عبد الناصر طوال حياته الى ان يقول لاحد : مسافة .. من فضلك . فلقد كان
الواقع التاريخي والممارسة قد حددا تلك المسافة على وجه لا يقبل تجاوزها… وكل من
حاول تجاوزها سقط .
فمن حيث الواقع التاريخي كان تنظيم الضباط الاحرار هو تنظيم
جمال عبد الناصر . لقد ذكرنا من قبل ان اول تشكيل للضباط الاحرار قد بدأ (1940)
كمحاولة لمد التنظيم الوطني السري الذي كان يقوده عبد العزيز علي الى صفوف القوات
المسلحة .. ولكن ابتداء من عام 1942 أصبح جمال عبد الناصر ـ الذي عاد لتوه من الخدمة
في السودان ـ هو القائد المنظم للضباط الاحرار . ولم يكن أي واحد غير عبد الناصر
والى ان توفي يعرف العدد الحقيقي لاعضاء التنظيم ولا كل أسماء أعضائه . ثم ان عبد
الناصر هو الذي طور الشكل التنظيمي للضباط الاحرار فأنشأ لهم قيادة جماعية
تحت اسم ” الهيئة التأسيسية للضباط الاحرار ” في عام 1950 أي بعد ثماني سنوات
كاملة كان فيها هو المؤسس والمجند و المنظم والقائد . وكان كل ذلك معترفا به ولم
يناقش فيه أحد . ولقد بلغ الاعتراف بالوضع التاريخي المتميز لعبد الناصر انه في
سنة 1951، أي قبل الثورة بعام واحد رأى ان يضم الى الهيئة التأسيسية
(القيادة) ضابطا لم يكن من قبل عضوا في تنظيم الضباط الاحرار . فقبل عضوا في
القيادة مباشرة دون ان يمر على مستويات التنظيم قبولا لرأي عبد الناصر . كان ذلك
الضابط هو أنور السادات الذي سيصبح خليفة لعبد الناصر في رئاسة الجمهورية بعد ذلك بعشرين
عاما ..
ومما يذكر ويشكر للرئيس أنور السادات انه كان واحداً من الذين
لم يكفوا في أي وقت طوال حياة عبد الناصر عن الاعتراف بالمسافة التاريخية التي
كانت بين قائد الثورة وأعضاء مجلس قيادتها . و لقد عبر سيادته عن هذا الاعتراف بكل
أدوات التعبير وأقواها دلا لة . ولا يمكن ان
ينسى الشعب لسيادته انه يوم أن ألقى كلمته التاريخية أمام مجلس الشعب وهو يتلقى
قرار ترشيحه خلفا لعبد الناصر، بعد ان أنهى كلمته وهم بالخروج من القاعة ومر أمام
تمثال عبد الناصر ، استدار وركع امام تمثال عبد الناصر تحية واجلالا لقائد الثورة
العظيم . ولم يكن ذلك الموقف جديدا على الرئيس السادات .
يقول موسى صبري في كتابه “وثائق 15 مايو ” (1977) وهو كتاب لا يمكن ان
يتهم بانه ” مع ” عبد الناصر ولا بأنه ” ضد ” أنور السادات ” فيقول :
” أعطى
أنور السادات صوته في مجلس الثورة مع عبد الناصر دائما.. وأعلن انه يؤيد كل قرار
يصدره عبد الناصر حتى لو كان غائبا . وضع السادات صوته في مجلس الثورة في جيب عبد
الناصر تعبيراً عن الثقة المطلقة . واقتناعا كاملا بأن عبد الناصر رجل عميق
التحليل للامور ، صائب الرأي في الوصول الى قراره . لا يتعجل ولا يصدر القرار الا
بعد دراسة كاملة لكل جوانبه . وثبت هذا في اجتماعات مجلس الثورة. وعندما صدر قرار
مجلس قيادة الثورة بعودة محمد نجيب كان أنور السادات يستمع الى القرار من الراديو
ولم يكن حاضرا للاجتماع واستمع الى اسمه وفي
ترتيب أقدميته من مصدري القرار… ”
ان هذه الفقرة لا تكتفي بالاعتراف بالمسافة التاريخية التي كانت بين
قائد الثورة وأعضاء مجلس القيادة ، بل تضيف ان تلك المسافة كانت من الاتساع بحيث
كاد القائد ان يكون متفردا بالقيادة وكاد الاعضاء ان يتلاشوا لدرجة ان أكثر
الاعضاء خبرة بالعمل السياسي قد وضع صوته في
جيب عبد الناصر، سواء أحضر الاجتماعات أم لم يحضر.. وأخيراً فان هذه الفقرة
” الشهادة ” تجيب على ما أصبح مادة للتشهير بعد وفاة عبد الناصر . هل كان
تميز عبد الناصر ” تسلطا ” منه على رفاقه في مجلس قيادة الثورة هل الغى عبد الناصر
وجود مجلس قيادة الثورة وفرض رأيه على أعضائه ؟.. أم ان مسافة ” تاريخية ” ، من
الوعي والعلم والمقدرة كانت تفصل بينه وبينهم ، يعترفون بها ، فيتلقون عنه الرأي
ثقة في تفوقه ؟
تقول الفقرة ان أنور السادات قد وضع صوته في جيب عبد الناصر ” تعبيرا
عن الثقة المطلقة واقتناعا كاملا بان عبد الناصر رجل عميق التحليل للامور ” صائب
الرأي في الوصول الى قرار، لا يتعجل ولا يصدر القرار الا بعد دراسة كاملة لكل
جوانبه ” .
هذا عن الرئيس السادات . لم يفرض عليه عبد الناصر رأيا ولكنه اقتنع
اقتناعا كاملا بعبد الناصر فقبل ان يؤيده تأييداً مطلقا . فماذا عن باقي الاعضاء ؟ ..
يقول موسى صبري : ” ظل عبد الناصر متمسكا بالعمل الجماعي مع مجلس
الثورة حتى عام 1956. واستطاع ان يفرض نفسه وان يفرض شخصيته على أعضاء المجلس .
كيف ؟ كان هو الذي يدعو الى الاجتماع . كانت الموضوعات التي يعرضها مدروسة منه من
كافة جوانبها . وكانت مفاجئة للاعضاء . لأنها
تعرض أثناء الاجتماع . فكان طبيعيا ، ان تصدر منهم آراء غير مدروسة . وكان طبيعيا
ان تظهر لهم المرة بعد المرة سلامة رأي عبد الناصر. كان يعرف كل موضوع . وكان يبسط
الحجج التي تؤيده والتي تعارضه . وكان يعبر عن الاسباب التي دعته الى التأييد او
الرفض . وكان يستمع الى كل الاراء ثم يصدر القرار وأخذ وضعه تماما رئيسا لمجلس
الثورة ..
وأستطيع ان أقول ان بعض أعضاء المجلس الذين كانت تربطهم صلات قديمة
بعبد الناصر وكانوا يعرفون خبايا طبيعته البشرية.. كانوا يتساءلون في أحاديثهم
الخاصة : هذه ليست طبيعة عبد الناصر؟.. ماذا جرى ؟ .. هل هو فعلا قد تحول.. ام ان
هذا قناع يحكم ارتداؤه .
هذا الذي كان يردده بعض الاعضاء ويجب ان يكون سؤالا للباحثين
والمحللين لتاريخ جمال عبد الناصر وخبايا شخصيته متعددة الجوانب .
ولكن يجب تسجيل .. ان عبد الناصر التزم بالعمل مع مجلس الثورة من 1952
الى 1956 ، وانه فرض شخصيته على المجلس . وانه ثبت في أكثر من قراراته انه أبعد
نظرا.. “ .
بالرغم من الاستعمال المتحرر لمفردات اللغة فان هذا الجانب من ”
الشهادة ” يجيب بعضه على بعضه. ولا يحتاج الامر الى ان يطرح سؤال او تساؤل على
الباحثين والمحللين عن خبايا شخصية عبد الناصر. لم يكن ثمة شيئ خبئ . لقد كان أكثر
علما وأوفى درسا وأعمق تحليلا وأبعد نظرا وأصوب رأيا.. وأكثر ديموقراطية بكثير كان
قبل ان ينعقد المجلس بمثابة ” سكرتير ” لهم يجمع عناصر الموضوع ويحضرها ويبوبها ثم
يعرضها . وحين عرضها كان أستاذا يعرض عليهم كل ما يثيره الموضوع من آراء
مؤيدة وآراء معارضة . ثم بعد عرضه كان يستمع الى كل الأراء بدون مقاطعة او تسفيه
واستنكار او استعلاء . فاذا أبدى رأيه فهو يعرضه عرض العالم الدارس المحلل ويؤيده
بحجته ولا يكتفي بل يعرض عليهم الحجج المضادة لرأيه.. ثم يصدر القرار . ليس هو
الذي يصدره . فقد كانت القرارات في مجلس الثورة تصدر بالاغلبية.. بعد كل هذا ثبت
لاعضاء المجلس مرة بعد المرة انه أصوبهم رأيا وأبعدهم نظرا ..
فنصحح بعض الالفاظ ونقول انه لم يفرض نفسه عليهم .. بل أخذ مكانا
استحقه فاعترفوا له باستحقاقه . ثم نسأل ” هل كان عبد الناصر ديكتاتورا في مجلس
قيادة الثورة ؟
لا .
وهو جواب نفي يضاف الى جواب نفي الفلاحين .
فهل ثمة جواب آخر؟
اسطورة المستبد العادل :
ما أثر تلك المسافة التاريخية بين عبد الناصر وبقية
رفاقه على علاقة عبد الناصر بمشكلة الديموقراطية ؟ وهل كنا نتحدث عن تلك المسافة
التاريخية اعتباطا أو نفاقا او تشهيراً ؟ .. كلا .
إنما هي حقيقة ذكرناها لأنها أدت الى حقائق نذكرها .
ذكرنا من قبل انه في يوم 10 ديسمبر 1952 أعلنت الثورة
سقوط دستور 1923. وفي يوم 16 يناير 1953 أعلنت حل الاحزاب القائمة وتحريم انشاء
أحزاب في المستقبل (المرسوم 37 لسنة 1953) وتحديد فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات يتم
خلالها وضع دستور يحقق ” الديموقراطية السليمة “ ويتفق مع أهداف الثورة . وفي يوم 10 فبراير 1953 أصدرت اعلانا
دستوريا ببيان نظام الحكم في فترة الانتقال . خلاصة النظام ان يتولى مجلس قيادة
الثورة ، وكان يرئسه محمد نجيب ، أعمال السيادة العليا . ويتولى مجلس الوزراء ،
وكان يرئسه محمد نجيب ، السلطة التشريعية . ويتولى الوزراء ، كل حسب
صلاحياته السلطة التنفيذية . ويتولى مجلس مشترك من مجلس الوزراء ومجلس قيادة
الثورة ، وكان يرئسه محمد نجيب ، أعمال المتابعة والرقابة. وكان جمال عبد الناصر
نائبا لمحمد نجيب في كل مناصبه .
واذا تذكرنا ان محمد نجيب الذي يحمل ألقاب قائد الثورة
ورئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء … الخ لم يكن في حقيقته
الا ” ديكورا ” سياسيا وضع على و اجهة الثورة يوم قيامها، وبدون علمه ، وانه قد
انتزع ورد الى حيث موقعه الحقيقي حين خطر له ـ لا أدري كيف ـ انه جزء أصيل من
بنيانها ، نستطيع بسهولة ان نقول ان عبد الناصر كان هو الرئيس الفعلي للجمهورية و
الرئيس الفعلي لمجلس قيادة الثورة والرئيس الفعلي لمجلس الوزراء والرئيس الفعلي
للمؤتمر المشترك من مجلس قيادة الثورة و مجلس الوزراء . أي ان عبد الناصر كان
الموجه الحقيقي لسلطة السيادة والسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية . ( احتفظ
الاعلان الدستوري الصادر يوم 10 فبراير 1953 للسلطة القضائية باستقلالها عن كل
السلطات بما فيها مجلس قيادة الثورة) .
ثم إذا تذكرنا المسافة التاريخية التي تحدثنا عنها في
الفقرة السابقة نستطيع بسهولة أيضاً أن نقول أنه ابتداء من أوائل عام 1953 كان
الرأي الأخير في ممارسة كافة السلطات السيادية والتشريعية والتنفيذية لعبد الناصر
شخصياً . هذا بدون انكار لما لم ينكره أحد من أنه كان يمارس تلك السلطات بالاشتراك
مع زملائه سواء في مجلس قيادة الثورة أو في مجلس الوزراء أو في المؤتمر المشترك
بينهما . عدم انكار ذلك المسلك الديموقراطي ” التطوعي ” في قمة أجهزة السلطة لا
يحجب آثار الواقع الذي صاغه التاريخ امتيازاً بشرياً أبقى بين عبد الناصر ورفاقه
مسافة أدت ـ واقعياً ـ إلى أن المرجع الفعلي في ممارسة كافة السلطات كان عبد
الناصر .
انه ، إذن ، الاستبداد … وبه أصبح عبد الناصر حاكماً
مستبداً .
هذا القول في حاجة الى ملحوظتين قبل ان يقبل أو يرفض
أحدهما موجهة الى الجيل الجديد من الشباب العربي الذي لم يعاصر مرحلة ما قبل ثورة
23 يوليو 1952 حين كان كل شيء مختلفاً عما هو عليه الآن حتى دلالات الكلمات .
والثانية عن دلالات الكلمات ذاتها حتى لا يقع أحد ضحية المعاني المجردة .
أما الملحوظة الاولى فهي انه منذ ان أطلق الامام الشيخ محمد عبده ،
في مطلع القرن الحالي شعار ” لا ينهض بالشرق الا مستبد عادل ” لم تكن فكرة
الاستبداد مقرونة ـ كما هي اليوم ـ بالقهر والتسلط . كانت توحي الى الاذهان برموز
قريبة من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي ذهب به الاستبداد العادل الى حد حرمان المؤلفة قلوبهم من نصيب في
الفيء تقرر لهم بنص في القرآن الكريم وإلى حد منعه الملكية الخاصة للارض السواد (
العراق) بحجة اجتهادية انها ملك للاجيال المتعاقبة من المسلمين فلا يتملك رقبتها
جيل الفاتحين ولم يأخذ في شأنها بسابقة توزيع ارض الطائف . وتلك معان للاستبداد
العادل بعيدة أشد البعدعن المعاني التي علمناها من الفاشية او الديكتاتورية . ونحن
أبناء الجيل الذي كان واعيا مرحلة ما قبل الثورة 23 يوليو 1952 نذكر جيدا ان
المستبد العادل كان على رأس فرسان أحلامنا بمستقبل أفضل لمصر. وكان محمد علي
بالذات ” بكل ما صاحب استبداده من- نهضة عمرانية وصناعية وزراعية وتعليمية
وطموحاته العربية والدولية وانتصاراته العسكرية ، كان يبرز من حين الى حين رمزاً
لقائد فرسان أحلامنا .
يقول احمد حمروش في كتابه ” قصة ثورة 23 يوليو ” :
... في هذه المرحلة أيضا ( يقصد مرحلة ما قبل الثورة) كانت صيحة
المناداة بالحاكم المستبد العادل قد علت وترددت ووصلت إلى الذروة سواء في الخارج
او في الداخل . نشر الكاتب الامريكي ستيوارت اليسوب مقالا في صحيفة شيكاغو صن
تايمز يقول فيه :
” ان الحديث عن انعاش الديموقراطية في بلد كمصر يعيش فيه ” أغلبية
الشعب عيشة أحط من عيشة الحيوانات لغو فارغ . ان مصر لا تحتاج الى ديموقراطية بل
تحتاج الى رجل فرد . الى رجل ككمال أتاتورك ليقوم بالاصلاحات الضرورية اللازمة
للبلد .. لكن مشكلة مصر في كيفية العثور على الديكتاتور فليس بين رجالها من لديه
المؤهلات اللازمة للديكتاتورية “.. وكتب احسان عبد القدوس مقالا بعنوان ( ان مصر
في حاجة الى ديكتاتور.. فهل هو علي ماهر) ” تحمس فيه للدفاع عنه وقال أنه يعتد
برأيه الى حد لا يسمح معه للوزراء بالتفكير ثم قال .. ” ومصر تقبل معه ان يعتد
برأيه الى حد ان يصبح ديكتاتورا للشعب لا على الشعب .. ديكتاتورا للحرية لا على
الحرية ، ديكتاتورا يدفعها الى الامام ولا يشدها الى الخلف .. ” هكذا كتب أحمد
حمروش في كتاب لا يمكن ” اتهامه ” بأنه مع عبد الناصر ، شاهداً معاصراً لذلك الجيل
النشيط قبل 1952 ومثله الأعلى الذي كان يحلم به . مستشهدا بما قاله كاتب
ينتمي الى ذلك الجيل ذاته هو احسان عبد القدوس الذي لعب دورا مرموقا في التمهيد
الفكري والاعلامي لثورة 23 يوليو. ولقد عبر احسان عبد القدوس عن مواصفات ذلك المثل
الاعلى ووظيفته حين قال ” ديكتاتورا للشعب لا عليه.. ديكتاتورا للحرية لا
عليها ” .
وانه لمثل أعلى ” اسطوري ” أسهم في تكوينه فكريا تيار
التجديد الاسلامي الذي بدأه جمال الدين الافغاني وتلامذته العديدون في مصر . وأسهم
في تقبله العام الفشل الذريع الذي صادف تجربة الديموقراطية الليبرالية في مصر .
ولقد بلغ القبول العام لهذا المثل الاعلى حد أن أنصار
الديموقراطية الليبرالية أنفسهم لم يكونوا ينكرونه بل كانوا يتخذونه مبررا
للقرارات ظاهرة الاستبداد .
الزعامة
المقدسة :
كان حزب الوفد منذ تأسيسه ليبراليا ومدافعا صلبا عن
الديموقراطية الليبرالية بحيث تكاد معاركه ضد القصر وأحزاب الاقلية ودفاعه عن
الدستور والحريات الليبرالية تستغرق كل حياته. وهي- على أي حال- أنصع صفحات نضاله
، ومع ذلك فانه منذ تأسيسه أيضا لم تخضع قيادته لرأي غالبية الاعضاء الا في
المسائل التي لا تهم القيادة . وأعطى قائد الوفد سعد زغلول ومصطفى النحاس؟ نفسيهما
” استبدادية ” في مواجهة أعضاء الحزب تكررت حتى استقرت تقليدا في الحزب الليبرالي
العتيد . ففي عام 1921 قرر سعد زغلول ـ منفردا ـ فصل أغلبية أعضاء الوفد (عشرة من أربعة عشر ـ والوفد هنا تطلق على القيادة العليا للحزب) . وفي عام
1932 كرر مصطفى النحاس الامر ذاته فاتخذ قرارا منفردا بفصل أغلبية الوفد (ثمانية
من احد عشر) . ولقد كان هذا التقليد الاستبدادي من بين أسباب الانشقاقات المتتابعة
التي حدثت في الحزب .
وكانت السبب الرئيسي في خروج ( او فصل ) المرحوم
الاستاذ عباس محمود العقاد والسيدة روز اليوسف والدكتور أحمد ماهر ومحمود فهمي
النقراشي على الوفد او عنه .
ولقد فصل محمود فهمي النقراشي يوم 13 سبتمبر 1937. ولم
يكن النقراشي عضوا عاديا في حزب الوفد . كان يلقب باسم ” ابن سعد ” وكانت تسانده
الى أبعد الحدود ” السيدة الجليلة ” ام المصريين ” أرملة ” سعد زغلول . وكان
يعد نابغة التنظيم في الوفد ويحظى باعجاب أغلبية قواعده ، وكان كما وصفته
جريدة التايمز، أحد زعماء الوفد الأربعة البارزين وضابط الاتصال بينهم وبين الصحف
الاجنبية . و منظم صفوفهم الاكبر . وقد وصفته جريدة الديلي ووكر الشيوعية
البريطانية بانه ” ينتمي الى حزب اليسار في الوفد ويمثل الآراء الرحبة الواسعة بين
الموظفين المستنيرين والطلبة وجزء من طبقات العمال . هذا بالاضافة الى نزاهته
المطلقة واستقامته الخلقية وجهاده البطولي في سبيل الاستقلال وضد قوى الاحتلال
بأساليب استحق عليها السجن ومخاطر الاعدام ” …
بسبب ذلك المكان المرموق للنقراشي لم يمر قرار فصله
بسهولة . وطرحت من خلال الدفاع عنه أو الهجوم عليه ” ايديولوجية ” ما عرف في تاريخ
الوفد باسم الزعامة المقدسة . واستعاد أنصار النحاس ما كانت قد نشرته الجريدة
الوفدية ” كوكب الشرق ” يوم 3 يناير 1936 عن الزعامة . قالت
: ” ماخلت نهضة عامة من زعامة ولا أقفرت حركة وطنية من قيادة ، ولا قامت ثورة إلا
على توجيه . ومن ثم كان للزعيم في الحركات القومية قداسة لا يمسها شئ ومقام لا
ترتفع اليه ظلال الشبهة، واوج لا يبلغه اتهام . ان الجماعات هي التي تختار زعمائها
ولكن الاختيار نفسه لا يلبث ان يحيط ذاته بالقداسة والتكريم الواجبين للمعنى
المتمثل به فان الزعيم هو الجماعات نفسها في فرد، كما ان الجماعات هي الفرد نفسه
ممثل فيه . ” وردد مصطفى النحاس نفسه هذا المعنى ونسبه الى ذاته يوم 10 سبتمبر
1937، تمهيدا لفصل النقراشي بعده بيومين قال : ” ما
كنت في يوم من الايام رئيس حزب او هيئة ، بل زعيم أمة بأسرها ، فمن خرج عليها صبت
عليه غضبها ، ومن وقف في طريقها كان كمن يقف أمام التيار الجارف يكتسحه فيلقيه في
قاع اليم، فلا يجد لنفسه مخرجا ولا إلى الحياة طريقا “. تلك كانت فكرة الزعامة
المقدسة التي يستند اليها رؤساء حزب الوفد ليبرروا قراراتهم الاستبدادية . اعني
القرارات التي تصدر غير متفقة مع قواعد اتخاذ القرارات جماعياً وسيادة رأي
الأغلبية . ولقد كان المرحوم الاستاذ الاستاذ عباس محمود العقاد من الذين أنكروا
تلك الفكرة واستنكرها وتساءل : ” كيف تتحقق الديموقراطية مع فكرة تقديس الزعامة ؟
” والواقع أن الاستاذ العقاد كان ينكر ويستنكر ، بمنطق ليبرالي غربي خالص بينما
كانت فكرة الزعامة ذات جذور أكثر عمقاً في التراث العربي . فقد اختار ذلك التراث
الرموز المتفرقة في تاريخه وقام على محاورها أو لنقل زعمائها بنيان التاريخ كله .
فكان التاريخ العربى المكتوب او المدرس على نمط التاريخ الشعبى المتداول في القصص
الشعبي ، سلسلة متصلة من ” السير الذاتية ” سير الابطال او كاد يكون ذلك .
ولو جمعنا خصائص اولئك الذين ذكرهم التاريخ من الابطال لما أسفر البحث الا
عن مجموعة من ” الشجاعة والحكمة والعدل ” وذلك هو المستبد العادل المثل الاعلى لكل
حاكم كما هو كامن في وجدان شعب عانى أجيالا من الخوف والجهل والظلم . وهنا نتبين
ان ” المستبد العادل ” لم يكن في وجدان الشعب شخصا بل كان رمزا لما ينقص الشعب
نفسه او ما يحتاج اليه الشعب نفسه .
أيا ما كان المبرر التاريخي لفكرة ” المستبد العادل ”
وسيطرتها على العقل العربي قبل عام 1952 فإن ” الزعامة المقدسة ” لم تكن الا صيغة
وفدية لتلك الفكرة ، وضعت في التطبيق وسيطرت على تصرفات أكثر الأحزاب ليبرالية في
ذلك العهد .
البيعة على الطاعة :
ولقد كان ” الاخوان المسلمون ” قبيل ثورة 1952 ،
أكثر الجماعات المنظمة بعد الوفد او ربما قبله ، قبولا من الشعب ، وكان
المستبد العادل هو نموذج الحاكم الذي يدعو له الاخوان صراحة . بل ان تنظيمهم
ذاته قد قام منذ البداية على أسس من بينها التسليم بصحة هذه الفكرة كشرط لقبول الانتماء اليه . فمنذ أسس المرحوم حسن البنا ” جماعة
الاخوان المسلمين ” ” في الاسماعيلية في ذي القعدة من عام 1347 هجري- مارس 1928
(هكذا تقول وثائق الجماعة مع ان ذي القعدة 1347 يوافق أياما مشتركة من شهري ابريل
ومايو سنة 1929) ، نشأت ونمت على أساس من نظام ” البيعة والتسليم الكامل للقيادة ”
احتجاجاً بقوله تعالى : ” فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا
يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ” . وكان على كل أخ مسلم من أعضاء
الجماعة أن يتأكد من صدق ولائه للدعوة بأن يسأل نفسه عما إذا كان مستعداً لأن
يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب إذا ما خالف رأيه رأي القيادة ولم يكن كل
ذلك إلا ترجمات بصيغ مختلفة لفكرة ” المستبد العادل ” .
اذن ، في تلك المرحلة من التاريخ العربي ، يا أيها
الجيل الجديد من الشباب ، لم يكن الاستبداد أقل أمنية يتمناها الجيل المصري الذي
كان في ذلك الوقت جديداً . فإن اردتم أن تحاكموا ” استبداد ” عبد الناصر عام 1953
فحاولوا ـ ان استطعتم ـ أن تحاكموه طبقا لقوانين جيله . ولقد علمتم الآن كيف أن
حجة الذين انكروا على عبد الناصر في عام 1953 ، استئثاره بالسلطة كانت حجة داحضة .
فلقد كانوا يسلمون أمورهم الى قيادتهم تسليما غير مشروط وينكرونه على عبد الناصر .
أعني أنهم لم يكونوا على أي وجه ديموقراطيين ليقيم الشعب وزناً لدعاويهم الديموقراطية . ولقد كانت مطالب الليبراليين في ذلك الوقت تنتهي ـ
كخلاصة ـ إلى أن يسلم عبد الناصر السلطة الى ” الزعيم ” مصطفى النحاس أو الى ”
الامام ” حسن الهضيبي ، ولم يكن في ذلك شيء يمت بصلة الى الديموقراطية . فحتى لو
افترضنا فيهم جميعا العدالة فقد كان كل منهم ـ عند انصاره ـ مستبداً عادلاً . ولم
يكن عبد الناصر ، قائد الثورة ، أقل انصاراً .
تلك كانت آراؤهم ولكن هل يمكن أن يكون المستبد عادلاً
؟؟؟
هنا موقع الملحوظة الثانية .
الاستبداد والديكتاتورية
:
تتوقف الاجابة على ما نعنيه بالاستبداد .. ان كان
المقصود بالاستبداد الاستئثار بالسلطة ، بمعنى ان تجتمع كل السلطات في يد
واحدة ، فقد استبد عبد الناصر بالسلطة ابتداء من منتصف يناير 1953 الى منتصف يناير
1956 . أعلن هذا وصاغه نظاماً للحكم وسد به سداً حاسماً كل فرص العودة الى السلطة أو المشاركة فيها في أوجه الليبرالين
وأحزابهم . أما إذا كان المقصود هو الاستبداد ” بالشعب ” فإن شعب مصر لم يخسر عام
1953 شيئاً كان له من قبل . لم يكن يحكم ولا كان يشارك في الحكم ولم تكن لارادته
أثر يذكر في شؤون السلطة والصراع على توليها بين الاحزاب والقصر والمحتلين . وعلى
الذين يريدون الآن محاكمة استبداد عبد الناصر عام 1953 أن يفلتوا أولا من اسار
التجريد وان يختاروا لكلماتهم دلالات محددة . فالواقع أن استبداد قيادة الثورة
بالسلطة في بداية عام 1953 لم يكن الا نقطة انطلاق الى اتجاهات متناقضة وكلها
محتملة الى مجرد الاستيلاء على السلطة لترتد الثورة انقلابا أو إلى تسخير السلطة
في سبيل قهر الشعب ( الاغلبية لمصلحة الاقلية ) أي الديكتاتورية . او الى تسخير
السلطة لتحرير الشعب من القهر (اخضاع الاقلية للاغلبية) أي الديموقراطية. وهكذا
يكون الأستبداد بالسلطة ابتداء مثل الحكم على الثورة ذاتها. والثورة نشاط غير
ديموقراطي في بدايته ويتوقف مصيره على اتجاهه وآماله . ان استخدمت من أجل ” حل
مشكلة الديموقراطية ” فهي ديموقراطية بقدر ما تحقق من تقدم في هذا الاتجاه . وان
استخدمت من اجل الابقاء على مشكلة الديموقراطية او تعميقها فهي ديكتاتورية .
والمقياس ـ كما قلنا من قبل ونكرر الآن ـ هو ما تفيده او تخسره أغلبية الشعب .
فالى أين اتجه عبد الناصر بالسلطة التي استبد بها في
بداية عام 1953 ؟؟
في نهاية ذاك العام ، قال عبد الناصر يوم 7 ديسمبر 1953
: ” نحن لا نؤمن بالديكتاتورية ونعرف جيدا انها اذا عاشت سنة او سنتين فلن تستمر .
سيأتي اليوم الذي يظهر فسادها وينكشف أمرها وتكون الديكتاتورية وبالا على الوطن و
المواطنين .. “ .
فما الذي حدث خلال عام 1953 وحمل عبد الناصرعلى
ان يدين الديكتاتورية في نهايته بعد ان كان قد استبد بالسلطة في بدايته ؟ .
معذرة فإني
لا أستطيع :
كنا قد وعدنا القراء بان نترك الحديث عن عبد الناصر
ومشكلة الديموقراطية في مصر لعبد الناصر ومشكلة الديموقراطية؟ وان نكتفي بالمراقبة
من بعد قريب . وبعض الوعود تغالب الواعدين فتغلبهم واني لاعتذرعن التدخل في سياق
الحديث لاقول كلمة ليست من سياقه .
اكتب هذه الكلمات يوم 5 يونيو 1977 الذكرى
العاشرة لليوم الحزين . يوم الهزيمة المنكرة . يوم ان ظهر ما كانت القوى
المعادية لأمتنا قد دبرته و خططت له واستدرجتنا اليه فضربت ضربتها الصاعقة . ولقد
اعترفوا من بعد ان ضربوا أن هدفهم الأساسي كان اسقاط قاثد معارك التحرر العربى ،
عبد الناصر، ونظامه، وهزيمة امته. ولقد نالوا منه ومن نظامه ومن امته ما
نالوا ، وهو جسيم ، و لكنهم لم يسقطوه ولا أسقطوا نظامه ولا هزموا امته . فقد
احتضنته وحمته الجماهير العربية الهادرة من المحيط الى الخليج واعادته الى موقع
القيادة ثقة منها في مقدرته . كان ذلك في يومي 9 و 10 يونيو 1967 ..
وسيثبت التاريخ ، و قد أثبت فعلا ، أن أعظم أيام عبد الناصر وأكثرها إجلالا هي
الايام التي تلت الهزيمة المنكرة . ففي يوم 5 يونيو 1967 لم يمت عبد الناصر
ولكنه استرد ملء حياته وحيويته . نالت الهزيمة من عبد الناصر الحاكم وأبرزت
عبد الناصر الزعيم . اضعفت رجل الدولة ” الحكيم ” الذي يتعامل بالممكن ، وكان
الممكن صفراً ، وقدمت القائد الثائر الذي يتحدى بما يجب أن يكون مبتدئاً من الصفر
أيضاً .. بكل مقاييس الحكمة والمرونة والعقول المفتوحة والواقعية كان على عبد
الناصر أن يستسلم مفاوضة وصفحا واعترافا بالذين هزموه على أثر الهزيمة .. ولكن
بمقياس القيادة والزعامة والثورة كان على عبد الناصر أن يلبي نداء جماهير امته
ويقودها على طريق : ” لاصلح . لا مفاوضة . لا اعتراف ” ولقد اختار عبد الناصر
الطريق الذي لا يختاره الا الابطال …
و ذلك فان وزارة الاعلام في مصر، قد أذاعت أمس بيانا
تنبه فيه الى ان حملة التشهير بعبد الناصر قد تجاوزت مداها وتحتج عليها بالحرص على
” .. ارساء قيم مجتمعنا في احترام الماضي والمحافظة على كرامة الموتى ممن لم
يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم واظهار الحقائق للناس ” … ويضيف البيان
حجة يراها جديرة بانتباه الذين يشهرون بعبد الناصر فيقول ان الرئيس أنور السادات
كان شريكا له في مسئوليات حكمه ..
لا… لا… لا…
ان عبد الناصر ليس في حاجة الى من يدافع عنه . اذ ” ان
الله يدافع عن الذين آمنوا “. ولله من بين الناس أصوات حق تدافع عنه ، لا لأنه ماض يجب احترامه
ولا لأنه ميت لا يقدر على الدفاع عن نفسه ولا لأن الرئير أنور السادات كان شريكا
له … ولكن لأنهم ، فيه ، يدافعون عن المستقبل الذي يجب بناؤه ، وعن الامة العربية
التي لا تموت ، وعن الشعب الذي لا يملكه أحد ، ملكية فردية او ملكية مشتركة ،
يدافعون عن التاريخ ، وعبد الناصر أروع صفحات تاريخ هذه الامة ، ويدافعون عن
المصير لأنه ـ طال الزمن اوقصرـ فان الحرية والوحدة والاشتراكية التي عاش من أجلها
عبد الناصر هي المصير المحتوم لهذه الامة …
ثم اننا ، بعد هزيمة 5 يونيو 1967 وآثارها الصاعقة التي
افقدتنا الوعي فترة وكادت ، قد عدنا وتحت قيادة عبد النا صر نعرف من أمرها وأمرنا
أكثر مما كنا نعرف .. كنا نعرف الهزيمة ونردها الى أسبابها الثانوية. ذات
الأسباب التي أراد الاعداء ان يدسوها في عقولنا لنستسلم : ” عيوبنا نحن ، عجزنا
نحن . تخلفنا نحن ، ما قلناه نحن . ما فعلناه نحن . لنكون ” نحن ” الذين جنينا على
أنفسنا ويكون الاعداء أبرياء مما أصابنا. كأننا نحن الذين اغتصبنا الارض
وبدأنا العدوان وتجاوزنا الحدود .. و استطاعوا- لفترة- ان يلهونا عن الاسباب
الحقيقية للهزيمة .. ان قوى عالمية عاتية حشدت كل مكرها وأدواتها وعتادها لتصفي
الثورة العربية التي كان يقودها عبد الناصر لتوقف التحول الاشتراكي الذي كان قد
بدأه عبدا الناصر لتدمر طاقاتنا الاقتصادية التي كانت بدأت لاول مرة تعطي ثمار
التخطيط العلمي والتصنيع حياة ورخاء لشعبنا العظيم . كأنهم لم يقرأوا اعترافات
العدو- في غمرة غروره بالنصر – عن أن خطة 1967 قد وضعت وبديء في التدريب عليها فور
الوحدة 1958 لتصفية المد الوحدوي الذي كان يتقوده عبد الناصر ، والذي ما
يزال يمثل بالنسبة للأمة العربية أملها الوحيد في تحقيق الحرية والتقدم والحفاظ عليهما.. وان انفصال 1961 ذاته لم يكن إلا جزءاً
مبكر التطبيق لخطة عدوان 1967 .
كلا . لقد أفقنا وعرفنا فحولنا مرارة الهزيمة إلى عزيمة
نضال لا يتوقف ضد الذين هزمونا ، وحولنا وقف النار فور الهزيمة إلى حرب الاستنزاف
التي بدأت فوراً . وحولنا أشتات قواتنا العسكرية الممزقة إلى قوات النصر في معركة
اكتوبر 1973. وحولنا الحزن العميق على شهدائنا إلى حقد غير محدود على الذين قتلوهم .
وكان كل ذلك تحت قيادة عبد الناصر قبل أن يموت .
وفي 5 يونيو من كل عام نسترجع ذكرى اليوم الحزين بكل
عناصره .. نسترجع مرارة الهزيمة لنغذي عزمنا على النضال الطويل . ونسترجع صور
قواتنا المشتتة في صحراء سيناء لنغذي كفاءة قواتنا على استراداد سيناء وما بعد
سيناء . ونسترجع حزننا العميق على شهدائنا لنغذي حقدنا غير المحدود على الذين
قتلوهم .
ولكن ، أبداً .. أبداً .. أبداً .. ، لاتختلط ” الفرحة
” بمشاعرنا في 5 يونيو من أي عام .
ومع ذلك ، نقرأ في إحدى صحف أمس من ينصحنا بألا نبكي
على 5 يونيو وان نشكر هذا اليوم … لأنه أوصلنا الى 15 مايو . فنعتذر له عن عدم
مقدرتنا . وطنياً وعقلياً ونفسياً ، على قبول نصيحته . ونعتذر للقراء عن تدخلنا في
سياق الحديث ” عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر ” .
8 ـ حجر في الماء الراكد :
التحرير ..
و التحريض :
في بداية عام 1953 حسم الأمر وتولت الثورة الحكم في مصر
منفردة وجمعت كل السلطات التشريعية والتنفيذية في يد مجلس قيادة الثورة ، اسميا،
وفي يد عبد الناصر فعلياً على الوجه الذي ذكرناه من قبل . وقد كان ذلك ديكتاتورية
ساحقة ضد الأقلية الحزبية التي حرمت من المساهمة في الحكم وسدت في وجهها كل طرق
العودة إلى السلطة . أما بالنسبة إلى الشعب الذي لم يخسر شيئاً كان له من قبل ،
فإن استئثار الحكام الجدد بالسلطة دون الحكام القدامى لم يكن يعني عنده إلا أملأ
غامضاً في نوايا الثورة وموقفها منه. وقد كان يمكن أن يكون الأمر كله انقلاباً حل
به مستبدون جدد محل مستبدين مهترئين ، ويبقى الشعب غائباً وتبقى مشكلة
الديموقراطية كما كانت من قبل . كان يمكن أن يكون الأمر كله على هذا الوجه لولا أن
الثورة ، ثورة عبد الناصر ، أو عبد الناصر الثورة ، كانت من قبل قد أخذت تنسج
علاقاتها مع الشعب مباشرة متخطية كل الأساليب الليبرالية الموروثة ، تحاول من خلال
تلك العلاقات تحريره .. وتحريضه .
أما عن تحريره فقد كان قانون الإصلاح الزراعي هو أقصى
ما وصلت إليه ـ في تلك المرحلة ـ بالنسبة إلى الفلاحين . وكان منع الفصل التعسفي
ومحاولات إيجاد فرص عمل للعاطلين هو أقصى ما وصلت إليه بالنسبة إلى العمال
والقادرين على العمل .
أما عن تحريضه، نعني تحريض الشعب على الخروج من السلبية
والزج به في ميدان النشاط العام اهتماماً وممارسة، فقد اختارت له أسلوباً غريباً
غير مسبوق في تاريخ مصر والعالم الثالث كله ، على قدر ما نعلم من تاريخ العالم
الثالث . ذلك الأسلوب الغريب هو : هيئة التحرير.
هيئة
التحرير :
بعد أسبوع واحد من حل الأحزاب في 16 يناير 1953 أعلنت
الثورة قيام هيئة التحرير يوم 23 يناير 1953 أثناء الاحتفالات بمرور ستة أشهر على
قيام الثورة . وصاحب انشاء هيثة التحرير وتلاه نزول قادة الثورة إلى الشعب . وشهد
عام 1953 طواف عبد الناصر بين المحافظات والمراكز والقرى والكفور ومواقع العمل
يفتح فروع الهيئة الجديدة ويخطب ويشرح ويناقش ويبشر معرفاً الناس بالهيئة وغاياتها
داعياً الناس إلى الانضمام إلى أول مشروع لحل مشكلة الديموقراطية في مصر .
قال عنها في خطاب القاه في مدينة المنصورة يوم 19 أبريل
1953: “.. أن هيئة التحرير ليست حزباً سياسياً يجر المغانم على أصحابه أو يستهدف
شهوة الحكم والسلطان وإنما هي أداة لتنظيم قوى الشعب وأعادة بناء مجتمعه على أسس
جديدة صالحة اساسها الفرد . فنحن نؤمن بأن أي نهضة لا يمكن أن تقوم الا إذا
آمن الفرد ببلده وقدرته . وأن إعادة بناء هذا الوطن لن تتم إلا إذا قام كل فرد
بواجبه . فلن نستطيع وحدنا أن نقيم هذا البناء . وأن الفساد الذي عم جميع مرافق
البلاد طوال عشرات السنين فيحتم علينا أن نعمل كل في اتجاهه من اجل ازالته والقضاء
عليه. واعلموا ان الطريق طويل وشاق فعلينا أن نتذرع بالصبر فالإرادة التي لا
تعرف اليأس لا يقف أمامها أي عائق وسنصل باذن الله وسننتصر“ .
وقد يكون من المفيد أن نتعرف على بعض وثائق تأسيس هيئة
التحرير. تلك الوثائق التي لم تحظ بمكان لائق في ذاكرة أغلب المؤرخين ومؤلفي
المذكرات ، بالرغم من أن هيئة التحرير كانت ، منذ قيامها، تتضمن جوهر رؤية عبد
الناصر لحل مشكلة الديموقراطية في مصر، وكانت هي التجربة الأولى لتجسيد تلك
الرؤية. ولم يكن الاتحاد القومي ومن بعده الاتحاد الاشتراكي العربي ومنظمة الشباب
الاشتراكي ، و طليعة الاشتراكيين إلا تعديلات تقع في نطاق تصحيح التجربة الأولى
ولكنها تحتفظ بجوهر رؤية عبد الناصر للمشكلة وحلها ..
الميثاق
الأول :
قامت ” هيئة التحرير ” على ميثاق . ولا شك أنه مما يلفت
الانتباه الحاح فكرة ” الميثاق ” على ذهن عبد الناصر منذ البداية إلى أن أخر
صيغة كاملة لأفكاره عام 1962 فأسماها أيضاً الميثاق . فالميثاق ، كما نعرف ، هو
العهد ولكنه يتضمن شيئاً أكثر من مجرد التعهد أو الالتزام الإرادي . يتضمن الثقة
والائتمان المضمونين بحيث يكون النكوص عن الوفاء ليس مجرد تراجع بل غدراً و خيانة
. على أي حال فإن العلاقة الوثيقة بين الالتزام السياسي و الالتزام الخلقي تمثل
جانباً مثيراً من مفاهيم عبد الناصر ومفتاحاً رئيسياً من مفاتيح شخصيته ما يزال في
حاجة إلى دراسة متخصصة . فقد كان لهذا الجانب اثار بالغة الخطورة في حياة عبد
الناصر ومسيرة ثورة 23 يوليو . يكفي أن نذكر الدور الذي لعبه الجانب الذاتي في
موقف عبد الناصر من كثير من أعضاء مجلس قيادة الثورة وبوجه خاص من ” صديقه وزميله
” عبد الحكيم عامر. لقد أدخل عبد الناصر عنصرالوفاء في علاقات كانت بطبيعتها لا تحتمل
شيئا أقل من الحسابات الجامدة المجردة من العاطفة. غبر أن هذا يخرجنا عن نطاق
حديثنا فلنرجع إلى ميثاق هيئة التحرير. يقول : ” نحن أعضاء هيئة التحرير. قد ألينا
على أنفسنا أن نجلي الغاصب عن وادي النيل بلا قيود أو شروط وأن نكفل للسودان تقرير
مصبره دون أي مؤثر خارجي ، وأن نقيم في وطننا مجتمعاً قوياً أساسه الإيمان بالله
والوطن والثقة بالنفس ، وان نكفل الحقوق والحريات للمواطنين ، فينال كل مواطن حقه
في حياة كريمة ، تقوم على المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص ، وتضافر قوى الشعب
لتحقيق رسالة الاصلاح الكبرى ، وأن نجعل نصب أعيننا وحدة الوطن المقدسة ، وتعبئته
في تنفيذ برامج التعمير والانشاء ، وأن نعمل مامن شأنه قيام مصر برسالتها العالمية
، دولة قوية تحمل مشعل العدل والحرية ، و تسعى لخير الإنسان ، وتعاون الشعوب
العربية ، وترعى المباديء القويمة التي نصت عليها المواثيق الدولية ” .
كان ذلك هو برنامج عبد الناصر والثورة عام 1953 وهو
أكثر وضوحاً بكثير من مباديء الثورة الستة كما أنه يتضمن كافة الأحلام التي أراد
لها عبد الناصر أن تتحقق وحاول تحقيقها حتى وفاته بعد أن علمته التجربة كيف يكملها
فكراً وكيف يطور أساليب تحقيقها .
و مع الميثاق صدر بيان إنشاء هيئة التحرير. يقول في بعض
فقراته : ” أن أيسر ما يقال في تأييد هيئة التحرير أنها طريق للعمل مفتوح أمام
المصريين أجمعين . فهي ليست حزباً ينتفع بمزايا منفردة دون غيره ، ويتعصب
أفراده لهذا الرأي دون ذاك . وهي ليست جمعية خاصة للإصلاح الاجتماعي أو النهوض
بهذه أو تلك من جوانب الحياة المصرية. وهي ليست نادياً رياضياً يشجعه هواة الرياضة
دون غيرهم من الناس ، بل هي مصر كلها منظمة في هيئة واسعة متشغبة الجوانب ، متعددة
وجوه النشاط ، وأياً كان المصري ، وأيما كانت نزعاته وميوله ، فهو واحد في هيئة
التحرير سبيلاً للعمل والخدمة والانتاج ” .
ان التطابق الواضح بين هذا التعريف بهيئة التحرير وبين
تعريف عبد الناصر لها لا يدع مجالاً للشك في أن عبد الناصر هو صاحب فكرتها ومنشئها
وكاتب وثائقها . وتلك هي أهميتها بالنسبة إلى دراسة ” عبد الناصر ومشكلة
الديموقراطية في مصر”. لقد كانت مشروعه الأول لحل المشكلة .
لماذا هيئة
التحرير؟
الذين كتبوا تاريخ تلك الفترة أو مذكراتهم عنها يكادون
يجمعون ، ببساطة شديدة على أن الثورة أنشأت هيئة التحرير لتملأ الفراغ الذي تركه
حل الأحزاب . وهو قول لا توازي بساطته إلا غرابته. فمن ناحية قامت هيئة التحرير
مكتملة التأسيس بعد أسبوع واحد من حل الأحزاب . ولا بد أن مشروع هيئة التحرير كان
محل دراسة وتحضير قبل أن يعلن قيامه مكتمل التأسيس بشهور. ومن ناحية ثانية فإن
أسبوعاً بعد حل أحزاب كانت قائمة لا يكفي أن تشعر الثورة أن حلها قد ترك فراغاً
فعلياً لا بد من ملئه . ومن ناحية ثالثة فإن الغاية من انشاء هيئة التحربر كانت
مختلفة تماماً ، بل نقول مناقضة للغايات التي كانت تسعى إليها الأحزاب. لم تقم
الثورة بتأييد من تلك الأحزاب حتى إذا ما حلتها سارعت إلى إنشاء بديل مؤيد. ولم
تقم هيئة التحرير لتنظيم رجال الأحزاب المنحلة حتى لا يعانوا من فراغ تنظيمي . ولم
تقم لتكون منبر الليبراليين ومثقفيهم وأداة لهم في الانتخابات البرلمانية لتملأ
الفراغ الحزبي في نظام برلماني . أن القول البسيط بأن هيئة التحرير قد أنشئت لملء
الفراغ الذي تركته الأحزاب المنحلة، بالإضافة إلى أنه يسلبها أصالها كتجربة رائدة
، يدل بشكل مأساوي على أن تاريخ مصر عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية لم يحظ حتى
بالانتباه الجاد بله الدراسة العلمية . لقد بقي ” الفراغ ” الذي تركته الأحزاب ،
مباديء وقوى ووظيفة، فارغاً ولم تهتم الثورة قط بملئه لأن الثورة كانت مهتمة
بملء فراغ آخر تاريخي ، لم تكن الأحزاب مهتمة بملئه نريد أن نقول ان الفراغ الذي
قامت هيئة التحرير لملئه كان يقع خارج نطاق مكان الأحزاب الذي أصبح فارغا بعد
حلها. و ذاك فرق جوهري بين موقف الثورة وموقف الأحزاب من مشكله الديموقراطية في مصر.
لماذا ، إذن ، هيئة التحرير… نجتهد فنقول :
الوحدة من
أجل التحرير:
علينا الآن أن نتذكر ونستفيد مما رجونا من قبل ألا
ننساه :
” ثورة 23 يوليو عبد الناصر ينتميان إلى الخط الوطني الثوري الذي
يتميز أساساً عن الخط الوطني الإصلاحي بأنه يعطي مشكلة التحرر أولوية على مشكلة
الديموقراطية. وحين يتصدى لحل مشكلة الديموقراطية يعطي الأولوية لجانبها الشعبي .
(الحلقة
3 من هذا الحديث) .
إذا تذكرنا هذا أصبح محتوماً علينا :
أولاً : أن نتوقع أن عبد الناصر كان في تلك الفترة مشغولاً بحل مشكلة
الاحتلال الإنجليزي قبل أن يكون مشغولاً بمشكلة الأحزاب والديموقراطية
وثانياً : أن عبد الناصر كان يبحث عن حل لمشكلة الديموقراطية في مصر يتفق مع
متطلبات حل مشكلة احتلال مصر .
وثالثاً : ان عبد الناصر كان يبحث عن حل مشكلة الديموقراطية في صفوف الشعب
ذاته .
وهذا ما كان فعلا . ومن تلك الابعاد الثلاثة تحددت صيغة
ومضمون مشروع حل مشكلة الديموقراطية الاول في مصر : هيئة التحرير .
فأولاً ،
منذ اليوم الأول للثورة بدأ الأعداد للمعركة المحتملة
ضد الأحتلال الانجليزي . لم يكن طرد الملك إلا مقدمة تخلصت بها الثورة من العميل
الأول . وتلتها تدابير صارمة وسرية. فقد كان عبد الناصر يمثل الخط الوطني الثوري
الذي عرفنا عنه أنه كان يرفع شعار ” لا مفاوضة إلا بعد الجلاء “. ولكن عبد الناصر هو القائد لهذا الخط يلي السلطة في
مصر فيصبح رجل دولة عليه ان يفاوض قبل ان يقاتل . ولقد حل عبد الناصر ذاك التناقض
بالحل الذي سيحسب فيما بعد من عبقريات الثورة الفيتنامية . المفاوضة تحت ضغط
القتال . وهكذا بدأ عبد الناصر- اولا- بالاعداد للقتال . القتال الثوري وليس
القتال النظامي . نعني حرب العصابات .
ففي الاشهر الاولى للثورة بدأت بوسائلها الخاصة تفرض
الحصار والمراقبة على رجال السفارة الانجليزية في مصر وتقطع خيوط اتصالاتهم
بعملائهم في الداخل . ولقد فرضت قيودا مشددة على التعاون بين القوات الانجليزية
المرابطة في منطقة القناة بين سكان المدن المصرية المجاورة . و الغت كافة الصحف
التي عرفت بالدعوة الى مهادنة المستعمر او التعاون معه . وعلى عجل وسرا انشئت
ونشطت مصانع الاسلحة الصغيرة اللازمة لحرب العصابات ونقلتها وخزنتها في
مواقع سرية قريبة من مواقع القتال المنتظر. ثم أخذت في تخزين المواد الغذائية
والبترول لمدة تكفي مصر ستة أشهر على الاقل .
ثم أنشأت مراكز تدريب ” الحرس الوطني ” ولما ان تم
تدريب عدد كاف منهم ، وكلما تم تدريب عدد ، أرسلتهم ووزعتهم في قلب معسكرات الجيش
الانجليزي في هيئة عمال وموظفين وموردين . وعينت للمعركة القادمة قائدا من الضباط
الاحرار هو : كمال رفعت .
وثانيا ،
بينما كان الاعداد لقتال المحتلين قائما على قدم وساق
كان التحضير لتنظيم الوحدة من أجل التحرير قائما على قدم وساق أيضا . لم يكن ثمة
مجال للتفكير في أية صيغة تسمح بالتعدد الحزبي او بالصراع الاجتماعي . لأن
الاولوية كانت – في ذهن عبد الناصر- للتحرر الوطني . وكان لا بد من أن تلتحم
الجبهة الشعبية في اطار تنظيمي واحد فقامت هيئة التحرير تنظيما واحدا .
وثالثا ،
كان عبد الناصر يعرف ما كان كل المصريين يعرفونه من
علاقة بين قوى الاحتلال والاحزاب الليبرالية التي حلتها الثورة . ولم يكن ادعاء
على تلك الاحزاب ما جاء في قرار حلها الذي اذاعه محمد نجيب حين قال : ” ولما كان
اول أهداف الثورة هو اجلاء الاجنبي عن أرض الوطن ، ولما كنا آخذين الان في تحقيق
هذا الهدف الاكبر والسير به الى غايته مهما تكن الظروف والعقبات ، فاننا كنا ننتظر
من الاحزاب ان تقدر مصلحة الوطن العليا وتقلع عن أساليب السياسة المخربة التي أودت
بكيان البلاد ومزقت وحدتها وفرقت شملها لمصلحة نفر قليل من محترفي السياسة وأدعياء
الوطنية. ولكن على العكس من ذلك اتضح لنا ان الشهوات الشخصية والمصالح الحزبية
التي أفسدت أهداف ثورة 1919 تريد ان تسعى سعيها ثانية بالتفرقة في هذا الوقت
الخطير من تاريخ الوطن فلم تتورع بعض العناصر من الاتصال بدولة أجنبية.. ” لم يكن
ادعاء بل كان حقيقة يختلف مداها من حزب الى حزب (ما عدا الحزب الوطني كما أقر عبد
الناصر وأشرنا اليه من قبل) . ذلك لأنها كانت أحزابا من أولاد وأحفاد حزب الامة :
ضد الصدام مع الانجليز ومع التعاون معهم ثم يختلفون فيما بينهم درجات . ومن هنا
اتجهت الثورة في تحقيق الوحدة الوطنية وصيغتها الديموقراطية الى الشعب بعيدا عن
خريجي مدرسة مهادنة المستعمر والتعاون معه ، فكانت هيئة التحرير. ولم يلبث كل هذا
ان ثبت في الواقع فبعد ان اكتمل الاعداد للصدام وحلت الاحزاب وقامت هيئة التحرير
أعطى عبد الناصر اشارة البدء الى النضال من اجل انهاء الاحتلال . ولما كانت هيثة التحرير جزءا من خطة المعركة فلم يكن اعتباطا انه
أعطى تلك الاشارة بمناسبة افتتاح فرع هيئة التحرير في شبين الكوم 27 فبراير 1953
قال : ” على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل . أن الشعوب التي تساوم المستعمر على
حرياتها توقع في نفس الوقت وثيقة عبوديتها لذلك فإن أول أهدافنا الجلاء بدون قيد
أو شرط ” . وتوالت من فروع هيئة التحرير خطب عبد الناصر التي تحولت الى شعارات
واغان قال يوم 17 مارس 1953، ردا على الصحف الانجليزية التي زعمت ان الجلاء
سيعرض مصر والقناة لمخاطر أجنبية : ” ان الدفاع عن الشرق الاوسط أمر يعني دول هذه
المنطقة أكثر من غيرهم ولن يستطيع شعب يرزح تحت نير الاستعمار أن يدافع عن استمرار
هذا الاستعمار في وطنه بحجة تخويفه من اعتداء آخر يتعرض له هذا الشعب او لا يتعرض
“. وقال في اليوم التالي 18 مارس 1953 : ” ان مصر لن تساوم على حقها الطبيعي في
الجلاء الناجز الكامل ، ولاتقبل أي نوع من أنواع الاحتلال ، ولن تسمح في حالة نشوب
حرب للبريطانيين في امتخدام القاعدة الجوية في القناة . والمصريون أقدر على
تحمل مسئوليات الدفاع عن القناة من أية قوة أجنبية. وستحافظ مصر على استقلالها وحريتها
حتى آخر رجل وامرأة ” . وأنذر قائلا : ” اذا لم تتخلص بلادنا من الاحتلال فسنسحب قواد
الثورة من الحكومة لقيادة الشعب في حرب عصابات نشنها على الانجليز وسننشر أعمال
الفداثيين بطريقة تشعر هؤلاء بانهم يدفعون غاليا ثمن عدوانهم على بلادنا “ .
بعد هذا، وليس قبله، بدأ عبد الناصر المفاوضة مع
الانجليز يوم 27 أبريل 1953. وبمجرد ان أحس ريح المساومة قطع المفاوضة يوم 8
مايو 1953 أي بعد عشرة أيام من بدئها .. وبدأت المقاومة السرية وأعمال
التدمير في المعسكرات الإنجليزية وتوزيع الأسلحة على أفراد الشعب في منطقة القناة وتصاعدت إلى درجة أنه في يناير 1954 قال سلوين لويد
وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم ” أنه من المستحيل الوصول إلى اتفاق مع مصر
ما دامت هذه الأعمال مستمرة “. وأعلن وكيل وزارة الخارجية في مايو 1954 أنه وقع 52
اعتداء على جنودهم في منطقة القناة في الأسابيع الستة السابقة فاضطرت بريطانيا إلى
طلب استئناف المفاوضة في يوليو 1954 بعد أن استمعت جيداً إلى قول عبد الناصر في
مدينة الاسماعيلية (منطقة القناة) يوم أول يوليو : ” لن يقف الاستعداد للمعركة إلا
حينما يخرج آخر جندي أجنبي من هذه البقعة الغالية من أرض الوطن .. ولن يقف الاستعداد
للمعركة إلا بعد أن نشعر أننا كرماء في بلادنا قد حصلنا على حريتنا فإن هدف ثورتنا
هو تحرير مصر تحريراً كاملاً “ .
المسحراتي :
في إطار ذلك الصراع من أجل التحرر قامت هيئة التحرير
كأول مشروع للثورة لحل مشكلة الديموقراطية في مصر . نريد أن نقول أن عبد الناصر
لم يتوقف عند جمع كافة السلطات في بداية عام 1953 ولكنه حاول ان يحل مشكلة
الديموقراطية في مصر عن طريق هيئة التحرير التي رأى أنها الأسلوب المناسب لحل تلك
المشكلة في ظروف الصراع ضد قوة الاحتلال من أجل التحرر الوطني . ولقد سخرت الثورة
، وعبد الناصر شخصياً ، كل الامكانات المتاحة بشرياً ومالياً وإعلامياً وثقافياً
لإنجاح هيئة التحرير. ولقد كان الاصرار على انجاحها قاطع الدلالة على ثبات عبد الناصر في الاتجاه الديموقراطي وان تحديد فترة الانتقال بثلاث
سنوات كان يرجع إلى الاعتقاد بأنها مدة كافية لنجاح مشروع هيئة التحرير . ولقد
حققت بقيامها أول نجاح جزئي هام . هام لأنه يتصل بالمبدأ الديموقراطي ذاته إذ حسمت
الشك في إتجاه الثورة ديموقراطياً بعد أن كان الاستبداد بالسلطة يثير الشك
وان كان لا يطفىء الأمل . إن قيام هيئة التحرير حوّل الأمل المعلق إلى فعل إيجابي
وضعت الثورة على أول الطريق إلى حل مشكلة الديموقراطية في مصر . هذا ـ طبعاً ـ
بالإضافة إلى الأمل المعلق على لجنة وضع الدممتور التي شكلتها الثورة من رجال
القانون وعلماء الاجتماع وممثلين للاتجاهات السياسية حتى القديمة منها ، بقرار 13
يناير 1953 وكانت ما تزال قائمة بمهمتها .
ومما هو جدير باكبر قدر من الانتباه أن هيئة التحرير كانت تمثل ـ
عبد الناصر كما يبدو من أقواله ـ مرحلة أولية وتحضيرية لقيام أحزاب جديدة . في أول
المرحلة قال في المؤتمر السياسي العام الذي انعقد في ميدان الجمهورية يوم 16
سبتمبر 1953 : ” إن هذه الثورة لن تتخلى عن مكانها حتى تحقق هدفها الأكبر وهو
القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين ومهما طال الأمد فهي معركة
بدأناها ولن نعرف فيها زماناً ولا مكاناً حتى تتطهر البلاد من المستعمرين والخونة
والمضللين والمارقين . وعندئذ ستتعلم الأحزاب أن تنشأ على قواعد جديدة من أجل مصر
وليس من أجل حفنة من الناس المضللين “. وفي نهاية المرحلة يقول الصحفي الهندي
كارنجيا يوم 10 مارس 1957 نقلاً عن عبد الناصر : ” واستطرد الرئيس فأعرب عن ثقته
بأن الزعماء الوطنيين المخلصين سينتخبون وأن البرلمان ستقوم فيه تكتلات ومجموعات
وربما تكون فيه معارضة في المدى الطبيعي للأحداث كما تبرز بعد ذلك طبعاً قوى
سياسية جديدة ومن المحتمل أن تكون هناك أحزاب “. وهو جدير بأكبر قدر من الانتباه
لأن عبد الناصر لن يتخلى عن التعدد الحزبى كحل نهائي لمشكلة الديموقراطية إلا بعد
قيام الثورة بعشر سنوات تعلم فيها من التجربة دروساً كان بعضها شديد المرارة كما
سنرى فيما بعد .
يهمنا الآن أن نسأل : هل كانت هيئة التحرير مشروعاً
ديموقراطياً حقآ ؟..
نتذكر ما قلناه من قبل في مقدمات هذا الحديث لنقف مع
الشعب ، أغلبية الشعب ، ونسأل سؤالآ اخر. هل كانت سلبية الشعب ، أغلبية الشعب في
مصر ، إزاء النشاط العام والسياسي واقعاً أولا “ ؟.. لاشك أنه كان واقعاً لا
يستطيع أحد إنكاره خاصة إذا انتبه إلى أننا نعني بالشعب أغلبيته من الفلاحين
والعمال وصغار الحرفيين والمهنيين و النساء و الجنود وأمثالهم . أولئك لم يكونوا
قبل الثورة حتى ناخبين . وكان الناخبون منهم يختارون في الانتخابات مرشحي السلطة
أومن توعز السلطة بانتخابه. وعن طريقهم استطاعت حكومات الأقلية أن تشكل برلمانات
ذات أغلبية لا تقل عن أغلبية الوفد . ولم يكونوا يقرأون الصحف فإن نسبة الأمية
فيهم كانت أكثر من 90 في المائة . وما كان يعنيهم ما يدور في قمة السلطة في
القاهرة. ولم يستطع أي حزب سياسي أن يكسبهم إلى عضويته العاملة . أو على الأصح لم
يهتم أي حزب بأن يكسبهم إلى عضويته العاملة ويشركهم في نشاطه المنظم . ولم يهتموا
هم بأن يكونوا أعضاء عاملين في أي حزب . لقد كان حزب الوفد هو حزب الأغلبية بدون
منازع ولكن بمعنى انه في أية انتخابات حرة كان يحصل مرشحوه على أغلبية أصوات
الناخبين . ولكن حزب الوفد كتنظيم كان محدود العدد والعضوية وكان قصارى انتشاره
التنظيمي ما كان يسمى لجان الوفد في المحافظات . وكانت عضويتها الثابتة مقصورة على
عدد ضئيل من النواب والشيوخ أو ممن يحضرون أنفسهم ليكونوا نواباً وشيوخاً . وكان
امتداده في الجامعات مجموعات من طلاب السنين النهائية ينفذون أوامر قيادته تمهيداً
لتلقي الوظائف بعد التخرج . على أي حال كان حزب الوفد حاضراً في المدن على وجه ما
. أما في القرى والكفور والعزب والمصانع و المعامل والحواري والأزقة
والصحاري ، وكل تلك الأماكن الكئيبة التي يعيش فيها الشعب ، فلم يكن لحزب الوفد
وجود منظم . مرة واحدة حين أنشيء حزب مصر الفتاة (21 أكتوبر 1933 ) على النمط
الفاشستي عرفت المراكز والقرى لجاناً حزبية ثم أنحسرت التجربة سريعاً ولم تترك أثراً
. ومرة أخرى عرفت المواقع الشعبية تنظيم الأخوان المسلمين كجماعة دينية وكان
جل أعضائها في الريف أخواناً في الدين وفديين أو غير وفديين في الانتخابات. لهذا
لم يكن غريباً أن حزب الوفد قد أفلس أو كاد في فترة أقصائه عن الحكم بعد 1944 حتى
اضطر ـ حين عاد إلى الحكم ـ أن يتاجر في الرتب والألقاب ليعمر خزانته ( كان ثمن
رتبة الباشوية 30000 جنيه ورتبة البكوية 10000 جنيه واستطاعت طائفة من تجار مخلفات
القوات الانجليزية أن تصبح من الباشوات والبكوات ) . مرجع ذلك إلى أن تلك الأحزاب
جميعها كانت تفتقد الظاهرة الجماهيرية المنظمة والاشتراكات الثابتة وكانت تعيش على
تبرعات قياداتها من الاقطاعيين والرأسماليين الطامعين في الحكم أو في تسخير الحكم
لمصالحهم . خارج تلك الدائرة كان الشعب راكداً .
ثم جاءت هيئة التحرير حجراً ألقي في بحر الركود الشعبي
. وامتلأت القرى والكفور والعزب و الأحياء ا الشعبية، بالإضافة إلى المدن ، بمقار
هيئة التحرير . ووقع كل مصري تقريباً ، أو ختم أو بصم على طلب العضوية. وظهرت في
القرى صفات يتنافس عليها الناس غير العمودية والمشيخة والخفر تلك هي صفة ” عضو
هيئة التحرير “. واحتفظ الأميون في جيوبهم بفخر شديد، ببطاقات عضوية هيئة التحرير
قبل أن يعرفوا بطاقات إثبات الشخصية (الهوية) . ولم تتركهم الثورة يلتقطون أنفاسهم
. فهي تدعوهم وتجمعهم و ” تلملمهم ” وتحشدهم في كل مكان من أرض مصر وفي كل مناسبة
، وحتى بدون مناسبة، ليستمعوا في فضول وعجب وإعجاب إلى رجال الثورة يتحدثون إليهم
أحاديث طويلة عن التحرير والحرية والاستعمار وعن مصر التي هي مصرهم والحكم الذي هو
حكمهم والمستقبل الذي هو مستقبلهم . وتشهر أمامهم علنا وبأقسى الألفاظ بالملوك
والأمراء والباشوات والباكوات والسادة الذين ما كان يخطر ببال المستمعين قط أنهم
قابلون لأن يشهر بهم .
وقامت هيئة التحرير، على مدى ثلاث سنوات بدور المسحراتي
اللحوح ، تصرخ وتغني وتطبل لتوقظ الناس من ” أحلى نومة ” بصرف النظر عن الصائمين
وغير الصائمين .
طرائف
للذكرى :
ولم يكن الأمر يخلو من الطرافة التي تثير الضحك مرحاً
وليس سخرية ، وان كانت جماعة الليبراليين ومثقفوها قد سخرت من التجربة كلها سخرية
لاذعة . ولم يضحك أحد مرحاً كما ضحكنا يوماً من منظر الموسيقار الرقيق ” الموسوس ”
محمد عبد الوهاب وهو محشور في ركن من أركان ميدان الجمهورية (عابدين) يغني لمائة ألف مصري محتشدين في الميدان
يهتفون للثورة . هو يغني وهم يهتفون فلا يكاد يسمع نفسه. وهم يتصببون عرقاً وهو
يدرأ عن أنفه ما لا يطيق بمنديل معطر . ولم يكن محمد عبد الوهاب إلا عميد الفنانين
في مصر الذين زفوا الثورة إلى شعب مصر بكل أنواع الفنون .
ولم يضحك أحد مرحاً مثل الذين ضحكوا وهم يرون الألوف من
الفلاحين المجهدين وقد جمعوا من الغيطان لتلقى عليهم الخطب المطولة في الحرية
والتحرير فلما أعيد عليهم نداء ” ارفع رأسك يا أخي ” اختلط عليهم المعنى
الحقيقي بالمعنى المجازي فرفعوا رؤوسهم المدلاة من فرط الارهاق .
وجذب الاصرار على اليقظة كثيراً من المثقفين فذهبوا
يبتكرون أساليب غريبة للإيقاظ ، من أول قطارات ” الرحمة ” تنطلق من القاهرة لتزور
المدن والأرياف وتدعو الفقراء إلى إعانة الفقراء متخذة من الدعوة وسيلة إلى تثبيت
معاني الوحدة الوطنية ومسئولية الشعب عن حل مشكلاته بنفسه ، إلى مئات من الحافلات
تنطلق ذات يوم من القاهرة تحمل الكتاب والصحفيين والمترفين والفضوليين
والانتهازيين أيضاً ، كل يحمل شجرة صغيرة لزراعة غابة ” كوم أوشيم ” قرب الفيوم .
إلى ما هو أكثر من هذا جدية حين كسر حاجز الصحراء وأنشئت مديرية التحرير وأقيمت في صحرائها قرى نموذجية ونقل إليها الفلاحون بعد أن ألبسوا أزياء
موحدة قريبة الشبه بأزياء الفلاحين في هولندا.. هذا قبل أن تثمر أرضها ما يكفي
لشراء تلك الأزياء .
ثم تؤمم القناة فيكاد الشعب أن يجن فرحاً ويكاد كل مصري
أن يحسب نفسه شريكاً في تأميم القناة . ولم يكن تأميم القناة مجرد إجراء اقتصادي
أو سياسي موجه ضد الانجليز أو غيرهم بل كان إعلاناً مدوياً بأن مصر قد تحررت
ـ أخيرا ـ من احتلال . هكذا فهمه الشعب في مصر وهكذا فهمته جماهير الأمة العربية
وهكذا فهمه العالم كله فيما اعتقد . ثم تأتي الأحداث الكيرى وتتعرض مصر للغزو
الثلاثي في أكتوبر 1956 فإذا بالشعب كله رجالاً ونساء وأطفالاً يخرج إلى الشوارع
هاتفاً ” حنحارب .. حنحارب ” مردداً بذلك نداء قائده في ساحة الأزهر. وتشهد مصر ما
لم تشهده منذ أحمد عرابي : جموع الفلاحين من القرى ومن كل أطراف مصر تحمل أسلحتها
بنادق وفؤوس وعصي وتحمل إرادتها المتحررة متجهة الى حيث لا تدري ” لتحارب “. ويقع
الغزو فينهار بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة أنفسهم (عبد الحكيم عامر وصلاح سالم )
ولكن عبد الناصر يرفض الاستسلام ويفتح مخازن السلاح ويوزعه على الشعب
ويدفع بجزء كبير منه إلى كهوف الجبل الشرقي في محافظة أسيوط ـ التي
يعرفها جيداً ـ لتكون تحت تصرف معركة الشعب ضد الغزو الجديد فيما لو سقطت القاهرة
وزمجرت في الماء الراكد أمواج روحية هائلة . هنالك كانت اليقظة قد تجاوزت إطارها وذابت الثورة- لفترة- في أمواج الجماهير
المتلاطمة فتحول المد الجماهيري إلى طوفان أطاح بكل نظام وتنظيم . ومع ذلك فحين
وجه إلى الشعب نداء بأن يعيد الأسلحة التي وزعت عليه بدون إيصالات أعاد شعبنا
الأصيل إلى الثورة التي وثقت به كل قطعة من السلاح التي وزعته . حتى اللصوص وجدوا
أن ليس من الرجولة أن يخذلوا الثورة التي وثقت بأمانتهم .
وماذا عن
الديموقراطية :
هل كان لكل ذلك علاقة بالديموقراطية مشكلة أو
الديموقراطية حلاً ؟
تتوقف الإجابة على موقف كل واحد من الديموقراطية . أما
الليبراليون والمثقفون ـ إلا القليل ـ وتلك الشريحة الممتازة علماً ومالاً فقد
كانت في هيئة التحرير اصطناعاً وتهريجاً وتضليلاً وضياعاً للوقت والمال و” ضحكاً
على الناس ” وافتعالاً لحركة جماهيرية أبعد ما تكون عن الجماهير وعن الديموقراطية
وكان المتحذلقون منهم يرون فيها خطة مدبرة لاضفاء شكل جماهيري على ديكتاتورية
عسكرية لا تريد الاعتراف بحقيقتها. وكانت حجة كل أولئك أن الجماهير لم تكن هي التي
أنشأت هيئة التحرير ولم تكن هي التي وضعت نظامها وما كانت هي التي تقودها أو
تحركها أو تسهم في تكوين عناصر نشاطها . كانت الجماهير ” تلملم ” لترى أو تسمع أو
تصفق أو تتظاهر ثم تفض حين يطلب منها قادة الثورة . وكان كل هذا صحيحا إلى حد
كبير. ومن هنا فإن الذين توقعوا لهيئة التحرير أو من هيئة التحرير أن تكون هي ذاتها
منظمة ديموقراطية قدخاب أملهم فيما توقعوا لها وما توقعوا منها .
أما الذين كانوا يقفون من مشكلة الديموقراطية موقف
الشعب لسب ويرونها على ضوء احتياجاته الفعلية فلا شك يقدرون ما أسهم به المشروع
الديموقراطي الأول للثورة في سبيل حل مشكلة الديموقراطية في مصر .
اشتركت الجماهير العريضة في منظمة جماهيرية اشتراكاً
شكلياً . فليكن . ولكن تلك الجماهير لم تكن من قبل تشترك في أية منظمة ولم يكن أحد
يهتم بإشراكها . تحركت الجماهير بالاغراء أو حتى بالقسر . فليكن . ولكن تلك
الجماهير كانت قد اعتادت عدم الحركة أصلاً . جمعت الجماهير لملمة في السرادقات
لتسمع الخطب السياسية التي لا تفهم منها شيئا . فليكن . ولكن تلك الجماهير لم تكن
تجتمع إلا في الجنائز ولم تكن تسمع ولا تهتم بأن تسمع خطاباً سياسياً ولم يكن أحد
يهتم بأن يسمعها خطباً سياسية . شدت هيئة التحرير انتباه الجماهير إلى أشكال
مصطنعة من النشاط العام . فليكن . ولكن تلك الجماهير لم تكن من قبل تنتبه أصلاً
للعمل العام . ركزت هيئة التحرير على الأميين والجهلة ولم تتح فرصة كافية للمثقفين
. فليكن. ان مشكلة الديموقراطية في مصر كانت كامنة في صفوف الأميين والجهلة وليس
بين المثقفين .
باختصار إن الثورة لم تحل في تجربتها الأولى ”
الديموقراطية في مصر ولم تحقق شيئاً يهم الليبراليين ولكنها في مصر الشعب اقتحمت
كل المواقع وأيقظت كل النيام و حملتهم على أن يفتحوا أعينهم على القضايا العامة
وان يستمعوا إلى أحاديث وأناشيد الحرية . ولقنتهم أول دروس الوعي السياسي . وأهم من هذا كله انها أقنعتهم وحاولت أن تقنعهم
وبكل الوسائل والأساليب أنهم الأصل والعنصر الأهم في مشكلة الديموقراطية. وهي
محاولات لم يصدقها بسهولة شعب تآمرت كل الأحزاب السابقة على عزله فانعزل . ولقد
كان كل ذلك انجازاً ديموقراطياً كبير بصرف النظر عمن بقي يقظاً ومن عاد إلى نومه ،
من صدق أن له حقاً ومن لم يصدق ، و بصرف النظر عن كل أسباب الضحك مرحاً أو الضحك
سخرية. أياً ما كان الأمر فقد كانت مرحلة هيئة التحرير دليلاً لا شك في صحته على
إصرار الثورة وقائدها عبد الناصر على حل مشكلة الديموقراطية في مصر على مستواها
الأكثر حدة وهو المستوى الشعبي .
كانت خطوة تلتها خطوات . كانت تجربة تناولها التصحيح .
فلننتظر الخطوة التالية .
9 ـ السلطة ، كل السلطة ، للشعب :
نهاية
الحركة الأولى :
” التجربة . الخطأ . التصحيح
” تلك هي الحركات الثلاث للمنهج التجريبي الذي عالج به عبد الناصر مشكلة
الديموقراطية في مصر . وبهذه الحلقة من الحديث تنتهي الحركة الأولى : التجربة ثم
نبدأ بعدها الحديث عن الحركة الثانية : الخطأ . تمهيداً لمرحلة ختامية يكون حديثنا
فيها عن التصحيح . بدون أن ننسى أن الحديث كله عن تجربة عبد الناصر وخطأ عبدالناصر
وتصحيح عبد الناصر. وأن الحديث كله لعبد الناصر، وليس لنا منه إلا المقدمات التي
تفتح له المجال ، والهوامش التي تربطه بالوقائع ، وبعض التعليقات التي تساعد على
تفهم مضامينه ثم العناوين .
نقول هذا وندعو الله أن يلهم الصبر لمن بدأوا يضيقون
بحديث طال بدون أن يصادفوا فيه نقداً لتجربة عبد الناصر كأننا نسبح بحمده وهو ميت
وما سبحنا بغير حمد الله وهو حي ، لكل شيء آن والصبر طيب. وقريباً سندعو الله أن
يلهم الصبرلمن سيضيقون بحديثنا لفرط ما سيتضمنه من عرض لأخطاء تجربة عبد
الناصر في علاجه لمشكلة الديموقراطية في مصر .
المسألة اننا نكشف أو نكتشف ، رؤية عبد الناصر للمشكلة
ومحاولاته حلها . وقد كان عبد الناصر، حتى المرحلة التي قطعناها ، يعتقد أنه يحلها
الحل الصحيح . وفي مرحلة لاحقة سيقول لنا عبد الناصر نفسه ما هي الأخطاء ونحن لا
نريد أن نتدخل فنسبقه .
المهم ، أن عبد الناصر، في نهاية مرحلة الانتقال ، أي
في غضون عام 1955، عبّر بقوة عن اقتناعه بنجاح ما تم من خطوات على سبيل حل مشكلة
الديموقراطية ، وبهيئة التحرير، بل إنه أعلن انتصاره في حل المشكلة . قال في نجع
حمادي يوم 5 يوليو1955 : ” إذا قلنا أن فترة الانتقال قد انتهت فإننا نعني أنكم جميعاً قد أصبحتم
مجلس الثورة لا عشرة منكم فقط . أن الشعب جميعاً ، حينما تنتهي فترة الانتقال،
يصبح هو مجلس الثورة . هذا هو معنى الديموقراطية وهذا هو معنى الحرية وهذا هو معنى
البرلمان “. وقال في قرية برنشت يوم 23 يوليو 1955 : ” ها نحن بعد ثلاثة أعوام
أقول لكم اننا انتصرنا في الثورة الوطنية وحققنا الجلاء والثورة السياسية فقضينا
على الاستبداد السياسي الذي كان يتمثل في السياسيين القدامى وأعوانهم ، هذا
الاستبداد الذي خيم على هذا الوطن وكنا نعاني منه الكثير. لقد انتصرنا في الثورة
الوطنية والثورة السياسية .
وقال في القاهرة يوم 16 يناير 1956: ” استطعنا يا
أخواني في خلال هذه السنوات الثلاث أن نقضي على الاحتكار نقضي على سيطرة رأس المال
على الحكم وأن نقيم حكماً نظيفاً ينبثق من ضمير هذا الشعب وينبثق من نفسية هذا
الشعب وينبثق من آمال هذا الشعب .. كانت فترة السنين الثلاث الماضية فترة هدم
وفترة تصفية للرجعية والاستعمار ولاعوان الاستعمار . ولكنا اليوم نعلم أن هذا
الدستور هو بداية الكفاح من أجل العمل والبناء . إن الدستور لم يكن هدفنا ولكن
الدستور يرسم الطريق إلى غرضنا الأكبر. إن الدستور هو تعبئة كاملة لأبناء هذا الشعب . إن
الدستور الذي نعلنه وثيقة تكتب ولا وثيقة للخداع ولا وثيقة للتضليل لأننا
نعلنه نحن الشعب .. لا يعلنه فرد من الأفراد ولا سلطان ولا صاحب سلطة . ان الدستور
الذي نعلنه اليوم يبين خطة الكفاح ولا نهاية الكفاح .
” إن الدستور الذي نعلنه
اليوم يبين وسيلة الكفاح ويرسم وسيلة الكفاح “ .
” أيها المواطنون : إن
الثورة الحقيقية تبدأ اليوم . ثورة من أجل العمل . ثورة من أجل البناء . ثورة
يمارسها الشعب ، ثورة يحرسها الشعب . تحرسونها أنتم جميعاً ويحرسها أولادكم من
بعدكم ويحرسها أحفادكم “ .
ثم يعلن من دار الرياسة بالقاهرة يوم 17 يناير 1956
قرار الانتصار : ” لقد زالت دولة الأقطاع وقامت دولة الأحرار . انتهت دولة الأسياد
والعبيد وقامت دولة المساواة كلنا في هذه الأرض أحرار “ .
ما الذي حدث :
ما الذي حدث في نهاية فترة الانتقال حتى يستطيع عبد
الناصر، بكل تلك الثقة أن يعلن انتصاره في حل مشكلة الديموقراطية وقيام ” دولة
الأحرار “، بل وانتهاء دور مجلس الثورة ؟.. حدث أمران لكل منهما دلالته
الديموقراطية الواضحة .
الأمر الأول : أن عبد الناصر قد أوفى بوعده للشعب وأنهى فترة الأنتقال في آخر
يوم من السنوات الثلاث التي حددها يوم 16 يناير 1953. بداها بالاستبداد بالسلطة .
وخلالها انتصر على كل القوى التي تصدت للثورة . وفي نهايتها لم يكن في حاجة إلى أن
يسترضي أحداً أو يخاف من أحد . كان يستطيع أن يبقى مستبداً بالسلطة لأية مدة
يريدها. كان يستطيع أن يمد فترة الانتقال سنة أخرى أو أكثر كما فعل حكام من قبله
ومن بعده . و لكنه أوفى بوعده و انهى فترة الانتقال .
الأمر الثاني : هو إعلان دستور 1956 فطوال المرحلة السابقة كانت اللجنة التي شكلت
بقرار 13 يناير 1953 مستمرة في وضع مشروع الدستور الذي وعدت به الثورة في نهاية
فترة الانتقال . ولقد أعدته فعلأ وقدمته إلى مجلس الوزراء يوم 17 يناير 1955 ولكن
عبد الناصر رفضه. لماذا؟… لأنه يأخذ بالنظام النيابي البحت . وتولى عبد الناصر
شخصياً اعداد الدستور الجديد الذي أعلنه في 16 يناير 1956 .
ان هذا الدستور، دستور 1956، يستحق الانتباه الجاد من
كل الذين يريدون جادين أن يعرفوا موقف عبد الناصر من الديموقراطية عامة ومن مشكلة
الديموقراطية في مصر . ذلك لأن فيه صاغ عبد الناصر لأول مرة أفكاره عن
الديموقراطية في نصوص دستورية . حوّل رؤيته إلى نظام للحكم . ولأن
به عبّر عبد الناصر، بوضوح قاطع ، عن بدء القطيعة بينه وبين الديموقراطية الليبرالية
. تلك القطيعة التي ستتحول في مرحلة لاحقة إلى عداء صريح . ولقد عبّر عبد الناصر
عن بدء القطيعة مع الليبرالية برفضه النظام النيابي البحت ..
للمساهمة في تفهم أعمق للموقف نقول كلمة عابرة عن
النظام النيابي .
أعطني وكالة .. لأحكمك :
باختصار مختصر نحوّل ثلاثة قرون من التاريخ إلى أسطر معدودات ولا
نخل بالجوهر إن شاء الله .
(حتى
القرن السادس عشر) كانت الكنيسة تسيطر على حكم وحكام أوروبا باسم نظرية الحق
الألهي . الحكم لله وحده ويختار لأدائه في الأرض من يشاء . ولما كان البابا هو
ممثل الله في الأرض فقد كانت كلمته مصدر الشرعية والحرمان . وساد القانون الكنسي
بعد أن لم يكن في أوروبا قانون . و لكن أوروبا الاقطاعية كانت محاصرة منذ النصف
الثاني من القرن الثامن . كان قد حاصرها المسلمون . ففرض الحصار على الاقطاعيات أن
تتبادل منتجاتها وخدماتها بعد أن سدت طرق التجارة الخارجية . فنشطت التجارة
الداخلية وكان التجار في أول أمرهم باعة جوالين فيما بين الاقطاعيات فأطلق عليهم ”
المعفرة أقدامهم ” (ما تزال المحاكم التجارية في إنجلترا تحمل اسما ترجمته محاكم
المعفرة قدمه) . أولئك كانوا رواد الطبقة البورجوازية التي لم تلبث حتى حولت
الانتاج من الاستهلاك إلى المبادلة ، وحررت الفلاحين من التبعية الاقطاعية، وقامت
المدن والمراكز التجارية و المناطق الحرة وأنشأت البنوك وأباحت الربا بعد أن كان
محرماً ، و صاغت القوانين ورشت أو أقرضت الأمراء ومولت حروبهم .. ” وفي مقابل كل
خطوة كانت تحصل ـ بالثمن أو بالرشوة أو بالقوة ـ على ” حرية ” جديدة . وكانت تلك
الحريات البورجوازية، كلها، تستهدف غاية ” تجارية ” واحدة .. عدم تدخل الحكام في
شئون التجارة وما تستلزمه من ” حرية ” التعاقد، و” حرية ” العمل و” حرية ”
الانتقال و” حرية ” المضاربة و” حرية ” التملك .. وذلك هو الجوهر مما عرف باسم
الليبرالية .. عدم تدخل الدولة.. إلا لمصلحة البورجوازية بحجة حماية ” الحريات “ .
كانت أولى المصالح المبكرة للبورجوازية الأوروبية هي فك
الحصار الإسلامي وفتح طريق التجارة إلى الشرق . فتحالفت مع الكنيسة المسيطرة فقال
البابا أربان الثاني لأمراء الأقطاع : ” أن الأرض التي تقيمون عليها لا تكاد تنتج
ما يكفي لغذاء الفلاحين ، وهذا سبب اقتتالكم فانطلقوا إلى الأماكن المقدسة وهناك
ستكون ممالك الشرق جميعاً بين أيديكم فاقتسموها “. وهكذا بدأت الحروب الصليبية
التي استمرت قرناً كاملاً ( 1096 ـ 1192 ) بتحريض وتمويل البورجوازية الأوروبية .
أما في أوروبا فحين أراد ملك فرنسا فيليب الجميل أن يحصل من البورجوازية الفرنسية
على تمويل الحرب ضد إنجلترا (1296) أفتى البابا يونيفاس الثامن بأن المسيحية تحرم
المساهمة في حرب ضد شعب مسيحي …
فلما انهت الكنيسة دورها في خدمة البورجوازية كان لا بد
من إسقاط سلطتها بقصد إخضاعها للضرائب أولأ ولانتزاع حق القضاء منها ثانياً وليحل القانون
المكتوب محل التفسيرات الكنسية للنصوص الدينية ثالثاً . فتحالفت البورجوازية مع
الملوك . ونشأت نظرية العناية الإلهية كمصدر لشرعية السلطة ، فالحكم لله وحده ولكن
ليس من الضروري أن يختار له ممثلاً واحداً في الأرض هو البابا . كتب جان دي باري
عام 1302 أن الحياة تنقسم إلى قسمين متميزين ومنفصلين ، قسم مادي وقسم روحي . وأن
الله يختار لكل منهما من يتولاه ، فاختار الكنسية للحكم الروحي واختار الملك للحكم
الدنيوي .. فالملك قد تلقى سلطته بدون وساطة الكنيسة “. الخطوة التالية أن الله لا
يختار مباشرة ولكنه يوجه الأمور الدينية بعنايته لتستقر السلطة في يد ملك . فكل
ملك هو ملك بعناية الله . ولا دور للكنسية أو البابا (مارتن لوثر ابتداء من 1520
وجان كالفن ابتداء من 1536) .
ولكن الأمور تجاوزت الحدود التي أرادتها البورجوازية .
هانت الكنيسة إلى درجة أن ملك فرنسا قبض على البابا جورجي السابع ونفاه . ولكن
الملوك استردوا لأنفسهم نظرية الحق الالهي العتيقة . قال لويس الرابع عشر : ”
الدولة هي أنا “. وقال لويس الخامس عشر عام 1770 : ” ان حق إصدار القوانين التي
يخض لها ويحكم بها رعايانا هي حقنا نحن بدون قيد وبدون شريك ” وقال عام 1766 : ” ان
النظام العام كله ينبع مني ، وكل حقوق ومصالح الأمة .. هي بالضرورة متحدة مع حقوقي
ومصالحي وليس لها مكان إلا بين يدي ” . وكانوا يدرسون في كلية الحقوق : ” إن الأمة
ليست متجسدة في فرنسا بل هي متجسدة بأكملها في شخص الملك .. “.. وقاد فلاسفة
الاستبداد حملة ترويض البشر. هوبز في انجلترا (كتاب العملاق عام 1651) . وجان
بودان في فرنسا (كتاب الجمهورية عام 1576) . في هذا الكتاب الأخير- وكان يعني
بالجمهورية الدولة- برر بودان الاستبداد بأكثر النظريات تخلفاً ، الدولة كالعائلة،
والملك هو كبير العائلة. وكما لا تصلح عائلة لا كبير لها لا تصلح دولة لا ملك لها
. وكما أن على أفراد العائلة أن يطيعوا كبيرهم ، على رعايا الدولة أن يطيعوا ملكهم
.. الخ .
غير أن البورجوازية التي أصبحت تسيطر على الحياة
الاقتصادية والثقافية ما كان لها أن تقبل عودة الاستبداد تحت ستار هذا المنطق
العائلي . وشنت ضد الملوك المستبدين ثورات دموية كانت أهمها ثورة 1688 ضد جيمس
الثاني آخر ملوك أسرة ستيوارت ( 1685 ـ 1688 ) الحاكمة في إنجلترا. كان السبب
الظاهر للثورة أن جيمس الثاني أصدر قانون التسامح الديني . ولكن هارولد لاسكي
الفيلسوف الإنجليزي يرجعها إلى سببها الحقيقي فيقول : ” إن ملوك أسرة ستيوارت
عرقلوا سبيل التجارة بالاحتكارات التي منحوها لأفراد بطانتهم ” .
وأسفرت الثورة عن انتصار البرجوازية وصدور أول دستور
مكتوب في تاريخ أوروبا باسم ” وثيقة
الحقوق “.. وبعده بقرن تقريباً ستنتصر البورجوازية في فرنسا ويصدر ” اعلان حقوق
الإنسان والمواطن ” (26 أغسطس 1789) .
السؤال الآن هو : باي حق كانت البورجوازية تناهض
الاستبداد الملكي ؟.. هل بالحق الإلهي ؟ لا . هل بحق العناية الإلهية ؟؟ لا. هل
بحقها هي في الحكم ..؟ لا أيضا : إنما تحدت استبداد الملك بحق الشعب في الحكم .
وأسمته الحق الطبيعي . وقادت
الشعوب ضد الاستبداد تحت الشعار الذي انتهى أخيراً إلى صيغته الفرنسية ” حرية .
اخاء . مساواة ” انتصرت الثورات الليبرالية بقيادة البورجوازية وباسم الشعب فإن
للبورجوازية أن تفسح له الطريق ليحكم .. ألم تكن الديموقراطية هي غاية الثورات ؟..
أبداً . ليست
البورجوازية غبية إلى هذا الحد . انها تريد أن تحكم هي ولكن باسم الشعب . تحكم من
؟.. تحكم الشعب نفسه ولكن باسم الشعب . كيف يمكن أن يكون ذلك ؟ عن طريق الوكالة.
فليكن . وفي فترة مبكرة من تاريخها كان ” ممثلو ” الشعب يجتمعون في ” البرلمان ”
حاملين تعليمات الذين اختاروهم مكتوبة في ” كراريس ” وكان عليهم أن يقدموا
عن وكالاتهم حساباً . ارتضى البورجوازيون ذلك يوم أن كانوا في حاجة إلى “رضى ”
الشعب في أوائل صراعهم مع الملوك المستبدين . ولكن بعد أن انتصروا أصبح عليهم أن
يتحرروا من الرقابة الشعبية …
فاخترعت البورجوازية ، اختراعاً ، نظام التمثيل النيابي
(موريس دو فرجيه) . وخلاصته أن الشعب يختار ممثليه. ولكنهم . بمجرد اختيارهم ـ لا
يكونون ممثلين لأحد ولا يكون لأحد عليهم سلطة الرقابة والمتابعة والعزل بحجة أن كل
نائب ، بمجرد انتخابه، يمثل ” الأمة ” كلها ولا يمثل أحداً بعينه ..
في عام 1774 قال الفيلسوف السياسي الإنجليزي
بيورك وهو يشكر ناخبي دائرة بريستول بعد اختياره نائباً : ” إن البرلمان ليس
مؤتمراً للمبعوثين يمثلون المصالح المختلفة المتنافسة . إنه اجتماع لمناقشة أمور
أمة.. “.. ويقول الفقيه الإنجليزي بورجوس : ” إن لمجلس العموم السيادة على الملك
واللوردات والشعب ” ويقول أستاذ العلوم السياسي الفر نسي جورج بوردو : ” إن السلطة
التي كسبها البرلمان من الملك والوزارة على أساس أنه ممثل الشعب لم تعد إلى الشعب
. ان حركة تحول السلطة من الملك إلى الشعب قد أوقفت في مرحلة معينة حيث تدخلت قوة
ثالثة هي البرلمان واستولى عليها لنفسه “. ويقول الفقيه الفرنسي الكبير كاريه دي
ملبرج : ” إن النظام المسمى ” التمثيل النيابي ” ليس
نظام تمثيل نيابى بالمعنى الصحيح للكلمة لأن أعضاء الهيئة التشريعية لا يمكن
اعتبارهم ممثلين لا للمواطنين ولا للأمة “. ويقول موريس دو فرجيه ” ان الليبرالية
البورجوازية قد وجدت في التمثيل النيابي ” سلاحاً صالحاً لتحد من سيادة الملك و
النبلاء من ناحية وتحرم الشعب من ممارسة أية سلطة من ناحية أخرى ” ويقول جاريجولا
جرانج ـ أستاذ القانون الدستوري ـ : ” لم يكن مبدأ النظام النيابي في حقيقته إلا
مبدأ سيادة البرلمان وهي تواجه سيادة الشعب نفسه الذي أبعد بعناية وعناد عن ممارسة
سيادته ” فيقول رينيه كابيتان : ” ان النظام النيابى في أصله قام بعيداً عن
الديموقراطية بل ومضاداً لها … “
ولم يقل أحد أبداً ، من علماء السياسة أو علماء القانون
، في أي مكان من العالم ، إن النواب يعبرون عن إرادة ناخبيهم أو إن البرلمان يقرر
ما يريده الشعب . ذلك
لأنه، فيما عدا يوم الانتخاب ، لا يسمح النظام النيابى للشعب بالتدخل في شئون
الحكم أو المساهمة فيها . أقصى ما قيل دفاعاً عن النظام النيابي إنه نظام ضرورة :
ما دام الشعب لا يستطيع أن يجتمع كله ليناقش ويصدر القرارات التي تحكمه فلا سبيل
إلى صدورها إلا عن طريق من يختارهم لوظيفة التشريع .. ثم يكمل النقص بما يتيحه
النظام للشعب من وسائل الضغط (الانتخاب دورياً ـ حرية الصحافة- حرية الأحزاب..
الخ) . وفي مطلع العشرين بدأ إدخال نظام الاستفتاء الشعبي للاقتراب من
الديموقراطية . وخلاصته، أنه ما دام النظام النيابي نظام ضرورة مادية (عدم إمكان
إجتماع الشعب فليبق ولتتح للشعب نفسه كل فرصة ممكنة للاسهام بنفسه في الحكم عن
طريق استفتائه في المساثل الهامة.. ولكن هذا الاتجاه الديموقراطي الذي ساد وسط
أوروبا في العشرينات لم يلبث أن توقف تحت مد الديكاتورية النازية.. ليعود فيظهر في
فرنسا مرة أخرى عام 1958 (دستور ديجول) كعلاج ديموقراطي لا بد منه لغيبة الشعب في
ظل النظام النيابي …
قبل دستور فرنسا الذي صدر عام 1958 بثلاثة أعوام عرضت
لجنة الدستور التي شكلتها ثورة يوليو 1952، في مصر ، مشروع الدستور على مجلس
الوزراء يوم 17 يناير 1955. وإذ بعبد الناصر يرفضه. لماذا ؟.. لأنه يأخذ
بالنظام النيابى البحت . ويضيف عبد الناصر قوله أن النظام النيابى البحت يقصر دور
الشعب على مهمة انتخاب نوابه في فترات معينة من الزمن دون أن يفسح مجالاً ليمارس
الشعب بعض سلطاته بنفسه أثناء هذه الفترات . ثم يصوغ عبد الناصر شخصياً دستور 1956
ويعلنه متضمناً ” الاستفتاء الشعبي ” ومقرراً اعطاء السلطة كل السلطة للشعب ..
ويقولون أن تاريخ العلوم السياسية كان من مواد القراءة
المفضلة لدى عبد الناصر….
دستور عبد
الناصر (1956) :
إذا كان عبد الناصر يريد أن يفي بوعده ويصدر دستوراً في
نهاية فترة الانتقال فلماذا لم يقبل النظام النيابى البحت ؟ . ولماذا يريد أن يقحم
الشعب في ممارسة السلطة جنباً إلى جنب التمثيل النيابي وليس بديلأ عنه ؟ .. ان كل
الذين يعرفون تاريخ النظام النيابى وتطوره يعرفون أنه أقل النظم إزعاجاً للحكام .
فهو يقسم السلطة فيما بينهم فمنهم المشرعون ومنهم المنفذون ومنهم القضاة . ويقيم
بينهم توازناً ورقابة متبادلة، ويغنيهم جميعاً عن متاعب التدخل الشعبي في أمور
الحكم إلا حين يريدون العودة إليه لتجديد انتخاب السلطة التشريعية كل بضعة سنوات .
قال فيلسوفه الأكبر مونتسكيو : ” إن هناك عيباً خطيراً في الجمهوريات القديمة وهو
أن الشعب كان له الحق في أن يأخذ قرارات إيجابية ويطلب القيام ببعض الأمور
التنفيذية أيضاً ، وهو مالاطاقة أو كفاءة له به ” .
فهل كان عبد الناصر يبحث عن مزيد من المتاعب . فيدخل
الشعب طرفاً في السلطة في حين أن أحداً لم يطلب منه ذلك أو حى يتوقعه ؟..
وهكذا نرى دستور 1956 يتضمن كافة الحريات والحقوق
السياسية وقواعد النظام النيابي التي كان يتضمنها دستور 1923. ولكن يضيف إليها أن
يكون رئيس الجمهورية منتخباً من الشعب ، وأن يستفتي رئيسن الجمهورية الشعب فى
المسائل الهامة التي تتصل بمصالح البلاد العليا ، والا يتم التعديل في الدستور إلا
بعد استفتاء الشعب فيه .
الاتحاد
القومي :
أضاف دستور عبد الناصر (1956) شيئاً غير مسبوق على
مستوى الفكر الدستوري والممارسة السياسية في مصر. فقد نص على أن : ” يكوّن
المواطنون اتحاداً قومياً للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة ولحث
الجهود لبناء الأمة بناء سليماً من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية ..
ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الأمة وتبين طريقة تكوين هذا الاتحاد
بقرار من رئيس الجمهورية (المادة 192) . و لقد صدرت بتكوينه عدة قرارات متتابعة (28
مايو 1957 ، أول نوفمبر 1957، 16 مايو 1959) انتهت إلى أن عضوية الاتحاد القومي
أصبحت مقترنة بحق الانتخاب ذاته وتكوين لجانه عن طريق الانتخاب (القرار 35 لسنة
1959 والقرار 1055 لسنة 1959) …
سوف ينقد عبد الناصر تجربة الاتحاد القومي نقداً مريراً
. ولكن إلى أن نلتقي بذلك النقد ونعرف أسبابه دعونا نتأمل الجديد ديموقراطياً في ”
نظرية ” الاتحاد القومي . إن الناخبين ، الذين لم يكونوا يمارسون حرياتهم السياسية
كناخبين إلا مرة واحدة كل بضع سنين ثم ينتهي دورهم ، هم أنفسهم يشكلون تنظيماً
قائماً دائماً يفرز الذين يرغبون في الترشيح لمجلس الأمة ثم يختار من بينهم من يرى
أنهم أهل للترشيح ليتنافسوا في المعركة الانتخابية . وهكذا لم تعد علاقة الناخبين
بالمرشحين علاوة وقتية تبدأ بوعود المرشحين ودعاويهم وتنتهي بمجرد أن يتم الانتخاب
. لا. أصبح ” شعب الناخبين ” حاضراً دائماً قبل الانتخابات وفيما بينها وحين
عودتها . وعلى من يطمع في أن يرشح أو ينتخب أو يعاد ترشيحه أو انتخابه أن يكسب ثقة
الناخبين المنظمين في ” الاتحاد القومي ” وأهم من ذلك أن يبقى محتفظآ بهذه الثقة .
الشعب هنا منعقد بصفة دائمة انعقاداً منظماً قائماً بجوار السلطات الأخرى ، وله حق
المتابعة والمناقشة والرقابة والاعتراض ، وله على أعضاء مجلس الأمة حق الجزاء .
وأقل جزاء هو عدم الموافقة على الترشيح مرة أخرى .
وهكذا تحول الشعب المنظم في ” الاتحاد القومي ” إلى
سلطة دستورية رابعة . لسنا نحن الذين نقول هذا بل إن القضاء المصري هو الذي اكتشف
طبيعته ووافقه في هذا كل شراح القانون . الشعب منظم في تنظيم واحد . تلك هي صيغة
هيئة التحرير . الشعب منظم في تنظيم واحد ذي حقوق دستورية . تلك هي صيغة الاتحاد
القومي جوهر الحل لمشكلة الديموقراطية هو هو ولكنه يتقدم ديموقراطياً بعد كل خطوة .
التفاؤل :
ولقد كان عبد الناصر فخوراً بما أوفى من وعد، وبما حقق
من ديموقراطية ، حتى أنه في حديثه إلى الصحفي الهندي كارنجيا ـ الذي أشرنا إليه من
قبل ـ يكاد يعتبر مشكلة الديموقراطية قد حلت أو وضعت أسس حلها ويتوقع أن تقام على
تلك الأسس ” في المدى الطبيعي للأمور ” حياة ديموقراطية قد لا تخلو من الأحزاب ..
وكان عام 1956 هو عام تفاؤل عبد الناصر .
قال في المؤتمر التعاوني يوم 1 يونيو 1956: ” قلنا نعمل
اتحاداً قومياً . وهذا الاتحاد القومي عبارة عن جبهة وطنية تجمع بين أبناء هذا
الشعب .. ستكون للشعب الأغلبية العظمى من هذا الشعب ، الناس الذين حرموا من حريتهم
أيام كان هناك برلمانات زائفة كنا كلنا نشكو منها، ونعرف أنها لاتحقق رغباتنا ولا
تعمل لصالحنا ولكنها تعمل لمصلحة فئة قليلة من المستغلين أو من الاقطاعيين أو من
الحاكمين الذين يريدون حكماً وشهوة وسلطاناً ، هذا الكلام كان في الماضي واليوم في
هذه المرحلة الجديدة فلن تكون هناك حرية سياسية للانتهازيين أو الرجعيين أو أعوان
الاستعمار إذن الاتحاد القومي يشمل جميع أبناء هذه الأمة “ .
وقال يوم 26 يوليو 1957 في الاسكندرية : ” هذه الثورة
ليست ملك طبقة من الطبقات ولكن هذه الثورة ملك للشعب كله بجميع طبقاته . هذه
الثورة لن تقضي على الانتهازية إلا إذا قام فيها مجتمع تعاوني يتعاون فيه العامل
مع صاحب العمل . ويتعاون الفلاح في أرضه مع أخيه . تقوم جمعيات تعاونية للفلاحين
من أجل أن يقدروا أن يقوموا بعملهم . كل واحد يبحث عن مصلحة نفسه وفي نفس الوقت
يبحث عن مصلحة أخيه .. هذا هو السبيل أيها الأخوة وهو الهدف . حياة ديموقراطية
سليمة وهو الهدف السادس من أهداف الثورة . وهذا هو السبب الذي من أجله أقمنا
الاتحاد القومي وقلنا إن المواطنين جميعاً يكوّنون الاتحاد القومي من أجل بناء هذا
الوطن اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ” .
وقال في بني سويف يوم 14 نوفمبر 1958: ” هذا هو الاتحاد
القومي . اتحاد يجمع بين أبناء الوطن العربي الواحد.. لا انحراف إلى اليمين ولا
انحراف إلى اليسار لا تفرقة لا تنابذ وإنما جمع كلمة من أجل رفعة هذا البلد “ .
وقال في الاحتفال بالعيد السابع للثورة يوم 22 يوليو
1959: ” الاتحاد القومي في معناه وفي انتخاباته كان عبارة عن تمثيل لهذا الشعب .
الاتحاد القومي في نتيجته كان عبارة عن تمثيل للشعب فيه المثقفون وفيه العمال وفيه
الفلاحون وفيه الموظفون وفيه الذين في المعاشات وفيه كل حاجة . بيمثلنا كلنا ..
وكما قلت إن الاتحاد القومي هذا هو عبارة عن الوسيلة التي بواسطتها نريد أن نحقق
المجتمع الاشتراكي الديموقراطي التعاوني .. ثم يوم 26 يوليو 1959 : ” اننا نكوّن
اتحادا قومياً يجمع بين أبناء هذه الأمة، بين أبناء الجمهورية العربية المتحدة
نبني تحت راية هذا الاتحاد وطننا …… إلى آخره .
في أقوال عبد الناصر هذه إضافة نامية . فقد بدأ فيها
ربط الأسلوب الديموقراطي بهدف التنمية . كانت الوحدة الوطنية التي تمثلها هيئة
التحرير لازمة لمواجهة متطلبات معركة التحرير وبقيت الوحدة الوطنية التي يملكها
الاتحاد القومي لازمة لمواجهة متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية . كانت غاية
هيئة التحرير جذب أغلبية الشعب من السلبية إلى الإيجابية . وجاء الاتحاد القومي
يخولها حقوقاً دستورية ويشركها في السلطة … ليصبح لها بذلك الحق ، وعليها الواجب في
انجاز متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
وفي ساحة التنمية لا تجدي الكلمات الكبيرة ، ولا تفيد
الشعارات الرنانة ، وتصبح كافة الحقوق والحريات الديموقراطية متوقفة في النهاية على
كيفية ممارستها وعلى عطائها العيني .. وفي هذه الساحة، ساحة التطبيق ، اكتشف عبد
الناصر أخطاء التجربة … ووقف مرة أخرى عند مفترق الطرق : ديكتاتورية أم ديموقراطية ؟
واختار مرة أخرى الديموقراطية … وكلفه اختياره ” ثورة ” جديدة ، بكل معاني الثورة
وأبعا دها ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق