بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

حتى لا يقع الفأس في الرأس



حتى  لا يقع الفأس في الرأس .

الدكتور عصمت سيف الدولة .

النذير :


في يوم 19 نوفمبر 1985 نشرت جريدة " الشعب" التي يصدرها حزب العمل الاشتراكي خبرا يقول :" يتردد في الاوساط السياسية ان الرئيس مبارك سيصدر قريبا قرارا بتعيين المشير ابو غزالة نائبا لرئيس الجمهورية … تردد ذلك بقوة في الاونة الاخيرة ، كما انه معروف بان هناك جهات كثيرة كانت تتعجل الرئيس مبارك  لاصدار قرار بتعيين نائب له ضمانا للاستقرار السياسي واكد الرئيس اقتناعه بأهمية ذلك ، بعد الاطمئنان الى اختيار الشخص المناسب في الوقت الملائم ".
  لست مقتنعا بأن الرئيس مبارك يتجه الى تعيين المشير ابو غزالة نائبا لرئيس الجمهورية ، ولدي اسباب مقنعة بأن لو عرض المنصب على المشير ابو غزالة لاعتذر عن  عدم قبوله ، ذلك لانني اعتقد ان الرئيس والمشير كليهما اكثر ذكاء واكثر حرصا على مستقبل مصر من ان يعرضاها لمخاطر جسيمة ممتدة فيما لو تم ذلك .  ولان المسالة في نظري اخطر بكثير مما يتصور كثيرون ، بل هي اخطر من كل المخاطر الخارجية والداخلية المحيطة بمصر . فاني انتهز فرصة نشر هذا الخبر  لاعرض على كل من يهمه الامر.. وعلى الراي العام اولا واخيرا  الحقيقة الدستورية والواقعية والسياسية لمسألة " نائب رئيس الجمهورية  ، والمخاطر الجسيمة التي ينذر بها الاتجاه الى اختيار قائد القوات المسلحة ، او أي قائد عسكري، ليكون نائبا لرئيس الجمهورية .

المخاطر :

 لهذا الخطر وجهان . احدهما عام والاخر خاص . اما الخطر العام فهو ان تتحول رئاسة الجمهورية الى شبه وراثية كما كان العهد بدولة الامويين حيث يأخذ كل خليفة البيعة ، بالرضا او بغيره لمن يريد ان يخلفه سواء من ولده او من اخوته او من غيرهم . والتاريخ يتحدث بدون استثناء عن ان هذا الاسلوب قد حول الخلافة ( الجمهورية ) الى ملك ( ملكية ) عن طريق التوريث وليس الوراثة بالضرورة . ولست اعتقد ان احدا في مصر يريد العودة الى الملكية صراحة أو ضمنا ، دستوريا او واقعيا .
اما الخطر الخاص فهو ان يلي الرئاسة بعد الرئيس حسني مبارك بالذات قائد بالقوات المسلحة  او احد قادتها العاملين . ادراك هذا الخطر هو من بين الاسباب التي يقوم عليها اعتقادنا بان اتجاه الرئيس حسني مبارك الى تعيين المشير ابو غزالة نائبا لرئاسة الجمهورية غير متوقع من الرئيس وغير مقبول من المشير . ذلك لانه منذ عام 1952 تولى رئاسة الدولة اربعة من العسكريين العاملين فى القوات المسلحة . الرئيس محمد نجيب والرئيس جمال عبد الناصر والرئيس انور السادات ـ بصرف النظر هنا عن ردته عن الثورة ـ والرئيس حسني مبارك ، وذلك على مدى ثلاثين عاما متصلة .. وقد تولاها كل منهم لاسباب تاريخية خاصة به وليس لانه قائد عسكري . اما الرؤساء الثلاثة الاول ، فقد كانوا من بين قادة ثورة 23 يوليو التي قادها تنظيم الضباط الاحرار . والواقع التاريخي انه لم يثوروا لانهم ضباط ، او بصفتهم ضباطا ، بل بالعكس ، لقد ثاروا على صفاتهم كضباط لدى " جلالة الملك " واسقطوا ولاءهم العسكري من اجل ولائهم السياسي للشعب . لقد كانوا ساسة عاملين منظمين مناضلين منذ عالم 1942 ولم تكن القوات المسلحة الا ميدانا لنشاطهم السياسي وقادة الثورة ايا كانت مواقعهم قبل نجاحها يتولون عادة سلطة الحكم ليضعوا المبادئ  التى ثاروا من اجلها موضع التنفيذ او ليضمنوا وضعها موضع التنفيذ .. ولقد اتجه جمال عبد  الناصر بالذات  منذ بداية توليه الى اعادة القوات المسلحة الى وظيفتها الدفاعية باسلوب لا يزال محل تعليق حول ما اذا كان هو الاسلوب المناسب الوحيد ، اعني ابعاد السياسين من الضباط الى مواقع مدنية فى وزارة الخارجية ( وهو انفاء الى الخارج)  او الى المؤسسات الحكومية ، حتى لا تتكرر تجربة كانت لها ظروفها التاريخية غير القابلة للتكرار . اما الرئيس حسنى مبارك  فبالاضافة الى انه كان قد ترك موقعه القيادي في القوات المسلحة ، الى منصب مدني هو نائب رئيس الجمهورية ، فان اختياره للنيابة او للرئاسة كان جريا على تقاليد عالمية اخذت بها دول لا تسمح تقاليدها حتى ان يتولى عسكري وزارة الدفاع . مقتضى هذه التقاليد ان تكرم القوات المسلحة المنتصرة باختيار احد قادتها المبرزين لتولي رئاسة الدولة لفترة تعبيرا عن شكر الشعب وعرفانه بتضحيات جنده وضباطه الابطال هكذا اختارت فرنسا دي جول رئيسا ، وهكذا اختارت الولايات المتحدة الامريكية ايزنهاور رئيسا ، بعد انتصار الدولتين تحت قيادة الرجلين العسكريين في الحرب العالمية الثانية … وهكذا كان اختيار الرئيس حسني مبارك نائبا ثم رئيسا تكريما للقوات المسلحة المصرية وبطولاتها في حرب 1973 .
هذه  الظروف التاريخية الخاصة غائبة عن الوعي العام وان كان كثيرون يعرفونها ويذكرونها ، انما الشائع في الوعي العام خاصة لدى الجيل الجديد من مواليد ما بعد 1952 او قبيلها ان مصر يحكمها " العسكريين ".. وهم يتوقعون ان يكون نائب رئيس الجمهورية عسكريا ، ليكون خليفة حسني مبارك في الرئاسة عسكريا .. لست اعرف ما يثيره هذا التوقع من مشاعر لدى الكافة . ولكن  اخشى ما اخشاه ان يسلموا  به ،  فان مصر حينئذ ستتحول الى مثل جمهوريات امريكا اللاتينية وتعاني في المستقبل القريب او البعيد ماعانته .  وتلغى الغاءً واقعيا ارادة الشعب في اختيار حكامه ، ويصبح الاستفتاء تغطية شكلية ، وتبقى الديموقراطية غائبة حتى عن امل الشعب في المستقبل .  واليوم معنا حسني مبارك وابو غزالة وغدا وبعد غد لا ندري من يكون . انما الذي ندريه انه اذ يستقر في الوعي العام ان الكلية الحربية هي باب اول الطريق الى رئاسة الدولة ، لن يكون الراغبين في الانتساب اليها مقصورين على ضباطنا الذين عرفناهم وطنية وبطولة وانكار ذات واستشهاد بل ستزاحمهم فيها قلة من المغامرين .
لا بد اذن ، وفي هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا ، من الحيلولة بأي ثمن دون ان تتحول السوابق ذات الظروف التاريخية الخاصة الى تقليد عام  يحتكر فيه العسكريين ، او غير العسكريين من الفئات المتميزة بوظائفها او مؤهلاتها ، رئاسة الدولة والحكم . ان هذا الاحتكار استبعاد للشعب صاحب الحق في ان يختار من يشاء لتولي وظائفه العامة ومن بينها وظائف الحكم والرئاسة .
 ان هذا يعني تماما ان ليس مرجع الخطر اختيار احد العسكريين للرئاسة . انما مرجعه ان ياتي هذا الاختيار بعد اربعة رؤساء من العسكريين فيتحول الى تقليد دستوري بدلا من احكام الدستور . والواقع انه في مصر ، وفي غير مصر من دول الارض، لا يشترط فيمن يتولى رئاسة الدولة او الحكم مؤهل خاص . بل لعل الكثيرين لا يعرفون انه لا يشترط فيهم حتى القراءة والكتابة . يعرفون هذا الذين ما يزالون يذكرون الحوار الدستورى الذى ثار حينما اختارت وزارة الوفد الدكتور طه حسين وزيرا للمعارف . ولهذا حكمة مصدرها خبرة الشعوب . ان الدولة ليست جيشا لتحتاج الى خبرة قادة الجيوش . وليست مؤسسة  بناء او صناعة او مقاولات لتحتاج الى خبرة المهندسين . وليست محكمة الى خبرة قانونيين . وليست مؤسسة استيراد وتصدير لتحتاج الى خبرة سماسرة . الدولة مؤسسة شعبية فهي في حاجة الى خبرة التعايش مع الشعب واحترامه وكيفية التعامل معه والولاء لصالحه ، أي انها فى حاجة الى خبرة " سياسية " والسياسة هي ادارة الدولة ، وليست اية مهنة او صنعة اخرى . وبالتالى فان احتكار اية فئة او طائفة للحكم بحكم انها تجيد القتال او تجيد البناء او تجيد الصناعة او تجيد التجارة او متخصصة اكاديميا في الطب او الاجتماع او القانون ، هو استيلاء على الدولة دون الشعب صاحبها . فلا بد اذا ما جاءت الظروف بنمط من التكرار من الانتباه الى خطر أن يتحول التكرار الى احتكار ، واذا كانت الدولة قد انتهت حفاظا على المستقبل وليس شكا فى استقامة احد ، ان تحرم على شاغلي  بعض الوظائف  العامة ، ان يمارسوا بعد تركها عملا يتصل بما كانوا قائمين على ادائه الا  بعد سنين ، فاولى  ان يحرم على شاغلي الوظائف السيادية ، ان يرشحوا انفسهم ، لرئاسة الدولة  الا بعد سنين من ترك وظائفهم ، فان لم تكن ثمة وسيلة  دستورية او قانونية لمنعهم فاولى بهم ان يمتنعوا فبذلك يردون عن مستقبل مصر مخاطر لا يعلم مداها الا الله ..


القاهرة فى 23 نوفمبر 1985 .

ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق