بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

د.عصمت سيف الدولة - السادات ... الله يرحمه ..

 PDF

في الذكرى الأولى لوفاته : 

السادات ... الله يرحمه ..

د.عصمت سيف الدولة .

كتاب الأهالي عدد 16 أكتوبر 1987 .

الزنازين المقابلة في سجن "ملحق مزرعة طرة" ذوات الأبواب ، لا مفتوحة ولا مغلقة ، أبواب من قضبان حديدية غليظة متقاطعة كأقفاص الحيوانات المتوحشة في حدائق الحيوان .. كانت خالية من الأسرّة والمقاعد والمناضد ، عامرة بالحشرات القارضة والقارصة واللادغة . كان في كل زنزانة أربعة .. ثلاثة من الآدميين ومرحاض لا باب له ولا ساتر ، تقاطعه المياه الا نادرا . يتأذّى الآدميون من الجلوس على الأرض الصلبة العارية الرطبة ، ينفرون من رائحة رفيقهم الرابع ، فيتجمعون وراء قضبان الباب ، يسندون اليها أجسامهم المتعبة ، ويمدون الى خارجها أنوفهم ما استطاعوا ، فتلامس الرؤوس ، ويبقون هكذا وقوفا أو متردّدين أغلب النهار والليل ، يتبادلون الحديث صباحا مع أصحاب الرؤوس المتزاحمة خلف قضبان الزنازين الأخرى ..

في يوم 7 أكتوبر 1981 كان قد مضى أكثر من شهر على نزلاء تلك الزنازين بدون أن يعرفوا لماذا حملوا اليها عنوة فجر نهار يوم 3 سبتمبر 81 . لم يخبرهم أحد كتابة أو شفويا ، لم يوجه اليهم اتهام . لم يعرضوا على محقق . لم يزرهم أحد من الأهل أو المحامين . لم يقرأوا صحيفة . لم يستمعوا الى مذياع . لم يتلقوا رسالة ، لم يرد أحد من السجانين أو الحراس على سؤالهم الإنساني البسيط المتكرر : لماذا ؟ فقط لماذا ؟ . فكانوا جميعا يجترون مزيجا فضيع المرارة من مشاعر الغضب والألم والمهانة ، ويغالبون مشاعرهم تلك بمظاهر المرح واللامبالاة والتحدي .

في ذلك اليوم 7 أكتوبر 1981 ، لم يكونوا قد عرفوا أن أنور السادات قد لقي مصرعه قتلا في اليوم السابق ، فطاف مأمور السجن بالزنازين ، تحت رقابة لصيقة من ضابط مباحث أمن الدولة الذي يرافقه ، ليقول لنزلاء كل زنزانة بصيغة جادة جامدة : (البقية في حياتكم .. الريس مات ) .. تباينت ردود الأفعال الفورية قبل أن تتوحّد في هتاف جماعي مستمر : تحيا مصر .

حين جاء دور زنزانتي لتلقي الخبر ، وجدتني أقول بهدوء وتلقائية .. الله يرحمه . منذ تلك اللحظة لم أنس أبدا أن أنور السادات قد مات . وأن قد مات معه كل ما يتصل بذاته . وأنه يجب أن تدفن معه مشاعر الغضب والالم والمهانة التي تجرعنا مزيجها فضيع المرارة بفعل أسلوبه الخاص غير العادي في التفكير والتقدير والتدبير والتعبير . ذلك لأنه لم يحدث قط أن كان لأنور السادات (الذات) نصيب من اهتمامنا الا بقدر ، وفي حدود ، اتصال ذاته بمن كنا نهتم به اهتماما بالغا . نعني رئيس الجمهورية .  كنا مشغولين جدا بالوظيفة الدستورية واختصاصاتها المحدودة في الدستور ، وسلامة أدائها ، والاثار التي تترتب عليه في حياة الشعب .. لقد كان أنور السادات مواطنا وزوجا وأبا . وكان يهوى الكتابة والخطاب والحديث . وكان يلم ببعض اللغات الأجنبية ويطيب له استعمالها حتى في بعض المواقف الرسمية التي يتحدث فيها باسم مصر العربية . وكان ذا ذوق خاص به في الملبس والمسكن ونمط الحياة . وكان يعشق ذاته ويسعده أن تسند اليها أوصاف تعجبه . فهو المؤمن . وهو الملهم . وهو القائد . وهو الزعيم . وهو كبير العائلة . وهو الفلاح . وهو المعلم المربي الذي يلقي دروسا على الشباب متربّعا على (دكة) خشبية كما يفعل الشيوخ الأجلاء من أساتذة الأزهر في أوائل القرن . وكان مفتونا بالتاريخ يعيد صياغة ما يشاء من صفحاته بل يسجلها بصوته ولا يكل من العمل على أن يكون له مكان مرموق فيه . ويقال أنه كان خفيف الظل ومسامرا ظريفا . ونقول أنه كان جسورا الى درجة مذهلة .. وانه في كل هذا لم يكن الا بشرا تحركه أفكار وبواعث ونوايا وطموحات خاصة به مثل كل البشر .

ما كان لأي من هذه الصفات والسجايا والخصائص أن تثير اهتمام أحد غير أنور السادات نفسه والقريبين منه وذوي قرباه لولا أثرها في أداء وظيفته كرئيس جمهورية . والواقع أنها لم تكن محل اهتمام أحد غيرهم قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية . ذلك لأن رئاسة الجمهورية هي الصفة الوحيدة التي نشأت بها العلاقة المتبادلة بين الشعب وبين أنور السادات . وقد كان يمكن أن تبقى ذات أنور السادات بعيدة عن الاهتمام الشعبي حتى بعد توليه رئاسة الجمهورية لو أنه قنع بأن يبقى رئيسا للجمهورية لا أكثر . وأن يؤدي وظيفته المحددة في الدستور لا أقل . أي لو قنع بأن يكون رئيسا (عاديا) .

ولكن أنور السادات لم يكن شخصية عادية على أي وجه وبأي مقياس . وأعتقد أنه لن يمضي وقت طويل حتى تصبح سيرته مشغلة كثير من المؤرخين والعلماء والادباء والفنانين . وستكون جوانب شخصيته غير العادية مادة غنية للبحث العلمي ومصدرا خصبا للإلهام الأدبي والابداع الفني . وسيجمعون على أنه كان ظاهرة لا مثيل لها بين حكام مصر منذ الفراعنة (ربما الا حاكما واحدا ..) .. وسيدرس علماء النفس دراسة دقيقة – كعادتهم – الزي العسكري الفريد الذي اهتم بتصميمه واختاره لذاته . وسيحاولون البحث عن أسباب هذا الاهتمام . وسيحللون دلالة التصميم والخطوط والألوان والزخارف لاكتشاف علاقة هذا الخليط المتميز بشخصية صاحبه غير العادية .

غير أن أكثر ما يشغل المؤرخين هو اكتشاف أسباب وبواعث واثار دمج السادات دمجا كاملا بين ذاته ووظيفته . وسيختلفون حول أيهما كان يلعب الدور الأساسي في تصرفاته . وسيناقشون على نطاق واسع وجاد دلالة كثير من التعبيرات التي كان يستعملها وما اذا كان يعنيها أم لا . وسيعرضون نماذج الى تسميته الشعب (شعبي) والجيش (جيشي) والمعركة (معركتي) والنصر (نصري) . وستساعدهم العقول الالكترونية في تحديد نسبة كلمة (انا) أو ما يقوم مقامها الى مجمل الكلمات التي نطقها في حياته . وقد يجدون أنها نسبة غير عادية فيدرسون دلالتها . وسيعودون الى دراسة كتابه الشهير (البحث عن الذات) الذي برر إصداره بأن القدر قد شاء أن يكون تاريخ ذاته هو تاريخ مصر ذاتها . ليكتشفوا ما كان يعنيه بهذا القول على وجه التحديد . ولعلهم حينئذ يؤرخون للذين عاصروه حاكما فيذكرون ما كاد يكون مستحيلا على أغلبهم : أن يؤيدوا أو يعارضوا أعماله كرئيس للجمهورية بدون أن يلمس التأييد ذاته فتختلط بالحقد . ولعلهم يكتشفون أن كثيرا من معاصريه استشعروا هذا الحرج فلم يجهروا بتأييده أو بمعارضته حتى لا يتعرضوا لما لا يرضيهم من شبهة النفاق أو الحقد .

مشكلة مستعصية :

كان الأثر المباشر لهذا الدمج بين ذات رئيس الجمهورية ووظيفته الدستورية أن عاشت مصر طوال عهد السادات في قلب مشكلة مستعصية . أصل المشكلة أن الدستور – أي دستور – هو وثيقة وضعية منشورة تتضمن مجموعة كثيفة من القواعد العامة المجردة التي (اعتقد) واضعوها (حين) وضعها أن التزامها يحقق مصلحة الشعب في (المرحلة التالية) لوضعها . ويترتب على هذا ، أي على طبيعة الدستور الوضعي ذاته ، احتمال قيام تعارض بين التزام أحكامه وبين مصلحة وطنية لازمة . لأن الدستور من حيث هو قواعد عامة يستحيل أن تتفق كل أحكامه مع اراء كل الناس في ماهية مصلحة الشعب على مستوى التفاضل . ومن حيث هو قواعد مجردة يستحيل أن تطابق مصلحة الشعب كما صيغت في أحكامه مصلحة الشعب كما يراها كل فرد . ومن حيث أن وضعه سابق على تطبيقه يستحيل أن تحيط مصلحة الشعب كما خطرت على بال واضعي الدستور بكل ما يطرأ على تلك المصلحة من تغيير بفعل حركة التطور .

اذن ، وهذا على أكبر قدر من الأهمية ، أن الخلاف بين الناس حول صلاحية بعض أحكام الدستور ، أي دستور ، لتحقيق مصلحة الشعب في جزئية معينة أو في زمن معين ، خلاف محتوم بفعل القصور المحتوم في احاطة أي دستور وضعي بمتطلبات المستقبل وفي توحيد اراء كل الافراد . من هنا حرصت كل الشعوب المتحضرة على معالجة هذا القصور بأمرين : الأول : اقتصار الدستور على المبادئ الأساسية لنظام المجتمع والأهداف التي يتعين على هذا النظام تحقيقها ثم ترك التطبيقات والفرعيات لما تضعه السلطة التشريعية من قوانين . الأمر الثاني : قابلية الدستور للتعديل بالحذف أو الإضافة أو التغيير طيقا للإجراءات التي يرسمها الدستور ذاته .. ثم اعتبرت الدستور مقدسا لا تسمح لأحد بتجاهله لأي سبب .

في الدستور العلاج :

هذا هو أصل المشكل ، وهو أصل لصيق بطبيعة الدساتير الوضعية لا هو خاص بمصر ولا هو خاص بالسادات ، وهي مشكلة تعالجها كل الشعوب بما يرسم الدستور ذاته من وسائل العلاج التي ذكرناها . ولكن هذا العلاج يكون مستحيلا حينما تسيطر على أي حاكم فكرة أن ما يراه (هو) محققا لمصلحة الشعب كما يقدرها (هو) واجب التحقيق بصرف النظر عن اتفاقه أو عدم اتفاقه مع الدستور . قد يكون رأيه صحيحا وقد يكون غير صحيح . لسنا نناقش هذا حتى لا نفتح أبواب الجدل . بل دعونا نفترض جدلا أن رأيه صحيح وأنه حسن النية . ان نماذج هذا الحاكم غير قليلة في تاريخ الشعوب . انهم يعتقدون اعتقادا راسخا ان العناية الإلهية قد اختارتهم بأشخاصهم ليؤدوا (رسالات) فيؤمنون ايمانا مطلقا بصحة أفكارهم فلا يجتهدون ، بل لا يفهمون المعارضة الا لأنها نوع من التحديف أو السلوك المرضي أو العيب ، ونظرا لما أحدثته وتحدثه هذه الشخصيات من اثار خطيرة في حياة الشعوب انعقد من أجل دراستهم مؤتمر دولي علمي في الولايات المتحدة عام 1950 أوردنا مقتطفات من تقريره العلمي في كتابنا عن (الاستبداد الديمقراطي) الذي نشر والسادات حاضر لا نريد أن نعيدها وقد غاب .

دستور يحرم الصلح مع إسرائيل :

ولقد كان أنور السادات واحدا من هذه الشخصيات غير العادية التي لم تقبل أبدا ، وربما لم تستسغ ، فكرة ترجيح احترام الدستور على تحقيق مصلحة وطنية عند التعارض . ومع أنه هو الذي دعى وعمل وشارك في اصدار دستورين أولهما استفتي فيه يوم 1 سبتمبر 1971 (دستور اتحاد الجمهوريات العربية) والثاني استفتي فيه يوم 11 سبتمبر 1971 (دستور مصر العربية) فان شخصيته المتضخمة بما كان يعتقد أنها (رسالة) اختير لآدائها لم تقبل القيود الدستورية في كل مرة وجد أنها (رسالته) ولما كان جسورا الى درجة مذهلة فانه لم يتردد أبدا في أن يحوّل رؤاه وآراءه الخاصة الى أمر واقع بدون توقف عند أحكام الدستور .

ولعل أكثر الأمثلة وضوحا موقفه من دستور 1 سبتمبر 1971 . لقد اشترك هو شخصيا في صياغة أحكامه مع شركائه وحلفائه في ذلك الحين : حاكم سوريا وحاكم ليبيا . وأحاطه بهالة من التقديس الى درجة اعتباره ثمرة انتصاره على من أسماهم مراكز القوى . ورفعه درجة على أي دستور يصدر في مصر فضمّنه نصا يلزم مصر - حين وضع دستوره - بالّا تضمّنه ما يتعارض مع هذا الدستور . ثم استفتى فيه الشعب فوافق عليه بما يقارب الاجماع . تعثر هذا الدستور ثم تعطل ثم توقف العمل به نهائيا لأسباب لا يسأل عنها السادات وحده . ولكن لما كانت الدساتير تظل قائمة وملزمة ومقياسا للشرعية الى أن تلغى بالطريقة التي نصّت عليها فان هذا الدستور ما يزال قائما في مصر . أقول في مصر لأننا لا نهتم بموقف ليبيا أو سوريا من المشكلة الدستورية وانما الذي يهمنا الالتزام بدستور اختاره الشعب العربي في مصر وعدم تجاهله . وفي مصر لو عرض أمر دستور 1 سبتمبر 1971 على اية محكمة دستورية لطبقته وأبطلت كل تصرف أو قانون صدر على خلاف أحكامه . هذا الدستور المكوّن من وثيقتين جرى الاستفتاء عليهما معا يتضمن نصا صريحا قاطعا يحرّم على أي من الدول الثلاث الصلح مع إسرائيل أو التفاوض معها أو التنازل لها عن أي شبر من الأرض العربية . جاء هذا النص تحت عنوان (الأحكام الأساسية) ..

وقد عبر أنور السادات بقوة عن التزامه بهذا النص الدستوري في أحاديثه أيام أول مايو 1973 و 28 مايو 1973 و 21 مايو 1978 وهو يشرح لماذا قطع المفاوضة . قبل هذا التاريخ الأخير كان قد رأى لأسباب لا نريد أن نقحم الجدل حولها في هذا الحديث أن يفاوض وأن يصطلح وأن يعترف بإسرائيل . في نطاق حديثنا نقول انه كان قد رأى أن مصلحة مصر فيما رآه هو ولكن هذا الذي رآه كان يناقض أحكام دستور ما يزال قائما . وكانت أدنى درجات الإحساس بأهمية المسؤولية الدستورية تقتضي أن يلغى هذا الدستور . وما كان ذلك ليأخذ من الجهد والوقت أكثر من بضع ساعات من وقت وزير داخليته لإجراء الاستفتاء اللازم . ولماذا لم يفعل ؟ لأنه لم يكن يعتقد أنه هو - ذاته - ملزم بمراعاة الدستور حين تقف أحكامه عقبات في سبيل ما يعتقد هو - ذاته - أنه في مصلحة مصر . وهذا هو موضوع حديثنا عنه رحمه الله .

هو ذاته .. غير ملزم :

أما عن أمثلة اعتقاده بانه هو ذاته غير ملزم بمراعاة دستور مصر العربية الصادر في 11 سبتمبر 1971 اذا وقفت أحكامه عقبات في سبيل ما يعتقد هو - ذاته -  أنه في مصلحة مصر فتستعصى على الحصر بعض الأمثلة تحتمل الخلاف في الراي حتى بين المتخصصين . ولما لم يكن من بين أغراض هذا الحديث التعبير عن راينا في تلك الأمثلة فإننا سنقتصر على امثلة تحمل في ذاتها دلالة غير قابلة للشك على أن أنور السادات ذاته قد أجراها بدون اعتداد بالدستور وأنه كان يعلم ذلك .

أولها كان يوم 11 سبتمبر 1976 حينما قرر تحويل المنابر الى أحزاب . وهو قرار يحقق للشعب مصلحة لا شك فيها ولهذا اخترناه كبداية . ولكنه واضح الخروج على المادة الخامسة من الدستور مما استوجب تعديلها في 30 ابريل 1980 لستر عدم دستورية القرار الذي تحول الى أمر واقع قبل أن يكون شرعيا بنحو أربع سنوات . المثل الثاني اعترافه في أواخر حياته بأنه كان سيصدر قرارات 2 سبتمبر 1981 بصرف النظر عن أحكام الدستور .

المثل الثالث من الأمثلة التي كان - الله يرحمه - يعرف أنها مخالفة للدستور ولم يتردد في اجرائها بقراره حل مجلس الشعب يوم 21 أبريل 1979 . ويستحق هذا المثل قدرا من العناية في صياغته والانتباه الى الاثار (المهولة) التي ترتبت وتترتب عليه .

يأخذ الدستور بما يعرف بالاستفتاء التحكيمي ، أي الالتجاء الى الشعب ليحكم في خلاف بين السلطات الذي يأخذ به في حالتين الأولى نصت عليها المادة 127 التي تنظم استفتاء الشعب ، والخلاف بين مجلس الشعب وبين رئيس الوزراء . الحالة الثانية في المادة 136 التي تنظم استفتاء الشعب في حل مجلس الشعب . وهي تبدأ بتقرير (لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس الشعب الا عند الضرورة وبعد استفتاء الشعب .. الخ) . لا يختلف أساتذة القانون العام وفقهاء القانون الدستوري في أن هذه المادة خاصة بحالة وجود خلاف بين مجلس الشعب ورئيس الجمهورية . ولا تسمح الاعمال التحضيرية التي بررت وضع هذه المادة ولا المناقشات التي دارت حولها باي خلاف .

أكثر من هذا أهمية ، بالنسبة الى موضوع حديثنا ، أن أنور السادات كان يعرف معرفة اليقين أن ليس من حقه دستوريا أن يحل مجلس الشعب الا اذا كان ثمة خلاف . وكان يفاخر الدنيا بهذه الحقيقة . قال في 7 فبراير 1977 : " هذا الدستور الدائم وبافخر أني كنت أحد اللي عملوا على إصداره كدستور دائم بعد 18 سنة بدون دستور ، صدر في 1971 .. رئيس الجمهورية لا يستطيع أن يحل مجلس الشعب هنا .. الا باستفتاء شعبي نتيجة خلاف وقع وطبيعي لما يحصل خلاف لازم نروح للشعب كلنا " . وكرر هذا في أيام 26 يونيو 1975 و 2 مايو 1978 و 30 مايو 1978 و 24 يونيو 1978 . حديثه الأخير كان للتلفزيون الإيطالي وفيه قال : "رئيس الجمهورية في مصر لا يستطيع أن يحل مجلس الشعب الا باستفتاء أي أن يكون هناك خلاف وده لتثبيت الديمقراطية " .

ومع هذا ، أو بالرغم من هذا ، فانه في يوم 11 أبريل 1979 أصدر القرار رقم 157 لسنة 1979 بإيقاف جلسات مجلس الشعب والاستفتاء في حله وحله فعلا يوم 21 أبريل 1979 . مع أنه يوم 10 ابريل 1979 ، اليوم السابق مباشرة لقراره ، كان مجلس الشعب قد وافق على معاهدة الصلح مع إسرائيل بأغلبية 329 ضد 15 وامتناع عضو واحد في مظاهرة تأييد صاخبة لرئيس الجمهورية . تقول المضبطة انه بعد التصويت "وقفت السيدة فايدة كامل وهتفت بحياة رئيس الدولة ثم بحياة مصر ثم ردّد مجلس الشعب وراءها نشيد بلادي بلادي لك حبي وفرادي وانسحب المعارضون " .

لم يكن اذن ثمة خلاف بل تأييد عارم . فلماذا حل مجلس الشعب ؟ لأنه "رأى" أن يستفتي الشعب في المعاهدة التي أصبحت قانونا بعد موافقة مجلس الشعب وانتهى الأمر فيها . وما دام قد "رأى" فلا بد عنده من أن يتحقق رأيه بصرف النظر عن موقف الدستور . ومع ذلك كان يستطيع أن يستفتي في المعاهدة بدون حل المجلس . ليس لحل المجلس سبب الا أنه "أراد" ذلك . وقد أدى ذلك الى أن ينسب الى الشعب العربي في مصر أنه في استفتاء واحد قال "نعم" للمعاهدة مع إسرائيل وقال "نعم" لطرد ممثليه الذين قالوا للمعاهدة "نعم" . وهو غير معقول .

مسألة حياة أو موت :

لعل هذه الأمثلة أن تكون قد أوضحت ما تريد قوله بدون اثارة جدل ولكن ما الفائدة في هذا القول الان بعد أن أصبح أنور السادات في ذمة الله ؟ نجيب بأن ليس لهذا القول فائدة الا الان . قبل الان كان غير مجد . وبعد الان يكون قد فات أوانه . ذلك لأن أنور السادات الذي مات قد خلف لنا تركة تحمل اثار شخصيته غير العادية في كل عناصرها . وعلى عناصر هذه التركة سنبني المستقبل على مسؤوليتنا . أعني أن الهروب من المسؤولية عن الحاضر والمستقبل باتهام الماضي أحداثا أو رجالا لن يجد بنا شيئا . واذا كان الله قد أراد أن يفض الاشتباك بين شخصية رئيس الجمهورية الراحل وبين الاثار التي خلفها فانه جل شأنه قد أتاح لنا فرصة إعادة النظر في تلك الاثار وإعادة تقييمها موضوعيا على ضوء احتياجات المستقبل . فتبقى أو تتغير ، كلها أو بعضها ، بدون تأثير سلبي أو إيجابي بشخصية محدثها الغائب أبدا .

ولقد اخترنا الجانب الدستوري لتلك الاثار لأنه الأساسي والبداية . ولأنه بالنسبة الى المستقبل مسألة حياة أو موت بكل معنى الكلمتين . لقد قلنا من قبل أن كل الدساتير الوضعية تتسم بالقصور ، وأن كل الشعوب تعترف بهذا وترسم طرقا لعلاجه في الدساتير ذاتها . ولكن كل الشعوب المتحضرة لا تقبل تجاهل الدستور أو مخالفته . وليس من مصلحتها أن تبني مستقبلها على أمر واقع غير دستوري فانه سينهار حتما .

لأن الدستور ، أي دستور ، يحقق لكل فرد في المجتمع ، بدون استثناء مصلحة حيوية مؤكدة هي : استبعاد الاحتكام الى القوة عند الاختلاف حول ماهية مصلحة الشعب وكيف تتحقق . يلخص أساتذة علم النظم السياسية خبرة كل الشعوب في تاريخها الطويل فيقولون انه اذا حدث أن عجز الدستور عجزا واضحا عن تحقيق مصلحة وطنية واضحة ، ولم تسمح الظروف بتعديله وجبت التضحية بالمصلحة المستهدفة واحترام الدستور . ذلك لأن المفاضلة حينئذ لا تقوم بين المصلحة المستهدفة وبين احترام الدستور ، ولكن بين تلك المصلحة ومصلحة أخرى أكثر أهمية منها مهما كانت ، هي استبعاد الاحتكام الى القوة . ولقد كان مبرر نشأة الدساتير تاريخيا أن تكون بدائل عن الاحتكام الى القوة الذي كان سائدا قبل نشأتها . ويؤكدون واثقين أن البديل المحتوم عن الاحتكام الى الدستور هو الاحتكام الى القوة .

كيف ؟

لنتأمل جيدا . بمجرد أن تخطر فكرة مخالفة الدستور في ذهن صاحبها تخطر معها - حتما - فكرة مواجهة المعارضة المحتملة لهذه المخالفة بالقوة . وبينما يكون مشغولا بالإعداد لتنفيذ المخالفة يكون مشغولا بإعداد أسباب "القوة" اللازمة لمنع المعارضة أو ردعها . أي أن مشروع الاحتكام الى القوة يدخل حتما في مشروع مخالفة الدستور . ونعرف منه أن الذي ينوي مخالفة الدستور أو يخالفه هو الذي يبدأ دائما بالإعداد لاستعمال القوة أو باستعمالها . بل نعرف ما هو أكثر من ذلك . حين تستعرض أية حكومة مقدرتها على البطش وحيث تهدد باستعمال القوة يكون وراء هذا مخالفة دستورية في دور الاعداد أو التنفيذ أو أصبحت واقعا يحتاج الى حماية .

وليس من الضروري ، كما يتصور الكثيرون ، أن يصل الاحتكام الى القوة حد الايذاء الفعلي ، أبدا . ففي قانون العقوبات - مثلا - يعتبر ، جريمة معاقبا عليها بالأشغال الشاقة المؤبّدة الاتفاق على مناهضة الدستور بأية وسيلة "اذا كان استعمال القوة أو العنف أو الإرهاب ملحوظا في ذلك" . وهو ما يعني أن يكون احتمالا الاحتكام الى القوة قد خطر على بال المتفقين حتى لو لم يعدّوا أو يقصدوا استعمالها . وممّا يستحق الانتباه أن القانون قد ساوى بين استعمال القوة والعنف والإرهاب في وقوع الجريمة . ونحن نسميها معا الاحتكام الى القوة كبديل للاحتكام الى الدستور . وبالتالي فحين تختار الحكومة الاحتكام الى القوة قد يكفيها ويغنيها الإرهاب عن استعمال القوة أو العنف . يكفي ويغني التهديد باستعمال القوة وصياغة أدواتها في قوالب فكرية وإعلامية و"تشهيرية" وتشريعية . يكفي استعراض العضلات البوليسية والميكانيكية في الشوارع والميادين . يكفي تفتيش المنازل ولو لم يسفر عن شيء . والقبض على الناس ولو لم يقدموا الى المحاكمة . والمحاكمة ولو لم تسفر عن ادانة . تكفي حالة الطوارئ (الأحكام العسكرية) في غير الحالة المصرح بها دستوريا لتعبر عن اختيار الحكومة الاحتكام الى القوة الجسمية لمنع المعارضة أو ردعها بالقدر الكافي لتحويل المخالفة الدستورية الى أمر واقع أو لاستمرار الأمر الواقع غير المشروع . ويصبح كل ادعاء بأن القوة لم تستعمل ، أو الوعد بأنها لن تستعمل ، كلاما غير ذي مضمون لأنها مستعملة فعلا في إشاعة الإرهاب وهو مثلها في حكم الواقع وحكم القانون .

ولأن الناس بشر وليسوا "بهائم" فانهم لا يقبلون أن يفرض عليهم بالقوة أو الإرهاب حتى ما كانوا يريدونه . مجرد الاحتكام الى القوة يتحدى مشاعرهم ويستفز رجولتهم فيتحدونها ويقبلون الاحتكام الى القوة ويعدون لها ما يستطيعون . وهكذا يلتقي طرفا الدائرة الجهنمية التي لن تلبث حتى تحيط بجميع الأطراف . ومن أجل ألا يقع هذا تتمسك كل الشعوب بدساتيرها وتفرض على حكامها التزام تلك الدساتير حتى لو كانت لا تعجبهم بعض أحكماها .

مؤتمر متخصصين .. لمراجعة "تركة" مخالفات الدستور :

-         وبعد

فان مصر تتقدم الى مستقبلها محملة بتركة أغلب عناصرها الأساسية وقعت ، حين وقت بالمخالفة للدستور . ويستطيع كثيرون ، نحن منهم ، أن يبرهنوا على هذا بدراسات تفصيلية لأمثلة كثيرة من الاستفتاءات ، والقوانين ، والقرارات ، والاتفاقات ، والعقود ، والتصرفات ، ونحن نقول أن هذا الأمر لا بد أن يحسم لمصلحة الجميع ليقوم بناء المستقبل على أساس من الدستور . ان هذا الحسم هو الأسلوب الوحيد الذي يرفع عن مجتمعنا كابوس العرب من الاحتكام الى القوة أو استمرار الاحتكام اليها . نقول بحسم لأننا نعتقد أن هناك من يخالفون ما نرى بما يرونه من "تمام" سيادة القانون في المرحلة السابقة . كلنا لنا مصلحة في أن نحتكم الى مؤتمر من المتخصصين يضم جميع أساتذة القانون الدستوري ، وجميع قضاة المحكمة العليا والمحكمة الدستورية الحاليين والسابقين ، يقسم أعضاؤه يمين الولاء للدستور وحده قبل تولي مهمتهم . وتكون مهمتهم مراجعة "التركة" لتحديد أوجه المخالفات الدستورية ان وجدت تمهيدا لإلغائها . ان هذا المؤتمر الدستوري ليس اقل جدوى من مؤتمر الاقتصاديين بل أكثر منه بكثير .

.. الى السيد الرئيس :

الى أن يتم هذا ، نرجو أن نستطيع أن نطرح قريبا ما نعتقد أنه الحق في شأن الانتهاكات الدستورية المتجسدة في موضوعات محددة . ولعلنا نبدأ بما يعتبر "انقلابا" دستوريا بمعنى الكلمة ونعني به مجموعة القرارات والقوانين التي صدرت تحت عنوان "الانفتاح الاقتصادي" .

غير ان هناك امرا لم يعد يحتمل التأخير . نخاطب فيه السيد رئيس الجمهورية لأن وضع حد له متوقف عليه وحده . فنقول باختصار :

السيد الرئيس :

لقد عبرت أحزاب المعارضة جميعا عن رغبتها في أن تتخلى سيادتكم عن رئاسة الحزب الوطني الديمقراطي ، وقدموا لذلك مبررات من معاناتهم الخاصة ومن ضرورة حيدة رئيس الدولة بين الأحزاب المختلفة ، والبعد بواجب الاحترام لشخصه عما يصيب أطراف المعارك الحزبية عادة من رذاذ . وقال بعضهم ان الدستور يعهد الى رئيس الجمهورية برعاية الحدود بين السلطات (المادة 83) وأن هذا يقضي رعاية الحدود بين الأحزاب لأن الأحزاب تكوينات مرشحة لتولي السلطات ..الخ .

ولكني ، كمواطن لا ينتمي الى أي حزب ، أرجو أن تسمح له بأن يقول ان الدستور بعد التعديل الذي اجري عليه يوم 30 أبريل 1980 ، لا يجيز لرئيس الجمهورية أن يكون منتميا لأي حزب بعد توليه الرئاسة طبقا لنص وروح المادة 127 منه .

ان المادة 127 ، يا سيادة الرئيس ، تعهد الى رئيس الجمهورية بوظيفة دستورية محددة هي القيام بإجراءات التحكيم في الخلاف الذي يقع بين مجلس الشعب وبين رئيس الوزراء . ولقد كان هذا النص متسقا مع قيام نظام الحكم على أساس من التنظيم الواحد الذي كانت تنص عليه المادة الخامسة من الدستور قبل تعديلها (الاتحاد الاشتراكي العربي) . ففي نطاق التنظيم الواحد الذي يرأسه رئيس الجمهورية وينتمي اليه شاغلو المؤسسات الدستورية أو أغلبهم والذي ينطوي بالضرورة على اتجاهات سياسية متعددة ، لم يكن ثمة ما يحول دون صلاحية رئيس الجمهورية ليكون حكما ، لأن انتماءه اليه لم يكن ليلزمه بموقف أحد الطرفين المختلفين .

هذا الوضع تغير تماما بعد تعديل المادة الخامسة والنص على أن  : :" يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب " . ذلك لأن الانتماء الى حزب ينطوي على ولاء لمبادئه . والتزام في مواجهة الحزب نفسه بمساندة قراراته والعمل على تنفيذها حتى لو لم يكن "العضو" موافقا عليها . أعني أن الانتماء الى حزب ، في نظام قائم على تعدد الأحزاب ، يسلب المنتمي إمكانية الحيادة في الخلاف السياسي . وحين يصبح هذا العضو رئيسا للجمهورية يتعين أن يتحرر من أي التزام حزبي ليسترد صلاحيته لاداء الوظيفة الدستورية المنصوص عليها في المادة 127 التي تفرض أو تفترض أن يكون رئيس الجمهورية محايدا . لا نقول بين الأحزاب ولكن نقول بين مجلس الشعب ورئيس الوزراء . لقد أصبح رئيس الوزراء ، الذي ليس في الدستور ما يحتم أن يكون حزبيا ، يواجه في مجلس الشعب مجموعات حزبية . وحتى اذا كان رئيس الوزراء منتميا لحزب ممثل في مجلس الشعب فليس ثمة ما يحول دون الخلاف بينه وبين حزبه خاصة اذا انفصل بعد أن وصل . وليس ثمة ما يحول دون أن يكون رئيس الوزراء منتميا الى حزب الأقلية اذا ما خسر حزبه الأغلبية في أي انتخابات عامة . وفي كل هذه الحالات لا يوجد حل دستوري الا التحكيم الذي يتولى اجراءه رئيس الجمهورية طبقا للمادة 127 .

وهكذا يتضح أنه يوجد تناقض مبدئي بين انتماء رئيس الجمهورية الى حزب سياسي وبين صلاحياته لاداء وظيفة التحكيم التي عهد اليه الدستور بها اذا قامت أسبابه . ولما كان اعمال الدستور يقتضي أن يكون رئيس الجمهورية كامل الصلاحية ، طوال مدة رئاسته ، لتولي كافة وظائفه الدستورية فانه يقتضي بالضرورة عدم انتماء رئيس الجمهورية الى أي حزب سياسي طوال فترة رئاسته .

تستطيع سيادتكم أن تستعين برأي أي متخصص في القانون الدستوري من غير أعضاء الحزب الوطني الملتزمين حزبيا بالعمل على استمرار ما يكسبه الحزب من رئاستكم له أو انتمائكم اليه . ومن ناحيتي فاني أستأذنكم في أن أوجه نداء علنيا الى كل أساتذة القانون الدستوري ، وأعضاء اللجنة التي وضعت الدستور وتعلم أكثر من غيرها ماذا كانت تقصد بنصوصه ، بأن يضعوا تحت نظر رئيس الجمهورية الرأي "العلمي" في دستورية انتماء سيادته الى حزب سياسي .

والله ولي التوفيق

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

13 أكتوبر 1982


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق