الديمقراطية والوحدة العربية .
د. عصمت سيف
الدولة .
مدخل عن الحدود والقيود .
1- إن الحديث عن «الديمقراطية والوحدة العربية» ليس حديثا عن كل من الديمقراطية والوحدة العربية ، بل هو حديث
عن كل منهما وعن العلاقة بينهما ، وهذا موضوع ثالث . ثم إن الحديث عن الديمقراطية والوحدة العربية
، والعلاقة بينهما في نطاق العنوان الشامل : «أزمة الديمقراطية في الوطن العربي»
يمد الحديث ـ حتى يكون قابلا للفهم ـ إلى موضوع رابع هو أزمة الديمقراطية في الوطن العربي . ولقد
كان هذا قمينا بأن يفسح للحديث مجالات واسعة لولا أنه قد جاء في الدعوة إليه
«توجيه» يعرّف بمضمون الحديث قبل أن يحدث . يقول التوجيه : «بحث في علاقة
الديمقراطية (حضورا وغيابا) بمسيرة التضامن العربي والوحدة العربية والقدرة
العربية على الاستجابة الفعالة للمخاطر والتحديات التي تحيط بالوطن العربي . كما يتعرض البحث لبعض
المقولات عن ضرورة الوسائل الديمقراطية ، والمحتوى الديمقراطي لأي عمل عربي توحيدي في المستقبل» فضاقت مجالات الحديث بعد أن
كانت قد فرجت وكاد التوجيه أن يكون تلقينا .
يضاف إلى هذا أن كلمات مثل «الديمقراطية» و«الدولة»
و«الوحدة» و«الأزمة» و«التضامن» و«القدرة» و«الاستجابة» و«الفعالة» و«التحديات»...
الخ ، ليست ذات دلالات قاطعة للخلاف أو مسلمة . ويضاف إليه أيضا أن أكثر المفاهيم التي تقع في نطاق
الحديث عن الديمقراطية والوحدة العربية - حتى يكون قابلا للفهم - مثل «مفاهيم
الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث» و«تطور مفاهيم الديمقراطية في الفكر العربي
الحديث» و«أنظمة الحكم في الوطن العربي» و«الممارسة الديمقراطية في الأحزاب والمنظمات الجماهيرية» و«الآثار القطرية
لغياب الديمقراطية» و«العلاقة بين القومية والديمقراطية»... الخ ، عناوين لبحوث
يقوم على إعداد كل منها باحث جليل حاله كحالنا في الجهل بما يعده الآخرون
.
إذا أضيف هذا إلى ذلك إلى ما قبله حدّ من عدد الكلمات
وقيد من الوقت المتاح ، لا يلومن أحدا إذا فكر الأخير في الحدود فتعثر فكره في القيود فغاب أو اعتذر . وإذا تحولت
البحوث إلى أقاويل مكررة وتحول الحوار إلى مناظرة ، وخرجنا من ندوة يرجى من ورائها
الاتفاق أكثر خلافا مما كنا حين دخلناها .
2- لم أعتذر عن عدم المشاركة والحديث فلست معتذرا عما قد
أجاوز به بعض الحدود ، وأتحرر به من بعض القيود لمجرد أن يكون حديثي قابلا للفهم لا أكثر.
أولا : عـن الديمقراطيــــة :
1- ما تزال البداية التقليدية في الحديث عن الديمقراطية هي تعريفها آنا بأنها حكم
الشعب ، وآنا بأنها حكم الشعب بالشعب ، وآنا بأنها حكم الشعب بالشعب لمصلحة الشعب .
والواقع أن تلك التعاريف تعبر عن مراحل تطور مفهوم الديمقراطية .
2- ففي الأصل كان يقال إن الديمقراطية هي «حكم الشعب» ترجمة لأصلها الإغريقي . في هذا
التعريف كان الشعب هو الفاعل ، أي هو الذي يحكم نفسه حكما مباشرا بأن يجتمع
المواطنون ويشتركون في مناقشة مشكلات مجتمعهم ، ويتخذون القرارات اللازمة لحل تلك
المشكلات لتكون بعد هذا ملزمة للكافة في سلوكهم فتتحول إلى واقع . كان هذا النظام سائدا في عصر
الحضارة الإغريقية ولم يكن مقصورا على بلاد الإغريق . فكما كان مطبقا
في أثينا الإغريقية كان مطبقا في ايطاليا وفي أسيا الصغرى وفي جنوب فرنسا حيث
اليوم ، نيس ومرسيليا وعلى الشاطئ الشرقي لشبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا) وفي صقلية .
بل طبق في مصر الفرعونية وفي عهد البطالمة وتحت حكم الرومان من بعدهم . فقد أنشأ
بسماتيك ، فرعون مصر(من الأسرة السادسة والعشرين 663 - 525 ق م) في دلتا النيل «مدينة» سماها «نقراطيس» وأنشأ بطليموس الأول
في صعيد مصر، قرب قنا ، «مدينة» حملت اسمه «بطليموس» وأنشأ الإمبراطور الروماني هادريان الذي حكم مصر عام 130 بعد الميلاد
«مدينة» أخرى سماها «أنتيموبوليس» (1) .
يطلق الآن على هذا النظام
اسم «الديمقراطية المباشرة» ، ويقال عادة إن مبرر نشوئه هو
ملاءمته لمجتمع صغير محدود في المكان فيما يسمى سياسيا «مدينة» (تسمى حاضرة من حيث
هي محل إقامة) ، حيث يستطيع المواطنون الاجتماع معا في مكان واحد . وهو قول لا
يبرره التاريخ فمع أن « المدينة» كانت هي المؤسسة السياسية في عهد
الإغريق ، التي تقابل الدولة الآن ، إلا أن الديمقراطية المباشرة لم تكن مطبقة في
كل المدن . كانت في أثينا ولم تكن في إسبرطة مثلا . وعندما صنف أرسطو الإغريقي نظم الحكم تصنيفه المعروف إلى حكم الفرد (الملكي) وحكم الصفوة (الأرستقراطي)
وحكم الشعب (الديمقراطي) كان يصنفها إلى أنماط من الحكم قابلة جميعها للوجود داخل المدن تبعا لظروف كل مدينة (2) . إنما المبرر المميز
للديمقراطية بمعنى حكم الشعب كان قيامها على أساس من الحرية
والاشتراك في ملكية المجتمع .
أما عن الحرية فتعني أولا تحرر المجتمع نفسه من أية تبعية لقوة من
خارج «المدينة» وهو ما يعبر عنه الآن بالاستقلال . وقد كان هذا الاستقلال يبلغ في بعض المدن حد القطيعة أو المقاطعة . ومثالها
استقلال مدينة نقراطيس في دلتا النيل ومدينة بطليموس في صعيد
مصر عن مصر ذاتها إلى درجة تحريم زواج المواطنين فيهما من مصريات (3) . كما تعني الحرية
ـ ثانيا ـ حرية المواطنين داخل المدينة ـ فلم يكن حق الاشتراك في مناقشة مشكلات
المدينة واتخاذ القرارات اللازمة لحلها مخولا إلا «للمواطنين» . ولم يكن حق
"المواطنة" معترفا به إلا "للأحرار" من السكان . وهكذا نجد
أنه في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد كان عدد من لهم حق حضور الاجتماعات
الشعبية في أثينا نحو 43000 بينما كان من بين سكانها 115000 من الرقيق المستعبدين لأنهم لم يكونوا
أحرارا.
أما عن الاشتراك في ملكية المجتمع (المدينة) فآيته أن حق الاشتراك في اجتماعات
المجالس الشعبية ومناقشة مشكلات المدينة واتخاذ القرارات اللازمة لحلها لم يكن
مخولا إلا لمن له أهلية التملك أو للملاك بصفة عامة . فكان من المستبعدين كل النساء وكل
العمال وكل المستوطنين الغرباء (كان عددهم في التاريخ الذي أشرنا إليه نحو 28000) ،
وعدد كبير من الذين كانوا يمارسون التجارة (4) .
3 - فكانت الديمقراطية بمعنى حكم الشعب
تمثل بالنسبة إلى المواطن في المدينة حريته الشخصية من ناحية وحقه في مجتمعه من
ناحية أخرى ولم تكن بالنسبة إليه مجرد "رخصة" للاجتماع بالمواطنين
و"فرصة" لإبداء الرأي فمن بين 43000 مواطن في أثينا لم يزد عدد الحاضرين في أي اجتماع عن ثلاثة آلاف (5) . ومع ذلك فإن
المواطنين جميعا كانوا يعتبرون الاعتداء على الديمقراطية اعتداء على حياتهم ذاتها .
وكانوا يعبرون عن هذه الصلة بالقسم الذي يفتتح به أول اشتراك في الاجتماع الشعبي .
كان كل مواطن يقسم على "أن أقاتل بالكلمة والرأي وباليد وبالفعل ، إذا استطعت
كل من يحاول قلب نظام الحكم الديمقراطي في أثينا ، فإن نجح الانقلاب
فأقسم أن أقتص من كل من إنحاز إلى الطغيان أو ساعد الطاغية . فإذا ما سبقني إلى
قتله مواطن غيري فأقسم على أن أشهد ببراءته أمام الآلهة على
أساس أنه إنما قتل عدوا للشعب وأن أبيع كل ممتلكات الطاغية القتيل وأعطي نصفها
لقاتله بدون مقابل . وإذا ما هلك مواطن وهو يقاتل أولئك الخونة أو يحاول قتلهم
فأقسم على أنني سأمجده كما سأمجد ذريته كما فعل الشعب مع هارموديوس وأريستوجيتون وذريتهما . كما أقسم على
أن ألغي وأبطل كل يمين ولاء صدر في أثينا للقوات المسلحة ولغيرها من أجل مناصرة الاستبداد بالشعب الأثيني" (6) .
4 - في
مرحلة تاريخية لاحقة ، بدأت في القرن السابع عشر وما تزال قائمة لم تنقض تماما ،
أصبحت الديمقراطية هي "حكم الشعب بالشعب" . ونلاحظ هنا أن الشعب قد تحول
من حاكم إلى محكوم . ولكن الحاكمين يحكمونه "به" أي يستمدون سلطة حكمهم منه
كما يقولون . وكان ذلك تعبيرا دقيقا عن الديمقراطية النيابية التي يسمونها
"غير مباشرة" ويسميها بعض علماء النظم السياسة "الديمقراطية المحكومة" (7) .
فقد اندثرت المدن وانتهى عصر الرق وتلاشت الحضارة
الإغريقية في ظلمات القرون الوسطى وأصبح الحكم لمن يختاره الله اختيارا مباشرا عن
طريق الكنيسة (نظرية الحق الإلهي أو نظرية آباء الكنيسة) أو يوجه الناس بعنايته
ليكون حاكما لهم (نظرية العناية الإلهية) وأصبحت الأرض إقطاعيات وممالك وإمبراطوريات مملوكة للأمراء والملوك
والأباطرة ملكية خاصة بمن فيها وما فيها تشاركهم فيها وتنازعهم عليها الكنيسة .
وأصبح البشر "رعايا" بعد أن كانوا مواطنين . وما تزال كلمة
"رعية" في اللغات ذات الأصل اللاتيني تحمل نسبتها إلى "الخراف الضالة"
التي جاء السيد المسيح لرعايتها . واستمر هذا الوضع حتى نهاية عصر الإقطاع وبداية
عصر النهضة وصعود البورجوازية (يؤرخون لنهاية عصر الإقطاع بعام 1453 وهو العام
الذي فتح فيه المسلمون القسطنطينية وسقطت فيه الإمبراطورية البيزنطية وظهرت فيه المدرسة الفكرية المسماة
"الرشدية" في أوروبا نسبة إلى ابن رشد المفكر العربي الأندلسي المبشر
بمذهب العقلانية) (8) .
5 - والبرجوازية طبقة نشأت أساسا من التجار الجائلين
الذين ينتقلون من مكان إلى مكان يحملون بضاعتهم على أكتافهم أو على الدواب ويتجولون على أقدامهم
فأطلق عليهم لقب "المعفرة أقدامهم" (ما تزال المحاكم التجارية في انجلترا
تحمل هذا الاسم) ، حركتهم "جري" وراء الأرباح في أي مكان مجردين
من الشعور بالانتماء إلى أي مكان أو أي مجتمع . استطاعوا في النصف الأول من القرن
الثالث عشر أن "يشتروا" من البابا أنوسنت الرابع فتوى بإباحة الربا إذا كان الإقراض بفائدة من أجل
تمويل عمليات تجارية أو صناعية ، فاتسع نشاط تلك الطبقة وارتفع شأنها إذ أصبحت
رفاهية أوروبا متوقفة إلى حد كبير على النشاط التجاري . ومع تصاعد دورها الاقتصادي
تزايدت "الحقوق" التي حصلت عليها من أفراد الإقطاع . وهي حقوق لم يكن لها
مثيل من قبل وإنما اقتضتها العمليات التجارية وكسبها التجار لأنفسهم ثم لطبقتهم فيما بعد
.
كان أول ما تحتاج إليه التجارة هو حرية الانتقال فحصل التجار، في مقابل ثمن ، على
صكوك تعفيهم من الاستقرار في أية إقطاعية وتحصنهم ضد أي تعرض لهم . وكانت التجارة
تحتاج إلى أماكن آمنة تخزن فيها البضائع وتكون مراكز للتوزيع في أركان المدن أو
عند مفترق الطرق البرية أو على الأنهار فحصل التجار، في مقابل ثمن، على حق إنشاء
محطات تجارية وتحصينها والدفاع عنها عرفت باسم "الأبراج" (9) . وأخذوا منها اسمهم فكانوا
"برجوازية". ولما لم تكن تلك الطبقة منتجة ولا طرفا في علاقة الإنتاج
السائدة بين الإقطاعيين والفلاحين فقد أسميت أيضا "الطبقة
الوسطى". وجذبت المراكز التجارية إليها الحرفيين الذين كانوا يقومون
بالصناعات من أجل الاستهلاك فانتقلوا إليها وبدأت الصناعة من أجل البيع تجارة .
وحين كثر عدد المقيمين في تلك المراكز كان على الفلاحين في الإقطاعيات أن يزيدوا
من إنتاجهم الزراعي لمواجهة احتياجات الطبقة الجديدة فأصبحت الزراعة الأخرى من أجل البيع تجارة لا من أجل الاستهلاك فقط .
وفي التجارة يكون الربح هو منظم الإنتاج والتوزيع بصرف النظر عن حاجة البشر إليها .
وترتب على هذا زيادة الرقعة الزراعية فاستفاد أمراء الاقتطاع وأصبحوا يشجعون التجار على إنشاء المراكز التجارية
في إقطاعياتهم فاستغل التجار "الشطار" هذه الرغبة واشتروا "الاستقلال
الإداري" للمراكز التجارية ، التي أصبحت مدنا ، عن التبعية الإقطاعية وأصبحوا
يديرونها بأنفسهم ، فتحولت المدن والمراكز التجارية إلى "مناطق حرة".
وكانت التجارة في حاجة إلى قواعد تعامل ثابتة وواضحة ومحددة وإلى قضاة يفصلون في المنازعات في مواقع قريبة ، وإلى رجال يعرفون كيف تصاغ العقود وإجراءات
المطالبـــة بالديـــــــون واستيفائها ، ولم تكن قواعد العرف السائدة أو نظام الاحتكام
إلى السيد الإقطاعي تصلح لكل هذا فاستعارت الطبقة الجديدة القانون الروماني
العتيق وأنشأت الجامعات لتدريسه والمحاكم لتطبيقه والقضاة للفصل طبقا له والفقهاء
لشرعه والمحامين ليدافعوا به عنهم . وأصبح رجال القانون بجوار أمراء المال الجدد
مثل الفرسان بجوار الأمير الإقطاعي فاشترى لهم التجار من الملك فيليب
"الجميل" ملك فرنسا لقبا موازيا فأصبح من بينهم من يرسم بطقوس خاصة
"فارس القانون" أما الثمن فكان تمويلهم صراع الملك ضد البابا يونيفاس الثامن .
6 - غير أن ما كانت البرجوازية في حاجة إليه أكثر من أي
شيء أخر هو الحرية الفردية : حرية الإدارة والتعاقد والتملك والربح والتنافس بعيدا عن أي تدخل من أي سلطة . وإذا
كان لا بد من سلطة فلتكن في أضيق حدود . أو فلتكن وظيفتها - على وجه الدقة - المحافظة على الحرية الفردية وممارستها أي تكون
"شرطة" تحفظ الأمن في الخارج والداخل ثم تترك لكل واحد أن ينتقل إلى حيث يريد وأن يفعل ما يريد وأن يكون كل ذلك بأقل
"تكلفة".
ولم يكن وصول البرجوازية إلى هذا هينا فدونه ملوك عتاة محاربون أو متأهلون
كانوا يرددون مع لويس الرابع عشر: "الدولة هي أنا"، ومع لويس الخامس عشر
قوله : "إن حق إصدار القوانين التي نخضع لها ويحكم بها رعايانا هو حقنا
نحن بدون قيد وبدون شك". وقوله : "إن النظام العام كله ينبع مني ، وكل
حقوق ومصالح الأمة هي بالضرورة متحدة مع حقوقي ومصالحي وليس لها مكان إلا بين يدي". وكانت كتب
القانون العام في ظلهم تقول : "إن فرنسا دولة ملكية بأوسع معاني الكلمة وفيها يمثل الملك الأمة كلها. ولا يمثل أي شخص آخر،
في مواجهة الملك ، إلا شخصه
. إن الأمة ليست متجسدة في فرنسا بل هي متجسدة بأكملها في شخص
الملك " (10) . ومع ذلك فقد انتصرت البرجوازية .
7- ففي انجلترا حينما أراد الملك جان عديم الأرض أن
يكون جيشا من المرتزقة يحارب به فرنسا ثار النزاع بينه وبين الأشراف (لأنهم لا يريدون تمويل الحملة) ورجال الكنيسة (لأن
البابا أفتى بتحريم تمويل حرب تشن ضد رعاية الكنيسة) . وانتهى النزاع بأن فرضوا
عليه العهد الكبير ("الماغا كارتا"1215) الذي تضمن شروطا تحد من استبداد
الملوك . فبدأ ملوك انجلترا في التطلع إلى التحالف مع البرجوازية الناشئة
. وقد تم هذا عام 1254 م حين دعا الملك هنري الثالث
"ممثلين" لكل مدينة أو بندر، وهي مؤسسات البرجوازية ، للحضور والجلوس مع
ممثلي الأشراف ورجال الدين في "البرلمان". فألقيت في تربة التاريخ بذرة "ديمقراطية" ذات مفهوم خاص وغريب .
8- إذ في حين لم تكن ثمة صعوبة في أن يختار الملك من
يدعوه من الأشراف والنبلاء وكبار رجال الدين المعروفين بأشخاصهم
وامتيازاتهم ووظائفهم كانت دعوة ممثلين عن برجوازية المدن تتطلب
طريقة لاختيارهم . فكان الذين يختارونهم يصدرون لهم وكالات مكتوبة متضمنة شروط وحدود ما يقولونه وما يوافقون
عليه في البرلمان ويقدمون عنه حسابا إلى الذين اختاروهم . وكان هؤلاء يتحملون
مصروفات ذهاب وكلائهم إلى لندن وإقامتهم فيها وعودهم إليها ولما تكن الإقامة طويلة
. فلما انعقد البرلمان المسمى "النموذجي" عام 1295 وامتدت فترة انعقاده
سنوات ضاق الممولون بتكاليف مندوبهم فانقطعوا عن إمدادهم بنفقاتهم فانقطعت
التبعية القـــانونية (الوكالة) تبعا لانقطاع التبعية الاقتصادية ، وبالتالي لم
يعد المندوبون وكلاء عن الناخبين بل أصبحوا "ممثلين" وتحرروا من تقديم
حساب لمن يمثلونهم فأصبحوا مستقلين . ومنذئذ أصبح المرشحون للجلوس في البرلمان من البرجوازية هم القادرون أولا
على مواجهة نفقات الإقامة في لندن مددا طويلة ، وثانيا على شراء أصوات الناخبين
نقدا أو مصلحة والفوز في حلبة "المنافسة الحرة" قانون الحياة البرجوازي .
وفي عام 1688 حسم الأمر واستولت البرجوازية على السلطة بالثورة لسبب برجوازي تماما . يقول
هارولد لاسكي : "إن ملوك أسرة ستيوارت عرقلوا سبل التجارة بالاحتكارات التي
منحوها لأفراد بطانتهم كما سمحوا لانجلترا بأن تجري وراء عربة إسبانيا وبالتالي وراء عجلة فرنسا فكسدت التجارة وأدى تعاقب
الحروب إلى زيادة الضرائب فتحولت البرجوازية ضد الملوك مما أسفر في النهاية عن
الثورة" (11).
9- لم تختلف نهاية الأمر في فرنسا عنها في انجلترا . كان الاختلاف في البداية . في انجلترا
تحالفت البرجوازية مع الملوك حتى إذا ما صفت سلطة الأشراف والنبلاء ورجال الكنيسة انقضت
على الملوك واستولت على السلطة . أما في فرنسا فقد تحالفت مع الشعب ضد الملوك والأشراف ورجال الكنيسة حتى إذا
ما صفت سلطة الملوك انقضت على الشعب واستولت على السلطة . وفي الحالتين
انتهى الأمر إلى سيادة "الديمقراطية النيابية" . فما
هو نظامها وإلى أي حد هي ديمقراطية ؟
10- كما يفعل كثير من "المثقفين" حين يبيعون
عقولهم للحاكمين كان جون لوك فيلسوف الديمقراطية النيابية طبيبا خاصا ثم
"تابعا" لسير أنطوني آشلي حتى آخر حياته . وآشلي هو قائد معركة البرجوازية ضد الملك ورائد حزب الأحرار. فلما انتصرت
الثورة عام 1688 و"اطمأن" لوك ذهب يلفق من محتويات كتاب صدر عام
1270 لعبقري فرنسي مجهول اسمه جان دي مونج (12) ومن محتويات كتاب آخر صدر عام 1603
لواحد من أتباع مارتن لوثر اسمه الثوسيوس (13) نظرية كاملة لتبرير الواقع
البرجوازي المنتصر ضمنها كتابه الذي نشر عام 1690 تحت عنوان : رسالتان في الحكم وكسب به لقب مؤسس عهد النهضة والتنوير في أروبا .
هذه النظرية سينقلها الى فرنسا ويروج لها شارل دي
مونتسيكو المحامي الذي ورث ثروة طائلة عن زوجته وورث لقب "بارون" عن عمه
فتفرغ للكتابة والتأليف وكان أول أعماله الإشادة بعدالة نظام الحكم في الإسلام مقارنة بنظام فرنسا في قصة نشرها
عام 1721 بعنوان رسائل فارسية . ثم سافر الى انجلترا وقام فيها فترة حضر خلالها جلسات
البرلمان
الانجليزي ثم عاد يحمل كل مؤلفات الانجليز السياسية وعلى رأسها مؤلفات جون لوك .
وأنشأ من مادتها كتابا صدر عام 1748 تحت عنوان روح القوانين فاشتهر به وأصبح
فيلسوف الثورة الفرنسية التي أشعلتها وقادتها جمعية الطوائف العامة التي دعاها الملك لويس السادس عشر واجتمعت في 5 أيار/ مايو 1789.
ويقول عنها فقهاء القانون العام الفرنسيون «إنها لم تكن في الواقع لا شعبية ولا
ديمقراطية ، بل كانت برجوازية» (14) أو «أنها كانت تحت سيطرة الأقلية الأرستقراطية البرجوازية» (15).
ما هو الجوهري في هذه النظرية ؟
11- ننقل عما قاله لوك في الرسالة الثانية (16) يقول :
«إن حرية الإنسان الطبيعية هي ألا يكون خاضعا لأية قوة عليا على الأرض وألا يقع
تحت إرادة أي إنسان أو سلطة تشريعية ولا يكون لديه سوى قانون الطبيعة قاعدة يعمل بها» (الفصل الرابع فقرة
22) بهذا يرسي حجر الأساس في مفهوم الديمقراطية البرجوازية الذي سيردده كل
البرجوازيين منذ لوك حتى اليوم وهو أن الأصل هو الإنسان الفرد المتمتع بحرية فردية مطلقة خارج المجتمع وفي
مواجهته. ولكن « رغم كل المميزات التي يتمتع بها الجنس البشري في حالة الطبيعة سرعان ما ينساق الناس إلى تكوين المجتمعات» (الفصل
التاسع فقرة 126 ) فنفهم أن الحريات الفردية سابقة على تكوين المجتمعات وأن
الانتماء إلى المجتمع ذاته كان ممارسة لهذه الحرية التي لن يلبث فيلسوف الديمقراطية البرجوازية أن
يسلبها منه ذلك «لأن المجتمع السياسي لا يمكن أن يقوم أو يقيض له البقاء إلا إذا كان لديه في ذاته سلطة المحافظة على الملكية
ولهذا الغرض تكون لديه سلطة عقاب الجرائم التي يرتكبها أي فرد في المجتمع فهنا - وهنا فقط - يوجد المجتمع السياسي حيث تنازل
كل فرد فيه عن حريته الطبيعية وسلمها للمجتمع» (الفصل الرابع فقرة 78).
الفرد هنا لم يعد حرا، بل أصبح مصدر الحرية التي انتقلت
منه إلى المجتمع فنعرف الدلالة التاريخية لمقولة الشعب مصدر السلطات ثم ننتظر
لنعرف إلى من آلت تلك السلطات وما مضمونها. يقول لوك «أن السلطة العامة للمجتمع كله فوق كل إنسان يضمه هذا المجتمع ،
والغرض الرئيسي من هذه السلطة هو سن القوانين لكل من يعيشون في ظله وهي قوانين يجب علينا في هذه الحالة أن نطيعها» (هامش الفقرة
78) . نتأمل .. الحريات الفردية انتقلت من مصدرها إلى المجتمع فأصبحت سلطة عامة ،
وعلى كل الأفراد أن يخضعوا لها فيما انتقلت من مصدرها إلى المجتمع من أجله وهو
إصدار القوانين . لم يبق إلا أن يقول إن السلطة التي انتقلت من الأفراد إلى المجتمع لم تستقر فيه ، بل انتقلت إلى البرلمان .
ولقد قالها : «إن سلطة التشريع هي التي لها الحق في تحديد كيفية استعمال قوة المجتمع للمحافظة عليه وعلى أعضائه» (الفصل
الثاني عشر فقرة 143).
كيف تتكون سلطة التشريع هذه التي آلت السلطة بعد انتقالها من
الأفراد إلى المجتمع إليها ؟... ليس من الشعب بل من «ممثلين يختارهم الشعب
في كل مرة ويعودون بعدها إلى حالة الرعايا العاديين ولا يكون لهم نصيب في الدورة التشريعية إلا بعد اختيار جديد فإن سلطة الاختيار
هذه يجب أن يمارسها الشعب في أوقات محددة أو عندما يدعى إلى ذلك» (الفصل الثالث
عشر فقرة 154).
انتهت السلطة إلى «النواب» فكيف تكون العلاقة بينهم
وبين السلطة التنفيذية (الملك ووزارته) من ناحية وبينهم وبين الشعب من
ناحية أخرى . يجيب جون لوك : «وقد يثور هنا سؤال ماذا يحدث إذا كانت السلطة التنفيذية وهي تملك قوة
المجتمع تستعمل هذه القوة للحيلولة دون اجتماع الهيئة التشريعية ومنعها من العمل ....
وأجيب : إن هذا بمثابة إعلان حرب على الشعب الذي يصبح له في هذه الحالة إقامة
هيئته التشريعية من جديد لممارسته سلطاتها» (الفصل الثالث عشر فقرة
155) تستحق هذه الإجابة الوقوف عندها . ففي المفهوم البرجوازي للديمقراطية يبقى الاعتراف
بأن الشعب مصدر السلطات كسلاح تشهره البرجوازية ضد السلطة التنفيذية . لهذا لا
يقول لوك أن الحيلولة دون اجتماع الهيئة التشريعية بمثابة إعلان حرب على هذه الهيئة بل يقول أنها بمثابة حرب
على الشعب ، الذي عليه أن يخوض هذه الحرب لا لاسترداد السلطة لنفسه بل لاستردادها للهيئة التشريعية ويبقى - حتى بعد
الحرب - مجردا منها .
يتضح هذا تماما من إجابة لوك عن السؤال عن الحل
«الديمقراطي» إذا ما حدث أن استبدت الهيئة التشريعية نفسها بالشعب نفسه . هل يعتبر هذا أيضا
بمثابة حرب ضد الشعب ، على الشعب أن يخوضها ضد المعتدين ؟ لا . يقول : «لا يمكن أن
يكون هناك حكم بين السلطة التشريعية والشعب إذا حاولت ( السلطة ) التشريعية بعد أن تستولي على السلطة في يدها أن تعمل على استبعاده أو دماره فليس أمام
الشعب من علاج في هذه الحالة كما في الحالات التي لا يجد فيها قاضيا يلجأ إليه في
الأرض ، سوى الالتجاء إلى السماء» (الفصل الرابع عشر فقرة 168).
12- هذا هو جوهر الديمقراطية البرجوازية ، أو النيابية ،
أو الليبرالية فكلها أسماء لمسمّى واحد . لم يضف إليه من بعد لوك شيئا يذكر إلا
إتقان صياغتها وتقنينها وهو دور لعبه الفرنسيون ببراعة .
فقد كان الإبقاء على الشعب طرفا في العلاقة بالسلطة
يبقيه صاحب دور في الحكم حتى لو كان دورا راكدا فهو يمثل مخاطر كامنة ضد الاستبداد
البرجوازي فاستغلت البرجوازية التعبير المجرد الغامض الذي كان وسيطا في انتقال السلطة من الشعب إلى ممثلي
البرجوازية ونعني به المجتمع . وكان عليه أن يحولوه إلى «شخص» - طرف ثالث - وأن
يسندوا إليه السلطة النهائية فاخترعوا تعبير «السيادة للأمة» ورتبوا
عليه أن النواب نواب الأمة يمثلونها ككل وليسوا نوابا عن الشعب الذي أنتخبهم . ثم
رتبوا عليه أن السلطة هي ممارسة للسيادة التي للأمة وللأفراد الحرية ولكن السيادة للأمة (مفهوم الأمة هنا مفهوم سياسي لا علاقة له
بمفهوم الأمة حين تطلق على مجتمع معين ذي خصائص متميزة) .
فنجد أن المادة الأولى من القسم الثالث من الدستور
الذي أعلنته الثورة الفرنسية عام 1789 تنص على أن «السيادة واحدة ، غير قابلة
للتجزئة أو الانتقال ولا تكتسب بالتقادم وهي تخص الأمة وليس لأي جزء من الشعب أو
أي فرد أن يدعي ممارستها» . ثم أضافت المادة الثانية «إن الأمة التي تنبع منها كل السلطات لا يمكن أن تمارسها إلا من خلال ممثلين».
فيقول موريس ديفرجيه «إن الجمعية قد «اخترعت» نظرية
في التمثيل النيابي قائمة على أن السيادة لا تخص المواطنين منفردين ولكن تخصهم
كجماعة باعتبارهم حقيقة متميزة ومنفصلة عن الأشخاص وأن نظرية السيادة الوطنية هذه قد ابتكرتها
البرجوازية الليبرالية التي كان هدفها التركيز على النيابة في مواجهة الأرستقراطية
من جهة وضد الشعب من جهة أخرى فاستبعدت بها المساهمة الشعبية في
الحكم» (17).
ويصف كاريه دي ميلبرغ هذا التناقض بقوله «إنه نتيجة التواء
ظاهر انقلبت سيادة الإرادة العامة ضد الذي تصدر عنه حتى تحل السيادة البرلمانية
محل السيادة الشعبية وتسلب القرارات التشريعية من نسبتها إلى المواطنين . وهو
تناقضٌ أكثر وضوحاً من أن نفترض أن المؤسسين الدستوريين أثناء الثورة لم يفطنوا إليه ولكن أولئك
لم يكونوا واقعين تماماً تحت تأثير الأيديولوجيات المجردة التي نلومهم عليها عادةً
بل كانوا يريدون الوصول إلى نتائج عملية فأقاموا النظام النيابي مقام حكم الشعب المحكوم بالسكوت»(18) .
13- وهكذا نعرف أن الديمقراطية النيابية هي نظام
حكم الصفوة أو الأقلية ومصدر حقها في الحكم أنها ممتازة ثروة وذكاء ومرتبطة ارتباطا
حقيقيا بالمصالح الوطنية ، وكل هذا يجعلها بمنأى عن كل تبعية "مهينة" للإرادة
الشعبية (19) . ويقول بوردو أيضا أن حركة تحول السلطة من الملك إلى الشعب قد أوقفت
في مرحلة معينة حيث تدخلت قوة ثالثة هي البرلمان ، واستولى عليها لنفسه
، وأن ذلك هو مميز النظام النيابي فهو نظام "ديمقراطية
محكومة". ويقول الفقيه الإنجليزي بروغس : "إن مجلس العموم هو السيد
الأعلى فوق الملك وفوق اللوردات وفوق الشعب"(20). (ذكره رد سلوب - النظام
البرلماني) . ويقول غاريغولا غرانج الفقيه الفرنسي المعاصر: "لم يكن مبدأ
النظام النيابي في حقيقته إلا مبدأ سيادة البرلمان وهي سيادة تواجه سيادة الشعب نفسه الذي أبعد بعناية وعناد عن ممارسة
سيادته"(21) .
والواقع أن مفكري الليبرالية وديمقراطيتها لم يخجلوا أبدا من الاعتراف بأنهم قد
سلبوا الشعب حقه في الاشتراك في الحكم . ففي إنجلترا يقول بلاكستون إن بعض أصحاب
النظريات الآخرين قد ذهبوا إلى أن للشعب دائما سلطة عليا تخوله حق إلغاء أو تغيير السلطة التشريعية إذا رأى أنها قد خانت الثقة التي وضعت
فيها ، ولكن مهما يكن نصيب هذا الرأي من الصحة على المستوى النظري فإننا لا نستطيع
الأخذ به في التطبيق ولا أن نوجد أية طريقة قانونية لوضعه موضع التنفيذ ... وعلى هذا نستطيع أن نؤكد أن سلطة
البرلمان ستبقى مطلقة وغير خاضعة للرقابة" (22) . أما في فرنسا فكان التعبير
أكثر صراحة وأكثر "فظاظة" أيضا . فهذا مونتسكيو فيلسوف الديمقراطية البرجوازية يقول : "إن هناك عيبا خطيرا
في الجمهوريات القديمة وهو أن الشعب كان له الحق في أن يتخذ قرارات إيجابية ويطلب القيام ببعض الأمور التنفيذية أيضا ، وهو ما لا طاقة
وكفاءة له به . ليس للشعب أن يتدخل في الحكم إلا بأن يختار ممثلين له وهو كاف إلى أقصى حد بالنسبة إليه ... لأن الطبيعة البخيلة في منح
المواهب لم تمنح إلا لشريحة قليلة من الناس رؤوسا قادرة على الحسابات
المعقدة التي يتضمنها التشريع
. وبالتالي فكما يلجأ المريض إلى الطبيب ، ويلجأ المتقاضي الى
محام يلجأ العدد الكبير من المواطنين في شئون الحكم الى من هم أكثر منهم مقدرة
وكفاءة" (23) . أما إيمانويل جوزيف سبيز عضو مجلس رئاسة الدولة في أول عهد نابليون فيقول : "إن
أغلبية مواطنينا لا تتوافر لهم من المعرفة أو الوقت ما يلزم ليريدوا أن يقرروا
بأنفسهم في المسائل العامة وبالتالي فإن رأيهم هو أن ينيبوا عنهم من هم أقدر منهم
بكثير في اتخاذ القرارات" (24) . وهو القائل أيضا : "إن الديمقراطية
الخالصة (بمعنى حكم الشعب نفسه) ديمقراطية وحشية "(25) .
14- ولقد تفنن الليبراليون في ابتكار الأساليب التي تنظم ممارسة سلطة البرجوازية فوق الشعب ،
وبعيدا عنه ، وفيما بينهم . وكان مما ابتكروه
مبدأ فصل السلطات ، الذي يحد من تدخل السلطة التنفيذية في
شؤون الأفراد أو يحصر تدخلها في أضيق نطاق . إبقاء على حجر الزاوية في النظام كله :
الحرية الفردية
. فالبرجوازيون أصحاب السلطة هم الذين يضعون القوانين (السلطة
التشريعية) وهم الذين يختارون قيادة السلطة التنفيذية (الحكومة) ويراقبونها (الرقابة البرلمانية)
ويسائلونها (المسؤولية الوزارية) ويعزلونها (سحب الثقة) فإن ثار خلاف حول تطبيق
القوانين يحتكم في أمره إلى سلطة ثالثة مستقلة (السلطة القضائية) ... ولكن كل هذا
يدور في القمة بعيدا عن الشعب المحكوم عليه بأن يخضع للقوانين وينفذ أوامر الحكومة ويحترم أحكام القضاء بدون مشاركة فعلية من
أي نوع لا في التشريع ولا في التنفيذ ولا في القضاء .
15- سلبت البرجوازية - إذن - حق الشعب في أن يشترك في اتخاذ
القرارات التي تتصل بحل مشكلات المجتمع وهو أحد ركني الديمقراطية ، بقي ركن المشاركة
في المجتمع ذاته . وهذا كانت قد سلبته منذ أطلقت حرية التملك الفردي من كل قيد
وجعلت كل ما يتضمنه المجتمع من إمكانات مباحا لمن يستطيع أن يستولى عليه لنفسه في سباق
"المنافسة الحرة". على هذا الأساس قام النظام الاقتصادي البرجوازي
المسمى "الرأسمالية" الذي أدى ، ويؤدي ، إلى أن يتملك أفراد من الشعب كل المجتمع فرادى وليس شركاء ، ويجرد باقي أفراد
الشعب من أي مضمون عيني لعلاقة انتمائهم إلى الوطن المشترك . هذا من ناحية ، ومن
ناحية أخرى ، أدى ويؤدي ، إلى انعدام المساواة بين الناس من حيث هم بشر، بأن يضيف
إلى قيمة ، وقوة ، ووزن كل فرد ما يملكه كل فرد من قوة اقتصادية ، ثم يطلقهم في حلبة
المنافسة الحرة متساوين في الفرص ـ ربما ـ ولكن غير متساوين في المقدرة الفعلية
على كسب تلك الفرص فأصبح الفوز مضمونا ـ مقدما ـ لمن هو أكثر مالا.
يقول موريس ديفرجيه أن البرجوازية قد أقامت نظاما للقيم على أساس الثروة ولكنه في هذه
المرة صريح في أن المال هو مصدر القوة وليس مميزا لها فقط . لقد كانت الأرستقراطية
البائدة تعشق الثروة ولكنها لم تتفاخر بها علنا على الأقل . أما البرجوازية
فتتباهى بوقاحة بأن المال هو كل شيء ولا تكف عن تمجيده(26). ويقول شومبيتر:"ارتقت
البرجوازية التجارية والصناعية على أنقاض السادة الإقطاعيين
بفضل مهارتها في شؤون المال . وقد صنع المجتمع البرجوازي في شكل اقتصادي محصن .
وأرسيت أسسه وقامت عمده وبنى هيكله من مواد اقتصادية . أما البناء بمجموعه فهو
بناء حياة اقتصادية الخطأ فيها مالي والجزاء فيها جزاء مالي .
يمتاز فيها من يكسب ماليا ويخطئ فيها من يخسر ماليا"(27) . وفي عام
1840 عرض اقتراح على البرلمان الفرنسي بإلغاء أو تخفيض الشرط المالي لحق الانتخاب
وكان لمن يدفع ضريبة سنوية لا تقل عن 200 فرنك فعارض فرانسوا جيزو قطب
البرجوازية الفرنسية حينئذ . قيل له إن بقاء هذا الشرط سيبقي على احتكار الأغنياء
لحق الانتخاب ، قال :"اغتنوا إذن" فذهب مثلا لمفهوم الديمقراطية
البرجوازية الليبرالية.
16- وهكذا نرى كيف أن تعريف الديمقراطية بأنها حكم الشعب "بالشعب" ليس إلا تزييفا
برجوازيا للديمقراطية يقوض ركنيها المشاركة في المجتمع وإمكاناته المتاحة
والمشاركة في اتخاذ القرارات المتصلة بحل مشكلاته . لهذا لم يكن غريبا أنه بعد
قرون من التطبيق يندب الديمقراطية فقيه فرنسي معاصر فيقول :"إن
مأساة الديمقراطية كامنة في أنها لم تستطع أن تحقق الديمقراطية"(28) . ويكتفي
فقيه فرنسي معاصر أيضا "بأن تكون الديمقراطية مثلا أعلى يوجه ويقود البشر وليس نظاما
للحكم"(29) .
ثانيا: لماذا الديمقراطية ؟
17- لن نعرف ما هي الديمقراطية قبل أن نعرف
"لماذا" الديمقراطية . ذلك لأنه لا يمكن المفاضلة بين أساليب الممارسة الديمقراطية عامة أو بين نظام الديمقراطية المباشرة والنظام
النيابي على وجه خاص إلا بردها إلى أصل تقاس عليه ويكون مناط التفاضل بينها ما
تسفر عنه المقارنة من اقتراب أو ابتعاد عن الأصل (30) . وان لي جوابا
مختصرا وأحيل في التأصيل والتفصيل الى كتب متتابعة ومنشورة (31).
خلاصة هذا الجواب أن المدخل الصحيح الى الديمقراطية
هو "المجتمع" ذلك لأن الإنسان "الفرد" بدون مجتمع محال .
وعندما يولد أي إنسان يجد نفسه ثالث ثلاثة وعضوا في مجتمع صغير محدد الأشخاص والمكان والزمان من قبل أن يولد ويبقى هكذا بصرف
النظر عما إذا كان يعي انتمائه أم لا يعيه. وحينما يشب ويعي يدرك أن إنتمائه إلى
مجتمعه صلة موضوعية تاريخية غير متوقفة وجودا وعدما على إرادته. كما
يدرك أنه ليس "اجتماعيا يطبعه" كما كان يقول أصحاب نظريات العقود
الاجتماعية الوهمية في أوروبا من أول توماس هوبز حتى جون جاك روسو، بل انه اجتماعي
بالضرورة . ثم يدرك - ربما بعد وقت طويل وتجارب معقدة - أن ما يحول الأفراد الى مجتمع ليس
اجتماعهم معا في مكان واحد ولكن اشتراكهم معا في واقع موضوعي واحد يتوقف إشباع حاجاتهم المادية والفكرية والروحية على الإمكانات المتاحة
فيه المشتركة فيما بينهم وعلى عملهم المشترك في تحويل الميتافيزيقية القائمة على
أساس الإنسان الفرد خارج مجتمعه أو في مواجهته مثل الحريات الطبيعية والحقوق الفردية
، وحرية الإرادة ... وما ينسج من خيوطها من مفاهيم للديمقراطية .
إنها كلها حريات وحقوق اجتماعية .
هذا المجتمع ، وأي مجتمع
، ظاهرة تخضع ـ مثل كل الظواهرـ لفاعلية سنن لا تتبدل أو قوانين
حتمية ذات وجود موضوعي مستقلة عن معرفة الأفراد فيه وإن كانت قابلة للمعرفة . منها
قوانين عامة شاملة كل الأنواع بما فيها الإنسان مثل الحركة المستمرة والتأثر
والتأثير والتغير الذي لا يتوقف . ومنها قوانين نوعية تضبط - بالإضافة الى فاعلية
القوانين العامة ـ حركة كل نوع على حدة . وأن كل شيء يتحول(يتغير تلقائيا) نتيجة
فاعلية هذه القوانين ثم تتميز المجتمعات بأنها (تتغير إراديا وغائيا)
بفعل قيادة الناس فيه لحركته طبقا لقوانينه وفي حدود إمكاناته لتحقيق الإشباع
المطرد لحاجاتهم المتجددة أبدا وهو ما نسميه "التطور الاجتماعي".
يواجه الناس في هذا المجتمع ، وأي مجتمع ، تناقضا كامنا في
المجتمع نفسه بين تعدد الأفراد فيه وبالتالي تعدد حاجاتهم ووحدة مصدر إشباعها .
ولن تكون ثمة أية مشكلة إذا ما كان مصدر الإشباع فائضا عن كل الحاجات مثل الهواء .
وإنما المشكلة تثور حينما تكون مصادر الإشباع المتاحة غير كافية لإشباع كل حاجات الناس في
المجتمع. هنا لابد من "نظام" لكيفية إشباع حاجات الأفراد مما هو متاح
فعلا في زمان معين والإعداد لمواجهة الحاجات المتجددة . وهنا ترد مشكلة المشكلات
في أي نظام اجتماعي ومفتاح حلها في الوقت ذاته . وهي أنه مادامت الإمكانات
المتاحة ذات واقع موضوعي متعين فإن "النظام الموضوعي" الصحيح لتوظيفها
في الإشباع "الممكن" لحاجات الناس في زمن معين يكون متعينا موضوعيا سواء
عرفه الناس أم لم يعرفوه . إذا أطلقت المنافسة بين الناس ليحصل كل واحد منهم على ما يستطيع لإشباع حاجاته الخاصة
فهو ليس نظاما ، بل فوضى لن تلبث أن تؤدي إلى صراع قد يمزق المجتمع نفسه . ما الحل إذن ؟
اكتشاف "النظام الموضوعي" والالتزام به . وهذا يقتضي :
أولا : اكتشاف ما يحتاجه كل فرد طبقا لتقديره هو بصرف النظر عن قابلية حاجته
للإشباع أم لا .
ثانيا : اكتشاف رأي كل فرد في كيفية إشباع حاجته من
الإمكانات المحددة والمتاحة سواء صح هذا الرأي أم لم يصح .
ثالثا : تحديد أكثر الحاجات قابلية للإشباع طبقا للإمكانات
المتاحة.
رابعا: التزام الجميع بهذا الحل بالمشاركة في تحقيقه بالعمل في الواقع .
يدرك الناس هذا النظام أم لا يدركونه ، يأخذون به أو
لا يأخذون ، يبقى هو النظام الصحيح المحدد موضوعيا بالواقع الموضوعي للمجتمع ذاته. وبالتالي
فإن صوغه في قانون وضعي ملزم يكون هو النظام "الديمقراطي" ذاته . وكل
نظام وضعي يقال له ديمقراطي لا يستحق هذا الوصف إلا بقدر ما يقترب أو يطابق هذا
النظام الموضوعي لحل مشكلة موضوعية لا حيلة لأحد فيها هي التناقض بين تعدد الأفراد ووحدة المجتمع .
نطبق :
18- إذ يبدأ التصور الاجتماعي بالمعرفة المشتركة
للمشكلات الاجتماعية تتوقف قيمة أي تنظيم للتطور على مدى "صحة" معرفة
الجميع بمشكلات حياتهم. ولا تمكن معرفة المشكلات إلا عن طريق تعبير الناس عنها كما يحسونها من
أنفسهم. لهذا يكون الأساس الأول للديمقراطية هو حرية التعبير والشكوى والعلم
بمشكلات الناس بدون قيد. وكلما استطاع كل إنسان في المجتمع أن يعبر عما يريد (عن حاجته) وكل ما كانت إمكانات
تبادله المعرفة بما يريده الآخرون أوسع وأشمل كان من الممكن إدراك المشكلات الاجتماعية
إدراكا صحيحا . ولهذا وجهان : وجه سلبي يتمثل في رفع أسباب الخوف عن الإنسان . ووجه إيجابي يتمثل في أن تطرح جميع
المشكلات وآراء الناس كما هي بدون تزييف أو تشويه أو تجميل . وأن يكون في مقدور أي إنسان في المجتمع
أن يقول ما يريد وأن يعلم ما يريد بدون خوف أو تضليل. هذا هو الأساس الأول للديمقراطية
قبل أن تصبح تنظيما للاستفتاء
والانتخاب ومجالس قد تنعقد وتناقش وتنفض . وبدونه يصبح أي شكل ديمقراطي
فارغا من أي مضمون حقيقي وغير مجدي . لهذا لا يمكن ـ مثلا ـ الحديث عن الديمقراطية
في ظل النظام الرأسمالي وما يفرضه على العاملين
من تبعية اقتصادية حيث يعيش العاملون في خوف دائم على أرزاقهم اليومية وحيث تنفق
الملايين لإخفاء الحقائق وتظليل الناس عن طريق برامج التعليم واحتكار الصحف ودور النشر والإعلام والدعاية المنظمة لتزييف
وعي" الرأي العام ". كما لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل القهر
والبطش والاستبداد بالعنف المنظم (الدكتاتورية) . فحيثما خاف الناس من
أن يقولوا ما يحسونه وحيل بينهم وبين معرفة ما يعانيه الآخرون يصبح إدراك المشكلات
الاجتماعية إدراكا صحيحا مستحيلا . ويصبح التطور الاجتماعي منطلقا من مشكلة الناس
كما يتصورها أفراد أو مجموعة منهم ويصبح تنظيم الخائفين المضللين وحشرهم ليسمعوا
من غيرهم تشخيصا لمشكلاتهم فجرا في الاستبداد وليس من الديمقراطية في شيء.
وإذ تطرح مشكلات كل الناس كما يحسها الناس أنفسهم
تتحدد المشكلات العامة على المستوى الرأسي للمجتمع (أي التي يعاني منها الناس جميعا) والمشكلات الخاصة
على المستوى الأفقي للمجتمع (أي المشكلات الفردية أو مشكلات قطاع من الناس)
والمشكلات الملحة في اتجاه التطور (أي التي يكون حلها شرطا لحل ما يليها من
مشكلات) ويبدأ البحث عن حل أو حلول . وهنا أيضا لابد من أن تطرح كل الحلول. إن الاستعمال
الإرادي لقوانين الظروف المادية لتحقيق غاية اقتصادية مثلا لا يعني أن هذه
الغاية تمثل حلا صحيحا للمشكلة الاقتصادية كما يحسها الناس أنفسهم لأن الحل الصحيح
لإشباع "حاجة" اقتصادية هو أن يحس الناس بأنهم فعلا في حاجة إلى هذا
الحل . بدون هذا العنصر الإنساني في "الحاجة" يصبح إدعاؤها وصاية
تفرض على الناس حتى الإحساس بمشكلات لا يحسون بها والاحتياج إلى مضامين لا يحسون
بالحاجة إليها وبالتالي يستحيل الوصول إلى إشباع حاجاتهم الفعلية. ويصبح تعبير حكم
الشعب بالشعب "لمصلحة الشعب" تعبيرا مضللا لا يمت إلى الديمقراطية بصلة ما دام الذين يحكمون الشعب هم الذين "يقدرون" مصلحته بدون
مشاركة منه إذ لا يمكن الوصول إلى معرفة الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية
إلا بمعرفة الحلول ـ الصحيحة أو غير الصحيحة
ـ التي يضعها الناس على أساس معرفتهم مشكلاتهم ، وما يتطلعون
إليه في مستقبلهم . ولما كان الحل الصحيح هو ما يشبع كل حاجات الناس الممكنة
الإشباع في زمان معين فإن الوصول إليه ، أو الاقتراب منه ، يقتضي معرفة الحلول
التي كونها الناس أي تبادل الرأي بين الناس بدون قيد ثم تفاعل هذه الآراء خلال
الحوار غير المقيد ليكمل بعضها بعضا ويغني بعضها بعضا وتنتهي إلى حلول جماعية محددة
. ومن هنا نعرف أنه لا يمكن الحديث عن ديمقراطية الصفوة لتناقض أن يكون الحكم
للصفوة وللشعب في الوقت ذاته . ليس الصفوة الاقتصادية فحسب ، بل ربما قبل ذلك
الصفوة المثقفة
والصفوة التكنوقراطية . إن الصفوة إذ تختار حلولا للمشكلات الاجتماعية لا تختار لنفسها
بل للشعب . ويستحيل علميا وواقعيا لأية صفوة أن تعرف الإحساس بالحاجة ما دامت هي لا تحسها ، وبالتالي فإن تصورها
لأي حل لما تدعي معرفته من المشكلات الاجتماعية ستكون "صحته" منوطة
بالصدفة قد يكون صحيحا وقد لا يكون ولا يتم اكتشاف هذا إلا بعد فرضه على
شعب لا يحس بأنه في حاجة إليه ومعاناة التجارب الفاشلة .
فإذا تجمعت وتبلورت الحلول الجماعية للمشكلات الاجتماعية
ثم اختلفت فلا بد من التسليم بأنها لا يمكن أن تكون صحيحة كلها أو مطابقة كلها ـ وهي مختلفة ـ للحل الصحيح
المحدد موضوعيا بوحدة المجتمع ذاته . لأن اختلاف الناس في معرفة حقيقة أية مشكلة
لا يؤثر في أن لكل مشكلة حقيقة واحدة ... ولا يؤثر اختلافهم في الرأي في أن للمشكلة الواحدة حلا صحيحا واحدا في الظروف الواحدة . واختلاف
الآراء في المشكلة أو الحل لا يدل إلا على أن المشكلة أو حلها غير معروفين
معرفة صحيحة . ومن قبل قرون قال المفكر العربي
ابن الهيثم :"كل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا وإما
أن يكونا جميعا كاذبين وإما أن يكونا جميعا يؤديان إلى معنى واحد وهو الحقيقة . فإذا تحقق في البحث وأنعم في النظر ظهر الاتفاق وانتهى
الخلاف". لا يمكن تخطي الخلاف إذن إلا بمزيد من حرية المعرفة وحرية الرأي .
لكن المشكلات لابد من أن تحل في زمان معين إذ أن التطور لا يقف. عندئذ تثور مشكلة
أيّ الحلول ينفذ بالعمل . ولا مقياس للاختيار هنا ـ ديمقراطيا ـ
إلا بتطبيق الحل الذي يرضي حاجة الأغلبية من الناس الشركاء المتساوين ، أي بحل
"العدد الأكبر"من المشكلات عن طريق عمل كل الناس . غير أن رأي الأغلبية
لا يعني بالضرورة أنه الرأي الصحيح، ولن يتضح هذا إلا في التطبيق ، فلا بد من أن تبقى للأقلية فرصة الاستمرار في نقد رأي الأغلبية والمقارنة بين
ما تراه وما يجري تطبيقيه فعلا على ضوء ما يسفر عنه التطبيق ونقل رأيها إلى الناس ـ
الرأي العام ـ بدون قيود لتبقى لها فرصة التحول إلى أغلبية إذا ما أثبت التطبيق أن
رأيها اقرب إلى الصحة
.
19- على هذا تكون الديمقراطية هي أسلوب المجتمعات في حل
مشكلاتها، أو أسلوب المجتمعات في التطور الاجتماعي وهما شيء واحد . ويكون قانونها : حرية الرأي للجميع ،
حرية العقيدة للجميع ، عمل الجميع في تنفيذ رأي الأغلبية
. حرية المعارضة . هذا الجواب هو ما يفسر لنا لماذا أصبح المسلّم
الآن ـ بعد تجارب تاريخية طويلة ومريرة - بأن الديمقراطية لا تقوم إلا توافرت لها
عناصر لا علاقة لها بالحكم والحاكمين ومؤسساتهم التنفيذية أو التشريعية أو القضائية .
فمثلا من المسلم الآن الاقتراع العام غير المقيد (اشتراك
أكبر عدد من الناس في إبداء الرأي) لازم للنظام النيابي ليكون ديمقراطيا . والاقتراع
العام غير المقيد لم ينشأ مع النظام النيابي بل وصلت إليه الشعوب على مراحل
متتابعة ونضال طويل . مثل هذا يقال عن الانتخاب الدوري . فليس في الطبيعة القانونية
للنظام النيابي ما يحدد فترة معينة لإعادة الانتخاب ولكن إعادة الانتخاب هي فرصة
متاحة دوريا لتدخل إرادة الشعب . والوجه الديمقراطي فيها ليس الانتخاب ذاته ولكن إبقاء أعضاء الهيئات
المنتخبين فيما بين الدورات الانتخابية في حالة اعتداد بآراء الناخبين الذين
سيعودون إليهم عاجلا أو آجلا . من ناحية أخرى أصبح مسلما أنه لا ديمقراطية بدون
معارضة تكاد تكون مقطوعة لأن المعارضة داخل المجالس النيابية هي ذلك الفريق
الذي لا يمثل - بالمفهوم النيابي - إرادة الأمة إنما تمثلها الأغلبية . ولقد أصبحت
المعارضة مؤشرا على الديمقراطية لأنها تقوم بدور "فرملة" النظام النيابي
ومبادئه ومحاولة كشف خطأ سياسة الأغلبية على ضوء ما يسفر عنه تطبيقها.
ومن العوامل الأساسية التي لا يمل فقهاء القانون
ورجال السياسة التأكيد على لزومها للديمقراطية ما يسمونه "الرأي العام" بكل عناصره :
حرية التعبير وحرية الاجتماع وحرية الصحافة ... الخ . أما عن حرية التعبير فيقصد
بها حرية التعبير خارج البرلمان . وحرية الاجتماع يقصد بها حرية الاجتماع خارج
البرلمان . وحرية الصحافة يقصد بها نشر الآراء خارج البرلمان
. إذن فالرأي العام الذي يعبر عن ذاته بهذه الأدوات وغيرها هو
الرأي العام خارج قاعات انعقاد "ممثلي الأمة". ففي خارج مؤسسات الحكم النيابي تقوم أو لا تقوم الديمقراطية .
وأخيرا يأتي النشاط الحزبي . ينقل لنا أساتذة القانون
الدستوري قولا مترددا من أن لا قيام للديمقراطية بدون أحزاب سياسية . والأحزاب
السياسية هي المنظمات الشعبية أو منظمات الشعب
التي ينشئها ويقودها خارج مؤسسات الحكم والبرلمانات وفي مواجهتها . فنستطيع أن
نقول أن كل مظاهر الديمقراطية التي أصبحت مسلمة تقع في نطاق النشاط الشعبي وليس في
نظام الحكم ومؤسساته . ذلك لأنه بعيدا "تدخل" المشرعين والمنفذين تتاح
أكبر فرصة لفاعلية القوانين الموضوعية التي تضبط حركة المجتمعات حتى بدون أن يعيها
الذين يستجيبون لفاعليتها كما لو كانوا مدفوعين بقوة خفية .
أما الذين يعونها ويعرفون أن تلك هي القوانين
الموضوعية فإنهم أقدر من غيرهم على كشف زيف النظم الاستبدادية
. ويعرفون أكثر من هذا أن انعدام الديمقراطية يعني توقف حركة
التطور الجماعي فلا يبقى إلا أن "يطور" كل فرد حاله مقدمة للصراع الذي
لا يبقى ولا يذر. وإن قصور النظام الديمقراطي الوضعي عن قانون التطور
الموضوعي يساوي الفشل في تحقيق التطور وأن الدكتاتورية فشل محض .
20- إسناد الديمقراطية الى حركة تطور المجتمعات
يحرر الديمقراطية أيضا من ذلك القيد الثقيل الذي يجعل منها نظاما للحكم . نعم إن
الدولة مجتمع ذو نظم وغايات مصوغة في دساتير وقوانين ولوائح وأوامر تحرسها حكومة
وجيش وشرطة وسجون ومشانق ، وبالتالي فإنها تخضع - مثل أي مجتمع منظم - لحتمية
النجاح أو الفشل بقدر قرب أو بعد حركة الناس فيها عن الديمقراطية . ولكن الدولة
ليست إلا مثلا . فالديمقراطية هي قانون تحقيق الغايات المشتركة في كل
"مجتمع" ولو لم يكن دولة . في الأسرة ، وفي اللجان ، وفي النوادي، وفي النقابات ، وفي الشركات، وفي الأحزاب ... كلما
تعدد المجتمعون ليحلوا مشكلة مشتركة تحقيقا لغاية مشتركة يكون نصيبهم من النجاح أو
الفشل متوقفا على مدى التزامهم الديمقراطية أو عدم التزامهم . هذا أيضا قد أصبح من المسلمات ويتبعه الناس بيسر بالرغم من
أنه يجري بعيدا عن نظام الحكم ومؤسساته .
21- غير أن كل هذا لا يعني أن المشكلات الاجتماعية ستحل
تلقائيا في المجتمع الديمقراطي . إنما يعني فقط أنها أصبحت
قابلة للحل . أما حلها فعلا فيتوقف على مدى كفاءة الناس في كل مجتمع على حدة :
التقدم الثقافي والتقدم العلمي والتقدم الفني . وتلك عناصر تتحدد تبعا للواقع
الحضاري في كل مجتمع في كل مرحلة تاريخية معينة .. ومن هنا تدخل الثقافة والعلم
والفن (التكنيك) عناصر لازمة لإمكان التطور في ظل الديمقراطية ، وفي ظلها فقط .
أعني أن كل تلك العناصر الحضارية لا تجد فرصة إثمارها الاجتماعي إلا في ظل الديمقراطية .
وما دام المستوى الحضاري مؤثرا في سرعة وثراء التطور الديمقراطي فلابد من الاعتراف
أن ثمار الديمقراطية قد لا تواكب تطلع المجتمعات المتخلفة إلى التطور السريع .
حينئذ تكون قد ثارت في المجتمع مشكلة جديدة هي مشكلة التخلف الحضاري وتكون لها
الأولوية . وهذه أيضا لا تحل إلا ديمقراطيا وبمزيد من الديمقراطية ، مزيد
من المعرفة والعلم والخبرة بالأسلوب الديمقراطي لحل المشكلات . ويسقط تحت أقدام
الشعوب إدعاء بعض المتعلمين أو المثقفين أو المتأهلين أو المجانين بأن الديمقراطية ليست علاجا لمشكلات التطور في المجتمعات المتخلفة
ويتخذون من التخلف مبررا لفرض وصايتهم ويحرمون الداء من دوائه الوحيد.
لماذا الديمقراطية إذن : لأنها الأسلوب الوحيد لحل
المشكلات الاجتماعية.
ثالثا: الوحـدة العربيـة :
الوحدة العربية هي دولة . ولنتجاوز هنا عما يدور حول :
"الدولة" تلك الكلمة التي أبتكرها مكيافيللي ، وما إذا كانت تجسيدا للأمة كما قال أمسما ، أم تجريدا غير حقيقي كما قال
ديجي ، وما إذا كانت مؤسسة خالدة كما قال هوبز أو مؤسسة مرحلية كما قال بوكانتين وماركس ولينين . ولنقل مع كلسني أو مع ديلفيكو أنها ذات
النظام القانوني للمجتمع أو أنها المجتمع منظما قانونا . وإذا كان فقهاء علم
القانون لا يتفقون على تعريف واحد للدولة إلا أنهم يتفقون على العناصر التي يجب أن تتوفر لأي مجتمع ليكون دولة
. فيقولون أنها ثلاثة : (1) شعب و(2) أرض و(3) سلطة شاملة الشعب والأرض جميعا
مستقلة عن أية سلطة أخرى. ويضيف بعضهم الاعتراف كعنصر رابع وإن كان محل خلاف كبير
يدور حول ما إذا الاعتراف لازما لتوحيد الدولة أم للإقرار بوجودها ولكنهم لا يهتمون بكيفية قيام الدولة الواقعية.
فيكفيهم أن تقوم في الواقع بعناصرها النموذجية لتكون عندهم دولة ثم يبدؤون - بعد
هذا ـ في شرح دلالات عناصرها والآثار القانونية (الحقوقية) المترتبة عليها . غير
أن أكثر جهد فقهاء علم القانون كان وما يزال منصبا على شرح دلالة وآثار ذلك العنصر
الثالث : "السلطة" أو "السيادة" كما يقال في كثير من كتب القانون حيث تتداول الكلمتان كما لو كانت ذات مدلول واحد .
وفي هذا يدور الحوار الخصب حول ما يسمى "بالمشكلة الدستورية" : ما هي السيادة
؟ أو ما هي السلطة ؟ وما مصدرها ؟ ومن صاحب الحق في
ممارستها ؟
ولم يكن كل ما ذكرناه عن الديمقراطية إلا إجابات عن
هذه الأسئلة . ومنه نعرف أن الديمقراطية هي أسلوب حل المشكلات الاجتماعية في
الدولة (المجتمع المنظم) ، أي دولة من أول دولة جيبوتي حتى دولة الصين . وينطبق هذا على دولة الوحدة
العربية . فحين تقوم دولة الوحدة العربية الشاملة الشعب العربي كله والوطن العربي
من المحيط إلى الخليج المجسدة لسيادة الشعب على وطنه ، متيحة للشعب العربي أضخم
الإمكانات لتطوره المادي والفكري والروحي لن يعني هذا أنه سيتطور ماديا وفكريا
وروحيا بقدر تلك الإمكانات الضخمة تطورا تلقائيا ، بل يعني فقط أن أسباب هذا التطور قد
أصبحت متاحة ، وبالتالي أنه قد دخل في نطاق الممكن . أما أن يتم هذا التطور فعلا
أم لا يتم فذلك سيكون متوقفا على أسلوب حل مشكلات التطور الاجتماعي أي على
الديمقراطية . وبالتالي فإن كل الآمال التي يعلقها الشعب العربي على الوحدة العربية سيكون تحقيقها متوقفا على أن تكون دولة ديمقراطية ، أما إن
قامت ليكون الشعب العربي كله في قبضه مستبدة واحدة فستكون أكبر فشل في التاريخ
العربي ، وسيتمنى كل فرد فيها ـ من غير المستبدين بها ـ لو لم تقم .
غير أن هذا لا يعني أن ليس ثمة علاقة خاصة بين الوحدة
العربية دولة وبين الديمقراطية نظاما . ثمة علاقة خاصة ومعقدة ، يسهل فهمها إذا
عرفنا الإجابة عن السؤال : لماذا الوحدة العربية ؟ فقد تكتشف أن الجواب عنه هو الجواب ذاته
عن السؤال : لماذا الديمقراطية ؟
لماذا الوحدة العربية ؟
أ ـ العبرة في دراسة الدولة كما يطرحها الفقه الليبرالي
تكون "بالشعب" وليس "بالأمة" والفارق بينهما أن الشعب
عنصر من عناصر الدولة يتحدد بحدودها بينما الأمة تكوين اجتماعي سابق على الدولة . وذلك بحجة "أن الأمة في
ذاتها لا تتضمن غاية مشتركة" (32) . وبالتالي "لا يجوز الخلط بين الشعب
والأمة لأن الأمة جماعة قد لا تكون مرتبطة بنظام"(33) . وعندما نجد أن
كل فقهاء الليبرالية وأساتذة القانون الدستوري يتحدثون عن "سيادة
الأمة" فيجب أن لا نخلط بين ما يقولون وبين ما نفهمه من كلمة أمة . لأن
"الدولة هي التشخيص القانوني للأمة" كما قال كبير الفقهاء
الليبرالية أسمان ، أما الأمة التي نعرفها كجماعة من الناس تكونت تاريخيا
... الخ ، فإنها "لا يمكن أن تنطوي في ذاتها على
إرادة" (34) . الأمة تكوين اجتماعي سابق على الدولة ...
لم يثر هذا السلب للعلاقة بين الدولة والأمة أية
مشكلة فقهية أو قانونية خلال العصور الطويلة التي كان "حق الفتح" فيها مصدرا لشرعية
الدول . إذن كان كل ما تستطيع الدولة - أية دولة - أن تستولي عليه
بالقوة من أرض وبشر يصبح جزءا منها وطنا وشعبا . ولكن المشكلات الفقهية ثارت
، وأحاط الشك بشرعية كثير من الدول ، في أواخر الحرب الأوروبية الأولى . ففي كانون الأول ديسمبر 1915 صرح الرئيس
ولسن ، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، بأن "حق الفتح" الذي كانت
تعترف به القواعد الدولية التقليدية يتعارض مع حق الشعوب في اختيار حكامها ، فنشأ
بهذا ما يسمى الآن حق تقرير المصير.
ولقد كان حق تقرير المصير مقصودا به أن لكل
"أمة" الحق في أن تكون لها "دولة قومية". على هذا الوجه ناقشها لينين في رده تحت عنوان "حق الأمم في تقرير
مصيرها"(35) على دراسة روزا لوكسمبرغ الماركسية تحت عنوان المسألة القومية
والاستقلال . الحوار كله كان دائرا إثباتا ونفيا عن علاقة الأمة بالدولة .
أما على المستوى الدولي فقد "جرى العمل الدولي في عهد عصبة الأمم وبعد
قيام الأمم المتحدة على إعطاء حق تقرير المصير للجماعات التي رغب المجتمع الدولي
في الاعتراف بها كأمم مستقلة . وتم تعريف الأخيرة "الأمم" بأنها
الجماعات التي لها أهلية وقدرة التمتع بالاستقلال وممارسته . ويبدو من ذلك أن الجماعات الدولية أرادت الاعتراف
لهذه الجماعات بالشخصية القانونية أي بالحق في تكوين دولة وربطت بالتالي بين معنى
الشعب ومعنى الأمة "(36) .
وهكذا كانت الجماعة من الناس تسمى أمة أو لا تسمى ، لا تبعا لتكوينها التاريخي، ولكن
تبعا لما إذا كانت الدول - صاحبة الشأن في السياسة الدولية - تريد أو لا تريد أن
تمنحها من عندها حق إقامة دولة . طبقا لتقدير تلك الدول قررت طغمة المستعمرين في آب أغسطس سنة 1920 معاهدة سيفر أن كلا من الأكراد
والعراقيين والحجازيين والسوريين "أمم" فمنحت كلا منها حق
إقامة دولة باسمها ولم تر أن الأمة العربية "أمة" تستحق
دولتها القومية .
ب - واستمر الخلط بين الأمم والشعوب في ميثاق هيئة
"الأمم" المتحدة حتى يسمح هذا الخلط للدول الكبرى بأن تختار التفسير الذي يعجبها عندما تمنح الناس حق
تقرير المصير. إذ "يلاحظ أن ميثاق الأمم المتحدة قد ربط بين حق تقرير المصير
وبين مبدأ السيادة ، والاختصاص الداخلي على الوجه التالي : تؤكد الفقرة الثانية من المادة الأولى من الميثاق ضرورة إنماء العلاقات الودية بين
"الأمم" على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية بين
"الشعوب" وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها ... " ويذهب البعض
إلى أن كلمة الأمم الواردة في صدر الفقرة الثانية من المادة الأولى تعني الدول وأن
هذه الفقرة لم تقصد إعطاء حق تقرير المصير للجماعات القومية (37) ... ويذهب البعض الآخر إلى أن الفقرة
الثانية من المادة الأولى بأكملها هي إعلان عن حسن النية في مواجهة الشعوب التي لم
تحصل بعد على تقرير مصيرها غير أنها لا تكفي كأساس لمطالبة الشعوب غير المتمتعة
بالحكم الذاتي بتغيير وضعها القانوني (38) .
و"تجدد الخلاف حول معنى الأمة والشعب عند
نظر المشروعات الأولى لاتفاقات حقوق الإنسان فقد تضمنت هذه الاتفاقات عبارة "لكل الشعوب والأمم" لها الحق
الجماعي في تقرير المصير. وثار التساؤل من جديد حول المقصود بكلمة الشعوب ، وهل
ترمي إلى إعطاء جماعة الأفراد الذين جمعتهم المصادفة أو الظروف التاريخية
على إقليم دولة معينة فكونوا شعب هذه الدولة ، حق تقرير المصير؟... أم هل تقصد
إعطاء هذا الحق للجماعات القومية الموجودة على إقليم الدولة"(39) .
لماذا كل هذا الخلط بين الأمة والشعب في حق
تقرير المصير؟ إذا كانت الدولة التي تصوغ - بمقدرتها العسكرية - قواعد القانون الدولي تريد به أن تظل لها المقدرة على أن تمنح من
تشاء وتسلب من تشاء حق تقرير المصير فإن الإبقاء على كلمة "الشعب"
تكيفها . ففي كل أمة شعب ، ويمكن أن يسمي كل جزء من أمة شعبا ، وأية جماعة من
الناس يمكن أن يقال لها شعب
. أما إذا قيل "أمة" فهي إشارة إلى تكوين اجتماعي
تاريخي لا يمكن لأحد أن يصنعه على ما يشاء كما لا يمكن له أن ينكره إذا كان التاريخ قصد صنعه . إذن فمصدر "العكننة" على مزاج
الدول الكبرى هو كلمة "أمة" التي تسربت الى ميثاق هيئة الأمم المتحدة
التي قامت دعوتها أصلا، خلال الحرب الأوروبية الثانية ، متضمنة شرط الانضمام إلى
الحلفاء للحصول على عضويتها. فكانت منذ البداية مؤسسة على النفاق
. لا بد إذن من أن تحذف كلمة الأمة حتى يصبح حق تقرير المصير تحت رحمة القادرين على منحه أو في متناول يد
القادرين على تحقيقه . و"لعل هذا ما دفع اللجنة الخاصة التابعة للجمعية العامة إلى حذف كلمة "أمة" من
مشروع لجنة حقوق الإنسان في كانون الأول ديسمبر سنة 1955 ولا تشير هذه الاتفاقات الآن إلا إلى حق الشعوب في
تقرير مصيرها . والواقع أن اقتصار الاتفاقات على تعبير "حق الشعوب" يفترض
استبعادها لمفهوم الأمة ورغبتها في إعطاء هذا الحق لجماعة الأفراد التي تؤلف شعب الدولة"(40) .
تلك هي قصة "مبدأ تقرير المصير" في القانون
الدولي . و في ثنايا تلك القصة استطاع شعب من الذين خانوا أممهم أن يصبحوا دولة في فلسطين تحت إسم
"إسرائيل" وأن يحصلوا على مقعد في الأمم المتحدة .
ج - لم يكن هذا الانتصار الدولي للمذاهب الليبرالية في علاقة الأمة بالدولة
غريبا إذ أنه ليس إلا تعبيرا عن انتصار الرأسمالية وتحولها إلى إمبريالية . الغريب
حقا أن أحد من الماركسيين لم يعد يدافع عن المذهب اللينيني في علاقة الدولة بالأمة . وتحت أعلام الاشتراكية العلمية لا يناضل إلا
قليلون من أجل الوحدة العربية.
ما علينا ..
إذا سلمنا بأننا أمة عربية مكتملة التكوين كانت نتيجة تطور تاريخي مشترك وطويل انتقل
بالناس فيها من الطور القبلي وما دونه إلى الطور الشعوبي إلى الطور القومي فأصبحنا
"مجتمعا ذا حضارة متميزة - وليس ممتازة - من الشعب العربي المستقر على
الوطن العربي الخاص به المشترك ما بين أفراده من كل جيل وما بين أجياله
المتعاقبة" فإن علاقة الأمة بالدولة لا تقوم إلا إذا كان التكوين التاريخي
للمجتمع يتضمن غاية اجتماعية موضوعية مشتركة تكونت هي أيضا تاريخيا .
أما إذا لم نسلم فلا مبرر لإضاعة الوقت في السؤال والجواب فإن الحوار مقطوع .
د - نحن نسلم فنجيب . وفي الإجابة لن نبحث في كل الأطوار
الاجتماعية أو كل التكوينات البشرية ، بل نكتفي بالبحث فيما يعنينا في الوطن العربي وهو ذلك التكوين البشري المسمى أمة
(ونحيل في التأصيل والتفصيل إلى كتب منشورة ذكرنا بعضها من قبل ونظيف إليها) (41).
والأمة ظاهرة مستقرة على أرض خاصة بها ، تكونت
تاريخيا . ونعرفها من عناصر مشتركة كاللغة المشتركة والتاريخ المشترك والثقافة المشتركة ... الخ . ولقد
كان الليبراليون - وما يزالون - أساتذة الفهم «المسطح» للأمة وللقومية . أي وصف
«الظاهرة - الأمة» كما هي موجودة ، وبيان الخصائص المشتركة بين الناس فيها . ويقولون عنها أنها مجتمع
طبيعي تطبيقا لفكرة «القانون الطبيعي» التي يقوم عليها ويدور حولها كل الفكر
الليبرالي . ولما كان «القانون الطبيعي» هو ذاته مجهولاً فإن الليبراليين لم
يعرفوا قط «لماذا» تكونت الأمم وما يعنيه هذا من أثر في غاية تطور المجتمع المسمى
أمة . فلما أرادت الثورة الليبرالية أن تسقط الكيانات السياسية المفروضة
عليها من أمراء الإقطاع والكنيسة في القرون الوسطى لتقيم بدلاً منها «دولة» طبيعية
وجدت أن الدولة القومية هي الدولة الطبيعية لأنها تجسد مجتمعاً «طبيعياً». فقامت
الدولة القومية على أنقاض الدويلات الإقطاعية . ثم وقف الأمر عند هذا الحد . فالأمة
وجود اجتماعي طبيعي يعرف من أوصافه ولكن لا يعرف أحد لماذا وجد وما أثر
وجوده في حياة الناس . والقومية رابطة طبيعية بين أبناء الأمة الواحدة ولكنها
رابطة سلبية أي مجرد انتماء لا يتضمن
التزاما بشيء . والحركات القومية ثورات ضد التجزئة ومن أجل الوحدة القومية لا أكثر.
وستظل كل الكتابات الليبرالية التي صدرت منذ القرن
السابع عشر حتى الآن عن الأمة والقومية والحركات القومية مطبوعة بالطابع الليبرالي إيجابياً وسلبياً. فهي
تعترف بالوجود القومي (الأمة) وتصفه وتعدد مميزاته دون أن تبحث عن تاريخ تكوينه لتعرف لماذا وجد ، ودون أن تتابع مصيره لتعرف ماذا سيكون .
وهي تشيد بالقومية وتتعصب لها دون أن تعرف في القومية التزاما غير الإبقاء على
ذاتها بالدفاع عن الوجود القومي . وهي تدعو إلى الوحدة القومية ولكن الوحدة في
دعوتها غير مبررة بغاية اجتماعية . ومن هنا فإن الفهم الليبرالي للدولة لا يتأثر بما إذا كانت الدولة قومية أو غير قومية .
إن هذا لا يعني أن الأمة وجود عقيم ، أو أن القومية
رابطة سلبية ، أو أن الوحدة القومية غير ذات مضمون اجتماعي ، ولكن يعني أن هكذا
نفهم الأمة والقومية والدولة القومية (الوحدة) ، إذا كنا ليبراليين . وقد سمح هذا
المفهوم الليبرالي للقومية بأن تسخّر الرأسمالية الناشئة في أوروبا ، «الدولة القومية» لأغراضها الاستغلالية
، مبتدئة باستغلال الأمة الموحدة في دولة ، ثم مستعملة الإمكانيات القومية التي استولت عليها واستأثرت بها في سبيل شن حروب عدوانية على
الشعوب والأمم الأخرى واستعمارها . ومن هنا جاء ما نراه دارجاً في بعده الكتابات عن الأمة وعن القومية من أنها ذات
«صلة» بالرأسمالية وإن الحركة القومية حركة «برجوازية» وإن «الدولة القومية» دولة
برجوازية أيضا.
وقد آن لكل هذا أن ينتهي ويزول من علم الاجتماع ومن علم القانون معاً.
ذلك لأنه لا يمكن أن تكون الأمم قد تكونت اعتباطا
. ففي عالم يخضع كله ، ويخضع كل شيء فيه لقوانين لا يكفي أن نعرف الظاهرة الاجتماعية
كما هي بل لا بد أن نعرف كيف وصلت في حركتها التاريخية إلى ما هي عليه ، ولماذا وصلت ، وما دلالة هذا
بالنسبة إلى المستقبل الذي يهمنا بالدرجة الأولى .
ونكتفي هنا بالإجابة عن السؤال : لماذا تكونت الأمم ؟
لماذا كنا أمة عربية مثلا ؟ هل كان ذلك مصادفة تاريخية أو تمّ اعتباطا لا أحد يدري لماذا ؟ إنه سؤال لم يكن
لنا حظ التعرف على أية إجابة عنه في أية دراسة أخرى . مع أنه سؤال حاسم في شأن
الوحدة العربية .
هـ - لقد عرفنا
من الجواب عن السؤال : لماذا الديمقراطية أن المجتمعات منضبطة حركتها بقوانين حتمية وأن ثمة
نظاما موضوعيا (قانون) لتطويرها يبدأ بالاشتراك في معرفة المشكلات
الاجتماعية ثم الاشتراك في إيجاد حلولها ثم الاشتراك في تطبيق
تلك الحلول في الواقع بالعمل
. فنلاحظ هنا أنه قانون جدلي "من الواقع (المشكلة) إلى
الفكر (الحل) إلى الواقع (التطبيق). والجدل كما هو معروف يسفر عن نمو وإضافة وتقدم
ولقد اكتفينا هناك بأن نسميه قانون التقدم الاجتماعي . هذا التطور الاجتماعي غائي
دائماً بمعنى أن الناس في أي مجتمع لا يتحركون اعتباطا ، بل لتحقيق غايات هي ذاتها
المعبر عنها بحلول المشكلات الاجتماعية (المضمون يتحدد في الزمان والمكان ومستوى
التطور) . لا يعني هذا أن كل مشكلة اجتماعية تثور تجد حلها جاهزا، بل يعني أنه
مهما كانت المحاولات الفاشلة ومهما اختلف الناس، ومهما تصارعوا بل تقاتلوا فإن المحصلة النهائية أن تجد المشكلات الاجتماعية
حلها الجدلي ولو بعد مراحل تاريخية . وما كانت الديمقراطية ودراستها وتعليمها
والتدريب على ممارستها إلا لاختصار فترات المعاناة والتجارب العقيمة واطراد التقدم الاجتماعي إلى حياة
أفضل .
طبقا للقوانين ذاتها التي قدمت لنا الإجابة عن السؤال
: "لماذا الديمقراطية" نستطيع أن نقول بلغة أبسط : إن الأمة لا تتكون تاريخيا اعتباطا ، بل تنمو المجتمعات
وتتطور إلى أن تصبح أمة خلال بحث الناس عن حياة أفضل .
فعندما نجد أن جماعة من البشر قد وصلت خلال المعاناة التاريخية الطويلة
إلى الطور القومي أي مادامت أمة ، فإن هذا دليل على أنها قد استنفدت خلال بحث
الناس فيها عن حياة أفضل كلا من إمكانيات الأسر والعشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معها
لتكون أمة. مؤدى هذا أن وجود الأمة في ذاته يقدم دليلا لا ينقض على أن ثمة «وحدة
موضوعية»، قد نعرفها وقد لا نعرفها بين المشكلات فيها ، وإنها - بهذا المعنى - مشكلات قومية لا يمكن
أن تجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية ، وقوى قومية في نطاق المصير
القومي الذي هو مصير واحد بحكم أن وحدة المشكلات تقتضي وحدة الحلول ووحدة الحلول تقتضي وحدة العمل ،
حتى تتم حركة التطور في المجتمع القومي .
و- لعله أن يكون واضحا الآن أن الدعوة إلى الوحدة
العربية أو العمل على قيامها ليس مبرراً بتلك البواعث الانتهازية التي تدفع الإقليمية أو تندفع بها إلى طلب الوحدة لتفريغ الشحنة البشرية
المكتظة أو ملء وعاء الفقر الفارغ أو إنقاذ الغارقين في أوحالهم أو ليتحولوا بها من ملوك إلى أباطرة . لا وليس من بين مبرراتها
كسب العضوية في نادي الدول العظمى، ولا رومانسية الانتماء إلى دولة كبرى، ولا استعادة
دولة كانت ثم انهزمت فتقطعت دولا . إن مبررها ببساطة أن الأمة العربية وهي
مجتمعنا سواء أردنا أم لم نرد، وأن انتماءنا إليه صلة موضوعية سواء أعجبتنا أم لم
تعجبنا . وأهم من هذا كله أن دولة الوحدة هي التنظيم القانوني لهذا المجتمع الذي
يتيح للشعب العربي كله فرصة حل مشكلاته وهي قومية موضوعيا ولو كانت خاصة .
بالإمكانات القومية وهي خاصة به تاريخيا ولو كانت مسلوبة ، وبالتالي
التقدم الاجتماعي المتكافئ مع إمكانات أمته كلها لا أكثر ولا أقل .
رابعــا : علاقــــة
الديمقراطيــــة بالوحـــدة العربيـــــة :
1- عرفنا من قبل أن الديمقراطية نظام لحل المشكلات في
مجتمع منظم ، أي دولة . وإن كلا من الديمقراطية والدولة لازمان للتطور الاجتماعي لزوما مصدره القوانين
الموضوعية التي تضبط حركة هذا التطور، وأنهما تفشلان في تحقيق التطور الممكن بقدر
ما تبتعدان في صيغتهما الوضعية عن أصلهما الموضوعي والعكس بالعكس . وقلنا
عن الديمقراطية خاصة أنها قانون تطور كل مجتمع حتى لو لم يكن دولة ، وذكرنا نماذج
من الجماعات التي تعمل معا لتحقيق غاية مشتركة
. ونعلم جميعا أن دولة الوحدة العربية غائبة وأن الوطن العربي مجزأ
إلى دول إقليمية . نريد أن نعرف الآن علاقة التأثير المتبادل بين الوحدة العربية
والديمقراطية في الدول الإقليمية.
2- نبدأ بأثر غيبة دولة الوحدة على الديمقراطية في الدول الإقليمية . إن غيبة دولة
الوحدة نقص في كفاءة الديمقراطية كأسلوب لحل المشكلات الاجتماعية (التطور) في كل
دولة إقليمية على حدة وفيها جميعاً دون استثناء . ذلك لأنها تقصر المساهمة
في معرفة المشكلات وحلولها والعمل تحقيقا لها على جزء من الشعب العربي فتحرمه ـ من
ناحية ـ من مساهمة باقي الشعب العربي خارج دولته في اكتشاف الحلول الصحيحة
لمشكلاته وتحرم الشعب العربي
خارج دولته من حقه في المساهمة في اكتشاف تلك الحلول . ويبدو هذا واضحاً من أنه في
ظل الديمقراطية الإقليمية ـ إن وجدت ـ يشارك في اتخاذ القرارات المصيرية بعض
الآلاف أو الملايين من الشعب العربي ، أو أغلبيتهم ، في كل قطر. وهو نقص
في السيادة
وفي الديمقراطية جميعاً. إذ الأصل أن السيادة للشعب العربي كله على الوطن العربي
كله ، بحكم أنها أمة واحدة . فيكون لكل عربي أن يسهم ديمقراطيا في اتخاذ القرارات اللازمة لحل
المشكلات الاجتماعية في الأمة كلها.
هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى فإن غيبة دولة الوحدة
لا تغير حقيقة أن كل المشكلات الاجتماعية في أية دولة هي مشكلات قومية لا تجد حلها
الصحيح إلا من الإمكانات القومية . وهكذا نجد أنا الشعب العربي في كل دولة يواجه المشكلات القومية في دولته
لكنه محروم بفعل دولته ذاتها من الاستعانة في حلها بالإمكانات القومية ويكون
عليه أن يعوض ما فاته من الإمكانات القومية بما هو متاح له من إمكانات في دولته فيفشل للعجز الواقعي عن هذا التعويض بالرغم
من كل النوايا وكل الجهود . فلا هو قادر أن يفلت بمصيره من «قومية » المشكلات ولا
هو قادر أن يوفي من «إقليميته» بمتطلبات حلها الصحيح (هذا ما يفسر فشل جميع وعود
التحرير والرخاء وتحرير فلسطين والخروج من هيمنة الدول الكبرى...الخ).
ينعكس هذا العجز على الديمقراطية في كل دولة . ذلك
لأن الحكام في كل دولة عربية لا يكفون عن وعد الشعب العربي فيها بحل مشكلاته . وقد
يبالغون في هذه الوعود خاصة إذا كانوا قوميين فكراً ومذهبا إذ أن وعودهم ستكون رحبة رحابة الوطن
العربي كله ثم يأتي التنفيذ فيواجهون الحقيقة المرة : إن الإمكانات المتاحة في
أقطارهم غير كافية للوفاء بوعودهم حتى لو كانوا صادقين .
حينئذ قد يلجأ بعضهم أو يسعى أو يحقق قدرا مما يسمى
«التضامن العربي». والتضامن العربي نوع من الصيغ الجبهوية التي يلتقي فيها المختلفون أصلا لمواجهة خطر واحد مشترك أو لتحقيق غاية واحدة مشتركة . هذه
الصيغة ـ نعني الجبهة ـ لها قوانينها التي لا حيلة لأحد فيها وهي أنها تتم على
مستوى الحد الأقصى لأدنى الأطراف مقدرة . وهو ما يعني أن «التضامن العربي» يتوقف
أثره على أطرافه . وحين تكون أطرافه كل البلدان العربية فإنه سيتم ويحقق بنجاح ما لا
يتجاوز مقدرات أضعف بلد عربي . أما إذا كان بين بعض البلدان العربية فقد يحقق
نجاحا أكبر ولكنه يظل مرتبطا بأضعف الأطراف . القانون الثاني للعمل الجبهوي هو
أنه مؤقت بحيث يعجز تماماً عندما يكون مطلوباً منه مواجهة مشكلات إستراتيجية يتطلب
حلها زمناً طويلا كمشكلة التحرر من التبعية للدول الكبرى أو مشكلات متجددة أبداً كمشكلات التنمية الاقتصادية
. في أول فرصةٍ تجد أي دولة عربية أنها ستضار من التضامن على أي
مستوى .. تفلت وينهار التضامن كما انهارت كل صيغ التعاون الاقتصادي والدفاع
المشترك بقرارات منفردة أو ثنائية أو حتى جماعية (المجلس الاقتصادي المشترك ـ اتفاقية
الوحدة الاقتصادية بأجهزتها : مجلس الوحدة الاقتصادية ـ اللجان الدائمة ـ المكتب الفني الاستشاري ـ السوق العربي
المشترك ـ صندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي العربي ... الخ) .
ويكون مشروعاً للشعب العربي في كل بلدٍ عربي أن يفقد
ثقته بحكام وحكومات لم تكف عن نثر الوعود ولم تحقق شيئاً مما وعدت .. ولما كان بعض الحكام ـ وخاصةً
القوميين فكراً أو مذهباً ـ يعرفون أن إمكانية الوفاء لم تكن متاحة لهم بفعل الحصر
الإقليمي ذاته ، فإنهم يتناسون ـ عادة ـ خطيئة الكذب في الوعد ، ويتصورون أن عدم
ثقة الشعب بهم تمرد عليهم أو تحضير للتمرد (وقد يتهمون قوة خارجية بالتحريض عليه) ، فيعدون أدوات البطش ويبطشون فعلاً
فينهدم حتى ينعدم الأساس الأول للديمقراطية : رفع أسباب الخوف عن الناس . وهكذا تتوالى الآثار التدميرية
للديمقراطية نتيجة غياب الوحدة العربية والتأثير المتبادل.
3- ففي الدول الإقليمية يمكن أن يقوم نظام
ديمقراطي ـ إنه ممكن حتى في لجنة أو في حزب كما قلنا ـ حينئذ تكون غيبة الوحدة
انتقاصا من كفاءة الأداء وليس مبرراً للاستبداد . وإذا كف الحكام
والحكومات عن الخلط بين آمالهم القومية وبين إمكانياتهم الإقليمية فليس صعباً على الصدق أن يتفهم الشعب
العربي في كل بلدٍ أن الحياة لن تتوقف حتى تتم الوحدة العربية وأن عليه أن يطور مجتمعه في حدود الممكن بدون توقف
إلى أن يتحقق ما يجب أن يكون . وبالتالي لن يعاني الحكام والحكومات مرارة الشعور
بالفشل . ذلك الشعور الذي يعوضونه بالاستبداد .
ولكن الديمقراطية كأسلوب
، تعرف به المشكلات على حقيقتها وتكتشف به الحلول الصحيحة ، لن
يلبث أن يعبئ الشعب ، لا ضد الحكومة ، ولكن ضد التجزئة الإقليمية التي تحبسه في
دولته وتحبس عنه إمكانيات أمته وهو يواجه مشكلات أمته في دولة . وتصبح الوحدة
العربية هدفا ملحا لمجرد إمكان التطور الاجتماعي في كل قطر. وهي ما يعني
"إلغاء" دولته الإقليمية . وإلغاء الدولة يعني أن الحكام والحكومات والقادة سيفقدون مراكزهم وامتيازاتهم
ويعودون مواطنين عاديين وهذا ما يقاومه حتى الموت كل الحكام والحكومات والقادة الإقليميين .
فمــا الحـــــــل ؟
4 - الحل القومي بسيط . فرض الديمقراطية . في الدول
الإقليمية وحراستها . وترك الشعب يكتشف بنفسه من خلال الممارسة أن مشكلات تطوره
وتقدمه قومية موضوعيا . ويكتشف بنفسه ، من خلال حتى الفشل ذاته ، أن حلها الصحيح لن يتحقق إلا في ظل الوحدة .
وأن يتجه إليها مبتدئا من واقعه فيحققها في ذاته أو بالالتحام مع الشعب العربي في البلدان الأخرى ومساندته في فرض الديمقراطية ،
وتجسيد هذا الالتحام في منظمات ونقابات قومية (الانتماء إليها مفتوح لكل عربي بصرف
النظر عن هويته الإقليمية) وبناء حزبه القومي الذي يقود الشعب الوحدوي في كل
الأقطار في مواجهة كل الدول إلى أن "يلغي" دولتين على الأقل
فيقيم دولة الوحدة النواة ثم ـ وهذا على أكبر قدر من الأهمية ـ يزحف وحدويا ولا
يتوقف مهما طال الزمن إلى أن تتحقق الوحدة العربية الديمقراطية .
ديمقــراطيـــــــا ؟
نعم ديمقراطيا إذ الديمقراطية أسلوب الشعب وغير متوقفة على الدولة ومؤسساتها (راجع
فقرة 20) أما إلغاء الدولة الإقليمية لحساب دولة الوحدة النواة أو الشاملة فهذا
متروك لحكامها وما إذا كانوا سيخضعون لإرادة الشعب أم يقاومونه . إن خضعوا فلا مشكلة وإن
قاوموا فهي الثورة من أجل استرداد الديمقراطية طريقا سلميا إلى الوحدة العربية.
5- أخيرا، كيف يقدم القوميون المناضلون من أجل الوحدة إلى الشعب العربي ما يثبت
صدق وعدهم بأن دولة الوحدة العربية ستكون ديمقراطية ؟ ليس بالوعود والأيمان
المغلظة ، ولكن بالممارسة الفعلية
. بأن يكونوا هم أنفسهم ومنظماتهم وتنظيمهم ديمقراطيين منذ البداية وخلال المسيرة ،
حتى النهاية . ديمقراطيين فيما بينهم ومناضلين ، من أجل الديمقراطية وحراسا لها ،
ومدافعين عن الشعب العربي ضد الاستبداد الإقليمي في كل دولة
. بغير هذا لن يصدقهم الشعب العربي ولو كانوا صادقين . ربما لفرط
ما أخلف غيرهم وعده .
خامسا : أزمة الديمقراطية في
الوطن العربي :
نريد أن نختم هذا الحديث بكلمة مختصرة عن علاقة كل ما تقدم بأزمة الديمقراطية في الوطن العربي .
نضيف بها سببا لم يرد في عناوين البحوث المقدمة أو المنتظر تقديمها. إن
الدولة والديمقراطية من حيث هما نظام إدارة وتطوير المجتمع المشترك ،
يفترضان ابتداء ، إن هذا المجتمع
، بإمكاناته كلها ، متاحة لكل الشعب فيه حتى تبدأ عملية التنظيم والتطور، أما إذا
لم تكن إمكانات المجتمع متاحة للشعب ، بأن كانت محتلة أو مغتصبة أو مستغلة أو
تابعة لدول أخرى، فإن المشكلة التي تثور أولا تكون مشكلة تحرر قومي . وهي قابلة
للحل ديمقراطيا مثل كل المشكلات ولكنها حينئذ ستكون ديمقراطية الثورة التحررية
التي يلتزمها الثوار فيما بينهم ، فيعرفون أفضل السبل الثورية لتحرير
مجتمعهم . أما رفع رايات الديمقراطية عالية وعريضة لتخفي مشكلة الاستيطان والاستعمار
الظاهر والخفي والتبعية المفروضة أو المطلوبة
، فهو تواطؤ ضد الشعب
، وضد الديمقراطية
، وضد الوحدة ، مع أعدائهم جميعا .
المــــــــراجـــــــــع :
(01) VINCENZO Arangio- Ruiz, Histoire de droit Public
(1947), p. 110.
|
(02) Emile Mireaux, Philosophie du libéralisme
(Paris : flammarion, 1950), p. 16.
|
(03) Arangio-Ruiz, lbid, p.
59
|
(04) G.Glotz, La Cité grecque, p. 16, et Georges
Burdeau, Traité de sicence politique (1970), t.5, p. 251 note
13.
|
(05) Burdeau, lbid, p. 251.
|
(06) Finley, Démocratie antique et Démocratie
moderne, l’introduction
|
(07) Georges Burdeau, La Démocratie : Essai
Synthétique (Bruxelles : Office de publicité, 1956, p. 45 et S.
|
(08) Jacques Droz, Histoires des doctrines politiques
(1948), p. 5 et S.
|
(09) كان العرب يطلقون كلمة "برج" على البناء الحصين
الأركان، ونحسب أنها إحدى المفردات العربية الكثيرة التي دخلت اللغات
الأوروبية نتيجة للاحتكاك الحضاري.
(10 ) Julien laferriere Manuel
de droit constitutionnel 2ed Paris domat Montchrestien 1947 p 10
(11) هارولد لاسكي ، الحرية في الدولة الحديثة،
ترجمة أحمد رضوان عز الدين 1966، ص90
(12) Mireaux philosophie du liberalisme p30
(13) Paul bastid cours de droit constitutionnel Paris les
cours de droits 1960 p 107
|
(14) Raymond Carré de Malberg, Theorie générale de
l’Etat (1922), t.2, p. 24
|
(15) Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel
(1923),
t.1,p661
|
(16) جون
لوك، "النشأة الحقيقية للحكم المدني ومداه وأهدافه" في جان جاك روسو،
العقد الاجتماعي ترجمة عبد الكريم أحمد، مجموعة الألف كتاب، 419 ، ص 244 و
ما بعدها.
|
(17) Maurice Duverger, Institutions politiques en
droit constitutionnel, t.1 p.7
|
(18) Malberg, dans : Revue de droit public, (1931),
p. 235
|
(19) Cité par : Burdeau, Traité de Science
politique, p. 296
|
(20) Cité par : Robert Redslob, Le Régime
parlementaire : Etude sur les institutions D’Angleterre, de Belgique, de
Hongrie, de Suède, de France, de Tchécoslovaquie, de l’empire de Prusse, de
Bavière et d’Autriche (Paris ; M.Giard, 1924), p.32.
|
(21) Garrigou Lagrange, « Le Dédoublement
constitutonnel, » Revue de droit public, (1969), p.
639.
|
(22) Burdeau, Traité de science politique, p.
296
|
(23) E [smein] Adhémar, Eléments de droit
constitutionnel français et composé, 8éme ed. revue par Henry Nézard, 2
t. (Paris : Société anonyme du receuil sirey, 1927-1928), t. 1 p.
439.
|
(24) La Ferrière, Manuel de droit constitutionnel, p.
68
|
(25) Paul Bastid, Les Equilibres Constitutionnel 1956, p. 149
|
(26) Maurice Duverger, the Study of Politics, english
translation of « Sociologie politique » 1972, p.
184.
|
(27) جوزيف شومبيتر، الرأسمالية والاشتراكية
والديمقراطية ترجمة خيري حماد ج1 ص 122.
|
(28) Georges Ferrière, “Dissolution et referendum” revue
de droit public, 1946, p. 411
|
(29) René Capitant, Démocratie et participation
politique dans les institutions françaises de 1975 à nos jours (Paris ;
bordas, 1972), p. 10.
|
(30) Lagrange, « Le Dédoublement
constitutionnel, » p. 639.
|
(31) أنظر لعصمت سيف الدولة: أسس الاشتراكية
العربية (القاهرة الدار القومية للطباعة والنشر 1965
-
الطريق إلى الديمقراطية أو سيادة القانون في الوطن العربي ، بيروت ، دار الطليعة
،1970. نظرية الثورة العربية بيروت دار الفكر 1972، الأحزاب ومشكلة الديمقراطية
في مصر بيروت دار المسيرة 1977
|
(32) Jean Dobin, l’Etat ou la politique, p.
35.
|
(33) Del Vecchio, l’Etat ou le droit, p.
10.
|
(34) Adhémar, Eléments de droit constitutionnel français
et composé, p. 252
|
(35) Lenin, selected Works, vol. 2, p.
317.
|
(36) عائشة راتب مشروعية المقاومة
المسلحة جامعة القاهرة مكتبة كلية الحقوق ص 40 (بحث غير منشور).
|
(37) Norman [de Mattos] Bentwich and Andrew Martin,
A Commentary on the Charter of the united Nations (London: routledge and
Kegan paul; New York Macmillan, 1950), p.
7
|
(38) Verzijle International law
(1968), vol. 1, p.
322.
|
(39) راتب مشروعية المقاومة .... ص
41-42.
|
(40) المصدر نفسه ص 43.
|
(41) انظر لعصمت سيف الدولة: أسس الوحدة
العربية ، القاهرة مطبعة عبده وأنور احمد 1965 الطريق إلى الوحدة العربية ،
بيروت دار المسيرة 1979، والطريق إلى الديمقراطية أو سيادة القانون في الوطن
العربي.
|
* المقال منشور بمجلة المستقبل العربي عــــــــدد 60
شهر فيفري لسنة 1984، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، ص 90 - 112.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق