الدكتور عصمت سيف الدولة .
الفصل السابع : من الطليعة العربية ؟؟
ـ1ـ
ضرورة :
عرفنا من الأسس أن الظروف غير
جدلية ، وان الإنسان وحده هو مبدع مستقبله وقائد مصيره ، وان الزمان وحده لن يحل
مشكلات الوطن العربي ، بل لا بد من قوة إنسانية تتصدى لمواجهة تلك المشكلات ، على
يقين منها بأن جهودها الخلاقة هي الطريق الوحيد الى تحقيق المستقبل ، وان ما يبدو
مستحيلاً لا يستحيل على مقدرة الإنسان أن تنجزه . من هنا يكون وجود الطليعة
العربية ضرورة قومية ، إذ هي قائدة التطور الى الحرية والوحدة والاشتراكية . فهي
التجسيد الحي لمصير الأمة العربية وأداة تحقيق هذا المصير . هذا حتم علمي لا يتحقق
المستقبل الحر إلا به .. كذلك تدرك الطليعة العربية ذاتها إدراك الواثق بحتمية
وجوده لتحقيق مصير أمته.
ـ 2 ـ
وتنظيم :
إن وعي الطليعة العربية أن الحل
الجدلي للمشكلات لا يتأتى إلا بالمعرفة الجماعية لها ، والتصميم الجماعي للحلول ،
والتنفيذ الجماعي للمستقبل ، يحتم عليها أن تكون تنظيما جماعيا يلتحم داخله كل
التقدميين الثوريين في حركة عربية واحدة ، يتبادلون خلالها الجدل ، فيصقل كل منهم
وعي أخيه ، ويغني ثقافته ، ويدعم نضاله ، في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية .
ـ 3 ـ
عقائدي :
إذا كانت الطليعة العربية تهدف الى تحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية ، فإنها
تتجاوز في هذا كله الحركات السياسية القائمة في الوطن العربي ، التي رفعت شعارات
الوحدة ، او الحرية ، أو الاشتراكية ، أو كلها معاً . فأغلب تلك الحركات تقفز الى
الحلول متأثرة في هذا بالظروف المتغيرة ، فلا تزيد على أن تكون رد فعل لا بد من أن
يتغير بتغير الظروف التي خلقتها ، ويزول بزوالها . غير أنها تزعم أن حلولها مبادئ
وقواعد فكرية ، ثم تسمي نفسها حركات عقائدية . وما أن تتغير الظروف - المتغيرة حتماً
- حتى يتسع الشق بين الحركة المنغلقة على مبادئها وبين الظروف المتغيرة دائماً .
وتلهث الحركات ، التي تدعي لنفسها القيادة ، وراء الظروف محاولة إدراكها ، وعبثاً
تجري ، أو تقفز ، فإن الوقت الذي كان لازما لدعوة الجماهير وتنظيمها وقيادتها الى
تطبيق حلول الانطلاق ، كان كافياً أيضاً لتسبق الظروف ما اجتمعوا عليه ونظموا
أنفسهم من أجله . وعندما يحين وقت التنفيذ ، تكون المشكلات قد تجاوزت الحلول
والمبادئ والوعود ، ويكون الشق قد اتسع حتى أصبح هاوية ، يتردى فيه الداعون
والمدعوون ، فيتهم بعضهم بعضاً ، وتأكل الحركات نفسها ويأكل منها غيرها ، وتترك وراءها
خيبة أمل تعرقل النضال العربي . وهكذا كان الارتباط الجماهيري بحلول لا يربطها
ذاتها أساس فكري واحد يمثل جرثومة الضحالة الفكرية التي فتكت بكثير من الحركات
السياسية العربية .
لهذا تبدأ الطليعة بالبداية .
والبداية منهجها العقائدي الواضح المحدد ، الذي يصلح لتقييم المشكلات ومعرفتها ،
وينير الطريق الى حلولها ، ويرسم النضال في سبيل المستقبل ، ويقوم حكما غير جاهل
عندما يختلف الرأي ، فيكشف الحق والباطل ، وبذلك تكون الطليعة العربية قادرة
دائماً على قيادة الظروف مهما تغير مضمونها ، ومهما تعقدت ، وتتحصن ضد وباء
الانتهازية الذي يسر لكثيرين ركوب أمواج الثورات الشعبية ، ثم تغيير جلودهم بين
حين وحين . إن وحدة المنهج هي الرباط الذي يحفظ للطليعة العربية وحدتها وينسق
نضالها ويحكم بين أعضائها ، ويساعدها على أن تضع لنفسها برنامجاً للتطبيق تحدد به
مسئوليتها أمام الجماهير العربية .
ـ 4 ـ
قومي :
ويحدد وعي الطليعة العربية وجودها
القومي ميدان نضالها ، فتنظمه وتديره على مستوى الأمة العربية كلها ، رفضاً
للتجزئة وتحقيقاً للوحدة في ذاتها ؛ ليمتد إدراكها الى منبت كل مشكلة في الوطن
العربي ، فنعرفها على حقيقتها ، ولتقدم لها الحلول السليمة مستفيدة في هذا بإمكانيات
الكل لحل مشكلات الأجزاء ومشكلات الكل جميعاً . غير أن الطليعة العربية تعرف عن
طريق منهجها الفكري أن كل مشكلة تحل في حدود ما تقدمه الظروف من إمكانيات ، ولا
تحل بالأماني المثالية . وتعرف ، من ناحية أخرى ، أن تجزئة الوطن العربي قد تركت
آثاراً متفاوتة على مستوى تطور الأجزاء ، ونوع بعض المشكلات المحلية التي تطرحها .
لهذا فإن وحدة الطليعة العربية كحركة وتنظيم لا تمنع ان تكون الطليعة العربية في
كل جزء متميزة عنها في باقي الأجزاء بعبء مضاف الى رسالتها القومية ، ينعكس عليها
تنظيما فرعياً من التنظيم الواحد ، ونضالا محلياً مضافاً الى نضالها القومي . وقد
ينعكس هذا على توع التنظيم والنضال ، فهي مقاتلة حيث الاستعمار والرجعية الباغية ،
مسالمة حيث الديمقراطية ، علنية حيث الحرية ، سرية حيث الاستبداد ، تكافح في كل
الظروف طبقا لإمكانياتها ، منطلقة من الواقع المتخلف الى أقصى ما أدركته الأجزاء
المتقدمة ، في إطار الغايات القومية التي تمثلها الطليعة العربية ككل ، مستعينة في
هذا بكل إمكانيات الطليعة العربية كتنظيم قومي واحد .
ـ 5 ـ
ديمقراطي :
ويحتم وعي الطليعة العربية أن الجدل الاجتماعي هو الأسلوب العلمي الوحيد
لمواجهة الظروف ، وحل مشكلاتها ، وتحقيق المستقبل ، ووعيها أن الصراع يعوق الجدل ،
أن تطهر نفسها من إمكانيات الصراع في داخلها ، بأن تنظم تنظيماً حديدياً على أسس
ديمقراطية صلبة : حرية الرأي للجميع ، وعمل الجميع تنفيذاً لرأي الأغلبية . أياً
كان نوع التنظيم الذي تسمح به الظروف في الأجزاء ، فإن ديمقراطية التنظيم في
الطليعة مميز لها كطليعة ، وحصانة لها ضد التخريب والانحراف والانتهازية والفاشية
. لا تهاون في هذا ، ولا استثناء ، مهما كانت الظروف . ولو كان على حساب المقدرة
الوقتية على النضال السياسي ، فإن المقدرة غير الديمقراطية مغامرة . ولو كان على
حساب الكثرة فإن الكثير الفاسد فساد كثير .
"حرية الرأي للجميع ، وعمل
الجميع تنفيذاً لرأي الأغلبية " ، قاعدة ديمقراطية مفروضة على الجميع أي
انحراف عنها رجعية قاتلة .
ـ 6 ـ
في سبيل الوحدة :
ينطلق نضال الطليعة العربية على
أساس أن الوجود القومي شرط التطور ، فتعي ، وتخطط وتناضل على هدي وعيها
، لتحرير الوطن العربي من الاستعمار الظاهر والاستعمار الخفي ، وتقتلع السرطان
الصهيوني اقتلاعاً ، مدركة في هذا أن تحرير الوطن العربي من العدوان عليه أول خطوة
الى تطويره ، وان تطويره الكامل لا يتم الا بالوحدة السياسية . بهذا الوعي القومي
تقاتل الطليعة العربية الاستعمار والصهيونية وتسحق المستعمرين وعملائهم . لا رحمة
في هذا ولا تردد . ثم تفرض الطليعة العربية الوحدة على أثر التحرر ، لا تقبل في
هذا عذراً ، ولا تسمح للرجعية الإقليمية في أي جزء بأن تبقى التجزئة لحسابها ، أو
أن تعطل انطلاق الشعب العربي بقيود من الداخل بعد تحطيم القيود التي كانت مفروضة
عليه من الخارج . والوحدة السياسية عند الطليعة العربية حتم لأنها التعبير السياسي
عن الوجود القومي السابق عليها ، لا تتطلب شرطا سوى التحرر من إرادة الاستعمار
التي فرضت عليه التجزئة . فوعي الطليعة العربية الوجود القومي لا يعرف سبيلا الى
الوحدة إلا أن ترفع الحواجز ليلتحم الشعب العربي في جدل حياتي يحقق به مصيره
الواحد . ولا تنتظر الطليعة العربية حتى تكون المشكلات في كل جزء قد حلت لكي تحقق
الوحدة ؛ لأنها تعلم أن الوحدة العضوية للأمة العربية تعني ألا تحل مشكلات الأجزاء
حلاً سليما إلا في الكل الشامل . بهذه الثورية ترفض الطليعة العربية تبرير الإبقاء
على التجزئة بآثار التجزئة ، وترفض أن توضع منها شرط لإلغاء ما يمزق الكيان الواحد
. غير أن الأسلوب العلمي الذي تنتهجه الطليعة العربية لا يسمح للمثالية أن تضللها
فتتجاهل ما تتطلبه المشكلات المحلية من إدارات محلية ، لأنها تعلم أن الدولة
القومية لا تلغي الإدارات المحلية بل تدعمها ، وتمدها بمزيد من المقدرة على مواجهة
ما تطرحه الظروف المحلية من مشكلات ، إضافة من إمكانيات الأمة الواحدة إلى أبناء
الأمة الواحدة في أي مكان من الوطن الواحد . كما أنها لا تتجاهل ما صنعته التجزئة
، التي امتد بها الزمن ، من آثار تنظيمية واجتماعية ، ميزت بها الأجزاء في مدى
التقدم الحضاري ، وبما صاغته من ألوان الحياة ، فهي تدرك أن هذا ذاته مشكلة يجب أن
تحل بالقضاء على التمايز المصطنع ، وان أسلوب حلها يجب أن يكون علمياً ، وتصبر -
في ظل الوحدة - على ما يبقى من آثار التجزئة ، باذلة الجهد المضاعف لتطهير الوطن
العربي من تلك الآثار.
ـ 7 ـ
والحرية :
في سبيل الحرية ، حرية الإنسان العربي ، وكل إنسان ، تناضل الطليعة العربية
على أساس أن الحرية ليست مقدرة على الفوضى ولكن مقدرة على التطور ، وأن جوهر
الحرية أن تقهر الظروف ، وتفرض إرادتها لتحقق مزيداً من الحرية . لهذا لا تعرف
الطليعة العربية حرية الرجعية ، والسلبية ، واللامبالاة ، كما لا تعرف بالاستغلال
، ولا تعترف بالاستغلال حرية . وهي في نضالها في سبيل الحرية تعرف حدودها ، وترفض
الادعاء بالحرية المطلقة الخالدة التي لا تعرف الحدود . فحرية الوجود القومي شرط
لحرية التطور . وحرية المعرفة شرط لحرية الرأي . وحرية الرأي شرط لحرية العمل .
وكما تلزم الطليعة العربية غيرها حدود الحرية تلتزم هي تلك الحدود . فحيثما
تتصدى للمشكلات ، لا تعرف غير الديمقراطية سبيلا والشعب سنداً . فالشعب إذ هو
الامتداد الأفقي للمجتمع ، يكون المصدر الوحيد لمعرفة المشكلات لأنها مشكلاته . إن
ألف نظرية في وصف الجوع أقل بلاغة من صرخات الجائعين ، وكل ما يقال عن
الديكتاتورية لا يفسرها كما تفسرها آلام المضطهدين . ولا تمتد المشكلة رأسيا إلى
حيث تصبح مشكلة عامة إلا بمقدار الناس الذين تعبر عن آلامهم ، وفي هذا لا يمتاز
إنسان بمهنته ، ولا بثقافته ، ولا بلونه ، ولا بدينه ، ولكن بحدة المشكلة التي
يعانيها كإنسان . ولا تميز الطليعة العربية حدة المشكلة إلا بمدى اتساع جبهة الناس
الذين تفسد حياتهم ، فهي ترفض التقسيم الطبقي ، كما ترفض التقسيم على أساس من
الدين ، أو اللون ، أو المهنة ، وتحترم الإنسان كإنسان ، وتتخذه نقطة انطلاق وغاية
. ويعلمها هذا الاحترام أن ترفع عن الإنسان العربي كل ما يضغط إرادته وأن تحرره
أولا وقبل أي شيء ، من الخوف.
ثم تلقى الطليعة العربية بنفسها في
أحضان الشعب العربي ، وتلتصق به ، وتتفاعل معه تفاعلاً حياً ، وتشاركه آلامه
مشاركة تسمح لها بمعرفة مشكلاته ومدى آلامها . وهي تفعل هذا بحب وتسامح وصبر ؛
لأنها تعلم أن تبادل المعرفة بالمشكلة أول حركات التطور الجدلي . كما تعلم أن
التصميم الجماعي لحل المشكلة هو الحركة الثانية في قانون الجدل . لهذا فهي إذ
تستفيد من إدراكها الشامل للمشكلات ، فتقترح الحلول ، تعرض هذه الحلول للجدل الاجتماعي
لتصقلها خلال المناقشة المتحررة من الخوف والتعصب ، ولتختبر مدى سلامتها على ضوء
قبولها أو تعديلها أو رفضها من الناس أنفسهم أصحاب المشكلات التي هي حلول لها .
وبهذا يصبح الشعب العربي قاعدة الطليعة العربية ومصدر ثقافتها . ولا تفرض الطليعة
العربية على الشعب العربي إرادتها ، ولا تتهمه ، إذ أنها تعلم أن وجود المشكلة لا
يغني عن إدراكها حتى تحل ، وأن عليها ، بحكم وعيها الشامل ، أن تفجر وعي الناس
لمشكلاتهم وحلولها ، وأن عليها أن تصل إلى هذه المقدرة القيادية لتتوافر لها
الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية : توعية الجماهير وتنظيمها
وقيادتها . بهذا تتحصن الطليعة العربية ضد الفاشية والانتهازية ، وتحتفظ بثقتها
التي لا حد لها بالجماهير العربية ، وبهذا تكون طليعة عربية ديمقراطية حقا ، فإن
الثقة التي لا حد لها بالشعب هي جوهر الديمقراطية ، وكل شكل لها ليس أكثر من تنظيم
لإطار التعبير عن تلك الثقة .
ـ 8 ـ
والاشتراكية :
بالوحدة وخلال النضال الديمقراطي تقود الطليعة العربية تطور الوطن العربي الى
الاشتراكية . ففي أي مكان من الوطن العربي ، وأياً كانت درجة النمو الاقتصادي فيه
، تلغي الطليعة العربية الاستغلال أيا كانت اسبابه . لا تسمح الطليعة العربية بأن
تتخذ حرية الملكية ذريعة ليتملك تفر كل شيء تاركين الشعب العربي بدون ملكية على الإطلاق
، أو أن تكون أداة للقهر الاقتصادي . وحيثما قامت الملكية بدون استغلال فإنها
تدعمها حرية مكتسبة . وفي سبيل الاشتراكية تحشد الطليعة العربية جهود الجميع في
عمل منظم على خطة واحدة ، غايتها أن تحقق ، بالأسلوب العلمي ، كل ما تستطيع ظروف
الوطن العربي أن تقدمه من ثروات تكفي ليتحقق لكل عربي المضمون المادي لحرياته ، إذ
الاشتراكية عند الطليعة العربية حرية كاملة ، وبهذا تلتحم الحرية بالاشتراكية لتصبح
الاشتراكية حياة حرة .
في سبيل هذا ، لا تقبل الطليعة العربية الاحتجاج بأي نظام متخلف في الملكية ،
أو الإنتاج ، أو التوزيع ، ولا تنتظر حتى تعلمها التجربة المرة ما تعلمته الشعوب
من مرارة الحياة في ظل الاستغلال الرأسمالي ، بل ترفض أن تنمو في الوطن العربي بذور
الرأسمالية المستغلة أصلا ، وتقتلع جذورها أينما نمت ، متجهة بالتخطيط الاقتصادي
العلمي من حيث انتهى التطور الاقتصادي الى الاشتراكية رأسا ، في طريق مطهر من
بدايته الى نهايته من الاستغلال والقهر الاقتصادي .
غير أن الطليعة لا تخلط بين
الاشتراكية كغاية ووسائل تحقيقها . ولا تتجاهل عدم استواء النمو الاقتصادي في الأجزاء
. ولا تتجاهل ما تركته التجزئة من آثار على التطور الاقتصادي في أقطار الوطن
العربي . لهذا فإن التخطيط الاقتصادي ، ومواجهة مشكلات التطبيق ، ستكون على الوجه
الذي تقتضيه الأساليب العلمية لتجاوز التخلف الى التنمية ثم الرخاء ، مع الاحتفاظ
دائما بالحرية غاية من الاشتراكية . لهذا لا تقبل الطليعة العربية أن يحل مستبد
محل مستبد ، وأن يقوم مستغل مقام مستغل ، ولا تتذرع بالاشتراكية لفرض العبودية .
ولا تقبل الفاشية ولو خططت ولو أممت ، وبهذا تبقى حرية الإنسان العربي في
الاشتراكية العربية غاية الطليعة العربية وحداً لا يتجاوزه التخطيط الاقتصادي .
بهذا الوعي تكشف الطليعة العربية الانتهازيين ولا تكون هي انتهازية ، وتسحق
الفاشية ولا تكون هي فاشية ، وتبقى طليعة عربية اشتراكية ديمقراطية .
ـ 9 ـ
أشمل وعيا :
غير أن الطليعة العربية تتجاوز كل الوحدويين والديمقراطيين والاشتراكيين ،
بوعيها الشامل لتكامل الحرية والوحدة والاشتراكية في الاشتراكية العربية ، التي هي
حل واحد لمشكلة حرية الشعب العربي ، ينطوي على مضامين غير قابلة للتجزئة ، لا في
المحتوى ، ولا في التطبيق . فحرية وجود الشعب العربي تقتضي تحرره من الاستعمار
الذي ينتقص من هذا الوجود . وإذ يجد الشعب العربي نفسه ، فينطلق الى تحقيق حريته
في مواجهة ظروفه ، يحتاج الى الوحدة السياسية ، أي أداة التطور التي تحتمها وحدة
المشكلات . واذ تكون المشكلات مشكلات الشعب ، والحلول حلول الشعب ، فلا بد من أن
يعرف الشعب مشكلاته ، ويقترح لها الحلول ويسهم في تنفيذها ، أي لابد من الديمقراطية
. وفي سبيل أن تتحقق للشعب العربي حريات ذات مضمون مادي ، وليس حريات شكلية ، لا
بد من أن ينظم اقتصاد الوطن العربي إنتاجاً ، وتوزيعاً ، واستهلاكاً ، بحيث يتحقق
المضمون المادي لحريات الشعب بغير استغلال ، أي لابد من الاشتراكية . وكلها يكمل
بعضها بعضا لنؤلف معا نوع الحياة الواحدة التي تناضل الطليعة العربية في سبيل
تحقيقها تحت اسم الاشتراكية العربية . وكما تتكامل مضامين الاشتراكية العربية في
المحتوى لتكون حلاً واحداً ، تتكامل في التطبيق لتكون ثورة واحدة . فالوحدة
السياسية هي أداة التطور التي تحتمها وحدة الوجود القومي . والوحدة تطرح مشكلات
التطبيق على مستواها الحقيقي ، وتقدم الإمكانيات الكاملة للحل الشامل . غير أن هذا
الحل الشامل لن تحققه الظروف تلقائياً . فابتداء من الوحدة يقع على الجماهير
العربية عبء استعمال إمكانياتها لحل مشكلاتها . ولا يتم هذا إلا عن طريق الجدل
الاجتماعي ، فلا بد إذن من الديمقراطية . ومن هنا لا تغني الوحدة عن الديمقراطية
ولا تغني الديمقراطية عن الوحدة . إذ الوحدة نقطة انطلاق ، والديمقراطية تنظيم
لخطا هذا الانطلاق ، أما غاية الانطلاق فالاشتراكية . الوحدة شرط لمعرفة المشكلة
معرفة صحيحة ، والديمقراطية شرط لحلها حلا سليما ، والاشتراكية تنفيذ لهذا الحل ،
وبذلك تكون معا الحركة الجدلية للنضال العربي .
لا ينقص التقدميين العرب إلا الوعي
الشامل ليعرفوا هذه الوحدة العضوية لغايات الشعب العربي . وبهذا الوعي الشامل
تتجاوز الطليعة العربية التقدميين العرب لتكون به طليعة النضال العربي .
ـ 10 ـ
نقطة الانطلاق :
في سبيل تلك الغايات ، وعلى هدى
وعيها الشامل ، تقود الطليعة العربية نضال الشعب العربي على أسس علمية ، لا مدعية ولا
متمنية ، إذ لا مكان للمثالية في تطوير الشعب . فالخطوة الأولى في سبيل الحرية
والوحدة والاشتراكية تبدأ من حيث انتهى التطور . من واقع الاستعمار وفي ظله يبدأ
النضال في سيل التحرر . وفي الأقطار المجزأة يبدأ النضال في سبيل الوحدة . ومن
التخلف الاقتصادي تبدأ المسيرة الى الاشتراكية . لهذا تعلم الطليعة أن التطبيق
الاشتراكي في مصر مثلا لن يكون مماثلا في نفس الزمان للتطبيق الاشتراكي في اليمن
أو العراق أو الحجاز أو السودان أو غيرها من الأقطار العربية . ولن تتحقق
الديمقراطية في الوطن العربي بمجرد توحيد نظم الانتخاب والتمثيل . ولن يعود كل قطر
الى حظيرة الوطن العربي الكبير بأسلوب واحد . ولن يتحقق كل هذا بالوعود ، أو
العهود ، أو بالألفاظ ترص رصا في البيانات والدساتير والقوانين . إنما يتحقق
بالمواجهة الثورية للظروف ، وتطبيق الحلول العلمية الملائمة لمشكلاتها ، للقضاء في
النهاية على التجزئة والتخلف والاستبداد ، مع احتفاظ الطليعة العربية دائما ، وفي
كل الظروف ، بالغايات القومية ، فتقود الظروف الى تلك الغايات لا تنحرف ولا تتوه
ولا تتراجع .
ـ 11 ــ
ثم الثورة :
إن عمق الوعي وشموله ، ووضوح
المنهج الفكري يحدد الثورة أسلوبا لنضال الطليعة العربية ، تستمد المقدرة عليها من
ثقتها بأمتها ، وبنفسها ، وبأنها تناضل في سبيل غايات منتصرة . وفوق هذا تعرف
الطليعة العربية ما الثورة ، وضد من تثور ، وتحدد على ضوء هذا موقفها من الظروف ،
ومن الناس ، ولا ترفع شعار الثورة ادعاء وتضليلا ، ولا تتخذه ذريعة الى الإجرام
الدامي ، فحيثما كان الشعب العربي قادرا مقدرة مشروعة قانونا على الكفاح
الديمقراطي في سبيل غاياته ، يكون أسلوب نضال الطليعة العربية توعية الجماهير ،
وتنظيمها ، وقيادتها ، في نضال ديمقراطي لتحقيق غاياتها ، إذ حيث تقوم الديمقراطية
لا يوجد مبرر الثورة إلا مجازا ببذل الجهد المضاعف لبناء الحياة . أما حيث تفرض
على ارادة الجماهير قيود تسلبهم حريتهم : ببطش الاستعمار ، أو الاستبداد الفاشستي
، أو القهر الاقتصادي ، أو القتال الباغي ، فإن الطليعة العربية تحطم النظم
والقوانين والعلاقات التي يصوغها المستبدون قيودا على إرادة الجماهير . وحيث تبيح
القوانين العنف ضد الشعب ترد الطليعة العربية العنف بمثله ، وتحطم القيود لتعود
بالشعب الى الحرية ، فتعود الى توعيته وتنظيمه وقيادته لا تقتل ولا تقهر ولا تستبد
. وعلى هذا تحدد الطليعة العربية موقفها من أعدائها ، فلا تطغى ولا تقبل الطغيان .
عندئذ فإن مسؤولية الدماء ستكون على رؤوس المعتدين ، ولن تتوقف الثورة احتراماً
لإرادة المستعمرين والمستبدين والرجعيين . أما التقدميون فإن الطليعة العربية
مفتوحة الأبواب لكل طليعي منهم .
ـ 12 ـ
فمن الطليعي ؟
لا يكفي الوعي الأكاديمي لأفكار
الطليعة العربية وقبول مبادئها ، ولا يكفي الانضباط الديمقراطي داخل الطليعة ، ولا
تكفي المقدرة على النضال الثوري ، ليكون التقدمي طليعياً . فقد تعلمت الطليعة
العربية من التجربة المرة كيف ينحرف من كانوا يبدون أكثر الناس وعياً ، وكيف يخون
من كانوا يبدون أكثر الناس إخلاصا ، وكيف ينهزم من كانوا يبدون أكثر الناس مقدرة
على النضال . ورأت الطليعة العربية - وتعلمت مما رأت - خيانة فقهاء الوحدة للوحدة
، وخيانة فلاسفة الاشتراكية للاشتراكية ، وخيانة الديمقراطية من دعاة الديمقراطية
، واتضح من التجربة المرة في الوطن العربي أن المعول النهائي في أية حركة سياسية
على نوعية اعضائها ، وان انضباط التنظيم ، واتساع القاعدة ، وحتى سلامة الاتجاه في
أية حركة سياسية ككل ، لا تمنع الخيانة والانحراف والتخريب ، عندما تصل الى مرحلة
التنفيذ وتحمل المسئولية . لقد أثبتت التجربة كيف أن أروع المبادئ تصبح نفاية قذرة
في الأيدي الملوثة ، وأجمل الدعوات تصبح تضليلا قبيحاً من أفواه الكذابين . وبذلك أثبتت
الحياة ذاتها أن أي مذهب أو نظام لا يكون قابلا للترجمة الى ما يغني حياة الإنسان
ماديا وخلقيا وفكريا لغو لا يستحق أن يبذل جهد من أجله ، وأن الاستقامة الخلقية
ليست ضرورة في الأعضاء فحسب ، بل غاية في الحركة أيضا . وبهذا لم يعد مفهوما كيف
يؤدي الفقر الخلقي الى اغتناء حياة الناس ، وكيف يمكن لأية حركة تجرد أعضاءها من
غاياتها أن تحقق تلك الغايات . كان هذا حصاد التجربة ، فلما أن ثبت علميا أن الإنسان
غاية كل تطور ، أصبحت أية حركة مفرغة من مضمون أخلاقي عاجزة حتما عن تحقيق مستقبل
أفضل . لهذا لابد للطليعة العربية من أن تكون غنية حتى تغنى ، وان تكون الاستقامة
الخلقية شرطا في أعضائها ، وغاية من غاياتها ، وبذلك تتجاوز الطليعة العربية كل
الحركات السياسية المعاصرة ، ويصبح لها ، بالإضافة الى الفكر الذي تقيس عليه مدى
الوعي ، والتنظيم الذي تقيس عليه مدى الانضباط الديمقراطي ، والثورة التي تقيس
عليها مدى المقدرة على النضال ، مفهوم اخلاقي نقيس عليه مدى صلاحية الواعي المنظم
المناضل ليكون طليعياً .
ـ 13 ـ
اخلاق الطليعة :
إن ضرورة المضمون الأخلاقي في أية حركة سياسية لا تعني اصطناع نماذج خلقية لا
جذور لها في المجتمعات التي تعيش فيها . تلك مثالية عقيمة . ولكن تعني أن تكون
شاملة لقضايا الإنسان تأكيدا لأصالتها ، وصدق تعبيرها عن ضرورات الحياة التي تتصدى
لتطويرها . وقد تكفلت الممارسة الطويلة للحياة المشتركة ، وتفاعل الناس في كل
مجتمع بإرساء قواعد السلوك السوي والسلوك المنحرف . واستمدت الشعوب القيم الخلقية
السائدة فيها من التجارب التي صقلتها حتى انقلبت الى حقائق في وجدان المجتمع تصلح
للحكم دون تقصي علة الإدانة . ففي كل مجتمع حصيلة غنية من القيم التي كانت وليدة
تاريخه الخاص . ومهما بعدت المبررات الاجتماعية التاريخية للقيم الخلقية ، فإن تلك
القيم حقائق كافية تظهر عند أي استفزاز سلوكي ، فتدينه الجماهير طبقا لمقاييسها
السائدة . وتكون هذه الحصيلة من القيم عنصرا هاما من عناصر ظروف كل أمة ، فيه اصدق
الدلالات على إمكانيات تطويرها واتجاه هذا التطوير . لهذا يكون عبثا أن تحاول أية
حركة سياسية الإسهام في تحقيق مصير أمة متجاهلة خصائصها الخلقية ، غير مقومة تلك
الخصائص ، وغير معدة لمستقبلها قيمه الخلقية ، وغير مبررة كل هذا على هدى نظرية
علمية صلبة . ذلك أن المقاييس المستمدة من الماضي قد تصلح للحكم على مثل ما كان
موضع تجربة ماضية ، إلا أن الحياة تطرح في كل يوم جديداً . وتحتاج في كل يوم الى
تقييم أنواع من السلوك لم يكن لها مقابل فيما مضى . ولا شك في أن التاريخ الطويل
الذي قضته الأمة العربية في ظل الدين الذي تكونت به أمة ، ثم صنعت الحياة على هدى
القيم التي أرساها ، قد وفر بها حصيلة بالغة الخصوبة والسمو معا يمكن أن تسمى
أخلاقا إسلامية . ولا يزال العربي يتميز بالعزة والصدق والشجاعة والمروءة والكرم
... الخ ، مميزات لم تأته من البداوة الضارية ولكن من حياة الأخوة في ظل الثقافة الإسلامية
. غير أن السمة الإنسانية العامة للقيم الخلقية الإسلامية تركت الفرصة للمغرضين من
أدعياء الدين ، الجاهلين به ، لكي يتلمسوا من تاريخ المسلمين ما يثبتون به قيم
التخلف والهزيمة . يعارضون بحصيلة الانحطاط في بعض مراحل التاريخ أسمى القيم الخلقية
كافة ، بحجة أن المنحطين كانوا حينئذ مسلمين . لهذا لابد من إرساء القيم الخلقية
على أساس علمي ، فإن صح المنهج الذي يرسيها فلا بد أن يتفق مع الحق مما ينسب الى
الدين ؛ لأن جدل الإنسان لا ينقض الأديان ، ولكن يفسر بالمنهج العلمي في زمان معين
ما يخص زمانه ، قدرا مما جاءت به الأديان لكل زمان .
وسيلة الطليعة العربية الى تحديد الأساس العلمي لنظريتهما في الأخلاق لابد أن
يكون ذات المنهج الذي يحكمها حركة ووعيا ونضالا . واستيعاب ذلك المنهج والإحاطة
بأبعاده يضع في أيدي الطليعة العربية مقياسا دقيقا لاستواء السلوك الخلقي أو
انحرافه . لهذا تركز الطليعة العربية على نضج الوعي العقائدي والالتزام الديمقراطي
لتثبيت القيم الخلقية واستواء السلوك المعبر عنها . وهكذا لا تعرف الطليعة العربية
الفصل بين القيم الخلقية وبين أهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ولا
يمكن أن تقلل من دلالة الانحراف الخلقي على الانحراف العقائدي والنضالي معاً ،
وشعارها في هذا أن الإنسان المفرغ من القيم الخلقية لا يمكن أن يكون واعيا أو
مناضلا أو تقدميا .
وجدل الإنسان يزود الطليعة بمقياس التقييم الخلقي . معنى هذا انها تستطيع على
هديه تحديد القيمة الخلقية لأي نمط من السلوك مهما كان مضمونه . وأنماط السلوك لا
حصر لها ؛ لهذا يكفي عرض بعض المفاهيم الخلقية التي يمكن أن يؤدي إليها استيعاب
جدل الإنسان .
في الإجابة عن السؤال الأول : ما الفضيلة وما الرذيلة ؟ ما الخير وما الشر ؟
يقدم جدل الإنسان إجابة غير مشوبة بالمعاني المجردة التي تصاغ لتأييد مواقف سابقة
. فإذ يحدد جدل الإنسان الحركة الجدلية التي يتم خلالها التطور تكون الإجابة على
الفور . إن كل ما يسهم في التطور ويساعده فضيلة ، وكل ما يقف في سبيل التطور
ويعرقله رذيلة . وبذلك يكون للفضيلة وللرذيلة أساس علمي فلا تختلطان ؛ فهما قيمتان
مرتبطتان بحركة المجتمع نفسه . ولما كانت حركة المجتمع تتم على أسس علمية ، وكان
تحليل الحركة ذاتها يكشف عن ترتيب خاص ، فإن الانضباط المحكم لحركة التطور هو ذاته
الذي يضبط تقييم الفضيلة والرذيلة ، دون أن يترك ثغرة للمثالية العقيمة . هذا الارتباط
بين الفضيلة والرذيلة وبين حركة التطور يحدد أبعاد الفضيلة والرذيلة أيضا .
فإذا كان التطور اندفاعا من الماضي الى المستقبل يخلف وراءه في كل وقت ما يفقد
قيمته ، فما يكون جديدا يصبح ماضيا ليخرج منه جديد ، فإن مؤدى هذا أن قيمة مضمون
التطور مرتبطة بالزمان الذي يقتضيها ، والزمان الذي تتم فيه ، وأنها قيمة نسبية في
الزمان . ومن هنا لا يصح ما يقال له الخير المطلق أو الشر المطلق . إن أسمى
الفضائل في عصر من العصور قد تكون أحط الرذائل في عصر غيره ، لأن الفضيلة والرذيلة
، إذ هما مرتبطتان بالتطور ، لا يمكن أن تتخطياه . فكما أن حاجة المجتمعات متغيرة
، فإن القيم المعبرة عنها متغيرة معها . لا يقدح في هذا اختلاف مدى التغيير وإمكان
إدراكه . فإن كانت بعض الفضائل تبدو كما لو أنها مطلقة لأن الإدراك لم يتصل
بالماضي الذي سبقها ، ولم يتصل بالمستقبل الذي يتخطاها ، فليس معنى هذا انها خالدة
أو مطلقة ، ولكن معناه ، أنه على مدى الإدراك في زمان معين ، تبدو تلك الفضائل
متفقة مع ضرورات الحياة التي يحيط بها الإدراك ، لا أكثر من هذا .
كل شيء نسبي في الزمان حتى الفضيلة والرذيلة . غير أنه منذ أن وجد الإنسان
وجدت معه قيم متصلة به كإنسان ، فهي وإن كانت عامة ، إلا أنها ليست مفهوما مجردا ،
أو فكرة مطلقة ، بل قيمة إنسانية لا تنسب مثلا الى الحيوان ولو كان الحيوان قد سبق
الإنسان وجوداً . وسنلتقي فيما يرد من حديث ببعض من هذه القيم التي استمدت سمة
الفضيلة فيها من أنها للإنسان وحده وأنها بعض إنسانيته .
أول أثر لهذا أن الفضائل التي تتصل
بالإنسان كإنسان فضائل عامة لا يحدها مكان . وفيما بعد هذا تتحدد نقطة انطلاق كل
مجتمع من ظروفه ، وتطبع الظروف المشكلات التي تطرحها بطابعها ، وتقدم إمكانيات
الحلول الخاصة بها ، ليستطيع الإنسان الذي يعيش في تلك الظروف أن يحقق مستقبلا
خاصا به . ومعنى هذا أن مضمون التطور يختلف من مجتمع الى مجتمع في المكان ، وتختلف
معه القيم المعبرة عنه . صحيح أن هذا التخصيص غير دائم ، لأن المجتمعات الإنسانية
مندفعة الى تخطي حواجز التخلف بينها ، ولكن الى أن يستوي التطور على درجة إنسانية
واحدة ، تبقى لكل مجتمع مشكلاته الخاصة ، وفضائله الخاصة ، ويمكن هنا القول بأن
الفضيلة والرذيلة ليستا مطلقتين في المكان كما أنهما ليستا مطلقتين في الزمان .
لكل مجتمع فضائله ورذائله . لكل مجتمع أخلاقه .
ـ 14 ـ
أخلاق الطليعي
العربي :
على ضوء هذه الوحدة بين الوعي والتنظيم والأخلاق ، يتحدد موقف الطليعي حيال
سلوك غيره ويتحدد سلوكه هو . فالطليعي العربي لا يدين سلوكا كان وليد ظروف مجتمع
غير المجتمع العربي ، إلا أن يكون عدوانا على إنسانية الإنسان ؛ لأنه وهم شركاء في
المجتمع الإنساني . أما في غير هذا ففضيلته الخاصة أن يحترم عادات وتقاليد وأخلاق
الشعوب كافة . لأن الطليعي العربي يعرف أنه مهما تبدو تلك العادات والتقاليد
وقواعد السلوك شاذة في نظره ، بل حتى لو بدت له رذائل يعجب كيف يطيقونها ، فإنها
من صنع ظروفهم ، وأن تغييرها رهن بمعاناتهم حيث يعيشون ، ومن حيث ينطلقون . وبذلك
يتميز الطليعي العربي بهذه النظرة المتسامحة المفعمة بحب الناس كلهم ، وقبولهم كما
هم ، المؤسسة على إدراك القيمة النسبية المتساوية لأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم .
وبهذه النظرة ذاتها يرفض الطليعي العربي التفوق الطبيعي الذي تدعيه بعض الأجناس ،
ولا يدعيه لنفسه .
وإدراك الطليعي العربي نسبية القيم الخلقية تحرره من الشعور بالنقص إزاء إخوة
له من بني البشر ، وتغني ثقته بنفسه وبأمته وتقاليدها وأخلاقها وتمنحه الوضوح
الكافي لكشف الوسائل المغلفة بدعوات أخلاقية التي تهدف في حقيقتها الى فرض قيم
غريبة على أمته تمهيداً لإهدار ذاتيته . كما أن الطليعي العربي لا يضيق بما تفرضه
عليه أمته من قواعد الأخلاق ، ولا يصطنع لنفسه سلوكا مستعارا من خارج بيئته ؛ لأنه
يعلم أن السلوك السوي لا يكون بالإفلات الفردي من الظروف القومية ، والانتماء
المشبوه الى مجتمعات غريبة ، بل يكون بالتعاون الجماعي لحل مشكلات الظروف المشتركة .
وفي مواجهة نفسه يستمد الطليعي العربي من وعيه قيمه الخلقية كإنسان:
فهو يعرف أنه متأثر بغيره مؤثر فيه غير منفصل عن الناس أو عن الظروف ، وأنه في
تأثره وتأثيره متحرك جزءا مع الكل حركة دائمة ، ومتغير معه تغيرا غير منقطع حتى لو
لم يدركه حسيا ، وأن التأثير والتأثر والحركة الدائمة والتغير المستمر قوانين
حتمية تحكمه وتحكم كل شيء معه . من هذه القاعدة الأولى يكوّن الطليعي العربي قيمه
الخلقية الأولى ، فلا يكون سلبيا ، او لا مباليا ؛ لأن السلبية واللامبالاة ليست
انحرافات خلقية فحسب بل جدب وفراغ خلقي أيضا إذ هي مضادة لقوانين الحياة . كذلك كل
ما يتصل بها ويتفرع عنها من أنماط السلوك كالأنانية ، والطمع ، والغرور ،
والاستعلاء ، انحرافات خلقية ؛ لأنها تعبر عن إنكار ، أو تجاهل ، التأثير المتبادل
بين الإنسان والنوع الذي ينتمي إليه . وبينه وبين الظروف التي يحياها . إن الطليعي
العربي لا يمكن أن يتصور لحظة واحدة أنه قائم بذاته ، غني عن الناس ، وعن الأشياء
، وأنه المحور الوحيد الذي يجب أن تدور عليه أفكاره وأحلامه . ولا يمكن أن يسقط كل
مصلحة إلا مصلحته ، أو يحاول أن يحقق مستقبلا موهوما على حساب مستقبل غيره ، ولا
أن يحل مشكلاته على أنقاض حياة الناس . تلك قيم خلقية تضبط سلوكه استمدها من علمه
أنه جزء من كل وأنه ليس المؤثر الوحيد في كل شيء الذي لا يتأثر بأي شيء .
ثم أن الطليعي العربي ، يعرف أن التأثير المتبادل يؤدي في حركته الى تغير دائم
، وأن أحداً ، لا يفلت من هذا المصير . عندئذ تصبح التقدمية خلقا طليعيا ، وتصبح
الرجعية عقما أخلاقيا محضا . إن الطليعي العربي لا يعرف شيئا أو أحدا ، يستحق
الخلود ؛ لأن قوانين الحياة لا تسمح بهذا الخلود . ويعرف بهذا أن معرفة التاريخ
علم ، ومحاولة إعادته انحراف جاهل . لهذا يطهر نفسه من كل القيم والتقاليد والأخلاق
التي كانت حصيلة الأطوار التاريخية التي انتهت الى غير رجعة . لقد ولى العهد
القبلي فحتم أن يكون الطليعي العربي مطهرا من التعصب القبلي . وانقضت المجتمعات
الدينية فحتم على الطليعي أن يكون مطهرا من التعصب الديني . إن الطليعي العربي لا
يتحيز للماضي ، ولا يعطل المستقبل ، ومن هنا يعرف لماذا لا يمكن أن يكون الانفصالي
، او الإقليمي ، أو الرأسمالي على خلق . ومن هنا أيضا يعرف الطليعي العربي لماذا
تمثل القومية والديمقراطية والاشتراكية قيما خلقية بالإضافة الى كونها حلولا
اجتماعية وسياسية واقتصادية . ويعرف أخيرا لماذا لا يمكن الاعتداد بنداءات الحرية
والوحدة والاشتراكية تخرج من أفواه المنحرفين أخلاقيا ، ويعرف أن انضباطه الخلقي
ليس أكثر من تعبير عن وعيه العقائدي وجدية نضاله السياسي .
وإذ يعرف الطليعي العربي أن الإنسان وحده هو الجدلي وصانع المستقبل ، يكسب من
معرفته فضيلة حب الإنسان والثقة في مقدرته الخلاقة ، فيدين بشدة ، وبكل وسيلة
مناسبة ، أي احتقار للإنسان ، أو حط من مقدرته ، أو حجب للثقة التي هو أهل لها .
لهذا يدين الاستبداد ولا يكون مستبداً ، ويدين العنصرية والكراهية والحقد ولا
يتعصب هو ولا يكره ولا يحقد . والثقة المطلقة بمقدرة الإنسان تطهر الطليعي العربي
من الانهزامية . إن يقينه بأنه وحده - كإنسان - القادر على تحقيق مصيره تكسبه
الجرأة والشجاعة اللازمتين لتحقيق هذا المصير . إن شجاعة الطليعي العربي فضيلة غير
قائمة على الاندفاع الجاهل بالظروف ، ولكن على معرفته الواعية بأنه سيد الظروف
وقائدها .
ويعرف الطليعي العربي أن الإنسان إذ يبدع مستقبله ، يتوقف نجاحه على المعرفة
الشاملة بالظروف ، وان هذا لا يتم إلا بالمساهمة الجماعية في هذه المعرفة ، ثم
الاشتراك في تصميم الحل ، بحكم أن المشكلات من ماض مشترك ، وأن المستقبل للجميع ،
وان هذا كله يقتضي اتصال الظروف بوعي الإنسان كما هي بغير تحريف ، وان التعبير عن
الظروف بغير صدق ليس تعويقا للتطور فحسب ، بل تضليل يهدر الجهود الإنسانية إذ
تنطلق من واقع غير صحيح . لهذا فإن الطليعي العربي لا يكذب ويعتبر أن الكذب قاع
الانحطاط الخلقي . إذ هو تزييف للظروف وتخريب لمعرفة الناس بها معرفة صحيحة . وإذا
كان الطليعي العربي لا يكذب لأنه لا يزيف الظروف فإنه لا ينافق ولا يضلل ولا يغش
ولا يغدر ولا يخون ، ويعرف من وعيه قوانين التطور أن كل تلك الأنماط من السلوك
تحول دون الكشف الصادق عن المشكلات ، وتبدد طاقات الإنسان في حلول مشكلات غير
حقيقية ، أو تحول تلك الجهود عن مشكلات قائمة . فيدينها كقيم خلقية منحرفة . والأساس
العلمي الذي حدد الكذب والنفاق وأخواتهما انحرافات خلقية ايجابية ، هو الذي يحدد
الاستبداد بالرأي والتبرم بالناس والضيق بآرائهم انحرافات خلقية سلبية . لهذا يبرأ
الطليعي العربي من النزوع الديكتاتوري والتسلط . إن الديمقراطية عنده فضيلة خلقية
ونظام سياسي معاً . والديكتاتورية انحطاط خلقي .
وبعد الحل يتحقق التطور بالعمل المشترك من الجميع لحساب الجميع . لهذا يتميز
الطليعي العربي بالشعور الجماعي ، والتعاون ؛ ويعتبرهما قاعدتين أخلاقيتين
يلتزمهما ، ويدين على هديهما الفردية والاستغلال والانتهازية ، وكل نمط من السلوك
يخرب علاقات الناس ويقف بينهم حاجزا دون التعاون ويبذر فيهم بذور الكراهية والتفكك
، لهذا فإن الطليعي العربي لا يعتدي على حرمات الناس أو أعراضهم أو كراماتهم أو
مشاعرهم ولا يقبل هذا العدوان عليه أو على غيره .
تلك بعض القيم الخلقية التي يحددها
الطليعي العربي على أساس منهجه العلمي ، ويقيس عليها أي نمط من السلوك ، سلوك
الناس وسلوكه , عندما يرى الطليعي العربي أن أغلب ما يهتدي اليه من القيم الخلقية
طبقا لمنهجه متفق مع ما يعرفه من القيم الخلقية العربية ، يصبح الاقتناع الفكري
عقيدة ، فلا يحتاج الا الى الممارسة الفعلية للنضال المنضبط في الطليعة العربية
ليتخلص من رواسب القيم المنحرفة ويتحصن ضد إغراءات الانحراف . فمع الوعي العقائدي
، والمقدرة على النضال السياسي ، والانضباط الديمقراطي ، تمثل الاستقامة الخلقية
في الحياة الخاصة والعامة كلتيهما شرطا لازما ليكون التقدمي العربي طليعيا عربيا .
ـ 15 ـ
ومدرسة :
إذ تعرف الطليعة العربية أن القيم الخلقية مرتبطة بالوعي العقائدي ، فإن أول
مراحل الانتماء اليها تكون مدرسة للوعي ، لا يدان فيها أحد ، ولا يحقر ، ولا تسخف
آراؤه ، ولا يتهم ، بل يؤخذ بيده في تسامح وحب ، ورغبة صادقة في التعاون ، ليعي
بنفسه عقيدة الطليعة العربية كما هي بدون ادعاء أو مبالغة ، وليكشف بنفسه ما يكون
من نقص في وعيه ، أو ضعف في مقدرته الثورية ، أو انحراف في خلقه ، بدون خجل أو
سخرية ، فإن وعي المشكلة أول الطريق الى حلها . إن الطليعة العربية لا تشهر بالناس
، ولكن تضع إمكانيات المعرفة والثقافة والوعي تحت تصرف الإخوة العرب ليختاروا
أنفسهم القيم التي يرتضونها . وإذا كانت الطليعة العربية تدين القيم المنحرفة
فإنها لا تدين المنحرفين دائما ، وإن كانت ترد الانحراف في كل وقت ؛ لأنها تعلم أن
المشكلات بنات الظروف . ويلزمها تفكيرها العلمي أن تعرف الأسباب قبل أن تدين
الضحايا المنحرفين ، ففي هذا إمكانيات التغلب على الانحراف . إن احترام الطليعة
العربية للإنسان ، والثقة به .. تحول دون اعتباره مذنبا دائما ، وإنما المذنب -
عند الطليعة العربية يمثل مشكلة لا بد من أن تحل . إن غضبة الطليعة العربية كلها ،
ونضالها كله ، ضد الظروف التي تسمح بتخريب حياة الإنسان ، ثم ضد الذين يحولون دون
أن تحل مشكلات تلك الظروف ، أو يعمقون جذورها . وفي هذا كله لا تعول الطليعة
العربية على ما يدعيه أي واحد لنفسه من وعي ومقدرة وخلق ، ولا على ما ينسبه الى
غيره من جهل وعجز وانحراف ، بل تترك للممارسة الحية مهمة الكشف عن نوعية التقدميين
. ومن خلال النضال المنظم ، تتاح لكل فرد في الطليعة العربية أفضل الوسائل لوضع
وعيه ومقدرته وخلقه موضع التجربة . وبهذا تكون الطليعة مدرسة للوعي وتربية للخلق
وقائدة للنضال معاً .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق