بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الحياد المستحيل .. / د.عصمت سيف الدولة .


PDF

الحياد .. المستحيل  ..

د.عصمت سيف الدولة .

لا تكاد توجد  في العالم - الآن-  قوة نشيطة ليست طرفا في قضية فلسطين . فبالإضافة الى جماهير  الأمة العربية-  الطرف الأصيل الغائب -  ومنظمة تحرير فلسطين ، والدول العربية ، ودولة الصهاينة ومنظمتهم  العالمية ، والدولتين المسماتين " الأعظم " ، تشارك كل دول العالم الآخر، وأحزابها ، ومؤسساتها الاقتصادية  والإعلامية والثقافية في محاولة إيجاد حل لمشكلة فلسطين .
وسيكون من غير الواقعي  توهم أن فلسطين بذاتها كموقع جغرافي قليل المساحة  على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، أو منظمة تحرير فلسطين  أو فصائلها المقاتلة هي التي جذبت إلى الساحة كل تلك الإطراف  أو أجبرتها على المشاركة في الصراع الدائر حولها.  الواقع غير هذا الواقع . ان السمة القومية الموضوعية لفلسطين مشكلة  وحلاً قد فرضت نفسها على كل الإطراف.  أعني أن كون فلسطين  جزءا من الوطن العربي وكون شعبها جزءا من الأمة العربية ، وما يعنيه هذا من وحدة موضوعية غير قابلة للانفصام بين الجزء  والكل قد فرض على العالم كله ان يكون المدخل  الى فلسطين مشكلة وحلا ، مدخلا عربيا وان يكون المدخل  الى الأمة العربية سياسيا أو اقتصاديا أو ماليا أو ـ على الأخص ـ  بتروليا من خلال فلسطين  المشكلة وفلسطين الحل . من هنا نجد  ان كل من له مصلحة خاصة  أو يأمل أن تكون له مصلحة  في أي مكان من الوطن العربي من الخليج الى المحيط  يجد أن فلسطين المشكلة قائمة على الطريق الى مصالحه ،  وان فلسطين  الحل جزء لا يمكن تجاهله من حل مشكلاته الخاصة  التي يبحث لها عن حل في الأرض العربية.  باختصار ان جاذبية الأمة العربية هي التي فرضت على كل قوة نشيطة في العالم  أن تكون طرفا في قضية جزء منها هي فلسطين .  أو فرضت عليهم أن ينظروا الى مشكلة  فلسطين في إطارها القومي العربي  الصحيح .
والغريب أن هذه الرؤية الموضوعية  الصحيحة لمشكلة فلسطين أكثر وضوحا خارج الوطن العربي  منها في داخله.  فكل القوى العالمية ، دولية أو سياسية أو اقتصادية  أو دعائية أو حتى عسكرية ، تأخذ الأمة العربية  ككل وتتحدث عن " العرب " كمجتمع واحد ، وتخطط وتتحرك على أساس  أنها تتعامل مع " أمة واحدة " . وحتى عندما  تحاول التركيز على تجزئتها ، وإثارة الخلاف أو تعميقه بين دولها ، فهي تنطلق  من التسليم بوحدتها الاجتماعية ووحدة  مصيرها الى محاولة تفتيتها . ويحمّلون العرب ـ كعرب ـ مسؤوليات دولية  بترولية مع أن البترول غير متواجد إلا في بعض الدول  العربية . ويشهّرون بالنمو المالي العربي بينما اغلب الشعب العربي  يعيش في دول تعاني من الندرة المالية.  ويهدّدون بغزو العرب بدون أن يسمّوا دولة بعينها للغزو .  وقد أصبح كل هذا الطابع  المميز لموقف دول العالم الى حد ان قد اختفت أو كادت تختفي في العالم كله ، دلالة الانتساب السياسي الى أية دولة عربية.  لم يعد العالم  يفهم من المصري ، والسوري ، والكويتي ، والليبي ، والجزائريإلى آخره ، إلا أنه أولاً وأخيراً عربي  ويعاملونه على هذا الأساس .
هذا في حين ان الحكومات  العربية ما تزال فرحة بأعلامها المزوقة ، وبحدودها المصطنعة  وباستقلالها الذي لا تستطيع حمايته . وبثرواتها التي لم تصنعها ، ويساوم بعضها البعض وينافس بعضها البعض ، ويكيد  بعضها للبعض ، ويحاول كل بعض منها أن يفلت من المصير المشترك عن طريق الاحتماء بمن يظن أن في يده  المصير.  ثم إنها كلها تردّد بدون ملل ، وتعلن ما تردّده على العالم كله مؤكدة في كل مرة وكل مناسبة ، أن تقرير مصير فلسطين هو مسؤولية  شعب فلسطين وحده ، وأنها وقد اعترفت بمنظمة  تحرير فلسطين ممثلا وحيداً للشعب الفلسطيني ، فان على المنظمة  أن تكون طرفا أصيلا في أية تسوية ، وان تحدّد هي وحدها ماهية الحقوق  المشروعة لشعب فلسطين.  وان تقبل ما تقبل وأن ترفض  ما ترفض ، وانهم معها في القبول والرفض  ومهما يكن مضمون ما تقبله أو ترفضه وعليها وحدها في النهاية أن تتحمل مسؤولية  الموقف الذي تختاره..  ويا أيها العالم " الغبي " لا تحمّلوا كل دولة عربية  إلا مسؤولية موقفها من " وطنها " وعلى وجه خاص  لا تحملوها مسؤولية الموقف الذي يختاره شعب فلسطين .. فنحن لسنا ـ كما تظنون ـ أمة  واحدة .
يمكننا أن نقول أن ليس العالم هو الغبي وان أحدا لن يفلت من مصير أمته.  ولكن هذا ليس  ما نريد أن نقول .
إنما نريد هنا أن نخاطب ، من مواقعنا ومواقفنا القومية ، كل القوى التي تنشط مشاركة  في قضية فلسطين وتبحث لها عن حلول . وخطابنا موجه ـ  في الاساس ـ الى الدول " الصديقة " عامة والى الدول العربية بوجه خاص . وبكل إخلاص  نتمنى أن ينتبه من نعنيهم الى ما نقول حتى نجنب علاقاتنا مع أصدقائنا مخاطر النكسات  وحتى نجنب أمتنا العربية مزيدا من التضحيات.  وقد أعذر من أنذر كما يقولون...
ان الصراع العربي  الصهيوني دار ويدور منذ أكثر من ربع قرن حول موضوع رئيسي واحد : من هو صاحب  الحق في ارض فلسطين ؟ هل هو الشعب العربي الذي كان يقيم فيها منذ عشرات القرون وطرد منها بالقوة منذ عام 1947  وما بعدها ، أم هم الصهاينة الذين غادروا أوطانهم وتجمعوا على أرض فلسطين وطردوا الشعب  العربي منها بالقوة وأقاموا فيها دولة أسموها "إسرائيل "؟.
هذا هو جوهر الصراع . انه صراع  على الوطن .
والوطن هنا ليس ـ ولم يكن أبدا  ـ  كلمة رومانسية فارغة من مضامينها الحياتية  والحضارية.  الوطن هو الأرض بما فيه من ثروات كامنة ، هو المزارع وحاصلاتها ، هو المصانع ومنتجاتها ، هو إمكانية تقسيم العمل في مجتمع مستقر تتكامل جهود أبنائه لتنميته ، هو الأمن والسلام  والاستقرار الذي يسمح للشعب بأن يتفرغ لتوظيف موارده المادية والبشرية المتاحة  في وطنه من اجل التقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي  لشعبه.  الوطن ليس محل إقامة بل إمكانية تقدم مطرد.  وعندما يفقد أي شعب وطنه يتحول الى أفراد مشردين  ويفقد كل إمكانيات التطور.  من هنا لا يكون الصراع من اجل الوطن مجرد محافظة على تحفة أثرية موروثة من الماضي  أو استجابة لشعارات عاطفية بعيدة عن واقع الحياة ، بل هو صراع من أجل إمكان الحياة السوية والتقدم الاجتماعي ، وحتى الكلمات الكبيرة  المتداولة-  بكثرة-  في الحديث العربي عن الوطن  والوطنية ، مثل العزة والكرامة والعار وما إليها ليست إلا رموزا لحياة اجتماعية ذات مضامين عينية اقتصادية واجتماعية وثقافية  يمثل الوطن وعدا بتحقيقها لكل مواطن فيه . إذن فعندما يُسلب الوطن لا يكون السلب واقعا على ما كان لنا في الماضي  فحسب ، بل يكون ـ فوق هذا ـ  سلباً لما يمكن أن يكون لنا في المستقبل من فرص التقدم الاجتماعي . انه سلب للمستقبل أكثر منه سلب  للماضي ، ولهذا يستحق الدفاع عن الوطن ثمنه الفادح:  الحياة نفسها...
في هذا الوعد المستقبلي للتقدم  رخاء وحرية المرتبط بالوطن تصبح كل ذرة من تراب الوطن ذات قيمة أصيلة ومتساوية مع كل ذرة أخرى . تستوي في صدق  هذا الوعد الجبال الجرداء مع المزارع الخضراء ، بعضها يستمد قيمته  من واقع ما يمنح لأبنائه وبعضها يتضمن في أحشائه  إجابات غير محددة عن دوره الحضاري المقبل .
لهذا يستحيل على أي شعب  في الأرض أن يفرط في أي جزء من أرضه.  ومن قبل اندلعت شرارة الحرب الأوروبية الثانية من قرية دانزج واليوم انشق صف المعسكر  الاشتراكي وتواجه قوات الصين الشعبية حشود الاتحاد السوفيتي  على الحدود بينهما من اجل كيلومترات محدودة من الأرض الجرداء .
وكما ينطبق هذا على كل الأوطان  ينطبق على فلسطين .
ان هذا لا يعني أن المسألة تكون دائما معروضة في ساحة الصراع الفعلي على هذا الوجه  فالأغلب أن يلف الصراع ويدور ويناور حول فرعيات أو مفردات الحق في الوطن : الحدود ، الأمن ، الإقامة ، نظام توظيف  الموارد ، المنافسة على موارد إضافية ، الاستقرار الإنساني ، السلام... الخ.  أي ان الصراع يدور عادة حول موضوعات تكتيكية  أو جزئية أو مرحلية . ولكنه لا يحسم نهائيا إلا بحسم مضمونه  الاستراتيجي . وفي مشكلة فلسطين بالذات استهلكت كل المناورات التكتيكية والقضايا الجزئية خلال  الإحداث الدامية التي لم تتوقف منذ ربع قرن ، وأصبحت مفضوحة ـ  الآن ـ  كل محاولات  العودة بالصراع الى تلك الساحات على حساب  ماهيته الأصيلة ، واقتربت كل القوى من مواجهة المشكلة على مستواها  الاستراتيجي ، وهكذا أصبح المطروح على كافة القوى ان تحدد موقفها  من أصل المشكلة وتجيب على السؤال ، الأساسي:  لمن تكون ارض فلسطين ، أللعرب ـ  كما يسمونهم اليوم  ـ  أم للإسرائيليين ؟ وأصبح كل طرف  ـ  عربي بوجه خاص ـ يريد أن يثير إحدى القضايا الجانبية أو الفرعية كقضايا الحدود  أو الأمن أو السلام مطالبا بأن يحدد موقفه بوضوح من خلال الإجابة على هذا السؤال الأساس .
وفي الإجابة على هذا السؤال : لمن تكون  ارض فلسطين ؟ يسقط الموقف المحايد . انه مستحيل.  فالصراع قائم  بين طرفين يدعي كل طرف  منهما انه ـ  وحده ـ  صاحب الحق في ذات الأرض . ومن هنا فان الاعتراف  بان الأرض من حق الشعب العربي ينفي نفيا صريحا ، حتى لو كان غير معلن ، حق الطرف الأخر فيها ، والعكس بالعكس . فالذين يعترفون صراحة أو ضمنا بأن للصهاينة حقا  في أرض فلسطين ينفون نفيا صريحا ، حتى لو كان غير معلن ، حق الشعب العربي  في أرضه.  ولما كان الحياد مستحيلا فلا يملك أي طرف إلا أن يكون  منحازا مع أو ضد أي من الطرفين . الاعتراف  بإسرائيل صراحة أو ضمنا ، خفية أو علنا ، ليس موقفا  ايجابيا من الصهيونية فقط ، بل هو انحياز لها ضد الشعب  العربي ينقل صاحبه  - سواء أراد هذا أو لم يرد ـ الى موقع العداء للشعب العربي إن كان أجنبيا ، ويوقع صاحبه في أفخاخ الخيانة للشعب  العربي إن كان عربيا.
وليس الحياد مستحيلا على المستوى الذاتي فحسب ، بل هو مستحيل أيضا على المستوى  الموضوعي . فالحل النهائي للمشكلة يجب أن يكون موضوعيا حاسما للمشكلة حسماً استراتيجيا.  أعني ان المشكلة  لن تحل نهائيا . ولا يسود السلام الذي يتحدثون عنه كثيرا ، إلا بعودة  الحق في الأرض الى أصحابه.  أما الحلول " المحايدة" التي توفق أو تلفق بين الحق والاغتصاب وتستعلي على الصراع  فتساوي بين طرفيه فانه قد يهدئ الصراع مرحليا ، ولكنه سيسقط  في النهاية عندما يتجدد الصراع اعنف  مما كان . هذا إذا كان من الممكن أصلا توفيق أو تلفيق حل " حيادي " لمشكلة التحرر  الوطني . وعندما تحل المشكلة حلها الصحيح بعودة الأرض الى أصحابها يمكن حينئذ ـ وحينئذ فقط وليس قبل هذا-  حل المشكلات  الفرعية ومنها مشكلة إقامة البشر والأمن والحدود  والجوار وتوظيف الموارد...  الخ . أما قبل هذا فمستحيل . وفي هذا الإطار  يمكن فهم الطرح العربي لحل مشكلة الإقامة في فلسطين المتحررة الذي حمل عنوان " دولة ديمقراطية " أنها دولة  عربية أولا ، تعد ، أو تلزم ، بأن تكون ديمقراطية غير عنصرية ، ولكنها ليست  دولة إسرائيلية ديمقراطية وليست دولة مشتركة بين العرب والصهاينة ولو كانت ديمقراطية.  وكل تفسير آخر لهذا الحل  الذي قدمته الثورة الفلسطينية لمشكلة الإقامة على فلسطين المتحررة وعلى وجه خاص ، كل تحايل  باسم الديمقراطية على الموقف الوطني هو محاولة للحياد وهي فاشلة ومعادية إن كانت  من مصدر أجنبي ، وهي خيانة ان جاءت من مصدر عربي .
على ضوء هذا نستطيع أن نرى أن كل القوى  النشيطة التي تبحث عن حل لمشكلة فلسطين متجهة الى الالتقاء في موقع الفشل المحقق ، لأنها جميعا تتجه الى حل حيادي  مستحيل.
أما على المستوى الدولي ، ففيما عدا بضعة دول على رأسها الصين الحليفة المجيدة للشعب العربي كانت  الإجابة منذ سنة 1947 على سؤال لمن تكون ارض فلسطين : انها لاسرائيل وهو ما يعني تماما أنها ليست  للعرب.  وضد هذا الموقف بالذات ناضل الشعب العربي وبذل تضحيات هائلة الى ان استطاع ان ينجح في أن يفرض على دول العالم  جميعا حقا في الأرض يتحدثون عنه من منطلق الاعتراف به ولكن بدون تحديد ماهيته ومع الإصرار- في الوقت  نفسه- على ان لاسرائيل حقا في ذات الأرض.  فهو موقف قائم على محاولة إيجاد " حل وسط حيادي " ينهي المشكلة-  كما يتوهمون-  بتقسيم  ارض فلسطين بين أصحابها ومغتصبيها.
أما على المستوى العربي ففيما عدا موقف قديم للرئيس بورقيبة- لم يصر عليه - كانت الإجابة  منذ سنة 1947 ان ارض فلسطين ، للعرب وهو ما يعني تماما أنها ليست للصهيونية ومؤسساتها السياسية المسماة  دولة اسرا ئيل . وضد هذا الموقف بالذات استعملت كل القوى الدولية-  فيما عدا الصين المجيدة وبضعة دول أخرى-  كل ما استطاعت من وسائل التأثير  الثقافي والدعائي والاقتصادي والسياسي لتقنع العرب ، او تفرض عليهم ، قبول الأمر الواقع-  كما كانوا يقولون -  دولة اسرائيل على ارض فلسطين.  وفي نطاق تحقيق هذا الهدف طرح " الأصدقاء " بدائل من الصداقة والدعم والمساندة  وسيلا من دروس الثقافة الواقعية. ولجأ الأعداء الى أقصى أنواع الردع فشنوا على الدول العربية ثلاثة حروب هزموها فيها (1948- 1956- 1967) وحالوا بقوة السلاح دون إكمال نصرها في حرب 1973.  واستطاعوا ان يحتلوا مزيدا من الأرض  لتكون موضوعا للمساومة.  وتدور المساومة الآن على الأساس الذي يطرحونه : استرداد سيناء والضفة الغربية والمرتفعات السورية  في مقابل الاعتراف ، الصريح او الضمني ، بالوجود الإسرائيلي على ارض فلسطين وضان أمنه والتعامل معه على أساس  انه إحدى دول " المنطقة " .  أي ان الثمن المطلوب هو تقسيم فلسطين بين أصحابها ومغتصبيها.  وهو ذات الحل الحيادي  الفاشل الذي تراجعت اليه الدول الأخرى .
ولا يمكن ان يخطئ أي مراقب  للموقف العربي حركة الدول العربية وهي تتجه الى حيث تلتقي مع " الآخرين " من غير العرب في موقع الفشل هذا.  فهي  قد انتقلت ، او تراجعت ، من موقف يصر على ان ارض فلسطين للعرب الى موقف يتحدث عن الحقوق المشروعة لشعب فلسطين بدون تحديد  ماهية تلك الحقوق . وهي قد انتقلت ، او تراجعت ، من موقف يطرح المشكلة على حقيقتها  الإستراتيجية من حيث هي مشكلة تحرر وطني ، الى موقف يستبدل بالأصل فرعياته ، وبالأهداف الإستراتيجية أهدافا تكتيكية وأصبح الصراع يدور ويلف ويناور حول الأمن  والحدود والضمانات  الدولية والتعايش والسلام ... بل ان التقسيم-  تقسيم ارض فلسطين  بين أصحابها ومغتصبيها-  قد طرح كحل مقبول من أكثر من جهة عربية .
وهكذا يوشك الحل الحيادي  الفاشل ان يتحقق ، او هكذا يعتقد أطرافه.
ونحن من مواقعنا  ومواقفنا القومية ، نحذر فنقول ان هذا الحل قد لا يتحقق أصلا كما تتوقعون فإننا لا نحسب الساحة  العربية خالية من القادرين على منع تحقيقه ، فلا تربطوا أنفسكم بحل فاشل ان كنتم أصدقاء  ولا تعرضوا صداقتكم التي نعتز بها ونريد ان ننميها للعثرات ، وان كنتم عربا فلا تعرّضوا أمتكم لمزيد من التضحيات ، ذلك لان مثل هذا الحل الوسط الحيادي  لا يحسم القضية ولن يكون-  اذا وقع-  الا بداية صراع مرير ودام على الأرض العربية.
وفي مواجهة هذا التحذير ترتفع أصوات من الجانب العربي ، ومن جانب الأصدقاء أيضا-  متسائلة-  وبحق-  اذن ماذا نفعل ؟..  هل ندخل حربا ضد العالم  اجمع ؟..  هل نترك الأرض تحت الاحتلال الإسرائيلي لتغير واقعها وتهوّدها ؟..  هل نترك ما هو ممكن في سبيل مستقبل لا نعرف حتى ما اذا كان قابلا للتحقيق أم لا ؟..  ويضيفون بعصبية ساخرة:  ان هؤلاء القوميين لا يفعلون شيئا الا التشدق بالكلمات  الكبيرة وترويج الأوهام وتضليل العامة من الناس ولا يقدمون حلولا واقعية لمشكلات واقعية ويجهلون جهلا تاما علم السياسة الذي هو علم تحقيق الممكن وليس علم صياغة  الكلمات ؟
إذن ، فيا أيها الإقليميون ، استمعوا  الى ما نقول ، ولنهبط جميعا لنتحاور على ارض الواقع حتى لو كان  مرا.  اننا لن نفرض عليكم او نتوقع منكم  أفكارنا او مواقفنا ولن نحاول ان نقنعكم بوسائلنا لحل مشكلة  فلسطين ، إننا ان نفعل هذا نكون مثاليين . والمثالية كما تقولون هي إرادة غير الممكن موضوعيا.
ولكنا نقدم إليكم الحل الممكن طبقا  لأفكاركم انتم ومواقفكم انتم ، لنثبت لكم أولا ان ثمة مواقف ممكنة بالنسبة إليكم ولكنكم لا تفعلونها ، وأنكم في مواقفكم  الحالية لا تلتزمون حتى أفكاركم ومنطقكم انتم ، ثم نضع أمامكم السؤال الكبير الخطير:  لماذا تختارون-  من بين كل الممكنات -  الموقف الوحيد الذي تنحازون فيه ضد حق الشعب العربي في أرض فلسطين ، ولماذا تصرون على هذا الموقف.  وهو لا يتفق  مبدئيا مع أفكاركم ومنطقكم ؟…
يقوم الموقف  الإقليمي على أساس الاعتراف بتجزئة الوطن العربي الى دول  واستقلال  كل دولة منها بأرضها ، وبشعبها وبسيادتها على الأرض والشعب.  استقلالها عن كل دولة أخرى سواء عربية أو غير عربية .  وعلى المستوى الدولي يعتبر استقلال الدول أرضا وشعبا وسيادة حجر الزاوية في البناء القانوني للعلاقات الدولية ، استقلالها عن غيرها وتترتب على هذا نتائج تحدد أنماط السلوك " المشروع " في العلاقات  الدولية ، أهمها قاعدة مستقرة-  بمعنى ان أحدا لا ينكرها حتى لو حاول مخالفتها-  هي ان سيادة كل دولة محدودة بالأرض القائمة عليها وبالشعب  الذي يحمل جنسيتها) هويتها) ، وان تلك السيادة لا تمتد ، ولا يجوز ان تمتد خارج تلك الحدود.  ويسمون محاولة مد تلك السيادة الى خارج حدودها " عدوانا " او " تدخلا في شؤون الغير "، الخ ولهذه القاعدة  وجهها الأخر المعبر عنه بحق تقرير المصير.  فحق تقرير المصير ليس حقا " داخليا " يمنح شعبا بعينه سلطة تقرير ما يريد ، بقدر  ما هو حق " خارجي " يمنح كل شعب سلطة رفض التدخل في شؤونه ويلزم الآخرين بعدم هذا التدخل .
في إطار هذه القواعد التي  يعترف بها كل الأطراف المعنيين بحل مشكلة فلسطين يتحدد " الممكن " سياسيا ودوليا.  وهو ممكن لانه-  على الأقل-  مشروع وتجاوزه غير مشروع . وفي إطار هذه القواعد اختارت الدول  العربية للشعب العربي في فلسطين ان يكون مسؤولا عن تقرير مصيره وتعلن وتكرر ان منظمة تحرير فلسطين هي الممثل الوحيد لشعب  فلسطين . كما اعترفت الدول بهذا ولو ضمنا  عندما استقبلت قائد المنظمة في هيئة الأمم وأعطت الشعب الفلسطيني مقعد المراقب.  وترتب على هذا التزامها بعدم التدخل في شؤون  فلسطين . أي ان الدول العربية وغالبية دول العالم اختارت وأعلنت استقلال الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره ، فاختارت  وأعلنت في الوقت نفسه استقلالها عن فلسطين أرضا وشعبا.
فليكن ما داموا  يصرون .
أين هو اذن الموقف  الممكن الذي يتفق مع هذا المنطق " الاستقلالي " دوليا " الإقليمي " عربيا ؟.. لا يحتاج الأمر الى عناء كبير لنعرف انه الموقف  الذي يلزم كل دولة حدود سيادتها ويحول دون مدها الى ارض فلسطين . بوضوح  أكثر انه موقف يتلخص في ان تكف كل الدول-  أجنبية او عربية-  عن "تشكيل"  مصير فلسطين أرضا وشعبا وتنتبه الى مشكلاتها  الخاصة وتلتزم بحدود سيادتها.  فلا تتحدث عن ، ولا تساوم او تقايض على، ولا تقسم او تمنح أرضا  غير أرضها لمن تشاء في مقابل ما تريد من مصالح تحررية او اقتصادية او مالية  او سياسية بأكبر قدر من الوضوح ، انه في " نطاق القواعد السابقة  الاستقلالية دوليا والإقليمية عربيا ، لا تكون ارض فلسطين  ملكا أو تحت سيادة او خاضعة لإرادة اية دولة عربية او غير عربية ، وبالتالي يمتنع عليها جميعا ان تُدخل مصير فلسطين  في حسابات مصالحها وان تمد إرادتها او سيادتها الى ارض فلسطين.
ولنترجم هذا  الى موقف " عملي "...
ونخص بالترجمة الدول  العربية...
ان لبعض الدول العربية أرضا تحتلها اسرائيل . وبكل منطق بما فيه المنطق الوطني الإقليمي  لا بد لهذه الدول من ان تسترد أرضها بالوسائل المناسبة لها . الوسائل المناسبة لها اي التي تدخل أولا في نطاق حقوقها  المشروعة كدولة مستقلة وتدخل . ثانيا في نطاق إمكانياتها المتاحة .  لا اعتراض على هذا أبدا. والتخلي عن استرداد : الأرض ، او تركها ، او التنازل  عنها يمثل خيانة بكل معنى  الخيانة الإقليمية.  وفي سبيل هذا تستطيع الدول العربية-  اذا شاءت - ان تلزم نفسها بحدودها هي ، وان تنزع تسليح جزء من أرضها ، وان تتعهد وتقبل  بكل الضمانات التى تريدها او تفرض عليها  حتى لا تتجاوز حدودها عسكريا ، ولا تحاصر أحدا اقتصاديا ، وحتى ان تفتح مياهها او أجواءها أو حدودها لمن تشاء...  كل هذا ممكن  من حيث هو يتفق مع الموقف الاستقلالي دوليا الإقليمي عربيا...  لان كل هذا يكون استعمالا لسيادة  الدولة على أرضها وشعبها وتقع مسئولية قبوله او رفضه على شعبها.
ولكن غير الممكن  هو ان تمد أية دولة إرادتها الى ما يتجاوز سيادتها فتقول ان تلك الأرض  التي هي خارج حدودي ليست ملكا لهذا الشعب بل ملك للآخرين مع ان كليهما لا ينتميان اليها-  كدولة-  سياسيا . غير الممكن  بمنطق الاستقلال الدولي والإقليمية العربية ان تعترف أية دولة ، صراحة أو ضمنا ، بالوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين . بما يعنيه  هذا ويتضمنه من ان ارض فلسطين ليست من حق الشعب  العربي . من غير الممكن بمنطق الاستقلال الدولي والإقليمية العربية  ان تتدخل دولة في شؤون فلسطين  فتتجه إرادتها الى ارض خارج نطاق سيادتها فتقسمها بين أصحابها  ومغتصبيها..  من غير الممكن ان تسترد أية دولة عربية أرضها ، او تحصل اية دولة غير عربية على ما يحقق مصالحها الاقتصادية او السياسية  او المالية او الثقافية او حتى الدعائية مقايضة  على ارض خارج نطاق سيادتها هي ارض فلسطين .
لمن الأرض التي تسمى فلسطين ؟ أللشعب العربي أم للصهاينة ؟..
الإجابة الوحيدة الممكنة بالنسبة  إليكم ايها السادة الأصدقاء وأيها الإخوة الحاكمون في الدول العربية  ، طبقا لمنطلق الاستقلال الذي تتمسكون به ، هو ألا تجيبوا أصلا ، اذا كنتم أصلا لا تريدون ، أو لا تستطيعون في الظروف القائمة ، ان تقولوا أنها للشعب العربي .  ولكم في هذا حجة على من يطلبه  منكم هي أنكم-  بحجة استقلالكم - لا تستطيعون ، وليس من حقكم ، التدخل في شؤون فلسطين.  ونشهد ان الاعتراف الصريح  او الضمني بإسرائيل محرم عليكم ، وفيما عدا هذا افعلوا ما شئتم لاسترداد أرضكم او تحقيق مصالحكم ولكل حكومة شعب هو المسؤول النهائي عن القرارات التي تتخذها حكومته  ثم يبقى السؤال موجها لأصحابه فقط ، ويتحمل الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير التي تمثله مسؤولية الإجابة عليه . وكل الأطراف  التي يحرضونها الآن على ان تجيب اعترافا ضمنيا  بصحة ما نقول ولكن عليها ان تتذكر . ان " الحياد" مستحيل بالنسبة  اليها كما هو مستحيل بالنسبة الى غيرها ، كل ما في الأمر أنها لا تستطيع أن تمتنع عن الإجابة وليس لها في الجواب  خيار فإما ثورة حتى النصر وإما الخيانة...
كل هذا والخطاب إلى كل الأطراف  المعنية بحل مشكلة فلسطين ، وفي نطاق أفكارهم ومنطقهم ومواقفهم ، أما القوى القومية التقدمية-  الممثلة الوحيدة لجماهير الأمة العربية - فان لها من المشكلة أفكارا ومنطقا ومواقف أخرى ليس هنا موضع الحديث عنها.   







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق