الوحدة والاشتراكية في الوطن
العربي .
د.عصمت سيف الدولة .
مجلة الطليعة – السنة الثانية –
العدد الثاني – 1966 .
يفوت بعض
الذين يقرأون ما يكتب عن الوحدة والاشتراكية أن وضع الكلمات بعضها فوق بعض يطمس
معالمها فلا تُقرأ ولا تُفهم ، وأن الكتابة الواضحة تقتضي أن تتبع كلمة أخرى ، وأن
يُترك بينهما فاصلا فلا تختلطان .
ولا حيلة
للكاتب اذا كتب في أن يختار كلمة تأتي أولا ثم تليها الكلمة الأخرى ، متكلا على أن
اللغة تسعفه بأدوات من الالفاظ تربط بين الكلمتين وتلغي الترتيب الزمني بينهما ،
فيصل بذلك الى ما يريده من أن يقدّم الى القارئ معنى واحد عن طريق كلمتين أو أكثر
.
ويفوت يعض
أولئك الذين يقرأون ما يكتب عن الاشتراكية والوحدة أن "الواو" في اللغة
العربية تفيد المعية ولا تفيد الترتيب الزمني وأن للترتيب حرفا اخر أو أكثر .
ومثال هذا أننا اذا قلنا : الوحدة والاشتراكية ، أو قلنا الاشتراكية والوحدة ، لما
اختلف المعنى الذي نريد أن نؤدّيه ، وهو الجمع بين الوحدة والاشتراكية على وجه
يشير الى علاقتهما المتبادلة ، والى أنهما عنصران متفاعلان ، لا ينفي أحدهما الاخر
في المضمون ولا يسبقه حتما في الزمان .
هذا الذي
يفوت البعض – أو يجهلونه – دفع بعضهم الى العسف في تفسير ما يكتب عن الوحدة
والاشتراكية ، مع أن تلك بعض قضايانا المصيرية التي يجب أن يستعد من يخوض فيها –
بالإضافة الى حسن النية – بقدر أدنى من ادراك البديهيات ومعرفة اللغة . وفي دراسة
منشورة عن "أسس الاشتراكية العربية" استعملنا تعبير "الحرية
والوحدة والاشتراكية" ، وخفنا من ذلك الخلط فأضفنا – في أكثر من موضع – كلمة
"معا" بعد الكلمات الثلاثة ليكمل بهذا المعنى الذي أردنا أن نؤدّيه ،
ومع ذلك لم يغن هذا عند الذين رأوا في ذلك الترتيب تسلسلا ميكانيكيا ، أو ترتيبا
زمنيا ، وأخذوا عليه أنه "إصرار" على أن لا نبدأ في انجاز الوحدة
العربية الا بعد أن نكون قد انتهينا من مشكلة الحرية ، ولا نبدأ في البناء
الاشتراكي الا اذا كنا قد انتهينا من انجاز الوحدة ، وأنه ترتيب زمني لازم ، كما
لو كانت الحرية أو الوحدة أو الاشتراكية معطيات جامدة منفصلة بعضها عن بعض
كالحجارة يرص الواحد منها اثر الاخر . وليست الحرية أو الوحدة أو الاشتراكية
كالحجارة ولكنها أبعاد لحياة موضوعية واحدة نحاول من خلال تحديدها معرفة مضمون تلك
الحياة.
كل هذا لا
يمنع أن الكاتب مسؤول عن أن يوضّح ما يريد أن يقول الى القدر الذي يقطع الطريق على
المتعسفين في تفسير ما يقرأون ، ويقطع الشك عند الذين لا يتوافر لديهم الحد الأدنى
من أدراك البديهيات والمعرفة اللغوية .
لهذا نختار
الحديث عن علاقة الوحدة بالاشتراكية ، وهو اختيار مردّه أن الحوار حول تلك العلاقة
لا يزال متّصلا بين الوحدويين والاشتراكيين ، وكل اسهام فيه قد يؤدي الى أن نصل
معا الى ذلك الأمل الذي يتطلع اليه هذا الجيل العربي : وحدة الاشتراكيين في سبيل
انجاز الوحدة العربية ، أو وحدة الوحدويين في انجاز الاشتراكية ، فلنبدأ بالوحدة .
هذا أيضا
ليس ترتيبا زمنيا ، ولكن لأن الوحدة أكثر وضوحا وأسهل فهما . والبدء باليسير يشجع
على التصدي لما هو أصعب . فالوحدة الغاء للتجزئة التي فرضها الاستعمار على الوطن
العربي منذ نصف قرن تقريبا ، لتعود الى الأمة الواحدة دولتها الواحدة . والذين
يعرفون المعنى الدستوري والدولي للدولة يعلمون تماما أنها لا تختلط بالنظم
الإدارية التي قد تأخذ أشكالا متنوعة داخل الدولة الواحدة . كما يعلمون تماما أن
قيام الدولة الواحدة لا يعني اطلاقا اخضاع كافة الأقاليم أو الولايات أو الأقطار
... أيا كانت تسمية الوحدات الإدارية الداخلية ، لنمط موحد من القوانين أو النظم
في الإدارة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو المال أو حتى القضاء . وأكثر من هذا ،
يعرفون تماما أن وحدة الدولة لا تتأثر كثيرا بما اذ كانت دولة بسيطة تديرها حكومة
مركزية واحدة ، أم دولة اتحادية (فيدرالية) تقوم بجوار الحكومة المركزية فيها
أجهزة إدارية تختص ببعض السلطات تمارسها في الولايات أو الأقاليم .. الخ ، التي
تقوم فيها . فالأردن مثلا دولة بسيطة ، وليبيا دولة فيدرالية ، وفرنسا دولة بسيطة
، والبرازيل دولة فيدرالية ، ومع ذلك فكل من هذه دولة واحدة . اذ تكون الدولة
واحدة في مواجهة الدول الأخرى ، تمارس وحدها تمثيل الشعب كله والحديث باسمه
والدفاع عنه . أما كيف تصاغ الحياة داخل الدولة الواحدة ، فتلك مهمتها تلتمس اليها
الأسلوب الإداري والاقتصادي والقانوني الذي تراه كفيلا بحل المشكلات التي تطرحها
أجزاؤها ، بشرط وحيد هو أن تكون الدولة الواحدة دولة الجميع لتضع بهذا إمكانيات
الكل في خدمة الكل والأجزاء معا .
بهذا المعنى
الدستوري والدولي للوحدة يسهل على الذين يعرفون تاريخ أمتهم ادراك ما نعنيه بأن
الوحدة العربية الغاء للتجزئة . اذ لم يحدث قط منذ أن تم تكوين الأمة العربية في
ظل الإسلام ودولته ، الى أن تمزق الوطن العربي دولا بعد الحرب العالمية الأولى ،
أن قامت في أي مكان من الوطن العربي "دولة" مستقلة . بل كانت مجموعة من
الولايات تكبر حجما حتى تبلغ قدر مصر ، وتصغر حجما حتى تكون مثل عكا ، ولكن أيا
منها لم تكن دولة . كانت أقاليم إدارية لها بعض الاستقلال الإداري المحلي ، ولكنها
أجزاء من دولة واحدة . وقد انتقلت عاصمة الدولة الواحدة من المدينة الى دمشق الى
بغداد الى القاهرة .. غير أن كل عاصمة من تلك كانت تعصم العرب جميعا أو تدّعي هذا
وتحاول الوصول اليه ، ولكنها لا ترضى بأي حال أن تكون دولة إقليمية . وكل ما نقرأه
في تاريخنا العربي عن دولة الأمويين أو العباسيين أو الفاطميين .. الخ ، لم يكن
دولا داخل الدولة ، بل كانت أحزابا من العرب تتمرّد على السلطة المركزية كخطوة في
سبيل الاستيلاء على السلطة في الدولة الواحدة ، وعندما تحولت الدولة الواحدة على
أيدي الأتراك الى دولة تركيا ، بقيت الأقاليم العربية أقاليم محتلة ولكن لم تكن
لها دولة ، ولم تقم أية دولة في الوطن العربي الا بعد أن خطط لها الاستعمار الغربي
حدودها واختار لها حكامها وكان ذلك بعد الحرب العالمية الأولى.
اذن ، فالوحدة العربية عودة الى الدولة الواحدة ، وليست
انشاء جديدا لدولة واحدة ، كما انها – على سبيل القطع – ليست مانعا من أن تعالج القضايا
الاجتماعية والاقتصادية في كل جزء بالأسلوب الاداري الذي يناسبه ، وبالأسلوب
العلمي الذي يتفق مع درجة نموه وطبيعة مشكلاته الخاصة .
ولا شك في أن من أعمق المشكلات التي تواجهها دولة الوحدة العربية هي آثار
التجزئة . اذ لا يمكن ان ينكر أحد أو يتجاهل ان التجزئة التي طال أمدها قد تركت في
الأقاليم العربية رواسب اجتماعية واقتصادية يهمنا منها في هذا الحديث ذلك التفاوت
في درجة النمو الاقتصادي بين الأجزاء مع اتفاقها جميعا في سمة التخلف . هذا
التفاوت ذاته هو الذي يثير الجدل حول علاقة الوحدة بالاشتراكية . فما الاشتراكية ؟
.
لعل كلمة لم تستعمل للدلالة على مضامين متباينة بقدر ما استعملت كلمة
"الاشتراكية" . وقد اصبحت من فرط استعمالها في مجالات مختلفة تكاد تكون
غير ذات دلالات محددة . العلة وراء هذا أن تحديد المضمون الاشتراكي قد يكون تجسيدا
لرغبات أشخاص وأهوائهم على وجه لا يمكن فهمه بمقاييس موضوعية علمية ، وقد عُرفت
تلك الاشتراكيات باسم الخيالية أو غير العلمية ، ولسنا قادرين على تتبعها في ضمائر
أصحابها فلا محيص من أن نسقطها قاصرين الحديث على الاشتراكية التي كان مضمونها
محصلة منهج علمي في البحث قابل للمعرفة والتحديد . ومن ناحية أخرى فان الاشتراكية
نظام حديث نسبيا وقد ظلت الاشتراكية مضمونا فكريا أكثر من نصف قرن ولم تصبح حياة
مطبقة الا منذ أقل من نصف قرن . وخلال فترة التطبيق لم يكف مضمون الاشتراكية عن
النمو ، طارحا عنه ما جففته الممارسة وجرّدته من قيمته ، مكتسبا عناصر بديلة يستمدّها
من خصب التجارب الحية .
ولا شك في ان من المفيد – والحالة هذه – أن نتناول العلاقة بين الوحدة
والاشتراكية مبتدئين بالمفهوم التقليدي للاشتراكية العلمية ، متتبعين نمو تلك
العلاقة تبعا لنمو المفهوم الاشتراكي ذاته.
وأول اشتراكية علمية في التاريخ هي الاشتراكية الماركسية .
لقد كان منهج
ماركس الذي استخدمه في تحديد المضمون الاشتراكي ، مجموعة من القوانين العلمية هي
ما يعرف باسم "المادية الجدلية" والسمة الأساسية لهذا المنهج أنه : أولا
: مادي بمعنى أنه يمنح المادة أولوية الوجود على الفكر ، ليصل من هذا الى أنها
المؤثر الأساسي في حركة التطور . ثانيا : جدلي ، بمعنى أن حركة التطور لا تتم
بالانتقال الميكانيكي من العلة الى المعلول ، ولكن خلال صراع الأضداد ، اذ يجتمع
نقيضان في محتوى واحد فيتصارعان لينتهي الصراع بمولود جديد أكثر من النقيضين تقدما
. والجمع بين السمتين : المادية و الجدلية ، يحتم البحث عن محرك التطور وقائده في
العناصر المادية للحياة . ويقصر دور الفكر على أن يكشف هذا ويتبعه . ولما طبق
ماركس هذا المنهج على تاريخ البشرية انتهى الى أنه يسير متفقا مع تطور أدوات
الإنتاج . ولما طبقه على النظام الرأسمالي الذي عاصره انتهى الى أن التناقض قائم
بين الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج من ناحية وبين العمل من ناحية أخرى وأبدع
نظريته في فائض القيمة ليحدد بها الطبيعة الاستغلالية الكامنة في النظام الرأسمالي
ذاته . فبعيدا عن أي تقييم خلقي ، وبدون توقف على إرادة أي انسان ، لا يتقاضى
العامل على أدوات الإنتاج مقابل عمله كله ، بل يبقى فائض يحصل عليه الرأسمالي بدون
جهد لأنه مالك لأدوات الإنتاج ملكية خاصة . واذا كان ذلك هو التناقض في النظام
الرأسمالي فان حله يكون بإلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ، عندئذ يدخل
المجتمع مرحلة الاشتراكية . وعلى هذا تحدد مضمون الاشتراكية الماركسية أو
التقليدية بأنه الغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج . وقد كان ذلك المضمون السلبي
متفقا الى حد كبير مع حاجة الجماهير العاملة في العصر الذي عاشه ماركس . ففي
البلاد الرأسمالية النامية لا يحتاج المقهورون اقتصاديا الى كثير من الغاء الملكية
الخاصة لأدوات الإنتاج ، ليبقى الرخاء المتاح للعاملين أنفسهم بعد أن كان المالكون
يستأثرون به لأنفسهم .
هذا المضمون
الاشتراكي كان يضع – طبقا لأسسه العلمية – شرطا أوليا للاشتراكية . كان لا بد من
أن يبلغ المجتمع درجة من النمو الاقتصادي في ظل الرأسمالية تكفي لكشف المتناقضات
فيها . وكان على المقهورين وطليعتهم (الحزب الشيوعي) أن يترصدوا هذا النمو
الرأسمالي ولا يسبقوه ، بل يدفعونه من الخلف الى غايته ليقطع أجله في أقل وقت من
الزمان . أما تخطي الرأسمالية والانطلاق من مجتمع متخلف عن الطور الرأسمالي الى
الاشتراكية رأسا ، فكان معتبرا محاولة مثالية مضللة لا تتفق مع الأصول العلمية
للاشتراكية ، وبهذا المعنى قال لينين قبل أن يخرج هو نفسه عن تلك الأصول :
"ان الماركسية تعلمنا أن أية محاولة لتحرير الطبقة العاملة عن غير طريق تطوير
الرأسمالية محاولة رجعية" .
وبهذا
المفهوم السلبي للاشتراكية تكون علاقة الاشتراكية بالوحدة ذات وجهين أولهما : أن
الوحدة غير لازمة للاشتراكية . فلا شك في ان أي مجتمع موحد أو مجزأ أو حتى في قرية
يستطيع أن يكون مجتمعا اشتراكيا بدون حاجة الى أن يتحد مع غيره أو يتوحد . فما على
الاشتراكيين القادرين فيه الا أن يبطشوا بمالكي أدوات الإنتاج ويلغوا ملكيتها
الخاصة فتكون لهم الاشتراكية . وثاني الوجهين : أن الوحدة تقتضي أن تبلغ الشعوب
التي تسعى اليها درجة متساوية من النمو الاقتصادي بحيث لا تعرقل أجزاؤها المتخلفة
انطلاق الأجزاء الأكثر تقدما نحو الاشتراكية . فان تمت الوحدة بين جزئين غير
متساويين في النمو الاقتصادي فمعنى هذا أن الجزء الأكثر نموا يضم اليه – بحجة
الوحدة القومية – الجزء المتخلف ليكون له فيه مرتع جديد للاستغلال يضاف الى
الاستغلال المحلي . ولن تصبح الوحدة مطهرة من شبهة الاستغلال الا اذا كانت بين
مجتمعات اشتراكية فعلا . أما قبل هذا فهي محاولة "بورجوازية" تسعى تحت
شعار الوحدة الى الاستيلاء على السوق في الأجزاء المتخلفة .
وأظن أننا
سمعنا كلاما مثل هذا ردده بعضهم في سوريا وفي العراق وردده الانفصاليون من بعدهم .
كما أظن أن ذلك المفهوم الاشتراكي كامن في أذهان الذين يشترطون لإتمام الوحدة
العربية أن ينجز كل جزء على حدة مشكلاته الخاصة ومنها مشكلة التحول الاشتراكي .
وبينما وقف
هؤلاء عند المفهوم السلبي للاشتراكية تقدمت التجربة خلال نصف قرن فأسقطت أغلب تلك
الأصول التقليدية الماركسية ، وقد بدأ سقوطها على يد لينين نفسه في الاتحاد
السوفييتي . فهناك قامت أول ثورة اشتراكية في دولة لم تكن مرشحة علميا للاشتراكية
. وقد حاول لينين ومن جاء بعده أن يسدوا تلك الثغرة النظرية فقدموا التجربة
السوفييتية على أنها استثناء مرده أن روسيا كانت أضعف حلقة في سلسلة الامبريالية
فكانت بذلك مرشحة لكي تتحطم فتحطمت . وعرف مجموع التبريرات النظرية في هذا المجال
باسم "اللينينية" التي هي – كما يقولون – الماركسية في عصر الامبريالية
. غير أن الاستثناء لم يلبث أن أصبح قاعدة بدون استثناء تقريبا بعد الحرب العالمية
الثانية . فبينما تعثرت أو فشلت الأحزاب الاشتراكية في الدول الرأسمالية النامية –
المرشحة ماركسيا للاشتراكية – في تحقيق الثورة الاشتراكية أو التحول الاشتراكي
سلميا ، انطلق كثير من الدول المتحررة حديثا ، المتخلفة اقتصاديا ، الى تحقيق
الثورة الاشتراكية بعد التحرر مباشرة متخطية الطريق الرأسمالي ، متجهة رأسا الى
الاشتراكية . ولم يلبث قدر كبير من الاشتراكيين ، وبوجه خاص في الاتحاد السوفييتي
المتفتح على تجربة العالم الثالث ، أن تبنوا حصيلة التجربة . وأصبح من المتفق عليه
امكان بناء الاشتراكية في أي مجتمع مهما كانت درجة تطوره الاقتصادي بدون حاجة الى
المرور بالطريق الرأسمالي .
عندئذ سقط –
أو يجب أن يسقط – احتجاج بعض الاشتراكيين ضد الوحدة باختلاف درجة النمو الاقتصادي
في الأقاليم ، اذ أصبح مسلما أنه من واقع أي إقليم ، ومهما تكون درجة نموه
الاقتصادي يمكن الاتجاه رأسا الى الاشتراكية . بل ان هذا يتضمن امكان البناء
الاشتراكي في الأقاليم المتخلفة عن الطور الرأسمالي ذاته . فاذا أخذنا في الاعتبار
ما ذكرناه من أن الوحدة لا تعني اخضاع كافة الأقاليم لنمط واحد من النظم
الاقتصادية ، وأنها تسمح بتنوع المعالجات الاقتصادية والاجتماعية في داخلها طبقا
لتنوع المشكلات ، نكون قد انتهينا الى أن اختلاف درجة النمو الاقتصادي في أجزاء
الوطن العربي ليست مانعا من الوحدة ذات المضمون الاشتراكي .
ثم جاءت
إضافة جديدة :
اذ لما كانت
كل دول العالم الثالث دولا متخلفة اقتصاديا أو نامية ، فان المفهوم التقليدي
للاشتراكية لم يكن كافيا كإجابة عن الأسئلة التي يطرحها البناء الاشتراكي في
المجتمعات المتخلفة . فكثير من تلك المجتمعات جردها الاستعمار من اية أدوات انتاج
صناعي وابقاها مجرد مصادر للمواد الخام التي تشحن على رؤوس أبنائها الى مصانع
أوروبا وأدوات انتاجها وكثير منها لم تكن تملك من أدوات الإنتاج ما يكون مشكلة
بالنسبة اليها . فاتسع مفهوم الاشتراكية ليتجاوز الغاء الملكية الخاصة لأدوات
الإنتاج فيصبح الغاء الاستغلال أيا كانت صورته . وبهذا المفهوم الجديد أصبحت
الزراعة والثروات الطبيعية والتجارة ميادين للبناء الاشتراكي . بل اننا نلاحظ أن
أول اجراء اشتراكي اتجهت اليه الدول النامية كان موضوعه ملكية الأرض واستغلالها أو
ما عرف بالإصلاح الزراعي . كما اتخذ الغاء الاستغلال في بعض الأحوال صورة تفتيت
واضعاف السيطرة الاجتماعية الموروثة من العهد القبلي والتي لا تستند بصفة أساسية
الى مقدرة اقتصادية . وضُربت الرجعية القبلية والعشائر والتكتلات العائلية
والطائفية التي كانت تستغل الناس مستندة الى تبريرات عنصرية أو دينية .. واعتبرت
كل تلك الإجراءات من صميم عملية الغاء الاستغلال في الدول المتخلفة . ثم كشفت
تجربة العالم الثالث عن موضوع اخر للاستغلال لم يكن محل انتباه خاص في الاشتراكية
التقليدية ، ذلك هو استغلال الرأسمالية العالمية للمجتمعات المتخلفة الذي يأخذ
صورا عديدة ومنوعة ليس منها في كثير من الأحيان الصورة التقليدية : صورة رب العمل
والعامل . فالقواعد العسكرية ، واحتكارات المواد الخام ، والقروض المشروطة ،
والأحلاف ، بل وتخطيط الدول وتعيين حكوماتها واسقاطها .. الخ ، كل هذا الذي عرفه
العالم الثالث باسم الاستعمار الجديد كان أوجها من الاستغلال وان كان خاليا من
علاقة انتاج بالمعنى القديم . وترتب على هذا أن مفهوم الاشتراكية بمعنى الغاء
الاستغلال أصبح يشمل التحرر من الاستعمار الجديد واسترداد الثروات الطبيعية من
أيدي الاحتكارات العالمية . واتسع ميدان المعارك الاشتراكية أمام الاشتراكيين ولم
يعد أكثرها ضراوة تلك المعركة القائمة بينهم وبين الاستغلال الرأسمالي المحلي حول
ملكية أدوات الإنتاج وعلاقاته .
وأضيفت الى
المفهوم القديم للاشتراكية أي الغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج إضافة جديدة :
التحرر من الاستعمار .
عندئذ بدأت
علاقة الوحدة بالاشتراكية تأخذ طابعا إيجابيا . فبعد أن وصلنا الى أن الوحدة حتى
بين الأجزاء المختلفة في درجة النمو الاقتصادي "ليست مانعا" من بناء
الاشتراكية ، أصبحت وحدة تلك الأجزاء عنصرا يساعد إيجابيا على الغاء الاستغلال .
وتقدم الدول العربية من واقعها القائم أدلة حية على أن جماهير الشعب المعزولة في
دول مستقلة ، يمنعها ذلك الاستقلال من أن تكون قوة واحدة ، وبذلك يضعف مقدرتها على
أن تواجه الرجعية والاستعمار معا . واصبح مجرد ادراك أن الاستعمار ذاته
"وحدة" ضاربة في مواجهة الأمم المتخلفة ، وأن الرجعية المحلية اداته الى
الاستغلال يقتضي "وحدة" الجماهير المناضلة ضد هذا التكتل المستغل
المعادي لمصالحها . ولإمكان تحقيق هذا ، أي لإمكان الغاء الاستغلال الممثل في
الاستعمار الجديد ، يجب اسقاط الحاجز المصطنع الذي يحول دون التحام الجماهير لتكون
لها قوة الوحدة وامكانياتها . وفي الوطن العربي دول لو استطاعت الجماهير فيها أن
تسقط الرجعية وأن تتولى السلطة ، لوجدت الجماهير المنتصرة نفسها غير قادرة على
الحياة – خارج الوحدة – الا اذا مدت أيديها الى الاستعمار تطلب معونته أو تصالحت معه
لتأمن بطشه ، أي لدفعتها العزلة مرة أخرى الى ذات المواقع التي كان فيها أعداؤها .
وبهذا أصبح
النضال الاشتراكي ضد الاستغلال المحلي والاستعمار يحتم أن بكون مستندا الى قوة
جماهيرية موحدة في الوطن العربي كله ، وأن تكون الوحدة السياسية ثمرة الانتصار
الاشتراكي ، اذ أصبحت الوحدة ضمانا وتأمينا للنصر ضد الاستغلال . وتاريخ السنوات
القليلة الماضية يؤكد كيف كان التسويف في الوحدة مساعدا للثورات المضادة ، وكيف سقطت
بعض الأقطار في قبضة الرجعية مرة أخرى بعد أن كان النصر قد تحقق للجماهير أو كاد .
غير أن أقوى
إضافة قدمتها تجربة العالم الثالث الى مفهوم الاشتراكية كانت إضافة إيجابية . وهي
إضافة أسقطت الأساس الفكري للاشتراكية التقليدية . فقد رأينا أن الاشتراكية
التقليدية كانت قائمة على ان المادة تلعب الدور الأساسي في التطور يتبعها الفكر
ولا يسبقها . وكان تطبيق تلك القاعدة على تطور المجتمعات يقتضي ألا تتطلع الجماهير
في نضالها الى أكثر مما يحدده تطور أدوات الإنتاج فيها . عندئذ كان تطلع الانسان
الى تحقيق ما يتجاوز درجة التطور المتحققة فعلا في أدوات الإنتاج المتاحة يعتبر
خيالا مثاليا ، يحاول فيه الانسان أن يسبق المادة وأن يقودها ، فلما أن أصبح
مقبولا أن يقود الانسان واقعه الذي لا يرشحه تطور أدوات الإنتاج الا للمرحلة
الرأسمالية ، يقوده متجها مباشرة الى الاشتراكية تغيرت القاعدة . وأصبح مقبولا أن
يتطلع الناس في أي مجتمع متخلف الى اقصى ما وصلت اليه المجتمعات المتقدمة ، وأن
تسبق معرفتهم الفكرية تطور أدوات الإنتاج ، وتقود تطورها الى حيث الغاية التي
يتطلعون اليها . أصبحت القيادة في عملية التطور للإنسان ، ويأتي التطور المادي
تابعا لها . وإذ ظل التطور جدليا أصبح مأتى هذا أن الانسان هو الجدلي ، وأن المادة
موضوع جدله والتطور من خلقه . عندئذ اصبح من المحتم أن نلجأ الى معرفة وعي الناس
في أي مجتمع لنعرف الى أين يسير تطورهم . وان كان ما يحققونه فعلا ومعدل سرعة
تحقيقه متوقف على إمكانياتهم المادية المتاحة . وقد اسهم التطور الحضاري وسهولة
الاتصال ونقل المعرفة بين البشر في أن يعي الناس ما حققه غيرهم من رخاء . وأصبح
الرخاء هو الغاية التي يسعى اليها الناس جميعا . ولم تعد الاشتراكية تعني مجرد
الغاء الاستغلال مع إبقاء الفقر قسمة عادلة بين الناس في الدول المتخلفة ، بل
أصبحت تعني حياة الرخاء المتحررة من الاستغلال . وأصبح الأمر سباقا بين الاشتراكية
والرأسمالية أيهما يقدم للناس قدرا أكبر من الرخاء . ولم يلبث كثير من الاشتراكيين
وبوجه خاص في الاتحاد السوفييتي المتفتح على تجربة العالم الثالث أن أقروا هذا
السباق وجعلوا من الرخاء بدون استغلال مضمونا اشتراكيا . وقد كان خروتشوف داعية هذا
المفهوم الاشتراكي الجديد ، الأكثر غنى وخصوبة .
بكل هذا ،
ومن واقع تجربة العالم الثالث الذي لا يشهده جمود نظري ، اغتنى المفهوم الاشتراكي
، وأصبحت الاشتراكية تعني التحرر والرخاء بدون استغلال . لم تعد الاشتراكية تعني
مجرد الغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ، ولا مجرد الغاء الاستغلال بين الفقراء
، ولا مجرد الغاء استغلال الرأسمالية للدول النامية ، بل أضيف الى كل هذا الرخاء
الاقتصادي . لم تعد الاشتراكية الغاء ، بل الغاء وبناء . الغاء الاستغلال وبناء
الرخاء .
وطبيعي بعد
هذا ان حصيلة كل أمة من الاستغلال العالمي (الاستعمار الجديد) أو درجة النمو
الاقتصادي ، جعلت مضمون الاشتراكية في كل أمة مختلفا عن غيره وبقدر ما يتضمن
واقعها من أوجه الاستغلال وامكانيات البناء . أصبحت لكل أمة اشتراكيتها التي تنبع
من واقعها وأصبحت لنا "الاشتراكية العربية" . غير أنه أيا كان مضمون
الاشتراكية في أية أمة فان تحقيق الاشتراكية فيها أصبح مشروطا بحشد كل امكانياتها
الطبيعية والبشرية لتتجاوز الجانب السلبي (الغاء الاستغلال) الى الجانب الإيجابي
(تحقيق الرخاء) من مضمون الاشتراكية . وأدى هذا الى أن ينتبه الاشتراكيون الى
دراسة مجتمعاتهم وظروفها وامكانياتها ليلغوا كافة السلبيات التي تحول دون حشد كافة
الإمكانيات الإيجابية القادرة على تحقيق الاشتراكية .
عندئذ أصبحت
الوحدة شرطا للاشتراكية :
فمع أن
المضمون التقليدي السلبي للاشتراكية (الغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج) ظل
ممكنا في ظل التجزئة كما كان أولا ، الا أن ذلك لم يعد يعني الا أن البدء في
البناء الاشتراكي لا يزال ممكنا وواجبا في ظل التجزئة دون انتظار للوحدة . غير أن الغاء
الاستغلال ليس الا بداية يهيأ بها المجتمع لتحقيق الاشتراكية رخاء بدون استغلال .
لهذا يبقى مفهوما تماما خلال مرحلة الإلغاء في ظل التجزئة أن الوحدة لازمة لإتمام
البناء الاشتراكي لتحقيق الاشتراكية . ومعنى هذا أن النضال في سبيل الوحدة أصبح
نضالا في سبيل الاشتراكية كاطار ومحتوى للحياة التي يناضل من أجلها الاشتراكيون .
وقد قدمت
التجارب الاشتراكية في الوطن العربي أدلة محسوسة على ذلك الالتحام . ففي الأقطار
العربية التي بدأت التحول الاشتراكي كان الجانب السهل هو الغاء الاستغلال المحلي
وفرض سيطرة الشعب على أدوات الإنتاج . غير أن عملية البناء لا تزال بالغة الصعوبة
. صحيح أن للتحول الاشتراكي في أي مجتمع ثمنه الغالي من التضحيات التي يجب أن
يدفعه الشعب مقابلا لحريته ، ولكنا لا نستطيع أن نتجاهل أن التجارب الاشتراكية في
الوطن العربي تدفع ثمنا باهضا وليس غاليا فقط . وفي اقطار من تلك التي بدأت كادت
أن تحدث ردة اشتراكية . وفي اقطار غيرها اضطر الاشتراكيون الى قبول التعاون
الاقتصادي مع الاحتكارات الرأسمالية يقصد تخطي حاجز الفقر . وكل هذا لأنه بينما
تدفع تلك الأقطار حصتها كاملة في الأعباء القومية ، وتحمي بوجودها ومن دمها ، حتى
أولئك الذين يستأثرون بمنابع الثروات ، تحاول أن تبني الاشتراكية رخاء وهي معزولة
عن إمكانيات الكل الذي هي جزء منه . وسيظل ثمن البناء الاشتراكي باهضا الى أن
تتحقق الوحدة فيصبح ثمنه غاليا فقط ، ثم يصبح رخاء وحرية بدون متاعب .
ان
الاشتراكيين هم أكثر الناس التزاما للمنهج العلمي في بناء الحياة ، أو المفروض أن
يكونوا كذلك . واذا كان المنهج العلمي لا يحتمل الخجل أو الحياء أو الوهم ، فان
بناء الحياة الاشتراكية لا يحتمل أيا من هذه . وبناء الحياة الاشتراكية في الوطن
العربي يقتضي ، طبقا للمنجزات العلمية أن تخضع كافة الإمكانيات الطبيعية والبشرية
لخطة اقتصادية واحدة تستهدف الحصول على أقصى قدر من الإنتاج ، وتقسيم العمل بين
القوة البشرية على وجه يحقق للتنمية أقصى طاقة في اقل وقت ممكن باقل قدر من تكلفة
الإنتاج . ولم يعد من الممكن مجرد تصور امكان هذا في وطن تحكمه عشرات الحكومات
ومئات الوزراء وما لا حصر له من الخطط الاقتصادية المتناقضة المتعارضة المعادية
بعضها لبعض في كثير من الأوقات ، أو تبدد فيه الثروات التي لا تضبطها خطة على
الاطلاق بل متروكة – وهي ملك الشعب العربي – لأهواء الحاكمين . ان التنسيق
الاقتصادي خطوة ولكنه مصطدم في النهاية بتلك الاهواء . انه طريق مسدود . والوحدة
هي الطريق المفتوح الى الاشتراكية ، وان كانت بداية النضال من أجل الوحدة
الاشتراكية ، لا بد أن تكون – بحكم الواقع الممكن – في ظل التجزئة والتخلف .
تلك علاقة
الوحدة بالاشتراكية . وهي علاقة ذات تأثير متبادل . ولعل أظهر اثر للاشتراكية في
الوحدة أنها حددت نهائيا أسلوب تحقيق الوحدة والغاء التجزئة . اذ أصبح مفهوما أن
الوحدة العربية التي تتم ستكون اطارا سياسيا للتحول الاشتراكي أو لمزيد من بناء
الاشتراكية . وبهذا أصبحت مجرد الوحدة السياسية في ظل الاستعمار كما يحاولون في
الجنوب العربي ، أو في ظل الرجعية كما يتمنى بعضهم ، مرفوضة . كما أصبحت الوحدة التي
تتم بين حكومات رجعية بقصد صنع حاجز رجعي ضد المد الاشتراكي مرفوضة أيضا ، لأن
الوحدة والاشتراكية ملتحمان .
ولما كانت
الاشتراكية قضية الجماهير فقد أصبحت الوحدة أيضا قضية الجماهير . وأصبحت الجماهير
العاملة في الشعب العربي هي صاحبة المستقبل الوحدوي الاشتراكي واداة تحقيقه . وكما
انه لم يعد مقبولا – نتيجة لهذا الالتحام بين الوحدة والاشتراكية – أن يتستر بعض
الناس بالاشتراكية لتدعيم التجزئة ، لم يعد مقبولا أيضا أن يتستر البعض الاخر
بالوحدة لمحاربة الاشتراكية .
أما كيف
تحقق الجماهير الاشتراكية وحدتها القومية فتلك مشكلة أخرى ، لا فائدة في التصدي
لها ، الا بعد أن نتفق أولا على علاقة الوحدة بالاشتراكية .
فهل نحن
متفقون ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق