بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

عن العروبة والإسلام ( 2 ) .

 عن العروبة والإسلام ( 2 ) .  

د.عصمت سيف الدولة .   


الـفـصـل الـثـانـي

الـمـنـافــقــون  ؟

لماذا المنافقون ؟
92 ـ المنافقون ، في لغة القرآن ، هم الذين يخادعون الله والناس ويتظاهرون بالاسلام . قال تعالى في كتابه الكريم : ( ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولايذكرون الله إلا قليلا . مذبذبين بين ذلك لاإلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ){ النساء : 142 ، 143 } . وقال ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) { المنافقون : 1 } . في هذه الآية الأخيرة يعلمنا القرآن أن النفاق ليس متوقفاً على صدق أو كذب الاخبار عن الغير بل هو كذب الاخبار عن النفس . فلقد شهد المنافقون أن محمداً رسول الله ، وهو صدق ، ولكنهم كذبوا فيما اخبرت به شهادتهم عن أنفسهم إذ لم يكونوا مصدقين ، وبه شهد الله تعالى . وفي الآية الأولى يعلمنا القرآن أن مطلق الكذب في الاخبار عن النفس ليس نفاقاً ، وإنما يصبح نفاقاً حين يقصد به خداع الناس وتضليلهم . وتخصص الآية فتضيف إلى كذب الاخبار عن النفس بقصد خداع الناس أن يكون الخداع المقصود منصّباً على موقف صاحبه من قضية يهم الناس معرفة حقيقة موقفه منها . بناء على هذا الذي يعلمنا القرآن إياه نستطيع أن نقول ان المنافقين عامة هم اولئك الذين يجهرون بما يرضي الناس يبغون مرضاتهم وهم يخفون غير ما يجهرون به ، يبغون خداع الناس بإخفاء مواقفهم من قضية للناس مصلحة في معرفة مواقفهم منها ، فيبقون مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء  .
جمع الله المنافقين والكافرين في حكم الدين فقال تعالى : ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا)  { النساء : 140 } . ومع ذلك ، لو تصورنا الجحيم هاوية من طبقات ، كل منها أسفل الأخرى وأشد سعيراً لكان مصير اعداء الله من الكافرين إلى الطابق " قبل الأسفل " من الهاوية . أما الطابق الأخير ، الأسفل ، الأشد سعيراً ، فإليه مصير أعداء الناس من المنافقين . قال الله تعالى في محكم آياته : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) { النساء : 145 }   .
كيف يكون النفاق أشد من الكفر ؟ .. لذات الحكمة التي كانت بها الفتنة أشد من القتل ( البقرة : 191 ) . وهي حكمة متصلة بصلاح الأفراد للحياة وصلاح الحياة في المجتمعات . ذلك لأن الله قد قال : ( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) { ابراهيم : 8 } . وقال ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ) { العنكبوت : 6 } . وقال ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضلّ عليها ) { يونس : 108 } وقال : ( من عمل صالحاً فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم ترجعون ) { الجاثية : 15 } . وقال : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) { الاسراء : 7 }  مع كل هذا ، ومثله كثير في القرآن ، لايبقى مجال لالتماس حكم الاحكام إلا فيما تصلح به حياة البشر فرادى ومجتمعين  .
ولقد تختلف مصالح البشر من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ولكن تبقى للبشر في كل زمان ومكان مصلحة ثابتة لاتتبدل : مقدرتهم على أن يعرفوا معرفة صحيحة مصالحهم ليستطيعوا أن يعملوا  صالحاً .من هنا نستطيع أن نتبين ، كما نرجو ، فارق الجسامة بين الجرم يصيب مصلحة في زمانها ومكانها فيتلفها وبين الجرم يصيب مقدرة الناس على معرفة مصالحهم معرفة صحيحة فيعوقها أو يعطلها . وطبيعي أن إعاقة مقدرة الناس على معرفة مصالحهم معرفة صحيحة أو تعطيلها سيؤدي إلى إعاقة وإتلاف مصالح كثيرة غيرقابلة للتقدير أو التعيين . وبالتالي ، فإن الجرم الذي يعوق أو يعطل مقدرة الناس أشد جسامة بما يؤدي إليه من إعاقة وإتلاف مصالح كثيرة وإن لم تكن متعينة أو مقدرة لأنه يشملها ويزيد . فالفتنة تؤدي إلى القتل وغيره من المفاسد  .
والنفاق يشجع على الكفر وغيره من الكبائر . وبينما يكون المجني عليه في القتل فردا معينا ، ويكون المجني عليه في الكفر هو الكافرنفسه ، تكون الفتنة والنفاق جنايتين على كل الناس ، على المجتمع ، لايعرف أحد مقدّما من وكم من الناس سيكونون ضحاياها ، وهل سيكون الضحايا من الأبرياء أو ممن يستحقون ما أصابهم لهذا يقول الله تعالى : ( واتقوا فتنة لاتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة ) { الأنفال : 25  }  .
على أي وجه يكون النفاق جناية على المجتمع ؟ وإلى أي مدى ؟
93 ـ على مدى أكثر من ربع قرن كنّا نجتهد في الكشف عن قوانين تطور المجتمعات . ونضرب لها الأمثال فنصيب أو نخطيء ، ولكنّا - في الحالتين - كنا نحاول أن نضع بين أيدي ابناء هذه الأمة مانعتقد أنه يفيدهم في أن يأخذوا أمرهم بأيديهم وألا يتركوا مصير أمتهم للصدفة . صدفة الانتصار أو صدفة الهزيمة ؛ أو على الأقل مايوفر عليهم مايهدر من وقت وجهد في محاولات التجريب ، وما يصاحب التجريب في حياة البشر من عذاب وتعذيب . وكان من بين ماطرحناه وكررنا طرحه مانعود إليه لنؤكده  :
إن المجتمع ، أي مجتمع ، هو مجموعة من الناس مختلفوا الأعمار والذكاء والمعرفة والمقدرة على العمل ، يعيشون معاً في ظروف خاصة بهم ، مشتركة فيما بينهم . ( إن يكن مجتمع دولة فوطنه قاصرعليه ، مشترك فيما بين افراده ، وهي الصورة المعاصرة الغالبة ) . وأن بكلّ من أولئك الناس حاجات إلى مايحفظ النفس من مأكل ومشرب ومسكن وعلاج ، وماينميّ موهبته من علم ومهارة ، ومايكمل به حياته ويجملها من روابط وعواطف وقيم روحية وفنية . وأن الناس في كل هذا مختلفون ايضا . وأن المجتمع ، أي مجتمع ، لايملك ، بدون عدوان على مجتمع غيره ، مصدراً لاشباع حاجات الناس فيه إلا موارده المتاحة للناس فيه . موارده المادية وموارده البشرية . الأولى يسمونها الثروات الطبيعية . والثانية يسمونها قوة العمل . من ناتج التفاعل بينهما ، وبقدر هذا الناتج ، تتاح للناس فرص حقيقية لاشباع حاجاتهم . ولما كانت تلك الحاجات متجددة دائماً ما أن تشبع حاجة حتى تقوم حاجة أخرى ، بالاضافة إلى الحاجة الدائمة إلى مايحفظ النفس من مأكل ومشرب ومسكن ، فإن حاجات الناس في المجتمع ، أي مجتمع ، تزيد على ماهو متاح لاشباعها في زمان معين . وهو مايعني أن الاشباع الكامل والنهائي لحاجات الناس في المجتمع ، أي مجتمع ، مستحيل . فلا يكون للناس في أي مجتمع سبيل إلى اطّراد اشباع حاجاتهم المتجددة أبداً إلا اطّراد زيادة انتاجهم بالعمل الذي لا يتوقف أبداً . وهذا هو التطور الاجتماعي ، أو مايقال له التقدم . التقدم من الفقر إلى الغنى . من عبودية الحاجة إلى حرية الاشباع . من الارادة غير متحققة المضمون إلى الارادة متحققة في مضمونها  .
مصير كل مجتمع إذن متوقف على مقدرته على التطور . ولكن التطور الاجتماعي لايتم اعتباطا . ولايأتي ثمرة لكل جهد مبذول بل يأتي ويطرد بقدر مايتفق الجهد البشري مع قانونه . نعني قانون التطور الاجتماعي وقانونه ثلاثي الحركة  :
أولا : إدراك المشكلات الاجتماعية ( احتياجات الناس ) كما هي بدون إخفاء أو تزييف كما يحسها الناس أنفسهم ، ثانيا : معرفة حل تلك المشكلات حلا صحيحا ، وذلك بمشاركة كلّ فرد في طرح رأيه فيما يعتبره حلاً صحيحا والأخذ برأي الأغلبية . ثالثا : مساهمة كل فرد قادر ، بالعمل في تنفيذ هذا الحل ، لانتاج مايشبع حاجات الناس من الموارد المتاحة . المشكل فالحل فالعمل . هذا هو القانون . أما شروط فاعليته في المجتمع فهو صدق إخبار كل فرد عن مشكلته صدق رأي كل فرد في كيفية حلها . عمل كل فرد في حل كل المشكلات الاجتماعية  .
لهذا قلنا ، ونعيد لنؤكد ، ان اشتراك الناس في معرفة المشكلات الاجتماعية بدون حدود ، واشتراكهم بالرأي في حل تلك المشكلات بدون قيود ، واستراكهم بالعمل حلا لتلك المشكلات بدون قعود ، هي ثلاث حركات لقانون واحد اسميناه قانون " الجدل الاجتماعي " . وأن أي عائق لهذا القانون جملة ، أو لحلركة من حركاته ، سيعوق تطور المجتمع ذاته ويبقي على مشكلات الحياة فيه بدون حل بكل مايصاحب المشكلات من ألم وصراع ومعاناة . وإنه لمما يعوق فعالية هذا القانون ، قانون التطور الاجتماعي ، إخفاء الحقائق وكبت الآراء والبطالة من العمل . وضربنا أمثلة من اشغال الناس بمشكلات مصطنعة ، أو استنفاذ جهودهم في العمل على تحقق حلول خاطئة ، أو شيوع التواكل والسلبية والهروب والبطالة فلا تجد حتى الحلول الصحيحة كاقة العمل الذي يحولها إلى واقع  .
وهذا على وجه التحديد ما يفعله المنافقون في كل مجتمع  .
94 ـ أنهم يزيفون الواقع الاجتماعي ومشكلاته بما يكذبون في الاخبار عن معرفتهم ، ويزورون الحلول الممكنة لتلك المشكلات بما يكذبون في الاخبار عن آرائهم ؛ ويربكون العمل الاجتماعي بما يكذبون في الاخبار عن مقدرتهم على العمل الذي يحسنونه . وما أن يبدأ البناء الاجتماعي على أسس داخلتها أكاذيبهم حتى يتصدع أو ينهار ، مهدراً معه جهود الصادقين ، ليبدأ المجتمع تطوره من نقطة متخلفة كان قد ظن أنه تجاوزها إلى التقدم .هذا هو مايفعله المنافقون . وهذه هي جرثومة النفاق التي يدسونها في نسيج المجتمع الحي فلا تلبث أن تهلكه . وهكذا يعوق المنافقون تطور المجتمع بقدر مايزيفون الواقع ، ويزورون الآراء ، ويهربون من العمل الاجتماعي المفيد ، فيصيبون مقدرة المجتمع على التطور في الصميم . ومن أراد أن يلتمس مثلا ، أو أمثلة ، فلينظر إلى حيث يشيع النفاق في المجتمعات التي يحكمها الطغاة والمستبدون . ذلك لأن دولة الاستبداد هي النموذج الكامل لدولة المنافقين . فهناك حيث لايستمع المستبدّ إلا إلى ما يرضيه ، وحيث يشلّ الخوف مقدرة الناس على الجهر بالصدق خشية البطش ، يفشو النفاق ويتصدّر المنافقون . فترى أغلب موارد الدولة من ثروات وقوة عمل مهدرة في تنفيذ ما صاغه المنافقون نظريات وأفكاراً وبرامج وسياسات على ما يهوى سادتهم . يزعمون أنها حلول علمية مدروسة لمشكلات هم أدرى بها من أصحابها . وما يزالون سائرين إلى أن يفيقوا على واحدة من الكوارث التي لابد أن تصيب دولة المنافقين . فإذا بطاقة المجتمع قد استنفدت ، أو كادت ، في تنفيذ حلول خاطئة لمشكلات مصطنعة ، وأن مشكلات الناس لم تزل باقية كما كانت أو أشد حدّة . ولعلهم - بعد ذلك - أن يعقدوا مؤتمراً لدراسة ظاهرة النفاق يكون المجال فيه متاحاً إمّا للنكران وإما للاتقان . وإن كانت مؤتمرات الدنيا كلها لن تعفي حياة الناس من أعباء البداية من جديد  .
95 ـ وإن من المنافقين من أبناء أمتنا العربية من يناهضون الاسلام باسم العروبة فيستفزون الشعب العربي المسلم إلى درجة يصبح معها في حاجة إلى الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام . وإنهم لمنافقون لأنهم إذ يصدقون في الاخبار عن غيرهم حينما يشهدون جهاراً أن الشعب العربي شعب مسلم يبغون مرضاته ، ربما ليقبلهم في مواقع القيادة منه ، يكذبون في الاخبار عن أنفسهم إذ يخفون مواقفهم من الاسلام تحت ستار من الشعارات والآراء .ز والأفكار التي تنتهي جميعا إلى استبعاد الاسلام من حياة الشعب العربي حتى لو بقي مناسك وعبادات  .
96 ـ ولسنا قادرين ، في حديث محدود ، على تتبع كل صور النفاق الذي يخفي مناهضة الاسلام بالعروبة . وإن من أشكاله ماهو ظاهر السذاجة بحيث لايستحق أن نتتبعه . من ذلك - مثلاً - الاستعلاء على الاسلام بالعروبة ، والاستعلاء انفصال يمهد للاستغناء . يفاخر بعض العرب بأن قد كان الرسول منهم ، وكان القرآن بلغتهم ، وبأن في ذلك آيتين على أن الاسلام دين العرب ، وفضلهم على الناس كافة ، وأنهم قد استحقوا أن توضع فيهم الرسالة فوضعت . انهم ينافقون الشعب العربي يبغون مرضاته ربما ليقبلهم في موقع القيادة منه ، ولكنهم يجعلون من الاسلام ثمرة من ثمار حضارة ينسبونها إلى أمة عربية لم توجد قط . كأن العروبة هي الأصل ، وما كان الاسلام إلا فرعا . ونشهد أننا لم نقرأ ولم نسمع شيئا اكثر جهالة من هذا الذي اختاره بعض العرب أسلوبا لمناهضة الاسلام باسم العروبة  .
وذلك لأن الأمر عندنا عكس ما يتوهّمون . إن الله يعلم حيث يجعل رسالته . هذا حق . ومن الحق أيضا أن الله قد أرسل الرسول إلى حيث كان الناس في أشد الحاجة إليه . نقول إلى أكثر الجماعات تخلّفا . وحتى الذين يعدّونه منهم بطلا تاريخيا عربيا يعرفون أن الأبطال يظهرون حيث يكون الناس في أشد الحاجة إليهم . نظرة واحدة تعود بنا إلى الخيطة البشرية في زمان اللرسالة تكشف لنا أن كل المجتمعات القبلية حول الجزيرة العربية وفي أطرافها كانت قد ارتقت نسبيا إلى مايجاوز العلاقات القبلية المتخلفة لتندمج القبائل في شعوب مستقرة أو شبه مستقرة . والشعوب أكثر تحضرا من القبائل . كان الناس في مصر ومايليها غربا جاوزوا المرحلة القبلية وأصبحوا شعوبا مستقرين على أرض ينظمون العلاقات فيما بينهم على وجه جماعي لاتكاد تظهر على سطحه نتوءات العلاقات القبلية المتحللة . كذلك كان الأمر في الشمال حيث كانت الامبراطورية الرومانية قد قضت علىالتمرد القبلي وفرضت على الناس " التعايش " في ظل سيادتها لينتقلوا بذلك من الطور القبلي إلى الطور الشعوبي .
وكانت الامبراطورية الفارسية قد فعلت الشيء ذاته فيما يلي الجزيرة شرقا . بل أن المجتمعات القبلية في أطراف الجزيرة المجاورة للحبشة وفارس في الجنوب ، والمجاورة للفرس في الشرق ، وللرومان في الشمال ، كانت قد سرت إليها العدوى الحضارية من خلال التعامل ، فاستقرت ودخلت مرحلة التطور من القبلية إلى الشعوبية . وقد سبق أن تحدثنا في هذا تفصيلا  .
المهم أنه من بين كل البشر المعروفين الذين عاشوا عصر ماقبل البعثة لم يكن قد بقي متخلفا عند الطور القبلي بكل علاقاته الوثنية ( تعدد الآلهه رمزا لتعدد القبائل ) والعرقية والعصبية إلا في الحجاز ومايليه ويحيط به من البدو ( الأعراب ) . فاستحقوا بحاجتهم إلى التطور أن يكون منهم وفيهم الرسول الذي لم يلبث أن حرر المؤمنين من التخلف القبلي وارتقى بهم إلى أن يكونوا في المدينة شعبا سيصنع منه التاريخ أمة  .
وآتاه الله كتابا عربيا . ( انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) { يوسف : 2 } . فيقولون لأن أولئك الأعراب كانوا فرسان البلاغة . وإنا لنقول غير مايقولون . لقد كان اولئك الأعراب يعرفون حروف لغتهم وكلماتها ويغترّون بما ظنوا أنهم فيه متفوقون . فجاء القرآن بلغتهم يتحداهم : ( قل فأتوا بسورة  مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) { يونس : 38 } . فكانت المعجزة التي كشفت عجزهم عما يمكن أن تؤديه الحروف ذاتها ، الكلمات ذاتها ، من صيغ بلاغية لم تخطر لهم على بال . فجرّدهم من السبب الوحيد لغرورهم الجاهلي . وما أصابوا من بعد ، مما لايزالون يفاخرون به من حضارة قومية اسهموا بها في تقدم الناس كافة ، إلا بعد أن أمدهم الاسلام باسباب التقدم الحضاري . وما كانوا أمة عربية إلا به بعد أن كانوا أعرابا . إن الاستعلاء على الاسلام بالعروبة مناهضة " وأركسة " والأركسة من أركس أي قلب إدراكه . ثلاثية ركسه يركسه أي ردّه مقلوبا وقلب اوله على آخره فارتكس . وصدق الله العظيم حين قال في المنافقين : ( فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ، أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) { النساء : 88  }  .
97 ـ ومن أشكال مناهضة الاسلام بالعروبة ، نفاقا ، تفضيل بعضهم " الاسلام المستنير " والاشادة به والدعوة إليه . كأن ثمة إسلامين أحدهما مستنير يشهرونه والآخر مظلم لايشيرون إليه . أما مصدر الضوء الذي وقع في ظنهم أن قد وقع على " إسلام " فاستنار واحتجب عن " إسلام " فأظلم ، فهو أفكارهم وما يشتهون . فخلاصة موقفهم من الاسلام أن تحل أفكارهم محله في حياة الأمة العربية . ولو أنصفوا أنفسهم لتحدثوا عن الاستنارة والاظلام في المذاهب والآراء واجتنبوا الاسناد إلى الاسلام . وأن يكونوا مسلمين على مذهب يرونه مستنيراً فعليهم أن يقدموه مذهبا على مسؤوليتهم في الصواب والخطأ ، ولا يقدموه على أنه الاسلام المستنير بما يترك مجالا للظن بأن ثمة إسلاما غير مستنير . إلا أن يكونوا من المنافقين الذين يفضّلون أن يبقوا مذبذبين في ذلك لاإلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء  .
98 ـ غير أن من أشكال النفاق الذي يناهض الاسلام بالعروبة ماهو أكثر إتقانا ، وبالتالي اكثر خطورة . هو أكثر إتقانا لأنه مصوغ في قوالب فكرية جادة ، أو تبدو جادة ، في البحث عن حلول صحيحة امشكلات الحياة الواقعية في أمتنا العربية والجدية الفكرية تستدعي الاحترام . وهي تقدّم إلى الناس في وطننا العربي ما يغريهم طريقا إلى مستقبل أفضل ، والمستقبل الأفضل يستدعي القبول . وهي لاتعرض للاسلام إنكارا أو قبولا ، وهو ماقد يرضي عامة المسلمين الذين لايرضيهم الجدل حول مااستقروا عليه من عقيدة . إنها أشكال واضحة العطف على العروبة غامضة الموقف من الاسلام . وهنا في هذا الغموض ، قد يكون عش النفاق : إذ مادامت علاقة الاسلام بالحياة الافضل مطروحة للحديث ، فإن ترشيح طرق أفضل للحياة ، ثم الصمت عن الاسلام هو - في نهاية المطاف - ايهام الشعب العربي بالثقة في إمكان تحقيق مستقبل أفضل بدون حاجة إلى الاسلام  .
اخطر تلك الاشكال ، واكثرها اتقانا ، مايقال له " العلمانية   " ..  
 قـصة " العلمانيـة  "  :
99 ـ " العلمانية " نزعة ترى ، أو تعمل على ، مايقال له " الفصل بين الدين والدولة " . ولما كانت كلمة   الدين غيرذات دلالة محددة على دين معين ، بل تطلق تجريداً على كل ماهو دين ، أو كل ما أسماه اصحابه أو منكروه ديناً ، بلا تفرقة ، ولما كانت كلمة " الدولة " قد اختلفت دلالتها على مدى العصور فأطلقت على الأسر الحاكمة ، وأطلقت على الحكم ذاته ، ثم هي في العصر الحديث تطلق على مجموعة من العناصر المادية والمعنوية والبشرية ، تؤلف معاً واقعاً معترفاً به ( سنعني بها السلطة في هذا الجزء من الحديث إلى أن نعودإليها تفصيلاً ) ، فليس ثمة غرابة في ان تكون كلمة " العلمانية " من أكثر الكلمات غموضاً . ومع ذلك فهي كلمة رائجة رواجاً كبيراً في الأدب السياسي . أما على مستوى الكلام المرسل أو الدعائي فقد يكون استعمالها من لوازم الاستعراض الذي يريد به بعض المثقفين الايحاء بأنهم عالمون أو علماء ، أو أنهم ينتهجون العلم في التفكير أو التدبير أو الحركة ، أو من لوازم " الاستعباط " الذي يريد به بعض الهاربين من المشكلات الايحاء بأن حركة الهرب تكتيك محسوب ( الهروب من فلسطين عربية إلى فلسطين علمانية )  .
ولعل مرجع الظن بأن كلمة " علمانية " قادرة على الايحاء بما يرضي غرور مستعمليها أو احلامهم ما يدخل في تركيبها من حروف كلمة " العلم " حتى لتكاد تنبيء بأنها مشتقة منها ، أو ذات صلة وثيقة بالعلم ، وهي ليست كذلك . لاعلاقة البتًة بين " العلمانية " نزعة وبين " العلم " منهاجاً . والأصل اللاتيني للترجمة العربية ينفي مثل هذه الصلة  .
أكثر من هذا غرابة ومدعاة لغموض دلالة كلمة العلمانية ما يوحي به استعمالها للتعبير عن نزعة " الفصل بين الدين والدولة" من أنها معارضة أو مناقضة للدين . وقد ساعد على شيوع وهم التناقض بين العلمانية والدين انها كانت ثمرة التيار الفكري العقائدي الجارف الذي أخرج أوروبا من ظلمات قرونها الوسطى وعرف باسم حركة التنوير . وقادته الفكريين كانوا ملحدين : هوجو جروتيوس ( 1583 -1645 ) وتومس هوبز ( 1588 -1679)وجون لوك ( 1632 - 1704 ) وديفيد هيوم ( 1711 - 1776 ) وجان جاك روسو ( 1712 - 1778 ) وجيرمي بنتام ( 1748 - 1832 ) وستيوارت مل ( 1806 - 1873 ) وهربرت سبنسر ( 1820 - 1903 ). . . الخ .
هذا في حين أن جوهر حركة التنوير الأوروبي هو الثقة في مقدرة العقل على ادراك الحقيقة . وهو جوهر نثرت بذوره في أوروبا جماعة من الدارسين يسمونهم جملة " المدرسة الرشيدية " نسبة الى الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد  ( 1126 - 1198 ) الذي نقلوا عنه فعرف الأوروبيون عن طريقه الفيلسوف الاغريقي أرسطو ، وفلسفته وشرحها . ( ترجم الاسكتلندي ميخائيل سكوت ( 1175 - 1234 ) اغلب اعمال ابن رشد إلى اللاتينية في الفترة مابين ( 1217 و1230 ) . وإذا كان الأوروبيون قد شاءوا - لأسباب لاعلاقة لها بالايمان أوالكفر أو الفلسفة - أن ينكروا ابن رشد حامل مشكاة النور إلى اوروبا المظلمة فإنه من غير المنكور أن من بين فلاسفة التنوير وقادته الفكريين فلاسفة عباقرة دافعوا عن الدين بسلاح العقل وآمنوا ، ليستطيعوا أن يفهموا كما قال من قبل سان انسلم ( 1033 - 1109 ) . منهم ديكارت ( 1596 - 1650 ) وليبنز ( 1646 -1716) وجورج باركلي ( 1685 - 1753 ) وجوزيف بتلر ( 1692 - 1752 ) وكانت ( 1724 - 1804) وهيغل ( 1770 - 1831 ) وهيرمان لوتز ( 1817 - 1881 ) . . . الخ .
والواقع أن حركة التنوير ذاتها لم تكن إلا امتداداً لما يسمى في تاريخ أوروبا ثورة الاصلاح الديني التي اندلعت في أوائل القرن السادس عشر وقادها مارتن لوثر الألماني الذي بدأ دعوته عام 1520 ، وجان كالفن السويسري الذي بدأ دعوته عام 1536 . ولقد كان الاصلاح الديني ثورة ضد احتكار الكنيسة في روما تفسير الانجيل ومدّ قدسيته إلى المذهب الكاثوليكي ، ليصبح المذهب هو الدين . ولم يلبث الاصلاح الديني أن تطور ليصبح ثورة ضد تكبيل العقل بقيود الوحي كما يصوغه مذهب الكنيسة فيما سمّي بحركة التنوير ، ولم تلبث حركة التنوير أن تطورت إلى ثورة سياسية ضد استبداد الكنيسة بالسلطة ، فكانت العلمانية  .
لقد كانت كلّها مراحل حركة ثورية واحدة استمرت أكثر من قرنين ضد مؤسسة تحتكر العلم والفهم والحكم دون الناس أجمعين ، وتفرض علمها وفهمها وحكمها على الناس باسم الدين . فكانت هي الدين حين يكفر الناس بالدين أو يعارضونه أو يناقضونه ، ولم يكن الدين هو المسيحية . وقد تجسّد هذا الموقف في المذهب " الرّباني " الذي روّج له فولتير ( 1694 - 1778 ) فراج في أوروبا وانتشر . والمذهب الرباني يؤمن بالله وينكر الوحي ويثق بالعقل . بل ان تلك الكنيسة قد كانت سبباً في شيوع الهرطقة على مدى ثلاثة قرون سابقة على الثورة الفرنسية . وإذا كان كبير الماديين الملحدين البارون دي هلباخ ( 1723 - 1789 ) قد قال ان الدين هو السبب الأساسي للتعاسة ، فإنه كان يردد ماقاله من قبله أحد كبار كهنة الكنيسة ذاتها . قال الكردينال ريجيتا لدبول في مجلس الكرادلة الذي انعقد عام 1546 ، اننا نحن المسؤولون عن التعاسة التي حلت من انتشار الهرطقة وانحدار الأخلاق المسيحية ، لأننا فشلنا في أن نزرع الحقل الذي سلم الينا ، اننا كالملح الذي فقد طعمه .
يخطيء اذن الذين يظنّون أن العلمانية مذهب فكري مضاد للدين ، ويخطيء الذين يظنون أن العلمانية قد وفدت إلينا دعوة إلى الالحاد لتنتزع من قلوبنا الايمان . ولقد أضل هذا الخطأ كثيرين ، فرموها ، إذ رموها ، حيث ظنّوا موضع الخطورة فيها على الدين . نقول " خطأ " ونقول " ظنا " لأننا لانريد أن نسبق أسباب اليقين . وقد نعلم حينئذ أن ثمة عدواناً منظماً قد أراد أن يلهي ضحاياه عن دفع خطر واقعيّ يهدد حياتهم فلفتهم إلى خطر وهمي يهدد ايمانهم فأوحى إليهم بأن العلمانية نزعة إلحادية معارضة أو مناقضة للدين عامة فغاب عن الادراك العام مافي العلمانية من مناقضة ومناهضة للاسلام خاصة . ولن ندرك ماغاب بدون معرفة كاملة بحقيقة العلمانية . سنجتهد مااستطعنا في كشف حقيقتها لمن لايعرفون ، ونرجو ألاّ يندهش أحد منهم حينما يدرك أن أصل العلمانية بمعنى الفصل بين الدين والدولة التي يوحى إلينا بأنها مناقضة للدين ، مذهب ديني في المسيحية نشأ معها ، فرضاً من فروضها ، ثم استمر ركناً من أركانها ، وجزءاً من تراثها اللاهوتي . لم يدخل العقل البشري إلا بها ، إذ لم يكن معروفاً في أي دين من قبل ، ولم ينتقل منها إلى أيّ دين من بعد  .
في اليهـوديـة :
100 ـ فمن قبل كان اليهود مجتمعاً قبلياً جائلاً في الأرض ، لاأرض له، إلا مايقيم عليهاحتى ينزع عنها ، مثلهم في ذلك مثل كل المجتمعات القبلية التي كانت تجوب الأرض إلى ماقبل عصر الشعوب ثم القوميات ، وما يزال بعضها جائلاً في الأرض حتى الآن . فنرى فيما كتبه اليهود عن تاريخهم في أسفار التكوين والخروج والتثنية والملوك من كتابهم المسمى " توراة " أن قد كانت بدايتهم عشيرة إبراهيم عليه السلام في مدينة أور جنوبي مدينة بابل ( العراق ) . ومنها بدأت جولتهم القبلية الطويلة ، إلى حاران ، ثم كنعان ( فلسطين ) ، ثم مصر ، ثم حبرون ( فلسطين ) ، تحت قيادة ابراهيم ، ثم إلى مصر مرة أخرى بدعوة من يوسف بن يعقوب عليهما السلام ، ثم إلى سيناء تحت قيادة موسى عليه السلام لمدة جيلين ، ثم إلى فلسطين تحت قيادة يوشع بن نون ، ثم إلى العراق أسرى على دفعتين : دفعة ساقها ملك اشور ، ودفعة ساقها ملك بابل . وابتداء من 539 ق.م . استولى دارا ، ملك فارس ، على كل الأرض التي كانوا يجولون فيها ، ثم من بعد الفرس استولى عليها اليونانيون بقيادة الاسكندر الاكبر عام 332 ق.م . ثم استولى عليها الرومان عام 58 ق.م . طوال تلك الفترة التي بدأت بالاستيلاء الفارسي حتى نهاية الاستيلاء الروماني لم يكن لليهود ارض خاصة بهم ولو كانوا مقيمين فيها باذن من صاحبها الغالب . ثم انتهى تاريخهم عام 70 بعد الميلاد حين أبادهم الرومان جملة ، ودكّوا مواقع إقامتهم ، وأحالوا هيكلهم المقدس رماداً .
وليست الهجرة في الأرض بحثاً عن الرزق أو الأمن هي المييز الوحيد للمجتمع القبلي ، بل من مميزاته أيضاً وحدة مصدر السلطة في إدارة شؤون القبيلة . ولقد كان ذاك المصدر الوحيد في كل المجتمعات القبلية هو الدين سواء كان وثنياً أم سماوياً . وسواء كان الاله الوثني واحداً أم متعدداً . ومع أن الطريق إلى مركز القيادة في القبيلة ، أيّ قبيلة ، لم يكن دينياً دائماً ، ولا كان سلمياً في كل الحالات ، إلا أن الوصول اليه كان دائماً دليلاً مقبولاً على اختيار الآلهة من انتصر فوصل . وكثيراً ماكانت الطقوس الدينية التي تلي النصر شهادة لرئيس القبيلة الجديد بأنه الاله أو ممثل الاله . وكان الكهنة أوالسحرة هم الشهود على تلك الصلة بين السلطة ومصدرها الديني ، أي على شرعية السلطة . ولما كانت السلطة في كل قبيلة مقصورة على أفرادها الذين ينتسبون عادة إلى جدّ واحد ، حقيقي أو مزعوم ، فقد كان لكل قبيلة دينها وإلهها أو آلهتها المقصورون عليها . وكان كل ذلك  "معترفاً به " لكل قبيلة في المجتمعات القبلية ، معترفاً به من القبيلة المعنية ومن القبائل الأخرى  .
ولم يكن اليهود إلا قبيلة لها إلهها الخاص " يهوه " فحرّمت عليهم النصوص القبلية الموضوعة في التوراة أن يعقدوا أيّ حلف مع آلهة القبائل الأخرى . فيقولون على لسان إلههم " يهوه " : " إنّي أدفع إلى أيديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك . لاتقطع معهم ولامع الهتهم عهداً " ( سفر الخروج ، اصحاح 23 آية : 32 ،33 ) وهو مايعني " الاعتراف " القبلي بآلهة القبائل الأخرى . على أي حال فإن تاريخ اليهود نموذج يكاد أن يكون كاملاً للدين كمصدر وحيد للسلطة في كل العصور السابقة على ظهور المسيحية ، وبالتالي على غياب فكرة  "العلمانية " عن العقل البشري في تلك العصور  .
101 ـ فعلى مستوى القيادة القائمة بالسلطة توارث قيادتهم ابراهيم ثم اسحق ثم يعقوب ثم يوسف ثم موسى ثم مجموعة من رجال الدين يسمون " القضاة " آخرهم صموئيل النبي لمدة 450 عاماً . ثم من بعدهم داود ثم سليمان نحو عام 1000 قبل الميلاد . وكان كل اولئك القادة القبليون " أنبياء " في الوقت ذاته . وكان قادتهم القبليون في ظل السيطرة الفارسية واليونانية والرومانية " كهنة " يختارهم الفرس واليونانيون والرومانيون إبقاء على نسبة السلطة القبلية إلى الدين ولو كان مصدرها الواقعي لا يهودياً .
102 ـ أما على مستوى النظام القبلي الداخلي بكل علاقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقد عاش اليهود طوال تاريخهم يحكمهم نظام " الشريعة " . والشريعة مدونة في مرجعين . الأول ، كتاب يقدسونه اسمه التوراة ينطوي ، بجوار الوصايا العشر المعترف بها رسالة موسى عليه السلام إلى قومه ، على مجموعة كثيفة من كليات وتفاصيل أحكام العبادات ( الطقوس ) ، والمعاملات المدنية والجزائية ( الجرائم وعقوبتها ) ، والمالية  (الاملاك والعشور والنذور ) ، والاجتماعية ( إذا مات والد عن غير ولد كان لأخيه أن يتزوج أرملته على أن ينسب الابن البكر الذي ينجبه منها إلى أخيه الذي مات ( التثنية : اصحاح 25 آية : 5 -7 )  .
أما المرجع الثاني فهو التلمود وهو قسمان : " المشنة " أي صورة الشريعة " والجمارة " أي ملحق الشريعة  .
وكلاهما تفاسير وشروح للأحكام دينية الأصل ، وإن كانت قد تكاثرت وتشعبت حتى أصبحت عند بعض اليهود هي المرجع دون التوراة ( طائفة البروشيم )  ..
وهكذا لم يعرف تاريخ اليهود مايمكن أن يقال له " قانون وضعي " ولو على مستوى السلوك اليومي . وكل ماوضعوه فعلاً وضعه الكهنة وردّوه إلى الدين ليكتسب قوة الالزام ، وهي قوة لامصدر لها في اليهودية غير الدين  .
103 ـ  أما على مستوى تنظيم ممارسة السلطة ، بالاضافة إلى الأنبياء القادة أو الأنبياء الملوك كان يوجد  "السنهديم " وهو هيئة كهنوتية ذات سلطة عليا . يرأسه رئيس الكهنة وينتخب أعضاؤه من الكهنة والكتبة (علماء الشريعة ) واللاويين ( سبط لاوي بن يعقوب ) ، الذين اختارهم " يهوه " لخدمته ، المختصون بالوظائف الكهنوتية المالية مثل تلّقي العشور والنذور وأوائل القطاف وباكورة الأثمار وأبكار الأنعام وفدية البكر من البنين . . الخ وكان " السنهديم " يهيمن على حياة اليهود هيمنة كاملة شاملة ، ويقوم بممارسة السلطة بكل فروعها المعروفة اليوم : التشريعية والتنفيذية والقضائية . فقد كان هو الذي يفتش في دفاتر الشريعة عن النصوص ويقرر أنها ملزمة ، وهو الذي يضبط المخالفات والجرائم ، وهو الذي يصدر الأحكام وينفذها بالاضافة إلى رقابة السلوك اليومي لكلّ فرد للتأكد من اتفاقه مع الطقوس الدينية بدءاً من طقوس غسل الأيدي حتى الامتناع عن العمل يوم السبت . وكان هو الذي يعين فروعه وممثليه في كل موقع ليمارسوا السلطة نيابة عنه . ولقد كانت تلك الهيئة الكهنوتية تملك توقيع العقوبة " القبلية " : الطرد من القبيلة ، التي تعني التكفير والتهجير معاً أو مايقابل - مع بعض الفروق - عقوبة الحرمان من النظام الكنسي . ولقد كانت تلك العقوبة - كشأنها في كل المجتمعات القبلية - أداة حاسمة لاخضاع كل يهودي لسيطرة " السنهديم "  .
104 ـ هكذا كانت اليهودية وكان اليهود قبل ظهور المسيحية . وكذلك كانت لكل المجتمعات القبلية . لم تكن فكرة ( ولا نقول نظاماً ) ازدواج السلطة ، في المجتمع الواحد قد خطرت للعقل البشري . لم يكن في تاريخ البشرية قبل المسيحية ما يسمح بنشوء لفظ يعبّر عما تعبّر عنه " العلمانية " الآن من فصل الدين عن الدولة  .
ازدواج السـلطة :
105 ـ ثم جاء السيد المسيح عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل تسبقه وتمهد له وتبشر بمجيئه عشرات النبوءات الواردة في كتبهم . قالوا ، وكتبوا ، قبل مجيء المسيح ان النبي اشعياء قد قال ان المسيح سيولد من عذراء . وأن النبي ميخا قد قال بأنه سيولد في " بيت لحم " . وان النبي هوشع قد قال انه سيلجأ إلى مصر في طفولته . وأن النبي زكريا قد قال انه سيدخل القدس يوم الأحد السابق على عيد الفصح . وان النبي داود قد قال ان احد تلاميذ المسيح سيخونه ويسلمه الى اعدائه . .. الخ . وتواترت الاناجيل الاربعة على أن قد جاء المسيح على ماقال انبياء بني اسرائيل في كتبهم . بالرغم من ذلك لم يصدقه اليهود . ولم تفلح كل المعجزات التي وردت في الأناجيل ووقعت بين اليهود وتحت سمعهم وبصرهم من أول إحياء الموتى إلى إطعام خمسة آلاف من الجوعى من بعض سمكات ولقيمات . . .الخ ، لم تفلح في إقناع اليهود الذين عاشوا دهراً ينتظرون المسيح ، بأن المسيح هو عيسى بني مريم الناصري الذي عاش بينهم . وهو أمر تصدم غرابته قارىء الانجيل ، إذ يبدو فيه إنكار اليهود للمسيح صاحب كل تلك المعجزات المرئية والملموسة ، مجرداً من أي مبرر معقول . ولكنه في الحق لم يكن غريباً . كان وراءه سبب بسيط . وهو بعد سبب وحيد : ان عيسى بن مريم قد جاء اليهم نبياً ورسولاً ولم يأت ملكاً أو قائداً . ولم تكن اليهودية كما صاغ أحكامها الكهنة ، وما كان اليهود كما صاغهم التاريخ قبيلة ، بقادرين على فهم أو قبول فكرة ( مجرد فكرة ) الفصل بين النبوة والملك . أو كما يقال الآن فكرة الفصل بين الدين " والدولة " أو فكرة " العلمانية "  .
وكان لابد من اختبار السيد المسيح لكشف موقفه من تلك الفكرة الغريبة . فأرسل اليه الفرّيسيون ، وهم طائفة الفقهاء من اليهود ، بعض الهيرودسّيين ، وهم طائفة من اليهود عملاء الامبراطورية الرومانية ، ليختبروه " قائلين : يامعلم ، نحن نعلم انك صادق وتعلّم طريق الله بالحق ولاتبالي بأحد لأنك لاتنظر إلى وجوه الناس فقل لنا ماذا تظن . أيجوز أن تعطي الجزية لقيصر أم لا ؟ فعلم يسوع خبثهم وقال : لماذا تجربونني يامراؤون أروني معاملة الجزية . فقدموا له ديناراً . فقال لهم : لمن هذه الصورة والكتابة فقالوا له : لقيصر . فقال لهم : " أعطوا إذاً مالقيصر لقيصر والله لله " ( متى 21 : 17  )   .
106 ـ بتلك الكلمات المقدسة مسيحياً ، ولدت فكرة ازدواج السلطة في العقل البشري . وهي لم تولد فكرة مجردة ، بل صيغت أمراً ونظاماً للحياة في مجتمع حي . وهما أمر ونظام لايستمدان قوتهما الملزمة من معقوليتهما ذاتهما ، ولا من ملاءمتهما لحاجة من وضعا لهم يتبعونهما إن شاءوا ويتركونهما إن أرادوا غير آثمين . لا ، بل هما أمر ونظام يستمدان قوتهما الملزمة من مصدر الالزام في الدين كله : الايمان بالمسيح وقدسية تعاليمه . وهكذا لم يكن نظام الفصل بين الدين " والدولة " أو العلمانية نزعة خارج الدين او موقفاً منكراً له أو مضاداً ، بل هي - أي العلمانية - فرض ديني وركن من أركان الديانة المسيحية  .
وهو ركن لايقوم على مجرد القول : " أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله " بل يقوم على هذا المبدأ وعلى تطبيقاته المتكررة في آيات الانجيل . ذلك أن الفصل بين ما لقيصر وما لله ، قد تم فصلاً مابين الدين والدنيا ، ووضع السيد المسيح المؤمنين به في موقف خيار حاسم بين ملكوت السماء وبين زينة الحياة الدنيا من المال والبنين . قال عن المال : " لايقدر أحد أن يخدم سيدين . لانّه إما أن يبغض واحداً ويحب الآخر وإما أن يلازم واحداً ويحتقر الآخر . لاتقدرون أن تخدموا الله والمال " ( متى : اصحاح آية 24 ) وقال عن البنين : " لاتظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض . ماجئت لألقي سلاماً بل سيفاً . فإني جئت لأفرق الانسان ضدّ أبيه والأبنة ضد أمها والكنّة ضد حماتها . وأعداء الانسان أهل بيته . من أحب أباً أو أماً اكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابناً أو ابنةً اكثر مني فلا يستحقني ومن لايأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني " ( متى : 10 آية 34 - 37 ) . واضح من هذين النصين فصل العلاقات الدنيوية الأسرية والاقتصادية عن العلاقة الدينية بعد أن كان نص من قبلهما قد فصل بينهما وبين العلاقات السياسية . وهو فصل للتناقض وليس فصلاً للتمييز بما يعني منع الجمع بين الدين وبين كل تلك العلاقات . وصيغة القول : " لايقدر أحد أن يخدم سيدين " واضحة الدلالة في تقرير الاستحالة المسيحية للجمع بين الدين والدنيا  .
ومن تطبيقات المبدأ ذاته أسلوب اختيار السيد المسيح لتلاميذه أو أسلوب اتّباعهم له . فهو اسلوب قاطع الدلالة على منع الجمع بين الدين والدنيا . كانت صيغته في كل مرة الترك من أجل الأخذ . ترك شواغل الدنيا لأخذ المركز الديني . قص الانجيل انه " وإذ كان يسوع ماشياً عند بحر الجليل رأى أخوين سمعان الذي يقال له بطرس واندراوس أخاه يلقيان شبكة في البحر فإنهما كانا صيادين . فقال لهما : هلمّ ورائي فاجعلكما صيّادي الناس . فللوقت تركا شباكهما وتبعاه . ثم اجتاز من هناك فرأى اخوين آخرين يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في السفينة مع زبدي ابيهما يصلحان شباكهما فدعاهما فللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه " ( متى 4 : 18 - 22 ) " وفيما يسوع مجتاز من هناك رأي إنساناً جالساً عند مكان الجباية اسمه متّى فقال له : اتبعني . فقام وتبعه "  ( متى 9 : 9 ) . إن العناية بإبراز الاستجابة الفورية للأمر المقترن بالتّرك الفوري للعمل هو إبراز لحدّية الفصل بين الدّين والدنيا ومنع أيّ شك في أنه لايمكن الجمع بينهما ولو لفترة زمانية قد يقتضيها الانتقال من موقع العمل الدنيوي إلى موقع العمل الديني . ولولا قدسية المبدأ لما كان ثمة مايحول دون أن يكون بطرس واندراوس ويعقوب ويوحنا ومتّى تلاميذ للسيد المسيح وعاملين بالصيد أو بغيره  .
107 ـ  قام الفصل بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية إذن على مستوى العقيدة ولم يبق إلاّ تجسيد هذا الفصل في ممارستها . أما سلطة قيصر فقد كان يمارسها قيصر وأعوانه ، فمن ذا الذي يمارس السلطة الدينية ؟ إنهم تلامذة السيد المسيح الذين اختارهم ليتبعوه . لم يخترهم ليعلمهم أو ليخصّهم بالعلم دون العامة من الناس ، فقد كان عليه السلام يعلّم الكافة ويسعى إليهم حيث يكونون بدون تخصيص . ولكنه اختارهم ليمنحهم ، وحدهم دون الباقين ، ماكان يتمتع به هو من قوة روحية ، وليخولهم سلطة الدين ، وليجعل منهم رسلاً ، ولتكون لهم وحدهم الكلمات الأخيرة في كل شؤون الدين ، ولتكون طاعتهم عنوان الايمان به . يقص الانجيل أن السيد المسيح قد " دعا تلاميذه الاثنى عشر وأعطاهم سلطاناً على أرواح نجسة حتى يطردوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف "( متى 10 : 1 ) ثم أعلن لهم وللكافة : " من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي ارسلني " ( متى 10 : 40 ). " وأنا أقول لك انت يابطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها . وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات . فكل ماتربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات ، وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماوات " ( متى 16 : 18 - 20 )  .
108 ـ لم يكن تلاميذ المسيح ( وخلفاؤهم ) اذن مجرد مسيحيين بل كانوا " رجال الدين " . ويستحق هذا التعبير الأخير انتباها خاصا . ذلك لأنه يطلق في مرسل الحديث في مجتمعنا العربي المسلم على الذين ينسب اليهم أو ينسبون إلى انفسهم معرفة أوسع أو أعمق أو أكثر تخصصا بعلوم العبادات والفقه والمعاملات في الشريعة الاسلامية . وهم يحظون على هذا الوجه بقدر من التوقير الذي يستحقه العلماء المتخصصون ، وبقدر من الثقة التي يوحي بها كل من اشتهر بأنه عالم فيما أحاط به علماً ، أو تخصص فيه . ثم إنهم قد استحقوا احترام التاريخ كلما تولوا الدفاع عن الاسلام بالحجة ضد مناهضيه خاصة في مراحل تاريخية سادها الجهل والانحطاط ففتحا في جدار الحصانة الدينية ثغرات تسربت منها الدعوات المناهضة . ولقد كان الأزهر قلعة ذاك الدفاع على مدى قرون ، فأصبح لقب " رجل دين " ، يطلق على المتخرجين من ذلك المعهد العظيم أو المنتسبين إليه . ولقد يطلق العامة لقب " رجل دين " مجاملة ، على الذين يجودون قراءة القرآن أو الذين مايزالون محتفظين لأنفسهم بذلك الزي الذي كان يلبسه الكافة ( الجبة والعمامة ) لأنه الزي الغالب لطلبة وخريجي الجامعات التي كانت للكافة ، ثم أصبحت مقصورة على العلوم الدينية . ولكن " رجال الدين " أولئك ، كما نسميهم في مجتمعنا العربي المسلم ، لايستمدون من علمهم أو تاريخهم أو زيهم سلطات أو حقوقا أو امتيازات على غيرهم من المسلمين ، لا في شؤون الدين ولافي شؤون الدنيا . وليس ثمة أكثر بلاغة في التعبير عن هذا مما قاله الامام محمد عبده حين قال : " ليس في الاسلام سلطة دينية سوى الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر . وهي سلطة خوّلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف اعلاهم كما خولّها لأعلاهم يتناول بها أدناهم "  .
ليس هكذا دلالة تعبير " رجال الدين " في المسيحية . انهم خلفاء الرسل المتفرغون لأداء وظائف الرسالة ، الذين ينتمون إلى مجتمع خاص بهم ، مغلق عليهم ، لايقبل فيه أيّ فرد إلا على درجات من الطقوس والاختبارات تنتهي بقبوله . ولاينتسب إليه من خارجه أحد ولو كان عبقري العلم بالدين المسيحي . وتتدرج علاقاته الرئاسية طبقات فوق طبقات فوقهم قمم من الرجال قد يبلغ بعضهم مراتب " القديسين " . ثم إن لهم على الناس سلطاناً لاتستقيم حياة الناس بغير طاعته . فلا يصبح المسيحي مسيحياً بمولده ، ولايكفي ايمانه ، بل ينتمي إلى دينه على أيديهم " بالتعميد " . ولاينعقد زواج بين مسيحيين إلا إذا عقدوه هم . ولاينفصل زوجان إلا بقرار منهم . ثم إن لهم - أو كانت لهم - سلطة التشريع للناس كافة في أوروبا حتى القرن السادس عشر ، أي قبل عودة أوروبا إلى القانون الروماني . وكانت لهم سلطة القضاء لأنهم هم الأولياء على تفسير وتطبيق ومراقبة تنفيذ أحكام الدين . ولقد كانت " محاكم التفتيش " التي ذهبت مثلاً في تاريخ التعذيب المجنون ، وبلغت شأو شراستها على عهد البابا إنوسنت الثالث ( 1160 - 1216 ) محاكم رجال الدين التي تحكم بما يفتون وهم فيها المحققون والمدعون والقضاة . وكان لرجال الدين حق التربية والتعليم بحكم انهم كانوا القلة المتعلمة الذين تدخل في وظائفهم مهمة هداية الجهلة والاميين في عصور لم تكن التربية أو التعليم مما يستحق اهتمام الاباطرة والملوك والأمراء . باختصار ، رجال الدين في المسيحية نفر لهم على الناس سلطان . السلطان الذي صاغه السيد المسيح في قوله لبطرس الرسول : " فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ماتحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات " . فهم المرجع فيما هو مباح للناس وماهو محرم عليهم في حياتهم  .
109 ـ كل هذا سواء كان " رجال الدين " أعلم الناس بالديانة المسيحية وأكثر ورعاً أم لم يكونوا " المفترض " ألايكون من " رجال الدين " إلا عالم بالدين أو على قدر متميز من العلم به . ألا يفترض في كل ذي مهنة العلم بمهنته ؟ ولكن هذا الافتراض لم يكن متحققا في مراحل تاريخية طويلة . فعلى مدى تاريخ الامبراطورية البيزنطية ، ومنذ أن دخلتها المسيحية على يد الامبراطور قسطنطين الأكبر ثم أصبحت دينها " الرسمي " في أواخر القرن الرابع ، كان الأباطرة هم الذين يختارون البطاركة ( رؤساء الكنيسة الشرقية ) ، وهم الذين يدعون رجال الدين إلى الاجتماعات ، ويرأسون مجالسهم ، ويشتركون في المناقشات ، ويدلون بأصواتهم ، ويكون رأي الامبراطور مرجحاً عند تساوي الأصوات ، حتى لو كان موضوع المناقشة موضوعا لاهوتيا صرفا . في عام 638 م خطر للامبراطور هرقل أن يحسم الخلاف القائم بين رجال الدين حول طبيعة السيد المسيح فألف ونشر رسالة بعنوان " تقرير عن الايمان " أثارت فتنة مروّعة عمت الامبراطورية ، ولم تنج منها الا الكنيسة القبطية مما حمل الامبراطور كونستانس على اصدار أمر بالكف عن المناقشة في الموضوع ( عام 648 ) . المهم أن اختيار الامبراطور لرجال الدين وتعيينهم وقراراته في الشؤون الدينية لم تكن بعيدة دائما عن أهواء الأباطرة واهدافهم السياسية التي لم تكن تتفق ، في كثير من الحالات ، مع مايفترض في رجال الدين من علم وتقوى واستقامة . ولم يكن الأمر في الامبراطورية الرومانية الغربية ( الكاثوليكية ) أفضل من هذا . ففي عهد شارلمان ( عام 800 م ) ثم بعده على مدى قرون كان الامبراطور هو الذي يعيّن رجال الدين ويراقبهم ويتخذ من بينهم مستشارين تابعين له تبعية مباشرة فكان ممكنا في ظل تلك التبعية أن يتولى رجال محدودو الثقافة الدينية - والمدنية ايضا - مراكز دينية رئاسية من خلال علاقاتهم السياسية بالامبراطور وبطانته . ولما شاع ذلك ، ضعف الايمان الديني وانحطت القيم الخلقية لدى رجال الدين ، مما أدى بالبابا غيغوري السابع إلى الاحتجاج حتى الثورة على هنري الرابع . وهي ثورة انتهت بنفي البابا الذي أراد " لرجال الدين " أن يكونوا رجالاً على دين ، بعيدين عما يشك في علمهم ولا يتفق مع روح المسيحية ، ولا مع سلطانهم على أرواح المسيحيين  .
اذن فلقب " رجال الدين " في المسيحية لايعني - بالضرورة - أن حامله اكثر علما بالدين من غيره ، أو اكثر التزاما بأحكام الدين من الآخرين ، وإن كان كل ذلك مفترضا. وهذا يعني أن علمهم لم يكن هو مصدر قوة سلطانهم ، بل كان لسلطانهم مصدر قوة آخر سنعرفه  .
110 ـ وقد يكون مفيداً ، لاكمال فكرتنا عن دلالة " رجال الدين " في المسيحية ، أن نتحرر من القياس على " الراهب " العابد الزاهد المنعزل عن الدنيا وما فيها من مغريات مادية وغير مادية . لم يكن " رجال الدين " الذين نتحدث عنهم رهبانا ولا مترهبين بل كانوا موظفين ، وفي مقابل أجور أيضا . ولقد كانوا يأكلون ويشربون ويلبسون ويسكنون أفضل مما كان متاحا للعامة من الناس ، وكانوا يقيمون الكنائس الشامخة ويستأجرون لتزيينها أعظم الفنانين . وكانوا يعقدون الاجتماعات وينتقلون بين المدن والممالك ويكتبون وينشرون ثم - في مرحلة تاريخية طويلة - يجندون الجند ويعدّون الجيوش ويدفعون اثمان عتادها وخيلها وسفنها ورواتب جندها الكثيف . وكان لابد لكل ذلك من مصادر تمويل كافية ومستقرة الكفاية . وبدأت المصادر بتبرعات المؤمنين . ومن المؤمنين ملوك وأمراء ونبلاء واقطاعيون أسخياء في التبرع لمن يملك حق الاباحة والتحريم ويزدادون سخاء لو كانوا منافقين . ثم امتدت المصادر تبعا لما قرره رجال الدين من انهم اصحاب حق في أن يحصلوا من الأموال والعقارات على ما يقدّرونه لازماً وكافياً لأداء خدماتهم " الروحية " وحماية الدين من الهرطقة ، واستطاعوا فعلاً أن يكونوا أوسع الناس ملكية للأراضي وأغناهم أموالا وأن يحصنوا أملاكهم ورعاياهم ضد أية ضرائب أو مكوس مما تتقاضاه السلطة المدنية ، بل وأن يمتلكوا الممالك ذاتها ثم يردوها إلى الملوك اقطاعيات من عندهم مقابل إتاوات باهظة ، كما فعلوا مع فريدريك الثاني ملك ايطاليا ، ومع بدرو الثاني ملك أراغون ، ومع ملك انكلترا الذي استحق لقب " جان عديم الارض " بعد أن أجبره رجال الدين على التنازل عن ارض انكلترا كلها للبابا  .
111 ، في اطار العناصر السابقة مجتمعة ( الناس والأرض والسلطة ) نستطيع أن نعرف أنّ " رجال الدين " في المسيحية لم يكونوا إلا العنصر البشري من مؤسسة هائلة ذات سلطة ومال تشملهم وتوظفهم في مباشرة سلطات دينية وتشريعية وقضائية وادارية ومالية وعسكرية ، وتحفظ بهم لنفسها وتستثمر مناطق جغرافية شاسعة وأموالاً منقولة وعقارات ثابتة تمتلكها ملكية خاصة . كل ذلك تحت قيادة مركزية واحدة تتبعها أجهزة مختلفة الوظائف يؤديها رجال الدين . تلك المؤسسة هي " الكنيسة " . وكما أن الكنيسة بهذا المعنى ليست هي مكان العبادة المعروف ، بل هي المؤسسة التي يتبعها " رجال الدين " فإن " رجال الدين " ليسوا هم العلماء بالدين المعروفين ، بل هم رجال الكنيسة المؤسسة التي يستمدون من قوة سلطانها قوة سلطانهم . هكذا تجسد في الواقع الاجتماعي مبدأ : " اعطوا مالقيصر لقيصر وما لله لله " الذي أوصى به السيد المسيح عليه السلام فهو " اعطوا ماللدولة للدولة وماللكنيسة للكنيسة " . اي الفصل بين نشاط الكنيسة وبين نشاط " الدولة " وهو المدلول الصحيح لمبدأ " العلمانية  "   .
الصراع :
112 ـ إن تاريخ المبدأ " العلماني " ( الفصل بين الكنيسة والدولة ) في أوروبا المسيحية حتى نهاية القرن الثامن عشر هو تاريخ الصراع بين الكنيسة " والدولة " وهو صراع لم يهدأ إلا في الفترات التي سيطرت فيها احدى المؤسستين على الأخرى ، أي فترات هزيمة المبدأ ذاته في الواقع بالرغم من بقائه على المستوى النظري كلمات ذات قدسية غير منكورة   .
فلقد بدأ نشاط الكنيسة التي اسسها السيد المسيح عليه السلام على ايدي الرسل من تلاميذه في ظل سيادة دولة طاغية هي الامبراطورية الرومانية ، يحكمها أباطرة طغاة من امثال كليجولا وكلوديوس ونيرون . ولما كان الفصل بين الكنيسة والدولة يفرض على رجال الدين أن يتركوا ما لقيصر لقيصر فقد اتجهت تعاليمهم إلى احترام وطاعة السلطة الحاكمة حتى حينما يكون الحكم جائرا . كذلك قال بولس ان من يقاوم السلطة يقاوم ارادة الله ويستحق إدانة الكنيسة . وحينما سجنه الامبراطور سيزاريا لم يدافع عن نفسه إلا بقوله : " إلهي فلتكن مشيئتك " . إن هذا الموقف سيتغير فيما بعد . لا لأن المسيحيين سيغيرون عقيدتهم ولكن لأن موازين القوى ستتغير . ولقد كان المسيحيون على عهد الرسل مجردين من أية قوة تحميهم من بطش الاباطرة الطغاة فذهبت أجيال منهم ضحايا السجون والتعذيب الوحشي والقتل الجماعي . لقد أعطوا ما لقيصر التزاما بموقفهم الديني في الفصل بين الكنيسة والدولة ؛ ولكن " الفصل " أو " الاستقلال " علاقة ذات طرفين لايتوقف نفاذه على إرادة طرف واحد . وإذا كان المسيحيون الاوائل قد التزموه واعطوا مالقيصر لقيصر فإن القياصرة قد نقضوه فلم يعطوا ما لله لله بل أبادوا كلّ من استطاعوا أن يبيدوه من الدعاة للدين المؤمنين بالله . فانهزم المبدأ وأصبح الخيار الوحيد المتاح للمسيحيين الاوائل ليس بين الكنيسة والدولة ولكن بين الكفر والايمان . فاختاروا الايمان واستشهدوا في سبيله وشهد لهم التاريخ ، واشاد ببطولاتهم في مواجهة الموت . وكان حقاً ما قاله الاب المسيحي لويجي تاباريللي: " اننا نؤكد أن المسيحيين في ظل القياصرة كانوا يموتون لأنه كان واجبا دينيا عليهم أن يموتوا " .
113 ـ نقول تغيرت المواقف بعد ذلك حين أصبحت المسيحية هي دين الامبراطورية في عصر البابوات ( رؤساء الكنيسة الكاثوليكية ) . تغيرت ولكن مع الابقاء - على المستوى النظري - على المبدأ ( العلماني ): فصل الكنيسة عن الدولة . وتبادلت المؤسستان ، من خلال الصراع بينهما ، موقع الصدارة والسيطرة وإن كان الاتجاه العام لنمّو القوة في صالح الكنيسة حتى القرن السادس عشر . ولقد أشرنا من قبل إلى فترات تاريخية طويلة كان ميزان القوة لصالح الاباطرة في الامبراطورية البيزنطية والرومانية كلتيهما ( فقرة 109 ) وإلى فترات أخرى كان البابوات فيها اصحاب الغلبة على الملوك والممالك (  فقرة 110  )  .
وانعكس ذلك الصراع على التيار الفكري الذي صاحبه وغذّاه  .
114 ـ ففي القرن الخامس بدأ البابا جيلاسيوس الأول بتذكير الامبراطور بأن ثمة سلطتين تحكمان العالم : السلطة المدنية والسلطة الدينية ، وأن السلطة الدينية تتحمل مسؤولية أثقل ، إذ انها تعنى بالجانب الخالد من الانسان وهو الروح . والخلود مصير الانسان . وما الحياة الدنيا إلا مرحلة اختيار وتحضير للحياة الآخرة . وبالتالي فان القانون الالهي أسمى من أي قرار أو أمر يصدره إنسان . وأبدعت الكنيسة تفسيراً لحقها في السيطرة النظرية المعروفة باسم " نظرية الحق الالهي " . أو( مذهب آباء الكنيسة ) . مؤداها أن الحكم لله وحده وأنه يختار لادائه في الارض من يشاء ، فيصبح حاكماً بأمر الله . والمميز لها أن الاختيار يتم مباشرة لشخص بعينه على وجه يجعله قريباً من معنى " الانتقاء " . ومن هنا جاءت كلمة " سيادة " في اللغات ذات الاصل اللاتيني إذ أنها تعني في أصلها " المختار من الله " لم تدخل هذه الكلمة لغة القانون إلا في القرن السادس عشر  .
وقد قيض لهذه النظرية رجل عبقري حاول أن يصوغها على وجه يوفق بين مضمونها اللاهوتي ووظيفتها في مساندة السلطة البابوية . ذلك هو القديس توما الاكويني الذي كان مستشاراً فكرياً للبابا  .
يقسم توما الاكويني مصدر السلطة الى ثلاثة أنواع : النوع الاول ، هو الارادة الالهية المحيطة بكل شيء ، والنوع الثاني ، هو القانون الطبيعي الذي أودعته الارادة الالهية في ضمائر البشر فيجعلهم يميزون بين الطيب والخبيث ، وأخيرا ، النوع الوضعي أو البشري ، وهو تلك القواعد التي يضعها الناس في المجالات الخاصة . بالبناء على هذا التقويم يعود توما الاكويني فيفرق بين ثلاثة أوجه للسلطة : أولها ، الجوهر أو المبدأ ، وهو ارادة الله وتؤديه الكنيسة ؛ والثاني الشكل أو الاسلوب ( ملكية أو ارستقراطية أو ديوقراطية ) ، وهذه يميز بينها ويختارها الحكام ؛ والثالث الممارسة أو التنفيذ ، وهذه يؤديها البشر . هكذا أراد توما الاكويني أن يلائم بين الحق الالهي - مصدر سلطة الكنيسة - وبين صور ممارسة السلطة وأشكال الحكم ، مع الاحتفاظ بمصدر الحق في الحكم وسند شرعيته ، أو جوهر السلطة ومبدئها ، للارادة الالهية ، لتبقى اليد العليا للكنيسة . بعد توما الاكويني يأتي جيل الروماني الذي كان تلميذاً له في جامعة باريس ، واستحق من بعده لقب " أكثر المفكرين عمقا " ( 1245 - 1316 ) ليكون اكثر صراحة فينطلق من أن الله موجود في كل شيء بما في ذلك عقل الانسان وحواسه لينتهي إلى القول بأن للبابا - ممثل الله في الأرض - حق السلطة على كل واحد وكل شيء في الأرض  .
115 ـ على الجبهة الأخرى من الميدان الفكري الذي يعكس ويغذي الصراع بين الكنيسة " والدولة " يبدع أنصار الملوك نظرية " العناية الالهية " ( او نظرية الملكية المقدسة ) التي تبقي على السماء مصدراً للسلطة ، ولكنها تنكر احتكار البابا للقيام على إرادة الله في الأرض لتفسح مكاناً للملوك . فتذهب نظرية العناية الالهية إلى أن إرادة الله توجه شؤون الناس وعقولهم وإرادتهم على وجه غير مباشر إلى أن تصبح السلطة في يد واحد منهم. فهو لايكسبها بجهده ولايستحقها لأمر خاص به ، ولايتلقاها من أحد من الناس ، ولا من الله ايضا ، ولكن عناية الله هي التي وضعته في موضعه . مادام الملك ملكاً فليس من حق أحد أن يحد من سلطته لأن ذلك سيكون تحديا لارادة السماء حتى لو لم يعرف أحد كيف أدت عناية السماء إلى هذه النتيجة . وفي هذا يقول جان دي باري في كتابه السلطة الملكية والسلطة البابوية ( 1302 ) ان الحياة تنقسم إلى قسمين متميزين ومنفصلين ، قسم مادي وقسم روحي ، وإن اله يختار لكل منهما من يتولاه ، فاختار الكنيسة للحكم الدنيوي ، فالملك قد تلقى سلطته بدون وساطة من الكنيسة  .
116 ـ فلما جاءت مرحلة الاصلاح الديني الذي بدأ دعوته الالماني مارتن لوثر عام 1520 والسويسري جان كالفن عام 1536 كان تمرداً على احتكار البابا السلطة الدينية ووضع أحكامها ، وانتصاراً لحرية الكنائس " الوطنية " في الاجتهاد . وكان طبيعيا أن تكتسب " الدولة " في البلاد الكاثوليكية والبروتستنتية جميعا من القوة النسبية بقدر ما أضعفت حركة الاصلاح من السلطة البابوية نسبيا . غير أن الصراع بين الكنيسة  "الوطنية " " والدولة " لم ينته ،أولم يهدأ ، إلا بسيطرة إحداهما على الأخرى . لقد كان مارتن لوثر وجان كالفن ، كلاهما ، من أشد القائلين بالطاعة المطلقة للحكام المدنيين ( الملوك والأمراء ) حتى ولو كانوا طغاة . ولكن كل منهما عالج العلاقة بين الكنيسة والدولة علاجاً مختلفاً . أما مارتن لوثر فقد أثمرت دعوته تبعية الكنيسة " للدولة " . وفي ظل سيادة مذهبه ( البروتستنتية ) في انكلترا استطاع هنري الثامن أن يقطع علاقة الكنيسة الانكليزية مع البابا ، وأن يعلن نفسه ، وهو ملك ، رأساً للكنيسة ( 1534) . وأما جان كالفن فقد اثمرت دعوته تبعية " الدولة" للكنيسة ، حتى قيل إنه لم يحدث أن وصل أيّ بابا في القرون الوسطى ، لانظريا ولاعمليا ، إلى تأكيد سيادة الكنيسة كما فعل كالفن  .
117 ـ وقد استمر ذلك الصراع وانتقل إلى أمريكا ، حيث دار هناك بين كنائس المهاجرين وبين الدولة الناشئة . وهناك - في أمريكا - سيتضح بجلاء أن الصراع لم يكن يدور حول المبدأ المسيحي العلماني : الفصل بين نشاط الكنيسة ونشاط " الدولة " ولكن بين أطماع المؤسستين كل منهما يريد أن تسود الأخرى متجاوزة بذلك حدودها . فقد كان المذهب البروتستنتي سائداً في انكلترا كما ذكرنا ، وكان من شأن ذلك أن يسيطر الملوك على الكنيسة . وقد حدث في عهد الملكة اليزابيت الأولى - وهي رأس الكنيسة في انكلترا - أن فرضت على رعاياها البروتستنت فروضاً دينية اعتبرها الجميع بدّعاً لاأساس لها من الدين ( عام 1558 ) ، فرضي من رضي ، وتمرد القادرون الذين نصّبوا من أنفسهم دعاة لتطهير الدين من البدع فعرفوا باسم المتطهرين ( البيورتان ) وأشهروا في وجه " الدولة " المبدأ : فصل الكنيسة عن " الدولة " . وما زالوا يحرّضون الناس على تبنّي موقفهم حتى كاد يعقد لهم النصر . فلما أن ظنوا أنهم منتصرون بدأوا في " تناسي " مبدأهم والتدبير للاستيلاء على    "الدولة" ووضعها موضع التبعية للكنيسة فلما لم يفلح تدبيرهم استحقوا اضطهاد الدولة " الأقوى " مما دفع بجموع منهم إلى الهجرة إلى أمريكا خلال القرن السابع عشر حيث استقروا في نيوانجلند . وهناك كانوا قوة غالبة بالنسبة إلى السلطة المدنية ففرضوا مذهبهم " بالقوة " وسيطرت كنيستهم على كل سلطة في بليموث وخليج ماساشوستس وفي كل المستعمرات ماعدا رود ايلند وبنسلفانيا  .
وظل الأمر كذلك إلى أن جاء عام 1840 يحمل إلى أمريكا أفواجا كثيفة من المهاجرين " الكاثوليك " الفارّين - بدورهم - من الاضطهاد في القارة الاوروبية . فخاف رؤساء الكنيسة البروتستنتية من أن تشاركهم الكنيسة الكاثوليكية امتيازاتهم وسلطاتهم في مواجهة الدولة ، فعادوا إلى مبدأ الفصل بين الكنيسة " والدولة " يرفعون راياته - هذه المرة - في مواجهة المنافسين الجدد الكاثوليك تساندهم مجموعة من المفكرين مازالوا يعملون جميعاحتى أدخلوا مبدأ الفصل بين الكنيسة " والدولة " في صلب الدستور الأمريكي . ولكن أي فصل ؟ …إنه الفصل الذي يحرم على " الدولة " أن تتدخل في شؤون الدين . فلما قويت شوكة " الدولة " في القرن العشرين أخذت بيدها زمام تطبيق المبدأ على الوجه الذي يتفق مع موازين القوة الجديدة ، يحرم على الكنيسة أن تتدخل في شؤون الدولة . وبناء عليه حرم القضاء الامريكي التعليم الديني في المدارس الخاصة والعامة معا . وما يزال الكاثوليك والبروتستنت جميعا يعتقدون أن هذا التأويل للنص الدستوري مقصود به الكيد للدين عامة لمصلحة تيارات لادينية نامية في الولايات المتحدة الأمريكية . ذلك لأن التعديل الدستوري الرابع عشر - كما يقولون  - كان مقصوداً به حماية الدين من الدولة وليس حماية الدولة من الدين . وهو صحيح  .
النهـايـة :
118 ـ لم يكن من الممكن أن ينتهي الصراع الذي ثار حول الحدود بين سلطة الكنيسة وسلطة " الدولة " الا بتجريد كل من السلطتين  - الكنيسة والدولة - من المقدرة على تجاوز المبدأ ذاته . أي إلا بتأكيد المبدأ ذاته في مواجهة الطرفين وهذا ما أنجزته الثورة الفرنسية ، الطرف الثالث المتدخل بالعنف الثوري في مجرى تاريخ الصراع   .
119 ـ اما عن الكنيسة فقد كان الصراع بينها وبين " الدولة " على مدى القرنين السابقين على الثورة يدور في واقع تاريخي تجاوزت فيه الكنيسة حدود " مالله " وأصبحت فاعلاً مؤثرا وشريكاً في ممارسة ما " لقيصر " من السلطة . كان رجال الدين قوة مستقلة وموازية لقوة النبلاء في برلمانات انكلترا إلى أن انعقد البرلمان " النموذجي " ( هكذا اسمه في التاريخ ) عام 1295 حيث أضيف إلى القوتين ممثلون عن البرجوازية الصاعدة  .
وكانوا كذلك في الجمعية الوطنية الفرنسية التي توقفت جلستها عام 1614 - كانت الجمعية مكونة من ممثلي ثلاث طوائف مستقلة ومنفصلة : رجال الدين والنبلاء والعامة . مستقلة الرأي لكل منها صوت . ومنفصلة في مكان الاجتماع . ومتساوية العدد لكل منها 300 مندوب . كان ممثلو الكنيسة 300 بينما كان رجال الدين في فرنسا كلهم لايتجاوزون 160000 ، وكان ممثلو العامة ( أو الطائفة الثالثة كما كانوا يسمونها ) 300 أيضاً ، بينما كان عدد من يمثلونهم نحو 26 مليونا . وكان الفرق بين عدد القواعد يعكس الفرق بين قوة القمم . ولقد زيد ممثلوا العامة فأصبحوا 600 عام 1788 قبل أن تدعى الجمعية إلى الانعقاد بناء على طلب الملك لويس السادس عشر في كانون الثاني / يناير 1789 . فأصر ممثلو العامة على ضرورة الانعقاد في مكان واحد ، وأن يكون لكل مندوب صوت وتكون القرارت بأغلبية الحاضرين . وكانت تلك هي إرهاصة الثورة الأولى التي تحولت بها الجمعية الوطنية إلى جمعية تأسيسية أخذت على عاتقها وضع دستور لفرنسا بالاضافة إلى علاج الأزمة الاقتصادية التي دعيت أصلا لمناقشتها  .
وقد كان البحث عن حل للأزمة الاقتصادية مدخلاً مناسباً إلى حل الأزمة الدستورية . وكان حل الأزمة الدستورية مدخلاً مناسباً لحسم الصراع التاريخي بين الكنيسة والدولة لمصلحة مبدأ الفصل بين الكنيسة   "والدولة" ليبقى مالقيصر لقيصر وما لله لله  .
كان الوزير الفرنسي الشهير نيكر قد جرّب كل الأساليب لتفادي إفلاس فرنسا ، بما فيها القروض ذات الفوائد الباهظة . فلما أن تصدرت الجمعية للأزمة لم يكن قد بقي إلاّ حل واحد وكان ذلك الحل يضرب عصفورين بحجر صائب . يحلّ أو يخفف الأزمة الاقتصادية من ناحية ، ويجرد الكنيسة من قوتها التي مكنتها من التدخلفي شؤون "الدولة " من ناحية أخرى . فلم تتردد الجمعية في اتخاذه تحت شعار رفعته : " الكنيسة داخل الدولة وليست الدولة داخل الكنيسة " . وهكذا أصدرت يوم 2 تشرين الثاني / نوفمبر 1789 مرسوما بأن " تؤول كل ممتلكات الكنيسة إلى الأمة " . وتتولى خزانة الدولة دفع مرتبات لرجال الدين . كما تنتقل إلى الدولة كل أنواع النشاط غير الديني الذي كانت الكنيسة تقوم به ، ومؤسساته ، مثل المدارس والمستشفيات . وفي 12 تموز / يوليو 1790 أصدرت الجمعية ما عرف في تاريخ فرنسا باسم " الدستور المدني لرجال الدين " . تلك التسمية التي تفصح عن مصدر القوة التي أصدرته . كان أهم ماجاء في ذلك الدستور ، بالاضافة إلى تأكيد مبادىء مرسوم 2 تشرين الثاني / نوفمبر 1789 أن يكون تولّي المناصب الدينية بالانتخاب ، كما هو الحال بالنسبة إلى القضاة ، ثم تحريم النشاط السياسي على الكنيسة ؛ وأخيرا أن على رجال الدين أن يقسموا يمين الولاء لهذا الدستور . ولقد أيد صغار رجال الدين الفقراء تلك الاجراءات . والواقع أنهم كانوا قد طالبوا بأن يتحولوا إلى موظفين ذوي رواتب ثابتة حتى قبل أن يصدر مرسوم 2 تشرين الثاني / نوفمبر 1789 ( في 4 آب / اغسطس 1789 ) . اما كبار رجال الدين ، الا قلة من بينهم ، فقد ترددوا في القسم إلى أن يفتي البابا في شأن الدستور والقسم كليهما . وقد جاءت فتوى البابا بيوس السادس متأخرة ( 10 آذار / مارس 1791 ) برفض الدستور وتحريم القسم على الولاء له . أما الذين استمعوا إلى البابا فقد جردوا من سلطتهم وما يملكون ، وأما الذين أقسموا على طاعة الدستور فقد بقوا " رجال الدين " في كنيسة مختلفة السلطة عن الكنيسة السابقة . هكذا ردّت الثورة الكنيسة إلى حدها من المبدأ العلماني : مالله لله . بقي أن تردّ الدولة إلى حدها من المبدأ ذاته : مالقيصر لقيصر . وإذا كانت الثورة لم تجد عناءً كبيراً في ردّ الكنيسة إلى حدها فإن الأمر لم يكن بمثل تلك السهولة مع "الدولة" . لقد سفكت في سبيله دماء غزيرة ، وطارت رقاب كثيرة ، واشتعلت حروب ضارية امتدّت إلى أطراف أوروبا وغيّرت وجه الحياة فيها ثم في العالم أجمع . ذلك لأن الثورة الفرنسية قد أبدعت " الدولة " كما نعرفها اليوم إبداعاً وأقامتها على أنقاض كل " أنواع " الدولة بالمعنى الذي كان لها من قبل . ولمّا كانت  "الدولة" - كما ابدعتها الثورة الفرنسية - هي التي تعتبر طرفاً في أية علاقة مع الدين مما يدور حوله الحديث في عصرنا هذا ، فانها تستحق - هاهنا - أن نعرف من خصائصها ما يهمنا . وما كان يهمنا أن نعرف تلك الخصائص قبل أن نلتقي بالثورة الفرنسية ، فاكتفينا فيما سبق من حديث بالتعبير " بالدولة " عن السلطة ، كانت ولكنها لم تصبح . فلنعرف كيف أصبحت  .
الدولة  ، ما الدولة ؟
120 ـ لقد كانت كلمة الدولة ، تلك الكلمة التي ابتكرها مكيافيلي تطلق - قبل الثورة الفرنسية - على السلطة أو الحكم أو الحاكمين . بهذا المعنى الاخير اطلقت في تاريخنا العربي على الأسر الحاكمة فقيل : " دولة " الأمويين و " دولة " العباسيين و " دولة " الفاطميين و " دولة " المماليك . . الخ . وكاد المستعمرون أن يعلمونا -ونحن نتلقى العلم في ظل سيادتهم أن وطننا العربي كان على مدى تاريخه ميتعبداً لمجموعة متتابعة من" الدول".. ليستقر في عقولنا - ونحن صغار - أن الاستعمار جزء من طبيعة مجتمعنا العربي ، وأنه لم يعرف الحرية قط . ثم شببنا فعرفنا أن تلك كانت أسراً من الحاكمين الذين خاض بعضهم اروع معارك الدفاع عن استقلال الوطن العربي ووحدته . ألم يكن صلاح الدين واحداً من " دولة " الايوبيين ؟ . ثم هانت " الدولة " فاصبحت لقبا في مصر - وغيرها - لمن يلي رئاسة الوزارة . فكان يقال : " دولة " صدقي باشا مثلا  .
أياً ماكان الأمر عندنا ، فقد كان الملوك في أوروبا يرددون ماقاله لويس الرابع عشر " الدولة هي أنا " . وما قاله لويس الخامس عشر عام 1770 : " إن حق إصدار القوانين التي يخضع لها ويحكم بها رعايانا هو حقنا نحن بدون قيد وبدون شريك " ، وما قاله عام 1766 : " إن النظام العام كله ينبع مني ، وكل حقوق ومصالح الأمة التي يحاولون جعلها شيئاً منفصلاً عن الملك هي بالضرورة متحدة مع حقوقي ومصالحي وليس لها مكان إلا بين يدي " . فكانت الدولة هي " المملكة " بكل ماتعنيه كلمة " الملكية " من حق الملك والمالك في الاستعمال والاستغلال والتصرف في " دولته "  .
بينما كان الملوك يرددون هذه الأقوال وأمثالها ، كانت موجة من الأفكار الثورية تغزو أوروبا وتحاول أن تقتلع هذا المفهوم من أساسه . ففي عام 1690 ينشر جون لوك في انكلترا كتابه " رسالتان في الحكم " يقول فيه : " إن حرية الانسان الطبيعية هي الا يكون خاضعاً لأية قوة عليا على الأرض ، وألا يقع تحت إرادته أي إنسان أو سلطة تشريعية ، ولايكون لديه سوى قانون الطبيعة قاعدة يعمل بها " ( الفصل الرابع فقرة 22 ) " ولما كان الانسان قد ولد - كما اثبتنا من قبل - وله حق كامل في الحرية وفي التمتع بلا قيود بجميع حقوق ومزايا قانون الطبيعة ، في مساواة مع أي شخص آخر ، أو أي عدد من الاشخاص في العالم ، فإنه له بالطبيعة الحق ، ليس في المحافظة على مايملكه ، أي حياته وحريته وممتلكاته ، ضد اعتداء الآخرين أو محاولتهم العدوانية فحسب ، بل له أيضاً الحق في أن يحاكم الآخرين على خرقهم هذا القانون ومعاقبتهم بما يعتقد أن جريمتهم تستحقه من عقاب حتى الموت ذاته " ( الفصل السابع فقرة 87 ) . " ولكن لأن ثمة أموراً لاتتوفر في حالة الطبيعة ، فلا يوجد قانون قائم ومستقر ومعروف يحظى بالقبول العام بوصفه معيار الصواب والخطأ " . ( الفصل التاسع فقرة 124 ) " ولايوجد في الطبيعة قاض معروف غير متحيز له سلطة الحكم في جميع الخلافات طبقاً للقانون المقرر " ( الفصل التاسع فقرة 125 ) " ولاتوجد في حالة الطبيعة القوة التي تدعم الحكم وتؤيده عندما يكون سليماً وتعمل على تنفيذه كما يجب " ( الفصل التاسع فقرة 126 ) ، فأنه بالرغم من كل المميزات التي يتمتع بها الجنس البشري في حالة الطبيعة " سرعان ما ينساق الناس الى تكوين المجتمعات لأن وضعهم يبقى سيئاً طالما استمروا في الحالة الأولى " ( الفصل التاسع فقرة 126 ) . و " لأن المجتمع السياسي لايمكن أن يقوم أو يقيض له البقاء إلا إذا كان لديه في ذاته سلطة المحافظة على الملكية ، ولهذا الغرض تكون لديه سلطة عقاب الجرائم التي يرتكبها أي فرد في المجتمع ، فهنا - وهنا فقط - يوجد المجتمع السياسي حيث تنازل كل فرد فيه عن سلطته الطبيعية وسلمها للمجتمع " ( الفصل الرابع فقرة 87 ) . " ان السلطة العامة للمجتمع كله فوق كل انسان يضمه هذا المجتمع . والغرض الرئيسي من هذه السلطة هو سن القوانين لكل من يعيشون في ظلّه ، وهي قوانين يجب علينا في هذه الحالة أن نطيعها " ( هامش الفقرة 87  )  .
هذه الأفكار سيلتقطها مونتسكيو خلال إقامته في انكلترا ويعود فيعبر عنها ويروّجها فتروج من خلال كتابين نشرهما في فرنسا عام 1748 أحدهما عن النظام الدستوري الانكليزي والثاني كتاب روح القوانين الذي اشتهر به  .
221 ـ على أرض فرنسا يلتقي هذا الفكر الوافد من انكلترا بما بشر به وأذاعه ونثره " بذوراً للثورة " فنان وأديب وفيلسوف وثائر وعبقري وافد من سويسرا هو جان جاك روسو في عدة كتب أكثرها شهرة وأصالة كتابه العقد الاجتماعي ( نشر عام 1762  )  .
يقول روسو ان " النظام الاجتماعي حق مقدس ، وهو بمثابة الأساس لكل الحقوق الأخرى . بيد أنه لما كان هذا الحق لايستمد من الطبيعة فلا بد أنه قام على اتفاقات " . ( الفصل الأول - الكتاب الأول ) . " برغم انها قد لاتكون أعلنت رسمياً فهي لابد أن تكون واحدة في كل مكان وأن يكون قد تم قبولها ضمناً " ( الفصل السادس - الكتاب الأول ) . " ففي مثل هذه الحالة من السكوت العام يجب أن يؤخذ ذلك السكوت على أنه موافقة من جانب الشعب " ( الفصل الأول - الكتاب الثاني ) . و " إني افترض جدلاً ان الناس قد وصلوا إلى حد تغلبت فيه العقبات التي تحول دون الاستمرار في حالة الطبيعة على القوة التي يستطيع كل فرد أن يبذلها من أجل الاستمرار في هذه الحالة ، ومن ثم لم يعد استمرار حالة الطبيعة الصلية ممكناً . . . ولما كان الناس لايستطيعون بأي حال خلق قوة جديدة ، بل أن كل ما يستطيعونه هو أن يتحدوا ويسيطروا على تلك القوة التي لديهم ، فإنه لاتوجد وسيلة يستطيعون بها الابقاء على أنفسهم سوى الانضمام بعضهم إلى بعض ، وتوحيد قواهم بيد أن المحافظة على الذات بالنسبة إلى كل فرد إنما تستمد أساساً من قوته الشخصية وحريته ، فكيف إذن يقيدها بدون أن يؤذي نفسه ويهمل تلك العناية الواجبة عليه نحو شؤونه الخاصة في الوقت ذاته ؟ . . . لابد من ايجاد نوع من الاتحاد في شأن استخدام قوة المجتمع كلها من أجل حماية كل عضو من أعضائه وممتلكاته ، وذلك بطريقة تجعل كل فرد ، إذ يتحد مع أقرانه ، إنما يطيع إرادته ويبقى حراً كما كان من قبل . هذه هي المشكلة الأساسية " ( الفصل السادس - الكتاب الأول  )  .
أما الحل فهو : " كل واحد منا يسهم في المجموع بشخصه وبكل مالديه من قدرة تحت التوجيه الأعلى للارادة العامة وهكذا يلتقي في المجموع كل عضو بصفته جزءاً لايتجزأ من الكل . وبمجرد أن يتم هذا يتولد جسد معنوي وجماعي بدلاً من الاشخاص المستقلين وهو جسد مكون من الأعضاء بقدر ما يضمه من أصوات ، كان هذا الشخص العام الذي يتكون بهذه الصورة من اتحاد جميع الاشخاص يسمى في الماضي " مدينة " ولكنه يسمى الآن " جمهورية " ( كانت كلمة جمهورية تعني المجتمع المنظم اطلاقاً وليس بمعناها الحالي كنظام للحكم غير ملكي ) . . ويسميه اعضاؤه " دولة " عندما يكون سلبياً ، ويسمونه سيداً عندما يتصرف ايجابياً ، أما بالنسبة إلى الأفراد المجتمعين فيه فهم الشعب " ( الفصل السادس - الكتاب الأول ) . " فالشعب الذي له السيادة لاوجود له خارج الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع " ( الفصل السابع - الكتاب الأول ) . " وبمجرد أن يوجد للشعب سيد يفقد الشعب سيادته " ( الفصل الأول - الكتاب الثاني )  .
122 ـ لم تكن الافكار احلاماً مقطوعة الصلة بالواقع ، والواقع أن الافكار التي لاصلة لها بالواقع لاوجود لها ، بل كانت تعبر عن مشروعات مقترحة "لدولة " تتفق مع مصالح الطبقة الوسطى ( البرجوازية ) الصاعدة . فقد كانت الطبقة الوسطى هي التي اسهمت بالدور الأساسي في التقدم الاقتصادي في فرنسا وحوّلتها بالتدريج إلى دولة تجارية وصناعية ، وكانت في حاجة إلى أكبر قدر من حرية الانتقال ( الأفراد والبضائع ) وحرية العمل ، وأقل قدر من تدخل السلطة والضرائب . فأنجبت مدرسة اقتصادية تولت إبراز المضمون الاقتصادي لأفكار الفلاسفة . إنها مدرسة " الفيزيوكرات " الشهيرة ( كيزني ، موريس دي ريفيير ، دي يتمور . . الخ  )  .
123 ـ   واضح مما سبق أن " مشروع الدولة " التي كانت تبحث عنها أوروبا يميزها بأن تكون " مؤسسة " تضم كل الافراد في المجتمع ولكنها تبقى مستقلة عن أي فرد أو مجموعة من الأفراد منهم . وأن تكون " السيادة " فيها للشعب بمجموعه ، وأن تتولى الممارسة الفعلية لتلك السيادة حكومة ملتزمة بحدود ترسمها قواعد عامة ومجردة تعبر عن الشروط التي صاغها الفلاسفة والمفكرون وزعموا أنها كانت شروط التقاء الناس في مجتمع أو شروط "العقد الاجتماعي "  .
ولقد جاءت الثورة الفرنسية فانشأت تلك الدولة . فقد بدأت الجمعية الوطنية بإعلان حقوق الانسان والمواطن . أصدرته يوم 26 آب / اغسطس 1789 ثم أصدرت مجموعة من القوانين الدستورية المتفرقة ، أعادت جمعها وصاغتها معاً في دستور ، وتلي الدستور يوم 5 آب / اغسطس 1791 وبدأت مناقشته يوم 8 آب / اغسطس وتمت الموافقة عليه يوم 3 / ايلول / سبتمبر وتم القسم على احترام الدستور يوم 14 أيلول / سبتمبر وأنفضت الجمعية يوم 30 أيلول / سبتمبر 1791 .
وقد تضمن الدستور صياغة " الدولة " وأقامها على قاعدتين أساسيتين نص عليهما في المادتين الأولى والثانية من القسم الثالث منه . تقول الأولى " السيادة واحدة ، غير قابلة للتجزئة أو الانتقال أو الاكتساب بالتقادم ، وهي تخص الأمة ، وليس لأي جزء من الشعب أو أي فرد يدّعي ممارستها " وتقول الثانية : " ان الأمة التي تنبع منها كل السلطات لايمكن أن تمارسها الا بواسطة مفوضين "  .
ونعرف من التاريخ أن مبادىء الثورة الفرنسية قد حكمت حياة أوروبا والغرب وشعوباً كثيرة في العالم منذ انتصارها ، ولم تزل . وهكذا يمكن أن نعرف ، بدون حاجة إلى تفصيل ، أن نموذج " الدولة " التي انشأتها الثورة الفرنسية سيكون هو " الدولة " في أغلب اقطار العالم فيما بعد ، وحتى الآن . ستتغير وتختلف الدساتير المتتابعة في فرنسا وغيرها من الدول وستتغير نظم الحكم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً داخل الدولة وفي كل دولة ، ولكن سيتوحد مفهوم " الدولة " في العالم على ضرورة أن تتوفر لها وفيها العناصر الأساسية التي بدأت بها في عهد الثورة . وسيتولى فقهاء القانون وعلماء النظم السياسية تأصيل وتعميق وتفسير تلك العناصر حتى تصبح مسلّمة  .
124 ، لايتوقف فقهاء القانون وعلماء النظم السياسية كثيراً عند تلك النظريات التي ابتكرها الفلاسفة حول نشأة الدولة . ولكنهم يعنون عناية فائقة بما يجب أن يتوفر " للدولة " من عناصر ليقال إنها " دولة " وهم متفقون على ثلاثة عناصر : ( 1 ) شعب و (2 ) أرض و ( 3 ) سيادة شاملة الشعب والأرض جميعاً . ويضيف بعضهم  "الاعتراف " كعنصر رابع يعنون به " اعتراف " دول أخرى بقيام " الدولة " موضع الاعتراف . ولكن هذا العنصر محل خلاف كبير يدور حول ما إذا كان هذا الاعتراف لازماً لتوجد الدولة ، أم للاقرار بوجودها أم للأمرين معاً ، ثم يأخذ فقهاء القانون وعلماء النظم السياسية في شرح الدلالات والآثار القانونية ( الحقوقية ) المترتبة عليها . وينصّب أكثر جهدهم على شرح دلالة وآثار العنصر الثالث : " السيادة " . في كثير من كتب القانون تتداول كلمتا " السيادة " و " السلطة " كما لو كانتا ذواتي مدلول واحد . غير أنه من المهم بالنسبة إلى حديثنا أن نفرق بين مفهوم السيادة ومفهموم السلطة . فالسيادة أشمل من السلطة ، إذ "السلطة" هي ممارسة السيادة ( يطلق البعض على السيادة صفة السلطة العليا ) أو أن حق السيادة هو مصدر حق السلطة  .
وكلمة " سيادة " اصطلاح قانوني يترجم كلمة فرنسية مشتقة من أصل لاتيني تعبر عن صفة لمن له السلطة لايستمدها من غير ذاته ولا يشاركه فيها غيره . بهذه الدلالة كان يستعملها بعض ملوك فرنسا القدامى للتعبير عن استقلالهم بالسلطة عن البابوية والأباطرة في الخارج ، وسمو سلطتهم على أمراء الاقطاع في الداخل ، وبهذه الدلالة كانت تبريراً لمشروعية السلطة ينتحله كل صاحب سلطة أو طالبها . فكانت مضموناً لصراع فكري ومذهبي صاحب الصراع على السلطة  .
ولقد عرفنا من قبل كيف أبدعت الكنيسة تبريراً لحقها في السيطرة النظرية المعروفة باسم " نظرية الحق الالهي" أو" مذهب آباء الكنيسة " ( فقرة 114 ) . ولم تكن تلك إلا نظرية في " السيادة " كما عرفنا نظرية " العناية الالهية " ( فقرة 115 ) ؛ وكانت هي أيضاً نظرية في " السيادة " . وهما نظريتان لم تكونا مقصورتين على تبرير الاستبداد بالسلطة في أوروبا وحدها ، ولاهما مقصورتان على تبريره في القرون الأوروبية الوسطى . فقد انتحل المنصور العباسي ( 714 - 775 ) مذهب " آباء الكنيسة " حينما خطب في مكة المكرمة فقال : " أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه " . وانتحلها أباطرة الصين قديماً ، فكان الامبراطور هو ابن السماء وانتحلها أباطرة اليابان ، فكان الامبراطور من أصل إلهي . . وانتحل معاوية بن أبي سفيان الأموي ( 602 - 680 ) نظرية العناية الاهية لتبرير استبداده بالسلطة دون الخليفة المنتخب حين قال : لو لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر ( الولاية ) ما  تركني وإياه ، ولو كره الله مانحن فيه ، لغيّره  .
وانتحل " نظرية الحق الالهي " في العصر الحديث غليوم الثاني امبراطور ألمانيا حينما قال في عام 1910 إن الله هو الذي ولاّه الملك . وانتحل نظرية العناية الالهية هتلر ديكتاتور ألمانيا قبيل أن يبدأ الحرب الأوروبية الثانية حين وجه الشكر إلى العناية الالهية التي اختارته زعيماً لألمانيا ( 28 نيسان / أبريل 1939 ) . وانتحلها ديكتاتور اسبانيا فرانكو ، وفرض تداولها ، حين أمر في عام 1947 بصكّ عملة تحمل كتابة تقول " فرانكو القائد بعناية الله " . .. وما يزال ينتحلها كثيرون من الحكّام مسلمين وغير مسلمين ، عرباً وغير عرب ، لتبرير استبدادهم بالسلطة  …
في مواجهة هاتين النظريتين استمدت الثورة نظرية حركة التنوير في السيادة فأسندتها إلى الشعب وصاغتها في المادة الأولى من دستور 1791 التي ذكرناها ( فقرة 123 ) . نعيد النص للأهمية : السيادة واحدة ، غير قابلة للتجزئة أو الانتقال أو الكسب بالتقادم وهي تخص الأمة ، وليس لأي جزء من الشعب أو أي فرد أن يدّعي ممارستها  .
ماذا يعني هذا على وجه التحديد ؟
يعني أن الثورة ، بعد أن جرّدت المؤسسة الكنيسة والارستقراطية من السيادة ، لم تسندها إلى أحد على الاطلاق أسندها الفقهاء تباعاً إلى شخوص معنوّية مجرّدة : الأمة أو الشعب أو الدولة أو المؤسسات ، وكل منها ذو وجود متعينّ يمكن التحقق منه ، ولكن أياً منها لايستطيع أن يمارس السيادة المسندة إليه بذاته لأنها ذات اعتبارية وليست ذاتاً طبيعية . ثم جاءت المادة الثانية وانتزعت من الشعب سلطة ممارستها ، صياغة النظام الاجتماعي باسمها ، وأسندت تلك السلطة إلى نواب عنه . وهي حيلة أو احتيال . يقول موريس ديفرجيه في كتابه  "المؤسسات السياسية في القانون الدستوري" إن البرجوازية الليبرالية قد اخترعت هذه النظرية في السيادة لتمارس هي السلطة ضدّ الارستقراطية من جهة ، وضد الشعب من جهة أخرى . ويقول الفقيه الكبير كاريه دي ملبرج انه نتيجة احتيال ظاهر انقلبت سيادة الشعب ضد الشعب ( مجلة القانون العام الفرنسي - 1931 ) . نكتفي نحن بملاحظة ماسيتضح بعد قليل . لم يكن فلاسفة البرجوازية الصاعدة في أوروبا مهتمين بالسيادة فكرة أو نظاماً إنما كان اهتمامهم منصباً على السلطة ونظام ممارستها على الوجه الذي يحقق مصالح طبقتهم . " إذا حاولت أي من السلطتين التنفيذية أو التشريعية ، بعد أن تستولي على السلطة في يدها ، أن تعمل على استعباد الشعب أو دماره فليس أمام الشعب من علاج في هذه الحالة ، كما في الحالات التي لايجد فيها قاضياً يلجأ إليه في الأرض سوى الاتجاه إلى السماء " . هكذا قال فيلسوف العلمانية جون لوك . لم يتذكر الله إلا لعزاء المقهورين في الحرية ، أو إلهاء القادرين عن الثورة ( الفصل 14 فقرة 168 من كتابه رسالتان في الحكم ) . أما فيلسوف البرجوازية موريس دي رفيير فقد قال ان " الاستبداد الذي تقوده السيادة الجماعية أكثر احكاماً وأكثر دواماً من الاستبداد الفردي ، أما الديموقراطية فهي وحش مفترس وليست سيادة الأمة إلا دولة حاكمة بدون دولة محكومة " ( باستيد : موجز القانون الدستوري ) .
أياً ما كانت غايات البورجوازية ، فقد كان عليها أن تقدم جواباً عن مصدر السيادة التي أسندتها إلى الشعب ، ثم أسندت سلطة ممارستها إلى نواب عنه . يقولون ما خلاصته إنه " القانون الطبيعي " الذي لقن الانسان قواعد السلوك الأساسية في المجتمع . وهي قواعد خالدة في الضمير الانساني  .
وهكذا ، قبل أن يكون المجتمع منظماً بقواعد وقوانين وضعية يوجد نظام قانوني طبيعي للمجتمع ، يجسد حقيقته على أفضل وضع في الحرية وبالحرية . وليس القانون الوضعي ذاته إلا ترجمة للقانون الطبيعي يؤدي غايته ، فيصبح مشروعاً بقدر ما يكون متفقاً مع الأصل الذي يترجمه . إذ القانون الطبيعي ذو قوة إلزام في ذاته لايستمدها من خارجه ، وهو - بالتالي - فوق كل نظام وأسمى من كل قانون . إنه ذو سيادة غير مقيدة بما يضعه البشر من قوانين إذ هو أسمى منها جميعاً لأنه قانون الحياة ( العلمانية ) . ومن القانون الطبيعي استمد كل فرد حقوقاً مساوية لحقوق أي فرد آخر ، فهي سابقة على وجود المجتمع ، وخالدة ، ومقدّسة لايجوز لأي نظام أو قانون أن يمسّها ( الفردية ) . بل ان مبرر وجود المجتمع وتأسيس الدولة وإقامة النظام هو حراية وتأمين هذه الحقوق ضد أي اعتداء عليها من الأفراد أو الجماعات أو الدولة ذاتها ( الليبرالية ) . فالانسان الفرد هو القيمة الأولى ، وهو موّلد القيم ، وهو الغاية أسمى الغايات ، وهو الأقدر على معرفة مصالحه ، ومن خلال تحقيق كل فرد مصلحته تتحقق مصالح المجموع ، وبالتالي لايجوز فرض أية قيود على حريته في السعي إلى تحقيق مصلحته بالطريقة التي يختارها ، والوسائل التي يرى أنها مؤدية إليها ( المنافسة الحرة ) ، وذلك في كل المجالات وخاصة في مجال الملكية ( الرأسمالية ) ، إذ " الحرية مرتبطة بالملكية ولايمكن فصلهما " كما قال موريس دي رفيير . وعلى الذين يحقدون على الاغنياء ، أو يفتقدون الحرية لأنهم فقراء أن ينفذوا وصية فرانسوا جيزو ( 1787 - 1874 ) قائد حزب " رابطة ساعد نفسك يساعدك الله " أول حزب ليبرالي في فرنسا حين قال لهم " اغتنوا اذن " . كيف ؟ لايهم فطبقاً للمنافسة الحرة التي هي القانون الطبيعي لتوزيع الثروات بين الأفراد ، الخطأ هو خطأ مالي والجزاء جزاء مالي ، يصيب من يكسب مالياً ويخطىء من يخسر مالياً . ( شومبيتر الرأسمالية والديموقراطية - ريجين رينود أصول البورجوازية  جاك دروز تاريخ المذاهب السياسية باستيد القانون الدستوري  - اميل ميرو فلسفة الليبرالية - بوردو موسوعة العلوم السياسية جزء 5 ايسمان شرح القانون الدستوري - لافيير القانون الدستوري  - كاريه دي ملبرج النظرية العامة في الدولة -  جورج جوسدورف المفهوم الانساني للحرية - موريس ديفرجيه المؤسسات السياسية في القانون الدستوري. . . الخ  ) .
ولكن ، هل " القانون الطبيعي " الواحد ، السائد ، الواعد ، موجود ؟
هذه مسألة " إيمان " ، وقد قلنا من قبل إن العبرة في مشروعية النظم بالقبول العام ( عكسه الاكراه العام ) وليس بالايمان ( الذي تخفيه السرائر ) ( فقرة 76 ) ، وإن كان كل نظام يتضمن قواعد عامة مجردة ملزمة للكافة لاتجوز مخالفتها أو الاتفاق على مخالفتها تستمد قوة الزامها من الايمان بمصدرها ( فقرة 80 ) . ثم عرفنا العلمانية نزعة ذات أصل ديني في المسيحية ، تحولت إلى تيار فكري مناهض لاستبداد الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الاقطاعية ، تحول الى ثورة ضد تدخل الكنيسة في الحكم في أوروبا البرجوازية ، انتهت إلى اقامة نظام  علماني في موقفه من الدين ، فردي في موقفه من المجتمع ، ليبرالي في موقفه من الدولة ، رأسمالي في موقفه من الاقتصاد . فنعرف منه أن العلمانية ليست دعوة إلى الكفر بالدين ، بل هي ركن في نظام شامل متكامل للحياة الدنيا ، كان محصلة عوامل نفسية وثقافية وتاريخية وحضارية سادت أوروبا على مدى نحو سبعة قرون ..
125 ـ وقد أصبح هذا النظام شائعاً في كثير من دول العالم مع بقاء المؤسسات الكنسية في كل الدول التي شاع فيها بدون استثناء واحد ، إنما تختلف الدول في نوع العلاقة بين الكنيسة والحكومة . نقول الحكومة التي تمارس السلطة ولانقول الدولة التي هي شخص اعتباري ، إذ الكنيسة ماتزال قائمة في الدولة . فالكنيسة مؤسسة رسمية في الدولة كما هو الحال في انكلترا والسويد والنرويج والدانمارك . وهي تتعاون مع الحكومة في الحفاظ على استقلالها ، كما هو الحال في اسبانيا . وهي تحظى باعتراف رسمي " شرفي " ، كما في ايرلندا . وقد تقف الحكومة على الحياد السلبي بين الكنائس المتعددة كما في الولايات المتحدة الامريكية . وقد يفصل فصلاً حاسماً ما بين الكنيسة والحكومة كما هو الحال في فرنسا التي ترد إلى الذهن كلما دار الحديث عن العلمانية .
عودة إلى الوطن :
126 ـ كل مافات كان معقولاً ، أو كان ذا منطق يمكن فهمه . دين يفرض على المؤمنين به الفصل بين الدين و "الدولة " . وينشىء للقيام على شؤون الدين مؤسسة دينية ( الكنيسة ) يتبعها ويديرها نفر من المؤمنين خصّهم الدين ذاته بسلطان ديني على الناس ( رجال الدين ) فتصبح تلك المؤسسة ذات قوة منفصلة ومستقلة عن مؤسسة أخرى ذات قوة منفصلة ومستقلة ( الدولة ) في المجتمع الواحد ، فيثير هذا الازدواج في ممارسة السلطة خلافاً أو صراعاً بين طرفيه تكون الغلبة لمن هو أقوى في زمانه ومكانه . وتضيق حياة الشعوب باستبداد المتصارعين وبآثار الصراع إلى أن تقوم ثورة تجرد كلاً منهما من " القوة " التي سمحت لكل منهما - يوماً - بأن تتجاوز حدود المبدأ الديني الأصيل : " مالقيصر لقيصر وما لله لله " . وترد كلاً منهما إلى حدوده . فينتهي الصراع وتبقى المؤسسة الدينية ورجالها قائمين على أمور الدين . وتبقى " الدولة " ورجالها قائمين على أمور الدنيا . كل هذا والدين باق كما هو بدون انكار أو الغاء . " والدولة " باقية بدون إيمان أو كفر . فيقال هذه هي "العلمانية " التي أبدعتها اوروبا القرن الثامن عشر ، والتي أعفت الشعوب من عبء التضحيات الجسيمة التي كانت تدفعها في الصراع بين الكنيسة و " الدولة " فهيأت لها مقدرة أوفر على التقدم العلمي والحضاري فنقول نعم هذه هي " العلمانية " حقاً وتلك بعض آثارها ، ولكن من حيث وضع العلاقة بين الكنيسة و " الدولة " في موضعها الصحيح " مسيحياً " منذ أن قال السيد المسيح " اعطوا مالقيصر لقيصر وما لله لله " أو ردّها اليه  .
وكان ذلك نصراً عظيماً للشعوب المسيحية انتصر الدين ، وانتصرت به الشعوب ، كلاهما  .
كل هذا مفهوم أو قابل للفهم  .
ولكن هل يمكن أن يكون لدعوة " العلمانية " معنى مجرد عن أصلها الديني وظروفها التاريخية ؟ هل يمكن أن يكون لها معنى في مجتمع بلا دين مثلاً ؟ . . أو في مجتمع كهنوتي كهانة شاملة مثلما كان في اليهودية ، مثلاً آخر ؟ . أو في مجتمع يفصل دينه بين الدين " والدولة " ولكنه لاينشىء للدين مؤسسة خاصة تقوم على شؤونه ، مثلاً ثالثاً ؟ . هل يمكن أن يكون " للعلمانية " معنى في مجتمع غير مسيحي ، أخيراً ؟ أما عندنا فدعوة  العلمانية في أي من هذه المجتمعات " كلام فارغ " لانعدام مضمونه . إلا أن تكون دعوة تحمل أعلام النصر الذي حققته " العلمانية " في المجتمعات المسيحية لتستر بها أهدافاً تخفيها في مجتمع لامجال فيه " للعلمانية "  .
127 ـ ليس وطننا العربي واحداً من تلك المجتمعات " النموذجية " التي اشرنا اليها بقصد كشف عبث دعوة " " "العلمانية "بعيداً عن أصلها الديني وظروفها التاريخية . والواقع انها مجتمعات افتراضية لاوجود لها ، إذ لاوجود لمجتمع بلا دين أياً كان المجتمع ، وأياً كان الدين . وليس ثمة أكثر" تدّيناً " بل نقول " تعصبا دينيا " من مجتمع الملحدين ذاته ، إذ ليس " الالحاد " إلا دين الملحدين يقوم فيهم بوظيقة أي دين . على أي حال فإن وطننا العربي مجتمع تتعدد فيه الأديان ، وتتعدد فيه المذاهب من كل دين ؛ وبالتالي فإن ترويج دعوة " العلمانية " فيه لايكون عابثاً في كل الأحوال . بل يتوقف حاله من العبث والجد على المخاطبين بها من ابناء أمتنا العربية  .
128 ـ فكثير من ابناء أمتنا العربية يدينون بالمسيحية . ويتفرقون انتماء إلى مذاهبها المتعددة . ولكل مذهب  "رجال دين " ومؤسسة دينية " كنيسة " ، وبالتالي فإن " للعلمانية " في وطننا العربي مجالاً ، تطرح فيه دعوة ، وتقام فيه حدود ، لتظل الكنائس جميعاً ملتزمة المبدأ المسيحي الذي قامت عليه " العلمانية " : " أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله " . ولكن متى ؟ . . . إذا حاول رجال الدين من أية كنيسة أن يعرّضوا مجتمعنا العربي إلى مثل الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية وبين الأباطرة والملوك والأمراء . أو إذا ما حاول الذين يحلمون بأن يكونوا أباطرة أو قياصرة أن يمدوا أصابع ساطاتهم إلى داخل الكنائس افتئاتا من أي قيصر على ما لله . إن هذا يعني تماما - وأرجو ألا يخطىء أحد فهم مانقول أو يستهين به - إن أيا من الطرفين يشق طرقه الشائك إلى حيث تردّه إلى حدوده " ثورة شعبية " لايعلم أحد من الآن أين تقف حدودها . انه ليس لعباً بالنار فقط بل هو إشعال فتنة لن " تشوي " إلا من أشعلها . ولست اعتقد أن هناك رجل دين مسيحي على أقل قدر من " العقل " يعتقد أن جزاء مخالفة تعاليم السيد المسيح ستكون نار جهنم فقط . أو أن هناك حاكماً على أقل قدر من العقل يعتقد أن ضمائر المسيحيين وكنائسهم متاحة ليمد إليها أصابعه بدون أن تقطع أصلبعه على الأقل . أو أن هناك شعباً ، أي شعب ، يقبل أن تقوم في دولته مؤسستان متوازيتان متنافستان على ممارسة السلطة ، باسم الدين أو باسم الدنيا ، بعد كل ما تعلمته الشعوب من تاريخ الصراع بين الكنيسة و " الدولة "  .
لانؤمن بما يسمى " الحظّ " ومع ذلك فلنقل مع القائلين إن من حسن حظ هذه الأمة العربية التي ننتمي اليها أن اغلبية المسيحيين من أبنائها يتبعون الكنيسة الاورثوذكسية ، وهي كنيسة تميزت منذ نشأتها بصرامة التزامها تعاليم السيد المسيح وصلابة موقفها ضد الاضافات البابوية . ولقد قاومت الكنيسة القبطية الاورثوذكسية بالذات  مقاومة باسلة ، ما أراده لها باباوات روما من آراء مبتكرة في المسيحية . وقدمت فداءً لايمانها مئات الشهداء ، يساندها شعب مصر فيما اعتبر في التاريخ حركة تحرر وطني حينما كانت مصر تابعة ز أو مملوكة ملكية خاصة ، لقياصرة روما . وفي ظل التبعية للامبراطورية البيزنطية استطاع موقفها المبدئي الثابت أن يحفظ للكنيسة الاورثوذكسية عامة التزامها الديني بإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله بالرغم مما كان بعض الأباطرة يرتكبونه من استفزاز . فخلا تاريخها من صراع يذكر بين الكنيسة و " الدولة " . انها ليست مجرد تقاليد ، ولكنها تقوى . ولو كانت مجرد تقاليد مستقرة لكان من شأن الناس في ظلها أن يتساءلوا : فيم الترويج -إذن - لدعوة العلمانية في مجتمع كانت كنيسته الرئيسية على مدى تاريخها حارسة مبدأ الفصل بين الكنيسة " والدولة " ولم تزل ؟
وفي الاسلام :
129 ـ من قبل قال جمال الدين الافغاني : " ليس الاسلام كدين ( براهما ) الذي قسم الناس إلى أربعة اقسام وقرر لكلّ منزلة من كمال الفطرة لايجاوزها ، ولاهو كاليهودية التي تخاطب شعب اسرائيل بالكرامة والاجلال وتذكر غيرهم بالتحقير والاهانة ، ولاهو كالمسيحية التي تذهب إلى أن رؤساء الدين أقرب إلى الله من سائر البشر ، وان كل نفس وإن بلغت من الكمال مابلغت ، ليس فيها ما يؤهلها إلى التقرب إلى الله بغير وساطة الرئيس الديني " ( الرد على الدهريين ) . ومن بعد قال الامام محمد عبده : " من أصول الاسلام _ وما أجله من أصل - قلب السلطة الدينية والاتيان عليها من أساسها . هدم الاسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها ، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم . لم يدع الاسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد ، ولاسيطرة على ايمانه ، على أن الرسول عليه السلام كان مبلغاً ومذكراً ، لامهيمناً ولا مسيطراً . قال الله تعالى ( فذكر إنما أنت مذكر ، لست عليهم بمسيطر ) { الغاشية : 22 } . ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لافي الأرض ولا في السماء ، بل الايمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه ، فما بينه وبين الله سوى الله وحده ، يرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده . وليس لمسلم مهما علا كعبه في السماء ، على آخر ، مهما انحطت منزلته فيه ، إلا حق النصيحة والارشاد . قال تعالى في وصف المفلحين : ( وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) { العصر : 3 } . وقال : ( ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) { آل عمران : 104 } . وقال : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) . { التوبة : 122 } . فالمسلمون يتناصحون ، ثم هم يقيمون امة تدعو إلى الخير - وهم المراقبون عليها - يردّونها إلى السبيل السةي إذا انحرفت عنه . وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والانذار ، ولايجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبع عورة أحد ، ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد ، وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول مايعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم "  .
لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله ، وعن رسوله من كلام رسوله ، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف ، وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم ، كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها ، وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة ، وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي ، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار . فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى مايعده لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما . وله - بل عليه - أن يطالب المجيب بالدليل على مايجيب به سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من الأعمال ، فليس من الاسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه " ( من رسائله إلى رشيد رضا عام 1902 )  .
لماذا ، إذن ، الترويج للعلمانية ؟
النفاق :
130 ـ لأن للعلمانية نظاماً ، وللاسلام نظاماً ، وهما لايتفقان في أكثر من وجه . ولما كان مصدر مشروعية أي نظام هو القبول العام ، وكان أغلب الشعب العربي مسلمين ، فإن قبولهم نظام العلمانية لايتحقق - بدون إكراه- إلا بلابقاء على الاسلام ديناً " لله " واستبعاده نظاماً للحياة في الوطن الذي هو " للجميع " لتخلو الحياة العربية لنظام لايتفق في أكثر من وجه مع الاسلام نظاماً . وهذا هو النفاق طبقاً لمعايير الصدق والكذب في مخاطبة شعب عربي مسلم  .
نضرب مثلاً من مصر  .
ولسنا نريد أن نذكّر أحداً بقائد حملة الاحتلال الفرنسي عام 1793 نابليون " حامي حمى الاسلام " ، ولا بخليفته المنافق الجنرال " عبد الله " مينو ، فإن الاحتلال الانكليزي لم يلبث أن داهم مصر عام 1882 وفرض بالقوة على الشعب العربي المسلم نظاماً بديلاً عن نظام إسلامي كان قد عاش في ظله راضياً أكثر من ثلاثة عشر قرناً. كان نوبار باشا " الارمني " رئيساً للوزراء ، وكان قد استخدم أميناً على سره ( سكرتيراً ) فرنسياً كان يعمل محامياً في الاسكندرية اسمه الاستاذ مانوري . فكلّفه بأن يضع لشعب مصر قوانين جديدة ، فلم يضع شيئاً من عنده إلا قليلاً ، بل نقل من الفرنسية إلى الفرنسية مجموعة القوانين الفرنسية المسماة " قانون نابليون " . وهكذا أعاد الانكليز إلى مصر نابليون نظاماً بعد أن كانوا قد أخرجوه منها حطاماً ، لأن العداء بينهما لم يكن أصلاً بسبب النظام المفروض ، بل كان رغبة كل منهما بأن يفرضه ليحقق به مصالحه . صدرت القوانين باللغة الفرنسية ، ثم ترجمت إلى العربية ، ثم نفذت في عام 1883 .
وقانون نابليون يعرف الحق ، اقراراً به ، ( الحق في الحرية ، الحق في المساواة ، الحق في التملك . . . الخ ) سواء توفر لصاحبه مضمون الحق فعلياً أم لا . والنظام الاسلامي لايعرف الحق إلا على مضمون عينيّ يمارسه صاحبه فعلاً . وقانون نابليون يطلق تملك الأرض بدون حدود ، والنظام الاسلامي يقصر ملكية الأرض على الانتفاع دون الرقبة . وقانون نابليون يطلق حرية استعمال الحقوق بدون قيود ولو اتلفها الاستعمال أما استعمال الحقوق في النظام الاسلامي فمحدود بصالح المجتمع . وقانون نابليون يحمّل مرتكب الفعل الضار ( الفاعل المباشر ) وحده مسؤولية تعويض المضرور ، والنظام الاسلامي يزيد فيحمل المتسبب في الضرر ( الفاعل غير المباشر ) مسؤولية التعويض ( الضمان ) مع الفاعل المباشر ، وفي بعض الحالات ، دونه . وقانون نابليون " لا يحمي المغفلين " ، والنظام الاسلامي يحمي ذا الغفلة المغبون أو ضحية الغش والتدليس . . . ثم إن قانون نابليون يحل " الربا " والاسلام يحرمه تحريماً قطعياً ، كما حرمته كل الأديان  .
كان الربا محرماً " عقلاً " منذ أن قال أرسطو إن النقود لاتلد ثم حرم " قبلياً " منذ أن حرمه اليهود فيما بينهم وأجازوه في اقراض غيرهم اتساقاً مع القاعدة القبلية : عداء الغير بدون حدّ أو قيد . ثم عاد محرماً في المسيحية وبقي كذلك إلى منتصف القرن الثالث عشر ، حين تحول البابا إنوسنت الرابع إلى منظم جيوش وقائد حروب لاتنقطع ضد الامبراطور فريدريك الثاني ، الذي نفاه من روما ، فلجأ إلى ليون ، فأفلست الكنيسة . لجأ البابا إلى التجّار " الشطّار " مستديناً ديوناً فادحة في مقابل فتوى بإباحة الربا . فأفتى بالتفرقة بين ما إذا كان الاقراض بفائدة من أجل الاستهلاك الشخصي وبين ماإذا كان " لتمويل " عمليات تجارية أو صناعية ( استثمار) فحرم الأولى وأحل الثانية . . ( ريجين برنود " أصول البرجوازية "  - وجاك دروز" تاريخ المذاهب السياسية" ولقد جاءت حركة التنوير والنهضة والعلمانية بعد ذلك فاستغنت عن الكنيسة وكل ماصدر عنها إلا هذه الفتوى ، فهي ماتزال عندها مقدسة . فهي - على وجه - جوهر نظام العلمانية الفردي الربوي أو حجر الاساس فيه ، وما يزال المنافقون في الاقطار العربية يرفعون على دولهم راية الاسلام ، ويدسّون في دساتيرهم أن الاسلام دين الدولة ، أو أن الشريعة الاسلامية مصدر التشريع " رئاء الناس " ثم يبيحون الربا ويرددون فتوى البابا انوسنت الرابع  .
إزاء هذا التعارض بين قانون نابليون والنظام الاسلامي احتال المستعمرون على الشعب العربي المسلم بأن تركوا له نظامه الاسلامي في " الاحوال الشخصية " مع أن قانون نابليون ينظم الاحوال الشخصية أيضاً .  وهكذا عرف الشعب العربي المسلم - لأول مرة في تاريخه الطويل منذ الفتح العربي - ازدواج السلطة القضائية حين عرف القضاء " الأهلي " والقضاء " الشرعي "  .
أما في مجال الجرائم والعقوبات فقد كان النفاق اكثر فجراً . أراد المستعمرون أن يوهموا الشعب بأن قانون العقوبات الذي استعاروه من نابليون يمثل إرادة " ولي الأمر " الشرعي ، فيما هو مباح له شرعاً من تحديد عقوبات " التعذير " ، على مايقول بعض المجتهدين . فقدموا قانونهم إلى الشعب في مصر بما جاء في المادة الأولى من قانون الاصدار . تقول المادة : " من خصائص الحكومة ان تعاقب على الجرائم التي تقع على أفراد الناس بسبب ما يترتب عليها من تكدير الراحة العمومية ، وكذلك على الجرائم التي تحصل ضد الحكومة مباشرة وبناء على ذلك قد تعينت في هذا القانون درجات العقوبة التي لأولياء الأمر شرعاً تقريرها وهذا بدون إخلال بأي حال من الأحوال بالحقوق المقررة لكل شخص بمقتضى الشريعة الاسلامية " . ويعلق أستاذنا د . السعيد مصطفى السعيد فيقول إنهم كانوا " يخشون الفشل في تطبيق القانون الجديد لاختلاف ظروف المجتمع المصري في ذلك العهد عن المجتمع الأوروبي اختلافاً كبيراً ، ولأنه حل محل قوانين ترجع في أساسها لحد كبير إلى أحكام الشريعة الاسلامية مما دعا الشارع إلى أن يبرر اصداره في المادة الأولى " . ( شرح قانون العقوبات ) وهكذا أصبح الزنا مباحاً ، والخمر مباحاً ، والميسر مباحاً ، والكذب مباحاً . . . في مجتمع أغلبيته من المسلمين بالرغم من أنها محرمات عليهم في النظام الاسلامي  .
فلنتأمل وليتأمل معنا من يريد  .
العلمانية الثائرة ضد استبداد الكنيسة بتنظيم العلاقات بين الناس ، التي اتخذت من قبول الناس مصدراً لمشروعية أيّ نظام ، التي ألغت ازدواجية السلطة ، وفدت إلينا فاستبدت بنا شعباً وأرضاً ، وفرضت علينا نظامها فرضاً ، وخلقت الازدواج في السلطة فنقضت مبادئها نقضاً ، فلماذا ؟ لأن العلمانية ليست مع الدين أو ضد الدين بل هي بوابة نظام فردي ( ليبرالي ) ربوي ( رأسمالي ) . وما كان يهم العلمانيين ، ولايهمهم الآن ، أن نؤمن جميعاً أو نكفر جميعاً ، أن نبني المسجد والكنائس أو نهدمها ، ان تتعدد الزوجات أو لاتتعدد ، أن تكبر العمائم أو تصغر ، أن تطول اللحى أو تقصر ، أن يشيع الفسق أو تشيع التقوى ، أن يتحجب النساء أو يسفرن . . الخ ، كل هذا مباح في العلمانية لمن يختاره ، مادام الاسلام كنظام للحياة قد استبعد فأفسح مكاناً لنظامهم . كفاهم عن كل حلال وحرام في كل دين أن أباحوا الربا وجعلوه نظاماً فرضوه . ولقد بدأوا فحددوا لما أسموه " الفائدة " سعراً عالياً ، وأجازوا استحقاق فوائد على الفوائد ولو تجاوزت أصل رأس المال . ولكن هذا لم يكفهم . فاستصدروا في 24 كانون الثاني / ديسمبر 1900 " أمراً عالياً " بلستثناء " البيوتات المالية المشتغلة بتسليف النقد على رهونات " ( البنوك ) من قيد الحد الأقصى للفائدة ، فارتهنوا مصر أرضاً واذلوها شعباً ، وهم يبذرون فيها بذور العلمانية ويستنبتون من أبنائها علمانيين ، ولما كان من المحال مخادعة كل الناس كل الوقت ، فقد كان لابد ، لكي يقبل الناس نظامهم ، من اقناعهم بأن الاسلام دين " لله " ، وليس نظاماً للحياة في " الوطن " وذلك عن طريق دعوة فكرية يقوم بها " دعاة " من العرب المسلمين . وحبذا لو كان الداعية من علماء الدين الاسلامي الذين اعتاد عامة المسلمين أن يستمعوا اليهم ويثقوا في صحة ما يقولون ، ليكون " إمام " المذهب العلماني  .
وقد كان  

الإسلام وأصول الحكم

131 - في منتصف عام ١٩٢٥ نشر في مصر كتاب ، أو على الأصح كتيب ، من تأليف الشيخ علي عبد الرازق - القاضي حينئذ - في محكمة المنصورة الابتدائية الشرعية . يحمل الكتاب عنوان : " الإسلام وأصول الحكم " - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام ” . أثار الكتاب فور نشره زوبعة من الجدل جرفت إليها كثيرا من أصحاب الرأي في مصر وخارج مصر وجرّت صاحبها إلى ساحة المحكمة التأديبية - حيت صدر قرار بفصله من عمله ( ١٧ أيلول ا سبتمبر ١٩٢٥ ) بعد أن كانت هيئة كبار العلماء بالأزهر قد حاكمته وأدانت ما ذهب إليه في كتابه فقضت بإجماع خمسة وعشرين عاما من بينهم شيخ الأزهر بإخراج المؤلف من ’’ زمرة العلماء ” (١٢ آب  أغسطس ١٩٢٥ ) ، مع أنه لم يكن في الأزهر وطبقا لنظامه ، جماعة أو زمرة من العلماء غير هيئة كبار العلماء التي لم يكن الشيخ علي عبد الرازق عضوا فيها . أيا ما كان من أمر ذاك الحكم ، فقد كان الكتاب وصاحبه ، وما
يزالان ، حتى اليوم موضوعين للدراسة والجدل في الوطن العربي وخارجه . ولعله من المفيد أن نعرف شيئا عن الأسباب التي أدت إلى أن يكون هذا الكتاب ، ويبقى ، واحدا من أكثر الكتب التي نشرت في موضوعه باللغة العربية ، إثارة وجذب للانتباه عند أي حديث عن العروبة والإسلام
.

132 - نستطيع أن نقطع واثقين بأن مرجع الاهتمام به لم يكن منذ البداية وحتى الآن أصالة مادته أو عمق بحثه أو سلامة منهجه . الكتاب متاح الآن لمن يريد أن يرجع إليه . ومن يرجع إليه تدهشه ، لاشك ندهشه ، ضآلة الأصالة الفكرية فيه وضحالة المادة التي عرضها ، وغياب منهج البحث إلى حد العدم . فهو ، من حيث المضمون العلمي أو الفقهي أفرغ من فؤاد أم موس كما شاء أن يصفه أستاذنا الفقيه الدستوري عبد الحميد متولي في كتابه ” الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للدستور” مشيرا إلى الآية الكريمة : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ) (القصص /١٠) .

ولعل مرجع القصور في الكتاب إلى أن مؤلفه قد شغل نفسه بموضوعه وهو مشهود له بأنه من العلماء في الدين بحصوله على إجازة ” العالمية ” من الجامع الأزهر( عام ١٩١١ ). وهي إجازة قد تزكي الالتفات إلى ما يجتهد فيه من أمور الدين التي درسها . ولكنه ـ في مقابل هذا - كان حين شغل نفسه بموضوع كتابه ما يزال عند مستوى الطلبة المبتدئين في دراسة " أصول الحكم " . ذلك لأنه ما ان تخرج في الأزهر حتى سافر إلى انكلترا ( عام ١٩١٢) وهناك قضى عاما كاملا منقطعا لدراسة اللغة الانكليزية ليتمكن بما يحصله منها من الالتحاق بجامعة  أكسفورد . في العام التالي التحق بجامعة أكسفورد طالبا مبتدئا في دراسة " الاقتصاد والعلوم السياسية " .

وبعد نحو عام اضطر إلى قطع دراسته والعودة إلى مصر بسبب نشوب الحرب الأوروبية الأولى ( عام١٩١٤ ) فعين بعد عودته قاضيا بمحكمة الإسكندرية الشرعية ، ثم في الأقاليم . قال في مقدمة كتابه : " وُليت القضاء بمحاكم مصر الشرعية منذ سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة وألف هجرية ( ١٩١٥ م ) فحفزني ذلك إلى البحث عن تاريخ القضاء الشرعي  . والقضاء بجميع أنواعه فرع من فروع الحكومة . وتاريخه يتصل بتاريخها اتصالا كبيرا. وكذلك القضاء الشرعي ركن من أركان الحكومة الإسلامية ، وشعبة من شعبها ، فلا بد حينئذ لمن يدرس تاريخ ذلك القضاء أن يبدأ بدراسة ركنه الأول أعني الحكومة في الإسلام " .

إن صح ما قال فكأنه قد شغل نفسه بموضوعه العميق المعقد يوم ان لم يكن قد تجاوز السابعة والعشرين من عمره إذ هو من مواليد عام ١٨٨٨ . وهو عمر أقصر من أن يتيح لصاحبه تحصيل الحد الأدنى من المعارف العلمية والنضج الفكري اللازم للمجتهدين ، إلا أن يكون عبقريا ، ولم يصدر عن الشيخ علي عبد الرازق قبل كتابه ذاك أو بعده فكر مذكور أو بحث منشور حتى نهاية عمره ينبئ بأنه كان من العباقرة المبرزين .

على أي حال نعتقد أن المرجع الأساسي للخلل الجسيم في البناء الفكري للكتاب هو جهل الشيخ علي عبد الرازق جهلا يكاد يكون تاما بأصول الحكم . فلما أراد أن يقيس السوابق التي يعرفها عن التراث الإسلامي إلى مقياس أصول الحكم المفتقد ، اختل القياس وذهب به إلى أحكام لم يقل بها أحد من البشر إلا هو . من أمثلته الفاضحة ما قاله وهو يجادل فيما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ملكا ( يعني حاكما ) أم لا ؟ . قال : " ونحن نريد أن نسأل ، هل كان له صلى الله عليه وسلم صفة غير صفة الرسالة ، بها يصح أن يقال انه أسس فعلا أو شرع في تأسيس وحدة سياسية أم لا ؟ فالملك في استعمالنا هنا ، ولا حرج إن سميته خليفة أو سلطانا أو أميرا أو ما شئت فسمه ، معناه الحاكم على أمة ذات وحدة سياسية ومدنية " ..

ثم انطلق من قوله هذا ينكر دولة المدينة على عهد الرسول لأنها " لم يكن لها ميزانية تقيد إرادتها ومصروفاتها ( أو ) دواوين يضبط مختلف شؤونها الداخلية والخارجية " ولأن " غير القضاء أيضا من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجودا على وجه واضح لا لبس فيه و إذا نحن تجاوزنا عمل القضاء والولاية إلى غيرها من الأعمال التي لا يكمل معنى الدولة إلا بها كالعمالات التي تتصل بالأموال ومصارفها ( المالية ) ، وحراسة الأنفس والأموال ( البوليس
) ، وغير نلك مما لا تقوم بدونه أقل الحكومات وأعرقها في البساطة ، فمن المؤكد أننا لا نجد فيما وصل إلينا من ذلك عن زمن الرسالة شيئا واضحا ، يمكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون أن نقول إنه كان نظام الحكومة النبوية " .

ليس في أي شيء مما قاله الشيخ ما يدخل في ” أصول الحكم ” . فالميزانية التي تقيد الإيرادات والمصروفات والدواوين التي تضبط الشؤون الداخلية والخارجية والمالية وحراسة الأنفس والأموال ( البوليس ) ، جميعها مما يدخل في النظم الإدارية وليس في النظم السياسية .

ويبدو أن الشيخ علي عبد الرازق لم يكن يعرف أن مقياسه الرئيسي ، الذي أسماه " أمة ذات وحدة سياسية ومدنية " ، لم تعرفه البشرية نظاما قبل القرن الثامن عشر، ولم تعرفه فكرا قبل القرن السادس عشر . وان كلمة الدولة التي استعملها بلفظها اللاتيني قد اخترعها اختراعا ميكيافيللي في القرن السادس عشر٠ وان الدواوين التي تضبط مختلف الشؤون الداخلية والخارجية والمالية ، لم تنشاً إلا في القرن الثامن عشر، ( ابتداء من ١٧٨٩ في الولايات المتحدة الأمريكية ومن ١٧٨٢ في انكلنزا ) وأن تنظيم القضاء لم يسبق مولد القانون . وأنه طوال القرن الرابع عشر وما بعده بقرنين كانت أوروبا ما تزال تناقش ما إذا كان ثمة ضرورة للقانون أم تكفي حكمة الملك أو الأمير أو فتاوى رجال الدين . وقطعا لم يكن يعرف أن أول تنظيم لديوان يحرس الأموال والأنفس ( بوليس ) في أوروبا ، كان بمرسوم أصدره ملك فرنسا لويس الرابع عشر في ١٥ أذارا مارس ١٦٦٧ . أما قبل ذلك فان كل حكام الأرض، أباطرة أو ملوكا أو أمراء أو كهنة كانوا يحكمون طبقا لأصل واحد من أصول الحكم عبر عنه لويس الرابع عشر حينما قال : " الدولة هي أنا " . ولو كان الشيخ قد أحاط بالدروس الأولى من علم أصول الحكم ، وهو تاريخ النظم السياسية ، لكان قد عرف أن ما اعتبره من أصول الحكم لم يكن قد دخل العقل البشري فكرا ، ولا دخل حياة البشرية نظاماً ، قبل عهد النبوة ولا بعده إلا بقرون طويلة . نحو عشرة قرون .

إن انعدام منهج البحث هو الذي أدّى - على الأرجح - إلى أن يلغي في ذهن الشيخ علي البعد الزماني للأحداث التاريخية ، فيحجب عن معرفته ظاهرة التطور التي صاحبت تاريخ النظم السياسية وكل النظم على الإطلاق . فراح يقيس أصول الحكم في القرن السابع الميلادي على أصول الحكم في القرن التاسع عشر ، فيرى في الأولى قصورا . ولقد سبق أن عرفنا كيف أن الإمبراطورية التي أئشأها |الفتح الاسلامي لم تكن في أصول حكمها وفي نظام إدارتها وفي أسلوب قيادتها وفي طرق اختيار أولئك
القادة إلا نموذجا لأصول الحكم ونظام الإدارة وأسلوب القيادة وطرق اختيار القادة في عصر الإمبراطوريات ( فقرة ٦٢) .
 

نقول على الأرجح ولا نقطع ، إذ يبدو لنا من كتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” أنه قد أنشئ من أجل الوصول إلى غاية محددة من قبل ، ولم يكن اجتهادا فقهياً أو علميا مجردا من بواعث مؤلفه الخاصة فراح ينتقي ما يتفق مع قصده المبيت ويتجاهل ما كان مفروضا عليه ألا يتجاهله لو كان يسعى إلى مجرد الحقيقة .

مثال ذلك أن حديثه قد ساقه سوقاً إلى مواجهة عدة مبادئ ، هي من أركان أصول الحكم في العصر الحديث ، بل هي أهم أركانه . وهى بعد مبادئ، سبق إليها المسلمون عالمهم ، فشغلت علماءهم قبل أن تخطر على بال أي عالم في الأرض يقرون طويلة . أولئك العلماء الذين أخذ عليهم الشيخ علي عبد الرازق أنه ” كان واجبا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة تلك القوة ورفعوه إلى  ذلك المقام وخصّوه بكل هذا السلطان أن يذكروا لنا تلك القوة التي  زعموها أنّى جاءته ؟ ومن الذي حباه بها وأفاضها عليه ؟ ولكنهم أهملوا ذلك البحث شأنهم في أمثاله من مباحث السياسة الأخرى " .

نسب إليهماً الاهمال ثم قال إن لهم في ذلك مذهبين . المذهب الأول أن الخليفة يستمد سلطاته من سلطان الله تعالى وقوته . والمذهب الثاني أن الخليفة إنما يستمد سلطانه من الأمة فهي مصدر قوته ، وهي التي تختاره لهذا المقام وتعزله . ولعله أن يكون قد تذكر حين قال هذا ان المذهب الثاني هو مذهب الخلفاء الراشدين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد كانت دراسة هذا المذهب الثاني قمينة بأن تنبه الشيخ علي عبد الرازق الى أنه أمام أهم معضلات علم السياسة وأخطر
مبادئ ، أصول الحكم ، وأن أصحابها لم يكونوا مهملين، بل كانوا مبدعين ، سابقين
الى الإبداع كما كانت دراسة هذا المذهب الثاني قمينة بأن تفتح أمام الشيخ علي عبد الرازق أبوابا واسعة إلى معرفة أن خضوع دولة المسلمين علي عهد النبوة وما بعده لقواعد عامة مجردة وملزمة سابقة على الحكم ( القرآن )، هو سبق إلى ما يسمى الآن ” دولة القانون ” ، وهو أصل من أصول الحكم . وأن المساواة بين الأفراد حاكمين ومحكومين في الالتزام بتلك القواعد ، هو سبق إلى ما يسمى الآن ” سيادة القانون ” ، وهو أصل من أصول الحكم . وأن إسناد سلطات الخليفة ( الحاكم ) إلى سلطان الأمة هو سبق إلى ما يقال له الآن ” الأمة مصدر السلطات ” وهو أصل من أصول الحكم .

لو درس لعرف ، ولكنه لم يدرس ، بل ترك هذا المذهب الأقرب إلى موضوع كتابه ، وانطلق ينتقد المذهب الأول ، وخصص جل كتابه لهذا النقد . المذهب الأول الذي يقول إن الخليفة يستمد سلطاته من سلطان الله تعالى وقوته . أو كما زعم فقال في موضع آخر : " ان ولاية الخليفة كولاية الله تعالى " ( صفحة ٤ ) . وهو قول لم يقله أحد ، من أهل السنة على الأقل . ولم يدلل الشيخ على قوله ولا بأبيات من شعر المدائح المبالغ في نفاقه ، كما كان الشعراء يفعلون . ولم يقل به - على الأقل - السيد محمد رشيد رضا في كتابه ” الخلافة أو الإمامة العظمى ”

الذي يبدو أن الشيخ علي عبد الرازق كان معنيا بالرد عليه ونقض دعوته٠ يبدو هذا من تكرار الإشارة إليه في المتن وفي الهوامش ، ذلك لأن محمد رشيد رضا كان يدعو في كتابه إلى الخلافة على المذهب الثاني الذي تجاهله مؤلف ” الإسلام وأصول الحكم ” ولم يدرسه .   

على أى حال ، اذا كان الشيخ علي عبد الرازق قد خص المذهب الأول بنقده فقد أفلح . افلح باحثا في الميدان الذي أفلح فيه دارسا . فاستطاع حامل إجارة العالمية أن يثبت أن الخلافة ليست منصباً دينيا ، وأن الخلفاء لم يكونوا يستمدون سلطاتهم من سلطان الله تعالى وقدرته . فنقول إنه في عام ١٩٢٥ نشر كتابا أفلح به في نفي ما لم يثبت قط ، وأدان نظاما للحكم كان التاريخ قد تخطاه ، وجرد الخلفاء ، من سلطات لم تكن لهم منذ القرن التاسع الميلادي .

 إنها قصة ينبغي أن تروى لنعرف إلى أي مدى صدق الشيخ فيما روى .

الخليفة والسلطان .

133 - في عام ١٣٩٤ كان بيازيد الأول ( رابع قادة الترك من بني عثمان ) قد حقق انتصارات كاسحة ضد الروس والبلغار، وفي المجر والنمسا واليونان ، وحاصر القسطنطينية عاصمة ما تبقى من الإمبراطورية البيزنطية ثمانية أشهر حتى أرغم الإمبراطور مانويل الثاني على دفع الجزية وإنشاء مسجد في القسطنطينية وتعيين قاض مسلم تكون له وحده ولاية الحكم في المنازعات
التى تقوم بين المسلمين من سكانها طبقا لقواعد الشريعة الإسلامية . أي فرض عليه " الامتيازات " التي ستسترد من السلاطين من بعده ثم تفرض عيهم فرضا لصالح غير المسلمين من الرعايا العثمانيين . ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ( آل عمران ; ١٤٠)  . على أي حال أراد بيازيد أن يتوج تلك الانتصارات بلقب فخيم مثل الذي كان يحمله الحكام الفعليون أيام الخلفاء العباسيين فأوفد إلى  القاهرة من يلتمس من الخليفة العباسي أن يمنحه لقب " سلطان الروم " فمنحه إياه .

لم يكن ذاك الخليفة الذي تلتمس منه الألقاب ويمنحها إلا واحدا من الخلفاء " الدمى " الذين كان يختارهم ويعينهم ويعولهم ويعزلهم أو يقتلهم ، حكام مصر من المماليك منذ أن خطر للظاهر بيبرس ، سلطان مصر ، أن يلتقط أحد الفارين من بغداد بعد اجتياح المغول لها تحت قيادة هولاكو ومقتل الخليفة المعتصم (عام٨ه١٣) فالتقطه وعينه  " خليفة " تحت اسم المستنصر (عام ١١٦٣ ) . لم يكن ذاك المستنصر يملك من السلطان إلا لقبه وكان هو ولقبه ملكا للسلطان ، يأمره فيأتمر مقابل أن يؤويه ويحميه ويعوله وكذلك كان خلفاء المستنصر في دولة المماليك .

كان منصب ” الخلافة ” قد انفصل تماما عن منصب الحكم ( أو الملك كما يقال في التراث ) فلم يكن الخلفاء حكاما بل كانوا محكومين . وهكذا لم يكن تلقي بيازيد الأول لقب ” سلطان الروم ” من الخليفة العباسي يعني إنشاء أو دعم أية علاقة بينهما ، لا علاقة شخصية ولا علاقة سياسية ولا علاقة اقتصادية .

والواقع من التاريخ أن الانفصال بين الخلافة والحكم كان قد بدأ منذ وقت قبل الغزو المغولي لبغداد . بدأ بعد ولاية المأمون بقليل . فقد تولى الخلافة بعد المأمون أخوه أبو اسحق الملقب بالمعتصم ( من عام ٨٣٣ حتى عام ٨٤٢ م ) وكان المعتصم قائدا فذا وفاتحا مقتدراً . وكان من بين ما ورثه الحرس الخاص لأخيه المأمون المؤلف من جند خراسانيين . فلم يلبث المعتصم أن أضاف إليهم عددا كبيرا من الأسرى والرقيق الترك ، وكون منهم جميعاً فرقة من الفرسان كانوا من خير أجناده . وما فتئ عددهم يزداد حتى زاحموا أهل بغداد وأصبحوا مصدر اضطراب فيها ، فانتقل بهم المعتصم إلى مدينة سامراء ( عام ٨٣٥ ) التي أعدت لإيواء الجند خاصة . ولم يكن يدري أنه بهذا الابتعاد عن الشعب قد أصبح تحت رحمة العسكر وأن إمبراطورية العباسيين قد انتقلت بهذا الانتقال من مرحلة الصمود إلى مرحلة الانهيار ، وأن السلطة لن تعود كما كانت إلى أي خليفة عباسي بعد ذلك وقد بلغ هوان الخلفاء بعد ذلك حد أن أصبح تعيينهم وعزلهم أو قتلهم لعبة قادة الجيوش أصحاب سلطة الحكم الفعلية . ولم يكن الاختيار يتبع دائما قاعدة الإرث ، وإن كان يتبع دائما أهواء السلاطين . أما عن العزل أو القتل فيكفي أن نذكر أنه فيما بين عام ٨٤٧ وعام ٨٧٠ تولى الخلافة خمسة من العباسيين ، قتل قادة الجيوش أربعة منهم ( المتوكل والمستعين والمعتز والمهتدي ) ، ومات خامسهم ( المنتصر) بعد ستة أشهر من ولايته ، يقال مسموما. ومن آيات هوان الخليفة والخلفاء رموز ألقابهم . فحينما عين سلاطين بني بويه الفضل بن جعفر خليفة (عام ٩٤٦) اختاروا له كب ” المطيع ” ، فلما قضى عينوا ابنه عبد الكريم ليكون خليفة من بعده ( عام ٩٧٤) واختاروا له لقب " الطائع " .

ولقد عاصر المؤرخ العربي ابن خلدون (١٣٣٢ـ ١٤٠٦ ) من مراحل الخلفاء الدمى فكتب في مقدمته : ” ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكا بحتا ، وجرت طبيعة التقلب إلى غايتها ، واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذّ ، وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك . ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس ، واسم الخلافة باقيا فيهم لبقاء عصبية العرب . والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضها ببعض ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب ، وفناء جيلهم ، وتلاشي أحوالهم ، ويقي الأمر ملكا بحتا كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركا ، والملك بجميع ألقابه ومناجيه لهم وليس للخليفة  منه شيء " ثم لم يتغير وضع الخلافة على مدى أربعة قرون بعد وفاة ابن خلدون عما كان عليه على مدى أربعة قرون قبل وفاته . ففي العقد الثاني من القرن السادس عشر احتلت جيوش السلطان العثماني سليم الأول سورية وفصلتها عن مصر ، وقد كانتا من قبل  موحدتين . ثم زحفت إلى مصر فاحتلت القاهرة عام ١٥١٧ . هناك عزل السلطان سليم الأول الخليفة المتوكل الثالث آخر" دمية ” من العباسيين وحمله معه إلى القسطنطينية ثم أطلقه ليعود فيموت في القاهرة . ولم يكن سليم الأول، المنتصر، في حاجة إلى " بركات" الخلافة ، واستند في كل فتوحاته إلى حق " الفتح " وذلك بالرغم من مشورة علماء القاهرة ومبادرة حاكم مكة إلى إرسال مفاتيح الكعبة إليه . ولا يذكر التاريخ أن أحدا من سلاطين الإمبراطورية العثمانية في فترات ازدهارها قد حرص على أن يستند إلى الخلافة لتبرير سلطته .

غير أن لقب ” الخليفة ” قد عاد إلى الظهور حينما دخلت الإمبراطورية  العثمانية مرحلة الانهيار نتيجة الحروب المتصلة التي شنها ضدها " الحلف الأوروبي الصليبي " واستمرت نحو قرنين . نقول الحلف الأوروبي الصليبي لأنه تكون ابتداء ، على أثر محاولة العثمانيين احتلال فيينا عام ١٦٨٣ ، من روسيا والنمسا والبندقية ومالطة وتوسكاني ، ثم البابا ” وانضمت إليه خلال الحروب المجر وبلغاريا واليونان . وكان شعار حروبه الصليبية : إخراج الكفار من أوروبا . وقد حدث عام ١٧٧٤ أثناء ولاية السلطان عبد الحميد الأول أن انهزمت الإمبراطورية هزيمة نكراء فأملى عليها المنتصرون معاهدة كوشوك ( ٢١نيسان ا ابريل ١٧٧٤ ) وبها فرضت الحماية الأوروبية على المسيحيين من رعايا الدولة العثمانية ( المادة ٧ من المعاهدة) . ووصف فيها عبد الحميد الأول بأنه خليفة المسلمين تبريدا غبر مباشر للمعنى الصليبي الذي أراد المنتصرون إشهاره لستر مطامعهم الإقليمية .

ومازالت الإمبراطورية العثمانية تتدهور وتستقطع أجزاؤها حتى آلت الولاية إلى عبد الحميد الثاني ( ١٨٧٦ -١٩٠٩ ) . وفي عهده فرضت عليه أوروبا المتحالفة معاهدة سان ستيفانو ( ٣ آذار ا مارس ١٨٧٨ ) التي اقتطعت من جسد الإمبراطورية المريض أغلب الأقاليم الأوروبية ، ثم بدأت اقتطاع أجزاء من الأقاليم التي تدين أغلبية سكانها بالإسلام : احتلت فرنسا تونس ( عام ١٨٨١ ) . واحتلت انكلترا مصر( عام ١٨٨٢ ) ومسقط ( عام ١٨٩٢ ) والكويت ( عام ١٨٩٩ ) . ودخلت الإمبراطورية مرحلة الاحتضار . وقد أدرك عبد الحميد الثاني منذ بدء ولايته مخاطر الاستعمار الأوروبي الفتيّ الذي يهدد الإمبراطورية وما وراءها من أقطار الشرق الآسيوي، كما أدرك أن ما تبقى من دولته الإمبراطورية عاجزة عن صد الغزو الأوروبي ، فأعلن فور توليه أنه ” خليفة ” وأوفد بذلك الى مصر وتونس والهند وأفغانستان وأندونيسيا والصين . وكان أول سلطان عثماني يعلن ذلك رسميا ويديعو إلى مبايعته ، غير أنه من المهم ملاحظة أن دعوة عبد الحميد إلى مبايعته خليفة لم تكن قائمة على أنه عربي أو قرشي أو من بيت النبي أو فقيه في الدين ، كما لم تكن دعوة إلى وحدة المسلمين في دولة تحت رئاسته . وآية هذا أنه وجه دعوته إلى المسلمين في أقطار مثل اندونيسيا والصين . إنما كان عبد الحميد يستغيث بالمسلمين ويدعوهم إلى التضامن والتحالف ضد الخطر الأوروبي ، ورأى أن يجتمعوا تحت شعار " الخلافة "  . فلم تكن الخلافة التي أعلنها إلا شعاراً لما عرف في التاريخ باسم ” الجامعة الإسلامية ” ولم تفلح دعوة عبد الحميد إلا في الهند ، حيث وجد المسلمون الهنود أن في نجاح دعوة الجامعة الإسلامية تحت شعار الخلافة دعمآ لنضالهم ضد القهر المزدوج الذي يرزحون تحته : قهر الاحتلال الانكليزي وقهر الاستعلاء الهندوكي ، فنشأت في الهند حركة وحدة إسلامية قوية متمردة على القهر المزدوج باسم ” حركة الخلافة ” .  ستنتهي فيما بعد إلى استقلال المسلمين بدولة الباكستان .

على أي حال لم يفلح عبد الحميد ، وعزل عام ١٩٠٩ وابتداء من ذلك التاريخ عاد الخلفاء العثمانيون ليلعبوا دور الدمى تحت سيطرة حزب ” الاتحاد والترقي ” الذي أسسه في سالونيكا ( اليونان ) طلعت بك ورحمي بك ثم انضم إليهما " بكوات " كثيرون كان من بينهم نيازي وأنور ومصطفى كمال وجمال ، وأشعلوا ثورة ١٩٠٨ التي انتهت بعزل عبد الحميد . ولقد ادعت جماعة ” الاتحاد والترقي ” أنهم من دعاة الجامعة الإسلامية ولكن ضد استبداد عبد الحميد : وبرز هذا الادعاء بقيادة أنور بك في دعوتهم إلى الجهاد ” المقدس ” خلال الحرب الأوروبية الأولى ( ١٩١٤ - ١٩١٨) ولكن ما أن انهزموا حتى انقلبوا تركا طورانيين أشد عداوة للإسلام والعروبة من كل من سبقهم .

بعد عزل عبد الحميد تولى محمد الخامس ( ١٩٠٩ - ١٩١٨ ) ثم محمد السادس ( ١٩١٨ -١٩٢٢ ) ثم عبد المجيد ( ١٩٢٢ -١٩٢٤) ولم يكن أولئك الثلاثة إلا ” دمى ” مجردين تماما من أية سلطة في ظل حكم حزب ” الاتحاد والترقي ” . وآية ذلك أنه في أول تشرين الأول  اكتوبر١٩٢٢ صدر قرار من حكومة تركيا بإلغاء ” السلطنة ” وبقيت الخلافة لقباً يحمله محمد السادس . وآيته الأخرى أنه في ٢٩ تشرين الأول  أكتوبر ١٩٢٣تحولت تركيا إلى جمهورية انتخب لرئاستها كمال أتاتورك ، وبقيت الخلافة لقبا يحمله عبد المجيد إلى أن طرد هو وأسرته وألغى لقبه في٣أذار/ مارس ١٩٢٤ .

وقد ظن الشريف حسين بن على حاكم الحجاز، وحليف الانكليز ضد تركيا ، وقائد الثورة العربية عام ١٩١٦ أن ثمة " خلافة " قابلة للبقاء ولو لقبا شرفيا ، فما أن سمع نبأ إلغائها من تركيا حتى أعلن نفسه ” خليفة ” في ذات الشهر . الذي ألغيت فيه . ولكن عبد العزيز آل سعود وضع حدا لذاك الظن حين استولى على الحجاز وأسقط ” الخليفة ” الجديد قبل أن يمضي عام على ” خلافته ” .

134 - وهكذا نعرف من التاريخ أن كل الجدل الذي شغل المسلمين وأحزابهم ومذاهبهم في القرون الأولى حول " الخلافة " وشروط توليها ، وأسلوب اختيار من يتولاها ، ومدى سلطانه على المسلمين، وسند شرعية ذلك السلطان ، وعلاقتها بالدين والدنيا ..الخ ، كان قد فقد جدواه على مدى عشرة قرون تقريباً سابقة على القرن العشرين . وأنه على مدى تلك القرون الطويلة لم يكن الخليفة ، حيث وجد خليفة ، ولم تكن الخلافة ، حيث وجدت خلافة ، حاكماً . وإنما كان الحاكم هو الأقدر على القيادة ، وكان الحكم إمبراطوريا له كل خصائص الإمبراطوريات السابقة ولمعاصرة على الوجه الذي تحدثنا عنه من قبل (فقرة ٦٢) .

طوال تلك القرون لم يكن لأي" خليفة " وحده الأمر والنهي وبيده وحده زمام الأمة وتدبير ما جل من شؤونها وما صغر . كل ولاية دونه فهي مستمدة منه وكل وظيفة تحته فهي مندرجة في سلطانه . وكل خطة دينية أو دنيوية فهي متفرعة من منصبه كما زعم الشيخ علي عبد الرازق في كتابه ” الإسلام وأصول الحكم ” . ولم يكن صحيحا ما زعمه أيضا من أنه " ما كان لأمير المؤمنين محمد الخامس سلطان تركيا أن يسكن اليوم ( يوم ألف كتابه ) يلدز لولا تلك الجيوش التي تحرس قصره ، وتحمي عرشه ، وتفنى دون الدفاع عنه " . فحين كتب الشيخ كتابه كان محمد الخامس سجين قصره يلدز بكل معاني السجين بدون جيوش تفنى دون الدفاع عنه.

متى؟    

135 - أراد الباحث المدقق د . محمد عمارة دراسة كتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” فرده إلى الملابسات السياسية لصدوره . وهذا منهج علمي صحيح . فليس ثمة أي شيء قابل للتقويم الصحيح بعيدا عن ظرفه التاريخي . ولقد استطاع الدكتور عمارة ، بدقته المعهودة ، أن يقدم لقراء دراسته مجموعة تكاد تكون وافية من الوثائق المتصلة ” بالملابسات السياسية لصدور الكتاب ” ، وأن يستخلص منها نتائج محكمة الصلة بتلك الوثائق انتهت إلى أن الشيخ علي عبد الرازق اتخذ من كتابه ” الإسلام وأصول الحكم ” سلاحا يناهض به النظام الملكي عامة ، والملك فؤاد ( ملك مصر في ذلك الوقت ) خاصة ، من خلال مناهضته للخلاقة التي كان يطمح الملك في توليها ويرشحه الانكليز لولايتها . كما استطاع أن يلفت القارئ إلى سبب الاهتمام البالغ الذي صاحب وتلا صدور الكتاب ، وانتهى إلى أن تعرض المؤلف للمحاكمة على رأي أبداه ، قد فجر قضية حرية الفكر واستفز الليبراليين الذين لم يدافعوا عن آراء المؤلف ، بل دافعوا عن حريته في إبداء رأيه .

كل هذا يمكن أن يكون استنتاجا مقبولا إذا اقتصر البحث على السؤال : متى نشر الشيخ علي عبد الرازق كتابه ؟ ولكن السؤال الأهم بالنسبة إلى حديثنا على الأقل هو : متى كتب الشيخ علي عبد الرازق ذاك الكتاب ؟ ذلك لأن الباعث على كتابته لابد أن يكون متحققا قبل الكتابة أو أثناءها بصرف النظر عن تاريخ النشر . دراسة د . عمارة لم تتسع للإجابة عن هذا السؤال ، فلعله أن يعود إليه . ولعله حينئذ أن يولي بعضا من جهده ما لاحظناه عن تاريخ نشر الكتاب أول مرة ٠ فالمتداول ، ويكاد يكون مسلما ، أن كتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” قد نشر لأول مرة عام ١٩٢٥( نيسان / ابريل – ايار / مايو ١٩٢٥ ) ولم يعد نشره بعد تلك السنة إلا عام ١٩٦٦ عن دار مكتبة الحياة في بيروت ، ثم في مجلة ”الطليعة ” القاهرية عام ١٩٧٣ . لعلهم يعنون بذلك الطبعات العربية لأن ذلك الكتاب نشر باللغة الانكليزية في أب / أغسطس ١٩٢٨ .

مع ذلك ، فقد لاحظنا أن الطبعة التي نشرت عام ١٩٢٥ قد كتب على غلافها الأصيل أنها الطبعة الثانية .. وأن الكتاب في طبعته الثانية هذه قد تضمن حديثا عن السلطان محمد الخامس الذي تولى السلطة العثمانية ما بين عام ١٩٠٩ وعام ١٩١٨. وقد أضاف المؤلف في هامش الصفحة ٢٥ حيث جاء ذاك الحديث قوله : " كتبنا ذلك يوم كانت الخلافة في تركيا وكان الخليفة محمد الخامس " . ولم تجر العادة على مثل هذه الإضافات في الطبعة الأولى من أي كتاب لانعدام ضرورة الاحتفاظ بأصل ما جاء في المتن ما دام لم ينشر، ولا مكان تصحيحه . نضع هذه الملحوظة أمام الباحثين وعلى رأسهم د . عمارة ، لأن الملابسات التي سبقت نشر الكتاب ، وخاصة الحرب الأوروبية الأولى التي نشبت عام ١٩١٤ وانتهت عام ١٩١٨ ، وكانت الخلافة العثمانية تقف فيها موقف العدو المقاتل ضد الانكليز وحلفائهم ، والثورة العربية التي اشتعلت عام ١٩١٦ ضد دولة الخلافة بتحريض من الانكليز وحلفائهم ، ومحاولات التمرد في الهند ضد الاشتراك في حرب ضد الخلافة ، والعلاقة الوثيقة التي كانت قائمة بين أسرة عبد الرازق والحزب الذي ينتمون إليه بالانكليز، والشك في أن يكون الكتاب مناهضة للملك فؤاد الذي لم يصبح ملكا إلا في ١٥ آذار / مارس ١٩٢٢، ووقوف الزعيم سعد زغلول قائد ثورة ١٩١٩ التحررية ، وبالتالي ، العدو ورمز العداء الوطني للانكليز والملك فؤاد ضد الكتاب وصاحبه ، وما هو معروف من استخدام الأسلحة الفكرية في الحروب انتصارا لأهداف المتحاربين ، وما قاله الشيخ علي عبد الرازق في كتابه من أنه كتبه مجزأ وعلى فترات متباعدة في ظروف صعبة . . كل هذا مجتمعا يوحي إلينا بأن بعض الفصول حادة النبرة ، المناهضة للخلافة ، وبيان انعدام أساسها الديني ، وقطع علاقتها بالإسلام ، وإرجاع كل مصائب الشعوب من هزائم وتخلف إليها ، ربما يكون قد كتب لخدمة المجهود الحربي للانكليز وحلفائهم في ميدان الدعاية . إن صح هذا الإيحاء فلا بد أن تكون فصول هذا الكتاب قد نشرت بلغة غير اللغة العربية بين المسلمين في بلاد كان يهم الانكليز إرضاء ضمائرهم الدينية وهم يقدمونهم وقوداً في حرب ضد دولة الخلافة العثمانية . ونعتقد - غير جازمين - أن الشيخ علي عبد الرازق كان يعرف أن بعض ما كتبه من فصول في كتاب الإسلام وأصول الحكم قد سبق نشرها ، فكان لا بد له من أن يسمي طبعة ١٩٢٥ الطبعة الثانية ، وأن يحتفظ بأصل النص الذي نشر بدون تغيير ثم يضيف إليه ما ينبّه إلى أنه كلام قديم .

نقول بعض الفصول لأن الكتاب قد تضمن إشارات إلى كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى للسيد محمد رشيد رضا وقد نشر عام ١٩٢٢ ، وإلي رسالة الخلافة وسلطة الأمة التي وضعها المجلس الوطني التركي ونشرت باللغة العربية عام ١٩٢٤ ، وإلى كتاب السير توماس ارنولد عن ” الخلافة ” الذي صدر عام ١٩٢٤، أيضا ، مما يدل على أن ثمة ما أضيف إلى ما كان قد كتب أو نشر أولا . . .

ونختم هذه الملحوظة بمثل ما كان يختم به أسلافا ما يقولون فنقول : " والله أعلم " .

136 ـ سواء أثبت المزيد عن البحث صحة ما لاحظناه أو لم يثبت ، فان الثابت لدينا بدون حاجة الى مزيد من البحث أننا إذا استبدلنا بالملابسات السياسية في مصر الملابسات السياسية في أقطار المسلمين ، أو أقطار الشرق عامة ، ورددنا كتاب الإسلام وأصول الحكم ” إلى تلك الملابسات العريضة والتي شملت مصر ضمن أقطار أخرى فإننا نستطيع أن نقول باطمئنان إن الكتاب كان إعلانا لموقف معاد لحركة التحرر من الاستعمار الأوروبي التي عمت دول الشرق وأقطار المسلمين ، وغذاها بأفكاره وحركته الثائر العظيم جمال الدين الأفغاني وتلاميذه من بعده . وهو موقف كان - موضوعيا - في خدمة الاستعمار الأوروبي بصرف النظر عن نوايا صاحبه . وإن كان انتماء أسرة الشيخ علي عبد الرازق إلى مدرسة حزب الأمة الذي نشأ في مصر عام ١٩٠٧ لتأييد الاحتلال والتعاون مع الموظفين الانكليز لا يقدم مبررات لترجيح حسن نوايا الشيخ علي ( كان حسن باشا عبد الرازق والد الشيخ علي وكيلا لحزب الأمة عند إنشائه ) .

137 ـ لو أقتصر أمر الشيخ علي عبد ا لرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم على ما قدمنا لأمكن الاستغناء عنه وعن الحديث عن كتابه في حديثنا عن العلمانية والنفاق العلماني . ولكن الكتاب قد انطوى على ما هو أكبر خطورة من مناهضة الخلافة . بل إن الأقرب الى التقويم الصحيح أن يقال إن صخب الحديث عن الخلافة في كتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” كان فرصة اصطنعها مؤلفه ليدس فيه أفكاراً مناهضة للإسلام ذاته وهذا سبب احتفاظ الكتاب ومؤلفه باهتمام الكثيرين حتى الآن - فهذا رجل يحمل إجازة العالمية من أعرق الجامعات الدينية ( الأزهر) ، ويتولى منصب القضاء الشرعي حيث يحتكم إليه في أمور من الأحوال الشخصية للمسلمين ، فيقضى فيها طبقا لمبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية ، فمن ذا الذي سيشك في علمه بالدين ؟ . إنه غطاء كثيف ، مثالي الكثافة ، لستر الأفكار المناهضة للإسلام . وليس على الذين يريدون أن يناهضوا الإسلام باسم ” العلمانية ” إلا أن يشيدوا بالشيخ وأن يتخذوا من كتابه مرجعاً وهم آمنون من الاتهام بالنفاق .

ماذا قال الشيخ ؟ .. لا بشأن الخلافة ولكن بشأن الإسلام .

138 ـ تعرض الشيخ علي عبد الرازق في كتابه ” الإسلام وأصول الحكم ” لثلاثة موضوعات . الموضوع الأول، هو الخلافة وعلاقتها بالإسلام . ولقد خصص لهذا الموضوع الكتاب الأول وانتهى فيه إلى أن الخلافة ملك وليست وظيفة دينية - ولقد كان هذا كافيا لو أنه لم يرد غاية أبعد من نفي علاقة الخلافة بالإسلام . ولكننا نراه يمهد في نهاية حديثه عن هذا الموضوع للحديث عن موضوع ثان . فيقول : " معاذ الله ، لا يريد الله جل شأنه لهذا الدين الذي كفل له البقاء أن يجعل عزه وذله منوطين بنوع من الحكومة ولا بصنف من الأمراء " (ص ٣٨) . مؤكدا المعنى الذي عبر عنه قبل قوله هذا حين قال : ” إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة ، كان صحيحا ما يقولون من أن إقامة الشعائر الدنية وصلاح الرعية يتوقفان على الخلافة بمعنى الحكومة ، في أي صورة كانت الحكومة ، ومن أي نوع : مطلقة أو مقيدة ، فردية أو جمهورية ، استبدادية أو دستورية أو شورية ، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية " ( ص ٣٥ ) .

المسألة إذن ليست مسألة نفي العلاقة بين الخلافة والإسلام ، ولكن المسألة التي كان يريد الشيخ علي عبد الرازق أن ينفيها هي مسألة العلاقة بين الإسلام والحكم مطلقا ، بصرف النظر عن نوع الحكومة وصنف الحاكمين ونظام الحكم . ولم يكن حديثه الصاخب عن الخلافة إلا تمهيدا لهذا ا لنفي . غير أنه لكي يستطيع أن ينفي العلاقة بين الإسلام والحكم ، كان لا بد له أن يواجه مرحلة تاريخية كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاكما فيها . فكانت هذه المواجهة هي الموضوع الثاني الذي خصص له الكتاب الثاني وتعرض له تحت عنوان الحكومة والإسلام في هذا الكتاب الثاني يقر الشيخ علي عبد الرازق بأن قد كان الرسول يمارس بعض ما يمارسه الحكام ، ويضرب لذلك أمثلة من الجهاد والغزو وما يتعلق " بالشؤون المالية من حيث الإيرادات  والمصروفات ، ومن حيث جمع المال من جهاته العديدة ( الزكاة والجزية والغنائم الخ ) ومن حيث توزيع ذلك كله بين مصارفه وتعيين الأمراء على الأمصار والفصل في المنازعات "... ويضيف أن كل هذا قد حمل ابن خلدون على القول بأن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي ثم يعقب قائلا : " لا نرى لذلك القول دعامة ولا نجد له سندا ، وهو على ذلك وينافي معنى الرسالة ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية " (ص ٥٧) .

ويقدم لرأيه بما لاحظه من قصور في دولة المدينة فيقول : " فلماذا خلت دولته إذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم ؟ ولماذا لم يعرف نظامه تعيين القضاة ؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه ؟ ولماذا ولماذا ؟ !  نريد أن نعرف منشأ ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص ، أو ما شئت فسمّه ، في بناء الحكومة أيام النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان ذلك وما سرّه ؟ " (ص ٥٧) .

وبما قرره من أن الرسالة " تستلزم لصاحبها نوعا من الكمال الحسي " و " التميز الاجتماعي " و " نوعا من القوة التي تعده لأن يكون نافذ القول " و " سلطانا أوسع مما يكون بين الحاكم والمحكومين بل أوسع مما قد يكون بين الأب وأبنائه " وانه " يتصل بالأرواح التي في الأجساد وينزع الحجب ليطلع على القلوب التي في الصدور" و " حق الاتصال بكل نفس اتصال رعاية وتدبير وحق التعريف لكل قلب تعريفا غير محدود " ... وان كل هذا واكبر منه قد اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم ، لينتهي الى القول : " من أجل ذلك كان سلطان النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى رسالته سلطانا عاما ، وأمره في المسلمين مطاعا ، وحكمه شاملا ، فلا شي ، مما تمتد إليه يد الحاكم إلا وقد شمله سلطان النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا نوعا مما يتصور من الرياسة والسلطان إلا وهو داخل تحت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم ، على المؤمنين . وإذا كان العقل يجوز أن تتفاوت درجات السلطان الذي يكون للرسول على أمته فقد رأيت آن محمداً صلى الله عليه وسلم أحق الرسل عليهم السلام بأن يكون له على أمته أقصى ما يمكن من السلطان ونفوذ القول . قوة النبوة وسلطان الرسالة ونفوذ الدعوة الصادقة قدر الله تعالى أن تعلو على دعوة الباطل وأن تمكث في الأرض " ( ص 68 ) .

أذن فقد ” كانت ولآية محمد صلى الله غليه وسلم على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم ( ص ٨ ) . أو أنه عليه السلام كان زعيما كما قال .

وماذا بعد أن مات محمد ؟

139 ـ هنا يصل الشيخ علي عبد الرازق إلى الموضوع الثالث الذي طال تمهيده للوصول إليه وهو علاقة الإسلام بالحكم ، وقد انقضى عهد الرسالة وانقطع تاريخ الخلافة . وهو بعد الذي يهم المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم .

قال : " الإسلام دعوة دينية إلى الله تعالى، ومذهب من مذاهب الإصلاح لهذا النوع البشري وهدايته ، الى ما يدنيه من الله جل شانه ويفتح له سبيل السعاة الأبدية التي أعدها الله لعباده الصالحين " (ص٧٦) . أما الأغراض الدنيوية فقد خلى الله سبحانه وتعالى بينها وبين عقولنا، وترك الناس أحرارا في تدبيرها على ما تهديهم إليه عقولهم وعلومهم ومصالحهم وأهواؤهم ومصالحهم " (ص٧٩) .

" وربما أمكن أن يقال ان تلك القواعد والآداب والشرائع التي جاء بها النبي عليه السلام للأمم العربية ولغير الأمم العربية أيضا كانت كثيرة ، وكان فيها ما يمس إلى حد كببر أكثر مظاهر الحياة في الأمم فكان فيها بعض أنظمة العقوبات ، والجيش ، والجهاد ، والبيع ، والمداينة ، والرهن ، وآداب الجلوس ، والمشي ، والحديث ، وغير ذلك ... ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام وأخذ به النبي المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي ، ولا من أنظمة الدولة المدنية ، وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءا يسيرا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين .

إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى ، ولمصلحة البشر الدينية لا غير .  وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا ، وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية أم لا  ، فذلك مالا ينظر الشرع السماوي إليه ولا ينظر إليه الرسول " ( ص ٨٤ - ٨٥) .

وان ” الدنيا من أولها لآخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول ، وحبانا من عواطف وشهوات ، وعلمنا من أسماء ومسميات. هي أهون عند الله تعالى من أن يبعث لها رسولا وأهون عند رسل الله تعالى من أن يشتغلوا بها وينصبوا لتدبيرها " ( ص ٧٩) .

140 ـ هذا ما قاله أو أرد ان يقوله الشيخ علي عبد الرازق في كتابه ” الإسلام وأصول الحكم ” ولقد أنكرنا عليه من قبل علمه بأصول الحكم . ومن قبلنا أنكر عليه سعد زغلول علمه بالإسلام - نقل إلينا د.محمد عمارة عن مصدره ما قاله سعد زغلول حينما سئل عن رأيه في الكتاب انه قال : " لقد قرأته بإمعان لأعرف مبلغ الحملات عليه من الخطأ والصواب فعجبت أولا  كيف يكتب عالم ديني بهذا الأسلوب في مثل هذا الموضوع . وقد قرأت كثيرا للمستشرقين ولسواهم فما وجدت ممن طعن منهم في الإسلام حدّة كهذه الحدّة في التعبير على نحو ما كتب الشيخ علي عبد الرازق ... لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه بل بالبسيط من نظرياته ، وإلا فكيف يدّعي أن الإسلام ليس مدنيا ، ولا هو بنظام يصلح للحكم ؟ فأية ناحية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام ؟ هل البيع والإجارة أو الهبة أو أي نوع أخر من المعاملات ؟ ألم يدرس شيئاً من هذا في الأزهر ؟ أولم يقرأ أن أمماً كثيرة حكمت بقواعد الإسلام فقط عهودا طويلة كانت أنضر العصور ؟ وان أمما لا تزال تحكم بهذه القواعد وهي آمنة مطمئنة ؟ فكيف لا يكون الإسلام دينا مدنياً ودين حكم ؟ وأعجب من هذا ما ذكره في كتابه عن الزكاة ؛ فأين كأن هذا الشيخ من الدراسة الدينية الأزهرية ؟ .

ثم أضاف سعد زغلول : " ...   والذي يؤلمني حقاً أن كثيراً من الشبان الذين لم تقو مداركهم في العلم القومي ، والذين تحملهم ثقافتهم الغربية على الإعجاب بكل جد يد ، سيتحيزون لمثل هذه الأفكار ، خطأ كانت أو صوابا ، دون تمحيص ولا درس . ويجدون تشجيعا على هذا التحيز فيما تكتبه جريدة (السياسة) وأمثالها من الثناء العظيم على الشيخ علي عبد الرازق ون تسميتها  له بالعالم المدقق والمصلح الإسلامي والأستاذ الكبير .. الخ . وكم وددت أن يفرق المدافعون عن الشيخ بين حرية الرأي وبين قواعد الإسلام الراسخة التي تصدى كتابه لهدمها  " ..

هكذا  تكلم سعد زغلول قائد ثورة ١٩١٩ التحررية ، والمستشار في القضاء العالي ، ورجل القانون ، المحامي الضليع ،  وان لنا تعقيبا .

دين للدنيا .

141 ـ ان الفترة الأساسية التي أنشاً على عبد الرازق كتابه من أجل بثها ( بعد أن كتب ما كتب عن الخلافة ) هي أن الإسلام شرع تبليغي وليس شرعا تطبيقيا . وكل ما جاء في الكتاب غير هذا هو محاولات لمساندة هذه الفكرة وإثباتها  . من هنا يكون القول الفصل في موقف مؤلف كتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” غير متوقف على حجم الشرائع والقواعد والآداب التي جاه بها الإسلام . هذا مردود بأن الإسلام لم يأت بجميع الشرائع والقواعد والآداب اللازمة لتنظيم كل أوجه الحياة البشرية في زمان معين في مجتمع معين . ذلك لأن الإسلام كما هو ( بدون مذاهب ) ، قد جاء للبشر في كل زمان ومكان . ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) . (١ الأعراف : ١٥٨ ) . ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) . ( سباً : ٢٨ ) .. وما كان له أن يكون كذلك لو لم يكن ما جاء به من شرائع وقواعد وآداب مقصوراً على أصول ما يحقق مصالح الناس من حيث هم ناس بدون قيد من الزمان والمكان . أما ما دون ذلك من شرائع وقواعد وآداب تقتضيها مصالح الناس المتغيرة المتطورة تبعا للتغير في المكان والتطور في الزمان ، فقد تركها الإسلام لأصحاب المصلحة فيها يضعونها على الوجه الذي يتفق مع مصالحهم المتغيرة المتطورة على هدى ما جاء به الإسلام في القران ؛ فإن جاءت محققة لمصلحة الجماعة أصبحت جزءاً من شرائع الإسلام في هذه الجماعة . قال تعالى : ( وما كان لرسول أن يأتي بأية إلا بإذن الله ، لكل أجل كتاب ) ( الرعد : ٣٨ ) . أي لكل زمان أحكام - وقال تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) . (المائدة : ٤٨ ) . أي لوحد شرائعكم وقواعدكم وآدابكم . وقال تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) . ( البقرة : ١ ) . أي أن ما جاء في القرآن من شرائع وقواعد وآداب ملزمة تهدي الناس إلى أفضل الشرائع والقواعد والآداب التي يحتاجون إلى وضعها ولم ترد فيه نصا . ومن هنا كان الاجتهاد المذهبي مشروط إسلاميا في حدود عدم المساس بما جاء في القران محكما . وقد تحدثنا عن هذا تفصيلا حين تحدثنا عن النظام الإسلامي ( فقرة ٧٦ ) ، لا يتوقف القول الفصل في موقف مؤلف كتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” إذن ، على حجم الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام ونسبتها إلى الشرائع والقواعد والآداب السائدة في المجتمعات الحديثة ؛ إنما يتوقف القول الفصل في موقف الشيخ علي عبد الرازق على ما إذا كان يرى أن ما جاء به الإسلام من شرائع وقواعد وآداب ملزم للمسلمين في ممارسة حياتهم الدنيا أم غير ملزم . وما هو مصدر الإلزام ،  إن وجد . نقول ملزما ونعني الدلالة القانونية ( الحقوقية ) لكلمة الإلزام أي نفاذها في حياة المسلمين بدون توقف على إرادتهم إيقاع جزاء دنيوي أيضا على مخالفتها . إن يكن ملزما فالإسلام قد وضع للحياة في الدنيا قواعد سوك يتميز بها عن غيره من الأديان ويميز بها حياة المسلمين دون غيرهم ، فهو ” دين للدنيا ” ، إن صح هذا التعبير . أما إذا لم يكن ملزما فالإسلام دعوة روحية تصوغ العلاقة بين الله وعباده ، من اتبعها كسب ثواب الآخرة ، ومن خالفها نال جزاءه في الآخرة ولا شاًن لها بحياة المسلمين .

ولقد أجاب الشيخ علي عبد الرازق في كتابه " الإسلام وأصول الحكم " بما يعني صراحة أن ما جاء به الإسلام من شرائع وقواعد وآدب غير ملزم للمسلمين في ممارسة حياتهم ( بالمعنى الذي حددناه لكلمه الإلزام ) ٠ مع ملاحظة أنه يكفر بالله ولم يجحد رسالة محمد ولم ينكر أن الإسلام قد جاء بشرائع وقواعد وآداب  ، قلّت أو كثرت . أجاب بأنها غير ملزمة على ثلاثة أوجه :

الوجه الأول ، بإخراج الحياة وأغراضها وسبل ممارستها من دائرة العناية الإلهية . وذلك بما قاله من ان ” الدنيا من أولها لأخرها ، وجميع ما فيها من أغراض وغايات ... هي أهون عند الله تعالى من أن يبعث لها رسولا ، وأهون عند رسل الله تعالى من أن يشغلوا بها وينصبوا لتدبيرها ” ( ص ٧٩ ) . وهو ما يعني صراحة أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن تكون الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام ملزمة للمسلمين في شؤون حياتهم الدنيا . ولم يرسل الرسل الى الناس من أجل هذا . وبالتالي فان الناس أحرارا في ان يلتزموا في حياتهم ما أبلغهم الرسل أو لا يلتزموا بدون جزاه في الدنيا في الحالتين . وذلك واضح من إنكاره على ابن خلدون قوله إن الإسلام تبليغي وتطبيقي معا .

الوجه الثاني : بما قاله من أن مصدر التزام المسلمين بتلك الشرائع والقواعد والآداب في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان كماله الحسي وقوته الروحية وهيبته وسلطته على النفوس . أي أن المسلمين في عهده عليه السلام كانوا يلتزمونها خضوعا لزعامته وطاعة لشخصه ، وليس لأنها ملزمة في حد ذاتها . وهو يعني أنها ، بعد وفاة الرسول وإتمام الرسالة ، لم تعد ملزمة لهم لانقضاء مصدر قوة  الإلزام فيها .

الوجه الثالث : بما قاله من أن الله تعالى قد خلى بين الحياة الدنيا وبين الناس " وترك الناس أحرارا في تدبيرها على ما تهديهم إليه عقولهم وعلومهم ومصالحهم وأهواؤهم ونزعاتهم ” لأنها " أهون عند الله تعالى من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول وحبانا من عواطف وشهوات ” . وهو يعني أن المسلمين غير ملزمين في ممارسة حياتهم إلا بما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم وأهواؤهم ونزعاتهم وعواطفهم وشهواتهم ، سواء اتفق مع ما جاء به الإسلام من شرائع وقواعد وآداب أم لم يتفق .

142 ـ لقد قال الشيخ علي عبد الرازق شططا ، وأخطأ فيما قال على كل وجه ساند به مذهبه .

أما عن الوجه الأول ، فقد ادعى على الله سبحانه وتعالى ، بما ليس به علم ، أعني هوان الدنيا بمن فيها من بشر وما فيها من حياة . ادعى الهوان وادعى مدى الهوان . وهو مدخل مفتوح إنكار الخلق والأديان جميعا ، ولا نزيد ، ولقد قرأ الشيخ علي قوله تعالى : ( واعلموا أن الله غني حميد ) (البقرة : ٢٦٧ ) و( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) ( أل عمران : ٩٧ ) و ( ان تكفروا انتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) . ( إبراهيم : ٨) و( له ما في السماوات وما في الأرض ، وإن الله لهو الغني الحميد ) ، ( الحج  :٦٤ ) و ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ، إن الله لغني عن العالمين ) ( العنكبوت ؛ ٦ ) و( ومن يتول فان الله هو الغني الحميد ) . ( الحديد :  ٢٤ ) ... الخ .

ويبدو أنه قد أراد أن يفهم من هذه الآيات أن استغناء الله تعالى عن الدنيا ومن فيها وما فيها يعني أنها أهون عنده سبحانه من أن يرسل إليها رسلا ، واهون عند رسله من أن يشغلوا بتدبير أغراضها . وهو فهم غير بريء من الخطأ الجسيم المتعمد أو غير المتعمد .

ذك لأن الشيخ  علي عبد الرازق قد قرأ أيضا قوله تعالى الذي لا يكتفي بالإيمان إلا مقرونا بالعمل الصالح في نحو سبعين آية من آيات القرآن تردد فيها جميعا معنى قوله تعالى ( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل عملا صالحا فلهم أجرهم عند  ربهم ) ، ( البقرة :٦٢ ) وقرأ نحو ثمانين آية من آيات القرآن تدل على عناية الله بما يعمل البشر، وتكرر إبلاغهم بمعنى ما جاء في قوله تعالى : ( وما الله يغافل عما تعملون ) ، ( البقرة : ٧٤ ) .

لا شك في أن  مؤلف ” الإسلام وأصول الحكم ” قد قرأ تلك الآيات وأكثر منها بحكم أنه ما كان له أن ينتسب إلى الجامعة الأزهرية بغير حفظ القرآن . كما لا يمكن أن ينسب إليه الجهل بأن مجال العمل الصالح وغير الصالح هو الحياة الدنيا . فلا نعرف كيف فاته أن استغناء الله سبحانه وتعالى عن إيمان الناس أو كفرهم وعن أعمالهم ، وعن الحياة الدنيا جميعا ، مع عدم اكتفائه  بالإيمان بديلا عن العمل الصالح في الدنيا ، وتحذير المسلمين بأنه يراقب أعمالهم ولا يغفل عنها . كل هذا معا ، يعني أن كل الأديان والرسل وما جاؤوا به من شرائع وقواعد وآداب إنما هو لصالح الناس في حياتهم الدنيا ، وهو ما يناقض وينقض ما زعمه المؤلف عن هوان الدنيا عند الله وعند رسله .

أما عن الوجه الثاني فان كل ما سطره الشيخ علي عبد الرازق من صيغ بلاغية في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما أقر به لشخصه الكريم من كمال حسي وقوة روحية وسلطان على نفوس المسلمين لتبرير التزامهم في حياته بما " أخذ به النبي المسلمين ” ( تأمل التعبير !! ) لا يخفي تجاهله الإجابة عن سؤال حاسم : هل كانت الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام ملزمة للرسول نفسه ، مثله في هذا مثل باقي المسلمين أم لا ؟ ... إن المصدر الأساسي للشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام هو القرآن . فهل كان النبي مع المسلمين جميعا ، مأخوذين بما جاء في القرآن من شرائع وقواعد وآداب ، أم أن النبي هو الذي أخذ بها المسلمين كما اختار ان يقول الشيخ علي عبد الرازق؟

لا شك في أن مؤلف كتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” قد قرأ قوله تعالى ( قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ) . ( الأنعام : ١٤) .

وقوله تعالى ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا اله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) .

( الأعراف : ١٥٨ ) كما قرأ قوله تعالى : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ) ، ( أل عمران : ٧٩) . وقوله تعالى : ( وما كان لنبي أن يغل ، ومن يغلل يأت بما غلّ  يوم القيامة ، ثم توفىّ كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) ،( آل عمران : ١٦١ ) وقوله تعالى : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ، إن الله كان عليما حكيما . واتبع ما يوحى إليك من ربك ) ، ( الأحزاب : ١٤٢  ) .  وقوله تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) ( الجاثية : ١٨) . فكيف لم يدرك الشيخ حامل إجازة العالمية من الأزهر أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأخذ المسلمين بالشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام ، بل كان هو، وهم جميعا ، مأخوذين بها ، وبالتالي فإن مصدر قوة الإلزام فيها لم يكن شخصه وطاعة المسلمين له ، بل قوة فوق شخصه وأشخاصهم هي قوة الله الذي به يؤمنون . وإن طاعتهم الرسول كانتا التزاما بأمر الله بطاعة الرسول . كيف لم يدرك الشيخ أن الرسول مبلغ رسالة ، وأن مصدر القوة الملزمة في الرسالة ليس من يبلغها ولكن من يرسلها ؟

أما عن الوجه الثالث ، وهو حرية الناس في أن يتبعوا ما تهديهم إليه عقولهم وعلومهم ومصالحهم وأهواؤهم ونزعاتهم وعواطفهم وشهواتهم فهو قول لم يسبق إليه أحد من البشر إلا الكاتب الألماني الفوضوي ماكس شتينر في كتابه " الإنسان الأحد " الذي نشره في منتصف القرن التاسع عشر . ولو كان الشيخ علي عبد الرازق قد قرأ حقا ما كتبه المفكران الانكليزيان هوبز ولوك اللذان أشار إليهما في كتابه ، لكان قد عرف أن حرية الناس في أن يتبعوا ما تهديهم إليه عقولهم وعلومهم ومصالحهم وأهواؤهم ... الخ ، تؤدي إلى صراع الأفراد مما يستوجب أن يتنازل كل فرد عن بعض حريته ليعيش الناس في سلام ، وقد تنازلوا فنشأت الشرائع كما قال هوبز في كتابه ” العملاق ” ( عام ١٦٥١ ) ، وأنه بالرغم من كل مميزات تلك الحرية فان الجنس البشري قد تنازل عنها حتى لا يحتكم الناس فيه الى القوة ، واستبدلوا بها الاحتكام الى الشرائع والقوانين كما قال لوك في كتابه رسالتان في الحكم " ( عام ١٦٩٠ ) . ولو كان قد قرأ أي كتاب ولو من كتب المبتدئين في دراسة أصول الحكم ، لعرف انه لم يحدث في تاريخ البشرية أن وجد مجتمع يتبع الناس فيه ما تهديهم إليه عقولهم وعلومهم ومصالحهم وأهواؤهم ... الخ  ، بدون شرائع أو قواعد أو آداب . أو لعله قد قرأ ، ولكنه لم يشأ أن يضعف حجته فلم يذكر .

143 ـ ذلك لأن الواقع من أمر هذه الحياة الدنيا أن الناس يعيشون فيها جماعات جماعات . أسراً أو عشائر أو قبائل أو شعوبا أو أمما . وهو واقع ثابت في الزمان والمكان . لم يحدث قط أن وجد إنسان مقطوع الصلة بغيره . لم يوجد قط ، ولا يمكن أن يوجد ، ذلك الفرد المفر المتفرد بحياته .

والإفراد في المجتمع ، أي مجتمع ، مختلفون في ” عقولهم وعلومهم ومصالحهم وأهوائهم ونزعاتهم وعواطفهم وشهواتهم " بل أن منهم أطفالا ليس لهم عقول ولا علوم ولا مصالح ولا أهواء ولا نزعات ولا عواطف ولا شهوات يهتدون بها . هذا الاختلاف لا يسمح باتساق أو تطابق ما يريده كل الناس في أي مجتمع بدون إكراه بعضهم بعضاً . فإن أخلي بينهم وبين ما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم ... الخ ، تنازعوا فتصارعوا فاقتتلوا فكان هلاك بعضهم أو هلاكهم جميعاً . من أجل حفظ الناس من مخاطر هذا الهلاك كانت الشرائع والقواعد والآداب التي تفرض على سلوك الأفراد في أي مجتمع قواعد ملزمة لا يجوز خرقها ، وتوقيع جزاء على هذا الخرق ، أو محاولته ، يبقيها نافذة أبداً .

من الذي يضع هذه الشرائع والقواعد والآداب ؟ لم يقدم تاريخ البشرية جواباً واحدا عن هذا السؤال . فقد عرفت البشرية المشرع رب الأسرة ، والمشرع شيخ العشيرة ، والمشرع رئيس القبيلة ، والمشرع الملك ، والمشرع الكاهن ، والمشرع أقلية الشعب ، والمشرع أغلبيته ، كما عرفت الشرائع الدينية . وإنما قدم تاريخ البشرية جواباً واحدا عن السؤال : هل لا بد لكل مجتمع من شرائع وقواعد وآداب ؟ فقال : نعم .

الشرائع والقواعد والآداب إذن ضرورة اجتماعية . ضرورة بمعنى أن الاستغناء عنها محال .  واجتماعية بمعنى أنها ترد على العلاقات بين الأفراد وليست تنظيماً لسلوك فرد بدون علاقة مع غيره وهو محال أيضاً .

إن هذه البدهية على أكبر قدر من الأهمية بالنسبة إلى فهم الموقف العلماني من الإسلام فهما صحيحاً . ذلك لآن الدعوة العلمانية مطروحة على المسلمين كما لو كانت دعوة إلى الاختيار بين الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام وبين حرية  المسلمين في أن يتبعوا ما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم ... الخ . وهو طرح مغالط او مغلوط . لأن أول ما سيهتدي إليه المسلمون ، حين يتركون ” أحرار في تدبير حياتهم على ما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم ، هو أن يضعوا لأنفسهم شرائع وقواعد وآداب ملزمة لهم جميعا " .

جوهر الدعوة العلمانية في مجتمع من المسلمين كما نراه هو أن تستبدل بالشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام شرائع وقواعد وآداب وضعية . فإذا لاحظنا أن الإسلام قد ترك المسلمين أحرارا في ان يضعوا لأنفسهم ما تهديهم إليه عقولهم من شرائع وقواعد وآداب في تلك المجالات الواسعة المتغيرة المتطورة التي لم يلزمهم الإسلام فيها بقاعدة وردت في نص محكم فإنا نعرف بسهولة أن المقصود من الدعوة العلمانية في مجتمع من المسلمين هو أن نستبدل بالشرائع والقواعد والآداب التي جاءت بها آيات محكمات في القرآن شرائع وقواعد وآداب وضعية . أي في جملة واحدة : تعطيل الشرائع والقواعد والآداب الإسلامية واستبعادها من حياة المسلمين . لا يقول كثير من أصحاب دعوة العلمانية في الوطن العربي كل هذا قولا صريحا كما فعل الشيخ علي عبد الرازق؛ ولكنهم يحتالون للوصول إليه احتيالا ، رئاء المسلمين ، ولهذا أسميناه نفاقاً .

144 ـ ومع هذا فان قولنا هذا لا يكون صادقا إلا إذا كان الإسلام قد جاء بشرائع وقواعد وآداب ملزمة . ولقد عرفنا أن أول مميز للشرائع والقواعد والآداب أن تكون واردة على علاقات بين الأفراد وليست تنظيماً لسلوك فرد بدون علاقة . فهل جاء الإسلام بتلك الشرائع ؟

لقد درج الفقهاء على تقسيم الأحكام الإسلامية إلى عبادات ومعاملات . ولا تثير أحكام المعاملات أية صعوبة في التعرف على طبيعتها التشريعية ، أي أنها واردة على علاقات بين الأفراد . إنما الذي قد يثير صعوبة في معرفة صلته بالعلاقات بين الأفراد  هو أحكام العبادات ، فعندما يقول واحد من أعظم الفقهاء المحدثين علما بالدين والدنيا وأحكمهم منطقاً مثل الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق ، في كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة " ، إن العبادات هي ” العمل الذي يتقرب به المسلمون إلى ربهم ويستحضرون به عظمته ويكون عنواناً على صدقهم في الإيمان به ومراقبته والتوجه إليه " ، وأن المقصود من العبادات هو " تطهير القلب وتزكية النفس وقوة مراقبة الله التى تبعث على امتثال أوامره " ، تبدو أحكام العبادات كما لو كانت واردة على علاقة كل مسلم بربه ومقصورة على هذه العلاقة أمراً وأثرا . ويصعب علينا أن نذهب إلى غير ما ذهب إليه إمام جليل كان بمثابة أستاذ أضاءت أفكاره النيرة لجيلنا مدارج الفهم الصحيح للإسلام .

ولكنا تعلمنا من القرآن أن الله غني حميد ، وأنه سبحانه ( رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ) جملة وجمعاً . ولم نهتد في القرآن إلى خطاب آمر أو ناه موجه إلى فرد إلا ما كان خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام ، أو ما جاء في قصص القرآن . أما غير هذا الخطاب الآمر أو الناهي موجه إلى جمع بصيغ الجمع أو المفرد النكرة الذي يفيد الجمع . فهم المؤمنون والمؤمنات ، أو هم من آمن بالله واليوم الأخر . ففهمنا اجتهادا أن كل الأحكام التي جاء بها الإسلام واردة على علاقات جماعية بين الأفراد وليس على علاقة فرد بربه ، بما فيها أحكام العبادات  .  هذا بدون إنكار لما عدده الإمام الأكبر من حكم العبادات حين قال إن المقصود بها تطهير القلوب وتزكية النفوس وقوة مراقبة الله التي تبعث على امتثال أوامره . إذ عندما تكون أوامره سبحانه وتعالى و نواهيه غير المتعلقة بالعبادات ، واردة على علاقات ببن الأفراد ، فأن أحكام العبادات ذاتها تكون ” إعداداً" للفرد ليكون ” صالحا ” في علاقاته مع الآخرين امتثالا لأوامر الله .

ثم نتأمل العبادات وأحكامها . أما العبادات فهي ما يعرف بأركان الإسلام الخمسة : شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، والصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج . وهي جميعا فروض ملزمة لكل مسلم متى توفرت في المسلم شروط التكليف بها . أما عن الشهادة فهي على النفس دون الغير .  أما الصلاة فهي صلاة بالنفس دون الغير . أما الزكاة فتخرج من مال النفس دون الغير . أما الحج فهو عند استطاعة النفس دون الغير . إنها جميعا عبادات لا يتوقف أداؤها إلا على المكلف بها فتبدو أعمالا " فردية " أو " خاصة " غير ذات علاقة بالمسلمين الآخرين .

ولكنا نعتقد أن الأمر على غير هذا، وأن تلك العبادات تنشئ وتدعم علاقات اجتماعية بين كل مسلم وباقي ا-لمسلمين ، تترتب عليها آثار ملزمة في حياتهم .

فشهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ليست مجرد تعبير عن الإيمان بالله ورسوله الذي يمكن أن يتحقق بدون التعبير عنه ، وإنما هي إعلان من الشاهد بقبول انتمائه إلى النظام الإسلامي بكل ما يترتب على هذا الانتماء من حقوق وواجبات ، والتزام بالشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام . لهذا لابد من الجهر بالشهادة . أما الشهادة المكتوبة فلا تكفي لثبوت الإسلام . ( قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وإنا معكم من الشاهدين ) ( آل عمران : ٨١ ) .

أما الصلاة فلا تصح إلا إذا ولى المسلم وجهه شطر القبلة التي يولي باقي المسلمين المصلين وجوههم شطرها . (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ( البقرة : ١٤٤ ) . يصلي المسلمون فرادى وجماعات ، وتختلف أركان الأرض توقيتا ، ولكن صلاة كل منهم لا تصح إلا بالتقائها مع صلاة الآخرين في الاتجاه إلى بقعة واحدة من الأرض .

أما عن الصوم فلو كان فرضا فردياً أو ” خاصا ” بعلاقة المسلم بربه لجاز ان يختار كل مسلم شهر صومه دون ان ينتقص ذلك من آثار الصيام في تطهير القلب وتزكية النفس وصحة البدن . ولكن الإسلام قد فرض على كل مسلم أن يصوم الشهر ذاته الذي يصومه باقي المسلمين ، وعينه بأنه شهر رمضان . فهو عبادة ” جماعية ” .

أما الزكاة فليست مجرد تطهير وتزكية للمسلم ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ) ، ( التوبة :١٠٣ ) . ليست مجرد أخذ من مال المسلم ، ولكنها أخذ من المسلم  لإعطاء الآخرين ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وبن السبيل فريضة من الله ، والله عليم حكيم ) . ( التوبة : ٦٠ ) . والأمر من الحج أظهر . فهو ليس زيارة الى بيت الله الحرام يقوم بها السلم القادر ويتم مناسكها ، فتلك ” العمرة ” ، ولكنه فرض على كل مسلم استطاع إليه سبيلا أن يجتمع مع باقي المسلمين في مكان واحد في وقت واحد ليشتركوا جميعا في آداء مناسك واحدة .

وهكذا يتضح ، كما نعتقد ، أن كل العبادات في الإسلام ” جماعية ” لا بمعنى أنها مفروضة على الجميع ، ولكن بمعنى أن أداءها يتم جماعيا : فهي لا تصح من المسلم إن فقدت ركن الجماعية فيها . أن يشهد بينه وبين نفسه . أن يصلي في أي اتجاه . أن يصوم في أي شهر . أن يخرج من أمواله الزكاة ولا يعطيها لأحد ( يهلكها مثلا ) . أن يحج في غير الوقت المحدد لاجتماع المسلمين ( يعتمر مثلا ) .

الفروض ملزمة لكل مسلم مكلف سواء عرف الحكمة من فرضها أم لا . والحكمة هي الأثر الذي أراد الله تعالى له أن يتحقق بأداء الفرض . وحيت لا يأتي النص مبينا الحكمة يجتهد في بيانها المجتهدون ويختلفون في اجتهادهم ولكن كثيرا منهم يذهبون بشكل عام إلى التمييز بين الآثار الدينية والآثار الدنيوية . فتكون الحكمة من كل فرض تحقيق مصلحة دينية أو مصلحة دنيوية . والدارج أن الحكمة من العبادات تحقيق مصالح دينية ولهذا أسميت عبادات . أما وقد رأينا كيف أنها عبادات  جماعية فإننا نعتقد أنه من المصالح ، أو الحكم المقصود تحقيقها بأداء الفروض مصلحة أو مصالح دنيوية ، والله غني عن عباده وما يعملون .

إن تكن العبادات تطهيرا للقلوب وتزكية للنفوس فحكمتها إصلاح الإنسان حتى يبقى صالحا للعمل الصالح في الدنيا كما قلنا من قبل . ثم يأتي الركن الجماعي للعبادات ليكشف عن حكمة نراها لازمة لصلاح كل مسلم وفلاح المسلمين معا . أولئك المسلمون الذين يتوزعون مكاناً في أركان الأرض ويفترقون مصالح ويختلفون عقولا وأهواء وشهوات وينتمون إلى جماعات من أسر أو عشائر أو قبائل أو شعوب أو أمم متفرقة ومتمايزة ، ولكنهم حيت يكونون لا تصلح حياتهم إلا حيث يكونون قابلين قادرين على العمل الجماعي بحكم أن الناس جماعات ، وكبح  جماح النزوع الفردي بحكم أن الفرد من غير جماعة محال . فجاءت العبادات في الإسلام تهذيبا للنزوع الفردي " الغريزي " ، وتدريبا لكل مسلم على قبول وممارسة العمل الجماعي : بأن يشهد للناس بألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ؛ بأن يصلي مع ” الناس ” جماعة ما أمكن ذلك ، ولكن في كل الحالات أن يتجه الى القبلة التي يتجه إليها الناس ؛ بأن يصوم الشهر الذي يصومه الناس وأن يفطر معهم ؛ بأن يخرج من أمواله زكاة لمن يستحقها من الناس ؛ بأن يحج في الوقت الذي يحج فيه ” الناس ” ، وإلى المكان الذي يحج إليه الناس . بأن يشترك مع الناس في كل هذه العبادات سواء كان يعرفهم أو لا يعرفهم ، له مع أحد منهم ، أو مع بعضهم ، مصلحة أو ليس له ، ينتمي إليهم أسرياً أو عشائريا أو قبليا أو شعوبيا أو قومياً أو لا ينتمي . ذلك لأن الواقع من أمر هذه الحياة الدنيا أنه يعيش مع الناس ولا يستطيع الا أن يعيش معهم ، فله مصلحة دنيوية متحققة يقينا في أن يربي نفسه على أسلوب الحياة الدنيا : أسلوب العمل الجماعي ،  " لا غير " .

والله أعلم .

145 ـ كان ذلك عن العبادات وأولى به أن يقال عن الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام لتنظيم المعاملات . فالمعاملات علاقات دنيوية يبن الأفراد بدون شبهة . ومع ذلك يقول الشيخ علي عبد الرازق في كتابه " الإسلام وأصول الحكم " : ” إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هي شرع ديني خالص لله تعالى ولمصلحة البشر الدينية لا غير . وسيّان أن يكون فيها للبشر مصلحة مدنية أم لا ، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه ولا ينظر الرسول " ( ص ٨٥ ) .
وهو قول نراه غريبا مريبا . فلنختبر صدقه .

قـصة حيـاة مسلـم  .

146 ـ حينما يدور الحديث المرسل عما جاء به الإسلام من شرائع يلتفت المتدحثون إلى نماذج العقوبات التي وردت في القرآن جزاء على خرق قواعد الحدود . يلفت إليها أن بعضها ، مثل الجلد والرجم وقطع اليد ، لم تعد اليوم من بين العقوبات التي تفرضها القوانين الوضعية . لسنا نريد أن نخوض في هذا الآن لأنه يطول ، ثم يتوقف على أية نظرية تقوم مشروعية الجزاء ، وهي . نظريات متعددة . يكفي أن ننبه إلى أن نظرية الجزاء في الإسلام لا تقوم على أساس الانتقام قال تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) { البقرة : 179 } ( الاحتفاظ للجرم بجزاء شخصي في الآخرة ، واستبدال الدية بالعقوبة والتوبة ، والعفو ) بل هي ، مثل كل أحكام الإسلام ، قائمة على ما يحقق مصالح البشر ، أو حماية المصالح كما يقال في فقه القانون الجزائي ، وذلك بالزجر الكافي والمناسب اجتماعياً للمحافظة على قوة الإلزام في القواعد الآمرة أو الناهية وهي " الحدود " أي الفوارق بين الحلال والحرام ، وإن كان قد جرى إطلاق كلمة الحدود مجازاً على العقوبات . وإذا كان " لا اجتهاد في الحدود " فليس لأحد أن يبيح ما هو محرم فإن تقدير الجزاء الكافي والمناسب على خرق الحدود قابل للاجتهاد ، وفيما يؤكد نفاذ القواعد ويحمي المصالح في كل الظروف المتغيرة . من هنا فليس دقيقاً فيما نرى ، أن يقال إن عمر بن الخطاب قد عطل حدّ السرقة عام المجاعة . فما كان له أو لغيره أن يبيح ما حرّم الله . ولكنه رأى في ظروف معينّة أن جزاء قطع اليد لا يؤدي غايته في الزّجر وحماية المال . ويدخل في هذا كل ما اجتهد الأئمة في اشتراطه للمسؤولية عن الجرائم فهي شروط متعلقة بإيقاع الجزاء وليس بشرعية الفعل . هذا يكفي الآن حتى لا يغيب عن الانتباه أن الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام ليست مقصورة على الجرائم والمجرمين بل هي تنظيم لعلاقات الناس وهم يمارسون حياتهم العادية السوية ، فتربط بينهم وتحيلهم إلى مجتمع إسلامي  . 

لنأخذ مثلا من حياة مسلم سويّ :

147 ـ  كان صاحبنا يتبع ما يهديه إليه "عقله ومصلحته وهواه وشهوته " ثم شهد بألاّ إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فأصبح  مسلما : له على المسلمين حقوق المسلم وعليه للمسلمين واجبات المسلم . إنه منذئذ لا يستطيع أن يتبع ما يهديه إليه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " وإنما عليه أن يتبع " الشرائع والقواعد والآداب " التي جاء بها الإسلام . فإن لم يفعل ردّه المسلمون إلى ما يتفق مع الإسلام وأوقعوا به الجزاء الذي يردع غيره . 

كيف ؟ 

هداه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " إلى أن " يعاشر " امرأة معينة وارتضت هي معاشرته على هدى عقلها ومصلحتها وهواها وشهوتها . لو تركا لما اهتديا إليه لتعاشرا . فيقول الإسلام لهما : لا . تعاشرا زواجاً وليس سفاحاً . ( محصنين غير مسافحين ) { النساء : 24 } . فيقبلان الزواج . ولكن قبل أن يشرعا فيه يقدم لهما الإسلام قائمة بنساء موصوفات ليرى صاحبنا ما إذا كانت المرأة التي اختارها من بينهن أم لا . فإن كانت من بينهن فلا زواج ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، إنه كان فاحشة ومقتاً ، وساء سبيلاً . حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ، إن الله كان غفوراً رحيماً . والمحصنات من النساء ) { النساء : 22 - 24  .ولقد يتحقق صاحبنا من أن المرأة التي اختارها وارتضته زوجاً ليست من بين قائمة المحرّمات ، لأنه هو نفسه كان قد تزوجها هي نفسها من قبل وطلّقها ثلاث طلقات . وقد هداه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " إلى أن يتزوجها مرة  أخرى وقبلت هي . الإسلام يقول : لا . ( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ) { البقرة : 230 } . فلا يتزوجها صاحبنا بصرف النظر عن عقله ومصلحته وهواه وشهوته  .

ولقد يضيق صاحبنا بالانتظار فيختار امرأة أخرى وترتضيه هي زوجاً بعد أن يعرف من أمرها أنها كانت إلى عهد قريب زوجاً لغيره . فيتعجل الزواج فيقول له الإسلام  لا . لا تتعجل . إن كانت مطلقة فعليك أن تتأكد أولاً من أنها غير حامل من زوجها السابق ، ثم تتأكد ثانياً من أنه انقضت على طلاقها ثلاثة أشهر وتعدّ الأيام عدّاً ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) { البقرة : 228 }  فتأخذ صاحبنا الفرحة إذ أن من اختارها لم تكن مطلقة وإنما توفّي عنها زوجها منذ أربعة أشهر ويهم بالزواج قيقول له الإسلام : لا . ليس قبل عشرة أيام أخر . ( والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ) { البقرة : 234  .

وينتظر صاحبنا عشرة أيام لا تنقص يوماً واحداً . ثم قد يهم بها وتهم به ، فيقول لهما الإسلام : ليس قبل العقد ، لأن الزواج ليس فعلاً بل هو عقد وميثاق غليظ . ( وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ) { النساء : 21} . وقد يسر لصاحبنا " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " بتساؤل : وما الفرق ؟ إن الفرق الآن أنّ العقد لا ينعقد إلاّ برضاكما ، نحن راضيان . لا . لا بدّ من أن يشهر العقد ليعلم الناس أنكما راضيان . ثم إن عليك أن تدفع لها مهراً . ( وآتوهن أجورهن بالمعروف ) { النساء : 25 } . كم ؟ . . لا يهم . إنه رمز الالتزام وليس ثمن بضاعة تشترى ثم إن العقد يلزمك أنت بالنفقة ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) { النساء : 34 } من مالك أنت ، وليس من مالها هي . ( فلا تأخذوا منه شيئاً ) النساء : 20 } . إلا إذا رضيت هي . ( فإن طبن لكم عن شيء منه فكلوه هنيئاً مريئاً ) { النساء : 4 } ثم انه قد تكون بينكما شروط غير ممنوعة . مثل ...؟  مثل أن تحتفظ هي لنفسها بحقّ  فسخ الزواج . أما الفروق الأخرى فستعرفها في مستقبل حياتكما الزوجية إن شاء الله  .

وينعقد العقد ويفرح العروسان ويشهران زواجهما بأن يدعوا الأهل والأصحاب إلى وليمة عامرة بكل طعام وشراب اهتديا إلى أنه يسر المدعوين " عقلاً ومصلحة وهوى وشهوة " فلا يتركهما الإسلام إلى ما اهتديا  . إذ يراهما يكادان يسرفان إنفاقاً فيأمرهما بعدم التبذير . ( إن المبذّرين كانوا إخوان الشياطين ) { الإسراء :27 } أو يكادان يقتران فينّبههما الإسلام إلى أن منع التبذير لا يعني إباحة التقتير : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) { الفرقان : 67 } ؛ ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) { الإسراء : 29 } .  فيهتديان ويولمان  .

ويراجع الإسلام قائمة الطعام والشراب خشية أن يكون " العقل والمصلحة والهوى والشهوة " قد دسّت في الشراب خمراً ( أو مخدّرات ) ( يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) { المائدة : 90 } أو دسّت في الطعام مما حرّم على المسلمين ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ){ المائدة : 3  . 

148 ـ وتجري الحياة بالزوجين على قاعدة المساواة بينهما . ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) { البقرة : 228 } . والتعاون على ما فيه حفظ المودة والرحمة بينهما ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) { الروم : 21 } . ( هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن ) { البقرة : 187 } ، بدون عدوان ، ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) { المائدة : 2 } . ويترك لهما بعد ذلك أن يدبّرا حياتهما معاً على ما يرضيهما بدون شذوذ عما تجري به أفضل التقاليد في مجتمعهم ( وعاشروهن بالمعروف ) { النساء : 19 } . ويحذّر صاحبنا خاصة من نزوات " هواه وشهوته " . ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) { النساء : 19 } . فإن اختلفا حتى كادا يفترقان فعلى أهلهما التدخل لإنهاء الخلاف صلحاً : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ، إن الله كان عليماً خبيراً ) { النساء : 35 } ؛ ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً ، والصلح خير ) { النساء : 128 } . ويحذر الإسلام الزوجة خاصة من أن تبالغ فيما تحمّل زوجها من نفقات نزقاً أو تظاهراً بثراء غير متحقق ، إذ ليس عليه إلا ( رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، لا تكلف نفس إلا وسعها ) { البقرة : 233 } . ثم يأمرهما معاً بألا يصلا فيما ينفقانه إلى حد التبذير : ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، وكان الشيطان لربه كفوراً ) { الإسراء : 27 } . وفي هذه الحدود ( لينفق ذو سعة من سعته ) { الطلاق : 7  }  

149 ـ  فإذا لم يستطيعا بعد كل هذا أن يعيشا معاً فلا إكراه في الزواج كما لا إكراه في الدين . ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) { البقرة : 229 } . ويأمر الإسلام بالثقة في صدق أسباب الافتراق إذا كانت الزوجة هي التي أرادته فيكون الفراق بائناً . ولكنه يحتاط ضد نزوات هوى الرجل فيأمر بأن ( الطلاق مرتان  )  { البقرة : 229 } فإذا أعاد إليه مرة ثالثة ( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ) { البقرة : 230 } . وللزوجة دائماً حق إنهاء العلاقة الزوجية بالخلع ، أو إذا احتفظت به في العقد ، أو إذا كان استمرار الزواج يسبب لها ضرراً ( فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ) { البقرة :  231}  .

150 ـ  ولكن صاحبنا لا ينفصل عن زوجته لأنه لا يتبع مجرد ما هداه إليه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " حينما يتعارض مع الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام منظمة للزواج وفيما بين الزوجين ، بل يستمر وينجب بنين وبنات يتأدبون بآداب الإسلام التي قرنت بين الإيمان بالله وعدم الشرك به وبين الإحسان بالوالدين . ( لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ) { البقرة : 83 } . ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) { النساء : 36 } . ( قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) { الأنعام : 151 } . ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ، اما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربيّاني صغيراً ) { الإسراء  : 23 ، 24 } . ولكن في حدود الإيمان بالله : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسناً . وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) { العنكبوت : 8  }   .

ولقد تشبّ لصاحبنا ابنة ويجيء إليه من يخطبها ، فتقبل ، ولكنه حين يتشاور مع زوجته يتفقان على إرجاء الزواج . فيقول هو حتى تكمل تعليمها ، وتقول هي : ولتبقى تساعدني في المنزل في غير أوقات الدراسة . ويتّبعان ما هداهما إليه عقلهما ومصلحتهما ، وتغيب عنهما نواميس الحياة التي يحجبها الحياء ، فيردّهما الإسلام إلى ما غاب عنهما . ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً ) { النور : 33 } فيفهم الزوجان ما أراد الله أن ينبّه إليه . فيأذن الوالد وينعقد العقد ويبدأ تكوين أسرة جديدة طبقاً لذات الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام وحكمت حياة أسرة صاحبنا . 

151 ـ غير انه ما تكاد الأسرة الجديدة تتكون حتى ينهدم ركن أسرة سابقة . فقد يجيء الخبر بوفاة والد صاحبنا ويحزن صاحبنا هو وأقاربه ثم يجتمعون ليروا ماذا يفعلون بما ترك المتوفي من مال . ويكادون يقتسمونه على ما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم وأهواؤهم ، ويدّعي كل واحد بأنه قد أبرّ المتوفي أكثر من غيره ، أو أن المتوفي كان يبرّه أكثر من الآخرين ، ويحتج بعضهم بأنهم أشد حاجة إلى المال من غيرهم ، ويتساءل أحد الحاضرين عما يكون من أمر الصغير اليتيم ابن المتوفي . ويكادون يتنازعون . فلا يتركهم الإسلام لعقولهم ومصالحهم وأهوائهم بل يقول لهم : أولاً : لا يرث أحدكم شيئاً قبل أن يستوفي غير الوارثين حقوقهم . إذ لا ميراث إلا ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) { النساء : 12 }  ثانياً : أما بعد ذلك فدعكم الآن من عقولكم ومصالحكم وأهوائكم التي لا تتفق أبداً ، واقتسموا المال الموروث طبقاً لما يلي : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كنّ نساءّ فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ، فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، من بعد وصية يوصي بها أو دين ، آباؤكم وأبناؤكم ، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله ، إن الله كان عليماً حكيماً ) { النساء : 11 } . ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد ، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ، من بعد وصية يوصين بها او دين ، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ، وإن كان رجل يورث كلالة ، أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ، من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار ، وصية من الله ، والله عليم حليم ) { النساء : 12 } . ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، إن امروء هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ، وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذّكر مثل حظ الأنثيين ، يبين الله لكم أن تضلوا ، والله بكل شيء عليم ) { النساء : 176 }  فيأخذ كل صاحب حق حقه . ويمر ذلك الحدث بسلام دون أن يكون سبباً في الخلاف أو الفرقة او النزاع بين الأقرباء . فحتى الذين لا يصيبون من مال المتوفي شيئاً لا يتهمون من يصيبون منه بأن قد ظلموهم . ذلك لأن تلك شرائع الإسلام لا يضعها أحد منهم طبقاً لما يهديه إليه " عقله ومصلحته وهواه " ولا يفرضها على غيره . ولو يتركون لعقولهم ومصالحهم وأهوائهم  يتّهم بعضهم بعضاً . ولو يستبدلون بهذا النظام نظاماً موضوعاً يضعه الأقوى ويفرضه على الآخرين ، قد يبدلّون فيه من حين إلى حين تبعاً لتقلّب مصالحهم وأهوائهم وقوتهم  .

152 ـ  ثم ان الأقرباء الذين لا يصيبون من التركة ميراثاً لا يحرمون منها إن كانوا محتاجين ، لا هم ولا أولئك الذين لا يخفى عليهم ما راب في ثروة صاحبنا من بعد الميراث بحكم الجيرة . فصاحبنا مسلم وقد أمر بما أمر به المسلمون .  ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ) { النساء : 36 ، 37 } . ذلك لأن في مال المسلم القادر حقاً لمن حرم منه وسأله ، حتى لو لم يكن من ذوي القربي ( وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) { الذاريات : 19 } . على أي حال فإن ذوي القربى الذين لا يصيبون شيئاً من التركة ميراثاً ويحضرون قسمتها فيما بين الورثة يصيبون منها ما يرضيهم قلّ أو كثر ، نفاذاً للشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام . ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر ، نصيباً مفروضاً . وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفا ً) { النساء : 7 : 8   .} ويخرج كل هذا من نصيب صاحبنا . 

153 ـ أما نصيب أخيه القاصر اليتيم الذي وضع تحت وصايته فقد حرمت عليه الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام المساس به قلّ أو كثر . بل عليه أن يديره لحساب  صاحبه أحسن ما تكون الإدارة وأن يرده إليه حينما يبلغ الرشد كاملاً غير منقوص . ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ، وأوفوا بالعهد ، إن العهد كان مسؤولاً ) { الإسراء : 34 } ، بعد أن يقدم إليه حساباً عن كيف تسلّم المال ، وكيف أداره وكيف تطور زيادة أو نقصاً بين يديه وما إذا كان قد اقتطع منه اجر إدارة أم لا . ذلك لأن شرائع وقواعد وآداب الإسلام لا تكافئ مدير مال اليتيم بأجر إلا أن يكون فقيراً . ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ، ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيباً ) { النساء : 6 } . 

154 ـ  ذلك ما يكون من أمر صاحبنا في علاقاته بزوجه وبنيه وأقاربه وما يتداول فيما بينهم من مال ، مهراً أو ميراثاً أو وصية أو إحسانا ، أي علاقاته بأفراد أسرته والأقربين منه قرابة عصب أو قرابة رحم أو قرابة جيرة  .

أما العلاقة مع الآخرين ، مع الناس ، فهي علاقة عقود ( اتفاقات إرادية بين الراشدين بدون إكراه أو غش )  . ما هو محل أو موضوع أو مضمون تلك العقود ؟ يختلف الأمر في الزمان والمكان ، فلا نستطيع أن نتابع علاقات صاحبنا مع غيره إلا أن نعرف في أيّ مجتمع يعيش وفي أيّ زمان كان مجتمعه . ولما كانت الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام غير مقصورة على مجتمع معين أو زمان معين فإنها لم تأت مفصلة الأحكام ، ولكنها  - مع ذلك - لم تترك الناس لما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم واهواؤهم وشهواتهم ، بل فرضت قواعد من النظام العام يكون على صاحبنا أن يلتزمها أيّان كان  .

 فمصدر الرزق هو الطبيعة : الأرض والسماء والبحار والأنهار والأنعام . . . الخ ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ) { البقرة : 29 } . ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) { لقمان : 20 } . ( يأيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ) { البقرة : 168 } . ( ولقد مكّناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) { الأعراف : 10 } . . . الخ  .  

أما سبب الرزق فهو وحده العمل . ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) { النجم : 39 } . ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) { التوبة : 105 } . ولقد حرم الإسلام ثلاثة أنواع من الكسب تأتي جميعاً بدون أن يخالطها عمل . الأول الربا : ( أحل الله البيع وحرّم الربا ) { البقرة : 275 } . والثاني المقامرة . ( يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيكان فاجتنبوه ) { المائدة : 90 } والثالث المال غير المستحق بصرف النظر عن سبب عدم استحقاقه . ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) { البقرة : 188 } . أما الميراث فهو فائض تراكم عمل المتوفي بعد وفاته يؤول إلى من كان يعلم أنه آيل إليهم فكان - على وجه - يعمل لهم  . على صاحبنا بعد ذلك أن يرتزق بعمله ما يشاء . عمله الحالي ، أو الناتج المتراكم من عمله السابق ، وأن يتملكه . ولما لم يكن صاحبنا ولا غيره بقادر على أن ينتج وحده كل ما يحتاج الى استهلاكه ، فإنه يتبادل الخدمات والمنتجات مع غيره من العاملين والمنتجين . وكل تبادل عقد . وكل وعد بالتبادل عقد . وكل تبرع عقد . وكل فسخ للعقد هو عقد . وكل وفاء بعقد هو عقد . وهكذا يكتشف صاحبنا أن حياته كلها بكل ما فيها من علاقات مع الآخرين هي سلسلة لا نهائية من العقود المتجددة أبداً وأنها ليست إلا حلقة من سلسلة العلاقات الاجتماعية التي تشد الناس بعضهم إلى بعض حتى تحيلهم مجتمعاً بعد أن كانوا أفراداً ، وتقيد - في الوقت ذاته - بعضهم لحساب بعض ، فتحيا علاقاتهم نظاماً بعد أن كانت أهواء . وتجعل حياة كل واحد منهم متوقفة على حياة الآخرين ، فتحول دون " الفردية " التي تريد أن تخلي بين الفرد وبين ما يهديه إليه " عقله ومصلحته وأهواؤه ونزواته " .

يتذكر صاحبنا كلّ هذا كلّما قضم لقمة من خبز حصل عليه وفاء بعقد ؛ من تاجر أعد له مكاناً للبيع وفاء بعقد ؛ حمله إليه حامل وفاء بعقد ؛ وطحنه طحّان وفاءً بعقد ؛ في مطحنة يعمل فيها كل عامل وفاء بعقد ، ويديرها مدير وفاء بعقد ، ويحصّل أجور الطحن فيها صرّاف بعقد ، ويحمل الحب اليها ناقل وفاء بعقد ، تسلمه ممن حصده وفاء بعقد ، بعد أن كان رواه راو وفاء بعقد ، وزرعه زارع وفاء بعقد ، وحرسه حارس وفاء بعقد ، في أرض استغلها وفاء بعقد ، ليحصل من وراء ذلك على مال يوفي منه عقد شراء لقمة من خبز يقضمها .  وما كان للأول أو للأخير أن يقضم لقمة من خبز حين يجوع ، أو يشرب شربة ماء حين يعطش ، أو يلبس ، أو يسكن ، أو يطبب أو يداوي ، أو يعلّم أو يتعلّم ، أو يخترع أو يصنع ، أو يستهلك ، أو حتى ينام آمناً ، لو لم يكن مئات الألوف من الناس الذين لا يعرفهم كافة قد أوفوا بعقود قد عقدوها . فتكتفي الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام بأن تأمر بالمحافظة على سلامة هذه السلسلة اللانهائية من العلاقات الاجتماعية التي تنظم الأفراد فتحيلهم مجتمعا منظماً فتأمر المؤمنين جميعا أمراً : ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) { المائدة :1  .

وتزيد فتأمر بما يحول دون إعاقة الوفاء من نسيان أو مماطلة أو جشع فتأمر بالكتابة في الديون المؤجلة : ( إذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه ) { البقرة : 282 } . وتأمر بالرهن الحيازي في المنقول لضمان الوفاء في حالة غياب المدين ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة ) { البقرة : 283 } وتأمر بأن يكون البيع مشهودا : ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) { البقرة : 282 . } .

155 ـ  نكتفي بما تقدم من حياة مسلم ، تجري هادئة بدون أن يتعرض للعقوبات الجزائية . ولو شئنا لتتبعنا حتى يقضي توجهه مجموعة كثيفة من الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام . ولكن هذا يطول . ولقد رأينا كيف أن كل ما ضربناه مثلاً من الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام قد جاءت في صيغ آمرة أو ناهية أو مكملة . نعني بالمكملة ما تنظم أمراً إذا وقع بإرادة صاحبه ، ولكنها تترك أمر وقوعه أو عدم وقوعه لاختيار المسلمين . كما رأينا أن كل الشرائع والقواعد والآداب واردة على علاقة اجتماعية ، ثنائية أو جماعية ، وبالتالي فإن أمر التزامها أو إهدارها ليس متروكا لاختيار أحد أطرافها ، فرداً كان أو جماعة على ما تهديهم  إليه " عقولهم ومصالحهم وأهوائهم ونزعاتهم " . كلا . ان يلتزموها يستوفهم شركاؤهم فيها إلى التزامها ولو قتالاً . فتـنــبــثق " السلطة العامة " كضرورة اجتماعية لحراسة النظام وفرض نفاذ قواعده ولو بالإكراه . من هنا تعرف أن التكليف الصريح بإقامة سلطة عامة تزيّد غير بليغ ما دام الأمر قد جاء بأسبابها الموضوعية .

اما كيف تقوم هذه السلطة العامة ، فيتوقف جوابه على ماهية كل مجتمع وظروف الناس فيه المختلفة مكاناً ، المتطورة زماناً . فيكتفي الإسلام بما هو صالح للمحافظة على قاعدة المساواة بين الناس في أي مجتمع ، في أي مكان ، وفي أي زمان : الشورى: ( وأمرهم شورى بينهم ) { الشورى : 38 } . والعدل ( واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) { النساء : 58 } . وكلاهما " نظام " ، لهذا جاء التكليف به خطاباً للجماعة .  فالشورى نظام إجرائي لاتخاذ متعددين متساويين قرارت موحّدة . فهي غير مقصورة على تبادل العلم بمشكلة مشتركة ، ولا على تبادل المعرفة بحلولها المحتملة وأساليب تحقيقها ، ولكن هي في النهاية تعيين القرار الذي يرى كل مشارك أنه الحل الصحيح للمشكلة المعروضة وذلك " بالإشارة " به على الآخرين . والأمر بالشورى قطعي الدلالة على تحريم الاستبداد من ناحية ، ووجوب الشورى من ناحية أخرى ، في كل أمر ، أيا كان مضمونه ، يخص جماعة ، أيا كان عددهم . فيصبح إسناده إليهم فهو " أمرهم " جميعا وليس أمر أحد غيرهم  .

أما القرار الذي تسفر عنه الشورى فهو ملزم لكافة الشركاء في الأمر، للأسباب التي تحدثنا عنها من قبل ( فقرة 77 ) . فإن كان القرار مما لا ينهض به كل أصحابه ، دخل اختيار من يتولى القيام على تنفيذه في نطاق الشورى ، فإن اختاروه ، ثم قبل ، أصبح وليّ ذاك الأمر تفويضاً من أصحابه ملزماً بقرارهم وذلك من ناحيتين:

  الأولى ، أن مصدر شرعية ولايته تفويض محدد المضمون بالقرار ذاته ، فإن خالفه فقد شرعية الولاية  .

 الثانية ، ان مخالفة ما أسفرت عنه الشورى رجوع الى الاستبداد المحرّم أصلاً . فإن التزم حدود التفويض ، وما دام ملتزماً ، وجبت طاعته : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) {  النساء : 59 } . إذن هي طاعة الجماعة ، وإلا كان للجماعة أن تخلعه . أما كيف ؟ ومتى ؟ وأين ؟ ولماذا يتشاورون ؟ فمتروك لهم ، يلتمسون أصلح أسبابه في زمانهم ومكانهم مع جواز التفويض السابق والإجازة اللاحقة ، وفي هذا يكون أمرهم شورى بينهم أيضاً . إن الالتفات الى جواز التفويض السابق والإجازة اللاحقة يسهل فهم كيف كانت الشورى تتم على درجتين أو أكثر في الأمور المشتركة بين التجمعات القبلية إلى أن تصل إلى متحدث باسم القبيلة ، وكيف كانت تتم بين عدد محدود في مرحلتها الأخيرة وكيف كانت الثقة في القائد ، والمبادرة الى تنفيذ رأيه تفويضاً سابقاً أو إجازة لاحقة  . والعدل نظام إجرائي لبيان وجه الحق بين المختلفين فيه طبقا للقواعد المنظّمة لعلاقات الناس قبل الاختلاف وذلك بما يسمى الحكم " القضاء " ، ثم تنفيذ الأثر الذي ترتبه تلك القواعد في محلّه ولو بالإكراه . ويدهي أن كل هذا ، شورى وعدلا ، يجري ويدور في الحياة الدنيا . فالناس لا يتشاورون إلا في أمور الحياة . والناس لا يحكمون بين الناس إلا في الحياة . فكلاهما ، الشورى والعدل ، نظام للحياة الدنيا . ثم إنهما محددان بقواعد النظام العام الإسلامي ، فإن اختلف الناس فيما إذا كانا ، شكلاً أو موضوعاً - يتفقان أو لا يتفقان - وقواعد النظام الإسلامي كان فرضاً عليهم أجمعين أن يرجعوا إلى تلك القواعد في القرآن فثمة حكم الله : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)  {الشورى : 10} والناس لا يختلفون في شيء إلا في الحياة الدنيا  .

فما الذي يمكن أن يقال دفاعا عن شيخ العلمانية ؟

على أي حال ، وبغير حاجة الى مزيد من الحديث عن الشيخ علي عبد الرازق ، ومن أجل الإجهاز على مماحكات الذين يتقنون صياغة قوالب فكرية جادة ، أو تبدو جادة ، في البحث عن حلول صحيحة لمشكلات الحياة الواقعية في أمتنا العربية ، ويوهمون الشعب العربي بالثقة في إمكان تحقيق مستقبل أفضل بدون حاجة الى الإسلام ، سنثبت فيما يلي أن تلك الحلول الصحيحة لمشكلات الحياة الواقعية في أمتنا العربية ممكنة التحقيق ، ولكنها اذ تقترن بمناهضة الإسلام تصبح مستحيلة ، وبالتالي ، ان مناهضة الإسلام فكرا باسم مستقبل عربي أفضل ، هي في واقع الأمر مناهضة للمستقبل العربي الأفضل عملا .

التقدم والعلم . 

156 ـ وراء كل ما تقدم من حوار جدل حقيقة غير منكورة هي أن الشعوب والأمم المتعاصرة زمانا في هذا العالم لا تستوي تقدما ، حتى كاد يستقر أن البشر في هذا العصر ينتمون الى عالمين بينهما فجوة فارقة ما تزال تتسع بمرور السنين ، عالم المتقدمين وعالم المتخلفين . أما عالم المتقدمين فتنتمي إليه شعوب وأمم أوروبا وأمريكا الشمالية، واليابان من أقصى الشرق ، وأما عالم المتخلفين فتنتمي اليه بقية شعوب الأرض وأممها ومن بينها أمتنا العربية ، ولكن ما هو التقدم ؟

إنه تطور يغادر به مجتمع معین واقعا قاصرا عن إشباع حاجاته المادية والفكرية والروحية إلى مستقبل أفضل ، مستقبل أكثر مقدرة على إشباع تلك الحاجات ، ولما كانت تلك الحاجات متجددة أبدا ، فإن التقدم هو انتقال من أفضل إلى أفضل إلى ما لا نهاية نعرفها ، وإن إدراك هذا لعلى أكبر قدر من الأهمية ، ذلك لأن من بيننا نفرأ يتخذون من الواقع المتقدم المعاصر في بعض المجتمعات" هدفا " يريدون أن يتقدموا إليه ليصبحوا متقدمین . وهو عبث ، إذ أن هذا الواقع المتقدم ، لن يلبث ، حين يدركون مثله ، أن يكون قد تطور متقدما عما يدركون .. وهكذا في سياق عابث وخاسر معا ، مهما تكن حرارة ، أو حمى ، الرغبة في التقدم فإن كل مجتمع سيتقدم من واقعه ولا يستطيع إلا أن يتقدم من واقعه . والواقع المشهود أن المجتمعات مختلفة واقعا ، فمن العبث الخاسر القفز بهلوانيا ـ لا ندري كيف - فوق الواقع الاجتماعي لمجرد الرغبة في اللحاق بركب المتقدمين .. المتقدم أبدا . ثم ان المستقبل الأفضل لكل مجتمع هو ما يكون تطورا ناميا لواقعه ، وليس ـ بالضرورة ـ ما هو أفضل بالنسبة إلى مجتمع آخر لاختلاف مضامين الحاجات المادية والفكرية والروحية ، أو تمایزها ، من مجتمع إلى مجتمع ، نقول " ليس بالضرورة " لأن وحدة التكوين البشري في كل المجتمعات هي الإنسان ، وللناس كافة حاجات متشابهة مما يحفظ سلامة وجودهم المادي والعقلي والروحي ، هذا بالإضافة إلى أن العزلة المادية والفكرية والروحية بين الشعوب والأمم كادت تذوي أو تذوب فأصبح كل منها أكثر تأثيرا وتأثرا بغيره فتقاربت إلى حد ما معايير المفاضلة بين الواقع والمستقبل .

وهكذا لم يعد التقدم تطورا نحو غاية معينة المضمون بعيدا عن الواقع الاجتماعي ، بل عاد ليكون منهجا للتطور من أي واقع إلى أي مستقبل أفضل يسمونه المنهج العلمي ، وتقدم تجربة التطور في أوروبا ، منذ القرن السابع عشر دليلا مبهرا على مدى فاعلية المنهج العلمي في نقل مجموعة كثيفة من البشر من واقع اجتماعي بالغ الانحطاط والتخلف ، بالمقارنة بالشعوب والأمم التي كانت معاصرة لهم ، إلى واقع اجتماعي بالغ الرقي والتقدم بالمقارنة بالشعوب والأمم المعاصرة لهم ، في مجال كان مشتركا ، وما يزال مشتركا ، هو مجال " الطبيعة " .

ولنضرب مثلا :

157 ـ في ۲۲ كانون الثاني / يناير 1545 بدأ انتشار مرض الطاعون في مدينة جنيف بسويسرا فاعتبرته السلطة هناك نتيجة مؤامرة يقودها ساحر اسمه " لانتيل ” وأعوانه ، بأوامر صادرة إليه من قائده الأعلى ” الشيطان " ، فقبض على الرجل وسحل في الشوارع قبل أن تحرق جثته علنا ، بدون محاكمة ، وقبض على نحو أربعين من أعوانه وقدموا إلى المحاكمة " وقضي بإعدامهم حرقا ، فلما استفحل الداء وأصبح المرض وباء ، حتى بعد إعدام السحرة المتهمين ، لم يستطع أوروبي في جنيف أو غير جنيف أن يشك - مجرد شك كمقدمة للمعرفة - في أن السحر هو سبب الوباء ، فلم يخطر على بال أحد أن قد يكون للمرض سبب آخر سواء صح الخاطر أو لم يصح . ولم يفهموا من استمرار الوباء بالرغم من إعدام قائد المؤامرة وأعوانه إلا أن ثمة سحرة متآمرين لم تصل إليهم يد السلطة ، فاقتحم " الشعب " بيوت كل الذين أشارت إليهم شبهات أو اتهمتهم شائعات : نهبوا البيوت أولا ، ثم حرقوها ، ثم حرقوا المشتبه بهم ، أما خارج جنيف فقد أعدم السويسريون كل وافد إلى مد نهم من جنيف خوفا من أن يكون ساحرا متآمرا هاربا ... أما الآن ، فإنهم ينتقون بذور الأجنة ويزرعونها في الأرحام ، وتلد النساء منهم بدون ألم ، ويحفظون لأطفالهم حياتهم حتى يشبوا حفظا معجزا فلا يموت من كل ألف طفل منهم أكثر من سبعة ، بينما يتعرض الشعب العربي المعاصر، لعملية وأد جماعي عند المنيع البشري ، فيموت من كل ألف طفل عريي ۲۰۰ في اليمن الشمالية ، و150 في الصومال ، و 140 في اليمن الجنوبية ، و ۱۳۰ في عمان ، و ۱۲۰ في مصر، و۱۲۰ في السودان ، و ۱۱۰ في الجزائر، و ۱۱۰ في السعودية ، و100 في ليبيا، و100 في تونس ، و۸۰ في العراق ، و70 في الأردن ، و60 في سوريا ، و50 في الإمارات المتحدة ، و40 في لبنان ، و33 في الكويت ، أي بمتوسط يزيد على 100 طفل من كل ألف ( هيئة الأمم المتحدة - البنك الدولي - ۱۹۸۰) . وأنهم ليعرفون لكل داء دواء أو يكادون ، ثم انقلبوا " يرممون ” الأجسام المتهالكة ، ويستبدلون الأجزاء الهالكة ، ويزرعون القلوب ، ويمدون الأبصار فيرون النمل وهو على بعد آلاف الأمتار، ويمدون السمع فيسمعون دبيبه في أي من الأقطار ، ويمدون اللمس حتى يلمسوا الأقمار ، ويمدون خطاهم فيعبرون البحار والقارات في دقائق أو سماعات وينتقلون ما بين الأرض والسموات . وحين ضاقت عقولهم بما يعملون أضافوا بالعلم إلى عقولهم عقولا صناعية ... الخ . لقد سخروا الطبيعة تسخيرا . وما ضربنا من أمرهم إلا المثل الذي أفادوا به أنفسهم وأفادوا به البشرية معهم . ولم نضرب لهم مثلا شابا منهم يقتل في ثوان ، ۸۵۰۰۰ ، ویشوه مئات الألوف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال الأمنين ، وهو آمن . فهذه نهاية معلومة لبداية مسيرتهم في القرن السابع عشر وليست نتيجة خاتمة للتقدم العلمي ..

ذلك لأنه لا يهم الراغبين حقا ، الجادين صدقا ، تغيير الواقع العربي وتطوره على طريق التقدم الى مستقبل أفضل و من أين بدأ الأوروبيون وإلى أين انتهوا ، بل يهمهم ويكفيهم أن يعرفوا كيف استطاع بالغو التخلف تغيير واقعهم وتطويره فأصبحوا بالغي التقدم نحو ثلاثة قرون أو أقل . بالغو التخلف عنا في البداية ، وبالغو التقدم عنا الآن ، وقد كنا وهم ، دائمة متعاصرين .

158ـ کیف ؟ . . . يقولون : بالعلم . ولكن ما هو العلم ؛ إن أفضل جواب عرفناه هو ما قاله الباقلاني ( القاضي أبو بكر محمد ابن الطيب المتوفى عام ۱۰۱۳م) قال : " العلم هو معرفة العلوم على ما هو به "  ، فنعرف منه أن العلم حصيلة " معرفة " ظاهرة أو شئ "  على ما هو به " بدون إضافة أو نقص أو تزييف . يعني هذا أن للأشياء والظواهر وجودا موضوعيا سابقا على معرفتها ، وغير متوقف عليها ، وقابلا للمعرفة ، وترد هذه الحقيقة في الأدب الأوروبي تحت عنوان " المادية بمدلولها الفلسفي ، وليس بمدلولها الفيزيائي ، وهي أولى قواعد البحث العلمي التي قام عليها صرح التقدم في أوروبا ولم يزل ، ثم يرد سؤال : هل الأشياء والظواهر " على ما هي به "  قابلة للتطوير ؟ إنه سؤال لا تخفى خطورته ، إذ لو لم تكن قابلة للتطوير فإن أي حديث عن تطويرها لابد من أن ينقطع ، حيث التطوير هو تغيير الواقع إلى ما يريده الإنسان . وهو محال إلا إذا كانت حركة الأشياء والظواهر منضبطة بقوانين حتمية ( إذا حدث كذا ...  حدث كذا ، ذلك لأن ما نريد أن نغير الواقع إليه ( نطوّره ) لن يتحقق إلا في المستقبل ، بعد الواقع ولو بلحظة من الزمان ، لا بد منها لتتحول الفكرة في رؤوسنا إلى كلمة على ألسنتنا أو ما هو دون هذا زمانا . وتسمي في الأدب الأوروبي الحتمية أو الضرورة ، وتعتبر شرطا أوليا لنفاذ إرادة الإنسان في الأشياء والظواهر أو " الحرية ".  فالذين يعرفون قوانين الأشياء والظواهر ويحترمون حتميتها ، هم وحدهم الذين إذا أرادوا فعلوا أما الذين لا يعرفونها ، أو لا يحترمون حتميتها ، فيبذلون جهودا عشوائية لتغيير واقعهم أو يستسلمون للفشل . يقول الإمام محمد عبده :  " إن لله في الأمم والأكوان سننا لا تتبدل . والسنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون وعلى حسبها تكون الآثار ، وهي التي تسمی شرائع أو نوا میس ، ويعبر عنها قوم بالقوانين ، ما لنا ولاختلاف العبارات .. الذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر أصول هذا النظام حتى يردّ إليها أعماله وبيني عليها مسيرته ، وما يأخذ به نفسه . فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظر إلا الشفاء وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه ، أو اتصل بالمقربين سببه " (  الأعمال الكاملة . تحقيق الدكتور محمد عمارة - الجزء الثالث ) . كيف تمكن معرفة تلك القوانين أو السنن ؟ يقال في الأدب الأوروبي بملاحظة مفرد الشيء أو الظاهرة ورصد حركتها وما يؤثر فيها ويتأثر بها ، وإعادة التجربة في ظروف متغيرة حتى استخلاص القاعدة التي تطرد عليها حركته "  فيفترض"  أن هذه القاعدة هي قانونه النوعي العام ، ثم يعاد اختبار صحة هذا الفرض على مفردات من ذات النوع في ظروف أخرى ، فإن صدقت القاعدة أصبحت قانونا ، تعوّل إرادة الإنسان على حتميته ، ويعمل على تحقيق ما يريد بتغيير شرط نفاذ القانون" إذا ..." ليتغير الواقع على الوجه الذي أراده ( هذه خلاصة بالغة التركيز) - وفي التراث الإسلامي تسمي هذه العملية ، عملية اكتشاف السنن ، " الاستقراء والتجربة" ، يقول الإمام محمد عبده :  " هو ملاحظة الأثر في الجزئيات المتعددة في الأحوال المختلفة والأزمان والأمكنة المتباينة ، فإن هذا يصل اليقين بثبوت الحكم الكلي "  ( المرجع السابق ۲) .

هنا ، حيث يقف الإنسان المريد في مواجهة الطبيعة التي اكتشف قوانین حركتها ، تفترق المذاهب الأوربية في الجواب عن السؤال : أيهما يلعب الدور الأساسي في تحديد ما يحققه الإنسان من تغيير في واقعه . فمنهم من يرجح الطرف الفكري ( المثالية ) ، متأثرين في ذلك بافتراقهم " البيزنطي " في الجواب عن السؤال الأول : أيهما وجد أولا المادة أم الفكر ؟ ولكن التقدم العلمي لا يتوقف عند هذا الجدل الفلسفي ، بل يتقدم على أساس الثقة في عقل الإنسان ومقدرته على أن يلائم بین ظروفه المادية وبين إرادته . فهو قائد عملية التطور لا ريب بدون إخلال بقوانين أو سنن الطبيعة بل تسخيرها . فلا انضباط حركة الأشياء والظواهر بقوانين أو سنن حتمية تجبره على فعل ما لا يريد ، ولا هي تمنعه من أن يفعل ما يريد ، وإنما هي تعلق نجاحه في تحقيق ما بريد على ما يعمل مستخدما لحتميتها في تحقيق ما اختاره . يقول الشهرستاني ( أبو الفتح محمد بن أبي بكر ( 1086 ـ 1153 م ) : "  إن الله تعالى أجرى سننه بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له " وترد هذه العلاقة بين حتمية السنن التي لا تتبدل وبين حرية الإنسان في الفعل ، في كتب التراث تحت عنوان " القضاء والقدر " . وفيها قال الإمام علي بن أبي طالب في " نهج البلاغة " : " ان قضاء الله في الفعل الإنساني ليس لازما وقدره ليس حاتما " . وعلق الإمام محمد عبده قائلا :" القضاء علم الله السابق بحصول الأشياء على أحوالها في أوضاعها ، والقدر إيجاده لها عند وجود أسبابها ، ولا شيء منهما يضطر العبد لفعل من أفعاله " ( المرجع السابق ۲) ۔

159- من هذه القاعدة الأخيرة بدأ عصر النهضة الأوروبي بالتمرد على الجبرية " التي كانت تفرضها المؤسسة الكنسية على الناس ، ولهذا يقرن المؤرخون بین بداية عصر النهضة وبين الكشوف الرياضية والفيزيائية التي قام بها إسحق نيوتن (1642 ـ 1727) : ولم تكن فكرة القانون الطبيعي إلا تجريدا ميتافيزيقيا لإضفاء القداسة على البحث العلمي عن " قوانين الطبيعة " الذي أصبح عبادة الأوروبيين منذ القرن السابع عشر، و معابده من المعاهد والمعامل عرفوا " كيف" يسخرون الطبيعة تسخيرا .

ولقد تعمدنا أن نشرك بعض الأئمة المسلمين في الحديث عن منهج البحث العلمي لنلفت من يريد أن يلتفت من العلمانيين إلى ما ينبغي أن يعرضه على أقدم العلوم و أرسخها قدما : علم المنطق وقوانينه الحتمية . فقد يری ، حینئذ ، أن أولئك الأئمة المسلمين ما كانوا ليقولوا ما قالوا بأسلوبهم في التعبير، لو ان الإسلام يكرهه لهم ، ولا نقول يحرمه ، كما لم يكره لابن سينا ( ۹۸۰ - ۱۰۳۷ ) أن يبحث فيكتشف فيقول إن للأمراض عللا عضوية تداوي بالجراحة والعقاقير قبل محنة مدينة جنيف بأكثر من ستة قرون .

160 - والواقع من أمر الإسلام كما هو ـ بصرف النظر عن المذاهب الموضوعة والآراء المصنوعة - أنه لا يكره للمسلمين أن ينتهجوا البحث العلمي إلى المعرفة وأن يتوسلوا المعرفة إلى العلم ، وأن يستخدموا العلم في تسخير الطبيعة لما یریدون ، بل هو يحرضهم عليه ، ويهديهم إليه بآیات صريحة في القرآن ، والقرآن ليس كتاب علم من علوم التاريخ و الفلك و الرياضة و الفيزياء و الطب ... الخ ، كما يحاول أن يزعم الذين اشتدت عليهم حمي مناهضة الأوربيين . ولكنه كتاب هداية الناس الى كل ما يصلح لحياتهم و يصبحون به صالحین ،( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) : (البقرة : ۲) . ( طس ، تلك آيات القرآن و کتاب مبين ، هدى وبشرى للمؤمنين ) ، (النمل : ۲ ، ۱ ) ، (الم تلك آيات الكتاب الحكيم . هدى ورحمة للمحسنين ) . (لقمان ۱۳۱۱ ) ، ومن بين ما يهديهم إليه العلم ويرسم لهم من أجل ذلك منهاج البحث العلمي وأركانه كما ذكرنا من قبل .

161 - إن جانبا كبيرا من أبيات القران يكاد يكون مقصورا على تعليم الناس ، بصيغ شتى ، أن الكون ومفرداته ذو وجود موضوعي مستقل عن معرفتهم وقابل للمعرفة بالحواس والعقل ويدعوهم إلى معرفته . ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) ، (البقرة : 163 ) . (وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم) . ( الذاريات : ۲۰، ۲۱) . ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) : ( فصلت : 23 ) . ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) . ( البقرة : 242)  .

ثم يعلم الناس أن حركة هذا الكون منضبطة بسنن لا تتبدل : ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عالية المكتبين ) ، ( آل عمران : ۱۳۷) ، ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ( الإسراء : ۷۷ ) . ( فلن تجد السنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا ) . ( فاطر : 43 ) ؛ وهو يأخذ من هذا دليلا على وحدانيه خالق النظام الكوني فيقول : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ( الأنبياء :۲۲ ) .  

وهو يعرض العلاقة بين حتمية السنن وحرية الإرادة الإنسانية . فمن آثار الحتمية : ( والله خلقكم وما تعملون ). ( الصافات : 96 ) . ( إن هو إلا ذكر للعالمين ، لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ) . ( التكوير : ۲۷، ۲۸، ۲۹ ) ، إن هذه تذكرة ، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . وما تشاؤون إلا أن يشاء الله  ) . ( الإنسان ، ۲۹ و ۳۰ ) . ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) . ( يونس : ۹۹ ) . ( ختم الله على قلوبهم ) (البقرة ۷۰) ... الخ . ومن آثار حرية الإرادة الإنسانية : ( وقل الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) . (الكهف : ۲۹ ) . ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ، نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما کفورا ) . ( الإنسان :  ۲ ، ۳ )  .  ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها ) . ( الشوری : ۲۰ ) . ثم إن حسن الفعل أو سوءه يتوقف على مدى اتفاقه أو اختلافه وسنن الله . فما جاء حسنا ( نجح ) فالفضل فيه لله خالق السنن التي يتوقف نجاح الفعل على احترام حتمیتها ، أما إذا جاء سيئا ( فشل ) فيرجع فشله إلى خطأ الإنسان في معرفة تلك السنن واحترام حتميتها . ( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) . ( النساء :۷۹ )  . لهذا ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) . ( فاطر : ۲۸ ) .

وهكذا علمنا القرآن كيف نفهم حرية الإرادة الإنسانية في نطاق الضرورة  كما يقول المحدثون .

أما في نطاق التأثير المتبادل بين الإنسان والطبيعة المادية ، فإن الإنسان هو الفاعل الصانع المغير المطور ) وليست الطبيعة إلا موضوع فعله . ويستعمل القرآن تعبير السخرة للدلالة على هذه العلاقة . ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ) . ( الحج : ۹۵) . ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) : ( الملك : ۱۵ )  . ( وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، وسخر لكم الأنهار) . ( ابراهيم : ۳۲ ) . ( وسخر لکم الشمس والقمر دائبين ، وسخر لکم الليل والنهار ) : ( إبراهيم : ۳۳ ) . ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا ) . ( الجاثية : ۱۳) ... الخ .

وأخيرا ، ( كل أمره بما کسب رهين ) . ( الطور : ۲۱) . ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) . ( البقرة 286 ) . ( ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ) . ( يس : 54 ) . وعلى الذين يتوقعون أن يغير الله الواقع العربي بدون أن يغيروه هم بالعلم والإرادة والعمل أن يكفوا عن أوهامهم فقد سبقت كلمات الله : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . ( الرعد : ۱۱ )

162 ـ هذا هو الإسلام كما هو . لماذا فشل المسلمون - إذن – في مواصلة تقدمهم الاجتماعي ؟ نصحح السؤال أولا لأن صيغته مضللة . إذ أن الحديث عن الفشل يبدو حديثا مجردا عن ظروفه التاريخية . فإلى نهاية القرن السادس عشر كانت المجتمعات التي دخلها الإسلام أكثر تقدما من أي مجتمع آخر ، أو على الأقل لم تكن متخلفة عن غيرها من المجتمعات المعاصرة . فقبل ذلك التاريخ - مثلا ـ كانت الحروب الصليبية في بواعثها وفي قواها وفي نظمها وفي أهدافها محكا للتمايز الحضاري ، ولا نقول العسكري ، بين المعتدين والمدافعين وكانت تبدو موجة بربرية تحاول اجتياح مجتمع متحضر ، وليس من المنكور أن تلك الحروب الصليبية كانت وساطة ، أو إحدى وسائط ، انتقال الحضارة من العرب إلى أوروبا ، وهذا لا ينفي أنه لم تمض بضعة قرون حتى عادت القوي الأوروبية ففرضت سيطرتها على العالم مسلمين وغير مسلمين ، ونحن نعرف أن تلك موجة رأسمالية ( فردية ليبرالية ) . ومع ذلك لا نريد آن نحاكمها ، بما لم نعرفه إلا بعد أكثر من قرون ، من أنها كانت من أشد الموجات التي اجتاحت العالم عداوة للإنسان ، فقد استعبدت العالم بجيوش من عبيد الرأسمالية ، بل نقول إنها في نشأتها الأولى كانت ثمرة تقدم علمي لا شك فيه : ولا شك في أن التقدم العلمي تقدم حضاري .

هنا بدأ التخلف ، وهنا فقط يصخ طرح السؤال عن الفشل على أن تكون صيغته : لماذا فشل المسلمون في الدفاع عن مجتمعاتهم ؟ .

في حدود هذا الحديث نقول لم يفشل المسلمون . إن الذين فشلوا لم يفشلوا لأنهم مسلمون فقد كانوا على مدى قرون طويلة متقدمين وهم مسلمون . بل فشلوا لأنهم لم يوفوا بمسؤوليات ترك لهم الإسلام مسؤولية الوفاء بها . فقد هداهم الإسلام إلى أسس منهاج التقدم وترك لهم استكماله واستعماله . علمهم أن ثمة قوانين تضبط حركة الأشياء والظواهر حتما وترك لهم أمر اكتشافها ومعرفة شروط فاعليتها واستخدامها . وعلمهم أن كل ما في الأرض والسماء سخر لهم وترك لهم أمر اکتشاف عناصر الأرض والسماء وقواها وتسخيرها لإرادتهم . وعلمهم أنهم قادرون ومسؤولون عن تطوير واقعهم وإمكانات تغييره وغاية هذا التغيير .

وقد نجح المسلمون في تطوير حياتهم الاجتماعية أينما كانوا طوال الفترة التي كانوا فيها محتفظين بحريتهم . يوم أن كان العلم عبادة ، والاجتهاد مثوبا ولو كان خاطئا ، والحرية إرادة متحققة في مضمونها ، وللناس على الأرضي سيادة مانعة رادعة ، وبقدر ما فقدوا من هذا جميعا لم يتقدموا بمعدل السرعة التي كانوا قد بدأوا به ، فسبقهم من هم أكثر منهم حرية . ثم انقض المتقدمون علما ، أعداء البشرية نظاما ، على المسلمين وغير المسلمين ، فاستعمروا الأرض ، واستعبدوا أهلها ، وأبقوهم متخلفين وما يزالون .

 وهكذا نعرف أننا لم نتخلف لأننا مسلمون بل تخلقنا لأننا فقدنا حريتنا . ويكون التحرر هو بداية التقدم وليس قبول العبودية تحت راية استبداد جديد يخاطب المسلمين بقول منکر : " لادين في السياسة ولا سياسة في الدين " ، وهذا ما يفعله المنافقون الذين يناهضون الإسلام باسم العروبة .

آية المناهضة .

163 ـ على أي وجه يكون هذا النفاق مناهضة للإسلام خاصة ؟ .. ألا يصح أن يكون موقفا من الدين عامة ؟ .. لا . ليس الملحدون بأقل عداوة للإسلام من المنافقين ، ولكنهم أقل خطورة لأنهم أعداء ظاهرون . ولقد فشلت كل المذاهب الإلحادية في أن تجد ثغرة في جدار الرفض العربي الحضاري تتسلل منها الى أن تكسب قطرا أو تضل بشرا ، أما المنافقون فقد خادعوا الشعب العربي المسلم ، وانتشروا في الأرض ، وأضلوا كثيرا من البشر . وآية نفاقهم أنهم لا يرفعون رايتهم " لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين " في مواجهة أوروبا العلمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر ، ولا يتهمون التدخل المسيحي الجماعي المنظم في السياسة ، بل إدارته من موقع الحكم الدول الأوروبية بانه عاق التقدم على أي وجه . ومع ذلك ما أن يسمعوا أن جماعة ، أو جمعية ، أو حزبا أسمى نفسه اسما ينسبه إلى الإسلام حتى ينفعلوا بالغيظ ، ويتهموا أصحابه بأنهم عقبة كأداء في سبيل التقدم . هذا في حين أنهم يعرفون كما نعرف أن أحزابا سياسية " مسيحية " قد نشأت في أوروبا في القرن التاسع عشر في كل من بلجيكا وسويسرا وهولندا ، وكان منها حزبان " مسیحیان " في ألمانيا وحدها ، أحدهما پروتستنتي والآخر كاثوليكي . وأنه ابتداء من عام ۱۸۸۰ تکاثرت في أوروبا النقابات والمنظمات المهنية والشبابية والنسائية " المسيحية ".

ونعرف ، كما يعرفون ، أنه في عام ۱۹۱۹ تأسس في ايطاليا " الحزب الشعبي " المسيحي الذي حله موسوليني عام ۱۹۳۹ ثم عاد إلى الظهور عام 1941 باسم الحزب الديمقراطي المسيحي ، وما يزال قائما . وانه بعد الحرب الأوروبية الثانية ( 1939 ـ 1945 ) استطاعت الأحزاب المسيحية أن تحصل على الأغلبية ، أو ما يقرب من الأغلبية ، في ألمانيا الغربية ، وايطاليا ، وهولندا وبلجيكا ، والنمسا، وأصبحت ذوات نفوذ سياسي لا يمكن تجاهله في فرنسا وسويسرا ولكسمبورج ، وأنه في عام 1948 تأسس الاتحاد الدولي للشباب المسيحي الديمقراطي ، وهو منظمة سياسية . وفي عام 1949 أنشئت الأحزاب المسيحية في أمريكا الجنوبية " منظمة أمريكا الديمقراطية المسيحية " . وأنه في عام 1956 انعقد أول مؤتمر دولي للحركات الديمقراطية المسيحية ، وانعقد المؤتمر الثاني في عام 1958 وتأسست فيه منظمة دولية " للديمقراطية المسيحية".

أما بين صفوف الاشتراكيين ، فقد كان موريس شارلز كنجزلي ( ۱۸۱۹ - ۱۸۷۵ ) أحد كبار رجال الدين في انكلترا ، وأستاذ التاريخ في جامعة كمبردج ( عام 1860 ) ، ومؤلف كتاب " السياسة من أجل الشعب (1848 ) ، وهو القائل : " إن الإنجيل قد استعمل شيئا كجرعة أفيون لإبقاء المقهورين صابرين بالرغم من أنهم يحملون أكثر مما يطيقون ، وأصبح مجرد كتاب يتلى لإقناع الفقراء بقدسية الخضوع " وبذلك كان من أوائل الذين رفعوا راية الاشتراكية رجل من رجال الدين ، وأسفرت دعوته عن إنشاء الجمعيات التعاونية الإنتاجية العمالية . و عام ۱۸۷۷ أسّس الزعيم الديني ستيوارد هولام منظمة اشتراكية باسم " رابطة القديس ماتيو " . وأسس بعض رجال الدين عام ۱۸۸۰ " الجامعة المسيحية الاشتراكية " ، وفي عام  ۱۸۸۹ أسس بعضهم " الاتحاد المسيحي الاشتراكي " ، وفي عام ۱۸۹۱ تأسست منظمة اشتراكية باسم " الكنائس العاملة " ، وفي عام 1906 تأسست جامعة الكنيسة الاشتراكية التي أصبحت ابتداء من عام 1923 جامعه ملكوت الله . وفي أوروبا تنتشر منذ بداية القرن العشرين ثلاث حركات اشتراكية : الاشتراكية المسيحية والاشتراكية البروتستنتية والاشتراكية الكاثوليكية ... الخ .

ولا احد يقول في أوروبا إن منع المؤسسة الكنسية من التدخل في السياسة يعني لا سياسة في الدين ، ولا دين في السياسة . ولا أحد ينكر على أحد في أوروبا أن يحدد موقفه من الواقع الاجتماعي على هدي المبادئ الدينية التي يؤمن بصحتها ، ولا أحد يمنع المسيحيين في أوروبا من النشاط السياسي ، أو أن يحكموا دولهم ما داموا قادرين على كسب قبول الشعب .. ولا أحد من العلمانيين العرب ينكر هذا أو يستنكره ، ولم يستنكر أحد منهم ما يعرفونه ، ويعترف به أصحابه ، من أن الولايات المتحدة الأمريكية تسيطر عليها منذ أن نشأت جماعة " البيض الأمريكيون السكسون البروتستنت " ( واسب ) ، فلما استطاع جون كينيدي " الكاثوليكي " الوصول إلى رئاسة الجمهورية قتل . . . . . فلماذا لا ينكرون ولا يستنكرون إلا الانتساب إلى الإسلام ؟ أليست هذه مناهضة للإسلام بالذات ؟ إن لم تكن فهي مرض يسمونه " مركب النقص " ورثه يعضنا عن عهود المذلة تحت السيطرة الاستعمارية ، إن عقولهم ما تزال مكبلة بقيود الثقافة التي صاغها المستعمرون فهم يتهمون تاریخهم الذي لا يعرفون من أمره إلا ما علمهم سادتهم ، ويخجلون من تراثهم الذي لا يعرفون منه شيئا حتى لو كانوا قد عرفوا منه ما علمهم المستشرقون ، ولا يقبلون الفكرة إلا مكتوبة بحروف لاتينية أو مترجمة عنها ، ويتخذون مما قاله المفكرون في أوروبا نموذجا لما يقولون ، كان القول ما قاله الأوروبيون ! إن التحرر هنا يبدو خرافة مضللة ، إذ أن محاولتنا تغيير واقعنا الاجتماعي بذهنية العبيد سيؤدي بنا - بدون آن ندري - إلى أن نعد القيود لمن يستطيع أن يضعها في أيدينا ، وأن نجهز عرش السيادة لمن يستطيع أن يفرض علينا إرادته ، ولن يغير من أمرنا شیئا ، حينئذ ، أن تكون قيودنا من صنع أيدينا أو أن يكون سادتنا من بني امتنا ، فسنظل عبيدا لأننا عبيد .

هذا من ناحية .

ومن ناحية اخرى ، فان أقصى طموحنا من وراء تغيير واقعنا الاجتماعي أن ننظم الى قافلة الحضارة الأوروبية ونصبح مجتمعا أوروبيا فأولى بنا أن نعفي أنفسنا من عناء المحاولة ، ولنضع مصيرنا في ايديهم ، ولو استأجرنا من بينهم قادة نترك لهم أمر صياغة مجتمعنا كما صاغوا مجتمعاتهم ، فهم أكثر دراية بما يفعلون وتبدو الحرية كذبة كبيرة . ان كفاحنا من أجل أن نغير " نحن " واقعنا الاجتماعي يعني أن قيامنا " نحن " دون غيرنا بهذا التغيير يتضمن شيئا أكثر من عملية التغيير ذاتها ، وأكثر من تكرار التاريخ الأوروبي بكل ايجابياته وسلبياته في الوطن العربي . يتضمن استجابة تجسد ذواتنا كبشر لا يستطيعون ان يكفوا عن الخلق . ويتضمن اختيارا لما نريد . وذلك هو مبرر إصرارنا على أن نكون نحن المريدين البنائين لمصيرنا . وتتوقف تلك الإضافة ، قبل كل شيء ، على اقتناعنا بأن لدينا ما نضيفه الى التقدم الإنساني ، وإننا قادرون على إضافته لو حطمنا قيود السيطرة والتخلف التي شلت مقدرتنا زمنا طويلا . وهو اقتناع يبدو مستحيلا اذا أفرغنا تاريخنا من مضامينه الحضارية ، واجتثثنا جذورنا أو جهلناه ، ثم بقينا معلقين كالطفيليات بالذين ندعي أننا نرفض أن نكون لهم تابعین .

164 ـ أما إذا صدقت الدعوة إلى التقدم ، وحسنت النية ، وصح العزم فإن الباحثين الجادين عن حلول لمشكلات الحياة الواقعية في أمتنا العربية سيجدون بسهولة أنها ممكنة التحقق بالجهد الجماعي العلمي المنظم ، والصبر على متاعب النمو ؛ ولن تواجههم عقبة من الإسلام ، بل ستواجههم عقبة " واقعية " . إن الشعب العربي معتدى عليه من خارجه اغتصابا واحتلالا وهيمنة وتبعية ، ومعتدى عليه من داخله قهرا وظلما وإذلالا واستغلالا . إنه يعاني من تناقض أساسي بين واقعه وحاجته ، يتمثل في أن ليس كل ما هو متاح في أمته من أسباب التحرر والتقدم متاحا له ليتحرر ويتقدم ، لأن العدوان الخارجي يسلبه إمكانات مادية وبشرية هو صاحبها بحكم أنها إمكانات أمته ، فيحول دون أن يطور حياته بما هو ممكن ومتاح لا أكثر ولا أقل . ولأن العدوان الداخلي يسلبه القدر الأكبر مما أفلت من العدوان الخارجي ، فيستأثر به احتكارا واستغلالا ، ثم يفرض عليه تلك القسمة الضيزى بالقهر والظلم والإذلال ، ويحول دون ثورته بما يبقية عليه من چهل وفقر ومرض ، فيبقيه عاجزا عن استرداد إمكانات مادية وبشرية هو صاحبها بحكم أنها إمكانات أمته ، فلا يستطيع أن يطور حياته إلا بما هو ممكن ومتاح لا أكثر ولا أقل . وان العدوان الخارجي والعدوان الداخلي حليفان عليه ، ويحقق كل منهما بعدوانه ما يمكّن الآخر من العدوان ، ولو لم يكونا متحالفين . وان العصر ليلقي عليه كل يوم دروسا صارمة . اليقين منها أن لا أمل ، لا أمل على الإطلاق ، في أن يتقدم حرية ورخاء بقدر ما هو في أمته إلا بأن يجاهد أعداءه جميعا ، فيسترد حريته ، ويقيم وحدته القومية . وإنه ليتعلم كل يوم أن البشرية قد دخلت عصر الإنتاج الكبير والدول العملاقة ، وأن مصير الدول العربية التي تجسد تجزئة الأمة أن تحتمي ، راغبة أو كارهة ، بمظلة التبعية السياسية لدفع خطر العدوان ، والتبعية الاقتصادية لدفع غائلة الجوع ، وأن تدفع من حرية الوطن أثمانا باهظة لمن يحميها أو يغذيها ، يحميها ولو من بطشه ذاته ، ويغذيها ولو من ثروتها ذاتها ، وإن المعتدين لمعروفون بأسمائهم ودولهم ونظمهم .

إذن ليس الشعب العربي في حاجة - في هذه المرحلة من تاريخه - إلى غير حديث صادق ودعوة حارة إلى الثورة العربية التي تحرره شعبا ووطنا ليقيم دولته ، حينئذ - وليس قبل ذلك - سيتوفر للشعب العربي من الإمكانات العلمية والبشرية والمادية ما هو كفيل بأن يعوض به مراحل التخلف ، ويواكب به حركة التقدم العلمي المعاصرة ، ويسبق فيها كثيرين من السابقين .

 165 - أما الذين يناهضون الإسلام بالعروبة يريدون أن يستبعدوه من حياة الشعب العربي ، أو يتجاهلونه ، ويتنطعون في علمانيتهم الغريبة على أمتنا ، الغاربة عن أمتها ، فإنهم يستفزون الشعب العربي المسلم ، ويستعدونه ، وهم يقدمون له وعدا بمستقبل أفضل ، فلا يصدقهم أحد ، ولا يثق بوعودهم أحد ، ولن يتبعهم أحد ، ولن يجدوا الشعب الذي يقبل نظامهم ويضفي عليه مشروعيته ، وإن حاولوا فرضه فإنهم يستدعون مقاومتهم ، ولن يكون كل هذا إلا جزاء استحقوه يوم أن أسقطوا مما يحتجون به من علم أول أركان العلم : " معرفة المعلوم على ما هو به ” ، وثاني أركان العلم : " اكتشاف السنن التي تضبط حركة الظواهر واحترام حتميتها " . والأمة ظاهرة اجتماعية إن كانوا يعلمون ، والأمة العربية أمة الإسلام ، وإنجاز ثورته ، وحاضنة حضارته ، وحاملة رسالته إن كانوا لا يعلمون ، وبهذا الجهل بالعلاقة بين الإسلام والأمة العربية ، أو بتجاهل هذه العلاقة " الموضوعية" يحيلون دعوتهم للتقدم إلى مستقبل عربي أفضل - وهو ممكن - دعوة إلى مستقبل مستحيل ... إنهم يخذلون دعوتهم ذاتها إلى التقدم ، ولن يفلح المنافقون .

ولكن لماذا ؟

الجواب آت .

 



                                            
 ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق