د.عصمت
سيف الدولة :
الحقيقة الوحيدة في حرب الخليج
:
أمريكا هي التي خرقت الشرعية .. فكيف تنادي بها ؟
القاهرة
ـ الشعب 29 يناير 1991 .
1 ـ في 2 أغسطس
1990 تحول النزاع القديم المتجدد بين دولة العراق وإمارة الكويت الى نزاع مسلح ، إذ
لجأت القوات
المسلحة العراقية الى اجتياح الإمارة الجارة ، هكذا بدأت الحرب
. ومنذئذ استقطب النزاع حلفاء لكل من طرفيه
. لا نريد أن نحدد أولئك الحلفاء من الدول فهم معروفون ، بالإضافة الى أن ليس هذا
موضوع الحديث .
الذي يهمنا من هذا
الحديث
أن نتذكر أمر غير منكور منذ حوله غوبلز وزير دعاية ألمانيا
الهتلرية الى واحد من أهم أسلحة الحرب . انه الدعاية
التي تقدمت أدواتها واستشرت آثارها بما أضيف الى المذياع
الذي كان يستعمله
جوبلز من وسائل اتصال وإعلام مقروءة ومرئية ومسموعة ألغت الحدود بين الدول ،
فأصبحت قادرة على اغتصاب الجماهير في أي مكان من الأرض .. وليس اغتصاب الجماهير
تعبيرا من عندي ، بل هو التعبير
الذي أطلقه عالم الاجتماع الألماني سرجي تشوخاتين على ما كانت تفعله الدعاية
النازية بعقول الألمان واتخذه عنوانا لكتاب صدر في فرنسا في 1939 . ولما استشرى
هذا السلاح واستعملته الدول الاستعمارية
للاستيلاء على عقول
الشعوب قبل السيطرة
عليها أسماه عالم الاجتماع الأمريكي فيكتور بالدريدج سلاح الامبريالية الحضارية 1977
.
2 ـ من هنا أصبح
متعينا على أي إنسان تهمه طهارة عقله ألا يعوّل في فهمه لما يدور في العالم
حول ما يسمى حرب الخليج على ما تبثه أجهزة الإعلام
المقروءة والمسموعة والمرئية من آراء وأنباء وصور وشائعات عن هذه الحرب . إن جميع الأطراف
بدون استثناء واحد ، يحاولون بما يبثونه اغتصاب عقول
الناس ليخربوها ان لم يكسبوها .
هل يعني هذا أن كل
ما يعلن
ويذاع كذب ؟
لا . فالكذب الشامل
الكامل سذاجة مفضوحة يتفاداها مغتصبو العقول للاحتفاظ بقدر من تصديق
الناس لما يقولون . إنما هي شرائح مختارة بعناية فائقة
من الحقائق يعاد تركيبها وتضاف إليها أكاذيب تتخللها لبناء صرح من المعلومات قابل للتصديق
. إن أخبار حرب الخليج ، أو أية حرب ، حصيلة عمليات
مونتاج وإخراج ، إذا لم نرد أن نقول عمليات تلفيق
وتزييف ، ذلك لأن الحقائق الكاملة محجوبة فلا يملك المواطن العادي الذي يريد أن
يحفظ طهارة
عقله ما يقيس عليه صدق أو كذب ما تبثه أجهزة
الإعلام .
ومع ذلك فرب ضارة
نافعة ، إذ في ظل غياب الحقائق يتجه كل مواطن تلقائيا إلى انتقاء ما يتفق
مع موقفه المبدئي أو السياسي مما تبثه الأطراف جميعا
. من هنا يسهل على من يتابعون اتجاهات الآراء أن يتبيّنوا بسهولة
نسبة إلى أي جانب ينحاز صاحب كل رأي بالرغم من كل ما يدعيه لرأيه من أسباب
قومية أو وطنية أو سياسية أو أخلاقية .
3 ـ كل يغني على ليلاه ، فلنتركهم
جميعا ولنتحصّن ضد ادعاءاتهم جميعا ، ولنلتقط مقولة
واحدة يذكرونها جميعا ، ويرفعون شعاراتها ليستروا بها مواقفهم المتناقضة
، إنها " الشرعية الدولية " . لعل هذا أن ينير لنا الطريق إلى حقيقة
أمر هذه الشرعية الدولية ، والشرعية الدولية تعني :
1) خضوع المجتمع
الدولي لقواعد عامة ومجردة هي "القانون الدولي" ، هو معيار الشرعية
.
2) المساواة بين كل الدول
أمام القانون الدولي .
3) عدم جواز استخدام القوة لتحقيق
غايات غير مشروعة طبقا للقانون الدولي .
4) حق الدفاع عن النفس
ضد عدوان غير مشروع .
وتفاصيل أخرى تكون
معا نظاما
عاما للمجتمع الإنساني تسوده الشرعية
الدولية .
4 ـ ومع أن القانون
الدولي قديم إلا أن الشرعية الدولية لم تصبح ضرورة حياة أو موت لكل البشر إلا منذ نصف
قرن تقريبا .
فمنذ أن انتهت الحرب
العالمية الثانية عام 1945 بقذيفة نووية صنعها شيطان وألقاها مجنون ، فأهلك
بها في لحظة مئات الألوف في هيروشيما بعد أن قد أهلكت الحرب عشرات الملايين من
البشر عسكريين ومدنيين ، رجالا ونساءا وشبابا وأطفالا
، أصبح حلم البشرية ، كل البشرية ، ألا يتعرض
الرجال والنساء والشباب والأطفال في أي مكان ، في أي زمان ، لمثل تلك المجزرة
الوحشية التي يسمونها الحرب .
من أجل هذا كان لا
بد من أن تلغى
الى الأبد شريعة الغاب . حيث تنعدم المساواة
بين الكائنات ، وحيث تؤدي المنافسة الحرة على الحياة الى افتراس الأقوى من هو أضعف
منه . كان لا بد من أن تلغى الى الأبد التفرقة بين البشر حسب أجناسهم أو أديانهم
أو ألوانهم أو لغتهم . كان لا بد من المساواة
بين الناس . كان لا بد من المساواة بين الدول . فكان لا بد للبشر من أن يحتكموا
إذا تنازعوا الى قواعد عامة مجردة تحكمها وتحكم فيما بينهم
في إطار نظام دولي يجمعها معا ويساوي فيما بينها في الحقوق والواجبات ويفصل
في المنازعات طبقا لقواعد القانون الدولي .
ولقد بدأ التعبير
عن حاجة الإنسانية الى إنشاء هذا النظام قبل أن تنتهي الحرب . ففي 14 أغسطس 1941 (
وأثناء الحرب ) اجتمع روزفلت رئيس الولايات
المتحدة الأمريكية وتشرشل رئيس وزراء انجلترا على ظهر البارجة برنس أوف ويلز وأصدر
تصريحا
ذائع الصيت عرف باسم ميثاق الأطلنطي جاء بالفقرة السادسة
منه أن الرئيسين يأملان بعد القضاء
على النازية في أن تتمكن جميع الأمم من التحرر والخوف والعوز ، ومن الحياة
في ظل السلام والأمن الدولي .. وفي أول يناير 1942 صدر تصريح
باسم الأمم المتحدة ( مشروع الميثاق ) ، وكان خطوة ثانية
الى تحقيق حلم البشرية .. ولكن قوة الشر والدمار والخوف ، عدوة الإنسان ، الولايات
المتحدة
الأمريكية اعترضت تلك الخطوة باقتراح
حلف عسكري واحد بينها وبين الاتحاد السوفياتي ودول الكومنولث البريطاني
على أن يضم جمهورية الصين فيما يتعلق بالشؤون
الآسوية للإشراف على تنفيذ معاهدة الصلح التي سوف تفرض على ألمانيا واليابان
وايطاليا تنفيذا كاملا .
ولقد رفضت كل
الدول ذاك الاقتراح لأن سائر دول الأمم المتحدة سواء كانت من الدول الوسطى
أو الصغرى سوف تخضع بمقتضاه لنظام ديكتاتوري تفرضه عليها الدول الأربعة العظمى وهو
ما لا يمكن أن ترضاه لنفسها الدول التي اشتركت في القتال
لنصرة الديمقراطية . ولأن هذا الاقتراح
إذا قدر له التنفيذ لن يفيد إلا معنى واحدا هو إحلال نوع جديد من الديكتاتورية
محل الديمقراطية المحورية . هكذا قال ممثلو دول العالم الحر حينئذ
، فتراجعت أمريكا الى حين .
5 ـ الى حين أن اختلى ستالين
وتشرشل وروزفلت بأنفسهم في يالطا يوم 11 فبراير 1945
واتفقوا على اقتسام مناطق النفوذ في العالم . ثم اتفقوا على أن تكون إرادة البشر
في كل الأرض كما تمثلهم الهيئة العامة للأمم المتحدة . وإرادة هيئتهم التنفيذية
التي يعبر عنها مجلس الأمن غير نافذة
إلا إذا وافقت عليها خمس دول مجتمعة : الولايات المتحدة الأمريكية
والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة وفرنسا والصين ..
ولم يكن من الممكن
أن تقبل دول العالم وهي مجتمعة في سان فرانسيسكو في فبراير 1945
لصياغة دستور قائم على أساس من المساواة بينها كما نص الميثاق ، أن تحتكر دولة أو
أكثر من دولة سلطة تعلو على إرادة
الدول جميعا . وقد عبرت كل الدول من غير المحتكرين عن رفض
مؤامرة يالطا .
فما الذي حدث ..؟
6 ـ أعلنت الولايات المتحدة
الأمريكية صراحة أن عدم موافقة المؤتمر على ما تم الاتفاق عليه بينها وبين الاتحاد
السوفياتي والمملكة المتحدة في يالطا ستكون نتيجته
الحتمية امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن التصديق على ميثاق الأمم المتحدة .
بهذا التهديد الصريح
بإجهاض حلم كل البشر في نظام عام للشرعية الدولية ، وما تضمنه من مخاطر العودة الى
التحالف العسكري الرباعي ، فرضت الولايات
المتحدة الأمريكية أن تكون إرادتها ـ متى أرادت ـ فوق إرادة كل الشعوب والأمم والدول
والبشر
في العالم كله ..
وهكذا قام النظام
الدولي المتجسد في هيئة الأمم المتحدة . فلا تقبل أية دولة عضوا في الجمعية
العامة إلا إذا وافقت الولايات المتحدة ولو وافقت كل الدول ما عداها . فبقيت الصين
الشعبية غير مقبولة الى أن أرادت الولايات
المتحدة فقبلت . ولا تسقط العضوية عن أي عضو ولو كان عنصريا
إذا لم تقبل الولايات المتحدة الأمريكية . ولقد وافقت أغلبية كاسحة من الجمعية
العامة على إدانة الصهيونية بأنها عنصرية بما يعني أن دولتها غير مشروعة ، كما
وافقت على قرار بإسقاط العضوية
عنها ، ومع ذلك بقيت برغم إرادة أغلب دول العالم لان الولايات المتحدة ناهضت
هذه الإرادة .
ومن الأمثلة القريبة
منا اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية على ما كان يتضمنه مشروع قرار مجلس الأمن
رقم 242
الصادر على اثر حرب 1967
من عودة القوات المتحاربة الى المواقع التي كانت بها قبل 5 يونيو 1967 ، أي انسحاب
إسرائيل . وهو نص تقليدي في كل قرارات مجلس
الأمن المتضمنة إيقاف إطلاق النار ، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية اعترضت
على الانسحاب فتوقف القتال وبقيت سيناء وباقي الأرض العربية
مرتهنة تحت أيدي الصهاينة . ومنذئذ لم تتوقف الحروب والعنف على الأرض
العربية . ومازلنا نتذكر أنه في سبتمبر 1984
بعد أن رفضت إسرائيل ما طلبه جونار يارنج مبعوث هيئة الأمم المتحدة من التزامها من
حيث المبدأ بالانسحاب من الأرض المحتلة طبقا لقرار 242
، قدمت دول عدم الانحياز الى مجلس الأمن مشروع قرار يتضمن إدانة استمرار احتلال إسرائيل
للأراضي التي استولت عليها نتيجة لنزاع عام 1967
مخالفة بذلك التزاماتها طبقا لميثاق الأمم المتحدة ، وافقت عليه كل الدول الأعضاء
في مجلس الأمن في ذلك الوقت ماعدا الولايات
المتحدة الأمريكية ، فاستمر العنف والقتل المتبادل الى أن جلب إليه أطفال فلسطين
المحتلة ..
وآخر مثال نضربه
كان يوم 14 يناير 1991 حين تقدمت فرنسا باقتراح الى مجلس الأمن كان كفيلا باجتناب
مخاطر الحرب وويلاتها ، اعترضت عليه الولايات المتحدة الأمريكية
، فقامت الحرب ولم تزل ..
7 ـ وهكذا منذ نصف قرن تقوم الولايات المتحدة
الأمريكية بدور الطاغية المستبد
في المجتمع الدولي . ولقد جاء حين من الدهر كان تنافس الاتحاد السوفياتي والولايات
المتحدة الأمريكية على الاستبداد بمصائر الشعوب
والأمم والدول يتيح للمستضعفين الذين هم كل البشر ثغرة لكسب قدر من الحرية
، قدر من المساواة ، قدر من العدالة في مقابل أن يكونوا نافعين أو تابعين
لإحدى القوتين الطاغيتين . ولقد استفادت دول كثيرة متوسطة وصغيرة بل وكبيرة من
التناقض بين الدولتين العظميين
الى أن انسحب غورباتشوف بالمعسكر الاشتراكي كله من حلبة المنافسة
وانحاز الى الولايات المتحدة الأمريكية لتتوحد قوى الديكتاتورية الدولية المفروضة
على العالم ..
8 ـ وهكذا ..
منذ مؤامرة يالطا
عام 1945
، انعدمت المساواة بين الدول ، ولم تعد قواعد القانون الدولي ملزمة إلا لمن تريد
أمريكا أن تلزمه بها . ولم تعد قرارات الهيئة
العامة للأمم المتحدة نافذة إلا إذا أرادت أمريكا نفاذها . ولم يعد ميثاق الأمم
المتحدة دستورا للدول . ولم تعد الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة برلمانها
. ولم يعد مجلس الأمن سلطتها التنفيذية . فسقطت الشرعية الدولية كما تسقط
الشرعية في أي مجتمع يتحكم فيه طاغية .
هذه هي الحقيقة
الوحيدة في العالم عامة
وفي حرب الخليج ، ولعل أوضح ما يكشف عن هذه الحقيقة
دعوات السلام الموجهة الى العراق . ما هو المطلوب من العراق من دعاة السلام ؟ الانسحاب
الفوري بدون قيد أو شرط . إذن فما هو الاستسلام
أكثر من هذه الدعوة تعبيرا عن الحقيقة ، حقيقة سقوط
الشرعية الدولية ؟
من يشفقون على
العراق من هزيمة
ساحقة ماحقة عسكريا وشعبيا ودمارا اقتصاديا
وعمرانيا شاملا ، إنما إشفاق قائم على التسليم للقوة المادية بأن تحدد
مصائر البشر . واستسلام لعودة شريعة العنف الى المجتمع الإنساني
. انها دعوة الى الشعب العربي بأن ينتحر كبشر من بني الإنسان ليبقى بهائم حضيرة أمريكا
.
ما فائدة الحياة
إذن ؟ ما فائدة الحديث عن دول وحكامها وأعلامها وجيوشها وشعوبها
إذا كانت مجرد أدوات مسخرات لإشباع نهم الوحش الأمريكي
؟
9 ـ إن سقوط
الشرعية الدولية قد وضع كل الأمم والشعوب والبشر في كل الدول المقهورة
أمام الخيار بين أمرين لا ثالث لهما : إما أن تقبل مذلة الخضوع
للإرادة الأمريكية ، وإما أن تقاتل من أجل الحرية والمساواة والعدالة
والسلام .
هذا واقع . هذه حقيقة
. إنها الحقيقة الوحيدة الباقية في هذا العالم ومن البغي الأمريكي
. إنها رسالة أخرى نقدمها الى كل البشر ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق