الديمقراطية ودولة المؤسسات .
الدكتور عصمت سيف الدولة .
1 ـ في عام 1980 كان بعض المواطنين متهمون في إحدى الجنايات " بإذاعة بيانات مغرضة " . وهي تهمة معاقب عليها طبقا للمادة 102 " مكررا " من قانون العقوبات حتى لو كانت البيانات صحيحة إذا كان من " شأنها الحاق الضرر بالمصلحة العامة " . أما ما هي هذه المصلحة العامة فلا يوجد في أي قانون في مصر تعريف محدد لها . وبهذا أصبحت تحت تصرف السلطة لتزج بمن تريد إلى أقفاص الإتهام ، بدون أن تسأل نفسها : كيف تكون إذاعة البيانات الصحيحة ضارة بالمصلحة العامة ، وما شأن البيانات الكاذبة إذن ؟.. ولكن القضاء يسأل . فسألت المحكمة شاهدا من كبار ضباط جهاز أمن الدولة :" أليس من المتصور لكل من يعمل بالسياسة في بلد ديمقراطي أن يعمل على إيجاد قاعدة شعبية بمحاولة الدفاع عن بعض الهيئات ؟. أجاب ضابط أمن الدولة :" أتصور أن يقوم بذلك الأفراد أصحاب المصلحة من خلال المؤسسات الشرعية الموجودة في الدولة ".
***
2 ـ كان ذلك خلال الحقبة الساداتية التي رفعت غالبا شعار " دولة المؤسسات " عنوانا على " ديمقراطيتها " . انقضت تلك الحقبة وجاء حسني مبارك فلفت الإنتباه بقوة إلى الوجه الآخر لدولة المؤسسات . قال في حديثه المثير الذي نشر في عدد مجلة المصور الصادر يوم 16 يناير 1986 محذرا المعارضة : " إن كنت قد تحملت الكثير فهناك غيري لا يتحمل . إن الحكم ليس فقط شخص رئيس الجمهورية بل الحكم هو مؤسسات ودولة " . وأضاف الرئيس :" إنني أنبه إلى خطورة البديل عن الإختيار الديمقراطي ونحن لا نريد أن نعود إلى بدائل من هذا النوع .. إن البديل فى علم الغيب ولكنه مخيف وخطير ". وهكذا أشار رئيس الجمهورية إلى أنه مع الديمقراطية لا يريد بديلا عنها مع أنه يتحمل الكثير ، ولكنه شخصيا ليس وحده الحكم بل الحكم مؤسسات ودولة ، وأن غيره لا يتحمل وقد يستبدل بالديمقراطية ما هو مخيف وخطير، فأصبح واضحا أن " غير الرئيس " هو واحدة أو أكثر من مؤسسات الدولة . فما هي مؤسسات الدولة ؟ ..
***
3 ـ مؤسسات الدولة هي التي تتلقى السلطات التي تتولاها من الدستور مباشرة وليس من قانون تصدره المؤسسة التشريعية ، وفي هذا تختلف عن الوزارات والإدارات . وقد جاءت على سبيل الحصر فى الدستور فهي (1) رئاسة الدولة (2) مجلس الشعب (3) الحكومة (4) القضاء (5) المحكمة الدستورية العليا (6) المدعي العام الاشتراكي (7) القوات المسلحة (8) الشرطة (9) مجلس الشورى . ولمن شاء أن يتأمل هذه المؤسسات " غير رئاسة الدولة " التي حذرته ليتعرف على مؤسسات الدولة التي " لا تحتمل " المعارضة فتهدد بما هو مخيف وخطير، أما نحن فنريد أن نتحدث عن العلاقة بين المؤسسات عامة وبين الديمقراطية حديثا قد يهدي من يريد أن يهتدي إلى طريق النجاة من المأزق المحتمل .
***
4 ـ إن المؤسسات أجزاء من تكوين الدولة وأدوات الحكم . ومجرد مؤسسات تعني أن للحاكمين أساليب محكمة في ممارسة السلطات وهذا هو ذاته الذي نشأت الديمقراطية وتطورت لحماية الشعب من مخاطر استبداده ، فمنذ أن نبه مونتسيكور في كتابه " روح القوانين " الصادر في عام 1748 إلى أنه :" إذا اجتمعت السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية فى مؤسسة واحدة فثمة خطر على الحرية إذ يخشى في هذه الحالة أن الملك ذاته ، أو مجلس الشيوخ ذاته ، ألا يصدر قوانين إلا لكي ينفذها تنفيذا استبداديا ". استقر مبدأ ديمقراطي هو الفصل بين السلطات ، أخذا باقتراح مونتسيكو نفسه :" حتى لا يستبد أحد بالسلطة لا بد من سلطة أخرى توقف السلطة الأولى عند حدودها ". وهكذا نرى أن أول مبدأ أساسي من مبادئ ممارسة الديمقراطية الليبرالية كان موجها ضد مؤسسات الدولة ومخاطر توحيدها فى مؤسسة واحدة على حرية الشعوب ، بفرض استقلالها بعضها عن بعض وإعطاء كل منها سلطة الحد من استبداد الأخرى . ليست العبرة إذن بالمؤسسات ولكن العبرة ، في الديمقراطية ، بما إذا كانت تلك المؤسسات تمثل ضمانا ضد استبداد الحكام أم لا . ذلك لأنه منذ أن أصبحت مهمات الحكم أكثر اتساعا وأشد تعقيدا من أن يتولاها طاغية واحد بنفسه وبطانته ، اصطنع كل الطغاة مؤسسات أدوات ليكونوا قادرين من خلالها على فرض إرادتهم المستبدة . ولعل التاريخ لم يعرف قط دولة اتخمت بالمؤسسات حتى كاد كل فرد من الشعب فيها أن يكون عضوا في مؤسسة أو لا يكون مواطنا أصلا ، كما عرف المانيا النازية وايطاليا الفاشية . ليس معنى هذا أن ليس للمؤسسات دور ديميقراطي ولكن معناه أن مجرد وجود المؤسسات ضرورة إدارية اقتضاها تقسيم العمل في وظائف الحكم المتشعبة ، وأنها تكون ضرورة ديمقراطية حينما تكون حماية للحرية ضد استبداد الظالمين . أما القول بأن وجود المؤسسات إطلاقا هو عنوان الديمقراطية فهو خطأ جسيم ، ويتحول إلى خطر جسيم حينما تصبح تلك المؤسسات أدوات للمستبدين تحول أفكارهم الخاصة إلى قوانين وتردع باسم تلك القوانين كل من يجرؤ على ممارسة حقه الديمقراطي في أن يسهم بالفكرة والرأي .
***
5 ـ ولم يكن مبدأ الفصل بين السلطات هو المبدأ الديمقراطي الوحيد الموجود ضد مخاطر إستبداد المؤسسات في الدولة بل أن كل المبادئ الديمقراطية هي ديمقراطية لأنها أسلوب شعبي لمواجهة إستبداد المؤسسات فمثلا يعتبر التمثيل النيابي أحد معالم النظام الديمقراطي . وفي التمثيل النيابي ، كما هو معروف ، لا يمارس الشعب سيادته بنفسه ، أي أن الحكم لا يكون بالشعب كما هو مفهوم الديمقراطية ، ولكن عن طريق إنتخاب أقلية الأقلية من الشعب توكل إليها مهمة التشريع . الأقلية هم جماعة الناخبين وأقلية الأقلية هم الأعضاء المنتخبون . ويقال عنهم فى المرسل من القول أنهم يمثلون إرادة الشعب . وهو قول غريب على الديمقراطية . فمنذ أن قال جان جاك روسو :" لا يمكن أن يكون هناك تمثيل في السيادة لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل فهي تكون أساسا في الإرادة العامة والإرادة العامة لا يمكن تمثيلها إطلاقا فهي أما تكون هي نفسها أو تكون شيئا آخر " ، استقر في فقه القانون العام والخاص بمبدأ " أن الإرادة لا تنتقل " ، ولم يقل أحد ، أي أحد ، على مدى قرون من الممارسة العالمية للنظام النيابي ، أن النواب يمثلون إرادة الشعب . وإنا لنعرف أن في تأصيل نظام التمثيل النيابي نظريات عدة ، منها نظرية النيابة التي يمثلها الفقيه بارتلمي والتي ينتمي إليها أغلب الشراح العرب في مصر : وحيد رأفت ، وايت إبراهيم ، وعبد الحميد متولي ، وعثمان خليل ، ومصطفى كامل .. إلى آخره .
ولكن أيا من تلك النظريات لم تتضمن كلمة واحدة يفهم منها مباشرة أو بطريق غير مباشر أن النواب المنتخبين للقيام بمهمة التشريع يمثلون إرادة الشعب ..
لماذا ؟.
لأن المجلس التشريعي المنتخب يتحول بمجرد انتخابه إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة وأداة من أدوات الحكم بمعناه الواسع . من هنا لا يعتبر مجرد وجود مجلس تشريعي منتخب ظاهرة ديمقراطية ولا دليلا على توفر الديمقراطية . وإلا لكانت كل الدول التي نعرفها ، فيما عدا السعودية دولا ديمقراطية لأنها كلها تملك مصانع إنتاج القوانين التي يسمونها المجالس التشريعية المنتخبة . وإلا لصح زعم بعض المستشرقين أن الإسلام دين غير ديمقراطي لأنه أمر بالشورى ولكنه لم يأمر بأن ينتخب المسلمون من بينهم مجلسا يتولى وضع القوانين ، لا ، المجالس النيابية قد تكون ظاهرة ديمقراطية وقد لا تكون . يتوقف الأمر على ما إذا كانت أدوات حماية مصالح الشعب وحريته أم أدوات لتقنين إرادة السلطة التنفيذية واستبدادها . كل هذه بدهيات يعرفها كل من يعرف شيئا عن الديمقراطية ، وإن كان لا يدرك أهميتها إلا القليل ممن درسوا النظم السياسية . ولقد كانت تلك البدهيات وراء المناقشات والمناورات والصراعات التى دارت في " لجنة المبادئ الأساسية لمشروع الدستور " . دستور 1971 .
فقد كانت تلك اللجنة المشكلة أساسا من أساتذة القانون العام قد ضمنت قائمة المبادئ مبدأ أساسيا تحت رقم 56 نصه :" على كل أعضاء مجلس الشعب والمجالس الشعبية المحلية أن يقدم حسابا للناخبين عن نشاطه ونشاط مجلسه وللناخبين حق سحب الثقة من العضو في الأحوال وطبقا للشروط والإجراءات التي يحددها القانون ". فلما أن عرضت المبادئ على مجلس الشعب عدل النص ، فلم يوافق المجلس بالإجماع ، على ان يتضمن الدستور النص التالي : " للناخبين أن يطلبوا إلى المجلس إسقاط عضوية أحد الأعضاء وفق الشروط والأوضاع الخاصة بإسقاط العضوية الواردة في الدستور ".
وبالرغم من الهزال الذي أصاب المبدأ الديمقراطي وحوله إلى رابطة رقابية واهية بين الشعب والعضو المنتخب فإن أيدي الاستبداد التي أخذت المبادئ التي تمت الموافقة عليها بالاجماع تصوغها دستورا يعرض على الإستفتاء الشعبي ، أعطت نفسها حرية حذف النص وعرض الدستور على الإستفتاء خاليا منه .
***
6 ـ من أين إذن تستمد المؤسسة التشريعية ما تستحقه من نسبتها إلى الديمقراطية ؟.. لا من كونها مؤسسة ولا من كونها منتخبة ، ولكن من مدى ما يتمتع به الشعب من حريات تمكنه من إبقاء تلك المؤسسة في خدمته أداة لتحقيق إرادته في مواجهة المؤسسات الأخرى المسماة السلطة التنفيذية ، وليس تاريخ النظام النيابى إلا تاريخ كفاح الشعوب لفرض إرادتها على تلك المؤسسة التي انتخبوا أعضاءها .
فمن حق الاقتراع المقيد بالملكية إلى حق الاقتراع العام غير المقيد خطوة نحو الديمقراطية تمت خارج مؤسسات الدولة وفي مواجهتها . وهي خطوة سمحت للفقيه الإنجليزي بورجي بأن يقول أن الدستور الإنجليزي لم يوجد إلا منذ 1832 وهو تاريخ أول محاولة فيما يسمى بالإصلاح الديمقراطي في انجلترا والذي تمثل في إتاحة الاقتراع لمزيد من المواطنين . والانتخاب الدوري خطوة ديمقراطية أخرى تتيح للشعب أن يعيد تشكيل المؤسسة التشريعية ويبقى النواب في حاجة مستمرة لإرضائه . وحق التمثيل النسبي الذي يتيح للأقلية أن تختار أعضاء في الهيئة التشريعية بقدر حجم الأصوات التي تنتمى إليها خطوة أخرى نحو الديمقراطية تتيح لكل الاتجاهات أن تسهم في صنع التشريع والرقابة عليه .. كل هذه مظاهر للديمقراطية خارج مؤسسات الدولة .
***
7 ـ ثم نأتي إلى المعارضة . إن كل أنصار النظام النيابي ، الذين يعتبرونه نظاما ديمقراطيا يؤكدون أنه لا ديمقراطية بدون معارضة منظمة داخل المجالس النيابية . والمعارضة داخل المجالس النيابية هي ذلك الفريق الذي لا يشارك في الحكم . فمن أين يستمد الحكم استحقاقه لوصف الديمقراطية . ليس من الأغلبية التابعة للحاكمين . والتي يسخر بها المؤسسة التشريعية لتحويل ارادتهم إلى قوانين ، ولكن من المعارضة التي بها ، وليس بغيرها ، يمكن أن تنسب القوانين إلى الشعب وليس إلى فريق الحاكمين وحدهم . ومن هنا فإن المعارضة هي مصدر شرف إنتساب أي حكم إلى الديمقراطية ، ولا يستحق أي حكم هذا الشرف إلا بقدر حرية المعارضة واتساعها .
***
8 ـ ولا يمل فقهاء القانون ورجال السياسة من التأكيد على أنه من المظاهر الأساسية للديمقراطية فى أي حكم ما يسمونه الرأي العام ، ويعنون به حرية التعبير وحرية الاجتماع وحرية الصحافة .. إلى آخره .. وكل هذا نشاط يدور خارج مؤسسات الدولة وفي مواجهتها . فحرية التعبير يقصد بها حرية التعبير خارج المجلس النيابي ومؤسسات الدولة . وحرية الاجتماع يقصد بها حرية إجتماع المواطنين من غير أعضاء مجلس الوزراء أو اللجان الحكومية . وحرية الصحافة يقصد بها حرية نشر الإفكار والآراء غير الرسمية ، أي غير خطب وبيانات مؤسسات الدولة . والرأي العام الذي يعبر عن ذاته بهذه الأدوات وغيرها هو رأي الشعب وليس رأي شاغلي المناصب في أية مؤسسة حكومية . ففي خارج هذه المؤسسات تقوم أو لا تقوم الديمقراطية . وعلى مدى إنتشار وتنوع وحرية التعبير عن الرأي العام يتوقف استحقاق أي حكم شرف الانتساب إلى الديمقراطية .
***
9 ـ ثم نأتي إلى الأحزاب ، ينقل إلينا أساتذة القانون الدستوري قولا مترددا من انه لا قيام للديمقراطية بدون أحزاب سياسية . لماذا ؟ مع أن الأحزاب السياسية ليست مؤسسات حكومية بل هي تجمعات شعبية اعتباريه منظمة ، لأنها هي التي تجمع وتنظم وتجسد وتقود اتجاهات الرأي العام . وتمنحها بهذا التنظيم قوة جماعية تستطيع أن تنقد وتعارض وتردع وتسقط الحكام إذا ما حاول الحكام أن يسخروا مؤسسات الدولة لأغراضهم الخاصة . ومن هنا قيل أن نظام الحزب الواحد ليس نظاما ديمقراطيا ، لأن الحزب الذي يحكم يتحول إلى أداة في يد رؤسائه الحاكمون أو على الأصح يتحول إلى حكومة . فلو كان حزبا واحدا وحاكما ، فإن الشعب ، والرأي العام فيه ، يفتقدان المؤسسات الشعبية لمواجهة استبداد الحاكمين وحزبهم . ومن هنا نعرف أن مصدر الديمقراطية التي تنسب إلى تعدد الأحزاب ليس هو الحزب الحاكم . ولكن الأحزاب التي لا تشترك فى الحكم . ونحن نعني بطبيعة الحال الأحزاب التي يشكلها أعضاؤها بدون إذن أو قيود ولا نعني الجماعات المصطنعة أحزابا ليكسب بها الحزب الحاكم ـ بدون وجه حق ـ شرف الانتماء إلى الديمقراطية . كما فعل بعض الحكام الذين وصل بهم الاستبداد بالناس حد احتقار عقولهم وتضليلهم بأساليب ساذجة من الأشكال الحزبية كما فعل ليوبولد سنجور الحاكم السابق للسنجال ، وكمال أتاتورك ديكتاتور تركيا الأسبق .
فبعد عشر سنوات متصلة من حكم ليوبولد للسينجال حكما فرديا رأى أن يصطنع أحزابا متعددة . وكان الأسبق إلى ابتكار الفكرة المغرورة التي تقول أنه مهما تعددت الاتجاهات السياسية فهي إما يمين أو وسط أويسار . وهكذا أصدر سيادته قانونا دستوريا بإقامة ثلاثة أحزاب . الحزب الحر اليميني وكلف أحد أصدقائه بتشكيله ، ثم الحزب الماركسي اليساري وترك للماركسيين أمر تشكيله ثم حزب الوسط الاشتراكي وشكله هو تحت رئاسته .
وقبل سنجور كان كمال أتاتورك فى عام 1923 رئيسا لجمهورية تركيا ورئيسا " لحزب الشعب الجمهوري " وكان ثمة حزب معارض هو " الحزب الجمهوري التقدمي " يقاوم السلطة الفردية فصفاه كمال أتاتورك 1925 . بعدها بنحو عشر سنوات ( لست أدري لماذا لا يبدأ الطغاة في التفكير إلا بعد عشر سنوات ) رأى أن يصطنع حزبا معارضا ليستر عورة استبداده فأعلن بنفسه عن تأسيس الحزب المعارض في حفل أقيم فى مدينة بالوفا وأسند رئاسته إلى أحد أصدقائه وهو فتحي بك . وكان أنشأ الحزب المعارض كما قالت وثائقه :" لمباشرة وظيفة النقد في الدولة". فلما حاول الحزب المصطنع مباشرة وظيفته في النقد لم يطق المستبد عليه صبرا وكان الأسبق إلى الفكرة الساذجة : تكوين فريق معارضة داخل حزبه هو .
وكان طبيعيا أن تفشل كل تلك المحاولات في ستر الاستبداد . لأن الأحزاب المصطنعة ليست أحزابا أصلا ، ومن هنا فنحن لا نعنيها عندما نتحدث عن أحزاب المعارضة كشرط للديمقراطية النيابية .
***
10ـ وأخيرا ذلك الشعار الذي لا يمل الكثيرون من ترديده : إن الديمقراطية لا تقوم إلا بالرأي والرأي الآخر . والرأي الآخر لا يكون رأيا آخر إلا إذا كان مخالفا للرأي الأول . أما إذا كان الرأي الآخر تفسيرا أو تبريرا أو تأييدا أو صدى للرأي الأول فليس ثمة فى الحقيقة إلا رأي واحد هو الرأي الأول . وينهار ركن أصيل من أركان الديمقراطية . ولا يختلف الأمر استبدادا إذا ما تولى الرأي الأول تحديد المجال المسموح به للرأي الآخر ، كأن يقال مثلا أن القضايا التي يعتبرها الرأي الأول قومية لا يجوز للرأي الآخر أن يختلف فيها . لا يخفى على أحد هنا أن الرأي الأول قد اعتبر نفسه صاحب القضايا القومية وحده دون الرأي الآخر ، مع أن المفترض أن الأحزاب مؤسسات شعبية الإنتماء قومية الغاية . إنه مفترض في كل الدول الديمقراطية ولكنه في مصر بالذات مفروض بحكم القانون ، فعندما نقرأ في القانون رقم 40 لسنة 1977 الخاص بنظام الأحزاب أنه لا يجوز قيام الحزب في مبادئه أو برامجه أو في نشاطه أو في إختيار قياداته أو أعضائه على أساس طبقي أو طائفي أو فئوي أو جغرافي ( المادة 3 فقرة 3 ) نعرف أنه قد فرض على الأحزاب أن تقوم في مبادئها وبرامجها ونشاطها على أساس قومي أي أن تكون مشغولة أساسا بالقضايا القومية . فإذا قيل بعد ذلك أن على الأحزاب أن تتجنب مخالفة الرأي الأول في المسائل القومية فإنه يعني أن على الأحزاب أن تخرس . وعندما تخرس الأحزاب يفقد الرأي الأول أية فرصة لإدعاء الديمقراطية لأنه يفقد مصدر هذا الإدعاء . ويصبح الأمر أسوأ من هذا حين يرى أن على الرأي الآخر أن يكون موظفا لديه يقدم له الأفكار التي لا يعرفها والدراسات التي لا يستطيع القيام بها ، وحلول المشاكل التي لا تخطر على باله ، فإن أبى أو عجز نهره كما ينهر الرؤساء موظفيهم . وأمره بأن يخرس لأن النقد يكون للبناء لا للهدم . مع أن البناء المستقيم على أسس مائلة سينهدم حتى من تلقاء ذاته .
***
11ـ الخلاصة ، أن مؤسسات الدولة ، أو دولة المؤسسات هي بحكم طبيعتها ووظيفتها وبما تملكه من قوانين ومحاكم وسجون وشرطة وقوى مسلحة جهاز قهر لا تنسب إليه الديمقراطية ، وفى مواجهتها وخارج مؤسساتها تنسب الديمقراطية إلى الشعب بالقدر الذى تتاح له ممارسة سيادته " غير المنكورة " على الدولة ومؤسساتها ، بأدوات وأساليب ومنظمات " شعبية " غير تابعة ولا خاضعة لمؤسسات الدولة . حينئذ يتوقف مصير الديمقراطية وجودا وعدما ، تقدما أو تراجعا ، على ميزان القوة النسبي ما بين مؤسسات الدولة من ناحية وبين مؤسسات الشعب من ناحية أخرى . حينما يختل هذا الميزان لصالح الدولة ومؤسساتها تنمو أنياب ومخالب وأشواك الاستبداد " تلقائيا " وإذا تساوت الكفتان ، أصبح لدى الشعب " هامش " ديمقراطي يغذي أمله في المزيد من الديمقراطية من ناحية ويغري الاستبداد بإلغائه من ناحية أخرى . وأصبح لدى دولة المؤسسات إمكانيات استبدادية تعمل على تقويتها من ناحية وتنزع إلى استعمالها من ناحية أخرى ، وهو توازن لا يمكن أن يدوم . لابد ، عاجلا أو آجلا ، أن يحسم الأمر لصالح الديمقراطية أو لصالح الديكتاتورية .
***
12ـ نعتقد أن مصر تمر الآن بمرحلة التوازن هذه . نستطيع أن نقدم عليها عشرات الأدلة التشريعية والتطبيقية ولكن يكفينا صدق التحذير الذي أطلقه رئيس الدولة ودلالته التي أوضحناها من قبل .
السؤال الآن هو : كيف يمكن أن نحول دون أن يختل ميزان القوة بين الدول ومؤسساتها وبين الشعب ومؤسساته ؟.. ليس هناك إلا حل واحد تمليه حقائق الموقف غير القابل للاستمرار بطبيعته . هذا الحل هو المبادرة بجسارة إلى حسم الموقف لصالح الشعب برفع كل القيود المفروضة على ممارسته الديمقراطية وإنشاء مؤسساته الكفيلة بردع أية أفكار مغامرة تدور في أذهان أية مؤسسة من مؤسسات الدولة .
***
13ـ من المسئول تاريخيا عن القيام بهذه المبادرة ؟..
المسئول ، في هذه المرحلة ، هي مؤسسة الدولة التي أدركت الخطأ ونبهت إليه وحذرت منه : رئاسة الجمهورية . إنها لا تملك شرعية هذه المبادرة فقط ، بل أن حسم الموقف لصالح الشعب لن يتم سلميا إلا عن طريقها . ما الذي يمكن أن تفعله على وجه التحديد ؟ إن الإجابة الجادة على هذا السؤال تتطلب المعرفة الكاملة والدقيقة لما يدور داخل مؤسسات الدولة ، وهو غير متوفر لنا والجواب بدون علم كاف ودقيق رعونة أو إدعاء أو حذلقة لا نريد أن ننزلق إليها خاصة ونحن نتحدث عن موضوع على أكبر قدر من الجدية والخطر والخطورة . ..
وإنما نسمح لأنفسنا بضرب مثل مما نعلمه علم اليقين :
أولا : في 10 فبراير 1977 استفتى الشعب في شأن الأحزاب فوافق على أن : " حرية تكوين الأحزاب مكفولة طبقا لما ينص عليه القانون الخاص بإنشاء الأحزاب حال صدوره من السلطة التشريعية ".
ثانيا : في 21 مايو 1978 استفتى الشعب في شأن الأحزاب مرة اخرى فوافق على أنه : " لا يجوز الانتماء إلى الأحزاب السياسية أو ممارسة أي نشاط سياسي (1) لكل من تسبب في إفساد الحياة السياسية قبل ثورة 23 يوليو 1952 سواء كان ذلك بالاشتراك فى تقلد المناصب الوزارية منتميا إلى الأحزاب السياسية التي تولت الحكم حتى 23 يوليو 1952 أو بالاشتراك في قيادة الأحزاب وإدارتها ذلك كله فيما عدا الحزب الوطني والحزب الاشتراكى ( مصر الفتاة ) . (2) لكل من حكم بإدانته من محكمة الثورة ممن شكلوا مراكز قوى بعد ثورة 23 يوليو 1952 وأحيلوا إلى محكمة الثورة في الجناية رقم 1 لسنة 1971 مكتب المدعي العام . وكذلك من حكم بإدانته في إحدى الجرائم الخاصة بالمساس بطريقة غير مشروعة بالحريات الشخصية للمواطنين أو إيذائهم بدنيا أو معنويا . (3) كل من يثبت ضده أنه أتى أفعالا من شأنها إفساد الحياة السياسية في البلاد أو تعريض الوحدة الوطنية أو السلام الإجتماعي سواء كان ذلك بالذات أو بالواسطة وسواء كان ذلك بصورة فردية أو من خلال تنظيم حزبي أو تنظيم معاد لنظام المجتمع ….الخ ".
ثالثا : استفتى الشعب أخيرا يوم 20 أبريل 1979 في شأن الأحزاب .. فوافق على صيغة قطعية الدلالة تقول : " إطلاق حرية تكوين الأحزاب "..
فهل يحتاج الأمر إلى أكثر من " حسن النية " ليعرف من يريد الاستدلال بالهامش الديمقراطي ما هو مخيف وخطير ، إن موافقة الشعب على " إطلاق حرية تكوين الأحزاب " تعني إلغاء القيود التى رأى فرضها في الاستفتاء السابق ، وتحريم فرض أية قيود بعد ذلك . هل يحتاج الأمر إلى عباقرة في القانون ليعرف أن القيود التي فرضها قانون الأحزاب رقم 40 لسنة 1977 يوم 7/7/1977 تنفيذا للاستفتاء الأول قد أصبحت باطلة بمقتضى الاستفتاء الأخير .
فلماذا الإبقاء على هذه القيود ؟ لماذا لا تلغى ؟..
قد يقال وما شأن رئيس الجمهورية بإبقاء أو إلغاء قانون صادر من مجلس الشعب ؟
يا سلام ….
لقد ألغى رئيس الجمهورية في حدود سلطته الدستورية القانون رقم 2 لسنة 1977 والقانون رقم 34 لسنة 1972 وبعض مواد القانون 95 لسنة 1980 بقرار واحد منه هو القرار رقم 194 لسنة 1983 . ثم إن لرئيس الجمهورية اقتراح القوانين . ثم إن رئيس الجمهورية قد إرتضى أن يكون رئيسا للحزب الحاكم صاحب الأغلبية في مجلس الشعب … تدعيم المؤسسات الشعبية في مواجهة مؤسسات الدولة لا يفتقد الوسيلة بل يفتقد الإرادة .
يا سلام ….
لقد ألغى رئيس الجمهورية في حدود سلطته الدستورية القانون رقم 2 لسنة 1977 والقانون رقم 34 لسنة 1972 وبعض مواد القانون 95 لسنة 1980 بقرار واحد منه هو القرار رقم 194 لسنة 1983 . ثم إن لرئيس الجمهورية اقتراح القوانين . ثم إن رئيس الجمهورية قد إرتضى أن يكون رئيسا للحزب الحاكم صاحب الأغلبية في مجلس الشعب … تدعيم المؤسسات الشعبية في مواجهة مؤسسات الدولة لا يفتقد الوسيلة بل يفتقد الإرادة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق