بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

أسس الاشتراكية العربية : 7 .

أسس الاشتراكية العربية . 

الدكتور عصمت سيف الدولة . 


الفصل السابع : من الطليعة العربية ؟؟ 

ـ1ـ 

ضرورة :

عرفنا من الأسس أن الظروف غير جدلية ، وان الإنسان وحده هو مبدع مستقبله وقائد مصيره ، وان الزمان وحده لن يحل مشكلات الوطن العربي ، بل لا بد من قوة إنسانية تتصدى لمواجهة تلك المشكلات ، على يقين منها بأن جهودها الخلاقة هي الطريق الوحيد الى تحقيق المستقبل ، وان ما يبدو مستحيلاً لا يستحيل على مقدرة الإنسان أن تنجزه . من هنا يكون وجود الطليعة العربية ضرورة قومية ، إذ هي قائدة التطور الى الحرية والوحدة والاشتراكية . فهي التجسيد الحي لمصير الأمة العربية وأداة تحقيق هذا المصير . هذا حتم علمي لا يتحقق المستقبل الحر إلا به .. كذلك تدرك الطليعة العربية ذاتها إدراك الواثق بحتمية وجوده لتحقيق مصير أمته.

ـ 2 ـ

وتنظيم :

إن وعي الطليعة العربية أن الحل الجدلي للمشكلات لا يتأتى إلا بالمعرفة الجماعية لها ، والتصميم الجماعي للحلول ، والتنفيذ الجماعي للمستقبل ، يحتم عليها أن تكون تنظيما جماعيا يلتحم داخله كل التقدميين الثوريين في حركة عربية واحدة ، يتبادلون خلالها الجدل ، فيصقل كل منهم وعي أخيه ، ويغني ثقافته ، ويدعم نضاله ، في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية .

ـ 3 ـ

عقائدي :

إذا كانت الطليعة العربية تهدف الى تحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية ، فإنها تتجاوز في هذا كله الحركات السياسية القائمة في الوطن العربي ، التي رفعت شعارات الوحدة ، او الحرية ، أو الاشتراكية ، أو كلها معاً . فأغلب تلك الحركات تقفز الى الحلول متأثرة في هذا بالظروف المتغيرة ، فلا تزيد على أن تكون رد فعل لا بد من أن يتغير بتغير الظروف التي خلقتها ، ويزول بزوالها . غير أنها تزعم أن حلولها مبادئ وقواعد فكرية ، ثم تسمي نفسها حركات عقائدية . وما أن تتغير الظروف - المتغيرة حتماً - حتى يتسع الشق بين الحركة المنغلقة على مبادئها وبين الظروف المتغيرة دائماً . وتلهث الحركات ، التي تدعي لنفسها القيادة ، وراء الظروف محاولة إدراكها ، وعبثاً تجري ، أو تقفز ، فإن الوقت الذي كان لازما لدعوة الجماهير وتنظيمها وقيادتها الى تطبيق حلول الانطلاق ، كان كافياً أيضاً لتسبق الظروف ما اجتمعوا عليه ونظموا أنفسهم من أجله . وعندما يحين وقت التنفيذ ، تكون المشكلات قد تجاوزت الحلول والمبادئ والوعود ، ويكون الشق قد اتسع حتى أصبح هاوية ، يتردى فيه الداعون والمدعوون ، فيتهم بعضهم بعضاً ، وتأكل الحركات نفسها ويأكل منها غيرها ، وتترك وراءها خيبة أمل تعرقل النضال العربي . وهكذا كان الارتباط الجماهيري بحلول لا يربطها ذاتها أساس فكري واحد يمثل جرثومة الضحالة الفكرية التي فتكت بكثير من الحركات السياسية العربية  .

لهذا تبدأ الطليعة بالبداية . والبداية منهجها العقائدي الواضح المحدد ، الذي يصلح لتقييم المشكلات ومعرفتها ، وينير الطريق الى حلولها ، ويرسم النضال في سبيل المستقبل ، ويقوم حكما غير جاهل عندما يختلف الرأي ، فيكشف الحق والباطل ، وبذلك تكون الطليعة العربية قادرة دائماً على قيادة الظروف مهما تغير مضمونها ، ومهما تعقدت ، وتتحصن ضد وباء الانتهازية الذي يسر لكثيرين ركوب أمواج الثورات الشعبية ، ثم تغيير جلودهم بين حين وحين . إن وحدة المنهج هي الرباط الذي يحفظ للطليعة العربية وحدتها وينسق نضالها ويحكم بين أعضائها ، ويساعدها على أن تضع لنفسها برنامجاً للتطبيق تحدد به مسئوليتها أمام الجماهير العربية . 

ـ 4 ـ

قومي :

ويحدد وعي الطليعة العربية وجودها القومي ميدان نضالها ، فتنظمه وتديره على مستوى الأمة العربية كلها ، رفضاً للتجزئة وتحقيقاً للوحدة في ذاتها ؛ ليمتد إدراكها الى منبت كل مشكلة في الوطن العربي ، فنعرفها على حقيقتها ، ولتقدم لها الحلول السليمة مستفيدة في هذا بإمكانيات الكل لحل مشكلات الأجزاء ومشكلات الكل جميعاً . غير أن الطليعة العربية تعرف عن طريق منهجها الفكري أن كل مشكلة تحل في حدود ما تقدمه الظروف من إمكانيات ، ولا تحل بالأماني المثالية . وتعرف ، من ناحية أخرى ، أن تجزئة الوطن العربي قد تركت آثاراً متفاوتة على مستوى تطور الأجزاء ، ونوع بعض المشكلات المحلية التي تطرحها . لهذا فإن وحدة الطليعة العربية كحركة وتنظيم لا تمنع ان تكون الطليعة العربية في كل جزء متميزة عنها في باقي الأجزاء بعبء مضاف الى رسالتها القومية ، ينعكس عليها تنظيما فرعياً من التنظيم الواحد ، ونضالا محلياً مضافاً الى نضالها القومي . وقد ينعكس هذا على توع التنظيم والنضال ، فهي مقاتلة حيث الاستعمار والرجعية الباغية ، مسالمة حيث الديمقراطية ، علنية حيث الحرية ، سرية حيث الاستبداد ، تكافح في كل الظروف طبقا لإمكانياتها ، منطلقة من الواقع المتخلف الى أقصى ما أدركته الأجزاء المتقدمة ، في إطار الغايات القومية التي تمثلها الطليعة العربية ككل ، مستعينة في هذا بكل إمكانيات الطليعة العربية كتنظيم قومي واحد . 

ـ 5 ـ

ديمقراطي :

ويحتم وعي الطليعة العربية أن الجدل الاجتماعي هو الأسلوب العلمي الوحيد لمواجهة الظروف ، وحل مشكلاتها ، وتحقيق المستقبل ، ووعيها أن الصراع يعوق الجدل ، أن تطهر نفسها من إمكانيات الصراع في داخلها ، بأن تنظم تنظيماً حديدياً على أسس ديمقراطية صلبة : حرية الرأي للجميع ، وعمل الجميع تنفيذاً لرأي الأغلبية . أياً كان نوع التنظيم الذي تسمح به الظروف في الأجزاء ، فإن ديمقراطية التنظيم في الطليعة مميز لها كطليعة ، وحصانة لها ضد التخريب والانحراف والانتهازية والفاشية . لا تهاون في هذا ، ولا استثناء ، مهما كانت الظروف . ولو كان على حساب المقدرة الوقتية على النضال السياسي ، فإن المقدرة غير الديمقراطية مغامرة . ولو كان على حساب الكثرة فإن الكثير الفاسد فساد كثير . 

"حرية الرأي للجميع ، وعمل الجميع تنفيذاً لرأي الأغلبية " ، قاعدة ديمقراطية مفروضة على الجميع أي انحراف عنها رجعية قاتلة  .

ـ 6 ـ

في سبيل الوحدة :

ينطلق نضال الطليعة العربية على أساس أن الوجود القومي شرط التطور ، فتعي ، وتخطط  وتناضل على هدي وعيها ، لتحرير الوطن العربي من الاستعمار الظاهر والاستعمار الخفي ، وتقتلع السرطان الصهيوني اقتلاعاً ، مدركة في هذا أن تحرير الوطن العربي من العدوان عليه أول خطوة الى تطويره ، وان تطويره الكامل لا يتم الا بالوحدة السياسية . بهذا الوعي القومي تقاتل الطليعة العربية الاستعمار والصهيونية وتسحق المستعمرين وعملائهم . لا رحمة في هذا ولا تردد . ثم تفرض الطليعة العربية الوحدة على أثر التحرر ، لا تقبل في هذا عذراً ، ولا تسمح للرجعية الإقليمية في أي جزء بأن تبقى التجزئة لحسابها ، أو أن تعطل انطلاق الشعب العربي بقيود من الداخل بعد تحطيم القيود التي كانت مفروضة عليه من الخارج . والوحدة السياسية عند الطليعة العربية حتم لأنها التعبير السياسي عن الوجود القومي السابق عليها ، لا تتطلب شرطا سوى التحرر من إرادة الاستعمار التي فرضت عليه التجزئة . فوعي الطليعة العربية الوجود القومي لا يعرف سبيلا الى الوحدة إلا أن ترفع الحواجز ليلتحم الشعب العربي في جدل حياتي يحقق به مصيره الواحد . ولا تنتظر الطليعة العربية حتى تكون المشكلات في كل جزء قد حلت لكي تحقق الوحدة ؛ لأنها تعلم أن الوحدة العضوية للأمة العربية تعني ألا تحل مشكلات الأجزاء حلاً سليما إلا في الكل الشامل . بهذه الثورية ترفض الطليعة العربية تبرير الإبقاء على التجزئة بآثار التجزئة ، وترفض أن توضع منها شرط لإلغاء ما يمزق الكيان الواحد . غير أن الأسلوب العلمي الذي تنتهجه الطليعة العربية لا يسمح للمثالية أن تضللها فتتجاهل ما تتطلبه المشكلات المحلية من إدارات محلية ، لأنها تعلم أن الدولة القومية لا تلغي الإدارات المحلية بل تدعمها ، وتمدها بمزيد من المقدرة على مواجهة ما تطرحه الظروف المحلية من مشكلات ، إضافة من إمكانيات الأمة الواحدة إلى أبناء الأمة الواحدة في أي مكان من الوطن الواحد . كما أنها لا تتجاهل ما صنعته التجزئة ، التي امتد بها الزمن ، من آثار تنظيمية واجتماعية ، ميزت بها الأجزاء في مدى التقدم الحضاري ، وبما صاغته من ألوان الحياة ، فهي تدرك أن هذا ذاته مشكلة يجب أن تحل بالقضاء على التمايز المصطنع ، وان أسلوب حلها يجب أن يكون علمياً ، وتصبر - في ظل الوحدة - على ما يبقى من آثار التجزئة ، باذلة الجهد المضاعف لتطهير الوطن العربي من تلك الآثار

ـ 7 ـ

والحرية :

في سبيل الحرية ، حرية الإنسان العربي ، وكل إنسان ، تناضل الطليعة العربية على أساس أن الحرية ليست مقدرة على الفوضى ولكن مقدرة على التطور ، وأن جوهر الحرية أن تقهر الظروف ، وتفرض إرادتها لتحقق مزيداً من الحرية . لهذا لا تعرف الطليعة العربية حرية الرجعية ، والسلبية ، واللامبالاة ، كما لا تعرف بالاستغلال ، ولا تعترف بالاستغلال حرية . وهي في نضالها في سبيل الحرية تعرف حدودها ، وترفض الادعاء بالحرية المطلقة الخالدة التي لا تعرف الحدود . فحرية الوجود القومي شرط لحرية التطور . وحرية المعرفة شرط لحرية الرأي . وحرية الرأي شرط لحرية العمل . 

وكما تلزم الطليعة العربية غيرها حدود الحرية تلتزم هي تلك الحدود . فحيثما تتصدى للمشكلات ، لا تعرف غير الديمقراطية سبيلا والشعب سنداً . فالشعب إذ هو الامتداد الأفقي للمجتمع ، يكون المصدر الوحيد لمعرفة المشكلات لأنها مشكلاته . إن ألف نظرية في وصف الجوع أقل بلاغة من صرخات الجائعين ، وكل ما يقال عن الديكتاتورية لا يفسرها كما تفسرها آلام المضطهدين . ولا تمتد المشكلة رأسيا إلى حيث تصبح مشكلة عامة إلا بمقدار الناس الذين تعبر عن آلامهم ، وفي هذا لا يمتاز إنسان بمهنته ، ولا بثقافته ، ولا بلونه ، ولا بدينه ، ولكن بحدة المشكلة التي يعانيها كإنسان . ولا تميز الطليعة العربية حدة المشكلة إلا بمدى اتساع جبهة الناس الذين تفسد حياتهم ، فهي ترفض التقسيم الطبقي ، كما ترفض التقسيم على أساس من الدين ، أو اللون ، أو المهنة ، وتحترم الإنسان كإنسان ، وتتخذه نقطة انطلاق وغاية . ويعلمها هذا الاحترام أن ترفع عن الإنسان العربي كل ما يضغط إرادته وأن تحرره أولا وقبل أي شيء ، من الخوف.

ثم تلقى الطليعة العربية بنفسها في أحضان الشعب العربي ، وتلتصق به ، وتتفاعل معه تفاعلاً حياً ، وتشاركه آلامه مشاركة تسمح لها بمعرفة مشكلاته ومدى آلامها . وهي تفعل هذا بحب وتسامح وصبر ؛ لأنها تعلم أن تبادل المعرفة بالمشكلة أول حركات التطور الجدلي . كما تعلم أن التصميم الجماعي لحل المشكلة هو الحركة الثانية في قانون الجدل . لهذا فهي إذ تستفيد من إدراكها الشامل للمشكلات ، فتقترح الحلول ، تعرض هذه الحلول للجدل الاجتماعي لتصقلها خلال المناقشة المتحررة من الخوف والتعصب ، ولتختبر مدى سلامتها على ضوء قبولها أو تعديلها أو رفضها من الناس أنفسهم أصحاب المشكلات التي هي حلول لها . وبهذا يصبح الشعب العربي قاعدة الطليعة العربية ومصدر ثقافتها . ولا تفرض الطليعة العربية على الشعب العربي إرادتها ، ولا تتهمه ، إذ أنها تعلم أن وجود المشكلة لا يغني عن إدراكها حتى تحل ، وأن عليها ، بحكم وعيها الشامل ، أن تفجر وعي الناس لمشكلاتهم وحلولها ، وأن عليها أن تصل إلى هذه المقدرة القيادية لتتوافر لها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية : توعية الجماهير وتنظيمها وقيادتها . بهذا تتحصن الطليعة العربية ضد الفاشية والانتهازية ، وتحتفظ بثقتها التي لا حد لها بالجماهير العربية ، وبهذا تكون طليعة عربية ديمقراطية حقا ، فإن الثقة التي لا حد لها بالشعب هي جوهر الديمقراطية ، وكل شكل لها ليس أكثر من تنظيم لإطار التعبير عن تلك الثقة . 

ـ 8 ـ

والاشتراكية :

بالوحدة وخلال النضال الديمقراطي تقود الطليعة العربية تطور الوطن العربي الى الاشتراكية . ففي أي مكان من الوطن العربي ، وأياً كانت درجة النمو الاقتصادي فيه ، تلغي الطليعة العربية الاستغلال أيا كانت اسبابه . لا تسمح الطليعة العربية بأن تتخذ حرية الملكية ذريعة ليتملك تفر كل شيء تاركين الشعب العربي بدون ملكية على الإطلاق ، أو أن تكون أداة للقهر الاقتصادي . وحيثما قامت الملكية بدون استغلال فإنها تدعمها حرية مكتسبة . وفي سبيل الاشتراكية تحشد الطليعة العربية جهود الجميع في عمل منظم على خطة واحدة ، غايتها أن تحقق ، بالأسلوب العلمي ، كل ما تستطيع ظروف الوطن العربي أن تقدمه من ثروات تكفي ليتحقق لكل عربي المضمون المادي لحرياته ، إذ الاشتراكية عند الطليعة العربية حرية كاملة ، وبهذا تلتحم الحرية بالاشتراكية لتصبح الاشتراكية حياة حرة . 

في سبيل هذا ، لا تقبل الطليعة العربية الاحتجاج بأي نظام متخلف في الملكية ، أو الإنتاج ، أو التوزيع ، ولا تنتظر حتى تعلمها التجربة المرة ما تعلمته الشعوب من مرارة الحياة في ظل الاستغلال الرأسمالي ، بل ترفض أن تنمو في الوطن العربي بذور الرأسمالية المستغلة أصلا ، وتقتلع جذورها أينما نمت ، متجهة بالتخطيط الاقتصادي العلمي من حيث انتهى التطور الاقتصادي الى الاشتراكية رأسا ، في طريق مطهر من بدايته الى نهايته من الاستغلال والقهر الاقتصادي . 

غير أن الطليعة لا تخلط بين الاشتراكية كغاية ووسائل تحقيقها . ولا تتجاهل عدم استواء النمو الاقتصادي في الأجزاء . ولا تتجاهل ما تركته التجزئة من آثار على التطور الاقتصادي في أقطار الوطن العربي . لهذا فإن التخطيط الاقتصادي ، ومواجهة مشكلات التطبيق ، ستكون على الوجه الذي تقتضيه الأساليب العلمية لتجاوز التخلف الى التنمية ثم الرخاء ، مع الاحتفاظ دائما بالحرية غاية من الاشتراكية . لهذا لا تقبل الطليعة العربية أن يحل مستبد محل مستبد ، وأن يقوم مستغل مقام مستغل ، ولا تتذرع بالاشتراكية لفرض العبودية . ولا تقبل الفاشية ولو خططت ولو أممت ، وبهذا تبقى حرية الإنسان العربي في الاشتراكية العربية غاية الطليعة العربية وحداً لا يتجاوزه التخطيط الاقتصادي . بهذا الوعي تكشف الطليعة العربية الانتهازيين ولا تكون هي انتهازية ، وتسحق الفاشية ولا تكون هي فاشية ، وتبقى طليعة عربية اشتراكية ديمقراطية . 

ـ 9 ـ

أشمل وعيا :

غير أن الطليعة العربية تتجاوز كل الوحدويين والديمقراطيين والاشتراكيين ، بوعيها الشامل لتكامل الحرية والوحدة والاشتراكية في الاشتراكية العربية ، التي هي حل واحد لمشكلة حرية الشعب العربي ، ينطوي على مضامين غير قابلة للتجزئة ، لا في المحتوى ، ولا في التطبيق . فحرية وجود الشعب العربي تقتضي تحرره من الاستعمار الذي ينتقص من هذا الوجود . وإذ يجد الشعب العربي نفسه ، فينطلق الى تحقيق حريته في مواجهة ظروفه ، يحتاج الى الوحدة السياسية ، أي أداة التطور التي تحتمها وحدة المشكلات . واذ تكون المشكلات مشكلات الشعب ، والحلول حلول الشعب ، فلا بد من أن يعرف الشعب مشكلاته ، ويقترح لها الحلول ويسهم في تنفيذها ، أي لابد من الديمقراطية . وفي سبيل أن تتحقق للشعب العربي حريات ذات مضمون مادي ، وليس حريات شكلية ، لا بد من أن ينظم اقتصاد الوطن العربي إنتاجاً ، وتوزيعاً ، واستهلاكاً ، بحيث يتحقق المضمون المادي لحريات الشعب بغير استغلال ، أي لابد من الاشتراكية . وكلها يكمل بعضها بعضا لنؤلف معا نوع الحياة الواحدة التي تناضل الطليعة العربية في سبيل تحقيقها تحت اسم الاشتراكية العربية . وكما تتكامل مضامين الاشتراكية العربية في المحتوى لتكون حلاً واحداً ، تتكامل في التطبيق لتكون ثورة واحدة . فالوحدة السياسية هي أداة التطور التي تحتمها وحدة الوجود القومي . والوحدة تطرح مشكلات التطبيق على مستواها الحقيقي ، وتقدم الإمكانيات الكاملة للحل الشامل . غير أن هذا الحل الشامل لن تحققه الظروف تلقائياً . فابتداء من الوحدة يقع على الجماهير العربية عبء استعمال إمكانياتها لحل مشكلاتها . ولا يتم هذا إلا عن طريق الجدل الاجتماعي ، فلا بد إذن من الديمقراطية . ومن هنا لا تغني الوحدة عن الديمقراطية ولا تغني الديمقراطية عن الوحدة . إذ الوحدة نقطة انطلاق ، والديمقراطية تنظيم لخطا هذا الانطلاق ، أما غاية الانطلاق فالاشتراكية . الوحدة شرط لمعرفة المشكلة معرفة صحيحة ، والديمقراطية شرط لحلها حلا سليما ، والاشتراكية تنفيذ لهذا الحل ، وبذلك تكون معا الحركة الجدلية للنضال العربي . 

لا ينقص التقدميين العرب إلا الوعي الشامل ليعرفوا هذه الوحدة العضوية لغايات الشعب العربي . وبهذا الوعي الشامل تتجاوز الطليعة العربية التقدميين العرب لتكون به طليعة النضال العربي .

ـ 10 ـ

نقطة الانطلاق :

في سبيل تلك الغايات ، وعلى هدى وعيها الشامل ، تقود الطليعة العربية نضال الشعب العربي على أسس علمية ، لا مدعية ولا متمنية ، إذ لا مكان للمثالية في تطوير الشعب . فالخطوة الأولى في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية تبدأ من حيث انتهى التطور . من واقع الاستعمار وفي ظله يبدأ النضال في سيل التحرر . وفي الأقطار المجزأة يبدأ النضال في سبيل الوحدة . ومن التخلف الاقتصادي تبدأ المسيرة الى الاشتراكية . لهذا تعلم الطليعة أن التطبيق الاشتراكي في مصر مثلا لن يكون مماثلا في نفس الزمان للتطبيق الاشتراكي في اليمن أو العراق أو الحجاز أو السودان أو غيرها من الأقطار العربية . ولن تتحقق الديمقراطية في الوطن العربي بمجرد توحيد نظم الانتخاب والتمثيل . ولن يعود كل قطر الى حظيرة الوطن العربي الكبير بأسلوب واحد . ولن يتحقق كل هذا بالوعود ، أو العهود ، أو بالألفاظ ترص رصا في البيانات والدساتير والقوانين . إنما يتحقق بالمواجهة الثورية للظروف ، وتطبيق الحلول العلمية الملائمة لمشكلاتها ، للقضاء في النهاية على التجزئة والتخلف والاستبداد ، مع احتفاظ الطليعة العربية دائما ، وفي كل الظروف ، بالغايات القومية ، فتقود الظروف الى تلك الغايات لا تنحرف ولا تتوه ولا تتراجع .

ـ 11 ــ

ثم الثورة :

إن عمق الوعي وشموله ، ووضوح المنهج الفكري يحدد الثورة أسلوبا لنضال الطليعة العربية ، تستمد المقدرة عليها من ثقتها بأمتها ، وبنفسها ، وبأنها تناضل في سبيل غايات منتصرة . وفوق هذا تعرف الطليعة العربية ما الثورة ، وضد من تثور ، وتحدد على ضوء هذا موقفها من الظروف ، ومن الناس ، ولا ترفع شعار الثورة ادعاء وتضليلا ، ولا تتخذه ذريعة الى الإجرام الدامي ، فحيثما كان الشعب العربي قادرا مقدرة مشروعة قانونا على الكفاح الديمقراطي في سبيل غاياته ، يكون أسلوب نضال الطليعة العربية توعية الجماهير ، وتنظيمها ، وقيادتها ، في نضال ديمقراطي لتحقيق غاياتها ، إذ حيث تقوم الديمقراطية لا يوجد مبرر الثورة إلا مجازا ببذل الجهد المضاعف لبناء الحياة . أما حيث تفرض على ارادة الجماهير قيود تسلبهم حريتهم : ببطش الاستعمار ، أو الاستبداد الفاشستي ، أو القهر الاقتصادي ، أو القتال الباغي ، فإن الطليعة العربية تحطم النظم والقوانين والعلاقات التي يصوغها المستبدون قيودا على إرادة الجماهير . وحيث تبيح القوانين العنف ضد الشعب ترد الطليعة العربية العنف بمثله ، وتحطم القيود لتعود بالشعب الى الحرية ، فتعود الى توعيته وتنظيمه وقيادته لا تقتل ولا تقهر ولا تستبد . وعلى هذا تحدد الطليعة العربية موقفها من أعدائها ، فلا تطغى ولا تقبل الطغيان . عندئذ فإن مسؤولية الدماء ستكون على رؤوس المعتدين ، ولن تتوقف الثورة احتراماً لإرادة المستعمرين والمستبدين والرجعيين . أما التقدميون فإن الطليعة العربية مفتوحة الأبواب لكل طليعي منهم . 

ـ 12 ـ

فمن الطليعي ؟

لا يكفي الوعي الأكاديمي لأفكار الطليعة العربية وقبول مبادئها ، ولا يكفي الانضباط الديمقراطي داخل الطليعة ، ولا تكفي المقدرة على النضال الثوري ، ليكون التقدمي طليعياً . فقد تعلمت الطليعة العربية من التجربة المرة كيف ينحرف من كانوا يبدون أكثر الناس وعياً ، وكيف يخون من كانوا يبدون أكثر الناس إخلاصا ، وكيف ينهزم من كانوا يبدون أكثر الناس مقدرة على النضال . ورأت الطليعة العربية - وتعلمت مما رأت - خيانة فقهاء الوحدة للوحدة ، وخيانة فلاسفة الاشتراكية للاشتراكية ، وخيانة الديمقراطية من دعاة الديمقراطية ، واتضح من التجربة المرة في الوطن العربي أن المعول النهائي في أية حركة سياسية على نوعية اعضائها ، وان انضباط التنظيم ، واتساع القاعدة ، وحتى سلامة الاتجاه في أية حركة سياسية ككل ، لا تمنع الخيانة والانحراف والتخريب ، عندما تصل الى مرحلة التنفيذ وتحمل المسئولية . لقد أثبتت التجربة كيف أن أروع المبادئ تصبح نفاية قذرة في الأيدي الملوثة ، وأجمل الدعوات تصبح تضليلا قبيحاً من أفواه الكذابين . وبذلك أثبتت الحياة ذاتها أن أي مذهب أو نظام لا يكون قابلا للترجمة الى ما يغني حياة الإنسان ماديا وخلقيا وفكريا لغو لا يستحق أن يبذل جهد من أجله ، وأن الاستقامة الخلقية ليست ضرورة في الأعضاء فحسب ، بل غاية في الحركة أيضا . وبهذا لم يعد مفهوما كيف يؤدي الفقر الخلقي الى اغتناء حياة الناس ، وكيف يمكن لأية حركة تجرد أعضاءها من غاياتها أن تحقق تلك الغايات . كان هذا حصاد التجربة ، فلما أن ثبت علميا أن الإنسان غاية كل تطور ، أصبحت أية حركة مفرغة من مضمون أخلاقي عاجزة حتما عن تحقيق مستقبل أفضل . لهذا لابد للطليعة العربية من أن تكون غنية حتى تغنى ، وان تكون الاستقامة الخلقية شرطا في أعضائها ، وغاية من غاياتها ، وبذلك تتجاوز الطليعة العربية كل الحركات السياسية المعاصرة ، ويصبح لها ، بالإضافة الى الفكر الذي تقيس عليه مدى الوعي ، والتنظيم الذي تقيس عليه مدى الانضباط الديمقراطي ، والثورة التي تقيس عليها مدى المقدرة على النضال ، مفهوم اخلاقي نقيس عليه مدى صلاحية الواعي المنظم المناضل ليكون طليعياً .

ـ 13 ـ

اخلاق الطليعة :

إن ضرورة المضمون الأخلاقي في أية حركة سياسية لا تعني اصطناع نماذج خلقية لا جذور لها في المجتمعات التي تعيش فيها . تلك مثالية عقيمة . ولكن تعني أن تكون شاملة لقضايا الإنسان تأكيدا لأصالتها ، وصدق تعبيرها عن ضرورات الحياة التي تتصدى لتطويرها . وقد تكفلت الممارسة الطويلة للحياة المشتركة ، وتفاعل الناس في كل مجتمع بإرساء قواعد السلوك السوي والسلوك المنحرف . واستمدت الشعوب القيم الخلقية السائدة فيها من التجارب التي صقلتها حتى انقلبت الى حقائق في وجدان المجتمع تصلح للحكم دون تقصي علة الإدانة . ففي كل مجتمع حصيلة غنية من القيم التي كانت وليدة تاريخه الخاص . ومهما بعدت المبررات الاجتماعية التاريخية للقيم الخلقية ، فإن تلك القيم حقائق كافية تظهر عند أي استفزاز سلوكي ، فتدينه الجماهير طبقا لمقاييسها السائدة . وتكون هذه الحصيلة من القيم عنصرا هاما من عناصر ظروف كل أمة ، فيه اصدق الدلالات على إمكانيات تطويرها واتجاه هذا التطوير . لهذا يكون عبثا أن تحاول أية حركة سياسية الإسهام في تحقيق مصير أمة متجاهلة خصائصها الخلقية ، غير مقومة تلك الخصائص ، وغير معدة لمستقبلها قيمه الخلقية ، وغير مبررة كل هذا على هدى نظرية علمية صلبة . ذلك أن المقاييس المستمدة من الماضي قد تصلح للحكم على مثل ما كان موضع تجربة ماضية ، إلا أن الحياة تطرح في كل يوم جديداً . وتحتاج في كل يوم الى تقييم أنواع من السلوك لم يكن لها مقابل فيما مضى . ولا شك في أن التاريخ الطويل الذي قضته الأمة العربية في ظل الدين الذي تكونت به أمة ، ثم صنعت الحياة على هدى القيم التي أرساها ، قد وفر بها حصيلة بالغة الخصوبة والسمو معا يمكن أن تسمى أخلاقا إسلامية . ولا يزال العربي يتميز بالعزة والصدق والشجاعة والمروءة والكرم ... الخ ، مميزات لم تأته من البداوة الضارية ولكن من حياة الأخوة في ظل الثقافة الإسلامية . غير أن السمة الإنسانية العامة للقيم الخلقية الإسلامية تركت الفرصة للمغرضين من أدعياء الدين ، الجاهلين به ، لكي يتلمسوا من تاريخ المسلمين ما يثبتون به قيم التخلف والهزيمة . يعارضون بحصيلة الانحطاط في بعض مراحل التاريخ أسمى القيم الخلقية كافة ، بحجة أن المنحطين كانوا حينئذ مسلمين . لهذا لابد من إرساء القيم الخلقية على أساس علمي ، فإن صح المنهج الذي يرسيها فلا بد أن يتفق مع الحق مما ينسب الى الدين ؛ لأن جدل الإنسان لا ينقض الأديان ، ولكن يفسر بالمنهج العلمي في زمان معين ما يخص زمانه ، قدرا مما جاءت به الأديان لكل زمان . 

وسيلة الطليعة العربية الى تحديد الأساس العلمي لنظريتهما في الأخلاق لابد أن يكون ذات المنهج الذي يحكمها حركة ووعيا ونضالا . واستيعاب ذلك المنهج والإحاطة بأبعاده يضع في أيدي الطليعة العربية مقياسا دقيقا لاستواء السلوك الخلقي أو انحرافه . لهذا تركز الطليعة العربية على نضج الوعي العقائدي والالتزام الديمقراطي لتثبيت القيم الخلقية واستواء السلوك المعبر عنها . وهكذا لا تعرف الطليعة العربية الفصل بين القيم الخلقية وبين أهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ولا يمكن أن تقلل من دلالة الانحراف الخلقي على الانحراف العقائدي والنضالي معاً ، وشعارها في هذا أن الإنسان المفرغ من القيم الخلقية لا يمكن أن يكون واعيا أو مناضلا أو تقدميا . 

وجدل الإنسان يزود الطليعة بمقياس التقييم الخلقي . معنى هذا انها تستطيع على هديه تحديد القيمة الخلقية لأي نمط من السلوك مهما كان مضمونه . وأنماط السلوك لا حصر لها ؛ لهذا يكفي عرض بعض المفاهيم الخلقية التي يمكن أن يؤدي إليها استيعاب جدل الإنسان  .

في الإجابة عن السؤال الأول : ما الفضيلة وما الرذيلة ؟ ما الخير وما الشر ؟ يقدم جدل الإنسان إجابة غير مشوبة بالمعاني المجردة التي تصاغ لتأييد مواقف سابقة . فإذ يحدد جدل الإنسان الحركة الجدلية التي يتم خلالها التطور تكون الإجابة على الفور . إن كل ما يسهم في التطور ويساعده فضيلة ، وكل ما يقف في سبيل التطور ويعرقله رذيلة . وبذلك يكون للفضيلة وللرذيلة أساس علمي فلا تختلطان ؛ فهما قيمتان مرتبطتان بحركة المجتمع نفسه . ولما كانت حركة المجتمع تتم على أسس علمية ، وكان تحليل الحركة ذاتها يكشف عن ترتيب خاص ، فإن الانضباط المحكم لحركة التطور هو ذاته الذي يضبط تقييم الفضيلة والرذيلة ، دون أن يترك ثغرة للمثالية العقيمة . هذا الارتباط بين الفضيلة والرذيلة وبين حركة التطور يحدد أبعاد الفضيلة والرذيلة أيضا . 

فإذا كان التطور اندفاعا من الماضي الى المستقبل يخلف وراءه في كل وقت ما يفقد قيمته ، فما يكون جديدا يصبح ماضيا ليخرج منه جديد ، فإن مؤدى هذا أن قيمة مضمون التطور مرتبطة بالزمان الذي يقتضيها ، والزمان الذي تتم فيه ، وأنها قيمة نسبية في الزمان . ومن هنا لا يصح ما يقال له الخير المطلق أو الشر المطلق . إن أسمى الفضائل في عصر من العصور قد تكون أحط الرذائل في عصر غيره ، لأن الفضيلة والرذيلة ، إذ هما مرتبطتان بالتطور ، لا يمكن أن تتخطياه . فكما أن حاجة المجتمعات متغيرة ، فإن القيم المعبرة عنها متغيرة معها . لا يقدح في هذا اختلاف مدى التغيير وإمكان إدراكه . فإن كانت بعض الفضائل تبدو كما لو أنها مطلقة لأن الإدراك لم يتصل بالماضي الذي سبقها ، ولم يتصل بالمستقبل الذي يتخطاها ، فليس معنى هذا انها خالدة أو مطلقة ، ولكن معناه ، أنه على مدى الإدراك في زمان معين ، تبدو تلك الفضائل متفقة مع ضرورات الحياة التي يحيط بها الإدراك ، لا أكثر من هذا . 

كل شيء نسبي في الزمان حتى الفضيلة والرذيلة . غير أنه منذ أن وجد الإنسان وجدت معه قيم متصلة به كإنسان ، فهي وإن كانت عامة ، إلا أنها ليست مفهوما مجردا ، أو فكرة مطلقة ، بل قيمة إنسانية لا تنسب مثلا الى الحيوان ولو كان الحيوان قد سبق الإنسان وجوداً . وسنلتقي فيما يرد من حديث ببعض من هذه القيم التي استمدت سمة الفضيلة فيها من أنها للإنسان وحده وأنها بعض إنسانيته . 

أول أثر لهذا أن الفضائل التي تتصل بالإنسان كإنسان فضائل عامة لا يحدها مكان . وفيما بعد هذا تتحدد نقطة انطلاق كل مجتمع من ظروفه ، وتطبع الظروف المشكلات التي تطرحها بطابعها ، وتقدم إمكانيات الحلول الخاصة بها ، ليستطيع الإنسان الذي يعيش في تلك الظروف أن يحقق مستقبلا خاصا به . ومعنى هذا أن مضمون التطور يختلف من مجتمع الى مجتمع في المكان ، وتختلف معه القيم المعبرة عنه . صحيح أن هذا التخصيص غير دائم ، لأن المجتمعات الإنسانية مندفعة الى تخطي حواجز التخلف بينها ، ولكن الى أن يستوي التطور على درجة إنسانية واحدة ، تبقى لكل مجتمع مشكلاته الخاصة ، وفضائله الخاصة ، ويمكن هنا القول بأن الفضيلة والرذيلة ليستا مطلقتين في المكان كما أنهما ليستا مطلقتين في الزمان . لكل مجتمع فضائله ورذائله . لكل مجتمع أخلاقه .

ـ 14 ـ

أخلاق الطليعي العربي :

على ضوء هذه الوحدة بين الوعي والتنظيم والأخلاق ، يتحدد موقف الطليعي حيال سلوك غيره ويتحدد سلوكه هو . فالطليعي العربي لا يدين سلوكا كان وليد ظروف مجتمع غير المجتمع العربي ، إلا أن يكون عدوانا على إنسانية الإنسان ؛ لأنه وهم شركاء في المجتمع الإنساني . أما في غير هذا ففضيلته الخاصة أن يحترم عادات وتقاليد وأخلاق الشعوب كافة . لأن الطليعي العربي يعرف أنه مهما تبدو تلك العادات والتقاليد وقواعد السلوك شاذة في نظره ، بل حتى لو بدت له رذائل يعجب كيف يطيقونها ، فإنها من صنع ظروفهم ، وأن تغييرها رهن بمعاناتهم حيث يعيشون ، ومن حيث ينطلقون . وبذلك يتميز الطليعي العربي بهذه النظرة المتسامحة المفعمة بحب الناس كلهم ، وقبولهم كما هم ، المؤسسة على إدراك القيمة النسبية المتساوية لأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم . وبهذه النظرة ذاتها يرفض الطليعي العربي التفوق الطبيعي الذي تدعيه بعض الأجناس ، ولا يدعيه لنفسه . 

وإدراك الطليعي العربي نسبية القيم الخلقية تحرره من الشعور بالنقص إزاء إخوة له من بني البشر ، وتغني ثقته بنفسه وبأمته وتقاليدها وأخلاقها وتمنحه الوضوح الكافي لكشف الوسائل المغلفة بدعوات أخلاقية التي تهدف في حقيقتها الى فرض قيم غريبة على أمته تمهيداً لإهدار ذاتيته . كما أن الطليعي العربي لا يضيق بما تفرضه عليه أمته من قواعد الأخلاق ، ولا يصطنع لنفسه سلوكا مستعارا من خارج بيئته ؛ لأنه يعلم أن السلوك السوي لا يكون بالإفلات الفردي من الظروف القومية ، والانتماء المشبوه الى مجتمعات غريبة ، بل يكون بالتعاون الجماعي لحل مشكلات الظروف المشتركة . 

وفي مواجهة نفسه يستمد الطليعي العربي من وعيه قيمه الخلقية كإنسان:

فهو يعرف أنه متأثر بغيره مؤثر فيه غير منفصل عن الناس أو عن الظروف ، وأنه في تأثره وتأثيره متحرك جزءا مع الكل حركة دائمة ، ومتغير معه تغيرا غير منقطع حتى لو لم يدركه حسيا ، وأن التأثير والتأثر والحركة الدائمة والتغير المستمر قوانين حتمية تحكمه وتحكم كل شيء معه . من هذه القاعدة الأولى يكوّن الطليعي العربي قيمه الخلقية الأولى ، فلا يكون سلبيا ، او لا مباليا ؛ لأن السلبية واللامبالاة ليست انحرافات خلقية فحسب بل جدب وفراغ خلقي أيضا إذ هي مضادة لقوانين الحياة . كذلك كل ما يتصل بها ويتفرع عنها من أنماط السلوك كالأنانية ، والطمع ، والغرور ، والاستعلاء ، انحرافات خلقية ؛ لأنها تعبر عن إنكار ، أو تجاهل ، التأثير المتبادل بين الإنسان والنوع الذي ينتمي إليه . وبينه وبين الظروف التي يحياها . إن الطليعي العربي لا يمكن أن يتصور لحظة واحدة أنه قائم بذاته ، غني عن الناس ، وعن الأشياء ، وأنه المحور الوحيد الذي يجب أن تدور عليه أفكاره وأحلامه . ولا يمكن أن يسقط كل مصلحة إلا مصلحته ، أو يحاول أن يحقق مستقبلا موهوما على حساب مستقبل غيره ، ولا أن يحل مشكلاته على أنقاض حياة الناس . تلك قيم خلقية تضبط سلوكه استمدها من علمه أنه جزء من كل وأنه ليس المؤثر الوحيد في كل شيء الذي لا يتأثر بأي شيء . 

ثم أن الطليعي العربي ، يعرف أن التأثير المتبادل يؤدي في حركته الى تغير دائم ، وأن أحداً ، لا يفلت من هذا المصير . عندئذ تصبح التقدمية خلقا طليعيا ، وتصبح الرجعية عقما أخلاقيا محضا . إن الطليعي العربي لا يعرف شيئا أو أحدا ، يستحق الخلود ؛ لأن قوانين الحياة لا تسمح بهذا الخلود . ويعرف بهذا أن معرفة التاريخ علم ، ومحاولة إعادته انحراف جاهل . لهذا يطهر نفسه من كل القيم والتقاليد والأخلاق التي كانت حصيلة الأطوار التاريخية التي انتهت الى غير رجعة . لقد ولى العهد القبلي فحتم أن يكون الطليعي العربي مطهرا من التعصب القبلي . وانقضت المجتمعات الدينية فحتم على الطليعي أن يكون مطهرا من التعصب الديني . إن الطليعي العربي لا يتحيز للماضي ، ولا يعطل المستقبل ، ومن هنا يعرف لماذا لا يمكن أن يكون الانفصالي ، او الإقليمي ، أو الرأسمالي على خلق . ومن هنا أيضا يعرف الطليعي العربي لماذا تمثل القومية والديمقراطية والاشتراكية قيما خلقية بالإضافة الى كونها حلولا اجتماعية وسياسية واقتصادية . ويعرف أخيرا لماذا لا يمكن الاعتداد بنداءات الحرية والوحدة والاشتراكية تخرج من أفواه المنحرفين أخلاقيا ، ويعرف أن انضباطه الخلقي ليس أكثر من تعبير عن وعيه العقائدي وجدية نضاله السياسي . 

وإذ يعرف الطليعي العربي أن الإنسان وحده هو الجدلي وصانع المستقبل ، يكسب من معرفته فضيلة حب الإنسان والثقة في مقدرته الخلاقة ، فيدين بشدة ، وبكل وسيلة مناسبة ، أي احتقار للإنسان ، أو حط من مقدرته ، أو حجب للثقة التي هو أهل لها . لهذا يدين الاستبداد ولا يكون مستبداً ، ويدين العنصرية والكراهية والحقد ولا يتعصب هو ولا يكره ولا يحقد . والثقة المطلقة بمقدرة الإنسان تطهر الطليعي العربي من الانهزامية . إن يقينه بأنه وحده - كإنسان - القادر على تحقيق مصيره تكسبه الجرأة والشجاعة اللازمتين لتحقيق هذا المصير . إن شجاعة الطليعي العربي فضيلة غير قائمة على الاندفاع الجاهل بالظروف ، ولكن على معرفته الواعية بأنه سيد الظروف وقائدها . 

ويعرف الطليعي العربي أن الإنسان إذ يبدع مستقبله ، يتوقف نجاحه على المعرفة الشاملة بالظروف ، وان هذا لا يتم إلا بالمساهمة الجماعية في هذه المعرفة ، ثم الاشتراك في تصميم الحل ، بحكم أن المشكلات من ماض مشترك ، وأن المستقبل للجميع ، وان هذا كله يقتضي اتصال الظروف بوعي الإنسان كما هي بغير تحريف ، وان التعبير عن الظروف بغير صدق ليس تعويقا للتطور فحسب ، بل تضليل يهدر الجهود الإنسانية إذ تنطلق من واقع غير صحيح . لهذا فإن الطليعي العربي لا يكذب ويعتبر أن الكذب قاع الانحطاط الخلقي . إذ هو تزييف للظروف وتخريب لمعرفة الناس بها معرفة صحيحة . وإذا كان الطليعي العربي لا يكذب لأنه لا يزيف الظروف فإنه لا ينافق ولا يضلل ولا يغش ولا يغدر ولا يخون ، ويعرف من وعيه قوانين التطور أن كل تلك الأنماط من السلوك تحول دون الكشف الصادق عن المشكلات ، وتبدد طاقات الإنسان في حلول مشكلات غير حقيقية ، أو تحول تلك الجهود عن مشكلات قائمة . فيدينها كقيم خلقية منحرفة . والأساس العلمي الذي حدد الكذب والنفاق وأخواتهما انحرافات خلقية ايجابية ، هو الذي يحدد الاستبداد بالرأي والتبرم بالناس والضيق بآرائهم انحرافات خلقية سلبية . لهذا يبرأ الطليعي العربي من النزوع الديكتاتوري والتسلط . إن الديمقراطية عنده فضيلة خلقية ونظام سياسي معاً . والديكتاتورية انحطاط خلقي . 

وبعد الحل يتحقق التطور بالعمل المشترك من الجميع لحساب الجميع . لهذا يتميز الطليعي العربي بالشعور الجماعي ، والتعاون ؛ ويعتبرهما قاعدتين أخلاقيتين يلتزمهما ، ويدين على هديهما الفردية والاستغلال والانتهازية ، وكل نمط من السلوك يخرب علاقات الناس ويقف بينهم حاجزا دون التعاون ويبذر فيهم بذور الكراهية والتفكك ، لهذا فإن الطليعي العربي لا يعتدي على حرمات الناس أو أعراضهم أو كراماتهم أو مشاعرهم ولا يقبل هذا العدوان عليه أو على غيره . 

تلك بعض القيم الخلقية التي يحددها الطليعي العربي على أساس منهجه العلمي ، ويقيس عليها أي نمط من السلوك ، سلوك الناس وسلوكه , عندما يرى الطليعي العربي أن أغلب ما يهتدي اليه من القيم الخلقية طبقا لمنهجه متفق مع ما يعرفه من القيم الخلقية العربية ، يصبح الاقتناع الفكري عقيدة ، فلا يحتاج الا الى الممارسة الفعلية للنضال المنضبط في الطليعة العربية ليتخلص من رواسب القيم المنحرفة ويتحصن ضد إغراءات الانحراف . فمع الوعي العقائدي ، والمقدرة على النضال السياسي ، والانضباط الديمقراطي ، تمثل الاستقامة الخلقية في الحياة الخاصة والعامة كلتيهما شرطا لازما ليكون التقدمي العربي طليعيا عربيا . 

ـ 15 ـ

ومدرسة :

إذ تعرف الطليعة العربية أن القيم الخلقية مرتبطة بالوعي العقائدي ، فإن أول مراحل الانتماء اليها تكون مدرسة للوعي ، لا يدان فيها أحد ، ولا يحقر ، ولا تسخف آراؤه ، ولا يتهم ، بل يؤخذ بيده في تسامح وحب ، ورغبة صادقة في التعاون ، ليعي بنفسه عقيدة الطليعة العربية كما هي بدون ادعاء أو مبالغة ، وليكشف بنفسه ما يكون من نقص في وعيه ، أو ضعف في مقدرته الثورية ، أو انحراف في خلقه ، بدون خجل أو سخرية ، فإن وعي المشكلة أول الطريق الى حلها . إن الطليعة العربية لا تشهر بالناس ، ولكن تضع إمكانيات المعرفة والثقافة والوعي تحت تصرف الإخوة العرب ليختاروا أنفسهم القيم التي يرتضونها . وإذا كانت الطليعة العربية تدين القيم المنحرفة فإنها لا تدين المنحرفين دائما ، وإن كانت ترد الانحراف في كل وقت ؛ لأنها تعلم أن المشكلات بنات الظروف . ويلزمها تفكيرها العلمي أن تعرف الأسباب قبل أن تدين الضحايا المنحرفين ، ففي هذا إمكانيات التغلب على الانحراف . إن احترام الطليعة العربية للإنسان ، والثقة به .. تحول دون اعتباره مذنبا دائما ، وإنما المذنب - عند الطليعة العربية يمثل مشكلة لا بد من أن تحل . إن غضبة الطليعة العربية كلها ، ونضالها كله ، ضد الظروف التي تسمح بتخريب حياة الإنسان ، ثم ضد الذين يحولون دون أن تحل مشكلات تلك الظروف ، أو يعمقون جذورها . وفي هذا كله لا تعول الطليعة العربية على ما يدعيه أي واحد لنفسه من وعي ومقدرة وخلق ، ولا على ما ينسبه الى غيره من جهل وعجز وانحراف ، بل تترك للممارسة الحية مهمة الكشف عن نوعية التقدميين . ومن خلال النضال المنظم ، تتاح لكل فرد في الطليعة العربية أفضل الوسائل لوضع وعيه ومقدرته وخلقه موضع التجربة . وبهذا تكون الطليعة مدرسة للوعي وتربية للخلق وقائدة للنضال معاً  .

 

***

 

ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق