الشباب العربي والهوية
مشكلة الانتماء
د . عصمت سيف الدولة
" أوصيكم بالشباب خيرا فانهم أرق أفئدة . لقد بعثني الله بشيرا
ونذيرا فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ "
صدق رسول الله ( ص) .
(1)
مدخل
1985 عام الشباب :
1-
منذ خمسة أعوام أصدرت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة قراراً باعتبار عام 1985
عاما دوليا للشباب، تتكاتف خلاله الجهود وتتكامل من أجل دراسة منظمة ومكثفة
وعالمية لمشكلات شباب العالم وحلولها وأساليب تحقيق تلك الحلول . وقد بدأ التحضير
له مبكراً . فمنذ عام 1980 وافقت هيئة الأمم المتحدة على وضع برنامج محدد لنشاطها
خلال عام 1985 . وأنشأت لقيادة هذا النشاط ومتابعته – حتى بعد انقضاء عام 1985 –
أمانة عامة مقرها فيينا ( النمسا ) ، واختارت لها أميناً عاماً هو الأستاذ محمد
شريف . وعملت على أن تتكون في أغلب الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة لجان
للتحضير للنشاط الدولي المرتقب والمساهمة فيه . وأصدرت من أجله نشرة خاصة تتابع
ذلك النشاط وتعمل على نشره وتبادل أخباره وخبرته . ثم انها أتاحت لكل المنظمات غير
الحكومية المعنية بالشباب ومشكلاته فرصة المساهمة ايجابياً في التحضير والمشاركة
والنشاط العالمي تحت مظلة هيئة الأمم المتحدة بدون وساطة الدول التابعة لها . أكثر
من هذا أنها اتجهت اتجاهاً جاداً الى دراسة كيفية شق قنوات اتصال مباشر بين الشباب
كافة وبين المنظمة الدولية والإبقاء على هذا الاتصال بدون عوائق .
2-
اتسع نطاق هذا التحضير ابتداء من عام 1983 . ففي ذاك العام انعقدت أربعة مؤتمرات إقليمية
بدعوة من هيئة الأمم المتحدة وتحت إشرافها في نطاق التحضير للعام الدولي
للشباب ، هي : المؤتمر الإقليمي لدول آسيا والباسيفيك الذي انعقد في تايلاندا ،
والمؤتمر الإقليمي لدول أمريكا اللاتينية الذي انعقد في كوستاريكا ، والمؤتمر الإقليمي
لدول غرب آسيا الذي انعقد في العراق والمؤتمر الاقليمي لدول أوروبا الذي انعقد في
رومانيا .
وتوالت المؤتمرات واللقاءات والندوات خلال عام 1984 بكثافة ملفتة :
في ليما (بيرو) من 29 مارس إلى 6 أبريل ، وفي فيينا (النمسا) من 2 إلى 11 أبريل،
وفي كوالالمبور- (ماليزيا) من 9 إلى 14 أبريل ، وفي صوفيا (بلغاريا) من 11إلى 19
أبريل ، وفي بلاجيو ( ايطاليا ) من 30 أبريل الى 2 مايو، وفي بلفاست ( ايرلندة
الشمالية) من 6 الى 12 مايو، وفي بيكين (الصين) من 14 الى 18 مايو، وفي نيقوسيا
(قبرص ) من 4 الى 19 مايو وفي كوستونق (رومانيا ) من 28 مايو إلى 2 يونيو، و في
جنيف ( سويسرا ) من 19 مايو الى 1 يونيو، وفي سالزبورج ( النمسا ) من 16 الى 22
يونيو ، وفي بوخارست ( رومانيا ) من 18 الى 22 يونيو وفي ميونخ ( ألمانيا الغربية
) من 21 الى 24 يونيو ، وفي بيونس ايرس ( الأرجنتين ) من 11 الى 15 يوليو ، وفي
سنداي ( اليابان ) من 15 الى 25 يوليو ، وفي تري تاون ( الولايات المتحدة الأمريكية
) من 16 الى 22 يوليو ، وفي بانجوك ( تايلاند ) من 26 الى 30 يوليو ، وفي أرهوس (
الدانمرك ) من 6 الى 9 أغسطس ، وفي مونتريال ( كندا ) من 5 الى 11 أغسطس ، وفي
كولومبو ( سيري لانكا ) من 29 أكتوبر الى 2 نوفمبر ، وفي هافانا ( كوبا ) من 4 الى
8 نوفمبر … الى آخره .
وحين بدأ عام 1985 كانت قد تحددت بوادر انعقاد سلسلة أخرى من
المؤتمرات واللقاءات والندوات فيما بين يناير وأغسطس 1985 : في بلفاست ( ايرلندة
الشمالية ) ونيويورك ( الولايات المتحدة الأمريكية ) وسان باولو ( البرازيل )
ومونتريال ( كندا) ونيروبي ( كينيا) وموسكو ( الاتحاد السوفييتي ) وتامبير (
فنلندة ) واوبرشوتزن ( النمسا وبرشلونة ( اسبانيا ) واوروفيل ( الهند ) … الى آخره
.
3-
متابعة ما نشر وما ينشر من أخبار وخبرات تلك الاجتماعات تكاد توحي الى المتابع أن
العالم موشك على مواجهة كارثة شاملة ذات صلة وثيقة بالشباب، خاصة اذا قارنها بحجم
وكثافة المؤتمرات أو اللقاءات أو الندوات التى انعقدت خلال عام واحد لمواجهة مخاطر
الحرب العالمية الثالثة وأسلحتها النووية وهي مخاطر فناء البشر وليست مجرد كارثة
تصيب البشرية.
4-
وكأنما خشيت هيئة الأمم المتحدة ألا يصدق الناس أن مشكلات البشرية قد حلت ولم يبق
إلا مشكلات الشباب فأرادت أن تضخم الكارثة إلى الحد الذي يثير الفزع في النفوس
فعادت الى ما كانت قد اكتشفته خلال نشاطها عام 1979. وقد كان عام 1979 مخصصاً –
بناء على قرار من هـيئة الأمم المتحدة – ليكون العام الدولي للطفل . وقد أسفر
العام الدولي للطفل عن حقائق مفزعة حقا سمحت لإحدى نشرات هيئة الأمم المتحدة بأن
تتحدث عنها تحت عنوان ” الأيام السوداء ” وهي تعنى العصر الذي نحياه . فقد تبين أن
الخط البياني لمعدل وفاة الأطفال في العالم الثالث ما يزال عند معدله في أوروبا
قبل منتصف القرن الماضي بالرغم من التقدم الكبير الذي حققته علوم الصحة والوقاية
والعلاج . وأن خمسة عشر مليون طفل يموتون دون سن الخامسة سنويا ، 97% منهم من بين
أطفال العالم الثالث، و 22% منهم يموتون بسبب ضعف التغذية ، فكأن العالم تعرض
لظاهرة وأد جماعي أو اقتطاع من البشر عند المنبع .
وراحت نشرات هيئة الأمم المتحدة تلقي بهذه الظلال الكئيبة التي أسفر
عنهـا العام الدولي للطفل على الدراسات التحضيرية للعام الدولي للشباب . فلم تعد
مرحلة الشباب سابقة على مرحلة النضج بل هي مرحلة لاحقة لمرحلة الطفولة. وليس
الموتى من الأطفال إلا شباباً مؤودين قبل ان يشبوا . ولم يعد الشباب موضوعاً تدرسه
مجموعة من الكهول والشيوخ المتأثرين بتجارب شبابهم الذي انقضى بل أصبح موضوع
مسؤولية الشباب أنفسهم عن بعض أسباب مشكلاتهم . وتوالت النداءات والاقتراحات
والبرامج التي تستهدف جميعها حث الشباب او حمله على أن يساهم بالجهد الوفير في حل
مشكلات الطفولة ، لا تطوعاً بل لأنها مشكلاتهم أنفسهم . وأصبح كل هذا جزءاً من
برنامج النشاط العالمي في العام الدولي للشباب .
5-
ومع ذلك فإن هيئة الأمم المتحدة لم تترك للباحثين الدارسين فرصة الإيغال في موضوع
الدراسة والبحث حتى أقصى حدوده . ربما خوفاً من ان يسفر البحث والدراسة عن أنه لا
يوجد ما يسمى مشكلات الشباب ، وان أسباب هلاك الأطفال ومعاناة الشباب وعذاب الكهول
ومذلة الشيوخ تتصل بأنظمة سياسية واقتصادية وقوى دولية قادرة وقاهرة معروفة او
قابلة للمعرفة . فرفعت هيئة الأمم المتحدة على نشاطها في العام الدولي للشباب ،
عام 1985 ، شعاراً مثلثاً هو : المشاركة ، التقدم ، السلام . وحولت الشعار إلى
ضابط للبحث وحد للدراسة حين طلبت إلى المؤتمرات التي انعقدت أن توزع ما تعرفه عن
الشباب على ما يدور حول تلك المحاور الثلاثة لا تتجاوزها ، فجاءت الأبحاث والدراسات
دائرة حول تلك المحاور لا تكاد تتعداها إلا قليلاً .
يتمثل بعض هذا القليل فيما نبه إليه المؤتمر الإقليمي لدول غرب آسيا
الذي انعقد في العراق من ضرورة النظر إلى الشباب على ضوء البيئة الاجتماعية
والاقتصادية التي هم جزء منها واجتناب دراسة مشكلاتهم كما لو كانوا يعيشون في فراغ
. وفيما نبه إليه المؤتمر الإقليمي لدول أمريكا اللاتينية الذي انعقد في كوستاريكا
محذراً من طغيان الجانب الدعائي عن العام الدولي للشباب حتى لا يؤدي – قياساً على
النتائج الممكنة – إلى مزيد من خيبة الأمل والإحباط وفقدان الثقة في جدوى العلاقات
الدولية بالنسبة الى شباب يعيش في ظل نظم اقتصادية فاشلة في تحقيق التنمية ، وفي
وقت يمر فيه العالم بأزمة اقتصادية خانقة .
6-
ما الذي تعنيه هيئة الأمم المتحدة بتلك ” الشعارات – الضوابط – الحدود ؟
سئل عن هذا الأستاذ محمد شريف الأمين العام للعام الدولي للشباب فقال
: (1) ان المشاركة تعني المنافسة والمساهمة في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياة
الشباب ومستقبل مجتمعاتهم ، وهي تتضمن الوعي والمساواة والقبول والتدخل وان يؤخذ
كل هذا مأخذ الجد و (2) ان التقدم يعني التجديد والتطور بالنسبة إلى الفرد وإلى
المجتمع وإطلاق حرية الشباب في أن يختاروا طرقا جديدة الى مستقبلهم وان يتجهوا إلى
كل الاتجاهات طالما يحتفظون بالاحترام لثقافتهم وتاريخهم (3) وان السلام ليس مجرد
قطع النزاع بل انعدامه . وهو الإدراك والعمل والمساواة والمشاركة والتقدم . انه
الحرية متحققة والاستيثاق من أن المستقبل يستحق الحياة .
7-
قد لا يكون ثمة اعتراض على بلاغة التعبير ولكن السؤال الذي يعترض الإعجاب البالغ
بهيئة الأمم المتحدة وعامها الدولي للشباب هو : ما هي العلاقة الخاصة التي تقرن
بين المشاركة والتقدم والسلام من ناحية وبين الشباب دون غيرهم من ناحية أخرى ؟
إن لم تكن المشاركة فإن البشرية كلها ، بكل دولها ، بكل نظمها ، لم
تستطع حتى الآن أن تهتدي إلى نظام يمّكن الناس في المجتمع من المساهمة في اتخاذ
القرارات التي تؤثر في حياتهم ومستقبل مجتمعاتهم . بعض النظم تستغني عن مساهمتهم
جميعاً بما تجمع عليه قلة منهم أو بما يقرره قادة يقال ملهمون تحظى قراراتهم بعد
نفاذها بالقبول الجماعي كما يقولون . وبعض النظم تجمعهم قسرا وتشركهم قهرا لتنسب إليهم
ما يتخذه القادة من قرارات. وبعض النظم تدعوهم كل بضع سنوات لاختيار القادة الذين
سيتخذون القرارات التى تؤثر في حياتهم ومستقبل مجتمعاتهم. وما ان يتم الانتخاب حتى
تقطع العلاقة بين المختارين ومن اختاروهم فلا يكون الأولون ملزمين بشيء أو مسؤولين
عن شيء أمام الآخرين ولما كانت الإرادة لا تنتقل، فان القرارات التي يتخذها الذين
تم انتخابهم تعبيرا عن إرادتهم لا تمت بصلة الى إرادة الناخبين، وبالتالي لا يصح
أن ينسب إليهم أنهم شاركوا في اتخاذها. لهذا لا يكون قريبا من الحقيقة الزعم بان
الشباب وحدهم من بين كل المحكومين في الأرض، غير الحاكمين ، هم الذين يفتقدون
وسيلة المساهمة إلارادية الفعلية فى اتخاذ القرارات التى تؤثر فى حياتهم ومستقبل مجتمعاتهم بل يشاركهم الكهول والشيوخ فيما يفتقدون فلا يصح الشعار إلا أن يكون
عنوانا لما يفتقدونه جميعا.
وان يكن التقدم فإن كل إنسان ، من حيث هو إنسان ، سواء أكان شاباً أم كهلاً
أم شيخاً لا يكف عن محاولة التقدم ولا يستطيع أن يكف . حيث التقدم هو الإشباع
المطرد لاحتياجاته الروحية والفكرية والمادية المتجددة أبداً . إنما تقوم مشكلة
التقدم حين تحول الظروف الاجتماعية دون اشباع تلك الاحتياجات أو اطراد إشباعها .
والظروف الاجتماعية ليست مقصورة العطاء أو المنع على الشباب وحدهم . انها عناصر
تكوين المجتمع الذي يعيش فيه الشباب مع من دونهم من أطفال ومن تجاوزهم عمراً من
الكهول والشيوخ . لهذا لا يكون قريباً من الحقيقة الزعم بأن الشباب وحدهم من بين
كل المتخلفين في المجتمع ، هم الذين يفتقدون المقدرة على التقدم ، بل يشاركهم
الأطفال والكهول والشيوخ فيما يفتقدون فلا يصح الشعار إلا أن يكون عنواناً لما
تفتقده المجتمعات فيفتقده الناس فيها جميعاً طالما يحتفظ الناس بالاحترام لثقافتهم
وتاريخهم .
وإن يكن السلام فقد انقضى فقد انقضى عصر كان الشباب وحدهم هم وقود
الحروب . أما الآن فإن الحروب الشاملة قد ساوت بين الشباب والأطفال والكهول والشيوخ
في مخاطر الهلاك ، وامتدت آثارها التدميرية من جبهات القتال الى كل ثمار النشاط الإنساني
في المزارع والمصانع والمتاجر ووسائل النقل والمدن والقرى والكفور . لهذا لا يكون
قريباً من الحقيقة الزعم بأن الشباب وحدهم من بين كل البشر هم الذين يفتقدون السلام ، بل يشاركهم البشر جميعاً فيما يفتقدون فلا يصح الشعار إلا أن يكون
عنواناً لما تفتقده البشرية جميعاً .
8-
ان كل هذا لا يقلل كثيراً من قيمة نشاط هيئة الأمم المتحدة ولا ينبغي أن يضعف حماس
المشاركة في العام الدولي للشباب . فمهما تكن الشعارات والضوابط والحدود التي رأت
هيئة الأمم المتحدة ان تنظم بها نشاطها ، فإن هذا النشاط قدم ويقدم وسيقدم إلى
الشباب وإلى المهتمين بأمرهم حصيلة بالغة الثراء من المعرفة بالشباب العالمي
ومشكلاته وحلولها الممكنة أو المأمولة ، ما كان يمكن أن تتاح لولا نشاط هيئة الأمم
المتحدة . ولقد أحسنت فعلاً الدول العربية التي تساهم في هذا النشاط . والواقع أن
هذا الحديث عن الشباب العربي ليس إلا محاولة لعدم التخلف عن موكب عشرات الألوف من
البشر الذين يعملون ، كل في حقله ، من أجل إنجاح العام الدولي للشباب ، وليس
موضوعه إلا من وحي ما اتصل بعلمنا من نشاط أولئك العاملين . فقد اخترنا له ”
الانتماء ” موضوعاً لأننا افتقدنا فيما وصل إلى علمنا ما نعتقد أن مشكلة الانتماء
تستحقه من الدراسة بالنسبة إلى الشباب كافة ، وبالنسبة إلى الشباب العربي على وجه
خاص . حديثنا ، إذن محاولة إضافة وليس محاولة انتقاص من أهمية وجدوى كل حديث عن
الشباب …
ولكن ، ما هو الشباب ؟
ما الشباب :
9- هناك مثل يقول : " قد تعرف
السمكة كل ما في البحر إلا الماء " . وهو مثل صادق الدلالة لأن التمايز بين
الأشياء شرط أولي لمعرفتها . ولما كانت السمكة التي لا تعيش إلا في الماء فإن فرصة
التمييز بينه وبين غيره من المواد مستحيلة عليها فمستحيل عليها أن تعرفه . قياسا
على هذا المثل نستطيع أن تبالغ قليلا فنقول أن الشباب بالنسبة الى الفرد هي تلك
الفترة من العمر التي لا يعرفها وهو يحياها الى أن تنقضی ، فيبدأ في معرفتها من
خلال ما يفتقده من مميزاتها طوال
ما بقي له من العمر حتى إذا ما بلغ الشيخوخة فوهن العظم و بهلت الذاكرة ضاعت كثير
من الذكريات إلا ذكريات الشباب غريب أن
تفرغ الذاكرة خزانتها من أحداث الماضي ولا تكاد تبقي منها إلا ما جمعته من مرحلة
الشباب . وهو غريب لأنه من أسباب العذاب في مرحلة الشيخوخة حيث يشعر الفرد خلالها
شعورا مؤلما بمدى عجزه قياسا على معيار شبابه . هذا مع أن علماء النفس يؤكدون
القول بأن من خصائص الذاكرة أن تلقي في زوايا النسيان مسببات الألم من ذكريات الماضي .
كل الذين غادروا مرحلة الشباب
يفتقدونها ويتمنون لو عادت إليهم أو عادوا إليها . أكثرهم شعورا بافتقادها أولئك
الذين لا يكفون عن إدانة الشباب كافة . إنها حيلة نفسية يعرفها علماء النفس ويعبر
عنها المثل الشائع عن رأي الثعلب فيما لا يستطيع إدراكه من عناقيد العنب . حيلة نفسية
أخرى يلجأ إليها الشيوخ خاصة تعبيرا عن افتقادهم المأساوي مرحلة شبابهم . إنها
اصطناع الحكمة وإلقاء المواعظ عن الشباب وعليهم . موضوع الاحتيال أنهم يحاولون
علنا استرجاع شبابهم المفقود المفتقد في شباب غيرهم بأن يعظوه لعله أن پسلك ما کانوا
هم سالكيه لو كانوا شبابا . ولما كانوا يعرفون أن المواعظ منفرة إلا من الوالدين بحكم
ما توحي به من استعلاء صاحبها فإنهم ، وهم يعظون الشباب علنا ، يحاولون استرجاع شبابهم خفية . ويلتمسون إلى ذلك أسبابا من الكساء أو الدواء تستثير السخرية حينا
وتثير الشفقة في كثير من الأحيان .
في أواخر القرن الخامس عشر تولی کرسي البابوية
في الكنيسة الكاثوليكية البابا انسونت الثامن . ذلك الذي ارتشی مالا وفيرا من
السلطان العثمانی بيازيد الثاني ليوقف حملاته الصليبية ضد الشرق ، فوجهها إلى
الغرب واستولى على غرناطة العربية في الأندلس ( 2 يونيو 1492). كان ذلك البابا مولعا بإلقاء المواعظ عن
الشباب وعليهم محذرا منذرأ من نزوات الشباب الآثمة ، مبشرا بما يعوض الحرمان من
جزاء الصالحين في الجنة . وكان هو في أواخر حياته يوشك أن يدلف الى الجنة كما لا شك
كان يعتقد . فلما مات (26 يوليو 1492) اتضح أن وفاته كانت بسبب ثالث عملية جراحية
أجريت له بناء على أمره في محاولة يائسة لإعادة بعض مظاهر الشباب . اختار البابا
في شيخوخته الرجوع إلى الشباب بدلا من التقدم الى الجنة . وليس البابا انسونت
الثامن إلا مثلا .
10
- أما
الشباب بالنسبة إلى المجتمعات فهم شيء أخر تماما . أنهم شريحة من التكوين البشري
للمجتمع يعبرها الناس منه ويغادرونها إليه وتبقى هي مليئة دائما . وبالتالي فإنها
من ثوابت التكوين الاجتماعي ، من هنا تكسب أهميتها القصوى في دراسة مشكلات أي
مجتمع ومعرفة الحلول الممكنة لتلك المشكلات . مشكلات المجتمع وليس مشكلات الشباب .
فالواقع - كما سنری - ان ليس للشباب في أي مجتمع مشكلات خاصة وان كان لكل مجتمع
مشكلات خاصة بالشباب .
ولقد أدركت بعض المجتمعات التي يقال لها " بدائية " أهمية
الشباب بهذا المفهوم الاجتماعي فاصطنعت لتقسيم العمل فيها مقاييس عمرية ما تزال
آثارها باقية في بعض القبائل المستوطنة في أثيوبيا وكينيا وتنجانيقا وأوغندا
والسودان خاصة قبائل " البانتو". هناك يقسم الذكور الى طوائف عشر طبقا
لأعمارهم تحمل كل طائفة اسما مميزا . وينتمي كل الي طائفة عمره انتماء جيريا
وينتقل كل من يتجاوز عمره حد الانتماء الی طائفته الي طائفة أخرى تليها . أما
المواليد من كل طائفة فينتمون إلى طائفة الأطفال بينما يكون آباؤهم وأجدادهم
منتمين الى طوائف أخرى . وهكذا تتصل الأجيال في حلقة دائرية. وتقوم كل طائفة بنوع
أو أنواع محددة من النشاط الاجتماعي اللازم للقبيلة ككل ، فتتكامل جهود الأجيال من
أجل الحفاظ على وحدة المجتمع وسلامته و إشباع حاجاته . ويؤدي الانتماء إلى كل طائفة
، وحمل اسمها ، والعمل المشترك بين أفرادها ، إلى تنمية وتوثيق علاقات التعاون
والتآخي والتالف بين أفراد كل طائفة ، فتتطهر تلك المجتمعات التي يقال لها "
بدائية " من جرثومة مرض العصر الحديث : الفردية .
الغالب في هذا التقسيم " الطائفي " الزماني أن يلتحق الذين
يبلغون سن الخامسة عشرة الي طائفة
واحدة إلى أن يبلغوا سن الرابعة و العشرين . وهم طائفة مميزة وممتازة أيضا ( طائفة
الكوندالا ) . ويوصف أفرادها بأنهم الواعون أو المهمون أو الذراع الأيمن من
المحاربين .. تبعا لمعايير الامتياز في القبائل المتميزة .
11ـ هذا التحديد البدائي لطائفة متميزة من أفراد تتراوح
أعمارهم ما بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين هو تحديد ملفت ومثير لللدهشة .
ملفت لأن هذا هو المعيار العمري لمرحلة الشباب المتعارف عليه دوليا والذي اعتمدته
هيئة الأمم المتحدة وهي تحدد العمر الزمني لهذه المرحلة بمناسبة العام الدولي
للشباب . أما ما يثسر الدهشة فهو أسلوب تحديده ، فنحن نعرف أن عديدا من المؤتمرات
العلمية قد ناقشت المعيار الزمني للشباب مستعينة بالاكتشافات العلمية الحديثة قبل
أن تتعارف على تحديده بما يطابق ما تواطأت على تحديده أكثر القبائل البدائية تخلفا
، فكيف حدده الميدانيون ؟
على أي حال فإن للدارسين العرب رأيا لا يتفق مع ما تعارفت عليه الدول
. فقد ذهب مؤتمر وزراء الشباب العرب الذي انعقد في أكتوبر 1969 إلى أن التحديد الأولي لمرحلة الشباب
لا يعني تجاهل مرحلة السن قبل الخامسة عشرة أو بعد الخامسة والعشرين . وحيث أسهم
دارسون من العرب في المؤتمر الإقليمي لدول غرب آسيا الذي انعقد في العراق ( أكتوبر
۱۹۸۳) ذهب المؤتمر إلى أنه ينبغي أن تضم الى
مرحلة الشباب كما حددتها هيئة الأمم المتحدة مرحلة سابقة تبدأ من العاشرة ومرحلة
لاحقة تنتهي الى الثلاثين . وعللوا ذلك بأن نسبة كبيرة ممن يمرون بهذه السن
المبكرة أو المتأخرة يدخلون سوق العمل بحكم الظروف الاقتصادية لبلاد المنطقة .
وتحمل منشورات المجلس القومي للشباب والرياضة بجمهورية مصر العربية أراء كثيرة من
الأساتذة الأخصائيين بتحديد الفترة الزمانية لمرحلة الشباب فيما بين الخامسة عشرة
والثلاثين ، على أساس أن الخامسة عشرة هي بداية الإدراك العقلي لمجريات الأمور وان
إطلاق نهاية مرحلة الشباب حتى الثلاثين يتيح فرصة لأعداد كبيرة من الشباب للمساهمة
في مشكلاتهم وحلولها واثراء الدراسات المتعلقة بالشباب كما يقول الدكتور سيد صبحي
في كتابه عن الشباب وأزمة التعبير (۱۹۸۳)" وهو واحد من قلة من أساتذة الصحة النفسية
في مصر الذين اهتموا بتخصيص دراسات عن الشباب . أما الأغلبية وهم أساتذة متفوقون
في ميدان تخصصهم ، فلا یکادون يعترفون بمرحلة خاصة بالشباب إنما يعرفون مرحلة
الطفولة ومرحلة المراهقة ويمدون مرحلة المراهقة هذه مدّا قد يتجاوز سن العشرين .
يرجع ذلك إلى أنهم ، بحكم تخصصهم في الطب النفسي ، لا يعنون بصفة أساسية الأ بدراسة
الظواهر غير السوية في الأفراد والجماعات ، مثلهم في هذا مثل علماء الاجرام الذين
يهتمون اهتماما خاصا بانحراف الأحداث ، وعلماء القانون الذين لا يلتقون في كل ما
يدرسونه بكلمه الشباب .
هل لهذا التحديد أهمية ؟
12- نعتقد أن له أهمية بالنسبة إلى منهج
البحث . إذ لا بد من أن يحدد الخاص تحديدا دقيقا حتى تمكن معرفة أحكامه الخاصة به
المقصورة عليه فلا تستند إلى العام ولا تطغى عليه أحكامه . وقد رأينا من قبل كيف
أن شعارات المشاركة والتقدم والسلام لا تميز شيئا محددا يتعلق بالشباب خاصة وأنها تصلح ـ بذات الكفاءة - ان
تكون شعارات لنشاط دولي تخصص له أعوام طويلة يمكن أن تسمّي " الأعوام الدولية
للبشر" . هذا من ناحية . و من ناحية ثانية فن التراجع ببداية مرحلة الشباب
لتشمل مرحلة الطفولة و مدها لتشمل ما يتجاوزها عمرا لأسباب بيئية اقتصادية أو
اجتماعية أو حتى صحية هو مصدرة على المطلوب . فليست دراسة مرحلة الشباب مطلوبة
لذاتها وانما لمعرفة ما يؤثر فيها إجهاضا أو انتقاصا أو تشويها من عوامل بيئية أو
اقتصادية أو اجتماعية أو صحية . واذا كانت غاية البحث هو اكتشاف المشكلات
الاجتماعية الخاصة بالشباب والحلول الاجتماعية الممكنة لها ، فان تحديد ماهية
الشباب هو مسألة أولية لا بد أن يقضى فيها قبل الدخول في الموضوع كما يقال فيما
يعرض على القضاء من دعاوي . ومن ناحية ثالثة ، و أخيرة ، أن هذا التحديد بالغ
الأهمية لبحث مشكلة الانتماء التي اخترناها موضوعا لهذا الحديث كما سنری .
ولكن هل يمكن تحديد مرحلة الشباب تحديدا مجردا عما يؤثر فيها ؟
13ـ لقد اجتهدنا في هذا اجتهاد غير
المتخصصين . فلذنا بما كتبه المتخصصون في دراسة الإنسان كما هو وما يرد عليه من
تطورات فسيولوجية وعقلية بحكم الزمان وحده ، أي مع استبعاد المؤثرات الخارجية
استبعادا مؤقتا ، إلا مؤثر الوراثة فلا أحد استبعده لأنه غير قابل للاستبعاد . ومع
ذلك لا أحد نسب اليه أثرا يخل إخلالا كبيرا بما يقولون أنها الظواهر العامة لنمو
الإنسان منذ ولادته فسيولوجيا وعقليا . أما الذي حصلناه اجتهادا فهو باختصار شديد
:
أن نمو جسم الإنسان ، لا يتم بمعدل سرعة ثابت بعد مولده . فقياسا على
متوسط معدل سرعة النمو بين الأفراد من كل سن ، ينمو الطفل ، طولا ووزنا، نموا
سريعا خلال السنة الأولى من عمره ، ثم يبطئ نموه حتى الخامسة ، ثم يسرع كرة أخرى حتى
سن السابعة ، ثم يهدأ وينمو نموا بطيئا مطردا حتى سن الثانية عشرة ، ثم يقفز نموا
حتى يبلغ السادسة عشرة . بعدها يبدأ معدل سرعة النمو في الهبوط حتى يتوقف تقريبا
في سن الواحدة والعشرين ( أوليفر هوبلر : الشباب : ۱۹۳۷). إلا المخ فإنه
يستمر في النمو وزنا حتى يصل إلى أقصى درجة نموه في الفترة ما بين الخامسة
والعشرين و الثلاثين ( مارتن البرت - علم الأعصاب الإكلينيكي في الشيخوخة : 1984) .
أما في مجال الذكاء ، الوجه الثاني
لعملة الإنسان ، فطبقا لما لاحظه بياجيه من اختبارات الذكاء التي أوردها في كتابه
" أصل الذكاء عند الأطفال ۱۹۵۳ ، وما أورده جاستون فیسو في كتابه عن "
الذكاء و تطوره ، وأشكاله : 1951 "
: وما جاء في كتاب "علم نفس التمريض ۱۹۷۱ "
تألیف جینفر جارفي وجون جبسون ، وما هو وارد في الموسوعات المتخصصة يبقي الذكاء
ملكة كامنة في الطفل منذ ولادته ثم تنمو بسرعة كبيرة ابتداء من سن الثالثة حتى سن
السادسة ثم يتصاعد نموها تدريجيا حتى نهاية سن الرابعة عشرة . ولا ينمو بعد ذلك
إلا بدرجة تافهة لا يعتد بها ويثبت نموه حتى سن الثلاثین .
هكذا يقول لنا هؤلاء العلماء
المتخصصون . أول ما يهمنا في هذا الحديث وهو أنه في سن الخامسة عشرة يبلغ الإنسان
أقصى درجات نموه الفسيولوجي والعقلي . وينبه أوليفر هوبلر الی أن ثمة علاقة ارتباط
بین مراحل النمو الجسمانی و مراحل نمو الذكاء
تبدو واضحة من أن النمو الجسمانی يسبق نمو الذكاء .
ثم يعودون فيقولون إنه بنهاية سن الثلاثين
تبدأ ـ في الجانب الفسيولوجي ـ عملية تنازلية لوزن المخ فيفقد نحو ۱۰۰۰۰۰ خلية كل يوم ولا
يعوضها ، كما يقل عدد الخلايا والتغيرات في العضلات وتستبدل بألياف ، ويبدأ القصور
في وظائف الأعضاء كلها ، وفي الدورة الدموية ، وفي الهرمونات التي تفرزها الغدد
الصماء وتقل السوائل في الخلايا فتظهر التجعّدات .. الخ . أما في مجال الذكاء فبينما
يزداد مضمونه من المعلومات والمعرفة والخبرات أو ما يسمونه الحصيلة اللفظية ،
تنخفض كفاءة الملكة ذاتها ، أو كفاءة أدائها ، نتيجة لانخفاض ما يسميه مارتن البرت
" الذكاء السائل " .
وهكذا يقول لنا هؤلاء العلماء المتخصصون . ثاني
ما يهانا في هذا الحديث وهو أنه بنهاية سن الثلاثين يبدأ الإنسان في الفقدان
التدريجي لقدرته الفسيولوجية ولملكة الذكاء أيضا . و هو فقدان قد يخفيه عن صاحبه وعن
الملاحظة الخارجية أيضا نمو المهارة وتراكم المعرفة ولكنه لا يخفی على المقاييس
العلمية .
14- بناء
على ما تقدم نستطيع أن نطمئن إلى القول بأن الإنسان يمر بفترة تبدأ من بداية سن السادسة
عشرة حيث يبلغ أقصى درجة نمو يصلها الجسم والذكاء معا وتنتهي مع سن الثلاثين حيث
تبدأ قدرته الفيزيولوجية و ذكاؤه أيضا في التناقص . ونسمى هذه المرحلة مرحلة
" الشباب " ، حيث لا يختلف أحد على أن الشباب يتميز بأنه أكثر حيوية من
باقي مراحل العمر. هذا بدون أن ننسى ما نبه إليه هنري برجسون في مقالته
"مقدمة للميتافيزيقا " ( نشرت عام ۱۹۰۳) من أن حياة الإنسان منذ مولده حتى وفاته في حالة
صيرورة قد تبدو لمن يتأملها كما لو كانت مراحل متتابعة ، ولكنها في الحقيقة مكونات
لحياة واحدة ، فليس ثمة بداية أو نهاية قطعية لأية مرحله بل أن كلا منها ممتدة في
الأخرى .
هذا هو الشباب ، والحديث الآن عن الشباب العربي .
(2)
الشباب العربي
الكم :
15-
طبقا لبيانات مركز التوثيق والمعلومات بالجامعة العربية بلغ عدد الشباب العربي عام
۱۹۸۰ ـ قياسا على الفترة الزمانية التي حددناها ـ : نحو
اثنين وأربعين مليون ونصف المليون شابا موزعين فيما بين الدول العربية في مصر : 11.552.600
، المغرب
: 5.591.525 ، السودان
: 4.830.087 ، الجزائر
: 3.699.289 ، العراق : 3.447680 ، سورية : 2.461.823 ، السعودية : 2.406.688 ، تونس
: 1.833.842 ، اليمن الشمالية : 1.37.889
، الصومال : 1.138.927 ، الأردن : 814.786 ، ليبيا : 746.489 ، لبنان : 732.870 ، اليمن
الجنوبية : 460.145 ، موريتانيا : 428.122 ، عمان : 229.522 ، الإمارات : 210.768
، البحرين : 100.26 ، قطر : 72.53 . أي
نحو ربع عدد الشعب العربي .
هذا بالرغم من أن نسبة وفاة الأطفال -
شباب المستقبل - في السنة الأولى من مولدهم هي طبقا للمعيار الدولي " مرتفعة
جدا " (من 110 الی
210 من
كل ألف ) في تسع دول عربية في اليمن الشمالية (200) و الصومال (150) وموريتانيا (140)
واليمن الجنوبية (140) و
عمان (130) ومصر
(120) والسودان
(120) والجزائر
(110) والسعودية
(110) . وهي
طبقا لذات المعيار " مرتفعة " ( من 60 الى ۱۰۰ من كل ألف ) في خمس دول هي ليبيا (100) وتونس (100) والعراق (80) والأردن (70) وسورية (60). ولا تبقي إلا ثلاث دول
تنتمي إلى درجة " متوسط " هي الإمارات (50) ولبنان (40) والكويت (33) ...
مع أن هذه النسبة هي 7 في كل من
السويد و اليابان وفنلندة و8 في النرويج وسويسرا .. الخ .
على أي حال العبرة ، حتى في البشر ،
هي دائما بالكيف وليس بالكم دائما. لم نلحظ كيف ان عدد الشباب العربي ، وحده ،
يبلغ خمسة عشر ضعف عدد الصهاينة في فلسطين المحتلة شيوخا وكهولا وشبابا وأطفالا ؟ بلی
. فلنعد إذن إلى الشباب العربي علنا واجدون سببا لعدم اتساق الكم مع الكيف ، فهذا
أولى بالحديث .
16
ـ في طريق عودتنا إلى الحديث عن الشباب العربي يعترضنا سؤال تتشعب منه
عدة أسئلة . السؤال هو : هل يصح الحديث عن الشباب مميزا بوصف عربي ؟
ثم تتشعب الأسئلة : أليس الشباب هو
الشباب بالمعايير العلمية التي ذكرت ؟ .. وإذا كان لا بد من التمييز بالانتساب إلى
الظروف الاجتماعية المتخلفة أفليس الشباب هم الشباب في العالم الثالث المتخلف الذي
ينتسب إليه العرب ؟ .. وإذا كان لا بد من التمييز بانتساب إلى المجتمعات المنظمة دولا
افليس الشباب في كل دولة عربية هم غير الشباب في الدول العربية الأخرى ؟.. وإذا
كان لا بد من التمييز بالانتساب إلى ما هو أضيق من هذا مجالا فهل يستوي الشباب في
المدن والشباب في الريف والشباب من البدو في الصحاري ؟.. وهل يستوي الطلاب و هم
شباب والشباب من الأميين ؟.. وهل يستوي الشباب من الذكور
والشباب من الإناث ؟.. وهل يستوي الشباب المترفون والشباب المدقعون ؟ .. الخ ..
وكلها أسئلة مشروعة .
والجواب عليها واحد : يمكن ويصح الحديث
عن الشباب من خلال ما يؤثر فيهم وما يتأثرون به ، والمؤثرات كثيرة . ويمكن ويصح
الحديث عن تمايز الشباب لينتهي الي مقولة صحيحة وبسيطة : إن كل شابين متمایزان على
وجه أو علي آخر لأن التطابق بين البشر محال . والعبرة في النهاية بما يختاره کل
متحدث عن الشباب موضوعا لحديثه . ولقد اخترنا أن نتحدث عن الشباب في موضوع
الانتماء . لن نقول الآن لماذا كان هذا الاختيار بل سنترك الجواب للحديث ذاته .
فقد نكتشف في النهاية أن الانتماء يمثل مشكلة مشتركة بين كل الشباب في الوطن
العربي ، وأنها المصدر الأساسي لأغلب مشكلاته ، واتها - أخيرا - تكاد تكون مقصورة
على الشباب العربي دون شباب العالم كله .
ويكون السؤال الاعتراضی ذو الشُعب قد أدخلنا في موضوع الحديث لنعرف
أولا ما هو مفهوم الانتماء و علاقته بالشباب خاصة .
(3)
الانتماء
الشخصية :
17- إن أول صعوبة تصادف الحديث عن الانتماء
هي تعريفه . والواقع أن تعريف الظواهر الاجتماعية بالذات مخاطرة غير مأمونة . ذلك
لأن من أحكام التعريف أن يكون جامعا مانعا ، في حين أن الظواهر الاجتماعية متفاعلة
متغيرة ذوات تاريخ قد يمتد إلى أعماق التاريخ . فتعريف الظاهرة الاجتماعية تعريفا
مانعا غيرها أمر بالغ الصعوبة . هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن تعريفها يقتضي
عزلها ولو مؤقتا . وعزلها يقتضي معرفتها أولا . ومن هنا فإنا نعتقد أن المعرفة تسبق
التعريف في كل الحالات . فلنؤجل إذن مغامرة التعريف ولنقنع الآن بمحاولة المعرفة .
18ـ المدخل إلى معرفة الانتماء هو التعرف
على عناصر تكوين الشخصية . ويستعمل علماء النفس في حديثهم عن الشخصية لفظين
متلازمين هما الوحدة والتفرد . يعنون بالوحدة جماع الشخص ، أي الشخص كله بكل
مكوناته الفسيولوجية والعقلية والاجتماعية . ويعنون بالتفرد ما يميز الشخص عن
الآخر من بين هذه المكونات .
ويكاد يجمع علماء النفس وعلماء
الاجتماع وعلماء الأجناس البشرية والأخصائيون في فروع تلك العلوم على أن الهيكل
الأساسي لبناء شخصية الإنسان يكون قد اكتمل حين بلغ سن السادسة عشرة . كل ما
يكتسبه بعد ذلك ويتميز به هو بناء حول هذا الهيكل لا يقوم معتدلا مستقرا إلا بقدر
اتفاقة نوعا وكما مع هيكله الأساسي .
ولقد عرفنا من قبل أنه في تلك السن
يبلغ الهيكل الفسيولوجي للشخصية أقصى درجات نموه . كما عرفنا أنه في تلك السن أيضا
تبلغ ملكة الذكاء وهي الهيكل الأساسي للمكتسبات العقلية أقصى درجات نموه ، بقي
الهيكل الاجتماعي للشخصية. وتبعا لما هو مجمع عليه من اكتمال الشخصية في سن
السادسة عشرة يمكن القول بأن الهيكل الاجتماعي الأساسي لتكوين الشخصية يكون قد
اكتمل نموا حين يدخل الإنسان مرحلة الشباب .
19ـ والهيكل الاجتماعي الأساسي للشخصية
يتكون من مجموعة الضوابط الذاتية ، أي الداخلية في تكوين الشخصية ذاتها ، والتي
تتحكم وتحدد لكل فرد موقفه واتجاهه وسلوكه في مواجهة الغير من الأشياء والظواهر
والناس ، أي من المجتمع ذاته .
من أين تأتي هذه الضوابط ، وكيف تدخل
في تكوين الشخصية ؟ إن الجواب سيقودنا إلى حيث نعرف الانتماء وقد نعرّفه . وفي
البحث عن الجواب نعود إلى ما هو مجمع عليه من أن المجتمع هو مصدر تلك الضوابط .
إنه يدس بذورها في نفس الطفل وهو بعد كائن بيولوجي لم يميز حتى ذاته . ثم يتابع
الطفل في نموه الفسيولوجي والعقلي داسا في تكوينه بذور ضوابطه پذرة بذرة . راعيا
لها ومنميها. حتى إذا بلغ الطفل أشده و اکمل تكوينه كان ذلك الكائن الذي خلقه الله
إنسانا قد خلقه المجتمع شخصية متميزة عن غيره من بني الإنسان .
أما مصنع هذا الخلق الجديد ، او أداة
تشكيل الشخصية المتماسكة من شمع الإنسان اللين كما اختار أن يقول فيكتور بالدریج ،
فهو الأسرة . الأم أولا ثم الأب معها ثم الأخوة والمرافقون الأقربون . هذه أيضا
حقيقة علمية لم ينكرها أحد منذ مطلع القرن العشرين . وقد تأكدت أولوية تأثير الأم
في الخلق الاجتماعي من أن الطفل لا يدرك ذاته منفصلة عن ذات أمه بالولادة بل بعد
ذلك بوقت طويل قد يمتد إلى عامين . خلال هذين العامين ، أو أقل قليلا ، يتأثر تأثرا
قويا وتلقائيا بها كمصدر إشباع حاجته البيولوجية ، كما تنتقل إليه على وجه يكاد
يكون عضويا أو ميكانيكية آثار نبرات صوتها وتعبير وجهها ولمسات يدهما . وينفعل
انفعالا مباشرا غیر شعوري بانفعالاتها تجهما أو ابتساما . ويحرك شفتيه ، أو يصدر
أصواتا أو يبكي في محاولة تكرار الشرط اللفظي للذة إشباع حاجته .
وحين تأتي الوثبة الكبرى في النمو
الفسيولوجي في سن الثالثة كما ذكرنا من قبل يكون قد وعی ذاته وتعلم اللغة معا .
وعيه ذاته منفصلا عن غيره يفسح مجاله النفسي لتلقي ضوابط علاقته مع الغير .
الضوابط الاجتماعية . وتعلمه اللغة يمكنه من ادراك تلك الضوابط مجردة عن الموقف الآني
في رموزها اللغوية ، فيحتفظ بها في ذاكرته النامية ويسترجعها كلما أراد أن يتصور
او يتوقع متعلما فيما بين الماضي المذكور والمستقبل المنظور الملاءمة بين ما يرغب
في وقوعه وما يمكن أن يقع في عملية متنامية ويسمونها التكيف . كل هذا ومجتمعه الذي
يدس في شخصيته بذور الضوابط الاجتماعية هو أسرته كمصدر أول وأساسي حتى بعد أن تضاف
إليها المدرسة ورفاق الفصول . المهم أن الشخصية من خلق المجتمع وليست موروثة
بيولوجيا ، وأنها تشمل تكوينا من خلال التعامل مع الآخرين وهم أساسا أفراد الأسرة
، وان هذا الاكتمال يتم في سن السادسة عشرة . لا خلاف على محصلة هذه الخلاصة وان
يختلف العلماء تبعا لتركيز كل مدرسة منهم على أسلوب دس هذه الضوابط الاجتماعية في
تكوين الشخصية .
فثمة مدرسة " المرآة التي أسسها
شارلز كولي في كتابه " التنظيم الاجتماعي : ۱۹۰۹" التي تقول إن كل إنسان يرى
نفسه ويفيمها من خلال نظرات الآخرين إليه ويتعلم كيف يضبط سلوكه من خلال حكم الناس
عليه وهكذا تنتقل الضوابط الاجتماعية إليه وهو يري ويفهم ما يقبله الآخرون وما
يرفضونه طبقا لتلك الضوابط الاجتماعية ذاتها . وثمة مدرسة جورج ميد التي عرض نظريتها في كتابة " العقل و
النفس والمجتمع : 1934
" التي يركز فيها علی دور اللغة في انتقال الضوابط الاجتماعية إلى الطفل من
خلال الأسرة . وثمة المدرسة السلوكية التي يمثلها روجر براون في كتابه " علم
النفس الاجتماعي : 1966
" والتي ترى أن عاملي العقاب والثواب هما الموجهان للطفل حتى يتوافق سلوكه مع
الضوابط الاجتماعية فيتعلم من الثواب وما يصاحبه من لذة ما هو مطلوب منه ويتعلم من
العقاب وما يصاحبه من ألم ما هو ممنوع عليه . وثمة - أخيرا وليس أخرا - مدرسة
التقليد التي شرحها باندورا وولترز في كتابهما " التعلم الاجتماعي ونمو
الشخصية : 1963
" والتي ترى أن الطفل يتمثل الضوابط الاجتماعية حتى تصبح جزءا أساسيا في بناء
شخصيته من خلال تقليده ، أو محاكاته ، تصرفات أفراد أسرته ... الخ ..
هذه الخلافات لا تهمنا كثيرا في هذا الحديث . الذي يهمنا الأن معرفة
ما هي هذه الضوابط .
20-
لا يجدي حصر عددها ولا يمكن . لا يجدي لأنها مجموعة من المعارف تختلف
كثيرا أو قليلا وقد تتناقض من مجتمع إلى مجتمع . وبالتالي لا تكون محاولة حصرها
مجدية - حتى إذا كانت ممكنة - إلا منسوبة إلى مجتمع معين . وحصرها غير ممكن لأنها
مالا حصر له من المعارف ، أقصى ما يمكن أن يقال عنها أنها معرفة قواعد سلوك مميزة
ما بين الصواب والخطأ في التعامل مع الأشياء والناس والوجود الشامل الأشياء والنفس
معها . تنتمي إليها الأديان والمعتقدات والشرائع والتقاليد والآداب والقيم والمعايير
الجمالية للفن والأدب والموسيقي والعمارة .. إنها على تلك المعارف التي تسمی مجتمعة
حضارة . والتي تحدد المعايير الاجتماعية التي تحدد للإنسان في كل مجتمع ما ينبغي
ان يكون عليه موقفا واتجاها ومسلكا وما يتوقعه من الآخرين . وهي التي تفسر وتبرر
وتجمل تلك المعايير.
والحضارة نظام معرفي وليست شخوصا خارج
الإنسان ، إن ما هو خارج الإنسان من تراث وصروح هي منجزات الحضارة ودلائلها .
وبينما يترك كل جيل من كل مجتمع آثار باقية تجسد الحضارة وتدل عليها وتحكي تاريخها
تبقى الحضارة جزءا من تكوين الشخصية في كل جيل . فمن خصائص الحضارة انتقالها من
جيل إلى جبل فيما يقال له تواصل الأجيال . الآن نعرف كيف يتم هذا التواصل ولماذا ؟
إنه يتم من خلال تلقي الأطفال المعرفة الحضارية عن مجتمعهم بالترغیب والتهديد أو التقليد
.. لا يهم . المهم أنهم يتلقونها غير واعين . من آباء وأمهات تلقوها حين كانوا أطفالا
غير واعين ، عن أجداد تلقوها غير واعين عن أسلاف كانوا يتلقونها أطفالا غير واعين
. وتلع اللغة الدور الأساسي في حمل الحضارة من جيل إلى جيل وضمان استمرارها ..
يقول وليم مكدوجال في كتابه "
علم النفس - دراسة في السلوك : 1947 " : " ينمو كل إنسان سوي تحت التأثير
المستمر للمجتمع الذي ولد فيه ، ويشكل المجتمع كل جزئية من تطوره الذهني ، فيصبح
وارثا لصرح من التقاليد الثقافية والخلقية قام بناؤه بطيئا بإضافة لبنة الي لبنة
خلال الجهود التي بذلتها آلاف
الأجيال .. ان اللغة هي أكثر أجزاء التقاليد الثقافية أهمية . إنها أداة وشرط أية
مكتسبات لاحقة ، أن الطفل من خلال تعلمه لغته القومية يستطيع ان يحصل من المعرفة
أكثر مما يستطيعه الرجل البالغ من خلال تمكنه إجادة لغة أجنبية . ان هذا الأخير لا
يفعل إلا أن يعبر عن الشيء المألوف بألفاظ جديدة . أما الطفل فبتعلمه كيف يستعمل
الكلمات يتعلم أيضا كيف يحول كل العالم الذي حوله إلى أشياء ويكتشف مميزات كل منها
والعلاقات فيما بينها ، وليس كل تلك الأشياء والمميزات والعلاقات إلا انتقاء من
بين العدد النهائي الذي قد يكتشفه عقل كامل النضج . ولكن الطفل لا ينتقي أساسا إلا
ما يعتبر من أساسيات حضارة مجتمعة مقودا في ذلك باللغة التي خلقها أسلافه الأقدمون
للتعبير عن تلك الأوجه المنتقاة من العالم . ويرث الطفل السوي من مجتمعه أيضا عددا
كبيرا من المعتقدات المتعلقة بما انتهى إلى اكتشافه من أشياء . وسيبقى الطفل حاملا
تلك المعتقدات طوال حياته كلها بدون تساؤل عن صحتها أو حتى بحث عن كيف أصبحت
معتقداته .."
ويقول برجسون في كتابه " التطور الخالق : ۱۹۰۷ " إننا نرغب ونريد ونعمل
بماضينا كله .
ويصوغ عالم النفس السوفييتي ميخائيلوف ذات المفاهيم صياغة طريفة في
نهاية كتابه الرائع " لغز النفس : ۱۹۸۰ " فيصور إنسانا يحدث نفسه وهو
على عتبة مدخل مرحلة الشباب فيقول : الآن أنا قادر على أن أقوّم نفسي وسلوكها حتى
في مواجهة أكثر المواقف تعقيدا ، إذ أنني بصفة أساسية ، الخلاصة الكلية لخبرة
النشاط المعقد التاريخي الذي انتهى إليّ ويعيش داخلي كما تضمنته لغة أمتي ،
فبالإضافة إلى أصدقائي وأولياء أمري ومعلمي وأساتذتي لي محاورون وموجهون ومساعدون
في أولئك الذين واجهوا أصعب المشكلات وحلولها خلال القرون الماضية .
أن هذه الصورة الشعرية قد
تولد وهما بأن الحضارة كهيكل اجتماعي أساسي للشخصية منظم احتياطي للسلوك يلجأ إليه
الشخص أو لا يلجأ . الواقع العلمي غير ذلك ، إن الإنسان يتلقاها بدون إرادة وهي
تنظم وتضبط سلوكه بدون انتباه ويستجيب لها تلقائيا بدون جهد ، ويتبع توجيهها بسلاسة
إتباع ما هو " طبيعي " لا شذوذ فيه ، لأنه حين لا يتبع إلا ذاته .
ويكون هذا هو الانتماء . فالانتماء علاقة موضوعية بين شخصية الإنسان
ومصدر نموها الحضاري.
جدل الانسان :
21- يقول الفيلسوف الألماني هيجل ، أواخر
النجوم اللامعة بين المفكرين كما قال عنه هرتزن ، يقول في " مؤلفات الشباب
الدينية : 1948 بالانجليزية " إن تعبير ابن قبيلة قريش
" الذي يستخدمة العرب للدلالة على فرد من أعضاء تلك القبيلة لا يعني أن هذا
الفرد جزء من كل فحسب ، ومن ثم لا يعني أن هذا الكل يقوم خارجه ، ولكن يعني ان هذا
الفرد هو نفسه الكل . انه والقبيلة شيء واحد .. ان كل فرد من العرب ، كما هو الحال
عند الشعوب الحرة جميعا ، جزء ولكنه في نفس الوقت هو الكل . ( قال هيجل هذا في
مطلع القرن التاسع عشر ) .
ويفسر هيجل هذه المقولة التي وحدت بين
الفرد والمجتمع طبقا لمنهجه الجدلي المثالي فيما جاء في حديثه عن الحرية في مؤلفه
" فلسفة القانون : 1843
بالانجليزية "، ان حرية الإرادة تبدأ بأن تحقق نفسها في الواقع حتى لا تظل
مجردة . ولكنها تدرك أن هذا التجميد الفردي في الواقع قيد عليها ، فتحاول أن تصبح أكثر
شمولا ، بأن تتحد مع حريات الآخرين فتصبح حرية جماعية في صورة العائلة. ومن
التناقض بين الحرية من ناحية وانحصارها في الواقع العائلي من ناحية أخرى تتجه
الحرية إلى مزيد من الشمول لتتحد في حرية المجموع .
لدينا أسباب تحملنا على ألا نقبل
تفسير هيجل لكيفية التوحد بين الفرد ومجتمعه على إطلاقه . ومن بينها أن هيجل ، متأثرا
بفلسفة المثالية وفي نطاقها ، قد نسب التوحد إلى إرادة الفرد . ونسب ذلك التطور
الصاعد من الفرد إلى الجماعة الى جدلية الإرادة وهذه هي جرثومة المثالية التي تخضع
المادة للفكر فهو يتطور أولا تطورا جدليا وهي تتبعه الي حيث هو متطور . تطبيقا
لهذا لا يكون " ابن قبيلة قريش " قد أصبح ابن قبيلة قريش إلا لأنه أراد
أن يتحرر من قيود أسرته ، أما لماذا اختار أن يكون ابنا لقبيلة قريش بالذات ، ولم
يختر غيرها ، وما هو الدور الذي لعبته قبيلة قريش دون غيرها من القبائل في هذا
الاختيار فإن المنهج الجدلي المثالي لم يسمح لهيجل بأن يجيب على هذه الأسئلة أجوبة
مقـنعة . على أي حال ان كل ما قدمناه من دراسة في ظاهرة الانتماء ـ وهو قريب من
مفهوم التوحيد الذي هو أثر له - قد انتهى إلى أن الانتماء سابق على الإرادة
وموضوعی غیر متوقف عليها ، فيبقي علينا أن نعرف جدلية الانتقال من الانتماء الفردي
الى حضارة معينة إلى الانتماء إلى مجتمع معين .
22- يقول منهج جدل الإنسان : " (۱) في الكل الشامل للطبيعة والإنسان : (۲) كل شيء مؤثر في غيره متأثر به . (۳) كل شيء في حركة دائمة . (4) كل شيء في
تغير مستمر . (5) في إطار هذه القوانين الكلية الثلاثة يتحول كل شيء طبقا لقانونه
النوعي . (6) وينفرد الإنسان بالجدل قانونا نوعيا لتطوره . (۷) في الإنسان نفسه يتناقض الماضي
والمستقبل . (8) ويتولى الإنسان نفسه حل التناقض بالعمل . (۹) إضافة فيها من الماضي والمستقبل معا ,
(۱۰) ولكن
تجاوزهما إلى خلق جديد " .
تطبيق .
23
- لقد
عرفنا ، ونحن نتحدث عن الضوابط الاجتماعية ، أن الطفل يبدأ ما نسميه الآن تطوره
الجدلي منذ وعيه ذاته وتعلمه لغته في نحو السنة الثالثة من عمره ، إذ أن "
تعلمه اللغة يمكنه من إدراك تلك الضوابط مجردة عن الموقف الآني في رموزها اللغوية
فيحتفظ بها في ذاكرته النامية ( خزانة الماضي ) ويسترجعها كلما أراد أن يتصور أو
يتوقع ( في المستقبل ) متعلما فيما بين الماضي المذكور والمستقبل المنظور ( من تناقض
) الملاءمة بين ما يرغب في وقوعه وما يمكن أن يقع ( الخلق الجديد ) . من هذا الحل
الإنساني يتوقف على درجة نمو الذاكرة والمخيلة في الطفل . والدالة على درجة نموه
هو الفترة الزمانية المقبلة التي يستطيع أن يخطط لها ( مدي تصوره ) . يقول جون بولي
في كتابه "حماية الطفل ونمو الحب : 1953 " إن الطفل يستطيع فيما بين سن
العاشرة والثانية عشرة أن يضع خططا لتحقيق رغباته المقبلة على مدى بضعة أشهر وأنه
ابتداء من السادسة عشرة تنطلق مقدرته على التخطيط المجرد من قيود الزمان والمكان .
إنها مرة أخرى سن السادسة عشرة بداية مرحلة الشباب فلنبدأ منها .
24- في سن السادسة عشرة يكون الإنسان قد
اكتمل شخصية منتهيا إلى حضارة متميزة . هذا عرفناه ، وعرفنا معه أن اكتمال الشخصية
هذا يعني أن الشخصية قد اكتسبت خلال المرحلة السابقة ، ما أصبح هيكلا أساسيا
اجتماعيا لها من معرفة قواعد سلوك مميزة ما بين الصواب والخطأ في التعامل مع
الأشياء والناس والوجود الشامل الأشياء والناس جميعا تنتمي إليها الأديان
والمعتقدات والشرائع و التقاليد والآداب والقيم والمعايير الجمالية للفن والآداب
والموسيقى والعمارة ... إلى آخر ما يطلق عليه معا الحضارة .
من هنا يبدأ الشاب مسيرته الى
المستقبل . فكيف " يتصور " هذا " المستقبل " . إنه يتصوره
محددا شكلا ومضمونا بما يتفق مع المعايير الحضارية الكامنة في ذاته . إنه لا
يتصوره هكذا لأنه يريده كما قال هيجل ولكن لأنه لا يستطيع تصوره إلا هكذا . أنه
التصور المنبثق من ذاته المتسق مع شخصيته . ولكن ذاكرته ما تزال مليئة بما يستطيع
أن " يسترجعة " من " الماضي " القريب . إذ هو فرد من مجتمع
صغير تربط أفراده روابط حميمة بيولوجية وفكرية ونفسية وعاطفية . إنه قد شب منتميا
إلى المجتمع الذي صاع شخصيته فلا يتصور إنسان نفسه إلا منتميا إليه . ولكنه في
الواقع منتم إلى أسرة . حينئذ يدرك من الصراع النفسي الذي يشعر به الناشئة من
الشباب أن ثمة تناقض بين الانتماءين . فيكون الحل الصحيح لهذا التناقض إضافة فيها
من الماضي ( الأسرة ) ومن المستقبل ( المجتمع ) ولكن تتجاوزهما الي خلق جدید .
الانتماء إلى مجتمع تكون الأسرة وحدة تكوينه . فينزع الشباب نزوعا تلقائيا إلى
تكوين أسرة تكون أداة المجتمع في نقل الحضارة التي صاغها المجتمع من عناصرها إنه
كشخصية ، حين ينقل إلى طفله الحضارة التي ينتمي إليها ، ينقل إليه في الواقع ذاته ،
فلا يفسر صبر الآباء على عناء الأبناء إلا بما يحققونه فيهم وبهم من مغالبة الفناء
. ويفني هو بيولوجيا وتبقي الحضارة ممتدة في الأجيال المتعاقبة ..
من هنا نعرف لماذا يعتبر كثير من
علماء الاجتماع أن النزوع إلى الزواج من علامات الدخول في مرحلة الشباب . إنه
حينئذ ليس مجرد رغبة في إشباع غريزة جنسية كانت في أوج توهجها قبل إدراك مرحلة
الشباب بسنين بل هو تطور حضاري تنظم شريعته وطقوسه و آدابه معايير تختلف من مجتمع
إلى مجتمع . لا يغني عنه الإشباع المباح للغريزة الجنسية . فما تزال الأسر قائمة
في يد الاسكيمو بالرغم من أن الرجال يقدمون زوجاتهم لمتعة ضيوفهم ويعتبرون رفض
التمتع الجنسي بهن إهانة . وما تزال الأسر قائمة في جزر الماركيز بالرغم من حق
الزوجة في أن تضيف إلى أفراد الأسرة عشيقها كما يفعل الزوج . وما تزال الأسر قائمة
في غانا بالرغم من أن الزنی مباح بشرط منع الحمل . إنما الزواج في جوهره اتفاق بين
طرفيه على تكوين أسرة توفق في شخصيهما بين الانتماء إلى الأسرة والانتماء إلى
المجتمع في الوقت ذاته فينتهي الصراع النفسي الذي يولده التناقض بين الانتماءين فتسكن
نفساهما ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة
ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) [ الروم :۲۱]( يا أيها الناس
اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجال كثيرا ونساء )
[ النساء : 1]. صدق الله العظيم .
الانتماء القومي :
25 ـ
يمكن الوصول الى الجواب الصحيح على هذا السؤال عن طريقين . تتبع نشوء وتطور الحضارات ، اذ كل حضارة تميز مجتمعها ، أو تتبع نشوء وتطور المجتمعات ، إذ كل مجتمع متميز بحضارته . وبحق نفضل الطريق الثاني لأنه أدنى الى تحقيق ما نريد أن نصل إليه من هذا الحديث عن الشباب العربي وإليهم ، ثم إنه أكثر يسرا لأننا سنعيد فيه ما قلنا ، ولم نكف عن تكراره ، منذ نحو ربع قرن ونحن ندرس ، وننتشر ما تنتهي إليه دراستنا ، عن تكوين الأمة العربية .
قلنا في كتابنا " نظرية الثورة العربية " : عن نشوء وتطور الأمم عامة .
" ... قد تكون الرابطة الأولى التي جمعت بين اثنين هي الاجتماع على حل مشكلة " حفظ النوع " التي يؤدي حلها إلى أن يضاف إلى الاثنين ثالث فتوجد الأسرة ثم العائلة ثم السلالة.. الخ . تلك وحدة الأسرة تظل واقعا مشتركا بين الناس تميزهم عن غيرهم حتى يتجاوز العدد ـ في الزمان ـ ما يميز الناس بأصلهم الواحد فتتوه الأنساب المشتركة في الكثرة . غير أن مجرد اجتماع اثنين ولو على مشكلة حفظ النوع ، ينشىء مشكلة مشتركة جديدة على كل منهما، أي أنها وليدة التناقض بين اجتماعهما في مشكلة واحدة وانفصالهما - كل منفرد بذاته - في الوقت نفسه ، مضمونها كيف يفكران ويتبادلان الرأي ويسهمان في حل مشكلتهما الأولى . وقد حطت تلك المشكلة الجديدة بأول إضافة رائعة ابتكرها الإنسان ونعني بها اللغة . فعن طريق اللغة أمكن الوصول - بين المتعددين - إلى وحدة الإدراك والفكر والعمل لمواجهة المشكلات المشتركة . وباللغة وجد التطور الاجتماعي أولى أدواته . فانطلقت كل أسرة تواجه ـ مجتمعة ـ ظروفها المشتركة وتحقق مستقبلها المشترك . ثم يستمر النمو بالتعدد ، وتتعدد المشكلات ، وتتنوع في مضامينها ، بحيث تتجاوز في اتساعها ، وفي مضمونها، رابطة الدم التي تصبح عاجزة عن أن تجمع جهد كل الأسر ، والعشائر لحل المشكلات المشتركة فيما بينها ولتحقيق مصالحها المشتركة ، فتتكون المجتمعات القبلية حلا لمشكلات مشتركة بين أفراد كل قبيلة ، وتكون القبيلة بذلك طورا جديدا ، ناميا ، يتجاوز مقدرته المشتركة مقدرة الأسر فيه على حل المشكلات المشتركة " .
" فقد أتي على الإنسان حين من الدهر، استنفده في الصراع ضد الظروف الطبيعية للحصول على ما يحفظ حياته من ناتج الأرض والصيد. وكان شكل صراعه متابعة ثمار الطبيعة المتاحة تلقائيا إلى حيث هي ، والبقاء المؤقت على الأرض حيث يجدها ، إلى أن تنضب فيهجرها إلى مكان آخر من الأرض ، كانت الهجرة تغييرا للظروف المادية ( الطبيعية ) بالانتقال من مكان إلى أخر. وبالهجرة وخلالها ، التقى بجماعات أخرى تسعي وراء الغاية ذاتها . فیلتقیان علی مصدر إنتاج واحد فيقتتلان عليه . وبغلبة أحدهما يدخل مرحلة من التطور بدأت بحل مشكلة التزاحم فيستقر على الأرض و يبدأ في مواجهة المشكلات الجديدة التي تطرحها ظروفه الجديدة . فيبتكر في الأرض التي استقر عليها ما يحل مشكلات جمع نتاجها وتخزينه وتوزيعه وحراسته من فؤوس ومنازل وحراب ونبال .. الخ . وإذ يكون هذا هو الطريق الوحيد لحفظ الحياة وإشباع حاجاتها المتجددة ، يصبح جهد الأسر والعائلات قاصرا عنها فيكون الحل الحتمي أن تتجمع الأسر والسلالات والعشائر ـ تدريجيا ومن خلال مواجهة المشكلات ذاتها ـ لتكون قبائل ، أي لتكون بكثرتها ومقدرتها أقدر على حل مشكلات الظروف المشتركة . ويطرح تعدد الأسر والعشائر في المجتمع القبلي مشكلات جديدة تحلها القبيلة بما تضيفه من نظم وتقاليد وعادات تضبط سلوك الجميع ويحتكمون إليها فلا يتفرقون . وقد يتحقق لهم جميعا نصر مشترك فيمجدون انتصار " قبيلتهم " على الطبيعة وعلى الأعداء شعرا وغناء وألحانا ... إلى أن ينضب رزق الأرض ، أو يغلبوا على أمرهم ، فتبدأ مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة والأعداء بهجرة جديدة يصاحبها قتال جديد .. الخ .
وهكذا كانت المجتمعات القبلية وحدات متماسكة داخلها ، مهاجرة مقاتلة دائما .
ذلك هو الطور القبلي من المجتمعات : داخل المجموعة الإنسانية الواحدة ، تنفرد كل جماعة وحدة قبلية متميزة عن القبائل الأخرى بأصلها الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها وثقافتها القبلية ، ولا تميزها عن غيرها " الأرض " التي تعيش فيها ، لتبادل المواقع من الأرض کرا وفرا خلال الصراع القبلي .
وقد انتهى الطور القبلي أو كاد أن ينتهي . فخلال أحقاب طويلة من الهجرة المقاتلة اهتدت بعض الجماعات والقبائل إلى الأرض الخصبة وأودية الأنهار فاستأثرت بها حلا لمشكلة ندرة الرزق التي كانت تعالجها بالهجرة من مكان إلى مكان . ولم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبيعة تلقائيا، بل " استقرت " على الأرض وابتكرت الزراعة وأدواتها . حينئذ افترق تاريخ الشعوب والمجتمعات ولم يعد من الممكن الحديث عن التاريخ الإنساني " أو " تاريخ البشرية " بل لا بد من تتبع كل جماعة على حدة لنعرف تاريخها الخاص على ضوء ظروفها الخاصة .
فالجماعات القبلية التي استقرت على أرض معينة خاصة بها دخلت مرحلة تكوين جديدة هي مرحلة تكوين الأمم ، التكوين القومي ، لتتميز بهذا الاستقرار على أرض خاصة عن الطور الذي سبقها ، " الطور القبلي " . غير أن هذا لا يعني أنها قد أصبحت أمما ، فنحن لا نقول أن أية جماعة من الناس لها لغة مشتركة وتقيم في منطقة معينة من الأرض قد أصبحت أمة بل ننظر إلى المجتمعات خلال تطورها الحالي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي إلى المستقبل . فالأمة تدخل مرحلة التكوين باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الأرض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكوين وتتحد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها. وقد تكون أول مشكلة واجهتها الجماعات المستقرة هي المحافظة على هذا الاستقرار، أي حماية الأرض المشتركة . ذلك لان القبائل لم تستقر كلها في وقت واحد ، بل بينما استقر بعضها ودخل مرحلة التكوين القومي ظلت الجماعات القبلية الأخرى مهاجرة مقاتلة معا. تغزو أطراف الأرض التي استقر عليها الأولون تقيم فيها مختلطة بسكانها الأصليين مبتدئين معا مرحلة من الحياة المشتركة المستقرة لن تلبث أن تكوّن منهم أمة واحدة . أو محاولة غزوها فمنحسرة عن حدودها. وقد يثير الغزاة حروبا مضادة تخرج فيها الجيوش لمطاردة المغيرين والقضاء عليهم وضم مراكز تجمعهم إلى الأرض الخاصة ، فتمتد حدودها ليشملها جميعا الاستقرار مقدمة لتكون أمة . وقد استمرت فترات الغزو القبلي وحروب المطاردة فترات طويلة من التاريخ عوقت تطور الجماعات المستقرة إلى أن تكون أمما مكتملة . وإن كانت قد أسهمت ـ من ناحية أخرى- في أن يتجاوز المستقرون على الأرض الخاصة المشتركة ، رواسب الطور القبلي فيلتحموا معا خلال العمل المشترك لحماية الأرض المشتركة في مواجهة العدو المشترك . وعندما تثبت حدود الأرض مؤذنة بانتهاء الصراع حول الاختصاص بها تكون تلك الحدود ذاتها حدودا لما يليها من أرض خاصة بجماعات مستقرة أخرى .
26 ـ
وأكثر ما ندريه أهمية بالنسبة إلى هذا الحديث أن الانتقال من طور إلى طور لا يتم إراديا بقرار فردي او جماعي ، بل يتم تدريجيا على مدى القرون من خلال الكفاح الإنساني الطويل لإشباع حاجاته وما يصاحبه من صراع داخلي وخارجي ضد الطبيعة وضد الناس . ومن خلال هذا التطور ذاته تتطور حضارة كل مجتمع مصاحبة تطوره لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه . فثمة حضارة عشائرية ، وثمة حضارة قبلية، وثمة حضارة شعوبية ، و ثمة حضارة قومية ، إلى ما لا ندري الآن كيف تكون عليه الحضارة في المستقبل غير المنظور . المهم أنه في زمان معين في مكان معين يكون لكل مجتمع معين في الزمان والمكان حضارته لا تخلف عنه كما لا تتخلف خصائص المادة عن أي من عناصرها في حالة نقائه . فهي الحضارة الملازمة ، المناسبة ، الملائمة ، أفضل الحضارات بالنسبة إليه حتی بدون أن يعرف لماذا .
فنعرف أنه لا يساوي قلامة ظفر كل كتبه الغربيون وغير الغربيين عن التفاضل بين الحضارات المختلفة للمجتمعات المتعاصرة . كما لم يكن يساوي تلك القلامة كل ما اصطنعه الغربيون من لاهوت وفلسفات وأفكار عن "رسالة الرجل الأبيض في نشر الحضارة " بين الشعوب المتخلفة لتغطية الغزو الاستعماری . لقد انكشف الغطاء بعد حجب الحقيقة الاستعمارية وراء حجب التفاضل الحضاري . وفهم حتى بعض الأوروبيين مدى الصدق فيما كان يقوله الصينيون القدامى بعد استماعهم إلى المبشرين بدعوتهم إلی نور الحضارة الأوروبية . كانوا يتهامسون ـ في أدب جم - بأن أولك الأوروبيون مخلوقات غريبة وبدائية وبربرية واقل تحضيرا من الخنازير لأنهم ، بالرغم من معرفتهم القراءة والكتابة ، لا يستطيعون فهم تعاليم كونفشيوس .
أما عصر النهضة والإصلاح والتنوير الذي بهر كثيرا من المفكرين العرب ويحددون بدايته بالقرن السادس عشر وينسبون إلى جان كالفن السويسري أنه كان أحدى مناراته ، فلم يكن نهضة ولا إصلاحا ولا تنويرا إلا بالنسبة إلى الأوروبيين عامة وجان كالفن وأمثاله خاصة . ذلك لأنهم لم يكونوا متحضرين إلى الدرجة التي يفهمون بها ما كتبه ابن ماجة وابن رشد وابن خلدون والفارابي والغزالي ومئات غيرهم من شموس النهضة والإصلاح والتنوير قبل القرن السادس عشر بقرون . لا ولا كان الأوروبيون متحضرين إلى الدرجة التي يدركون بها أن للأمراض عللا عضوية تداوى بالجراحة أو بالعقاقير كما كان يقول ابن سينا قبل أن يبدأ القرن السادس عشر بخمسة قرون ( 980 ـ 1037) ۔
في ۲۲ يناير 1545 بدأ انتشار مرض الطاعون في مدينة جنيف بسويسرا فاعتبرته السلطة هناك نتيجة مؤامرة يقودها ساحر اسمه " لانتيل " و أعوانه بأوامر صادرة إليه من قائده الأعلى : الشيطان . فقبض على الرجل وسحل في الشوارع قبل أن تحرق جثه علنا ، بدون محاكمة . وقبض على نحو أربعين من أعوانه و قدموا إلى " المحاكمة " وقضي بإعدامهم حرقا . فلما استفحل الداء وأصبح المرض وباء، حتى بعد إعدام السحرة المتهمين، لم يستطع أحد في جنيف وغیر جنيف أن يشك - مجرد شك كمقدمة لمعرفة ـ في أن قد يكون للمرض سبب أخر غير السحر. بل أصبحوا على يقين من أن ثمة سحرة متآمرون لم تصل إليهم يد السلطة . فاقتحم " الشعب " بيوت كل الذين أشارت إليهم شبهات ، نهبت البيوت أولا ، ثم حرقت ، ثم حرق المشتبه فيهم . أما خارج جنيف ، فقد أعدم السويسريون كل وافد الى مدنهم من جنيف خوفا من أن يكون ساحرا متآمرا هاربا ... وكان کل ذلك متسقا مع حضارتهم .
أين كان جان کالفن ابن جنيف ، المصلح الديني ، داعية النهضة ومنارة التنوير ؟.. كان واقفا أمام " المحاكم " يشهد ضد أكثر من مشبوه متهم بأنه ساحر ومسؤول عن نشر الطاعون يستحق الإعدام حرقا .
27 ـ
فلنلتفت .
(4)
الانتماء العربي
نحن أمة :
28 ـ
ما الذي يعنيه هذا من بين ما یعنی به هذا الحديث . يعني ، كبداية ، أن الحضارة العربية حضارة قومية، لا عشائرية ولا قبلية ولا شعوبية . لدينا وفينا كل ما نقلته إلينا لغتنا من تراث حضاري موروث من الأطوار العشائرية والقبلية والشعوبية قبل أن نكون أمة في طور التكوّن إلى أن أصبحنا أمة . انتقل إلينا عبر الأجيال المتعاقبة في مسيرة تقودها اللغة من أطفال إلى أطفال إلى أطفال وتشكل بها شخصيات الشباب من جيل إلى جيل . ولكن لغتنا المتطورة أيضا لم تنقل إلى أي طور مررنا به الا ما يناسب إطراد النمو إلى التطور الذي يليه . إن الأهرام الخالدة أدلة على حضارتنا البائدة ولكنها لا تعني شيئا بالنسبة إلى حضارتنا الساندة .
وحين ثم الفتح العربي الإسلامي فجمعنا في دولة ووفر لنا الاستقرار على الأرض الخاصة والتفاعل فيما بيننا وبينها ودخلنا به طور التكوين القومي إلى أن أصبحنا أمة نمت حضارتنا وأينعت و أثمرت عقائد وتقاليد وعادات وقيما وآدابا وفنونا متطورة متميزة عما سبقها بتلك الإضافات التي تميز الحضارات القومية .
أهم هذه الإضافات ما يدخل في عناصر الحضارة من واقع الاختصاص بالأرض دون باقی البشر"، أمتنا ، وطننا. نمجد تاريخه ، نطمئن فيه . نغترب بعيدا عنه . نحافظ عليه . نفديه بالحياة نعيش من خيره . نشترك معا ، و دون غيرنا في التمجيد والاطمئنان والاغتراب والمحافظة والفداء والخير . وتعبر أجيالنا المتتابعة عن هذا الانتماء والولاء والوفاء فكرا وأدبا وفنا وغناء وموسیقی و أناشيد .. وأحزانا ودموعا أيضا . إنه ليس أرضا ولكن تجسيدا ماديا لمفهوم دخل في خلال التفاعل معه إلى صميم تكوين شخصية كل عربي ، و أصبح جزءا من هيكلها الأساسي الاجتماعي ، تحرسه ضوابط اجتماعية من التقاليد والعادات والقيم والآداب .. فنفرق تفريقا واضحا بين الاعتداء عليه وخيانته مع أن الفرق بينهما لا يتضح إلا على ضوء الانتماء العربي الذي لا وجود له خارج أنفسنا . وقد نغفر للمعتدي اعتداءه بعد ان ندفعه ثم ننساه ، ولكن أبدا أبدا لا ننسى للخائن خيانته حتى لو لم تحدث أثرا خارجنا ، لأنها - في واقعها الحضاري - اعتداء على كل واحد منا في ذاته وشخصيته العربية ، وهكذا بدون وعي ، أو بوعي يتجه الشباب العربي إلى المستقبل مقودا بانتمائه العربي يدون أن يعرف كيف يقاد وإن كان يشعر أنه لا يقود إلا نفسه .
هل هذه مجرد استنتاجات نظرية من مقدمات علمية ؟
التطبيق محك النظرية كما يقولون .
اتجاهات الشباب العربي :
29 ـ
بدأ جمع البيانات الرئيسية للبحث عام 1955 بتسهيلات كريمة من الحكومات والجامعات ومعاهد التعليم والأخصائيين في تلك الدول . واستعملت في جمعها وتحليلها واستنباط النتائج منها أرقى مناهج البحث الميداني والتحليل العلمي . وبعد جهد متصل استمر نحو ست سنوات نشرت الدراسة ونتائجها في القاهرة عام 1962 تحت إشراف الدكتور محمد عثمان نجاتی عضو الجامعة وأستاذ علم النفس في جامعة القاهرة حينئذ . كما سلمت نسخة منه إلى الفريق الأمريكي ۔
جاء في مقدمة الدراسة المنشورة عن منهجها الذي سموه - المنهج الحضاري المقارن " : " ان مشكلة استقلال الحالات التي يتناولها البحث الحضاري المقارن من المشكلات الهامة التي يجب أن يحتاط لها في تصميم البحوث الحضارية المقارنة . وهنا رأيان متطرفان في هذا الصدد : رأي يذهب إلى أنه إذا كان هناك مجتمعان مستمدان من أصل واحد أو إذا أخذ أحدهما عن الأخر بكثرة فلا يجب اعتبارهما حالتين مختلفتين بل حالة واحدة . ورأي آخر يذهب إلى أنه مادام المجتمعان مستقلين سياسيا فإنهما يعتبران مستقلين كأي فردين في مجتمع واحد . إن هذه المشكلة كما يقول هوايتنج مشكلة معقدة ولم تحل بعد حلا کاملا . وفيما يتعلق بالبلاد العربية التي تناولها البحث الحالي فإن كل شخص وثيق الصلة بهذه البلاد لا بد أن يلاحظ أن الروابط التاريخية والجغرافية واللغوية والدينية بينها وثيقة جدا . ولكن بالرغم من هذه الروابط فإن هذه البلاد ليست متشابهة في جميع ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وفي المشكلات السيكولوجية والاجتماعية التي تصادف الشاب في كل منها . فلا شك أن الاستقلال السياسي لهذه البلاد وتعرضها لبعض المؤثرات الداخلية والخارجية المختلفة قد أوجد فروقا في بعض المتغيرات التي يقوم البحث بدراستها . ومثل هذه الفروق توجد عادة بين أفراد المجتمع الواحد . ولذلك فإننا نميل في هذا البحث إلى اعتبار هذه البلاد العربية المختلفة سياسيا وحدات حضارية مستقلة يمكن أن تعقد المقارنة بينها " .
واضح من هذا التقديم أن " جماعة البحوث الحضارية المقارنة " في اتجاهات الشباب لم تقطع برأي فيما إذا كانت الدول العربية الخمس التي اختارتها تنتمي إلى أصل حضاري واحد بحكم ما هو ملحوظ من أن الروابط التاريخية والجغرافية واللغوية والدينية بينها وثيقة جدا ، أم أن كلا منها يعتبر وحدة حضارية مستقلة عن الأخريات بحكم استقلالها السياسي وما ترتب عليه من فروق في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفي المشكلات ، السيكولوجية والاجتماعية التي تصادف الشباب في كل منها .
لم تقطع برأي ولكنها " مالت " إلى اعتبار الدول العربية وحدات حضارية مستقلة .
على هذا الأساس المائل " استمر جمع البيانات والبحث والدراسة والتحليل واستنباط النتائج الخاصة بكل دولة عربية على حدة بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية . وسجلت وثائق البحث في جداول كثيرة ومتنوعة أدق الفروق الفردية والتفصيلية بين اتجاهات الشباب من الذكور والنساء ، من المتعلمين والأميين ، من العاملين والعاطلين ، من سكان المدن وسكان الريف وسكان الصحاري ، من المسلمين والمسيحيين .. باختصار لم تترك وجها للمقارنة إلا درسته ، وكان المفروض اتساقا مع الاختيار الثابت في المقدمة ، أن تتم مقارنة النتائج بين اتجاهات الشباب في ست دول ، خمس عربيات وواحدة أمريكية . ولكن النتائج لم تقبل میل الجماعة . النتائج الموضوعية لم تقبل الاختيار الذاتي . إذ انتهى البحث إلى أن يكون مقارنة ثنائية بين الخمس دول عربية من جانب والولايات المتحدة الأمريكية من جانب . وعللت الجماعة هذا في خاتمة بحثها تحت عنوان " استنتاجات عامة " بأن التشابه في اتجاهات الشباب في جميع الأسر العربية المسلمة والمسيحية في جميع البلاد العربية التي أجري فيها البحث تشير الى التشابه الحضاري في جميع هذه المجتمعات بالرغم من اختلاف درجة التأثر بالمدنية الغربية .
أين المشكلة إذن ؟
(5)
الشباب العربي والانتماء
مشكلة المشكلات :
30 ـ
إن ذكّرنا أحد بهذا الذي قرأنا في مطلع شبابنا فليتذكر معنا أن مصدر " المشكلة " طبقا " لجدل الإنسان " هو التناقض بين الماضي والمستقبل في الإنسان نفسه . وهو ما يعني - ان صدق المنهج - أنه محال على غير الشباب أنفسهم أن يعرفوا مشكلات الشباب العربي على هدي منهجه ؟ ..
یا للتناقض .
31 ـ صدق الشباب أن قالوا ما نقول . وإن كان هذا ليحرمهم من أغلب ما قيل وكتب ونشر من فوق المنابر العربية عن الشباب العري ومشكلاته ، إذ هي مواعظ آسفة وعاطفة ينثرها ، أو ينشرها كهول وشيوخ عزاء لأنفسهم عن شابهم المفقود . لا . لن نتحدث عن الشباب تفويضا ولن نتحدث إلى الشباب تعويضا ، وإنما سنحاول أن نعرف معرفة علمية ما إذا كان في الواقع العربي ما يمكن أن يكون مصدر مشكلات الشباب العربي كما میزناه سويا .
32 ـ والواقع أن مشكلة المشكلات في دراسة أية ظاهرة هي كيف نعرف أنها موجودة موضوعيا بالنسبة إلى الباحث أو المتحدث بمعنى أنه لم يتدخل في إنشائها أو اختلاقها ولم يخطئ في معرفتها عامدا أو غير عامد . وأعلى الدراسات الجيدة التي كتبت عن الشباب العربي تنتهج إلى هذه المعرفة منهج ساد في البحوث الاجتماعية والنفسية . أنه المنهج الإحصائي . وفي ما نشر من هذه الدراسات كتاب " الشباب العربي والمشكلات التي يواجهها " الذي أنشأه عالم الاجتماع العربي ، الدكتور عزت حجازي ( عالم المعرفة ، العدد السادس : ۱۹۷۸) . لقد انطوي على جل ما قيل إنه من مشكلات الشباب العربي ، واثبت مراجعه بالإضافة إلى إبداع مؤلفه وهو نفسه مرجع في مادة تخصصه .
إننا نذكره لنوصي الشباب بقراءته . غير أن هذا لا يحول دون أن نضع تحت نظر الشباب ملحوظاتنا على المنهج الإحصائي في اكتشاف مشكلات الشباب العربي . يقوم هذا المنهج علی اختيار عينة من الشباب ودراستها عن طريق الملاحظة أو المقابلة أو الاستبيان أو بها معا . وفيما عدا الملاحظة فإن كلا من المعاينة والاستبيان حوار . الأولى حوار مباشر بين الباحث والشباب والثاني حوار مكتوب في شكل أسئلة وأجوبة . ثم يجمع الباحث كل حصيلة هذا ویبدأ التصنيف والتحليل والاستنباط لينتهي إلى ما يرى أن أولئك الشباب "العينة " يعانونه من مشكلات . قد تكون العينة مائة أو ألفا أو عشرة آلاف لا يهم ، إنما المهم هو أن النتائج التي يصل إليها الباحث نعمم على الشباب العربي كافة وتنتشر على أنها ما أسفرت عنه الدراسة العلمية لمشكلات الشباب العربي ، وقد رأينا من قبل كيف أن " جماعة البحوث الحضارية المقارنة " قد احتاطت ضد هذا التعميم احتياطا مبالغا في الحذر " مالت " به إلى عقد المقارنة بين خمس دول عربية بالرغم من معرفتها بما بين الناس في تلك الدول من روابط حضارية . صحيح أن النتائج فرضت الحقيقة ولكن هذه الحقيقة لم تكن مستهدفة من البحث أصلا بل جاءت مناقضة لما أستهدفه أي جاءت كاشفة خطأ المنهج ذاته .
33 ـ ونستطيع أن نقول مطمئنين أن هذا المنهج السائد في الدراسات الاجتماعية والنفسية في الوطن العربي مسؤول عن بقاء مشكلات الشباب العربي مجهولة إلى حد كبير، كما هو مسؤول إلى حد كبير عن خلق مشكلات للشباب العربي لم تكن موجودة .
34- أما أنه مسؤول عن بقاء مشكلات الشباب العربي مجهولة إلى حد كبير فيمكن إدراكه من تتبع خطوات هذا المنهج التي تبدأ بالباحث والعينة ، ثم بطرق البحث ، ثم باستنباط النتائج .
إن الباحث قد وصل ـ على الأقل ـ إلى درجة من العلم تؤهله للبحث . إنه إما في درجة أستاذ جامعي ، أو هو أستاذ جامعي ، أو هو طالب في مرحلة الدراسات العليا ويعد ما يؤهله للأستاذية بحثا تحت إشراف أستاذ جامعي . إنه في هذه الدرجة يكون قد تملك ، أو المفروض أن يكون قد تملك وجهة نظر، وليس بالضرورة نظرية ، في من هم الشباب ، ومتى يكون الشباب سويا، ومتى يكون غير سوي فتكون له مشكلة ، إن وجهة نظر الباحث الأستاذ هذه ستوجهه ـ حتى دون أن يتعمد ـ وهو يختار العينة ، و هو يلاحظها ، وهو يقابلها ، وهو يختار الأسئلة التي يوجهها ، وأخيرا فإنها ستتحكم في تحليله المقدمات وتركيبه النتائج . وقلما تأتي النتائج مناقضة لما يكون الأستاذ قد نشره من آراء نظرية أو ألقاه على الطلبة في أحد المعاهد العلمية .
ثم نأتي إلى العينة المختارة للدراسة . إنها في الأغلب من الحالات ، أو في الأغلب من الأعداد ، منتقاة من المحيط الاجتماعي أو العلمي للباحث . اما من طلاب الجامعات ومعاهد التعليم العليا أو الثانوية وإما من سكان المدن . وغالبا ما تكون العينة مختارة من طلاب ومقيمين في المدن معا . وقد أحسن صنعا الدكتور عزت حجازي حينما نبّه في كتابه القيم إلى أن ما به من دراسة مقصورة على طلاب الجامعات . ولولا هذا التنبيه لما كان مقبولا أن يحمل الكتاب القيم عنوانا أوسع في مادته . يضاف هذا إلى ما قلناه عن خطأ تعميم ما تسفر عنه دراسة عينة محددة العدد يكون حكما على أكثر من أربعين مليون من الشباب العربي ومشكلاتهم ، أن كانت لهم مشكلات .
ثم تأتي طرق البحث . الملاحظة رؤية من الخارج تتوقف صحة ما يدرك من خلالها على وحدة معيار السلوك السوي لدي الباحث والعينة . فقد يبدو ما يلاحظه الباحث غير سوي قياسا على معايير مجردة بيولوجية أو عصبية أو نفسية في حين يكون ما لاحظه سويا حتى طبقا لهذه المعايير إذا أضيفت إليها الظروف الاجتماعية المتغيرة في الزمان والمكان . أما المقابلة فأستاذ يستنطق شابا ليدرسه . وقد يستنتج من حديثه القلق أنه يعاني في حياته مشكلة ، في حين ان كل إنسان سوي يعاني من الحصر العصابي ( القلق النفسي ) حين يجد نفسه " شيئا " پدرس , هذا بالإضافة إلى أن مجرد وعي فارق السن والعلم والمركز الاجتماعي بين الباحث والشاب ، واختلاف دور كل منهما في الحياة ستؤدي - لا شعوريا في كثير من الحالات - إلی إضافات تعويضية تنتقص من الثقة العلمية في صدق ما يقوله الشاب العينة .
ثم يأتي الاستبيان ، وفيه يختلي الشاب بالأسئلة . ولكنها لن تكون خلوة كاملة . ذلك لأن مجتمعه له بعناصره الحضارية كلها من معتقدات وتقاليد وعادات وآداب و قيم سيكون حاضرا معه فيه . وهو أمر لا حيلة للشاب فيه . سيجيب الشاب العينة . ولكن صحة الإجابة تبقي متوقفة على الجواب على سؤال سابق : هل كان يستطيع أن يجيب على وجه آخر صادقا أم لا ؟ إن الشاب العربي السوي لا يستطيع أن يجيب صادقا على أسئلة كثيرة تنتهك حرمات الأسر ، وصون الحرمات قيمة حضارية عربية . وبالتالي فإنه لا يجيب إجابات صادقة أو كاملة الصدق عن أسئلة كثيرة تتعلق بوالده ووالدته وأسرار العلاقة بينهما التي لا تسمح العادات العربية بان يعرفها معرفة كاملة . كما لن يجيب إجابة كاملة الصدق عن أقربائه وقريباته وعن طفولتهم وطفولته لأن قيما عربية كثيرة ترده عنها من داخله فيرتد . فإن أجاب صادقا فإنه يعاني فعلا مشكلة يسمونها مشكلة " الاغتراب " والمغترب - كما سنعرفه فيما بعد - إنسان غير سوي فسلوكه صادق الدلالة على حالته المرضية وليس صادق الدلالة على حالة غيره ممن يتحدث عنهم ولا على الأسباب الموضوعية التي أدت إلى اغترابه . وحتى الشباب السوي تختلف إجاباته وهو في حالة إشباع بيولوجي ونشاط فسيولوجي وانتباه عقلي وراحة نفسية عن إجاباته حين يكون مفتقدا حالة أو أكثر من هذه الحالات أو كلها معا ، على الأسئلة ذاتها . وهي تفتقد وقد تعود على مدى ساعات النهار ولا نقول علی مدی توالي الأيام .
كل هذه الملاحظات لا تعني أن هذا المنهج في البحث عقيم ، فالواقع أنه كثيرا ما يؤدي إلى نتائج يمكن الاعتماد على صحتها كمؤشرات ، خاصة حين تصدق التعميمات المستنبطة على محك الممارسة التطبيقية . كل ما في الأمر أنه يجب ان تؤخذ تعميماته بحذر شديد ، ذلك لأن حظها من الصدق متوقف على حظ الباحث من العلم والكفاءة والأمانة ، وحظ العينة من قابلیتها للدراسة وتعاونها ، وحظ البحث ذاته في اختيار المجتمع التي يستجيب لهذا النوع من البحث زمانا ومكانا ، ونعتقد ان توفر كل هذا معا للبحث في مشكلات الشباب العربي ما يزال نادرا . لهذا قلنا أن منهج هذا البحث بالرغم من انه سائد في الدراسات الاجتماعية والنفسية في الوطن العربي ، وربما لأنه هو السائد ، مسؤول عن بقاء مشكلات الشباب العربي مجهولة إلى حد كبير .
35 ـ أما أنه مسؤول إلى حد كبير عن خلق مشكلات للشباب العربي لم تكن موجودة فذلك لما يكاد يكون محل إجماع من شدة قابلية الشباب للإيحاء . يقول وليم مكدوجال في كتابه "علم النفس - دراسة في السلوك ، 1947 " تحت عنوان " علم النفس الاجتماعي " : " يجب أن نعرف أن التفسير المنطقي لا يؤثر في نمو وجهي العقل الادراکي والنزوعي كليهما إلا تأثيرا ثانويا وعرضيا ، وأن الأسلوب الذي يؤثر به المجتمع في العقل إبان نموه ، في كل لحظة من لحظات هذا النمو، أسلوب ذو طبيعة مختلفة. ويمكن تصنيف هذا الأسلوب إلى ثلاثة أنواع واسعة : الإيحاء والتعاطف والمحاكاة ونقصد بالإيحاء الطريقة التي تدس بها المعتقدات أو تصل إلى شخص مستقلة عن أي تیرير منطقي يربط بينها وبین نتيجة ما . الخ " .
فإذا تصورنا المنهج الإحصائي ، أو الكشفي ما يسمونه في بعض الدراسات ، نجد أنه كلما بدا الباحث في نظر الشاب بالغ العلم والكفاءة والأمانة كلما كان نزوع الشاب الي محاكاته قويا . وكلما حاول هذا الباحث العالم الكفء كسب ثقة وتعاون الشاب موضوع الدراسة كان هذا التعاطف أداة تأثير قوي في قابلية الشاب للإيحاء . فحين يدرك الشاب أن موضوع الدراسة مشكلة متعلقة بالشباب لا يستطيع مقاومة الإيحاء بان هذه المشكلة " موجودة " .. سيؤثر هذا في إجاباته التي ستبدأ ، لا من افتراض أنها قد لا تكون موجودة ، بل من أنها موجودة فهي تحتاج إلى تفسير أو تبرير أو حل .. المهم أن هذا الشاب الذي لم يكن من قبل أن يصادف الباحث العالم الكفء الأمين المتعاطف يدرك من واقع ذاته أن ثمة مشكلة ، تقتحم المشكلة ذاته عن طريق البحث ... يخلقها البحث خلقا . ما الذي يثيره سؤال إلى شابة عربية ريفية أو بدوية حين تسأل : ما رأيك في تدخل والديك في شؤونك الخاصة ؟ وهو سؤال بسيط . أغلب الظن أن السؤال سيصدمها ( يسمونها صدمة حضارية ) وتتردد لحظات مضطربة ، ثم تقول علي سجيتها " وماله " . تعني أنها ترى هذا طبيعيا ثم تنصرف . ولكن آثار هذا السؤال لن تفارقها . فقد أوحي إليها يان لها شؤون خاصة لا ينبغي لوالديها أن يتدخلا فيها فتظن لأول مرة أن ما يسمية الوالدان رعاية أو حماية هو تدخل في شؤونها الخاصة ، فتوهم أن ثمة تناقضا بين استقلالها بشؤونها الخاصة وبين علاقتها بوالديها ... فتصبح لديها مشكلة لم تشعر بها من قبل .
وهكذا نرى المأزق الذي يجرنا إليه المنهج الإحصائي في محاولة اكتشاف مشكلات الشباب كلما ارتفعت كفاية الباحث كلما زادت مقدرته على الإيحاء إلى الشباب بوجود المشكلات التي يبحث عنها ، وهو مأزق خطر اجتماعيا .
ولنعترف أن علماء هذا المنهج لم يتركوا وسيلة فنية الا وأضافوها اليه لتكون نتائجه أكثر ما تكون خطرا . وهي وسائل فنية بالغة التنوع والتعقيد لا محل لها في هذا الحديث ، ذلك لأن أحدا من أولئك العلماء لم يقل أنه المنهج الأمثل في اكتشاف الحقائق . ولسنا نقول عنه ما نقله الدكتور عبد العظيم أنيس عن رجل الدولة البريطاني جلادستون من أن : " هناك ثلاث درجات من الأكاذيب ، فهناك الأكاذيب ، ثم هناك الأكاذيب الملعونة ، ثم هناك الإحصاء " ( الأهرام الاقتصادي عدد ۷۳۷ ) لأننا نعرف من تاريخنا أن جلادستون هذا كان رئيس الوزارة البريطانية صاحب قرار احتلال مصر يوم 11 يوليو ۱۸۸۲ وانه قال في مجلس العموم البريطاني يوم ۲۹ يوليو ۱۸۸۲ : " ليس لبريطانيا العظمی مطامع في مصر وهي لم ترسل الجنود إليها إلا لإعادة الأمن فيها " فكانت نية ملعونة دامت لعنتها 75 عاما . والكذاب لا يقول إلا كذبا حتى عن أنواع الكذب .
36 ـ لولا أن الحديث بينبئ بأنه قد يطول أكثر مما ينبغي لكان ينبغي أن تتحدث حديثا وافيا عن المنهج المادي الجدلي ( الماركسي ) في اكتشاف مشكلات الشباب حتى نرد مقدما على ما قد يثيره بعض الشباب الماركسي من اعتراضات على أساس أن انتماء الشباب إلى طبقته بحكم أن أسلوب إنتاج الحياة العادية هو الذي يحدد الانتماءات الاجتماعية "حتما"، وبالتالي أن مشكلات الشباب العربي ليست متجانسة إنما يعاني شاب مشكلات الطبقة التي ينتمي إليها . إن هذا يمكن أن يكون محلا لحوار يدور حول مشكلات شباب الطبقة العاملة أو الطبقة البرجوازية . فمن الممكن الاستغناء عنه في حديث من مشكلات الشباب العربي كافة ، أي عن المشكلات المشتركة بين الشباب العربي كافة . ولا ينكر الماركسيون أن ثمة مشكلات مشتركة بين الشباب ، كل ما في الأمر أنهم ، طبقا للمنهج المادي الجدلي ، يتناولونها على مستوى " أممي " لا يعتد كثيرا بالمميزات القومية ، وقد ينكرها ، أما نحن فنتناولها على مستوى عربي قومي لسنا على استعداد للحوار حوله الآن .
ثم أن الدكتور مراد وهبة وقد حمل إلينا على صفحات كتابه " محاورات فلسفية في موسكو " خلاصة ما " أكتشفه " على مدى عام قضاه زائرا الاتحاد السوفييتي ( اکتوبر ۱۹۹۸ حتی أكتوبر ۱۹۹۹)، وهي خلاصة بالغة الثراء نقلها ماركسي عربي بالغ الأمانة . خلاصة الخلاصة أن فلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس في الاتحاد السوفييتي پراجعون " المادية الجدلية " وان هناك اتجاه يمثله ألينكف رئيس قسم المنطق في معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم في موسكو عرضه في كتاب صدر عام ۱۹۹۸ بعنوان " عن الأصنام والمثل " يقصر الجدل على الإنسان دون المادة ودون الفكر ، وان ثمة عالما من أتباع مدرسته أنشأ كتابا في هذا بعنوان " ماهية الإنسان الفاعلة كمبدأ فلسفی : ۱۹۹۸ " .
وقد ظهر أثر هذا الاتجاه فيما كتبه بعض علماء النفس في الاتحاد السوفييتي في السنين الأخيرة في كتاب يحمل عنوان " مشكلات النمو العقلي : ۱۹۸۱ " يبدأه مؤلفه أ. ن . ليونيف بقوله : " حين يتأثر الكائن الحي على وجه أو على آخر بمؤثر خارجي فإنه يهضمه ويتمثله . ولا يكفي من أجل هذا أن يبقى سلبيا متأثرا ، بل لا بد له هو ان يفعل شيئا في الوقت ذاته . هذا الفعل قد يأخذ شكل عملية داخلية أو حركة خارجية ولكن لا بد من أن يحدث". ثم يأخذ هذه القاعدة مطبقا إياها باستفاضة مصحوبة بخلا صات التجارب وجداولها إلى أن يصل إلى آخر الكتاب لينفي صحة " وجهتي نظر " في كيفية عمل الإنسان المؤثر المتأثر بما هو خارجه . أولاهما ترى أن في الإنسان وظائف عقلية ونشاطا معرفيا يعمل ذاتيا بمجرد التأثر بظاهرة خارجية ( وجهة نظر مثالية ) ، وتري الثانية أن الإنسان لا يفعل حين يتأثر إلا أن يعيد ما اكتسبه بالمران والتكرار من خبراته السابقة ( وجهة نظر مادية) لينتهي إلى أن الإنسان يعي تجاربه وما يصل إليه من تجارب تاريخية ، ويهضمها ويتمثلها لا ليكررها ولكن ليستخدمها في تغيير ظروفه .
مثل هذا الاتجاه واضح الظهور أيضا في كتاب ف . ت . میخائیلوف " لغز التنفس : ۱۹۹۷" فبعد عرض مطول لما قاله هيجل وما قاله رسل يتبني تعريفا طريفا للإنسان ، ينقله عن عالم سوفييتي أخر اسمه أموسرف " تشكيل الفكر والعقل : 1965 " فيقول ان الإنسان " كائن منظم قادر على إدراك المؤثرات الخارجية ، واستخراج معلومات منها ، وإدخال المعلومات في قوالب ذات مستويات مختلفة ، والتأثير في محيطه الخارجي طبقا لخططه ذاته على مستويات متعددة . فالإنسان في النهاية هو ضابط ذاتی لخططه ". ويضيف ميخائيلوف من عنده : " حتى نستبعد أي إمكان لسوء الفهم نقول إن الإنسان ضابط ذاتي طالما أن نشاطه مؤسس على خطة قائمة في داخل ذاته وليس خارجه علی أي وجه ..... الخ .. وبعد ؟
مشكلات الحياة :
37 ـ
لن يدهشه أن يدرك أن أمته العربية ، مجتمعه ، أمة نامية ولكنها متخلفة . أن النمو هو النقيض الواقعي ، حصيلة الماضي ، أما التخلف النقيض المتصور من خلال مقارنة مستقبل أمته بما حققته بعض المجتمعات المعاصرة . فلن يلبث - مادام سوپا - أن پدرك الحل الصحيح لهذه المشكلة هي مضاعفة ما هو ممكن ، وليس القفز من فوق القرون اختزالا غير واقعي للفرق بين ما هو واقع وما هو متصور . حينئذ يتعلم الشباب العربي من تلك المجتمعات أساليب مضاعفة عائد الواقع المادي والبشري والفكري والروحي ويقتني أدوات هذه الأساليب إبداعا أو صنعا أو شراء ، ويتدرب على إتقان استعمالها ويستخدمها في مضاعفة عائد ما هو متاح له في مجتمعه من أسباب التنمية فيتضاعف ما هو ممكن وتزداد سرعة نمو أمته ..
قد تصاحب عملية التنمية هذه إضافات من النظم أو العادات أو الآداب أو القيم مثل إعادة تقسيم العمل الاجتماعي ، أو الهجرة من الريف إلى المدن ، أو ازدحام المدن بالشباب الوافدين إليها بحثا عن فرص عمل أفضل ، أو استبدال الأسرة الممتدة بأسرة صغيرة ، أو ارتفاع القيمة الاجتماعية للعمل على حساب قيمة الاستغناء عنه بالثروة ، واستقلال الشباب مبكرا عن أسرهم ، الخ . وقد يتعب أو يفشل أو يضيق بعض الشباب بهذه المستحدثات على حياته ، ولكنهم على مدى حياتهم وقبل أن تنقضي مرحلة شبابهم ، سیكسبون تلك الخبرة بالحياة التي سبقهم إليها من كانوا من قبل شبابا صادفوا التعب والفشل والضيق ثم تجاوزوها أكثر نموا ونضجا. إن كل هذه ، كلها ، لا تعتبر مشكلات إلا حين تنسب إلى جدل الحياة إلى التفاعل المحتوم بين الشباب ومجتمعه ، إلى قانون التطور ، حيث لا يتم التطور إلا من خلال كل تلك المشكلات .. أعني أن الشباب ينمو ويتطور صحيا من خلال مواجهته تلك المشكلات وحلها ، وليس من خلال أي شيء آخر .
بشرط أن يكون قد واجهها وحلها كما هو مكتمل الشخصية في بدء شبابه . أي في حدود المعايير التي اكتسبها من حضارته . ولن تلبث حضارته إلا أجيالا حتى تهضم وتتمثل ما يتفق مع بنيتها من تلك المستحدثات من أساليب النمو وأدواتها وما يكوّن صاحبها من نظم وعادات وآداب وقيم ، و هكذا تمت وتطورت الحضارة ، وهكذا يؤدي الشباب دوره في نمو وتطور حضارته القومية ، وهكذا تنمو وتتطور شخصيته العربية ، وهكذا يكون كل جيل من الشباب العربي أكثر نموا وتطورا من أجيال الشباب التي سبقته . وهي حقيقة لا يريد ان يعترف بها الكبار لا أدري لماذا . مع أن من المسلمات ذات الأصل الحضاري في امتنا العربية أن يقال أن الرجل لا يحب أن يفضله أحد إلا ولده . ألم نلقنهم حضارتنا وهم بعد غير واعين فشكلنا هياكل شخصياتهم وهم لا يدرون ، فأسهمنا في إنشائهم كما هم شبابا عربيا ، فأية إدانة لنا أقسى من أن نزعم أننا كنا أفضل منهم شبابا . إن كان هذا تعبيرا عن واقع يلمسه بعضنا فقد يرجع إلى أسباب سنعرفها بعد قليل ، الشباب العربي بريء من مسؤوليتها وقد نكون نحن المسؤولين . فصبرا .
ومنها ما لا نطيق عليه صبرا. إن كثيرا من الشباب العربي يدخل الي مرحلة شبابه حاملا مشكلات الحياة التي عجز جيل قبله عن حلها فتضاف إلى أحماله المقبلة . إنه أمي ، إنه فقير ، إنه مشرد ، إنه مريض ، إنه قد تربی علی غیر مرب ، إنه تلقى مبادئ الشرود والضياع من أسرة شاردة ضائعة ، إنه سوي ولكن مغبون في نظام ولد فيه لا يعترف بالمساواة ... الخ . والشباب الذي كان طفلا بدون إرادته ، ولد في مكان لم يختره ، ينتمي إلى أسرة لم يأخذ أحد رأيه في انتمائه إليها ، يعيش في مجتمع هو قدره ، في ظل نظم سياسية واقتصادية واجتماعية اصطنعها أجيال قبله .. ويكون عليه أن يبدأ رحلة شبابه من كل هذا ، فتضاف إلى مشكلات حياته السوية مشكلة استواء نظم الحياة المختلفة . فمن ذا الذي يجرؤ على إدانة الشباب العربي وقد حملناه أوزارنا في حين أن حضارتنا قد علمتنا المشاركة في الحقوق والتفرد في المسؤولية حين لقنتنا إنا أمة من ناحية وألا تزر وازرة وزر أخرى من ناحية ثانية .
ومع ذلك فكل مشكلات نمو وتطور وحياة وإن كانت عبثا مرهقا للشباب العربی . انها متاعب حياة سوية نامية ، ولكن الأمور لا تجري على هذا الاستواء في الوطن العربي . لا أحد يريد للشباب العربي أن يحيا حياته بمشكلاتها كما هي ، وان يترك له وحده أن يحاول حلها وأن ينضج خلال حلها . إن ثمة قوي منظمة هائلة مسلطة على الشباب العربي خاصة لا لتعوق حل مشکلات حياته ، ولكن لتفكيك هيكل شخصيته ، وتحاول أن تستبدل به هيكلا حضاريا غريبا .
وهذه هي المشكلة الأساسية التي يعاني منها الشباب العربي . مشكلة الانتماء . فهل ثمة في الواقع العربي أسباب موضوعية لمثل هذه المشكلات ؟
الامبريالية الحضارية :
38 ـ
جيوش الغزو الحضاري :
39 ـ
والواقع أن فزع العالم الثالث من هذا الخطر الحديث قد عم فأصبح إدراكه جماعيا. ولقد كان الوطن العربي مركز أول حشد لمقاومة هذا الخطر . ففي الجزائر انعقد المؤتمر الرابع لدول عدم الانحياز في سبتمبر ۱۹۷۳ ، وكان خطر الغزو الغربي لعقول الشعوب أحد الموضوعات الأساسية التي ناقشها المؤتمر وأوصى في إعلانه الختامي بتعاون الدول غير المنحازة في ميدان النشاط الإعلامي " لوضع حد لمحاولة إهدار خصائصهم الحضارية والثقافية " . وفي تونس العقد عام 1976 مؤتمر من خبراء الإعلام العرب والأفارقة استجابة لدعوة مؤتمر وزراء خارجية دول عدم الانحياز الذي انعقد عام 1975 . وقد جاء في قرارات المؤتمر أن دول عدم الانحياز تعاني من هيمنة الدول المتقدمة على وسائل الاتصال بالجماهير بحكم احتكارها لأغلب وسائل الاتصال في العالم واستغلالها هذه الهيمنة للتدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية بقصد تحقيق أهداف النزوع الامبريالي والاستعماري الجديد . وفي يوليو 1976 انعقد في نيودلهي بالهند مؤتمر وزراء الإعلام في الدول غير المنحازة وفيه عبرت السيدة اندديرا غاندي رئيسة وزراء الهند حينئذ عما تقوم به الدول الاحتكارية من تزييف حقيقة العالم الثالث عن طريق الدعاية والإعلام بالكلام والأقلام والأفلام ثم قالت بمرارة : " إننا نريد أن نستمع إلى ما يقوله الأفريقيون عن الأحداث في إفريقيا وان نقدم التفسير الهندي لما يحدث في الهند " .
وفي نوفمبر 1976 انعقد المؤتمر العام لمنظمة (يونسكو) في نيروبي وفيه عبر ممثلو دول العالم الثالث عن إدانتهم لهيمنة الدول المتقدمة على مقدرات الدول النامية وضمائر شعوبها عن طريق الإعلام بقصد إحلال الحضارة الغربية محل الحضارة الوطنية . ويشهد فرانسیس بال في كتابة " الإعلام والمجتمع " أن قد تألق في حلبة الدفاع عن عقول الجماهير في الدول النامية خلال هذا المؤتمر الوزير العربي مصطفى المصمودي الذي كان يمثل تونس العربية .
بل أن الفزع قد ارتد إلى مصدّريه ، فنرى رئیس جمهورية فرنسا ، يصدر في نوفمبر 1974 قرارا جمهوريا بتكليف وزير الداخلية بأن : " يقترح على الحكومة في خلال مدة لا تزيد عن ستة أشهر التدابير الكفيلة بضمان ألا يؤدي تقدم وسائل الإعلام في القطاع العام والمشترك والخاص إلى ما يمس حرمة الحياة الخاصة ، والحريات الفردية والحريات العامة ". وقد شكل وزير الداخلية لجنة برئاسة نائب رئيس مجلس الدولة تتبعها مجموعات عمل متخصصة وقدمت تقريرها في ۲۷ يونيو 1975 . خاصة التقرير - فيما يعنينا - ان خطر اغتصاب عقول الجماهير الفرنسية وحقوقهم لم يقع بعد ولكن مقدماته تنبئ بأنه وشيك الوقوع مما يقتضي أن تتخذ الدولة إجراءات وقائية تحول دون وقوعه . واقترحت اللجنة ما شاءت من إجراءات ملأت كتابا نشر مستقلا عام 1976 .
الشخصية العربية :
40 ـ لن نستطيع أن ندرك مخاطر هذا الغزو الحضاري الذي يهدد الشباب العربي إلا إذا عرفنا وجه التناقض بين الهيكل الأساسي للحضارة العربية والهيكل الأساسي للحضارة الغازية . تماما كما أن إدراك جريمة القتل لا يتم إلا بمعرفة أن ثمة قاتلا وثمة مقتولا . ولن نتعرض هنا للفروق الحضارية التي لا يمكن حصرها ، يكفي ان نعرف الفروق الأساسية التي تنبني عليها وتتفرع منها تلك الفروق.
أولا ، وقبل كل شيء ، وفوق كل شيء ، إن هيكل الحضارة العربية قائم على قاعدة قومية . وهذا يعني تماما أنها حضارة نشأت ونمت واكتملت خصائصها العربية خلال نشأة ونمو واكتمال تكوين الأمة العربية . ومن هنا فهي تفترق أساسا وهيكلا عن الحضارات العشائرية والقبلية والشعوبية التي كانت قائمة في المرحلة التاريخية السابقة على تكوين الأمة العربية ..
هذا مبدأ منهجي للحديث عن الحضارة العربية ، بحيث أن إنكاره يعني ألا جدوى في الاستمرار والاستماع إليه أو قراءته .
الآن نسأل ما هو الهيكل الأساسي الذي قامت عليه الحضارة العربية ؟
41 - ننقل الجواب عما كتبنا ونشرنا في عام 1965 وما يزال في نظرنا صحیحا وهو متاح الآن في طبعات جديدة " الجزء الثاني من نظرية الثورة العربية : ۱۹۷۹ ص 66 ـ 71 ". وقد كنا نتحدث في ذلك الوقت عن تكوين الأمة العربية :
نحن أمة وحد الزمان ظروفها ، فلها وحد اللغة ووحدة الأرض ووحدة التاريخ . الذين لا يدكون هذا عن طريق وحدة التاريخ يدركون حصيلته فيهم شعورا بالانتماء القومي . وعلى الذين لا يشعرون به ان يكتشفوا أنفسهم من غربتهم في الأمم الأخرى ، فهم ثمة متميزون بعروبتهم عن الأمم لا تقبلهم لأنهم لا ينتمون إليها . فإن كان كل هذا لا يكفي فليدلنا المنكرون الى أية امة ينتمون ، فليس ثمة إنسان مبتور الجذور . وإلى أن يعثر كل منهم على جذوره ، يهمنا ـ نحن العرب ـ أن نعرف عن أمتنا ما يغني معرفتنا بظروفنا .
دخلت أمتنا طور التكوين القومي منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ، فسبقنا - في الزمان - أغلب أمم الأرض إلى الاستقرار وبناء الحياة المشتركة . وكان تكويننا القومي متميزا ببدايته فميّز وجودنا القومي عن كثير من الأمم . ففي خلال أحقاب طويلة من الهجرة والصراع استقرت قبائل متجاورة في رقعة من الأرض يحصرها من الشمال البحر الأبيض المتوسط وجبال طوروس ، ومن الشرق هضبة إيران والخليج العربي ، ومن الجنوب المحيط الهندي ، وهضبة الحبشة ، والصحراء الأفريقية الكبرى ، ومن الغرب المحيط الأطلسي . وكانت تلك الجماعات القبلية الأصل متميزة بعضها عن بعض بما يميز القبائل في أول عهدها بالاستقرار على الأرض ، أي بالأصل الخاص واللغة الخاصة ، وبتراث خاص من الثقافة والعقائد والتقاليد والطور الحضاري . وعندما استقر كل منها في مكانه دخل مرحلة التكوين القومي ، ولو طال بها الاستقرار لتطورت أمماً متميزة . إلا أن الاستقرار لم يطل بأية جماعة منها حتى تتكون أمة ، ولم يطل بها جميعاً حتى تتكون أمماً متجاورة . فقد اجتاحتها موجات كاسحة من الغزو الخارجي إما من وسط آسيا ، أو من وسط أفريقيا ، أو من أوروبا ، كما أن موجات الهجرة الداخلية ، السلمية والمقاتلة ، لم تنقطع ، عابرة بجماعة ومستقرة في جماعة أخرى . وكانت فترات الغزو تعطل نموها وتعوق تكوينها القومي . وما أن ينحسر الغزاة أو يستقروا لينشط التكوين القومي حتى تدهمها ـ كلها أو بعضها ـ موجة غازية أخرى . وأستمر هذا الوضع فترات من الاستقرار فالاضطراب فالغزو فالاحتلال ، تحبس نمو تلك الجماعات عند طور التكوين القومي حتى ظهر الإسلام ثورة دينية وفكرية واجتماعية معا .
وفر الإسلام للمجتمعات القبلية المستقرة وسط شبه الجزيرة العربية رابطة مشتركة ، تتجاوز التمييز القبلي ، وتميز المسلمين عن غيرهم من قبائلهم ، ومن القبائل الأخرى ، ولو كانت لها ذات اللغة ، او من أصل واحد . كانت السنين الأولى من الإسلام خلقا لمجتمع تخطت به القبائل مرحلة القبلية ألى طور أكثر تقدما . وعندما بدأ المسلمون بناء تاريخهم المشترك ، في مكان محصور من الجزيرة العربية ، كان المثل الأعلى ( النقيض من المستقبل ) الذي حدده الإسلام ووحّدهم عليه ، يتجاوزهم إلى الناس جميعا ، ويتجاوز الجزيرة العربية إلى العالم كله .
كانت الظروف قلة من المسلمين في أرض قليلة . وكان المستقبل عالما فسيحا من المسلمين . عندئذ كان التناقض بين ماضي المسلمين ومستقبلهم حادا ، وصراعهما في نفس المسلم عميقا ، فأصبح حل المشكل بنشر الدعوة الطريق الوحيد إلى قناعة المؤمن وراحته . وطالما كانت المشكلة قائمة كان لابد من أن تحل ، فانطلق المسلمون ، من حيث بدأت الدعوة ، يبغون أطراف الأرض ، ليصل الإسلام بهم إلى الناس جميعا . اندفعوا إلى ما جاورهم من قبائل وأقاليم وأمم ، غايتهم نشر الإسلام ، لا تردهم عن تلك الغاية الحروب فيخوضونها ـ وهم قلة ـ يقينا منهم بأن غايتهم منتصرة . وحيث لا ينتظرهم السلاح يقدمون الدعوة ـ لاشيء غيرها ـ فيهتدي من يهتدي ، ويصبرون على الذميين ، تاركين لهم فرصة الاقتناع خلال صنع الحياة المشتركة . وكلما دخلت جماعة أو مجتمع أو إقليم أو امة في الإسلام ، بدأت تاريخها بالإسلام بداية جديدة نحو مثل عليا جديدة . غير أن الإسلام لم يلغ ما صنعه التاريخ من قبله ، بل طوره إلى مستقبل أكثر غنى وأكثر تقدما ، أي أكثر حرية . فعندما توقف المد الإسلامي كان قد ضم إليه مجتمعات مختلفة في درجة تطور تكوينها الاجتماعي . كانت من بينها أمم أدركها الإسلام وهي مكتملة النمو مثل فارس ، وكانت من بينها جماعات ومجتمعات لا تزال في طور التكوين لم تستو أمما متميزة ، إما لأن الاستقرار لم يكن قد طال بها إلى الحد الذي يتم به تكوينها القومي ، مثل المجتمعات القبلية التي كانت تملأ أرض الجزيرة العربية ، وإما لأن أمما أخرى كانت تفرض عليها إرادتها ، فعوقت نموها ، فلم تكتمل أمما ، مثل كل الجماعات والمجتمعات التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية وإمبراطورية فارس ، ومنها أغلب سكان البحر الأبيض المتوسط وشمال الجزيرة العربية . وقد كان أثر الإسلام إلى كل من تلك المجتمعات مختلفا . فالأمم التي أدركها الإسلام وقد اكتمل وجودها القومي ، كان الإسلام بالنسبة إليها إضافة أغنت تركيبها الداخلي وأمدتها بإمكانيات جديدة لمزيد من التطور ، ولكنه لم يلغ قوميتها ، فظلت أمما مسلمة ، لها وجودها القومي ، ولها دولتها الواحدة ، وإن كانت تلك الدولة مشتركة بينها وبين مجتمعات أخرى .
أما المجتمعات التي أدركها الإسلام وهي في طور التكوين القومي لم تصبح أمما بعد ، فقد أكمل الإسلام تكوينها أمة . لم يكن الإسلام بالنسبة إليها عقيدة فحسب ، وإضافة إلى مقدرتها على التطور فقط ، بل كان قبل كل هذا عنصرا من عناصر تكوينها القومي . كان جزءا من وجودها ذاته . تحققت لها بالإسلام وحدة الأرض ، ثم أخذت عنه لغتها الواحدة ، وصنعت في ظله تاريخها الواحد ، في اتجاه المثل الأعلى الذي حدده لها ، فأصبحت بهذا كله امة عربية واحدة .
بتلك البداية تميزت الأمة العربية عن الأمم الأخرى التي دخلتها الرابطة الدينية بعد ان أصبحت أمما . فكان الدين ، بالنسبة إلى الأمة العربية ، مصدر وجود ، وبالنسبة إلى الأمم الأخرى كان الدين أداة تطور . وبتلك البداية أيضا ، كان الإسلام مميزا للأمة العربية حتى عن الأمم الأخرى داخل العالم الإسلامي الواحد ، لأنها تكوّنت به امة ، بينما كان الإسلام بالنسبة إلى الأمم المسلمة الأخرى ، إضافة إلى تكوينها القومي الذي تم من قبله . تميّزت بلغة القرآن عن الأمة الفارسية والأمة التركية والأمة الأفغانية … الخ ، حتى عندما كان الإسلام يشملها جميعا في دولة واحدة . وتميّزت بوحدة الأرض التي امتدت إلى حدود فارس ، وإلى حدود تركيا والى حدود أسبانيا ، وحصرتها الصحراء والبحار من الجهات الأخرى ، حتى عندما كانت كل تلك الأرض بما فيها أسبانيا والصحراء ذاتها أجزاء من دار الإسلام . وصنعت من أرضها ، وبلغتها ، أنماطا من الفكر والمذاهب والتقاليد والحضارة ، كانت تراثا عربيا خالصا ، حتى عندما كان الإسلام يطبع حضارات قومية عديدة بطابع مميز . وسنرى أثر كل هذا عندما تتفكك دولة المسلمين فيسفر العالم الإسلامي عن تلك الأمم التي دخلها إضافة إلى وجودها القومي ، وهي كما كانت أمما متميزة بوحدة الأرض ووحدة اللغة ووحدة التاريخ ووحدة المصير ، ولكنه لا يسفر عن تلك الجماعات والمجتمعات التي دخلها عندما كانت في طور التكوين القومي ، وهي على ما كانت عليه ، بل نجدها قد تكونت امة عربية واحدة في ظلّه .
بدأ الإسلام عقيدة تجمع المسلمين ، ولكنه عندما دخل عنصرا في التكوين القومي للأمة العربية ، أصبح مضمونا للحياة ، أسهم في بنائه المسلمون وغير المسلمين ، فكان لهم تاريخا وكانوا به أمة واحدة . أصبح جزءا من الوجود القومي العربي ، يقدم مع غيره من عناصر الظروف إمكانيات بناء مستقبل العرب جميعا ، مسلمين أو غير مسلمين .
فنحن العرب ، مثلا ، أيا كانت عقائدنا الدينية ، لم نعرف في تاريخنا القومي أزمة الحرية التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى . لم نحتج إلى كتاب أو فلاسفة ، من أمثال روسو، ليضعوا لنا نظریات تبرر أن الناس متساوون أمام القانون ، وأن لكل منهم حق الرأي وحق التملك وحق العيش ولم نقض قروضا لنعترف بالملكية حقا للنساء ، ولم نخض حروبا لنكسب الحريات المدنية أو السياسية . لم تعوزنا يوما الحجة لندين الاستبداد ، لقد کنا نخضع للاستبداد عاجزين عن مقاومته ، متربصين به ، وكنا نعرف دائما أنه استبداد غير مشروع ، و كان المستبدون أنفسهم يعرفون . ونحن العرب ـ مثلا آخر ـ لم نعرف قط نظام القطاع الذي عرفته أوروبا . كانت لدينا ملكيات كبيرة من الأرض ، تمكن أصحابها من الاستبداد الذي يخالف القانون والعرف والتقاليد والعقيدة السائدة . كنا نعرفه ـ حيث وجد في تاريخنا ـ عدوانا ماديا وكان المعتدون أنفسهم يعرفون . ولم يكن الإقطاع في أوروبا مجرد ملكيات كبيرة من الأرض ، بل كان نظاما من الحقوق المشروعة التي يمارسها أمراء القطاع في مواجهة تابعيهم . كان الإقطاع سيادة يدعمها القانون ، وتؤيدها التقاليد والعقائد ، وتطيقها الأخلاق ، وقد يتغنى بها الفن قصيدا وألحانا . ولما لم نعرف الإقطاع نظاما لم تعرف البورجوازية ثورة . فالبورجوازية الثورية كانت " الطبقة الوسطى " بين الإقطاعيين و الفلاحين التي قادت ثورة التحرر من عبودية النظام الإقطاعي الأوروبي ، وكان خروج البورجوازيين على سيادة الإقطاع ثورة لأنها كانت تحطيما لإطار شرعي من النظم والقيم والتقاليد . أما الذين كافحوا ويكافحون استبداد كبار المالكين في أمتنا فإنهم لا يحطمون حقوقا مشروعة ، بل يقعون عن أنفسهم وعن غيرهم اعتداء غير مشروع ۔ إنهم حماة الحرية ولكنهم ليسوا بورجوازية . كذلك ملأنا العلم كشفا عن أسرار الطبيعة المادية وأرسينا كثيرا من قوانين تحول المادة ، ولم ننزلق إلى القيم المادية الأوروبية التي سادت في القرن الثامن عشر . وملأنا الفكر فلسفة واجتماعا ، ولم ننزلق إلى القيم الفردية التي سادت أووریا في القرن العشرين . وما ملأنا الأرض حضارة ، ولم ننزلق إلى القيم الاستعمارية التي سادت أوروبا وتسودها إلى حين .. الخ .
42 ـ الإسلام إذن هو الهيكل الأساسي الذي قام عليه بناء الحضارة العربية . إن كل عربي سوي هو ذو شخصية إسلامية حتى لو لم يكن مسلما . وإذا كانت الحضارة هي مصدر المعايير والقيم التي تفرق بين ما هو مقبول اجتماعيا وما هو مرفوض ، فإن أي شاب عربي لا يكاد يكف طوال يومه عن الحكم بمقاييس حضارته على ما لا حصر له من الأحداث الصغيرة . أي التي يحكم في أمرها تلقائيا معبرا ذلك عن مكون شخصيته . فالكذب "حرام" حتى لو كان أبيضا والقسوة " حرام " حتى على الحيوانات ، والسخرية "حرام " حتی ممن يثيرها ، والحكم التلقائي على مخلوق بائس هو "حرام" ويؤكد بأنه " والله حرام".. والظلم "حرام" والحصول على أموال الغير بدون حق حتی برضاء هذا الغير" أو الضحك عليه " والله ده حرام " . و عدم التكافؤ بين الزوجين " والله حرام " ، والشفقة بصبية مشغولين بعمل شاق عليهم يعبر عنها العربي بقوله التلقائي " والله حرام".
... وما يقال تلقائيا نصحا أو عتابا أو احتجاجا على المستغلين أو المغرورين أو المفترين أو المستبدين هو " يا ناس حرام عليكم " .. وإذا اعترض شخص من لا يعرفه يمازحه فاضطرب الغريب قیل له تلقائيا : " يا شيخ سيبه حرام عليك ".. وإن فقدت الأم ابنها " فيا حرام ". الی آخر عشرات الألوف بل ربما ملايين من الأحداث الصغيرة التي لا تكف عن المرور بحياة العربي يقيمها حين لا يقبلها وقبل أن يعرف أسبابها ، وبدون أن تكون له صلة مباشرة بها ، وحتى لو كان حادثا مرحا ... بأنها "حرام " ، ثم يفصح عن مصدر تلك القيمة حين يقول مؤكدا مذكرا: " والله حرام". ولا يعلق بهذا أبدا على الأحداث التي يقبلها لأن أحد قيمنا الحضارية أيضا هو أن كل ما هو ليس حرام مباح .
يستوي في هذه الأحكام العربي المسلم وغير المسلم ، الشاب والكهل والشيخ ، ساكن المدن والمقيم في القرى والجائل في الصحاري ، الرجال والنساء . اخترناها ـ أولا ـ لأن الشاب العربي يرددها منذ دخوله مرحلة الشباب بدون أن يختارها مذهبا . وثانيا لأنها أحكام تصدر بدون تحضير ودراسة ورجوع إلى المراجع . تصدر على السجية . وثالثا لأنها أحكام لا تصدر ضد أحد ولا يرجى منها أن تكون ملزمة لأحد ولكنها تعبير تلقائي من الشخصية العربية في مواجهة موقف ليست هي طرفا فيه . رابعا لأنها أحكام سابقة على أية قواعد سلوك وضعية ، وقائمة فوق أية قواعد سلوك وضعية ، وباقية بعد أية قواعد سلوك وضعية يضمرها في ذاته حتى الذي يخالفها جهرا . خامسا لأنها أحكام حضارة المجتمع العربي تعبر عن ذاتها من خلال ما ينطق به الأفراد من أحكام . ومازلنا نملك سببا سادسا نتحدث عنه بعد قليل .
وما الجديد في هذا ؟.. إن لكل حضارة ضوابط سلوك تعبر عن ذاتها من خلال ما ينطق به تلقائيا الأفراد من أحكام . لكل حضارة ذلك التعبير المتداول في كتب الاجتماع الغربية : " تابوه " أي ضابط تحريم ؟ وهل يرجي من حديث عن الحضارة أن يأتي بجديد . إنما نريد أن نؤكد من جديد ما لم نكف عن تأكيده على مدی ربع قرن أو يزيد من " أن الإسلام هو الهيكل الأساسي للحضارة العربية وبالتالي الهيكل الأساسي للشخصية العربية التي تكتمل بناء في سن السادسة عشرة ، قبل أن يتعلم صاحبها ما هي الأديان ، وما هو الإسلام ، وما هي المذاهب ، وما هي الفلسفة ، وما هو علم الاجتماع ، وها هي نضم الحكم ، وما هي القوانين واللوائح والأوامر الإدارية ... الخ .
ثم نتقدم بهذا لما يعنينا في هذا الحديث بالدرجة الأولي . ونحسب أنه جديد .
حضارة جمعية :
43 - لم يحدث أبدا في تاريخ البشرية ان قامت حضارة غير جمعية بمعنی أنها نسيج من المعتقدات والتقاليد والعادات والآداب ... الخ ، تصدر من مجتمع لتعود إلى المجتمع نفسه توحد بينه وبين أفراده فيصبح " الكل في الواحد والواحد في الكل ". لم يستطع علماء تاريخ الأجناس البشرية ولا علماء الحضارات المقارنة أن يقعوا على حضارة لا تؤدي وظيفتها في الحفاظ على وحدة المجتمع الذي هي حضارته كما لم يقعوا على حضارة عاشت ـ بفعل أدائها هذه الوظيفة ـ سنذكرها أقل من آلاف السنين ... الا حضارة سنذكرها بعد قليل .
وفي كل الحضارات تلعب قيم التحریم دورا أساسيا في تقوية الروابط الاجتماعية بما تؤدي إليه من تجانس بين الأفراد . فلننظر كيف أدت الحضارة العربية وتؤدي هذه الوظيفة . الحضارة العربية القومية التي قامت على قاعدة الإسلام ونمت واكتملت في ظله . وسننظر إليها من زاوية لا تختلف فيها المذاهب الإسلامية ، أعني ما هو مجمع على أنها أركان الإسلام ، أو العبادات ..
44 ـ لقد درج الفقهاء على تقسيم الأحكام الإسلامية إلی عبادات ومعاملات . ولا تثير أحكام المعاملات أية صعوبة في التعرف على طبيعتها التشريعية أي انها واردة على علاقات بين الأفراد . إنما الذي قد يثير صعوبة في معرفة صلته بالعلاقات بين الأفراد هي أحكام العبادات . فعندما يقول واحد من أعظم الفقهاء المحدثین علما بالدين والدنيا واحكمهم منطقا مثل الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ جامع الأزهر الأسبق، في كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة " أن العبادات هي العمل الذي يتقرب به المسلمون إلى ربهم ويستحضرون به عظمته ويكون عنوانا على صدقهم في الإيمان به ومراقبته والتوجه إليه " وأن المقصود من العبادات هو " تطهير القلب وتزكية النفس وقوة مراقبة الله التي تبعث على امتثال أوامره " تبدو أحكام العبادات كما لو كانت واردة على علاقة كل مسلم بربه ومقصورة على هذه العلاقة أمرا وأثرا ، ويصعب علينا أن نذهب إلى غير ما ذهب إليه إمام جليل كان بمثابة أستاذ أضاءت أفكاره النيرة لجيلنا مدارج الفهم الصحيح للإسلام .
ولكننا تعلمنا من القرآن أن الله غني حميد وانه سبحانه " رب الناس ملك الناس إله الناس " جملة وجمعا، ولم نهتد في القرآن إلى خطاب آمر أو ناه موجه إلى فرد إلا ما كان خطابا للرسول عليه الصلاة و السلام أو ما جاء في قصص القرآن . أما غير هذا فالخطاب الآمر أو الناهي موجه إلى جمع بصيغ الجمع أو المفرد النكرة الذي يفيد الجميع . فهم المؤمنون والمؤمنات أو هم من آمن بالله واليوم الأخر. ففهمنا اجتهادا أن كل الأحكام التي جاء بها الإسلام واردة على علاقات جماعية بين الأفراد وليس على علاقة فرد بربه بما فيها أحكام العبادات . هذا بدون إنكار لما عدده الإمام الأكبر من حكم العبادات حين قال عن المقصود بها تطهير القلوب وتزكية النفوس وقوة مراقبة الله التي تبعث على امتثال أوامره عندما تكون أوامره سبحانه وتعالى ونواهيه غير المتعلقة بالعبادات ، واردة على علاقات بين الأفراد ، فإن أحكام العبادات ذاتها تكون " إعدادا " للفرد ليكون " صالحا في علاقته مع الآخرين امتثالا لأوامر الله .
ثم نتأمل العبادات وأحكامها . أما العبادات فهي ما يعرف بأركان الإسلام الخمسة : شهادة الا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . الصلاة . الصوم . الزكاة . الحج . وهي جميعا فروض ملزمة لكل مسلم متى توفرت في المسلم شروط التكليف بها . أما عن الشهادة فهي شهادة على النفس دون الغير. وأما الصلاة فهي صلاة بالنفس دون الغير. وأما الصوم فهو كف النفس عن المفطرات دون الغير، أما الزكاة فتخرج من مال النفس دون الغير . أما الحج فهو عند استطاعة النفس دون الغير إنها جميعا عبادات لا يتوقف آداؤها إلا على المكلف بها فتبدو أعمالا " فردية " أو " خاصة " غير ذات علاقة بالمسلمين الآخرين .
وهنا نعتقد أن الأمر على غير هذا وأن تلك العبادات تنشئ وتدعم علاقات اجتماعية بين كل مسلم وباقي المسلمين تترتب عليها آثار ملزمة في حياتهم .
فشهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله مجرد تعبير على الإيمان بالله ورسوله الذي يمكن أن يتحقق بدون التعبير عنه . وإنما هي إعلان من الشاهد بقبول انتمائه إلى الأمة الإسلامية بكل ما يترتب على هذا الانتماء من حقوق وواجبات والتزام بالشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام . لهذا لا بد من الجهر بالشهادة . أما الشهادة المكتوبة فلا تكفي لثبوت الإسلام . ( قالوا أقررنا قال فاشهدوا وإنا معكم من الشاهدين) ( آل عمران : ۸۱) . أما الصلاة فلا تصح إلا إذا ولى المسلم وجهه شطر القبلة التي يولي باقي المسلمين وجوههم شطرها (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) ( البقرة : 144). يصلي المسلمون فرادى وجماعات ، وتختلف أركان الأرض توقيتا ، ولكن صلاة كل منهم لا تصح إلا بالتقائها مع صلاة الآخرين في الاتجاه إلى بقعة واحدة من الأرض . أما عن الصوم فلو كان فرضا فرديا أو " خاصا " بعلاقة المسلم بربه لجاز أن يختار كل مسلم شهر صومه دون أن ينتقص ذلك من آثار الصيام وتطهير القلب وتزكية النفس وصحة البدن . ولكن الإسلام قد فرض على كل مسلم أن يصوم الشهر ذاته الذي يصومه باقي المسلمين وعينه بأنه شهر رمضان . فهو عبادة " جماعية ". أما الزكاة فليست مجرد تطهير وتزكية للمسلم ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم) ( التوبة : ۱۰۳) ليست مجرد أخذ من مال المسلم . ولكنها أخذ من المسلم لإعطاء الآخرين (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) (التوبة : 60) ، والأمر من الحج أظهر. فهو ليس زيارة إلى بيت الله الحرام يقوم بها المسلم القادر ويتم مناسكها فتلك " العمرة " ولكنه فرض على كل مسلم استطاع إليه سبيلا ان يجتمع مع باقي المسلمين في مكان واحد في وقت واحد ليشتركوا جميعا في أداء مناسك واحدة .
وهكذا يتضح ، كما نعتقد ، ان كل العيادات في الإسلام " جماعية " لا بمعنى انها مفروضة على الجميع ، ولكن بمعنى أن آداءها يتم جماعیا : فهي لا تصح من المسلم إن فقدت ركن الجماعية فيها . أن يشهد بينه وبين نفسه . أن يصلي في أي اتجاه . أن يصوم في أي شهر. أن يخرج من أمواله الزكاة ولا يعطيها لأحد (يهلكها مثلا ) . أن يحج في غير الوقت المحدد لاجتماع المسلمين ( يعتمر مثلا ) . الفروض ملزمة لكل مسلم مكلف سواء عرف الحكمة من فرضها أو لا . والحكة هي الأثر الذي أراد الله تعالی له أن يتحقق بآداء الفرض . وحيث لا پأتي النص مبينا الحكة يجتهد في بيانها المجتهدون ويختلفون في إجهادهم ولكن كثيرا منهم يذهبون بشكل عام إلى التمييز بين الآثار الدينية والاثار الدنوية . فتكون الحكمة من كل فرض تحقيق مصلحة دينية او مصلحة دنيوية , والدارج أن الحكمة من العبادات تحقيق مصالح دينية ولهذا أصبحت عبادات . أما وقد رأينا كيف أنها عبادات جماعية فاننا نعتقد أنه من المصالح أو الحكم المقصود تحقيقها بآداء الفروض مصلحة أو مصالح دنيوية والله غني عن عباده وما يعملون ۔
إن تلك العبادات تطهيرا للقلوب وتزكية للنفوس فحكمها إصلاح الإنسان حتى یبقی صالحا للعمل الصالح في الدنيا كما قلنا من قبل . ثم يأتي الركن الجماعي للعبادات ليكشف عن حكمة نراها لازمة لصلاح كل مسلم وصلاح المسلمين معا . أولئك المسلمون الذين يتوزعون مكانا في أركان الأرض ويفترقون مصالحا ويختلفون عقولا وأهواء وشهوات وينتمون إلى جماعات من أسر او عشائر أو قبائل أو شعوب أو أمم متفرقة ومتميزة ، ولكنهم حيث يكونون لا تصلح حياتهم إلا حيث يكونون قابلين قادرين على العمل الجماعي بحكم أن الناس جماعات ، وكبح جماح النزوع الفردي بحكم أن الفرد من غیر جماعة محال . فجاءت العبادات في الإسلام تهذيبا للنزوع الفردي " الغريزي " وتدريبا لكل مسلم علی قبول وممارسة العمل الجماعي . بأن يشهد " للناس " بألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . أن يصلي مع " الناس " جماعة ما أمكن ذلك ولكن في كل الحالات أن يتجه إلى القبلة التي يتجه إليها " الناس ". بأن يصوم الشهر الذي يصومه " الناس " وأن يفطر معهم . بان يخرج من أمواله زكاة لمن يستحقها من " الناس " . بأن يحج في الوقت الذي يحب فيه " الناس " وإلى المكان الذي يحج إليه " الناس " . بأن يشترك مع " الناس " في كل هذه العبادات سواء كان يعرفهم أو لا يعرفهم ـ له مع أحد منهم أو مع بعضهم مصلحة أو ليس له ، ينتمي إليهم أسريا أو عشائريا أو شعوبيا أو قوميا أو لا ينتمي . ذلك لأن الواقع من أمر هذه الحياة الدنيا انه يعيش مع الناس ولا يستطيع إلا أن يعيش معهم ، فله مصلحة دنيوية متحققة يقينا في أن يربي تفسه على أسلوب الدنيا: أسلوب العمل الجماعي " لا غير " .
والله اعلم .
45 ـ إنها ليست طقوسا ولكنها تدريب وتربية . الشهادة مدخل إلى الانتماء ، ثم الصلاة خمس مرات كل يوم . الصوم شهرا كل عام ، الزكاة كل عام . الحج كلما كان ممكنا ، منذ ما قبل الدخول في مرحلة الشباب وعلى مدى هذه المرحلة ، وعلى مدى العمر كله ، لتقهر الفردية وتشكل قيمة حضارية إسلامية عربية هي أن الفردية " حرام " .
النقيض المنقض :
46 ـ قلنا من قبل أن ثمة حضارة غريبة عن كل الحضارات التي عرفتها البشرية ، أنها الحضارة الغربية أوروبية المنشأ . أن لها كل خصائص الحضارات . لها عقائدها وتقاليدها وآدابها وقيمها .. ومع ذلك فإنها توشك أن تموت قبل أن تنقضي من عمرها ثلاثة قرون لأنها الأسباب تاريخية خاصة بظلمات القرون الوسطى في أوروبا ، قد نشأت عاجزة عن أداء وظيفتها في التوحيد التلقائي بين الفرد والمجتمع إذ قامت على هيكل أساسي هو " الفردية "... الفرد في مواجهة وضد المجتمع .
47 ـ إن قانون التناقض الجدلی کامن في الإنسان وراء كل حركة اجتماعية . فتثير كل حركة نقيضها. وحينما يتحول الدين إلى كهنوت ، ينزل بالإله إلى الأرض تجسيدا في بشر، أو يصطنع لله ممثلين أو نوابا أو وكلاء من البشر يزعمون أنه ـ جل جلاله ـ أقرب إليهم من غيرهم ، يلهمهم الصواب ولا يلهم من سواهم ، فهم وحدهم حفظة شريعته القائمون على تفسيرها وتطبيقها حلا دون باقي المؤمنين ، ثم يجتمعون متعاونين في منظمات او مؤسسات يقال لها " دينية " ويكونون هم فيها " رجال دين " تفرض على المؤمنين مذاهبها ، فتعطل ملكاتهم العقلية خوفا من بطشهم .. لا بد ، نقول لا بد ، أن تولد من رحم الكهانة الشائهة حركة ردة إلحادية شائهة . والعكس صحيح . حين تتضخم أحشاء الإلحاد بالكفر البين تكون بيانا بقرب مولد حركة كهنوتية شائهة . لا حيلة الأحد في هذا. وبناء عليه يمكن فهم كثير من الظواهر التي يقال لها دينية والظواهر الإلحادية في تاريخ كثير من المجتمعات .
ولقد ولدت الحضارة الغربية نقيضا من رحم الكنيسة الكاثوليكية التي تحولت إلى مؤسسة كهنوتية قاهرة باطشة مستبدة بالعقول والنفوس والأموال فجاءت ردة الحادية . إن كل الجامعات في الوطن العربي تدرّس الشباب العربي تاريخ الفلسفة والنظم في أوروبا ... ولا بد أن يكون الجامعيون قد عرفوا الهولندي هوجو حروتیوس (1583 ـ 1645) والإنجليزي توماس هوبز (1588ـ 1679) وجون لوك ( 1632 . 1704 ) وديفيد هيوم ( 1711 ـ 1796) وجيرمي بنتام ( 1748 ـ 1832) وجون ستيورات میل ( 1806 ـ 1873) وهربرت سبنسر ( 1820 ـ 1903)، والفرنسيين جان جاك روسو ومونتسكيو والطبيعيين (الفيزيوكرات) موريس دي ريفيير ، وكيزني، ودوبون دي تيمور، کما عرفوا سبینوزا ۔۔۔ الخ .
إن كل هؤلاء و غيرهم كثير، هم مهندسو الهيكل الأساسي للحضارة الغربية وهكذا يقدمونهم إلى شبابنا العربي في الجامعات ، ثم قد يخفون عنهم أنهم في الوقت ذاته فلاسفة الإلحاد ومحرکي تياره الجارف الذي اجتاح أوروبا منذ ثلاثة قرون . لقد كان عليهم أن يستبدلوا الإيمان بالله خالقا وهاديا بما يخلق من دونه سبحانه ويهدي . فذهبوا على خلاف طفيف فيما بينهم ، إلى أن الطبيعة هي الخالقة ، وأن " القانون الطبيعي " هو الهادي .. فلما بدأوا في تفسير او تبرير ظاهرة " المجتمع " وعلاقته بالفرد او علاقة الفرد به ، زعموا أولا أن الإنسان الفرد كان موجودا قبل أن يوجد المجتمع ، وأنه كان مطلق الحرية يفعل ما يشاء ، وان عدوان الأفراد بعضهم على بعض كما قال هوبز ولوك أو رغبة الأفراد في التعاون كما قال روسو قد دفعتهم إلى التوافق على إنشاء مجتمع بشروط تختلف عند هوبز عنها عند لوك عنها عند روسو أهمها أن يحفظ لهم المجتمع حرياتهم الطبيعية ويحميها فكانت الفلسفة الاجتماعية المصوغة فيما يقال له " العقد الاجتماعي " جوهرها أنه ما دام المجتمع ثمرة إرادة الأفراد ، فعليه أن يحتفظ ، ويحافظ ، وينمي " الحرية الفردية ". وشعارها التطبيقي : دعه يعمل ، دعه پمر .
على هذا الهيكل قامت النظم السياسية التي يقال لها ديمقراطية غربية ، والنظام الاقتصادي الذي يقال له الرأسمالية ، والنظام القانوني الذي يقال له حرية الإرادة ، والنظام الأخلاقي الذي يقول إن كل فرد حر في أن يفعل ما يشاء ، والنظام الاجتماعي الذي يقول إن المنظم لعلاقات الأفراد حين يسعى كل فرد إلى تحقيق ما يريد هو المنافسة الحرة . وهكذا انطلق الأوروبيون في سباق محموم فيما بينهم نشأت خلاله عناصر حضارية جيدة ، منها ما تبهرنا ثمراته مثل الاكتشافات العلمية والتقدم المذهل في أساليب وأدوات قهر الطبيعة وتسخيرها ، حيث قد رفعت تلك الحضارة عن كل فرد قيود وهموم " المجتمع " فانصبت قواه كلها في مجری واحد هو السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لغاياته ، والتقدم المادي أفرادا بصرف النظر عما يصيب المتخلفين في المجتمع الواحد ، بل ولو تقدما علی جثث أولئك المتخلفين في هذا المجتمع الواحد أو في المجتمعات الأخرى... وقد كان العالم غير الأوروبی كله ، بما فيه العالم العربي ، من بين الضحايا الذين تقدم الأوربيون على جثثهم . ولقد كانت الشعوب كلها بما فيها الشعب العربي منبهرا بتقدم الأوروبيين حتی وهم يتقدمون علی جثته . ذلك لان من خفايا النفس البشرية أن المثل الأعلى للمستعبدين هم سادتتهم . إن الصورة المبهرة للحرية في تصور كل عبد متجسدة في سيده . ولله في خلقه شؤون ۔
ولكن هذا الانبهار كان إلى حين .. وقد جاء الحين .
48 ـ تقول دراسة وضعتها " لجنة المجتمعات الأوروبية " في بلجيكا عن الشباب الأوروبي بمناسبة العام الدولي للشباب أن علاقة الشاب بأسرته تنتهي عند سن السادسة عشرة ، وإنه يعتبر نشاطه الجنسي منذ بدايته مع سن المراهقة من شؤونه الخاصة التي لا يجوز لأحد أن يتدخل فيها ، وإنه ابتداء من مرحلة الشباب لا يهمّه إلا الخوف من البطالة ، وأن الشباب عديمو الاهتمام بما يدور في مجتمعاتهم . ويقول جيرالد باكمان الأستاذ في معهد الدراسات الاجتماعية في جامعة ميتشجان بالولايات المتحدة الأميركية في كتابه " نظرة الشباب إلى المشكلات الوطنية ۱۹۷۱ : " أن الشباب لا يعيرون المشكلات الوطنية أي اهتمام ، وحين يثار اهتمامهم لا يجدون ما يقولونه وإن كانوا مهتمين إلى أقصى درجة بحرب فيتنام يريدون أن تنتهي حتى لا يتعرضوا لمخاطر الموت فيها ، ولكن ليس لديهم أية فكرة عن كيفية إنهائها . وقد وصل عدم اهتمامهم بالشؤون الوطنية أن ثلث الطلاب في الجامعات میدان البحث لم يعرف أي منهم اسم عضو مجلس الشيوخ في ولايته . وتقول نشرات هيئة الأمم المتحدة أن قد انعقد في مرسيليا (فرنسا) مابین 24 و 28 أكتوبر ۱۹۸۳ مؤتمر دولي لدراسة ظاهرة " أبناء الشوارع ". وأبناء الشوارع هؤلاء ليسوا أبناء الريف في العالم الثالث الذين تسمح لهم التقاليد بأن يعيشوا أيامهم جائلين شاردين خارج الدور والمنازل ثم يعودون . وليسوا يتامى أو ضالين أو لقطاء ولو كانوا كذلك لهان الأمر. ولكنهم دخلوا عالمهم من أبواب اليتم أو الضلال أو التخلي أو الشرود ثم تكيفوا مع البيئة التي تشكلها الشوارع والأزقة والأبنية المهجورة بما يسودها من قواعد التشرد وتقاليده وآدابه أيضا ، وهي قريبة الشبه بما يذكره لنا التاريخ عن حياة الإنسان البدائي قبل أن تعرف البشرية ضوابط السلوك الاجتماعية والدينية والخلقية والتشريعية . إنه عالم اغتراب عدائي من مجتمع الآخرين . اتخذ من الشوارع حدودا عازلة بينه وبين مجتمع آخر يرفضه ويقاوم بأساليب " شوارعية " حقا العودة إلى الاندماج فيه . لقد بلغ نمو عالم أبناء الشوارع في بعض مدن فرنسا حدا حمل السلطة الفرنسية على أن تعترف بوجوده وتتعامل معه وتسمح له بقدر من الاستقلال في تنظيم وإدارة شؤون رعاياه وان يشكلوا من أنفسهم جماعة قيادية قريبة الشبه بالحكومة مقرها مدينة " بيسين " قريبا من مرسيليا ، تباشر سلطاتها بالتشاور مع ممثلي السلطة الرسمية .
أما في الولايات المتحدة الأميركية حيث تقاس الظواهر الاجتماعية كلها بمقاييس مالية فتقول مارجريت جوردون في كتابها عن " مشكلات الشاب : ۱۹۷۹ : " إن 16 % من صغار البشر في نيويورك ينتمون إلى هذا العالم القائم خارج حدود المجتمع وقوانينه . وتنقل عن ستانلي فريد لاندر ما قاله بعد دراسة ميدانية في ثلاثين مدينة أمريكية ، ما قلب رأسا على عقب كل ما يعرفه عالمنا من علاقة بين البطالة والجريمة . كان المستقر من المعرفة أن البطالة من أسباب الجنوح إلى الإجرام أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد أصبح الإجرام أحد أسباب البطالة . ففي عالم أبناء الشوارع وجدت " المنظمات الإجرامية " أو " الجريمة المنظمة "جيشا متزايد العدد من الذين يعرضون قوة عملهم في مقابل أجور اکثر ارتفاع من الأجور المتاحة في العمل المشروع بالإضافة إلى متعة الاعتداء على المجتمع الذي يرفضونه . وقد بلغت جملة ميزانيات المنظمات الإجرامية في الولايات المتحدة ، كما تقول مارجريت جوردون ، ۲۵ مليار دولارا .
إنهم أبناء الأسر التي قال عنها فيكتور بالدريج في كتابه " علم الاجتماع " المشار إليه من قبل أن جدار العفة فيها يتصدع تحت ثقل التقدم الرأسمالي الصناعي ، وان الإحصاءات المتحفظة تشير إلى أن 25% من الزوجات لهن علاقات جنسية برجال غير أزواجهن ، وان ما بين 50 و 60% من الرجال يمارسون الزنى ، وان استطلاعات الرأي قد أثبتت أن هناك اتجاه عاما نحو التسامح مع هذا " النشاط " ، ثم يرتب نتائج هذا الجنوح فيقول إن 25% من حالات الزواج تنتهي بالطلاق سنويا ، أما عن الأسر التي لا تنتهي بالطلاق فيقول فرديناند لوندبرج الأمريكي ، في كتابه " الثري والثري الفاحش : 1968 : " ان قانون المنافسة الحرة بين الأفراد في المجتمع الأمريكي قد أدي إلى نشوء عقيدة مدمرة هي عبادة النجاح الفردي خربت الحياة الأسرية حتى للناجحين . وينقل عن كتاب كليفلاند أموري" من الذي قتل المجتمع ؟ " قوله إنه طبقا للدراسات التي قام بها علماء النفس والأطباء والباحثون الاجتماعيون في شؤون " الأسرة " تستهلك الشركات الجانب الأكبر من وقت وجهد وحماس الشباب ، فيتحولون إلى نفايات في منازلهم عاجزين عن أن يكونوا أزواجا أو آباء . وحين لا يؤدي هذا إلى الطلاق تبقى علاقة الزوجية قائمة اسميا بين زوجين متآكلين لا يهتم أحدهما بالآخر ، يعانيان كل أنواع المشاعر المريضة بما فيها الشعور المزمن بالوحدة ، والإحباط الجنسي ، وإدمان المخدرات والخمور .
ويذكر فردیناند لوندبرج أن دراسة شاملة للزوجات في منطقة شيكاغو قد أثبتت أنهن لا ينظرن إلى شخصيات أزواجهن كأزواج بل كمورد لا بد منهم لتكلفة الزواج والأبوة ، وأن قليلا جدا منهن لديهن أية فكرة أو أي اهتمام بنوع العمل الذي يقوم به الأزواج ، وان ثلث الزوجات في منطقة شيكاغو يعتبرون أن الزوج خارج تكوين الأسرة وأن الأسرة من الأم وأولادها فقط ، أما الأب فهو العائل المالي من خارجها فهو لا يقوم بوظيفة " الوالد " أصلا ..
49 ـ فما هي القيم التي يتلقاها الطفل حتى يصبح شابا من مثل هذا المجتمع ؟ ما هو الهيكل الأساسي للشخصية الغربية كما تقيمه حضارة مادية فردية رأسمالية في الشباب ؟ .
يجيب الفيلسوف الفرنسي موريس ديفرجيه في كتابه " علم الاجتماع السياسي : 1968 " بقوله إن صعود البرجوازية (الرأسمالية في القرن التاسع عشر قد خلق انطباعا بأن السلطة ستقوم فيما بعد هذا البروز على أساس المال وأن ذلك کان تقدما .. ولقد كان هذا الانطباع نتيجة لكون محدثي الثراء البورجوازيين التافهين المظهريين اجتماعيا حلوا محل الطبقة الغنية البائدة التي كان أفرادها متميزين بالأصالة والرقي . كما كان راجعا أيضا إلى حقيقة أن الأرستقراطية كانت تقيم سلطتها على الثروة وتقاليد الفروسية معا وقد غطت الفروسية وقيمها البطولية إلى حد كبير على عنصر الثروة . وأخيرا فقد كان هذا الانطباع راجعا إلى أن البرجوازية قد أقامت نظاما من القيم على أساس الثروة أيضا. ولكنه في هذه المرة صريح في أن المال هو مصدر القوة وليس مميزا لها فقط . لقد كانت الأرستقراطية تعشق الثروة ولكنها لم تكن تتفاخر بها علنا على الأقل . أما البرجوازية فتتباهی بوقاحة بأن المال هو كل شيء ولا تكف عن تمجيده .
ويقول شومبيتر في كتابه عن " الرأسمالية والديمقراطية 1943" أن الطبقة البرجوازية التجارية الصناعية قد ارتقت على أنقاض السادة الإقطاعيين بفضل مهارتها في شؤون المال . وقد صيغ المجتمع البورجوازي في شكل اقتصادی محض . وأرسيت أسسه وقامت عمده وبني هیكله من مواد اقتصادية .
أما البناء بمجموعه فهو بناء حياة اقتصادية ، الخطأ فيها خطأ مالي ، والجزاء فيها جزاء مالي . يمتاز فيها من يكسب ماليا ويخطئ فيها من يخسر ماليا .
50 ـ هذه هي الحضارة النقيضة للحضارة العربية على جميع المستويات . حضارتنا قومية وهي حضارة فردية . حضارتنا إسلامية ( روحية ) وحضارتهم ملحدة (مدية).. حضارتنا إنسانية وهي حضارة اقتصادية .
وهذه هي الحضارة التي يريدون ويحاولون فرضها على أمتنا موجهين ضربتهم إلى الشباب عامة . وإلى بدايات مرحلة الشباب خاصة ، عن طريق إغراء الشباب المتطلع إلى أن يلعب دورا في حياة أمته بأن يقلد الشباب الغربي ويتخذ منه من أعلى فيما حققه من تقدم مادي، بدون استفزازه بالكشف عما يستدرج إليه من عقائد وقيم وتقاليد وعادات صاحبت هذا التقدم المادي مستغلين قلة خبرته ولكنهم ينقضون هیل شخصيته " خطوة خطوة ". كل من يعرف ألف باء علم الديانات المقارنة بعرف أن الكهنة الكية و المذهب العلمانی وجهان لعملة أوروبية كاثوليكية واحدة فحيث لا كهانة لا علمانية وحث كهانة لا بد من علمانية ولما كانت حضارتنا إسلامية، وليس في الإسلام كهانة فلا محل في مجتنا للعلمانية أو الانشغال بها. ولكنهم يصرون على أن يعلموا شبابنا العلمانية ويمجدوها ويربطوا بينها وبين التقدم المادي الذي حققه الأوروبيون ، وحين تندس مبادئ العلمانية في أذهان شبابنا العربي لن تجد كنيسة إسلامية لتنقضها ، فإما أن تشجع او تنشئ مؤسسة كهنوتية باسم الإسلام لتنقضها وإما أن تنقض الإسلام كله فتحوّله إلى " عبادات " تقول أنها علاقة بين الفرد وربه لا تمتد إلى نظم الحياة .
وتكفي الملاحظة المجردة من أي علم لتعرف أن الفرد الواحد الأحد لا وجود له الآن ولم يعثر عليه أحد من قبل ولو تصوروا إلا تلك الفترة التي لا يعلمها إلا الله التي بقي فيها أدم وحيدا قبل أن تخلق حواء . وأن كل فرد هو جزء من مجتمع ولو كان الولد الوحيد لوالديه. ولكنهم يعلمون شبابنا أن للإنسان الفرد حريات وحقوقا سابقة على وجود المجتمع ، حتى لو كان هذا المجتمع والديه وأن ليس للمجتمع ولو كان من والدين أن "يتدخل " في ممارسة هذه الحقوق والحريات ويربطون بين التقدم المادي الذي حققه الأوروبيون وبین الحرية الفردية ويمجدونها . وحين تندس القيم الفردية في أذهان شبابنا العربي تنفرط العلاقة القومية أولا لتبرز العلاقة الإقليمية ثم تنفرط هذه العلاقة لتبرز العلاقة الطائفية ثم تنفرط هذه لتبرز العلاقة الأسرية ثم تنفرط الأسر ليبرز الفرد الذي يقدسونه .
إنهم يفككون أمتنا قطعة قطعة وما يفككون إلا حضارتنا عنصرا عنصرا فلا يفعلون إلا تفكيك شخصيتنا العربية هيكلا هيكلا وحين يصبح الشاب العربي فردا فعليه أن يجري لاهثا في سباق المنافسة الحرة لعله يدرك النجاح المادي . ويصح الثراء هو غايته ، والمال هو محور حياته ، ويحتكم في سباقه الحر من أجل الثروة إلى القوانين البيولوجية التي تحتكم إليها الحيوانات في الغابات : البقاء للأقوی . ولما كان الغزاة هم الأقوى فإنهم يفترسونه وپهضمونه ويتمثلونه ... ثم يفرزونه براز عفنا .
نهاية المطاف إذن أنهم يريدون افتراس أمتنا ۔
فهل ينجحون؟
ثورة الشباب :
51 - في
مايو 1968 اندلعت في جامعة باريس ( السوربون ) ما أسمیت بثورة الطلاب ، حيث استولى
الطلاب على الجامعة وتولوا إدارتها بما في ذلك اختیار المواد التي تدرس فيها
ومناهج تدريسها ، ولم يتم إخماد تلك الثورة الطلابية إلا بعد أن اقتحمت قوات الأمن
الفرنسي حرم الجامعة العتيدة وشلت القوة العنيفة حركة المقاومة فيها ، وفضت اعتصام
الطلاب ، وقبضت على
مئات منهم وفرقت الآخرين . وقد روع الرأي العام الفرنسي أن تنتهك حرمة الجامعة
أكثر مما روعته ثورة الطلاب وضحايا العنف المتبادل بينهم وبين قوات الأمن . فقد
كانت حرمة الجامعات وحصانتها قد تحولت على مدى قرون طويلة إلى أن تكون إحدى
التقاليد الحضارية المستقرة التي يجزع الناس كافة إذ تخترق أو تضطرب . ومن خلال
الالتفات المتوتر إلی خطورة خرق هذه التقاليد الحضارية التفت الرأي العام إلى ما وراء
ثورة الطلاب .
كان أول ما تبين أن ثورة
الطلاب في جامعة باريس هي امتداد لثورة أكثر شمولا تجتاح الولايات المتحدة
الأمريكية يسمونها " الثورة الثقافية المضادة " ويرمزون لها باسم "
الزهرة الطفلة " يقوم بها الشباب عامة ، وليس الطلاب خاصة ، ضد اغلب ضوابط
السلوك التقليدية في مجتمع رأسمالي صناعي متقدم تكنولوجيا . كما تبين أن أحد
المحركات الأساسية لتلك الثورة الشبابية الممتدة عبر القارات كتاب من تأليف مفكر اسمه
هربرت مارکوز عنوانه " الإنسان ذو البعد الواحد : 1964 ".
وأفكار ماركوز هي محاولة توفيق ، أو تلفيق ، ما بين مذهب سيجموند
فرويد في علم النفس وبين مذهب كارل ماركس في علم الاجتماع . كلاهما حاول أن يحدد
العوامل الأساسية التي تتحكم في اتجاهات الفرد ومواقفه وسلوكه في المجتمع . فرويد
يردها إلى المحاولة الفردية الشعورية وغير الشعورية لحل التناقض بين الغريزة
الجنسية كمحرك أساسي للفرد وبین الضوابط الاجتماعية التي تحول دون " حرية "
إشباع تلك الغريزة . ومارکس يردها إلى المحاولة الطبقية الواعية لحل التناقض
الكامن في أسلوب الإنتاج بين قوى الإنتاج ( البشر ) وعلاقاته ( الملكية الخاصة )
في المجتمع غير الاشتراكي . فيأتي ماركوز ويلاحظ أن مجتمع الوفرة الرأسمالي
الصناعي المتقدم قد أذاب التناقض في أسلوب الإنتاج فأصبح الأفراد والطبقات الذين
كانوا من قبل قوى معارضة متحدي الموقف مع الطبقة الرأسمالية بدون حاجة إلى إرهاب
مكشوف وتحولوا إلى مساهمين في تنمية المجتمع الرأسمالي الاستهلاکي فلم يعد التغيير
ممكنا من خلال الصراع الطبقي ولا أصبحت الطبقة العاملة ( البروليتاريا) أداة تغيير
المجتمع الرأسمالي الصناعي المتقدم ذي الإنتاج الوفير . فالتفت مارکوز إلى ما لا يزال باقيا من ضوابط
الغرائز الجنسية واعتبرها قهرا وإعداما للحرية بالقدر الكافي لبدء عملية التغيير
منها لتتحول بعد ذلك إلى التغير السياسي . فاختار الشباب كقوة مرشحة لبدء عملية التغيير
وقادرة عليه. فدعا الشباب دعوة حارة وملحة إلى الثورة . وكانت الثورة . وقال :
" إنني أرى في معارضة الشباب بالذات لمجتمع الوفرة أهمية تفوق أهمية النتائج
المباشرة لهذه المعارضة . إن معارضة الشباب - وهذه هي الأهمية - أصبحت تربط بين
الثورة الغرائزية وبين الثورة السياسية في نفس الوقت " .
وقد لخص ماركوز نظريته كلها خلال حوار
علني في " مسرح الأفكار " في نيويورك عام 1968 دار بينه وبين نورمان میلر الشاعر
الأمريكي صاحب كتاب " لماذا نحن في فييتنام" وأرثر سلزنجر المؤرخ
الأمریکي واشترك فیه روبرت نويل الشاعر الأمريكي الحاصل على جائزة بولتزر (نشر
ملخص وقائع الحوار في مجلة الهلال القاهرة في أول اکتوبر 1968) .
قال ماركوز وهو يتحدث عن المجتمع
الأمريكي :
" إنني اعتبر المجتمع سويا - أو غير معتوه ـ اذا كان يستخدم
موارده التكنيكية والمادية والثقافية لا لزيادة الإسراف ، والتخريب ، والاستهلاك
الكاذب ، ولكن لكي يقضي على الفقر ، والغربة ، والتعاسة ، ففي مجتمعنا القائم لسنا
نجد هذه الأغلبية التي تتكون على أساس الوعي الحر والرأي الحر . ولسنا نجد هذه
الأغلبية التي تتكون على أساس التعليم المتساوي بالنسبة إلى الجميع . ولا على أساس
إتاحة الحرية المتساوية لمعرفة جميع الوقائع . إننا أمام أغلبية مصطنعة و "
نمطية " يصنعها تعليم مصطنع ونمطي وإعلام مصطنع ونمطي . بمعني آخر لا أظن هذه
الأغلبية حرة مع أن روح الديمقراطية ذاتها هي أن يكون الشعب سيدا وحرا . كانت هذه
فكرة جان جاك روسو وفكرة ستيوارت میل . وهذه هي الفكرة التي دافع عنها كبار
المدافعين عن الديمقراطية منذ البداية .
" ولم يكونوا يقصدون الشعب مجموعة ولكن الشعب " كأفراد
" ، حقا يستطيعون التفكير لأنفسهم ، ويحسون بأنفسهم ويكونون أفكارهم الخاصة
دون أن يخضعوا للضغوط المرعبة التي تمارسها القوى الخاصة والأحزاب السياسية وكل
الأطر القائمة الآن ".
52
- ويقول
فيكتور بالدريدج عالم الاجتماع الأمريكي في كتابه " علم الاجتماع " أن
ثورة الشباب التي بدأت في الستينات في الولايات المتحدة الأمريكية قد انتشرت
وانتصرت وأصبح كثير من الأمريكيين يتطلعون إلى التغير ويحاولونه على هدى مبادئها.
وتبدو دلائل هذا الانتصار من تغيير معايير الانتماء التي كانت سائدة من قبل . فمنذ
سنين طويلة كان ثمة اعتقاد سائد في الولايات المتحدة الأمريكية على أن على كل فرد
أن يلتزم قيما ومعتقدات اجتماعية واحدة . ولما كان الشعب الأمريكي يتكون من
مهاجرين وافدين إليها من أمم أخرى يحملون في ذواتهم القيم والمعتقدات واللغات
والتقاليد الخاصة بالأمم المهاجرين منها فقد سادت فكرة ان وضع كل أولئك البشر في
" بوتقة صهر " تهيمن عليها وتحركها الطبقة الوسطى البيضاء البروتستانتية
السائدة كفيل بأن تطرح كل فئة قيمها الخاصة وتذوب في تلك الطبقة الوسطى وتتمثل
قيمها ومعتقداتها وتقاليدها . وكانت الطبقة الوسطى البيضاء البروتستانتية تعول
تعويلا حاسما على برامج التعليم ووسائل العلم حيث تعرض خصائصها كمثل أعلی.
غير انه ابتداء من الستينات رفضت كثير من الجماعات هذه النظرية وطالبت
بأن تحتفظ بمميزاتها الحضارية وان تكون تلك المميزات محل حماية واحترام . وبأن
يسمح لكل جماعة ان تعيش حياتها الخاصة طبقا لقيمها الحضارية الخاصة ، وان تتكلم
لغتها وأن تكون لها مدارسها الخاصة ، وان تتحول الولايات المتحدة الأمريكية الى
مجتمع من جماعات متميزة ومتعددة حضاريا ومتعايشة بدون قهر . وقد أدى هذا إلى أن حلت
فكرة قبول التمايز محل فكرة المجتمع المتجانس .
53 ـ لقد أخطأ ماركوز خطأ
جسيما فيما نسبه إلى جان جاك روسو. ولكن هذا لا يهم بالنسبة إلى موضوع حديثنا ،
المهم أن مارکوز قد كشف في الفترة الأخيرة من حديثه أنه الابن الشرعي لذات الحضارة
الفردية التي يحرض الشباب على الثورة ضد مراحل نضجها وإثمارها . فهو معني بالفرد وغرائزه
وحريته وتفكيره وثورته ضد الضوابط الاجتماعية . فلنقل ضد المجتمع . إنه يرى الإنسان
الفرد الحر اللامنتمي إلا لذاته . ويتصور أن المجتمع الرأسمالي الصناعي المتقدم
تكنولوجيا ذا الوفرة ، الذي يتحول الناس قیه
حیوانات استهلاكية غريبة او مغتربة طارئا على مجرى تطور الحضارة الفردية في
حين أنها أقصى ما وصل إليه تطورها .. إنه يراها تنهار فيحرض الشباب على الثورة ليبقيها
قائمة . لقد فضحه مفهومة عن الاغتراب . إن الاغتراب عنده اغتراب عن " الذات .
فالاصل عنده والبداية أن الإنسان ينتمي لنفسه ، لغرائزه ، لمصلحته ، لقيمه ، لما
يريد ان يحققه ، ووراء هذا المفهوم الخاطئ خطأ أكثر جسامة وهو اعتقاده أن الانتماء
اختيار إرادي فهو يدعو إلى شحذ الإرادة لإلغائه واستبداله .
فما الذي أسفرت عنه ثورة الشباب . انتهت إلى الشيء في فرنسا حيث الحضارة
القومية تقاوم منذ قرون الاغتراب الفردي ، أما في الولايات المتحدة ، حيث اجتمعت
أخلاط من الجماعات الحضارية " الاثنية " المهاجرة فقد انتهت ثورة الشباب
إلى الانتصار على محاولة تقريبها وصهرها في بوتقة الجماعة البروتستانتية سكسونية
الأصل . وفشلت محاولة قرنين من التغريب . وأظهر حتى أطفال الذين استجلبوا بالقوة
من أفريقيا منذ قرنين أنهم ما يزالون يحملون في شخصياتهم بقايا من حطام الهياكل
الحضارية التي حملها أجداد أجداد أجدادهم .
عذاب الشباب العربي :
54 - إن
تجربة صهر الحضارات في الولايات المتحدة قد فشلت إذن . وبالتالي ليس لدينا أي شك
في أن كل غزوات الامبريالية الحضارية التي يشنها على أمتنا الغرب الامبريالي ستفشل
. سنبقى أمة عربية واحدة ذات حضارة عربية واحدة ، ذات مصير واحد وسيهلك الشاردون .
هذا لاشك فيه . ليس لدينا شك في أن أجيال من الشباب العربي سترد هذا الغزو , ولكن
متی ؟ .. بعد عذاب طويل يعيشه بعض الشباب العربي الآن وربما يمتد إلى أولادهم حين
يبلغون مرحلة الشباب . عذاب يعرفه أطباء العقول ، و أطباء الأعصاب وأطباء النفوس ،
الذين يرددون فيما يكتبون أنه إذا استبعدنا الأسباب البيولوجية والكيميائية فإن
السبب الأساسي للأمراض العقلية والعصبية والنفسية هو ما يصيب الشخصية من اضطراب کأكثر
للصراع الداخلي الناتج عن التناقض بين ضوابط السلوك الفردي في المجتمع . ويستقبلون
في مصحاتهم العامة والخاصة من القادرين ماليا على دفع تكاليف العلاج أعدادا
متزايدة ، هم " جرحي "معركة الغزو الحضاري ومعاقوها ، وعشرات الألوف يهاجرون
إلى حيث مركز قيادة الغزو الحضاري . أولئك الأسرى الذين استسلموا في معركة الدفاع
عن أمتهم وحضارتها . وسلموا شخصياتهم إلى مفترسيها .
وللغزاة في الوطن العربي حلفاء وأعوان .
الإقليمية المجرمة :
55 ـ أمة
واحدة ذات حضارة واحدة مجزأة دولا منذ أكثر من نصف قرن . هذا واقع أيضا في الوطن
العربی أنشا أنماطا من العقائد والعادات والتقاليد والآداب والفنون الإقليمية .
تحركها دول على رؤوسها حکام تحت تصرفهم أجهزة قادرة وقاهرة من القوانين و المحاكم
والسجون والمشانق . وينشأ كل شاب عربي يعاني من ازدواج الشخصية ، وتلك الأمراض
التي يسمونها " العصابية" . إنه عربي الانتماء ولكنه إقليمي السلوك .
إنه يحلم أحلاما قومية ولا يستطيع أن يحقق إلا منجزات إقليمية ، إن ولاءه بالسجية
إلى الأمة العربية ولكن مفروض عليه والولاء لدولته ، وبالرغم من وحدة العقيدة
ووحدة اللغة التي تحافظ على شخصيته العربية ، فإن الإقليمية بدولها وبحكامها ،
بقوانينها ، بتقاليدها بعاداتها ... الخ ، لا تفتأ تخلخل هيكل شخصيته كل يوم لعلها
أن تصل إلى المستحيل ، إلغاء ما صنعه التاريخ . إن هذه الخلطة لا تفعل أكثر من أن
تضعف شخصية الشباب العربي فتمكن للحضارة الغازية - الأقوى - من أن تحطم هيكل تلك
الشخصية وعلى هذا المستوى - ومستويات كثيرة أخرى - قلنا ونقول إن الإقليمية حليف للامبريالية
..
ولنضرب مثلا من قضية فلسطين ..
56 - الفتح الإسلامي كان نورة
، التكوين القومي كان تقدم . هذا بالنسبة إلى كل البشر الذين عاصروا الفتح الإسلامي
ثم تفاعلوا فيما بينهم وبين الأرض فأصبحوا أمة عربية . فلسطين إذن جزء من الوطن
العربي وشعبها جزء من الشعب العربي . ففلسطين أرضا وبشرا جزء من الأمة العربية أرضا
وبشرا .
ثم يأتي غزاة فيسلبون أرض فلسطين
ويطردون جل شعبها ويستوطنونها . وتقاوم الحضارة القومية العربية الغزو مواقف وأقوالا
وأفعالا وفكرا وأدبا وفنونا . وعلى مدى خمسين عاما أو أكثر لا يكف الآباء والأمهات
والمربون والمدرسون والأساتذة والكتاب والصحفيون والأدباء والفنانون عن تربية
الأطفال على أن فلسطين أرض عربية وأنها جزء من الأمة العربية ، وأن الإسلام كان
فتحا لها ونورا ويلقنون الأطفال ما فعل عمر بن الخطاب حين دخل فلسطین أول مرة ،
وما فعل صلاح الدين حين حرّرها من الصليبيين ... إلى آخره . ينقلون إلى الأطفال
جزءا من تاريخ الحضارة العربية وهم يحدثونهم عن جزء من الأمة العربية ...
ويندفع جيل من الشباب وراء جيل من الشباب من أطراف الوطن العربي يقاتل من أجل
استرداد فلسطين . ليس من سكان فلسطين ولا كان أبوهم وأجدادهم مقيمين فيها ، وليس
لهم مصلحة في فلسطين حتى لو تحررت . ولم يدرسوا قضية فلسطين من خلال مراكز القوى
في العلاقات الدولية ... إنهم ذهبوا يقاتلون بكامل شخصياتهم العربية لأنهم عرب
وفلسطين عربية لا أكثر من هذا .
فإذا بالإقليمية تتآمر خفية ، ثم تتآمر علنا ، ثم تجتمع لتتآمر ، ثم تعلن ما تآمرت
به فإذا هو " الاعتراف بإسرائيل " ، ماذا يعني الاعتراف بإسرائيل في
نطاق هذا الحديث من الشباب العربي ؟ يعني أن دخول العرب تحت راية الإسلام في
فلسطين لم يكن فتحا بل كان عدوانا وبقي عدوانا أربعة عشر قرنا فمن حق " الشعب
" الذي كان يسكنها قبل الفتح الإسلامي أن يستردها أو يحررها كما يقول الصهاينة ، يعني ان تكوين
الأمة العربية كان قهرا شاملا ، وصهرا فاشلا ، وان اليهود ما يزالون أمة بالرغم من
أنهم لم يكونوا أمة قط وبالرغم من انتمائهم إلى أمم قائمة أخرى ، يعني ما هو أكثر
خطرا على الشباب العربي من سلب فلسطين . إذ هو يعني أن كل الآباء والأمهات
والمربين والمدرسين والأساتذة والكتاب والصحفيين والأدباء والفنانين من العرب
كانوا كذابين فيما كانوا يدرسونه في مرحلة الطفولة من أكاذيب يختلقونها عن الإسلام
والفتح والعروبة والقومية وفلسطين . يعني أن هؤلاء الكذابين قد ضحوا بجيلين من
الشباب لمجرد ستر أكاذيبهم .
لا يقول الشباب العربي هذا . لا يفصحون
عنه . ولكن شخصياتهم التي تربت حضاريا على احترام الآباء والأمهات والمربين والثقة
في صدق المدرسين والأساتذة ... الخ ، لا بد أن تكون قد أصاب شخصياتهم خلل هائل حين
أصبح الاعتراف بإسرائيل مقبولا من الإقليميين ، فأية جريمة يرتكب الإقليميون في حق
الشباب العربي ...
إنهم الآن يدفعون الثمن الفادح من مواقعهم الإقليمية . فلا يلومون إلا
أنفسهم حين يرون بعض الشباب قد أخذ يحلم أحلاما صهيونية . ولم لا . إذا كان اليهود
قد استطاعوا أن يحرروا الأرض التي كانوا يسكنونها قبل الفتح الاسلامي ،
وكان العرب " الغزاة " قد اعترفوا أخيرا بأن هذا من حقهم ، فلماذا لا
تكون للأقباط دولة ، وللموارنة دولة ، وللبربر دولة ... الخ .
الطابور الخامس :
57
- خلال
الحرب الأهلية في اسبانيا التي نشبت في سبتمبر 1936 وانتهت في مارس 1939 حاصر الجنرال فرانكو مدينة مدريد بأربعة
طوابير عسكرية ، فلما استولى عليها قال ، أو قيل ، ان الفضل في الاستيلاء على
مدينة العاصمة يرجع أساسا إلى الطابور الخامس . وكانوا يعنون به " مؤيدي
" فرانكو داخل المدينة . منذئذ ، والی عهد قريب ، كان يطلق وصف "
الطابور الخامس " على أولئك الذين يخدمون أغراض الغزاة من داخل الأرض المعرضة
لخطر الغزو كما فعل " مؤيدو " فرانكو ، ونحن نقول " مؤيدو " ونكررها
لأننا لا نريد ان ندين أحدا من أبناء الأمة العربية الذين يعملون جاهدين "
بحسن نية " و بدون حسن نية ، عامدين أو غير عامدين ، واعين معركة الغزو
الحضاري التي تدور في الوطن العربي أو غير واعين ، إننا لا ندين أحدا ولكننا نحدد
موقفنا من ظاهرة .
أو حتى لا نسيء إلى أحد نتساءل :
ما الذي يفعله كل أولئك الدكاترة والأساتذة و الباحثين الذين انتشروا
في مدن وقرى وريف الوطن العربي منذ بضع سنين لجمع البيانات والمعلومات واستنطاق
أهلنا حتى من الفلاحين وتوجيه أسئلة شفوية أو حتى مكتوبة بحجة إجراء دراسات
اجتماعية . ان ما يلفتنا هو أن كل تلك البيانات أو أغلبها هو مما يجمعه دارسو
الحضارات في فرع من العلوم أنشأه المستعمرون الأوروبيون وأسموه " علم الأجناس
التطبيقي " وأنشأوا له " الجامعة الاستعمارية في بروكسل " و"
المدرسة الاستعمارية في باريس " وأدخل مادة تدرّس في جامعات أكسفورد وكابريدج
ولندن في انجلترا ، وجامعة كورنيل في تقرير بالولايات المتحدة الأمريكية ، تابعة
لوزارة الخارجية الأمريكية ، وكل ذلك لتخريج وتدريب أخصائيين في هذا العلم يوفدون
إلى أطراف الأرض " يدرسون " حضارات الشعوب ، ويضعون ما يدرسون تحت تصرف
حکوماتهم لتمكينها من قهر أية مقاومة داخلية للغزو السافر أو الغزو الحضاري وقد
وصل الأمر باستشراء هذا النشاط الى حد أن " جمعية علم الأجناس التطبيقي
" في انجلترا قد أصدرت عام 1951 ميثاق شرف علمي " نشرته في كتاب تنبه فيه
الي التناقض بين الأمانة العلمية وبين تسخير ما تسفر عنه تلك الأبحاث لأهداف
سياسية عدوانية ضد البشر . لحساب من كل هذا البحث ، ومن الذي يدفع تكلفته ، ومن
الذي يدفع أجره ، وإلى من يذهب في نهاية الأمر؟
ونتساءل لمصلحة من كل هذا النشاط الذي
يحاول أن يصوغ الشباب العربي على أنماط مذهبية باسم الإسلام ، کأن لم يكن رسول
الله أخر المرسلين . كأن الشباب العربي غير ذي حضارة إسلامية منذ أن نشأ عربيا
مسلما . يجتهدون . فليجتهدوا وليعلموا الشباب الاجتهاد أيضا ، ولكن الاجتهاد لا يحتاج
إلى كل تلك المنظمات والمؤسسات والأموال والعلاقات والأسلحة ولم يحدث قط أن احتاج إليها
أحد من الأئمة المجتهدين . ان الذي لفتنا إلى هذا هو تلقى العداوة الجاهلية
للعروبة والقومية ، كأنهم يريدون لنا أن نعود أعرابا ، واختلاق تناقض لا أساس له
من كتاب الله بين الانتماء إلى الإسلام عقيدة والانتماء إلى الأمة العربية مجتمعا
وتجاهل وحدة الانتماءين حين أصبح الإسلام هو منشئ الأمة العربية وحضارتها .
ان الله يهدي من يشاء ، فلا نملك إلا
أن نحذر الأولين من أن يستدرجوا إلى مواقع الطابور الخامس في الغزو الحضاري للأمة
العربية ولا نملك إلا أن نقول للآخرين أن اذكروا قول الرسول عليه الصلاة والسلام :
" أوصيكم بالشباب خيرا فإنهم أرق أفئدة . لقد بعثني الله بشيرا ونذيرا
فحالفني الشباب وخالفني الشيخ "، ثم تلى من قوله تعالى : ( فطال عليهم الأمد
فقست قلوبهم ) ( الحديد - 16) .
58 - أما أنتم
أيها الشباب العربي فهذه مشكلتكم فلا تقبلوا أن تكون مرحلة شبابكم مرحلة عذاب ، وقاتلوا
الذين يقاتلونكم ، وانتم المنتصرون ، واغفروا لنا ما حملناكم إياه والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق