بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

نظرية الثورة العربية : الغايات 2.

pdf


 





الغايات :

ـ أولا ـ

الحرية   

(1) 

39 ـ مشكلات التحرر العربي : 

لسنا نريد أن نغادر الواقع العربي ونعود إلى التجريد الفكري لنقول ما هي الحرية . يكفي أن نتذكر ما عرفناه من أن كل الأشياء والظواهر، بما فيها الانسان، منضبطة حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين حتمية معروفة أو تمكن معرفتها . وبقدر ما نعرف وما نحترم حتمية القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الواقع نستطيع أن نغيره ( فقرة 2  ) . وإن جدل الإنسان هو القانون الحتمي الذي يضبط حركة الانسان . وأنه حتمي بمعنى أن الإنسان يتحرر من حاجته بتغيير واقعه وليس بتغيير ذاته كإنسان ولا يستطيع أي إنسان أن يتحرر من حاجته إلا بتغيير واقعه . إذ حتم على الإنسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن ينتزع حريته من قيود واقعه (فقرة 18)  . وإن المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها ولا تتطور إلا من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا أكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها لا أبعد (فقرة 18) . يكفي أن نتذكر هذا لنعرف أن ليس للحرية ، طبقاص لجدل الإنسان ، مفهوم سوى المقدرة على التطور الاجتماعي الذي عرفناه .

أما التحرير فهو إطلاق تلك المقدرة من القيود المفروضة عليها .

وقد عرفنا أن ليس كل ما هو متاح في الوطن العربي من إمكانيات التقدم الاجتماعي متاحاً للشعب العربي ، بعضه أو أكثره مغتصب أو مسلوب . وعليه فإن التحرر العربي هو استرداد الإمكانيات العربية المغتصبة والمسلوبة ووضعها تحت تصرف الشعب العربي ليحقق بها تقدمه الاجتماعي . ما هي تلك الامكانيات ، ولماذا هي مغتصبة أو مسلوبة ، ومن هم الغاصبون السالبون ، وكيف تكون تحت تصرف الشعب العربي ؟ …  تلك هي الأسئلة التي تثيرها مشكلات التحرر العربي . بالإضافة إلى سؤال يأتي أخيراً هو : كيف تسترد ؟

وأول ما يلاحظ من مشكلات التحرر هو أن التناقض الذي يثيرها قائم بين إرادة الشعب العربي توظيف كل الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة في وطنه وبين ” واقع ” أن بعض أو أكثر تلك الإمكانيات مسلوب أو مغتصب . ويكون حل المشكلة هو تغيير هذا الواقع باسترداد ما هو مسلوب أو مغتصب . هذه هي الغاية الأصيلة من النضال من أجل التحرر العربي . أما الموقف من الغاصبين السالبين وكيفية إسترداد ما اغتصبوه أو سلبوه ، وتصفية مقاومتهم فتلك مشكلات أسلوب التحرر، ويفيدنا هذا في معرفة :

أولاً : أن تلك الامكانيات يجب أن تسترد ، لا تراجع عن هذا ولا مساومة عليه ، بصرف النظر عن مواقف الغاصبين السالبين وتنوع الأساليب التي قد تكون لازمة لتصفية مقاومتهم .

ثانياً : إن معارك التحرر ليست حواراً نظرياً بين السارقين والمسروقين . ومن هنا فإن تحديد حقيقة مشكلات التحرر وحلولها الصحيحة وأسلوب تحقيقها يكون طبقاً للنظرية التي نلتزمها نحن لا طبقاً للنظريات التي قد يدعونها تبريراً لمواقفهم العدوانية .

ثالثاً : إن مسئولية كل ما يقتضيه التحرر من عنف يصيب البشر تقع على عاتق الغاصبين السالبين الذي أقاموا ذلك الواقع المعوق أو الذين يدافعون عن بقائه .

رابعاً : إنه ما دام حتماً على المجتمعات أن تتطور طبقاً للقوانين الموضوعية التي تحكم حركتها من الماضي الى المستقبل ، فإن النصر في معارك التحرر حتمي . طال الزمان أو قصر، ومهما تكن القوى التي تحمي وتدافع عن أسباب التخلف .

فما هي الامكانيات العربية المغتصبة أو المسلوبة ؟ .

إننا هنا في حاجة الى نظريتنا القومية التي عرفنا منها إننا أمة عربية وعرفنا منها ماذا يعني إننا أمة عربية وماهية العلاقات القومية التي تضبط حركتنا الى المستقبل . هنا سنستفيد من منطلقاتنا الصحيحة في معرفة غاياتنا العينية . هنا ستتميز ـ في الوطن العربي ـ الحركا القومية التحررية عن الحركات التحررية اللاقومية ، ويثبت أكثر من ذي قبل تفوق الفكر القومي في مقدرته على تقديم الحلول الصحيحة لمشكلات التحرر العربي وأن يكون ضابط الحركة ومناط الوحدة بين قواها ، وهنا ، في مواجهة التضليل الفكري الذي لا تكف القوى الغاصبة أو السالبة عن إستخدامه لاضعاف ثقتنا بالنصر، وفي غمار المعارك  التكتيكية ، التي قد تقتضي التقدم  أو التراجع أو الالتفاف أو الدوران أو المناورة سيفتقد كل الذين لا يلتزمون النظرية القومية اليقين العقائدي بالنصر والرؤية الواضحة للغاية النهائية من معارك التحرير . لانهم ببساطة لا يعرفون ما هو مجتمعهم ، فلا يعرفون ما هي الامكانيات المغتصبة أو المسلوبة ، فلا يعرفون من هم الغاصبون السالبون ، فلا يعرفون ساحة معركة التحرير، ولا قواها ، ولا الموضوع الذي يدور حوله الصراع .

نحن أمة عربية .   

والأمة تكوين من الناس ( الشعب) والأرض (الوطن ) . وهي مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة نتيجة تطور تاريخي مشترك . إن هذه العلاقة الخاصة بين الناس والأرض هي التي تميز المجتمع القومي ومصدر بنائه الحضاري المتميز . وهي التي تم بها تاريخياً تكوين أمتنا العربية . ” فا لشعب العربي (الناس) والوطن العربي (الأرض) يكونان معاً الأمة العربية التي ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التي تقيم عليها الى أمة . أو من أرض لا تخص شعباً بعينه الى أمة ، إلا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجوداً واحداً هو الأمة العربية ( فقرة 22 ) . وهكذا تشكل الأرض العربية ، الوطن العربي ، أول مجال نبحث فيه عن الامكانيات المغتصبة أو المسلوبة . وهي لا تكون مغتصبة أو مسلوبة إلا اذا كانت دخلت ، خلال التطور التاريخي ، عنصراً في تكوين الأمة العربية . وتكون غاية التحرر استردادها لتكون كما كانت أرضاً خاصة بالشعب العربي . لا أبعد من هذا ولا دون هذا . كل ذرة من تلك الأرض، كل ما في أعماقها وما فوقها من مصادر الإنتاج ، معروفة كانت أو غيير معروفة ، هي إمكانيات للتقدم متاحة في الوطن العربي وخاصة بالشعب العربي ، ويجب أن تكون متاحة له ليصنع بها تقدمه الإجتماعي الخاص .

من هنا ندرك أنه عندما يتعرض الشعب العربي، كله أو بعضه ، للابادة أو الطرد من أرضه ، وعندما يتعرض الوطن العربى، كله أو بعضه ، للغزو الاستيطاني أو الاقتطاع ، أي عندما تقوم محاولة لفصل الناس (الشعب) عن الأرض (الوطن) لا نكون بصدد خطر يتهدد بعض أبناء الشعب العربي يمكن تعويضهم عنه أرضأ بأرض ، ولا بصدد خطر يتهدد جزءاً من الوطن العربي يمكن الاستغناء عنه أو المساومة عليه ، بل نكون بصدد خطر يتهدد الوجود القومي ذاته . وهكذا تقوم لنا القومية أول ضوابط الحركة الى المستقبل . إسترداد الأرض العربية المغتصبة للشعب العربي ليكمل ما انتقص من وجود الأمة العربية . وهو حل لمشكلة وجود المجتمع ذاته وليس حلاً لمشكلة تطوره . والوجود يسبق المقدرة على التطور .. إذ ” عندما يكون ثمة مجتمع قد قام فيه ما يمس وجوده ، فإن مشكلة الناس فيه لا تكون تطويره بل استرداده لأنفسهم حتى يستطيعوا بعد هذا ـ وليس قبله ـ تطويره (فقرة 18)  .

فأين يقوم ” الواقع ” الذي يمس الوجود القومي ؟

في فلسطين . 

(2) 

40 ـ مشكلة فلسطين :

منذ اكثر من نصف قرن تقوم في فلسطين محاولة لانتزاع الارض من البشر . بدأت اختلاسا خفيا ثم تحولت الى اغتصاب بالقوة . انها ليست احتلالا لفلسطين ارضا وبشرا تسخر به القوىالمحتلة كلا من الارض والبشر لخدمة التقدم في بلادها البعيدة كما كانت تفعل انجلترا قبل سنة 1948 ، ولكنها محاولة بدأت قبل الإحتلال الانجليزي واستمرت في ظله وما تزال باقية بعده ، فيها تحاول الحركة الصهيونية الاستيلاء على الارض ” خالية ”  من الشعب العربي وتوطين بشر اخرين فيه بدلا من المطرودين . انها محاولة قريبة الشبه بما فعل المهاجرون الاوروبيون القدامى في امريكا واستراليا حيث أبادوا البشر ليقيموا على الارض الخالية مجتمعاتهم الجديدة . وفي سنة 1948 استطاعت الحركة الصهيونية ان تقيم على ارض فلسطين دولة باسم “اسرائيل” اعترفت بها أغلبية دول العالم وقبلت عضوآ في هيئة الامم المتحدة ، ورفضت الدول العربية الاعتراف بها واشتبكت معها في ثلاث جولات عسكرية خلال عشرين عاما وما تزال اسرائيل باقية . وقد عاصرت تلك المشكلة ثلاثة اجيال عربية ، تتابعت عليها النظم السياسية والاجتماعية المختلفة ، وتغيرت من حولها الظروف الدولية ، وفي كل جيل ، وتحت كل نظام ، ومع كل طرف دولي ، طرحت للمشكلة عشرات التفسيرات ، وقدمت لها عشرات الحلول ، وبذلت في حلها عشرات المحاولات ، وكتبت عنها مئات الكتب … فلا تزد المشكلة الا حدّة  وان كادت كل تلك الاحداث و”الاجتهاداتان تخفي الاجابة الصحيحة على اول الاسئلة التي تطرحها : ما هي حقيقة المشكلة ؟
وجاءت هزيمة يونيو (حزيران) 1967 فازداد الامر تعقيدا.
فمنذ عام 1967 جذب الصراع ضد الصهيونية الى ساحته افرادا وجماعات ومنظمات وشعوبا ودولا من اطراف الارض جميعا ، بحيث يمكن القول ـ بدون أية مبالغة ـ ان كل القوى النشيطة في العالم أصبحت اطرافا ذات نشاط في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . وحمل كل طرف قضيته ” ، معه ، بعدا جديدا ومضمونا مضافا ، الى ابعاد ومضامين المشكلة الاصيلة . وهكذا اصبح الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين دائرا بين اطراف عدة على مضامين متعددة من اجل غايات متباينة، تستعمل فيه كل انواع الاسلحة من اول الكلمات والنظريات الى آخر الصواريخ والطائرات . ولم يعد احد يذكر حتى ذرائع القتال في يونيو (حزيران) 1967. فقد عرّت الايام ما كان مستورا وكشفت نوايا كل الأطراف فبانت حتى لأقصر الناس نظرا الاعماق الحقيقية للصراع. فلا هو صراع حول أمن اسرائيل ، ” المستضعفة ” ، في مواجهة البغي العربي المتفوق عدة وعداء .. ، ولا هو صراع حول الملاحة في خليج العقبة ، ولا هو صراع حول اسلوب الحياة في الارض العربية ، بل هو صراع يدور ـ بلا موا ربة ـ حول ا لوجود والمصير. الوجود العريي ومصيره . والوجود الصهيوني ومصيره ، والوجود الا ستعماري ومصيره في الوطن العربي وربما في العالم. وهكذا يعرف كل الشركاء والحلفاء في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين انه ذو أثر حاسم في مصير كثير من العقائد (الايديولوجيات) والقوى والمصالح والنظم ، العربية والصهيونية وربما العالمية . وانه عندما تحل مشكلة فلسطين لن يكون المستقبل العربي مجرد امتداد لما سبق بل سيكون مستقبلا مختلفا نوعيا في قواه وفي نظمه وفي غاياته ، ومن هنا اصبح المستقبل ” العربي ذاته ، مستقبل الامة العربية كلها ، موضوعا يدور من اجله الصراع بين القوى المشتبكة في الصراع حول مستقبل فلسطين . ويعد له كل شريك في الصراع ، وكل حليف لاحدى قواه ” الصيغة ” ، التي تتفق مع مصالحه . ويدفع بالصراع ذاته الى الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد . يدفع بالصراع الذي يدور حول مشكلة فلسطين الى الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد في الوطن العربي . وليست ” النظريات ” ، التي كثرت اعلامها في سماء الوطن العربي منذ سنة1967  الا الصيغ النظرية لا لمستقبل فلسطين بل لمستقبل الامة العربية . وهي تطرح على الجماهير العربية لا بقصد تثقيفها أو تعريفها بالحقيقة كما لا بد يزعم دعاتها ولكن للاتجاه بالجماهير العربية من خلال الصراع القائم الى غايات نهائية معينة .
في غمار هذا كله يصبح من المهم لنا ان نعرف حقيقة مشكلة فلسطين ، وان نظل واعين حقيقتها ، والا نسمح لاحد بأن يضللنا عن هذه الحقيقة ، فاننا لن نعرف قط الحل الصحيح لأية مشكلة اذا جهلنا حقيقتها ، وعندما لا نعرف الحل الصحيح لن نحل المشكلة قط . ولقد نعرف انكل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس  لها و بصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها الا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها اكثر من حل خاطىء ، قاصر أو متجاوز أو مناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها، ولكن حلها الصحيح لا يمكن الا ان يكون واحدا بحكم ان الواقع الاجتماعي واحد” (1)  وعندما نطبق هذا على المجتمع القومي (الامة) ننتهى الى انللمشكلات الاجتماعية في الامة حلولا موضوعية يحددها الوجود القومي ذاته بما يتفق مع التقدم القومي . والصراع الاجتماعي حول المشكلات الاجتماعية لا يعني ان تلك الحلول غير معروفة أو غير قابلة للمعرفة ، بل يعني تماما ان الصراع يدور بين قوى تزعم كل منها انها تستهدف الحل الموضوعي الصحيح . وقد يكونون كلهم خاطئين ، ولكن الذي لا يمكن ان يكون ابدا ان يكونوا كلهم على حق فيما يزعمون  “ (2)  .
فما هي حقيقة مشكلة فلسطين وما هوحلها الصحيح ؟
لنبدأ بالوقائع التاريخية وهي بسيطة:  منذ الفتح الاسلامى والشعب العربي هو الذي يقيم ويعيش على ارض فلسطين . ومن اجلها دارت اقسى معارك الدفاع عن الارض المشتركة ضد الغزو الصليبي واشترك كل الشعب العربي بامواله وابنائه في تحرير فلسطين واستردادها من الصليبيين . ومنذ ان انحسرت نهائيأ موجات الغزو الصليبي لم يغادر الشعب العربي ارض فلسطين الى ان طرد بعضه من بعضها سنة 1948 . هذا تاريخ غير منكور . ولم ينكر احد حتى من الصهاينة ان الشعب العربي هو الذي كان يقيم ويعيش على ارض فلسطين منذ الفتح الاسلامي حتى سنة 1948. وهكذا ندرك عدم جدوى كل ما كتب في محاولة اثبات ما لم ينكره احد . انما يبدأ الخلاف حول تفسير الوقائع التاريخية غير المنكورة . وسنعرض فيها يلي الموقف  العربي القومي ثم الموقف الصهيوني قبل ان نعرض الحل القومي للمشكلة .
(3)

41 ـ الموقف القومي :

الموقف القومي من مشكلة فلسطين بسيط  وواضح :
فعندما ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضى الى المستقبل، نفهم أن فلسطين ، ارضا وشعبا، قد دخلت طورا جديدا بالفتح الاسلامي . لم تعد منذ ذلك الحين موقعا للصراع القبلى بين الكنعانيين والاسرائيليين والرومان بل استقر الامر فيها لتتخطى مرحلة البداوة القبلية حيث لا تخص الارض شعبا بعينه لتكون جزءا مؤثرا ومتأثرا ، متحركا ، ومتغيرا ، ومتطورا مع بقية الجماعات والشعوب التي وفر لها الفتح الاسلامي  اوسع فرص التفاعل التاريخي لتكون معا أمة عربية . واذا كانت العلاقات العرقية (السامية) بين المقيمين في فلسطين والمقيمين في بقية انحاء الوطن العربي قد سهلت عملية التفاعل تلك فان المهم هو ما ادى اليه التفاعل من تطور تقدمي انصهرت فيه الجماعات والشعوب السابقة على التكوين القومي العربي واصبحت به أمة واحدة . من هنا فانا لا نطرح مشكلة فلسطين ولا نفهمها ولا نحتج فيها استنادا الى أية وقائع تاريخية سابقة على التكوين القومى . ولا نقبل من أحد ان يطرحها او يفهمها أو يحتج فيها بما يسبق دخول فلسطين ارضا وشعبا عنصرا من عناصر التكوين التاريخي للامة العربية . ذلك لاننا كقوميين ، والقومية تقدمية، لا نحتج ولا نقبل الاحتجاج على ثمرات التطور التاريخي بتاريخ البداوة الاولى.

فلسطين اذن جزء من الامة العربية :

وبالتالي فان محاولة طرد الشعب العربي واغتصاب الارض العربية لتوطين بشر مستوردين هو اعتداء على الوجود القومي للامة العربية لا بد من أن يرد . هو انتقاص من المجتمع العربي لا بد من أن يستكمل . هو فسخ لعلاقة تاريخية بين الشعب والارض لابد من ان يزول ليعود الشعب الى الارض وتعود الارض الى الشعب فتبقى الامة العربية ” كما هي ، لا اكثر . كل هذا بصرف النظر عن جنس أو ديانة أو لون او مبادىء أو نوايا المعتدين . ان هذا مهم . لان الوجود القومي مجرد وجود خاص . فهو اضافة الى ، وليس ا نتقاصا من ، وجود الجماعات الانسانية الاخرى . وهكذا تكون القومية علاقة قبول واحترام للوجود الخاص لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية ، وهذا يعني ، طبقا لنظريتنا القومية ، ان حق الامة العربية في الوجود الكامل ، لا يتوقف على أحد . وبالتالي فان حق الشعب العربي في استكمال وجود امته باسترداد فلسطين لا يتوقف على ما اذا كان المعتدون يهودا أو غير يهود ، رأسماليين أو من الذين لا يملكون شيئا يخسرونه ، كما لا يتوقف ، على أي وجه وفي أي ظرف ، على موقف الدول من هذا الحق سواء كانت دولا كبرى  أو دولا صغرى ، منفردة أو مجتمعة ي منظمة هيئة الامم المتحدة . ان كل هذا الذي يتصل بالمعتدين وحلفائهم والموقف الدولي من المشكلة قد يؤثر بشكل أو بآخر على اسلوب حلها، اما حقيقتها القومية كما هي محددة بالوجود القومي العربي فلا تتأثر ولا تتغير بمواقف القوى الاخرى معتدية كانت أو حليفة او صديقة . حتى لوكانت حليفة او صديقة للشعب العربي نفسه .
تترتب على هذا عدة نتائج هامة يتميز بها الموقف القومى من مشكلة فلسطين .

أولاها : 

ان الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما بين  الشعب العربي وبين ، (اليهود) ، لانهم يهود . هذا خطأ جسيم في فهم المشكلة . ان العروبة قومية واليهودية دين ، فلكل منهما دلالة مختلفة على مضامين مختلفة . القومية العربية علاقة انتماء الى مجتمع قومي (أمة) والدين اليهودي علاقة ايمان بمقولات ميتافيزيقية . وكما يكون العربي يهوديا ويبقى عربيا يكون اليهودي منتميا الى أي واحد من المجتمعات التي تملأ الارض بدون ان يكون ثمة تناقض بين انتمائه الاجتماعي وايمانه الديني . ليس ثمة شيء ابعد عن حقيقة مشكلة فلسطين واكثر تشويها لها من القول بانها مشكلة صراع  ديني يحلها قبول التعايش بين الاديان على ارض فلسطين . فيوم ان اغتصب الصليبيون المسيحيون ارض فلسطين قاتل العرب ، مسلمين ومسيحيين ، الى ان استردوا الارض المغتصبة ، ومن قبل ان يبدأ العدوان الصهيوني على فلسطين كان العرب من كل دين يعيشون في سلام على ارض فلسطين . ان مشكلة فلسطين مشكلة ارض مغتصبة وليست مشكلة تبشير باحد الاديان . مشكلة قومية وليست مشكلة دينية . واذا كان الصهاينة المعتدون يخلطون القومية بالدين ويبررون العدوان بنصوص من ، (التوراة) ، فذلك ما يقوله المعتدون  أنفسهم لخدمة اغراضهم أو لتبرير عدوانهم … وعندما ننزلق نحن الى هذا الخطأ نكون قد قبلنا حجة المعتدين وشوهنا حقيقة مشكلتنا فلا نعرف حلها الصحيح ولا نستطيع ان نحلها . وقد نقع في الخطأ حتى بعيدا عن التصدي لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض  المتفقهين ، الامة العربية التي ينتمون اليها، والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ، ويقدمون الدين بديلأ عن القومية ، أو عندما ينفعل “ المتعصبون ” فيصبون جام غضبهم على ابناء امتهم العربية من اليهود ، لا يفعلون شيئا بتلك الاخطاء الغبية المضللة سوى خذلان امتهم المعتدى عليها والانتصار للصهيونية المعتدية . اذ عندما يصبح الدين بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهي بهم الامر الى اقتسام الوطن العربي فيها بين الاديان الثلاثة على الاقل . وايا ما كانت النسبة بين الاقسام فسيكون على كل مسلم أو مسيحي أن يخرج من ارض اليهود في فلسطين . أي يكون عليهم أن يقبلوا الحل الصهيوني الذي يظنون انهم يحاربونه بالتعصب الديني .
فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟

النتيجة الثانية : 

هي ان الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما حول النظم الاجتماعية في الارض العربية بين الرجعيين والتقدميين . انما هو قائم حول الارض المغتصبة ولمن تكون . فمن حيث الوقائع التاريخية كان كثيرون من عتاة الصهاينة ورواد الغزو الصهيوني لفلسطين من “ الاشتراكيين ”  بينما كان المدافعون عن الارض العربية اقطاعيين ” أو رأسماليين . وادى ذلك الى وقوع اكثر الناس ادعاء للفهمالعلمي ”  للمشكلات في خطأ فهم حقيقة مشكلة فلسطين باعتراف الاتحاد السوفييتي باسرائيل فور اعلان قيامها وانحياز الشيوعيين العرب الى الصهيونية ضد امتهم العربية .
 ولم يلبث التاريخ طويلا حتى كشف ذلك الخطأ ” العلمي ” جدا. اذ في مرحلة لاحقة اصبح الصهاينة الذين كانوا يوما من اعضاء ” البوند الماركسي “ ، حلفاء اوفياء للامبريالية الامريكية بينما اصبح المدافعون عن الأرض العربية من التقدميين والاشتراكيين . وفي الحالتين تغيرت مواقف القوى من النظم الاجتماعية ولكن المشكلة ظلت مستمرة والصراع قائما . وقد صحح الاتحاد السوفيتي ـ بقدرـ خطأه الاول . وصحح كثير من الماركسيين العرب مواقفهم تصحيحا كاملا . ولكن العبرة ليست بتصحيح المواقف انما العبرة بصحه فهم حقيقة مشكلة فلسطين . ومشكلة فلسطين مشكلة اثارها اغتصاب الارض العربية . والارض هي مصدر الامكانيات المادية للتقدم الاجتماعي ، فاغتصابها من الشعب العربي معوق لتقدمه فهو عدوان رجعي بصرف النظر عما يفعله بها وفيها المغتصبون . واذا كان الصهاينة لا يكفون عن عقد المقارنات بين اسلوب الانتاج الجماعي في الارض المغتصبة وبين اسلوب الانتاج الفردي في الوطن العربي فهم يحاولون اخفاء المشكلة الاصيلة تحت ستار الادعاءات التقدمية ليبرروا بقاءهم في الارض المغتصبة . وهو تضليل لم يضلل مثله احد من قبل يوم ان نشب الصراع المسلح بين الصين  والاتحاد السوفيتى حول بضعة اميال مربعة من الأرض على الحدود بين البلدين . لم يكن هناك شك في ان الاشتراكية هي نظام الحياة الذي ينتظر تلك الارض سواء آلت الى الصين أو الى الاتحاد السوفيتي . لم يكن أحد من الطرفين يشك في هذا ولم يثره أحد من الطرفين . إنما كان الصراع المسلح الذي وصل الى حد القتال الفعلي بين الاشتراكيين من الجانبين دائرا حول لمن تكون الارض . ان كان هذا واضحا يتضح لنا غباء الاخطاء المضللة التي تطرح مشكلة فلسطين كما لو كانت صراعا حول ملكية ادوات الانتاج في الارض العربية . وهي اخطاء غبية ومضللة حتى لو كانت تستهدف ـ غرورا ـ اضعاف الجبهة الداخلية في اسرا ئيل أو حتى شقها . لاننا انما نضعف القوى المعادية لنمزقها انتصارا لحقنا ولكن لا ندفع من حقنا ثمن اضعافها وتمزيقها . ولا يجدينا شيئا ان يتمزق المجتمع الصهيوني في اسرائيل الا من حيث انه قد يسهل حل مشكلة الارض المغتصبة منا . ولكن عندما يصبح هذا التمزيق غاية في ذاته بديلة عن الغاية الاصيلة فلن يزيد عن ان يكون انتقالا لارض فلسطين من فريق صهيوني نقول انه رجعي الى فريق صهيوني نقول ا نه تقدمي . وتكون المسألة كلها عبثا ؛ وعندما ينسى بعض المتشدقين بالتقدمية والاشتراكية والكادحين والبروليتاريا … الى اخر هذه الكلمات الكبيرة ان كل فلاح في اسرائيل يزرع ارض فلاح عربي ، وان كل عامل في اسرائيل محتل مكان عامل عربي ، وان كل اسرة في اسرائيل تعيش في منزل اسرة عربية ، عندما ينسون ان كل خطوة الى الامام في اسرائيل قد انتزعت الاقدام العربية من فوق طريق التقدم الاجتماعي ، ثم  يفتشون عن حلفاء من التقدميين الاشتراكيين الكادحين من بين الغاصبين بدعوى ان المشكلة مشكلة صراع حول ملكية ادوات الانتاج يدور بين ” الطبقات ” وليس صراعا حول ملكية مصادر الانتاج يدور بين المجتمعات ، فانهم لا يفعلون شيئا سوى دخول معركة الصراع الاجتماعي بين الغاصبين لينتصر فريق على فريق . يدخلونها ، ويا للسخرية ، من موا قع التشرد التي طردهم اليها الغاصبون . عندئذ يكون بعدهم عن فهم مشكلة فلسطين مساويا لبعدهم عن الارض المغتصبة ، وقد يقع الخطأ حتى بعيدا عن صفوف المطرودين أو التصدي المباشر لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض “أكلة” الكلمات الكبيرة الامة العربية التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ، ويقدمون “الاممية”، بديلا عن القومية انما يخذلون امتهم المعتدى عليها وينتصرون للصهيونية المعتدية . اذ عندما تصبح الاممية بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهي الامر بهم الى قبول الاحتكام الى وحدة الموقف من علاقات الانتاج ” بصرف النظر عن الانتماء القومي ” ، فيكون عليهم أن يقبلوا أن يزرع الفلاحون في اسرائيل ارض الفلاحين العرب وان يحل العمال في اسرائيل محل العمال العرب، وان يكون الفلاحون والعمال في الارض المحتلة هم الحلفاء الطبيعيين للذين سلبت منهم الارض وفرص العمل فاصبحوا مشردين . ولما كان سكان المخيمات عاطلين فانهم ، اذن، الاحتياطي البشري تحت قيادة ” البروليتاريا ” الاسرائيلية في نضالهاالثوري ” ، من اجل الاشتراكية . فهل يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم  ام هي اخطاء غبية ؟

النتيجة الثالثة :  

هى ان مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بمعنى انها ليست مشكلة ثائرة فيما بين الدول وليست مشكلة ثائرة ما بين الامة العربية من ناحية والمجتمع الدولي من ناحية أخرى . واذا كانت الدول تتدخل في مشكلة فلسطين انتصارا للحق العربي او دعما للعدوان الصهيوني فان الذي يحركها هو مصالحها الخاصة ولو كان السلام العالمي هو مصلحتها الخاصة . واذا كنا نحن نقيم وزنا للدول ومجتمعها ومصالحها التي تحركها كما نقيم وزنأ للسلام العالمي فلإن لنا في هذا مصالح تحركنا . ذلك لاننا لسنا منعزلين عن الدول ومجتمعها ولا نستطيع حتى لو اردنا أن نعزل انفسنا عن الدول ومجتمعها . ففي نطاق المجتمع الدولي نواجه حتمية القانون المعروف : ” كل شيء مؤثر في غيره متأثر به “. ولا شك في ان مواقف الدول من مشكلة فلسطين تؤثر وتتأثر . ايجابيا وسلبيا. باسلوب حلها . وهو ما يعني ان نأخذ من كل دولة ، ومن المجتمع الدولي كله ، الموقف الصحيح ونحن نحاول ان نحل مشكلة فلسطين . ولكن ما هو مقياس صحة الموقف ؟..  مقياسه أن يكون مساعدا في حل المشكلة أو أن يكون حلأ لها . وهوما يعني ان لمشكله فلسطين حقيقة نعرفها هي التي تحكم مواقفنا من الدول ومن المجتمع الدولي ، وان تدخل تلك الدول ومجتمعها الدولي في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين لا يغير من حقيقتها التي نعرفها ونلتزمها : ان ارضنا العربية في فلسطين مغتصبة.
فليكن السلام العالمي . هو المثل الذي نضربه ، لان السلام العالمي غاية مشتركة بين البشرجميعا . ان الحفاظ على السلام العالمي ـ طبقا لنظريتنا القومية ـ يتحقق باحترام الوجود الخاص لكل مجتمع كما هو محدد تاريخيا بصرف النظر عن الاسلوب الذي يقتضيه الحفاظ على السلام العالمي . نريد ان نقول ان استعمال العنف لا يعني ـ دائما ـ ان ثمة خطرا يهدد السلام العالمي . وقد يكون العنف ردا للعدوان هو الاسلوب الوحيد لحماية السلام العالمي . فنحن من موقفنا القومي لانصدق ولا نفهم ادعاءات السلام التي تتستر على الانتقاص من وجودنا القومي . ونرفض تماما ان ندفع أرض فلسطين أو اية ذرة من الارض العربية ثمنا لتلك الادعاءات الكاذبة ، لا لاننا لا نريد السلام العالمي ولكن لاننا لا نفهم السلام العالمي الا انه الكف عن الاعتداء واحترام الوجود الخاص لكل المجتمعات البشرية .
ان الدول لن تكف عن محاولات طرح مشكلة فلسطين كما تفهمها على ضوء مصالحها الخاصة ، ولن تكف عن طرحها كمشكلة سلام عالمي صادقة أو مخاتلة ، ولن تكف عن التدخل ، علنا أو خفية ، من موقع التحالف معنا أو التحالف مع الصهيونية أو استغلال الطرفين معا لتحقق ما تريد . وليس لنا ان نتوقع غير هذا ، وعلينا أن نجد لحل مشكلتنا الاسلوب الملائم لتحقيق غايتنا وسط كل هذه المؤثرات . لا شك في هذا ولا انكار له . ولكن عندما ننزلق الى طرح مشكلتنا أو قبول طرحها على انها مشكلة فيها بين الدول الاخرى أو مشكلة السلام العالمي انما ندفن مشكلة فلسطين تحت ركام الصراعات الدولية . وعندما ندفنها تغيب عنا حقيقتها فلا نعرف كيف نحلها ، ثم يكون علينا ان نقبل الاحتكام الى الدول لتحكم كل منها على ضوء مصالحها الخاصة ، أو نحتكم الى مقتضيات السلام العالمي كما يقدرها القادرودن على تدميره أو الخائفون من القادرين . وينتهي الامر بنا الى دفع ارض فلسطين ثمنا من عندنا ، لا للسلام العالمي ، ولكن لتسوية جزء من حسابات المصالح القائمة بين الدول .
وعندما نعرف ان مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بالمفهوم الذي ذكرناه ، ولا ننسى انها مشكلة ارض عربية مغتصبة نفلت من شباك التضليل الذي يثيره ادعياء العلم بالقانون الدولي عندما يزعمون ان مشكلة اغتصاب الارض العربية في فلسطين قد حلت منذ ان اعترف المجتمع الدولي بدولة اسرائيل وقبلها عضوا في هيئة الامم المتحدة . وانها منذ ذلك الحين قد اصبحت مشكلة سلام بين الدول المتجاورة . ان فقه القانون الدولي مليء بالنظريات عن الاعتراف بالدول وطبيعته المنشئة أو المقررة أو المختلطة ، وباثاره الملزمة فيما بين الدول المعترف بها والدولة أو الدول المعترفة . ولكن ليس في فقه القانون الدولي ولا في قواعده ولا في تطبيقاته ما يجعل لاعتراف دولة بدولة ثانية اثرا ملزما لدولة ثالثة لم تعترف بها . اذ ان القاعدة الاساسية التي يقوم عليها كل بناء القانون الدولي هي ان الدولة لا تلتزم الا بارادتها الخاصة . فما الذي يعنيه اعتراف كثير من الدول باسرائيل ؟… يعني ان تلك الدول قد اصبحت ملتزمة بارادتها بان تعامل اسرائيل كدولة ما دامت قائمة ولا يعني شرعية قيام اسرائيل على الارض العربية المغتصبة لان القرارات التي تأخذها الدول ، كما يعرف كل الذين يعلمون المبادىء الاولية في  القانون الدولي ، غير قابلة لاحداث أثر مشروع خارج نطاق الاقليم الذي تنصب عليه سيادتها . وما دامت الدول التي اعترفت باسرائيل ليست ذات سيادة على اقليم فلسطين فان اعترافها يضفي الشرعية على تعاملها مع اسرائيل ولكنه لا يضفي الشرعية على دولة اسرائيل ذاتها . لا يحول الاغتصاب الى عمل مشروع . ان هذا يقع خارج نطاق مقدرة الدول وهي تمارس سيادتها ، لا لاننا نريد ذلك ، ولكن لان تلك هي احكام القانون الدولي الذي يحتجون به كثيرا. اكثر من هذا ان الاعتراف بدولة اسرائيل لا يتضمن الالتزام بالمحافظة على وجودها . والا لكان الاعتراف المشروع دوليا حماية غير مشروعة . ومن هنا ندرك كم هي زائفة المقولة التي يهمس بها البعض ويهددنا بها الاخرون : ما دامت الدول قد اعترفت بوجود اسرائيل فإنها لن تسمح بزوالها أبدآ . فيوم أن تزول دولة اسرائيل يصبح الاعتراف السابق بوجودها غير ذي مضمون ويسقط . قد تدافع دولة أو أخرى عن وجود اسرائيل ولكن هذا لن يكون أثرا ملزما من اثار الاعتراف بها . سيكون حماية لمصالحها ايا كان مضمون تلك المصالح .
ان اعتراف كثير من الدول ، اذن ، باسرائيل لم يحل مشكلة فلسطين ولكنه كان حلا لمشكلات التعامل بين تلك الدول وبين اسرائيل . وبالتالي فان المشكلة ، كما هي على حقيقتها، ما تزال قائمة بالرغم من الاعتراف بدولة اسرائيل .
أما عن هيئة الامم المتحدة فان مبادئها الاساسية الواردة في المواد الاولى من ميثاقها تنكر الشرعية على الاستيلاء على الارض بالقوة . وعندما قبلت هيئة الامم المتحدة اسرا ئيل عضوا فيها ، قبل ان تجف دماء المذابح في الارض المغتصبة ، لم يكن الاعضاء الذين قبلوا يفعلون شيئا أقل من خيانة ميثاقها . وخيانة الميثاق ليست ملزمة لمن قبلوا الميثاق . نريد ان نقول انه بحكم ميثاق هيئة الامم ذاتها ليس لاعضائها ولو مجتمعين ان يخالفوا ميثاقها. وعندما يخالفونه تكون قراراتهم غير مشروعة طبقا للميثاق ذاته فهى ليست حجة على الدول التي قبلت ان تكون اعضاء في هيئة الامم المتحدة على أساس الالتزام المتبادل بالميثاق . هذا كله بدون حاجة الى اثارة ما لا بد ان يعرفه العالمون بميثاق هيئة الامم المتحدة ، من الذي وضعه ، وكيف وضع ، وفي اية ظروف دولية وضع ، وما هي المصالح الحقيقية ” ، التي وضع لحمايتها. وبدون اثارة ما يعرفه حتى الذين لا يقرأون ولا يكتبون من ان هيئة الامم المتحدة التي قبلت اسرائيل وما تزال ترفض الصين ليست الا أداة في يد من يملك القوة فيفرض بها القرارات الدولية (3).
والغريب انه بينما يتردد الزعم في اطراف الارض جميعا بان اسرا ئيل وجدت لتبقى ، وبان مشكلة اغتصاب الارض العربية قد حلت منذ اعتراف المجتمع الدولي بوجود اسرا ئيل ، يعرف الصهاينة قبل غيرهم انها ما تزال قائمة لم تحلها اعترافات الدول فيقاتلون منذ سنة 1948 حتى سنة 1967 . ويتشبثون بالارض التي احتلوها أخيرا في مواجهة كل الضغوط الدولية من اجل الاعتراف بوجودهم على الارض التي اغتصبت اولا ، من اجل فرض هذا الاعترات بالقوة على الامة العربية .
هل تتغير حقيقة مشكلة فلسطين فيما لو اعترفت باسرائيل احدى الدول العربية . أو الدول العربية مجتمعة ، أو شعب فلسطين نفسه ممثلا بدولة مصنوعة أو بدون دولة ؟
أبدا.
وهذا ينقلنا الى الجانب ” الداخلي “، من المشكلة كما نفهمها على ضوء نظريتنا القومية ..
نعرف أن  المميز الاساسي للامة عن الجماعات الانسانية السابقة عليها هو عنصر الارض الخاصة المشتركة . الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية الاخرى المشتركة فيما بين الناس فيها “. بقي أن نعرف الموقف القومي من مشكلة فلسطين كما يحدده كون الارض العربية ” مشتركة “، فيما بين الشعب العربي . انه يحدده من ناحيتين :

الناحية الاولى : 

لما كانت الامة العربية تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب العربي في الوطن العربي هو مشاركة تاريخية بين الاجيال المتعاقبة. وهذا يعني انه ليس من حق الشعب العربي كله ، من الخليج الى المحيط ، ولو كان ممثلا في دولة الوحدة ، ان يتنازل عن ارض فلسطين أو يقبل الوجود الصهيوني على الارض المغتصبة . ا نه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لانه ملك مشترك بينه وبين الاجيال العربية القادمة . ولو فعل لما كان ما يفعله حجة على الاجيال القادمة من الشعب العربي .

الناحية الثانية : 

انه لما كانت الارض العربية شركة بين الشعب العربي فليس من حق أي جزء من الشعب العربي ولو كان شعب فلسطين نفسه ان يتنازل عن ارض فلسطين أو يقبل الوجود الاسرائيلي على الارض العربية المغتصبة . انه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لانة ملك مشترك بينه وبين باقي شعب الامة العربية. ولو فعل لما كان ما فعله حجة على الشعب العربي .
ان هذه الناحية الثانية اكثر واقعية من الناحية الاولى . اذ ان دولة الوحدة لا تكتمل وجودا ما دامت ارض فلسطين مغتصبة ولو شملت باقي الوطن العربي . وانما أردنا أن ندفع بالفروض الى نهايتها لنؤكد بأوضح ما يمكن عدم شرعية التنازل عن ارض فلسطين أيا كان الجانب ” العربي ”  المتنازل ، ولو كان جيلا كاملا من الشعب العربي تمثله وتنوب عنه دولة وا حدة تعترف بالوجود الاسرا ئيلي على أرض فلسطين . ان أي جزء من الشعب العربي ممثلا في دولته أو الشعب العربي كله ممثلا في دولة واحدة ، أو شعب فلسطين ممثلا في دولة أو بدون دولة ، يعترف بدولة اسرا ئيل لن يفعل بهذا شيئا اكثر من الزام نفسه بالتعامل معها كدولة ولكن مشكلة الارض المغتصبة ستبقى قائمة يحلها حلها الصحيح باقي الشعب العربي ولواقتضى الامر تصفية المعترفين ، أو يحلها حلها الصحيح جيل قادم من الشعب العربي يصحح خيانة جيل سبقه . ولن يستطيع أحد أن يحتج على الذين يتصدون لاسترداد الارض المغتصبة  بالاعتراف الصادر من غيرهم أو بالاعتراف السابق على وجودهم ، لانهم كشركاء في الارض العربية شركة تاريخية غير ملزمين بما فعله أو يفعله شركاؤهم الاخرون .
 مشكلة فلسطين ، اذن ، لن تحل بالاعتراف بدولة اسرائيل يأتي من أي جانب عربي لانها مشكلة ارض مغتصبة ، لا من أي جيل من الشعب العربي يملكها وحده فيملك التصرف فيها ، ولا من أي جزء من الشعب العربي يملكها وحده فيملك ان يتنازل عنها ، بل مغتصبة من الامة العربية واجيالها المتعاقبة . ومن هنا ندرك جسامة خطأين متداولين في طرح مشكلة فلسطين :
الخطأ الاول هو الزعم بأن العدوان الصهيوني موجه ضد دولة عربية أو بضعة دول عربية ، وبالتالي تكون المشكلة قائمة بين اسرائيل وبين تلك الدولة أو الدول . صحيح ان الصهيونية المعتدية عندما استولت على الارض العربية كانت الارض التي اغتصبتها جزءا من اقليم (شبه) الدولة التي كانت قائمة في فلسطين تحت الانتداب البريطاني . وعندما اعتدت اسرائيل مرتين سنة 1956 وسنة 1967، ومرات عدة فيما بينهما ، اصطدمت بالدول العربية القائمة على الأرض المعتدى عليها. وانها ان تتوسع اكثر تصطدم بدول عربية أخرى لم يدركها العدوان بعد . هذا صحيح لان الارض التي اغتصبتها الصهيونية أو احتلتها اسرائيل لم تكن خالية من البشر ومن الدول  . وان الارض العربية التي حددتها لتكون وطنا لدولة اسرائيل ما بين الفرات والنيل ليست خالية من البشر ومن الدول ويثير كل هذا مشكلات جديدة بين اسرائيل والدولة أو الدول العربية المعتدى عليها . مشكلات الاستقلال والامن وضمان الحدود . وتضاف تلك المشكلات الى قائمة المشكلات القومية على أساس ان كل مشكلة في الامة العربية هي مشكلة قومية . صحيح أيضا انه كلما تحرر الشعب العربي في أية دولة عربية من قيود الاستعمار والاستبداد والاستغلال ، وكلما نمت مقدرة الشعب العربي في أية دولة عربية على التقدم الاجتماعي ، انتبهت الصهيونية الى المخاطر المقبلة التي تتعرض لها مخططاتها فيما لو سمحت لذلك النمو أن يبلغ غايته .
 اولا : لأنه بقدر ما يتحرر الشعب العربي بقدر ما يستطيع أن يحل مشكلة فلسطين .
وثانيا : لان محاولات التقدم ولو في ظل الاقليمية لن تلبث أن تعلم الجادين فعلا في ممارسة التنمية انهم يفتقدون الامكانيات المادية والبشرية الوفيرة المتاحة في الامة العربية وانالتقدم لا يقوم على أساس التجزئة ” عندئذ يعرفون ان مشكلة فلسطين هي مشكلة تخلف وان الوجود الاسرائيلي قيد ثقيل على محاولات التقدم الاجتماعي فيواجهون دولة الصهيونية بالارادة التي لا تهزم : ارادة التقدم الاجتماعي .
وثالثا : لان التنمية في ظل التحرر توفر افضل امكانيات التحرير، ومن هنا لا يكون غريبا مانلاحظه من أن مشكلة فلسطين تزداد حدة كلما تحققت في الوطن العربي خطوة تحررية . وان الصراع  ضد الصهيونية يصبح اكثر شراسة كلما تحققت خطوة تقدمية . وان قواها العربية تفرز وتتبلور . رويدا رويدا ، في القوى القومية التقدمية . ألم نر كيف انها الآن سنة 1971 أكثر حدة من سنة 1948. وان اسرائيل قد اصبحت اكثر شراسة من ذي قبل . وانها تدخر قوتها الضاربة وتعدها وتستعملها لهدم كل تقدم بناء في الجمهورية العربية المتحدة ، حيث يعيش ثلث الامة العربية، وحيث تقوم اكثر الجهود جدية في البناء الاجتماعي . ويبدو الامر من تتابع العدوان وتوقيته كما لو كان الاسرائيليون يضعون خطط الهدم على أساس خطط التنمية في الجمهورية العربية المتحدة . عدوان يهدم ، ثم فترة ليتفرغ فيها الشعب العربي لاعادة البناء ويبذل في كل هذا ما يتجاوز طاقته من تضحيات بشرية ومادية ومالية ، وعندما يقارب البناء مرحلة الاثمار، أي في تلك اللحظة المنتقاة حيث يكون الشعب العربي على وشك ان يذوق ثمار جهده ، تختلق الذرائع ويأتي عدوان اسرائيلي جديد ليهدم … وهكذا. ألم نر كيف تحول الصراع منذ سنة 1967 من معركة تهزم فيها القوات أو تنتصر ثم تنفض الى سباق حياة أو موت بيننا وبين اسرا ئيل . ولم تستطع اسرائيل ـ هذه المرة ـ أن تضرب ثم تعود فتسرح قواتها وتعد نفسها لجولة قادمة . بل اضطرت للبقاء في ساحة المعركة والدفاع حتى الموت عن وجودها بان تفرض حتى الموت ذلك الوجود والاعتراف به قبل ان تكمل القوى القومية في الوطن العربي مسيرتها التقدمية .
كل هذا صحيح وواقعي .
ولكنه يقوم على مستوى اسلوب الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . انها مشكلات ولدتها المشكلة الاصيلة ، تنصب مضامينها على متطلبات الصراع وعدة النصر فيه . فهو لا يطغى على مشكلة فلسطين ولا يغيرمن حقيقتها ولا يقوم بديلا عنها . ولو كانت اسرائيل تعلم ، أو حتى تتوهم ، ان التقدم الاجتماعي في أية دولة عربية ، لن يبنى لها من بين ما يبنى ، القبرالذي تدفن فيه ، لما همّها في كثير أو قليل ان تقوم بجوارها دولة نامية تتبادل معها السلع والخدمات والخبرات . أو لما بلغ اهتمامها حد القتال لهدم البناء التقدمي في الدول العربية . انما هي تهدم لانها تعلم ان ذلك البناء أحد اساليب النصر في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . وهكذا تبقى مشكلة فلسطين ، كما هي ، مشكلة اغتصاب الارض العربية بصرف النظر عن الدولة أو الدول التي كانت قائمة ، والقائمة ، والتي قد تقوم على تلك الارض . ذلك لان الأرض التي تقوم عليها الدول العربية ليست أرضا خاصة بتلك الدول أو بشعوبها . ان للشعب العربي في كل دولة حقا بينها مشتركا بينه وبين باقي ، الشعب العربي خارج حدودها السياسية . ومن هنا لا نستطيع أن نفهم ، من الموقف القومي، كيف يمكن أن يكون اغتصاب أو احتلال أية ارض عربية هو مشكلة ” خاصة بين المعتدين وبين الدولة أو الدول العربية التي تلقت ضربة العدوان . فلا نفهم ان يكون اغتصاب الارض العربية سنة 1948 واحتلال مزيد من الارض والمياه الاقليمية في سنتي 1956، 1967 وما بينهما مشكلات اقليمية قائمة بين اسرائيل والدول العربية ” المعنية ” كما يقولون .  وعندما لا نفهم المشكلات على هذا الوجه الزائف نرفض ـ من ناحية ـ ان تتنازل أية دولة عربية عن أرض فلسطين المغتصبة سنة 1948 فتعترف باسرائيل ولو في مقابل استردادها للارض المحتلة في سنة 1967. ونرفض ـ من ناحية ثانية ـ أن تتنازل أية دولة عربية عن ذرة من الارض التي تقوم عليها لاسرائيل ولو في مقابل استرداد ما يتبقى من ارض محتلة . ونرفض ـ من ناحية ثالثة ـ ان تكون مسؤولية تحرير الارض المحتلة والارض المغتصبة واقعة على عاتق جزء من الشعب العربي دون الشعب العربي كله من المحيط الى الخليج . كما نرفض ان تساوم بعض الدول العربية على جزء من الوطن العربي لتسترد جزءا منه ، نرفض ان يهرب جزء من الشعب العربي من المعركة ليتحمل جزء منه مسؤولية الامة العربية كلها .
مشكلة فلسطين اذن مشكلة قومية وليست مشكلة اقليمية .
واذا كان الصهاينة وحلفاؤهم يزعمون ولا يكفون عن ترديد مزاعمهم بأن مشكلة فلسطين هي مشكلة حدود آمنة واعتراف متبادل بين اسرائيل وجاراتها من الدول العرببة فذلك ما يقوله المعتدون وحلفاؤهم ليكسبوا به جولة الصراع حول وجود اسرا ئيل وليبدأوا بعده مراحل بناء دولة الصهاينة ، حربا حربا، ما بين الفرات والنيل . وعندما ننزلق نحن فننسى أن مشكلة فلسطين هي مشكلة اغتصاب ارض فلسطين (أليس هذا بدهيا ؟) ونطرحها كما لو كانت مشكلة توسع على حساب دولة أو اكثر من الدول العربية نكون قد سلمنا للصهيونية بما اغتصبت من الارض العربية قبل سنة 1967.  وعندما ينسى الاقليميون الامة العربية التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ويرددون كالببغاوات العجماء ان لكل دولة ” عربية ” شعبها الخاص وأرضها الخاصة وتاريخها الخاص ومصيرها الخاص … ويناقضون القومية بالاقليمية ، يناقضون الكل بالجزء ، يناقضون الشامل بالمحدود ، يناقضون العام بالخاص ، فيفتعلون بكل هذا تناقضات غير قائمة ، انما يخفون التناقض الحقيقي القائم بين الشعب العربي والوجود الاسرائيلي ، وينتصرون فيه للصهيونية وحلفائها بترديد دعاواهم الزائفة . اذ عندما ينحرفون الى المواقع الاقليمية ويزعمون ان لكل دولة عربية وجودا ومصيرا خاصا مستقلا يواجهون بأن الاستقلال علاقة ذات طرفين . استقلال بالنفس عن الغير. والغير هنا هو شعب فلسطين وارضه المغتصبة . ويصبح تدخلهم في مشكلة فلسطين تجاوزا لاستقلالهم واعتداء ، أو تطفلا ، على استقلال الاخرين يستحق الردع أو يستحق السخرية . ويسخر العالم كله فعلا من الذين يدعون انهم مستقلون بوجودهم ومصيرهم عن فلسطين ثم لا يتركون فلسطين لمصيرها . وعندما تطرح مشكلة فلسطين على الذين يرددون المنطلقات الاقليمية لا يكون امامهم الا الاحتكام الى القواعد الدولية التي تنظم علاقة الجوار فيها بين الدول : الاعتراف المتبادل وتبادل التمثيل السياسي ودعم الصداقة … أو ـ على الاقل ـ قبول حماية الدول لحدود دولهم لتضيع أرض فلسطين الواقعة خارج تلك الحدود . فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟
الخطأ الثاني المتداول فيما يطرح عن مشكلة فلسطين ليس الا ” تطبيقا خاصا ” للخطأ الاول . انه الزعم بأن مشكلة فلسطين هي  مشكلة خاصة بشعب فلسطين . يقولون ان شعب فلسطين هو الذي كان يعيش على الارض المغتصبة . وهو الذي  طرد منها . وهو الذي ما يزال مشردابدون أرض وبدون هوية ” . وهو الذي سيعود الى الارض عندما تسترد . فهي مشكلته الخاصة . هل يستطيع أحد أن ينكر أن اغلب الذين كانوا يعيشون على الأرض المغتصبة هم الذين طردوا منها بالامس ، المشردون خارجها اليوم ، العائدون اليها غدا ؟… لا أحد . ان احتجوا بالواقع غير المنكور ترسي القومية له أسسه العقائدية : ” ان وحدة الوجود القومي تعني اختصاص الشعب بالوطن . ولما كان الشعب امتدادآ من البشر على الارض فان وحدة الوجود القومي لا تناقض ولا تلغى ولا تنفى ولا تحول دون اقامة جزء من الشعب على جزء من الوطن . فتلك هي الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي ” . عودة المطرودين المشردين الى الارض المغتصبة ليست ـ اذن ـ مجرد استرداد للمزارع والمصانع والمتاجر والمنازل ، ليست مجرد عملية انقاذ لسكان المخيمات ، انها اكثر من هذا عمقا وضرورة . انها الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي . ومع هذا فليست مشكلة فلسطين مشكلة ” خاصة ” بشعب فلسطين . اذ ان هذا هو الوجه الثاني من عملة الاقليمية الزائفة فحيث لا تتوافر لهم شجاعة الكشف عن الوجه الخاص بهم ليقولوا ان مشكلة فلسطين ليست مشكلتنا الخاصة ، يكشفون الوجه الاخر فنقرأ ” مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين ” ويسترون هذا الخداع  بأكثر الصيغ عطفا على شعب فلسطين : رفع الوصاية عن شعب فلسطين، عدم التدخل في شئون شعب فلسطين ، حق تقرير المصير لشعب فلسطين ، الحقوق ” القومية ” لشعب فلسطين ، التحالف مع  شعب فلسطين ، بطولة شعب فلسطين … الى آخر تلك الصيغ الزائفة مهما تكن عاطفية . اذ ان حصيلتها النهائيه ان اذهب شعب فلسطين وربك فقاتلا انا هنا  قاعدون .
عندما يصدر هذا كله أو بعضه من الاقليميين الذين لم يطردوا ولم يشردوا من ارض فلسطين ولن يعودوا اليها ولو كانت خالية من اسرائيل يكون مفهوما تماما . انها الاقليمية الهاربة من الصراع من اجل استرداد ارض لا تعتبرها ارضها ، المتطلعة الى الافلات من مشكلة لا تعتبرها مشكلتها . والتي لا مانع لديها في كل الحالات ان يقبل المطرودون التعويض بدلا من العودة . ان يبيعوا ارض الوطن لمن يستطيع ان يدفع الثمن ، ثم تبقى اسرائيل . اما ان يصدر هذا كله او بعضه من المطرودين المشردين أنفسهم فذلك أمر غريب مريب . ان يقل المطرودون المشردون من الارض المغتصبة أن مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين لا يفعلون شيئا سوى ابتلاع الطعم المسموم الذي القته الاقليمية في افواههم . ويكون عليهم ان يتمثلوا نتائجه القاتلة حتى النهاية : السماح للاقليميين بالهروب من المعركة ، وصد القوميين عن الاسهام في المعركة ، ومحاولة استرداد الارض الخاصة بهم من مواقعهم في الارض التي تخص غيرهم . وعندما يواجهون الاقليمية المخاتلة تقول لهم استردوا ارضكم كما تشاءون ولكن لا تمسوا سيادتنا على أرضنا ، وتدفعهم بالعطف المخادع أو بالقوة الغاشمة الى أن يقبلوا جزءأ من الارض المغتصبة ليقيموا عليها ” دولة فلسطينية ” تكون بمجرد قيامها اعترافا حيا بدولة اسرائيل … حينئذ سيشعرون  ببرودة الموت الذي دفعتهم اليه الأقليمية . فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟.
ليس ثمة أمة تخلو من الخونة . ولكنا لا نستطيع أن نسند الخيانة الى أي عربي لا نملك على خيانته دليلا غير قابل للشك . فقد علمتنا القومية أن مصيرنا مرتبط ـ بمصير أبناء امتنا حتى الاغبياء منهم والمخطئين . فلنقل اذن انهم لا يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم . كل هؤلاء الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، أو اغلبهم ، فيطرحونها كما لو كانت مشكلة دينية ، أو مشكلة نظم اجتماعية ، أو مشكلة دولية ، أو مشكلة اقليمية … لا يقبلون الوجود الاسرائيلي في فلسطين ويجتهدون ـ بحسن نية ـ لحل مشكلة لم يفهموها فهما قوميا فلم يفهموها فهما صحيحا، فتأتي الحلول خاطئة . انهم اذن يخذلون انفسهم وتلك قمة الغباء . الا يقولون جميعا ان مشكلة فلسطين مشكلة ” عربية ” ويستغيثون بالمائه مليون عربي بدون أن يقولوا انها مشكلة ” قومية ” ثم لا يفطنون الى ان العروبة التي لا تعني الانتماء الاجتماعي والمصيري الى الامة العربية . هي كلمةفارغة ” من أي مضمون لا يقوم عليها التزام بغاية . الا يقولون انه صراع ديني ولا يفطنون الى ان الوطن العربي هو مصدر الاديان وان حركة التقدم العربي في تاريخها الطويل قد جمعت الاديان جميعا . الا يتذكرون أن الصهيونية قد اعتدت أولا والنظم العربية عميلة للاستعمار، واعتدت ثانيا والنظم العربية متحررة ، واعتدت اخيرا والنظم العربية تقدمية وفي كل مرة كانت تستهدف الارض لتخليها من البشر ثم يقولون انه صراع بين النظم الاجتماعية ؟… الا يعرفون ان الدول الاستعمارية هي التي كانت وما تزال تصنع القرارات الدولية ، بالقوة ، ومع ذلك يحتجون بالقرارات الدولية ؟… ألا يعلمون انه عندما وضعت الصهيونية مخططات اقامة دولتها على الارض ، العربية واختارت فلسطين بداية في مؤتمر بال سنة 1897 لم تكن ثمة أية دولة عربية قائمة في الوطن العربي ، لا في فلسطين ولا في غير فلسطين ، بما تعنيه الدولة من سيادة على الارض، بل كان الوطن العربي اما جزءا من الدولة العثمانية واما أجزاء يحتلها المستعمرون الاوروبيون ، ثم يزعمون ان الصهيونية تقصد بالعدوان هذي أو تلك من الدول العربية … الا يرون أن ” الممارسة ” الفعلية للصراع بين الشعب العربي والحركة الصهيونية حول الارض المغتصبة في فلسطين يثبت ان مشكلة فلسطين مشكلة قومية ، فتدخل حلبة الصراع الذي تثيره اجيال متعاقبة من الشعب العربي ، من كل مكان في الوطن العربي ، من كل دين ، من كل طبقة ، من كل دولة ، بدون توقف على القرارات الدولية .. ولا يسمح الصراع ذاته لاي جيل عربي ، أو أي جزء من الشعب العربي ، أو أية ” طبقة ” أو أية دولة ان تهرب من حلبته فيقتحم العدوان الصهيوني واثاره المخربة كل مكان في الوطن العربي لا يمنعه الهرب ولا تصده القرارات الدولية ؟… فلماذا هذا الاصرار الغبي على انكار القومية وهي العلاقة  الوحيدة التي تفسر الممارسة وتبررها وتمكننا من النصر فيها فلا تخذلهم ولا تهزم غايتهم ان كانواـ حقا ـ لا يقبلون الوجود الاسرائيلي في فلسطين ؟..
ان كان كل هذا غائبا عن ” فطنةالذين يشوهون مشكلة فلسطين ، وعجز الموقف القومي عن ان ينبههم الى ما يخذلون به أنفسهم فلعلهم ينتبهون اليه عندما يعرفون الموقف الصهيوني من مشكلة فلسطين . لعلهم ، ان كانوا عاجزين عن تحديد مواقفهم ” عقائديا ” من مشكلة فلسطين أن يأخذوا الموقف المضاد لاعدائهم بعد أن يعرفوه ، ولو عرفوه ثم أخذوا منه موقفا مضادا لوجدوا أنفسهم في الموقف القومي وان كانوا  قد وصلوا اليه كرد فعل لا كفاعلين .

(4)

42 ـ الموقف الصهيوني :

نشأت الصهيونية في اوربا نتيجة عدة عوامل متفاعلة .
اولها : ان ” التوراة ” التي يتداولها اليهود ، وهي كتاب ظهر لاول مرة في عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة (سفر الملوك الثاني ، اصحاح 22) ، علمت وتعلم اليهود انهم ” شعب الله المختار ” وتضعهم في موقع العزلة الممتازة من الشعوب الاخرى . وتسند التوراة هذا الاختيار الى اعجاب الله بقوة يعقوب ولذلك تحدد لليهود مضمون امتيازهم على الاخرين بانهم أقوى من غيرهم . ذلك لان الله  قد اختارهم واسمى يعقوب ، جدهم الاعلى ، باسماسرائيل ” على أثر مصارعة جسدية قامت بين يعقوب وهو في طريقه الى ارض كنعان وبين الله  ذاته ، لم يهزم  فيها يعقوب فاعجب به الله وباركه واختاره (سفر التكوين 322 اية 25 - 29) وهكذا استقر في اذهان اجيال متعاقبة من اليهود ، ” ايمان ” بانهم شعب قوي ممتاز اختاره الله فاختصه برعايته دون البشر اجمعين ، وحذره من الاختلاط بالشعوب الاخرى حتى لا تلوث نقاءه . ” اني ادفع الى ايديكم سكان الارض فتطردوهم من امامك . لا تقطع معهم ولا مع الهتهم عهدا. لا يسكنوا في ارضك لئلا يجعلوك تخطىء ” (سفر الخروج ، اصحاح 33   آية 22 ، 23) . وقد ادت تلك الاساطير القبلية الى ان اصبحت اليهودية ، بالنسبة الى المتدينين من اليهود ، تتضمن ” عنصرية ” مقدسة تجمعهم على عداء  مقدس ” للشعوب .
ولم يكف كهنة اليهودية عن تغذيتها بحيث اصبحت القيم اليهودية ذات حدين، فبينما تفرض على اليهود التزامات وثيقة بالتضامن الاجتماعي فيما بينهم تبيح لهم ان يعاملوا الشعوب الاخرى بدون قيد اخلاقي أو اجتماعي . قال حكماء صهيون : ” اضربوهم وهم يضحكون . اسرقوهم وهم لاهون . قيدوا ارجلهم وانتم راكعون . ادخلوا ، بيوتهم واهدموها .  تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ” . أما ” يهو” الاله الخاص ببني اسرائيل فقد وعد شعبه المختار بان يقوده ” الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وآبار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها ، ( سفر التثنية . اصحاح 6 اية 11) وتكمل الاساطير البناء الاجتماعي القبلي فتقدم الى اليهود وحدة الاصل لتؤدي وظيفتها في التضامن الاجتماعي الداخلي فتقول ان كل اليهود ، في كل مكان من الارض ، ومن أي جنس، وأي لون ، هم سلالة الاسباط الاثنى عشر ابناء يعقوب (اسرائيل) بن اسحاق بن ابراهيم ، ووحدة الرمز (الطوطم) في جبل صهيون الذي دارت فوقه المصارعة التي اثبتت قوة اسرائيل (يعقوب) التي لا تقهر .
اننا نتعرف في كل هذا على خصائص الطور القبلي الذي مرت به كل المجتمعات : الاله الخاص ، والاصل الواحد ، والتضامن الداخلي ، والعدوان الخارجي ، وتمجيد القوة . وهو طور كان سائدا في جميع انحاء العالم يوم ان ظهرت التوراة لاول مرة في اوائل القرن الخامس قبل الميلاد . وعلى هذا فان اليهود لم يكونوا بدعة قبلية لا في تكوينهم ولا في اساطيرهم يوم ان كانوا طرفا في الصراع القبلي الذي كان يدور في كل مكان من الارض والذي انتصروا فيه مرات وانهزموا فيه مرات ثم انتهى بهزيمتهم النهائية عسكريا بالغزو الروماني وفكريا بظهور المسيحية . ثم جاءت مرحلة الاستقرار على الارض بالفتح الاسلامي فدخلت بقايا القبائل اليهودية في شرق وجنوب البحر الابيض المتوسط مع غيرها من القبائل والشعوب الاخرى ، مرحلة التكوين القومي واصبحوا عربا . ولعل مثل هذا التطور أن يكون قد حدث في كل مكان عاش فيه اليهود ، الا اوربا  .
ففي اوربا عاش اليهود قرونا منعزلين في احياء مقصورة عليهم عرفت باسم ” الجيتو ” حتى نهاية القرون الوسطى . ولم يكن أي ” جيتو” الا مجتمعا قبليا مغلقا على اصحابه حبس تطور الجماعات اليهودية في اوربا عند الطور القبلي لا يتجاوزونه . وكان مرجع ذلك الى ان اليهود في اوربا كانوا محاصرين بتعصب كنسي يظن ان له عند اليهود ثأرا قديما : صلب المسيح . من اجله طردهم فيليب اوجست من مملكته . ومن إجله أمر البابا أنوسنت الثالث بأن يميز اليهود بعلامات توضع على ملابسهم .. ومن اجله احرقت كتب اليهود في الميادين العامة . وقد يكون وراء كل هذه الاساطير ذلك السلاح الاستغلالي الفتاك الذي يجيده اليهود : الربا . فبينما كانت الكنيسة تحرم الربا ، كانت اليهودية تأخذ منه موقفها القبلي ، فى تحرمه فيها بين اليهود وتبيحه إذا كان ضحيته غير يهودي وعن طريقه موّل اليهود في اوربا أمراء الاقطاع في حروبهم التي لا تنتهي وفي ترفهم الذي لا يشبع فسيطروا عليهم وسيطروا على الشعوب من خلالهم وكان رد الفعل تحديد اقامتهم في اماكن خاصة وتحريم كثير من أنواع النشاط المنتج عليهم .
أيا ما كان الأمر فان اليهود في اوربا ظلوا حتى نهاية القرون الوسطى في الطور القبلي بكل خصائصه التي عرفناها . ثم جاءت الثورة الليبرالية فاطاحت بالتعصب الكنسي ، وانهت قضية الثأر القديم ، بل وأدت ، على المستوى الديني ذاته ، الى لقاء  بين المسيحية واليهودية في المذهب البروتستنتي ، وتجسد كل هذا في اعلان حقوق الانسان الذي اصدرته الثورة الفرنسية التي حرصت على الغاء كلمة الدين من أية وثيقة دستورية ، وكانت في كل هذا نموذجا للثورات التحررية التي عمّت اوربا وانهت عهد الاقطاع . وهكذا ، بعد تخلف حضاري طويل ، فتح باب التطور واسعا امام اليهود  ليغادروا الطور القبلي ويندمجوا في المجتمعات الاوربية التي يعيشون فيها . وقد غادرته الكثرة الغالبة منهم خاصة في اوربا الغربية حيث اصبحوا افرادا عاديين في مجتمعاتهم ، وتخلفت عن الركب الحضاري قلة قبلية متناثرة في اوربا الشرقية المتخلفة بدورها . وقد كان من الممكن أن ينتهي الامر بتلك القلة ـ الى ان تتطور وينتهي عهد العصبية اليهودية لولا ان الليبرالية التي جاءت بالتسامح الديني في ظل ” الاخاء والحرية والمساواة ” قد جاءت أيضا بالنظام الرأسمالي .
 بقانون المنافسة الحرة واطلاق الافراد من أي التزام من قبل المجتمع الذي ينتمون اليه . ثم بعدم تدخل الدولة في النشاط الفردي على أساس ان ” مصلحة المجتمع ستحقق حتماً وتلقائيا من خلال تحقيق كل فرد مصلحته ” بحكم القانون الطبيعي . واخيرا باباحة الكذب والغش والخديعة والتعسف والربا والغبن والاكراه الاقتصادي والادبي طبقا للقاعدة القانونية الليبرالية الشهيرة : ” القانون لا يحمي المغفلين “. فاتاحت الرأسمالية للعنصرية اليهودية المتخلفة اوسع الفرص لتجسد ـ ايجابيا ـ عداءها القبلي ” المقدس ” للشعوب بوسائل اصبحت مشروعة في ظل الليبرالية . وتحول كل “جيتو”  الى وكر تآمر وتخطيط وتعبئة نشيط ومعادٍ لكل ما ومن  ليس يهوديا . وانطلقت العنصرية اليهودية بذهنيةالمؤمنين ” بامتيازهم في مجتمعات يرفضون الانتماء اليها، في ظل نظم تبيح لهم الاستغلال، ليفرضوا  سيطرتهم على الشعوب بكل الوسائل . ولم يكن غريبا ان ينتهي كل هذا الى ان يصبح اليهود في المجتمعات الرأسمالية هم سادةالمال ” المسيطرين على ارزاق الناس من خلال البنوك . ان هذا أمر جدير بالتأمل . لماذا يفضل اليهودي عنصر المال ليكون مجال نشاطه وأداة سيطرته كما لو كان مثله الاعلى هو ” تاجر البندقية ” ؟ .. ألأن تلك هي الصنعة التي احتكروها فاتقنوها في ظل الاقطاع ؟ أم لأن عنصر المال هو، في التحليل الاخير، مناط السيطرة في الاقتصاد الرأسمالي ؟… أم لان ” الفائدة ” اكثر ضمانا من ” الربح ” ؟.. قد يكون السبب واحدا أو اكثر من هذا كله ، وقد يكون هذا كله مجتمعا في تقاليد ” حرفية ” كما كان الامر بالنسبة الى الصناعات الاخرى  في ظل الاقطاع حيث تتجمع كل طائفة من الناس حول ” حرفة ”  واحدة يحتكرونها ويتوارثونها ، ولكنه ما بقى بعد انقضاء عهد الحرفيين الا لأنه يتفق مع العنصرية القبلية الموروثة . ذلك لأن النظام الرأسمالي في نشأته كان نظاما تقدميا بالنسبة الى النظام الاقطاعي الذي كان سائدا في اوربا في قبله . وقد استطاعت الرأسمالية أن تحول المجتمعات الاوربية الزراعية الى مجتمعات صناعية وان ترسي أسس حضارة مادية وعلمية معا حققت قدرا من التقدم الاجتماعي يمثل الجانب الايجابي البناء من اثارها . ويبدو ان الخلفية المعادية للشعوب التي كانت ثمرة الجمود العنصري الذي تربت عليه اجيال متعاقبة من اليهود في اوربا ، حالت دون ان يجد اليهود في البناء الاقتصادي وما يصاحبه من تقدم اجتماعي ما ” يغريهم ”  فاختاروا البنوك كأدوات للسيطرة على المجتمعات ولم يختاروا ” المصانع ” لانها أدوات البناء الاجتماعي . وسيختارون بعد ذلك ا لصحافة والاعلام عندما تصبح أدوات للسيطرة  . وسيختارون الارهاب المسلح ويتقنون استعماله كما اتقنوا استعمال المال والصحافة والاعلام  في المجتمعات التي عاشوا فيها . كل ذلك لسبب بسيط هو انهم لا يعتبرون تلك مجتمعاتهم ليسهموا في بنائها بل يعتبرونها اعداءهم فعليهم بأمر “ يهو” أن يسيطروا عليها أو يخربوها . ان هذا يفسر ـ فيما نعتقد ـ  الصورة الاوربية لليهودي الجبان الذليل الخائن .. وليس الجبن وقبول المذلة والخيانة لصيقة بأي دين وعلى وجه خاص ليست واجبا دينيا على اليهود الذين يعلمهم دينهم الشراسة ويمجد العدوان  ويقيم امتيازهم على القوة الجسدية التي من اجلها اصطفاهم الله شعبا مختارا . انما كان الجبن والخيانة وقبول المذلة تعبيرا عن ـ رفض اليهودي مخاطر المغامرة الايجابية وضريبة الوطنية من اجل المجتمع المرفوض اصلا . وكان قبول المذلة تحايلا على المجتمع الاقوىقيدوا ارجلهم وانتم راكعون ” . باختصار يلتزم اليهودي قيمه القبلية الخاصة ويرفض الالتزام بقيم المجتمع الذي يعيش فيه فيبدو شاذا في مجتمعه لانه يرفض الاندماج فيه ، ولا يرى هو في موقفه شذوذا لان الانعزال عن  الغرباء ” والعداء لهم فضيلة قبلية .
على أي حال ، عندما انتبهت الشعوب الاوربية الى الاستغلال الرأسمالي الذي ابتلع أو كاد المكاسب التي كانت مأمولة من وراء ثورات التحرر من الاقطاع التفتت الى تلك ” الطائفة القبليةالتي تقاوم التطور الحضاري وتجسد الكراهية . والاحتقار لكل من لا ينتمي اليها ، وتتآمر خفية فتصنع لها لغات خاصة لا يعرفها غيرها ( الييدش في شرق اوربا وهي مشتقة من الالمانية واللادنيو في غرب اوربا وهي مشتقة من الاسبانية) ، وقبل هذا وفوقه تموّل النظام الرأسمالي وتدير حركته الاستغلالية من مقاعدها في البنوك . وكان للمستغلين الرأسماليين من غير اليهود مصلحة لا شك فيها في ان يوجهوا غضب الجماهير المقهورة بعيدا عن النظام الرأسمالي الاستغلالي فاشتركوا بوسائل شتى في تركيز الانتباه على العنصرية اليهودية ، وحملوها وحدها مسئولية الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي الذي تعانيه الشعوب ، حتى تخرج الرأسمالية بريئة . وهكذا تعاظمت موجة كراهية اليهود واحتقارهم واضطهادهم التي عرفت بـ  ” معاداة السامية ” . اما  لماذا  السامية مع ان يهود اوربا ليسوا ساميين ، فلأنهم لو اسموها اسما ” معاداة اليهودية ”  لفضحت دعاوى التحررية والعلمية التي تروجها الرأسمالية المنافقة . وهكذا نمت مشكلة اليهود في اوربا من بذور عنصرية طائفية متخلفة تغذت من عفن الرأسمالية المستغلة .  
ولم يكن حل المشكلة خافيا حتى على الاغلبية الساحقة من اليهود الذين تحرروا من البداوة القبلية واندمجوا في مجتمعاتهم . فقد كان الحل يقتضي ان تتحرر الاقلية اليهودية من اساطيرها الخرافية وان تتجاوز الطور القبلي لتندمج في المجتمعات التي تعيش فيها كما فعلت الاكثرية . وكانت الاشتراكية المطروحة افكارها بقوة خلال القرن التاسع عشر تمثل الامل الاجتماعي الذي تنتهي به ، والى الابد ، كل أنواع القهر . كان ذلك هو الحل التقدمي لمشكلة اليهود في اوربا ومشكلة المجتمعات الاوربية  بما فيها من يهود . وضد هذا الحل بالذات تحالفت اقلية يهودية متخلفة تقاوم حركة التطور وتتحالف مع الرأسمالية الاستعمارية التي تستغل البشر جميعا بما فيهم الاقليات المتخلفة .
وشهد عام 1897 مولد منظمتين من العنصريين اليهود . كل منهما منظمة ” صهيونية ” . ستحاول المنظمة الاولى افساد حل المشكلة اشتراكيا فتفشل . ينجح الحل ويهرب العنصريون . وتقوم الثانية بالتحالف مع القوى الاستعمارية فتنتجح الى حين فتقوم في الأرض العربية دولة عنصرية في سنة 1948.
أما المنظمة الاولى فهى ” الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندة ” ( البوند) . ويلاحظ منذ البداية انها منظمة لليهود دون غيرهم في كل من روسيا وبولندة أي بدون اعتداد بالانتماء القومي لأي من الامتين الروسية والبولندية لانها تعتبر أناليهودية ” رابطة ثالثة وذلك هو مميزها العنصري . ومن ناحية ثانية انها منظمة عمالية تستهدف الاشتراكية وقد اصبحت جزءا . من “حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ” القائم على منطلقات فكرية ماركسية . فقد تشكل ” البوندسنة 1897 كواحد من المنظمات العديدة التي كانت تكون ما عرف باسم الحركة الاشتراكية الديموقراطية في شرق اوربا . وقد اجتمعت تلك المنظمات في منسك سنة 1898 واتفقت على أن تتوحد في ” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي تم انشاؤه فعلا في المؤتمر الثاني (التأسيسي) الذي انعقد في بروكسل ثم في لندن سنة 1903. وفي ذلك المؤتمر التأسيسي اقترح ممثلوالبوند ” أن يكون هو الممثل ” للبروليتاريا ” اليهودية داخل اطار ” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي يجب أن يقوم على أساس فيدرالي . ولم يقبل المؤتمر رأيهم استنادا الى أن ” الفيدرالية ” تضعف قوة الحزب المركزية فانسحب ممثلو ” البوند ” من المؤتمر، وحدث الانشقاق بين البلشفيك والمنشفيك ، ولكن البوند ، والبلشفيك، والمنشفيك ، كلهم بقوا اعضاء في الحزب حتى المؤتمر الرابع (التوحيدي) الذي انعقد في استوكهلم سنة 1906. وفيه حصل البوند ” على اعتراف الحزب بوضعه الخاص كممثل للماركسيين اليهود ، في ذلك الوقت كان الحزب يضم عديدا من المنظمات و” الشلل ” التي تتنازع المعرفة بالماركسية وتمثيل الطبقة العاملة ، وكان ” البوند ” واحدا منهم ، ولم يكن البلاشفة بزعامة لينين الا شلة أخرى لم تنتصر بعد في الصراع الايديولوجي الذي كان ثائرا فيما بينهم ودار اغلبه حول ماعرف باسم ” المسألة القومية . ولما لم تكن ثمة ”  نظرية ماركسية في القومية ” (4) ، وكان الامر متروكا للاجتهاد من خلال الممارسة لم يجد الماركسيون تناقضا بين أن يكون اليهود عنصريين وماركسيين معا . ولقد كانت الممارسة سنة 1906 تقتضي وحدة كل الماركسيين والاشتراكيين لأن الثورة ضد القيصرية كانت قد بدأت سنة 1905 لتنتهي بالفشل سنة 1907.  ولقد شن النظام القيصري ، بعد فشل الثورة ، حرب ابادة وحشية ضد كل الذين حرضوا عليها أو قادوها أو اسهموا فيها أو رحبوا بها . وكانت مجزرة . هاجر على اثرها جانب كبير من اليهود كما هاجر لينين نفسه ثم يعود لينين سنة 1917 ليقود الثورة مرة أخرى  وينجح . ويخوض الماركسيون ابتداء من سنة 1917 حربا اهلية شرسة ضد الثورة المضادة فتهاجر دفعة أخرى من اليهود “ الاشتراكيين ”. اولئك الذين قدموا لنا امثال ويزمان  وبن جوريون  وشاريت . ولنا هنا ثلاث ملحوظات . الاولى ما قيل من أن حرب الابادة التي شنها القيصر بعد فشل ثورة 1905 كانت موجهة ضد اليهود لان القيصر كان من أعداء السامية ، وهو غير صحيح . فقد كانت ثورة مضادة لتصفية قوى ثورة 1905 ولم يكن اليهود ولا ” البوند ” نفسه هم القوى الاساسية أو الوحيدة في ثورة 1905 الفاشلة . الملحوظة الثانية ان كل القوى التي هاجرت بعد فشل الثورة أو نفيت الى مجاهل سيبيريا لم تتوقف عن الكفاح ولم تلبث أن اجتمعت في ساحة ثورة 1917 المنتصرة ، الا العنصريون اليهود من اعضاء البوند . فما ان غادروا أرض الوطن حتى نسوا الماركسية والاشتراكية والطبقة العاملة وتحالفوا مع القوى الاستعمارية . الملحوظة الثالثة ان الكثرة من اليهود المتحررين من العنصرية الذين بقوا في الاتحاد السوفيتى بعد نجاح الثورة واسهموا في بناء الاشتراكية قد اندمجوا في مجتمعهم بيسر ذي دلالة قوية على أن مشكلة اليهود في اوربا هي مشكلة العنصرية والاستغلال وليست مشكلة افتقاد ارض يعيش عليها اليهود . فما ان يتحرر اليهود من التخلف القبلي ويتحرر المجتمع من الاستغلال الرأسمالي حتى تنتهي المشكلة . وليس ادل على هذا  من ان الاتحاد السوفيتى يضم ” جمهورية خاصة باليهود (بيروبيجان) لم تعد عنصرية . يقيم غير اليهود فيها كما يقيم اليهود في كل مكان من الاتحاد السوفييتى بدون أن توجد مشكلة . وهكذا افسدت العنصرية اليهودية على اصحابها أفضل الحلول التي قدمتها اوربا لمشكلة اليهود . كيف اذن كان العنصريون اليهود ماركسيين واشتراكيين ، وكيف انهم في الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية ، ويعيشون في جماعات متماسكة ، وينتهجون الاسلوب الجماعي في الانتاج ؟… كيف يتفق أن يكونوا عنصريين ما يزالون في مرحلة الطور القبلى وهم ـ فيما يبدو ـ  ماركسيون أو اشتراكيون ؟
هذه هي الخدعة التي لا يمكن اكتشافها من منطلق مادي على ضوء تطور اساليب الانتاج . ولكنها تصبح واضحة اذا نظرنا اليها من منطلق انساني قومي ” ينظر الى المجتمعات خلال حركتها الجدلية التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل ”. ان بين المجتمع القبلي العنصري اليهودي والمجتمع الاشتراكي تقاربا في اسلوب الانتاج الجماعي . ولكن علاقات الانتاج الجماعي مرتبطة بالطور الذي يمر به المجتمع ولا تكون تقدمية بذاتها . والماركسيون أول من يجب أن يعرفوا هذا فعندهم  يبدأ التطور الاجتماعي بالشيوعية الاولى وهي أكثر مراحله انحطاطا وينتهي بالشيوعية الاخيرة وهي أكثر مراحله تقدما . وفي كليهما تتشابه علاقات الانتاج الخالية من الملكية الخاصة ومع ذلك لا ينخدع أحد في الفارق الحضاري بينهما . فاذا كان اليهود في الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية ويعيشون في جماعات متماسكة فلأن اسلوب الانتاج الجماعي هو اسلوب الانتاج القبلي . ويمكن التمييز بين ما اذا كان اسلوبا قبليا أو اسلوبا اشتراكيا من خلال موقف اصحابه من المجتمعات الاخرى . فعندما يكون مصحوبا بالانغلاق الداخلي والعداء للغير يكون اسلوبا قبليا متخلفا حتى عن اسلوب الانتاج الفردي ، وعندما يكون انسانيا سليما فهو متجاوز اسلوب الانتاج الفردي الى الاسلوب الجماعي الاشتراكي . طبقا لهذا المقياس لا نكون في شك من حقيقة العلاقات الجماعية السائدة في الارض المغتصبة ، انها القبائل اليهودية قد انتقلت من ” الجيتو” الى أرض فلسطين لتعيش ذات علاقاتها القبلية المتخلفة : التضامن بين افراد القبيلة والعداء للاخرين . والكابوتز المسلح هو القبيلة التي ما تزال تعيش في القرن العشرين . وفي افريقيا الاف من هذه الجماعات القبلية تعيش معا حياة اكثر جماعية من اليهود في فلسطين ولا يقول احد بانها مجتمعات اشتراكية . ولا يغير من هذا ان المجتمع القبلي في اسرائيل يستعمل ارقى أدوات الانتاج تطورا في هذا الزمان . فمن قبل تعلمت قبائل الهنود الحمر استعمال ارقى أدوات القتال في زمانها ومع ذلك ظلت في طورها القبلي . وتستعمل كل الشعوب ـ الان ـ أدوات انتاج متشابهة في تقدمها الفني ومع ذلك تختلف حضارة وتطورا . لان ” كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي ” (فقرة 18) . ثم ان ” التفرقة العنصرية ” المعترف بوجودها في مجتمعات تبلغ فيها أدوات الانتاج أرقى ما وصل اليه العلم ليست الا المميز القبلي للمجتمعات التي تعيش في ذلك الطور المتخلف وتستعمل أدوات القرن العشرين . ان الجماعية  ـ اذن ـ هي التي كانت تغري كثيرا من العنصريين اليهود باعتناق الماركسية ، ولكن الماركسية ليست عنصرية . وعندما تتستر العنصرية بالماركسية يكون على كل ماركسي أن ينظر الى المجتمعات نظرة اشمل من أدوات الانتاج وعلاقاته ، عندئذ سيتبين بوضوح ان العنصريين في الارض العربية المغتصبة يعيشون في الطور الاجتماعي اللاحق للشيوعية البدائية وليس الطور الاجتماعي السابق على الشيوعية الاخيرة ، وانهم ـ بالتالي ـ عندما يتطورون سيدخلون الطور الرأسمالي  . ويقدم تطورهم منذ سنة 1948 حتى الان دليلأ واضحا على انهم يدخلون مرحلة الفردية . وآيتها الكثرة غير المتناسبة مع عددهم من الاحزاب وهو ما نلاحظه في مراحل الليبرالية الاولى ، ويدخلون مرحلة الرأسمالية وآيتها التحالف الذي يزداد يوما بعد يوم مع الرأسمالية الغربية وهذا لا ينفي ان جماعات من الرأسماليين المتحررين من القبلية اليهودية تعيش في اسرائيل أو تحالف الصهاينة خاصة منذ ان اصبحت لهم دولة لتستغل العنصرية الصهيونية ودولتها معا . ولكن ان يكون ـ في الارض المغتصبة عنصري واشتراكي معا ، أو ان يعيش الاشتراكيون في ظل الروابط القبلية التي نسجتها الاساطير والخرافات ، فتلك مقولة لا تستحق الا السخرية .
المهم ان الاشتراكية في الإتحاد السوفيتي قدمت للعنصريين اليهود افضل الحلول التقدمية ليغادروا الطور القبلي . قدمت لهم الارض والامن وفرص الانتاج وعدالة التوزيع . فرفضوها .  لماذا ؟
هنا يأتي دور المنظمة الثانية التي ولدت عام 1897 أيضا وتحالفت مع القوى الاستعمارية . انها المنظمةالصهيونية ” التي تأسست في مؤتمر بال وحددت هدفها بانه اقامة دولة لليهود في فلسطين ، وجمعت العنصريين اليهود في اوربا الغربية . وهي المنظمة التي سينضم اليها اصحاب تجربة ” البوند ” والتي ستحقق نجاحا مطردا في مخططاتها فتقيم دولة اسرائيل في سنة  1948  ، انها المنظمة التي جمعت شتات ” القبائلاليهودية لتقيم منهم دولة قبلية على ارض فلسطين . واول سؤال تطرحه تلك المنظمة علينا هو لماذا نجحت ؟.. وقبل ان نجيب ينبغي أن نذكر ان المجتمعات الاوربية بالرغم . من تقدمها ما تزال عامرة بالجماعات المتخلفة التي لم تتجاوز الطور القبلي . لا نضرب قبائل الغجر مثلا ، بل نضرب مثلا قبائل اللابيين الذين يعيشون في السويد والنرويج وفنلندا وروسيا . ان هذه ظاهرة متكررة في كل الامم ولنا منها نصيب لا ينكر . ومصير كل هذه الجماعات  المتخلفة ان تدرك تطور مجتمعاتها . اذن ، فمهما تكن اساطير العنصرية اليهودية كان التطور الاجتماعي في اوربا كفيلا في النهاية بان ينتزعها من روابطها القبلية لتلحق بمجتمعاتها ، لولا ان ” قوى ” أخرى كان لديها دور تبحث له عمن يؤديه . تلك هي القوى الاستعمارية .
ففي اواخر القرن التاسع عشر كان الاستعماريون  قد استولوا على العالم كله وبدأت مهمة المحافظة على مواقعهم فيه . ومن اجل هذا انعقد في لندن سنة 1907 مؤتمر استعماري ليوصي بما يراه كفيلأ بالمحافظة على السيطرة الاستعمارية . وقد قدم عدة توصيات كان نصيب الوطن العربي منها ما يلى : ” ان اقامة حاجز بشري وقريب على الجسر البري الذي يربط اوربا بالعالم القديم ويربطها معا بالبحر الابيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة على مقربة من قناة السويس قوة معادية لشعب المنطقة ، وصديقة للدول الاوربية ومصالحها هو التنفيذ العملي للوسائل والسبل المقترحة  .
وفي سنة 1937 نشر في فرنسا كتاب تحت عنوان ” الله اكبر” يتضمن تقريرا كان مقدما الى احد قادة الحركة الصهيونية في النمسا هو الدكتور فولفجانج فايست يقول كاتبه : ” ان خلاصة الاسباب الجدية للكفاح من اجل الارض المقدسة هو موقعها الاستراتيجي وتأثيره في مستقبل المنطقة . فلو عادت فلسطين الى دولة عربية موحدة تضم مصر لقامت هناك قوة عربية مسلحة تستطيع أن تتحكم في قناة السويس والطريق الى الهند . أما اذا ظلت فلسطين مستقلة ، أو اصبحت دولة يهودية ، فانها ستقوم عقبة في سبيل انشاء هذه الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية وأخرى على جانبي فلسطين ـ ان دولة صغيرة ” حاجزةتقوم على 100.000 كيلو متر مربع على ضفتي نهر الاردن ستحمي كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية أخرى … ان توازن القوى حول قناة السويس يتوقف اذن على استقلال فلسطين عن العالم العربي . يتوقف على دولة في فلسطين تكون مثل سويسرا عند ملتقى القارات الثلاث . ان هذا الاستقلال يتفق تماما مع طموح الاستعمار اليهودي، ذلك لان اليهود وحدهم هم الذين ستكون لهم مصلحة في هذا الاستقلال وليس العرب ، اذ ان هؤلاء سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج في دولة عربية كبرى (5). وهكذا حالت القوى الاستعمارية دون أن تذوب العنصرية اليهودية في حركة التطور الاجتماعي في اوربا ، وغذت تلك العنصرية بادوات القوة وسهلت لها ان تغتصب ارض فلسطين لتكون هناك حارسة لقناة السويس وحائلة دون الوحدة العربية . وضمت صفحات التاريخ اكبر كذبة شهدها التاريخ . اليهود يغتصبون ارض فلسطين فرارا من اضطهاد الدول الاوربية ولكن بمساعدة الدول الاوربية و خدمة لمصالحها .. ابعد ما يكون عن الحقيقة اذن ان يقال ان اليهود ما جاءوا الى فلسطين الا لانهم يفتقدون وطنا يعيشون فيه . انما جاءوا ليغتصبوا الارض العربية ويقيموا دولة حارسة للمصالح الاستعمارية تحول دون أن تحقق الامة العربية كل ما هي قادرة عليه من تطور اجتماعي في ظل دولة الوحدة . جاءوا بمساعدة القوى التي لا تريد لهذا الشعب العريي أن يعيش بما يملك . لم يجيئوا لانهم يهود ، ولا لانهم  اشتراكيون ، ولا لانهم يريدون الاعتداء على دولة عربية معينة ، ولا لأن المجتمع الدولي كان في حاجة ـ حتى يسود قانونه ـ الى وجودهم في فلسطين ، بل ليقيموا على الارض العربية مخفرا مسلحا يكرس تخلفها ويمنع وحدتها .
هذي هي الصهيونية كما نراها من الموقف القومي وطبقا لنظريتنا القومية . ولو كنا قد استوعبنا نظريتنا هذي لادركنا من ابعاد مشكلة فلسطين ومخاطرها المقبلة اكثر مما يدرك سوانا . انها نذر على اكبر قدر من الجدية تنذرنا بها نظريتنا القومية التي علمنا أن الامة تدخل مرحلة التكوين القومي باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الارض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكون وتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها . اذن ، ولينتبه الشباب العربي ، أن الصهيونية تحاول منذ 1948 أن ” تصنع أمة ” من اشتاتها القبلية بأن تستحوذ على ارض تكون خاصة بها . ولا بد لكي تنجح من أن ” تستقرعلى الارض “ وتختص ” بها فترة زمنية كافية تبني فيها حضارتها الخاصة وتصبح بها أمة . وقد كان عام 1948 هو البداية ولكن الزمان أمامهم ما يزال طويلأ ، فان الامم لا تتكون في عشرات السنين فلا نجزع . ان الولايات المتحدة الامريكية ذاتها ما تزال ، منذ الاستقلال ، أمة في دور التكوين ولكن الصهاينة دا ئبون على تنفيذ مخططاتهم، ولقد اغتصبوا الارض ولكن لم يستقروا عليها . وعلى أرضها يعيش ثلاثة ارباع مليون عربي واكثر فهي ليست خاصة بهم داخليا ، وقد قطعت معركة 1967 كل استقرار سابق . ولكنهم على أي حال استطاعوا أن يحيوا لغتهم الميتة فاصبحت لهم لغة مشتركة . ولو سمح الشعب العربي للصهاينة بالاستقرار على الارض حتى تكون خاصة بهم ويبنوا عليها حضارة خاصة ، فانهم سيصبحون أمة ، شاء الشعب العربي أم لم يشأ ، لان فعالية قوانين التطور حتمية ولا تتوقف على رغبات أحد ، والماضي يمتد تلقائيا في المستقبل اذا لم يتدخل الناس ايجابيا لتغييره ، ويوم أن يصبح للصهاينة أمة في فلسطين لن يستطيع أحد ان ينتزعها منهم مرة أخرى . لعل هذا أن يكون واضحا . فانه يحدد لنا التزامات عينية داخل الارض المغتصبة وخارجها حتى قبل أن تزول دولة اسرائيل . هذا ما نقوله نحن .
فماذا تقول الصهيونية عن نفسها ؟.
اذا كنا سنعود الى الاساطير الخرافية مرة أخرى فلعل هذا لا يصدم المعجبين ” بالتقدم الحضاري ” لاسرائيل ذلك لاننا لا نسند الى الصهاينة غير ما يقولون . ولا نستند من بين ما يقولون الا الى الصهاينة العلماء ، الماديين ، الذين لا نظن انهم يرعون شرائع الدين اليهودي . انهم ـ  كما لا بد نتوقع ـ لا يقولون ان الصهيونية حركة عنصرية قبلية متخلفة . بل يقولون انها حركة قومية . والصهيونية هي ذاتها القومية . اما الامة فهم اليهود في كل انحاء الارض ومن جميع الاجناس والالوان . ثم انهم لا ينكرون ان ليس لليهود لغة واحدة وانهم لم يعيشوا منذ عشرات القرون على ارض واحدة ، ولم يشتركوا في بناء حضاري واحد . كل هذا لا ينكرونه . ولكنه عندهم غير لازم لتكون الامة امة . فالنظرية الصهيونية في الامة والقومية تقوم على أساس ان وحدة الثقافة ، والتاريخ الثقافي هو المميز الاساسي للأمة . فاذا قيل ان اليهود المثقفين قد شاركوا في كل ثقافات العالم ، وكل منهم اسهم بقدر ما استطاع في ثقافة مجتمعه الذي يعيش فيه ، قالوا ان العبرة بالاتصال التاريخي للثقافة وهذا متوافر في الثقافة الدينية لليهود منذ الشتات الى الان ، فهم ـ اذن ـ امة . هل هي أمة ممتازة ؟.. لا . ان تعبير ” شعب الله المختار” هو للتمييز وليس للامتياز . فليكن . فليس لكل هذا من آثار فيما يعنينا في هذا الحديث . اذ ان الذي يعنينا هو عنصر الارض .
ان كنتم أمة الآن ، وكنتم دائما أمة ، وأنتم تعيشون فعلا على الأرض وسط مجتمعاتكم فلماذا تتركون " أوطانكم " ؟..
لأن تلك المجتمعات لم تقبلنا قط ، انها رفضت انتماءنا اليها وما تزال ترفض وقد تعرضنا في تاريخنا الطويل لكل أنواع الاضطهاد الظاهر وما يزال هذا الاضطهاد مستمرا . حتى الذين اندمجوا ـ كما يقال ـ في مجتمعاتهم يشعرون بالغربة واذا كانوا يرفضون الانتماء علنا الى الحركة القومية (الصهيونية) فلأنهم يخشون أن ينفجر العداء الكامن ضدهم فهم يساعدونها خفية أو علنا تبعا للظروف . واذا كانت الحركة الصهيونية لا تضم الا القلة من اليهود فلأن تلك هي القلة الواعية انتماءها القومي فهي الطليعة المنظمة التي تقود الحركة القومية ، وآجلا أو عاجلا ، سينضم اليها كل اليهود .
اذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تقاومون الاضطهاد في مجتمعاتكم ولو بالتحالف مع باقي المضطهدين هناك بدلا من الفرار ؟..
لا فائدة أن الحل الوحيد أن تكون لنا أرض خاصة نقيم عليها مجتمعنا ونعيش فيها حياتنا .
لماذا اذن لم تقبلوا الاقامة في الأرض الخالية التي عرضت عليكم في أوغندا ؟..
لأننا نريد أرض فلسطين .
لماذا فلسطين بالذات ؟ ...
هنا يعود المثقفون العلماء ، المتحضرون ، الماديون ، التقدميون الى الأساطير . اننا نلخص ما قالته نخبة مختارة من هؤلاء جميعا ونشره سارتر في عدد خاص ( 991 صفحة ) من مجلة الأزمنة الحديثة في يونيو سنة 1967 . قالوا ان الثقافة اليهودية التي هي مناط التكوين القومي للأمة اليهودية قائمة على عدة أساطير دينية وميتافيزيقية . هذا صحيح . ولسنا نحتج بصحتها العلمية . انما نحتج بالآثار الاجتماعية التي أحدثتها تلك الأساطير في الجماهير اليهودية وصاغت بها تكوينها الاجتماعي . فمثلا تلقى اليهود من الله وعدا بأن تكون لهم أرض فلسطين . هكذا جاء في التوراة " لنسلك أعلى هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " ( سفر التكوين ، اصحاح 15 ، آية 18 ) . ومنذ ذلك الحين انقضت عشرات القرون . لا ننكر أننا خلالها لم نكن نعيش على أرض فلسطين ، وأن شعبا عربيا هو الذي كان يعيش عليها ، ولكن هذا لا يغير من الواقع شيئا . والواقع أنه طوال تلك القرون يعيش اليهود في الشتات على امل العودة الى أرض " الميعاد " كأثر من آثار ايمانهم الديني بأن تلك هي الأرض التي وعدهم الله بها . وبصرف النظر عن الجانب اللاهوتي فان الأثر الاجتماعي كان وما يزال قائما يصوغ حياة اليهود نفسيا واجتماعيا ويرددونه في اجتماعاتهم وفي صلواتهم ، ويذكرون به في كتبهم ، ويقوم محورا في ثقافتهم القومية : ان أرضا تمتد من الفرات الى النيل هي أرضهم . هذا هو الذي أبقاهم أمة لم يذوبوا في الامم الأخرى بالرغم من توالي الأجيال وهم في الشتات . وهذا هو الجانب المهم من الأسطورة ، لأننا قد نكذب الأسطورة ولكننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أثرها الاجتماعي . وقد أخذ علينا الناس ما قاله بعضنا من أن فلسطين أرض بلا شعب فلا بد من أن تعطى لشعب بلا أرض . ولو فهمونا لما أخذوا علينا ما نقول . فالعبرة عندنا ليست بالصلة المادية التي تتمثل في اقامة شعب " غريب " في أرضنا ولكن العبرة بالصلة الروحية بيننا وبين الأرض . ومهما تكن الأرض عامرة بمن يقيم فيها فانها خالية بالنسبة الينا الى أن نعود اليها نحن أصحابها . ان تلك الصلة لم تنقطع أبدا فلم ينسى أي يهودي أرض فلسطين والعودة اليها . ولا يقال لنا أن ذلك ايجابا ذاتيا من ناحيتنا فان القبول الذي يتم به الصلة قد جاء من الأرض ذاتها . فلو راجعنا التاريخ لتبين لنا على وجه لا يمكن انكاره حتى لو لم يستطع العلم اثباته أن أرض فلسطين لم تمنح كل عطاءها الا لنا نحن اليهود الموعودين بها . وهكذا لن تستطيع الأمة اليهودية أن تسهم بكل ما هي قادرة عليه في التقدم الحضاري الا على ارض فلسطين ، ولا تغني عنها ارض أخرى . كما أن أرض فلسطين لن تقدم كل ما تنطوي عليه من عطاء الا للشعب اليهودي ، ولا يغني عنه شعب آخر . انما تثور المشكلة لأن الدول العربية لا تريد أن تقبل المهاجرين من أرضنا في أراضيها الواسعة التي هي في أشد حاجة الى مزيد من البشر . وبدلا من هذا تبقي عليهم في المخيمات ، وتستعملهم " كورقة سياسية " في مناوأة دولتنا لأنها لا تريد أن تعترف بوجودنا في حدود آمنة وفي ظل علاقة جوار نتبادل خلالها الخبرات لنحقق التقدم الاجتماعي في " منطقتنا " .
وما هي حدود دولتكم طبقا لدستورها ؟
صمت مطبق . لأن اسرائيل " الدولة العلمانية المتحضرة " .. تستغني بالتوراة عن الدستور . وهي دولة مسالمة فلا تريد أن ترسم لذاتها حدودا اكتفاء بما نقلته على جدار الكنيست من اساطير التوراة " من الفرات الى النيل ". أما عن مهمة خدمة المصالح الاستعمارية والتحالف مع الامبريالية ، فان الصهيونية تتحالف مع من يحالفها مرحليا ولكنها لا تخدم الا غاياتها ولولا عناد الدول العربية ورفضها الاعتراف باسرائيل وتهديدها بالقاء اليهود في البحر لما استمر تحالف اسرائيل مع الامبريالية . فما على العرب الا أن يعترفوا باسرائيل ويقبلوا التعامل معها حتى تستطيع " القوى التقدمية " فيها أن تحرر اسرائيل من ذلك الحلف لتتحالف مع القوى التقدمية العربية في سبيل مستقبل أكثر تقدمية للجميع .
هذه الخلاصة الأخيرة منقولة مما كتبه الذين يدعون الاشتراكية هناك .
هذا ما يقوله الصهاينة " العلمانيون " بعد عشرين عاما من قيام اسرائيل على الأرض العربية . أما ما يقوله الصهاينة المتدينون فهو أقل علما بكثير . ومع هذا فهم لا يختلفون جميعا فيما يهمنا .. وما يهمنا هنا هو أن نعرف نوايا الصهاينة بالنسبة ، الى أرضنا العربية ، فكلاهما يرى :
أولا : ان اليهود في جميع أنحاء العالم أمة ، وأن الصهيونية قومية ، وأن الحركة الصهيونية حركة قومية غايتها استرداد أرضها الخاصة من الشعب العربي ، ويكون علينا أن نستنتج أنهم يريدون الأرض خالية من البشر لأنها لازمة لاقامة الشعب اليهودي . وهذا مارسوه فيما اغتصبوه من ارض حتى الآن . وهم يريدونها لاستقبال الشعب اليهودي كله الذي يبلغ 12 مليونا . وهذا ما أرسوا قاعدة ممارسته بقانون "العودة " الشهير الذي يمنح كل يهودي الجنسية الاسرائيلية بمجرد الاقامة في اسرائيل . وبالتالي فهم يريدون أرضنا خالية من البشر تتسع لسكنى الشعب اليهودي كله فهي لابد أن تمتد الى أضعاف أضعاف أرض فلسطين . وهذا يمارسونه بقدر ما يستطيعون . ولما كانت الأرض التي يريدونها ليست محددة بقدرتها على استيعاب الصهاينة الذين يهاجرون الى اسرائيل ولكن محددة على أساس أنها " الوطن القومي " للأمة اليهودية فان حدودها لا بد من أن تكون مطابقة " للحدود التاريخية " لأرض اسرائيل . وهذا ما سيمارسونه مرحلة مرحلة ولن يتوقفوا دونه قط طالما كانوا قادرين . نريد أن نقول أنه طبقا لذات " النظرية " الصهيونية التي يلتقي عليها الصهاينة ويلتزمون بها في الممارسة ويحتكمون اليها عند الاختلاف ويثيرون تحت لوائها مشكلة فلسطين ، فان مشكلة فلسطين ، كما ينبغي أن نفهمها حتى من نوايا أعدائنا ، هي مشكلة أرض عربية يريدونها خالية من الفرات الى النيل .
ثانيا : ان الطرف الاصيل الذي نصارعه ليس هو اسرائيل الدولة ، بل هو الصهيونية المنظمة . وليست اسرائيل الا الآداة الرسمية المنفذة لارادة المنظمة الصهيونية . وبالتالي لا ينبغي أن نعول كثيرا على القرارات والمواقف التي تأخذها اسرائيل والتي قد تضطر اليها تحت تأثير المجتمع الدولي . ان تلك القرارات قد تلزم دولة اسرائيل التي كانت قائمة يوم أن قررتها ، ولكنها لا تلزم المنظمة الصهيونية التي لن تكف عن محاولة اقامة اسرائيل أخرى . اسرائيل الكبرى .
ثالثا : ان الحركة الصهيونية ذات منطلقات خاصة وغايات خاصة وأساليب خاصة . ولكنها بحكم تخلفها القبلي تفضل القوة وتمجد العنف فهي عدوانية من حيث هي عنصرية . ومع هذا فمما يدخل في نطاق اساليبها أن تتحالف مع القوى التي تتفق معها في الغايات ولو مرحليا . وهي القوى العنصرية . أو الاقليمية . أو الاستعمارية ، طبقا لما يخدم غايات الصهيونية . ولكنها تظل مستقلة بمنطلقاتها وغاياتها عن تلك القوى مستعدة دائما الى الاحتكام للسلاح . فاذا كانت قد تحالفت مع القوى الاستعمارية المتفوقة ، مع ألمانيا أولا ، ثم مع بريطانيا ، ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية ، فلأن ألمانيا كانت ذات مطامع استعمارية في الشرق العربي ، لم يمنعها الا الاستعمار البريطاني الذي حلت محله ـ بالاتفاق ـ الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الأوروبية الثانية . ان العداء للأمة العربية وتحررها ووحدتها وتقدمها ، هو الذي يجمع بين الصهيونية وحلفائها في حلف تلتقي فيه المصالح ويتم من خلاله تبادل الخدمات ولكن يبقى لكل حليف قدر من استقلاله . فلا الصهيونية اداة للاستعمار الامريكي ، ولا الاستعمار الامريكي أداة للصهيونية . انهما عدوان متحالفان ضد عوهما المشترك : الأمة العربية . وهذا الحلف يتسع لكل قوى أخرى بقدر ما تشترك معه في غايته حتى لو كانت قوى عربية لها منطلقاتها الخاصة ولها غاياتها الخاصة ، ولكن تلتقي مع الصهيونية ـ مرحليا ـ في موقفها المعادي لحرية الامة العربية ووحدتها القومية وتقدمها الاجتماعي .
فهل يرى الذين يشوهون مشكلة فلسطين الى أي منزلق ينزلقون ؟

(5)

43 ـ الحل القومي :

استرداد الأرض العربية للشعب العربي . كل الأرض العربية لكل الشعب العربي . أما كيف فهذا سؤال يتصل بالاسلوب وسنعرف الاجابة عليه فيما بعد . المهم هنا أن ندرك باكبر قدر من اليقين بان حل مشكلة فلسطين هو استرداد الارض المغتصبة من قبضة الصهيونية التي تسميها اسرائيل ” واعادتها الى الشعب العربي . لو بقيت دولة للصهيونية ولو فيتل ابيب ” وحدها فإن المعركة لن تكون قد انتهت لأن منظمة القوى المعاد ية ما تزال هناك في اوربا والولايات المتحدة واطراف كثيرة من الارض . ومن تل ابيب ستعود فتنقض . هذا بالاضافة الى أن كل ذرة تراب من الارض العربية هي ملك للشعب العربي لا بد من ان تسترد . وعندما تسترد الارض ، كل الارض ، ستحل مشكلتنا ومشكلة اليهود معا . نسترد نحن أرضنا ونضعهم هم أمام الحل الصحيح لمشكلتهم . ولا شك انهم عندما يعرفون بالرغم من كل شيء أن الصهيونية حركة فاشلة سيعيشون في مجتمعاتهم ويندمجون فيها ويتطورون . وهكذا يكون استرداد الارض العربية هو الحل التقدمي الصحيح لمشكلة فلسطين المغتصبة ومشكلة اليهود الهاربين من مجتمعاتهم .
أليس هذا تبسيطا للامور؟
ان في اسرائيل جيل سابق على قيام الدولة لم يعرف له وطنا الا فلسطين . وفي اسرائيل جيل ولد بعد قيام الدولة لا يعرف له مجتمعا الا اسرائيل . فما الذي سيكون من أمر هؤلاء فيما لو استردت الارض المغتصبة ؟… كثيرون يشغلون انفسهم بالاجابة على هذا السؤال كما لو كان سؤالا جادا . وينفعلون في الحديث ويسودون الكتب ويقترحون ” فلسطين الديمقراطية ” كما لو كانت الصهيونية قد انهزمت ودولتها قد زالت ، وعاد  الاباء الى اوطانهم وبقيت مشكلة الجيل الجديد من ابنائهم ؟.. ومع ذلك فعلينا ان نجيب . فلعل للسؤال  وجها جادا نراه من الموقف القومي ولا يراه السائلون . بمجرد أن نكون قوميين نتطهر تماما ، فكريا وحركيا ، من خطيئة التمييز العنصري ونسترد كامل انسانيتنا ، ويعودإلينا الوضوح في رؤية المشكلات ، أية مشكلات ، وحلولها الصحيحة . عندئذ سننسى ” حتما ” كلمة يهودي ونتحرر نحن أولا من رد فعل عنصري تحاول أن توقعنا في شباكه المضللة الحركة الصهيونية فتجرنا من حيث لا ندري الى منطلقاتها ومواقفها . لو فعلنا لرأينا ، الحل القومي واضحا صريحا . فالقومية لا تقبل الاستقلال الاقليمي لفلسطين عن الامة العربية . وفلسطين الاقليمية فاشلة من الان في حل مشكلة الاقامة فيها . فهي ” دويلة ” يواجه فيها مليونان من المجنى عليهم مليونين من الجناة حول جسم الجريمة : الدار المهجورة وقد سكنت والارض المغتصبة وقد زرعت ، والاموال المنهوبة وقد اصبحت اموال الاخرين . ثم يقال لهم لا تذكروا ما كان وعيشوا “ ديمقراطيين ” كأن الديمقراطية تعويذة سحرية تطهر النفوس بأمر من القائلين . القومية لا تقبل الا دولة الوحدة  ودولة الوحدة أكثر رحابة من فلسطين . وفي دولة الوحدة مكان  لكل الذين يريدون أن يعيشوا آمنين . وسيكون من شأن دولة الوحدة أن تعترف بالمواطنة أو بالاقامة لمن يريد أن يقيم في رحابها ممن لا ينتمون اليها أصلا كما تفعل كل الدول بدون أن يكون في هذا مساس بسيادتها. هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى فان للأمة العربية أبناء من اليهود في فلسطين وفي كثير من الارض . اولئك العرب اليهود . انهم لسبب أو لاخر . يحملون الهوية الاسرائيلية أو هويات أخرى اجنبية . وهم لسبب أو لآخر قد انتقلوا الى فلسطين أو غادروا الوطن العربي الى اماكن أخرى وبعضهم مجندون في المنظمة الصهيونية أو في  قوات اسرائيل المسلحة . كل هؤلاء عرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية . وأسلاف كل هؤلاء عاشوا عربا واسهموا بما استطاعوا في تطوير أمتهم العربية . ولكل هؤلاء حق قومي في أن يقيموا في رحاب أمتهم وعلى وطنهم العربي ” المشترك ” في فلسطين أو في غير فلسطين . ولكل هؤلاء حق في أن تكون دولة الوحدة دولتهم القومية التي تحميهم ضد التعصب وتوفر لهم الأمن واسباب التقدم الاجتماعي . وكل هؤلاء مطالبون بأن يعبروا عن ولائهم لأمتهم وان يرتفعوا بوعيهم إلى مستوى المسؤولية القومية وأن يعرفوا أن أرض فلسطين هي جزء من وطنهم العربي الكبير وأن لهم حق الإقامة فيها سواء كانوا فيها من قبل أو كانوا وافدين إليها من أقطار عربية أخرى وأن من حقهم أن يعودوا إليها أو إلى أي مكان في الوطن العربي ان كانوا قد غادروا أرضهم العربية . بل انهم في القومية سواء مع اخوتهم العرب الذين اكرهوا على مغادرة فلسطين لا فضل لأحد منهم علىالآخر إلا بقدر ما يجسد فكراً ومسلكاً ولاءه القومي لأمته العربية .  حتى الذين تورطوا منهم فوجدوا أنفسهم في مواقع الخيانة لأمتهم . ويقتلون أخوتهم العرب طاعة لسادتهم الصهاينة ، فإن جزاءهم سيكون معادلاً لما كان لهم من حرية الاختيار وعلى ما يكون لهم من موقف يختارونه في الصراع العربي ضد الصهيونية المغتصبة . وقد تغفر لهم أمتهم كل ما تقدم لو حرروا أنفسهم من سيطرة الغاصبين الاجانب لجزء من وطنهم العربي فاسهموا في استرداده وتحريره . ولكنهم في كل الإحوال لن يكرهوا على مغادرة الارض العربية ولن يفتقدوا رعاية دولة الوحدة .
هكذا نرى الحل من الموقف القومي . من موقف تتسق صلابته وانسانيته مع انتمائنا إلى أمة عريقة ذات قيم حضارية لا يمكن أن يتدنى أبناؤها إلى القيم القبلية التي تجسدها الصهيونية . اننا أمة وهم مجتمع قبلي فلا ينبغي لنا أن نفهم المشكلات كما يفهمون أو أن نحلها كما يريدون أو أن تكون مواقفنا ردود أفعال لمواقفهم . اننا ، باسم القومية العربية ، نصر على معاملة اليهود العرب معاملة عادلة وطنهم العربي وما على الامم الاخرى الا أن توفي بمسؤولياتها فتحمي ابناءها اليهود من التعصب ضد السامية .
ان نظريتنا القومية ، اذن ، تحملنا مسؤولية تحرير العرب اليهود من القهر العنصري المفروض عليهم في أرض فلسطين . ومسؤولية عودة اليهود العرب الذين غادروا وطنهم العربي وتعويضهم عن أي عسف لم يحترم انتماءهم القومي للامة العربية .
أما الذين خانوا اوطانهم  فهجروها وجاءوا غزاة للوطن العربي فلا مكان لهم في الارض العربية . وعليهم ان يلحقوا بأممهم حيث كانوا. ولسنا مطالبين أن ندفع لهم ثمن الخيانة أو ان نقدم لهم مكافأة على العدوان . لسنا مسؤولين على أي وجه عن ارضاء التعصب الاوربي ضد اليهود أو التعصب الصهيوني ضد البشر جميعا ، بأن نقيم للصهيونية دولة في ارضنا سواء في فلسطين أو حتى في الربع الخراب من الصحراء القاحلة . لا أحد يملك  هذا ولا أحد يستطيعه.
ومشكلة فلسطين هي النموذج لكل مشكلة اغتصاب ارض عربية ، أيا كان المغتصبون .
(6)

44 ـ  مشكلة الاستعمار : 

ويهمس الذين يطيب لهم أن يحولوا كل شيء ذي قيمة الى كلمات فارغة ، ويفصلون بين التحرير والتقدم ، بأن على العرب ان يكونوا أذكياء واقعيين  . أن فلسطين لن تسترد بالخطب الرنانة أو الانفعال العاطفي . أما أكثر وسائل استردادها فشلاً فهو التهديد بازالة اسرائيل . وانما تسترد فلسطين أو يعود العرب المطرودون الى فلسطين بالحركة الذكية في هذا العالم الذي تتناقض فيه المصالح فتتصارع أو تتفق فتتحالف . ولا ينتصر أحد لأحد وانما ينصر كل واحد مصلحته . فان كانت الصهيونية تتحالف مع القوى الرأسمالية وتستمد منها قوتها فلنكن نحن الحلفاء . ونحن أولى بأن نكون . ان لتلك القوى في البلاد العربية مصالح هائلة الان ، وهي تتطلع الى تنمية مصالحها في المستقبل ، ويكاد العرب أن يملكوا شريان الحياة الصناعية هناك ، اذ هنا يملك العرب ” النفط ” (البترول) . ولو كان العرب أذكياء لاستطاعوا أن يضعوا تلك القوى في موقف الاختيار بين مصالحها في الدول العربية وانحيازها الى اسرائيل . ولا يكون ذلك بان نلغي او نخرب او نهدد مصالحها لأننا بذلك ندعم تحالفها مع اسرائيل التي زرعتها فى أرضنا حارساً لتلك المصالح ، فتبقى لها مصلحة في بقاء اسرائيل . ثم اننا ـ واقعياً ـ لا نستطيع أن نناطحها . وعندما لا نستطيع ان نناطح علينا ان نصالح . ان مصالحة نعقدها مع تلك القوى يغلق بها باب الخوف على مصالحها القائمة ويفتح بها باب الامل في مصالحها القادمة ستؤدي الى ان يكون الخيار لصالحنا، فنضرب عصفورين بحجر صائب ، نجرد الصهيونية من المصدر الاساسي لقوتها ، ونضاعف نحن قوتنا . ولو لم نصب الا واحداً منهما لكنا به منتصرين . ولتكن لنا فما يفعل اعداؤنا المنتصرون قدوة ننتصر بها ، اذا كنا نريد حقأ ان نسترد فلسطين . ثم ماذا ؟ … ما الذي سنفعله بأرض فلسطين ما دمنا قد اصبحنا حلفاء القوة الاستعمارية و حراس مصالحها في الوطن العربي ؟.. ولماذا نسترد فلسطين أصلاً اذا كانت الحصيلة النهائية ان يخرج منها الصهاينة ويعود اليها الشعب العربي ، لتئول فلسطين العربية ، أرضأ وبشراً ، الى القوى الاستعمارية ” فائدة ” مضافة الى ما كنا قد دفعناه ثمناً لاستردادها ؟ .
لا .
ان فلسطين مهما تكن عزيزة ليست الا جزءاً من الوطن العربي فلن نستردها مقايضة على جزء آخر منه ولو كان بقدر ما يكفي لبناء قاعدة جوية . والصهيونية مهما تكن معتدية ليست الا احدى القوى المضادة لتحرر الشعب العربي فلن نشتري هزيمتها بحريته . ومشكلة فلسطين مهما تكن حادة وملتهبة ليست الا واحدة من مشكلات تحرر الامة العربية فلن نحلها على حساب تقدمها ، ذلك لأننا لا نسترد ارض فلسطين رغبة في المزيد من الارض بل لأنها ارضنا ويقوم اغتصابها قيداً على مقدرة شعبنا العربي على التقدم الاجتماعي . ولسنا مع الصهاينة في حلبة ملاكمة فنحن نريد ان نهزمها ليصفق العالم اعجابا بقوة عضلاتنا . بل نحن نخوض ضدها صراع الحياة او الموت ، ونتحدى الموت لنهزمها حتى نستطيع ان نصنع الحياة . وما الحرية التي نريد أن نسترد فلسطين من اجلها ونتحدى الموت في سبيلها الا ” المقدرة على التطور الاجتماعي ” ( فقرة 39 ) . ونحن لا نتقدم نحو الحرية  اصبعاً واحداً لو انتزعنا فلسطين من قبضة الصهاينة لنقع نحن في قبضة المستعمرين .
من قال ان حلفاء الصهيونية مستعمرون ؟ .. ان لهم في ” المنطقة العربية ” مصالح ، وهو امر عادي يجري فيما بين الدول مجرى التعاون في هذا القرن العشرين حيث لا يستطيع مجتمع ان يعيش في عزلة عن المجتمعات الاخرى فيرفض التعامل وتبادل المصالح معها . ألم نر كيف ان حلفاءنا انفسهم  يتعاونون ويتبادلون المصالح مع تلك القوى ذاتها في مجالات عدة . فلماذا نسمى كل من له مصلحة في “منطقتنا ” استعمارياً ونثير ضده حملة تشهير عمياء او نزج بانفسنا معه في معارك حمقاء ، فلا نفعل الا ان ننعزل فننهزم ؟ ..
فلنعرف ، اذن ، ما هو الاستعمار وما هي المشكلات التي يثيرها في امتنا العربية . وما هو حلها . نعرفه ـ كما ينبغي أن نفعل دائماً ـ على هدى نظريتنا نحن لا على هدى ما يصوغه المستعمرون من افكار ونظريات تخدم غاياتهم ولو لم يروجوها بانفسهم ، من أول نظرية ” مسئولية الرجل الابيض عن نشر المدنية ، الى آخر نظرية ” مسئولية الدول الكبرى عن حفظ السلام .
ان كل شيء يبدو لنا ، من موقفنا القومي ، واضحاً وبسيطاً .
فنحن امة ذات وجود اجتماعي خاص محدد تاريخياً من بشر معينين وارض معينة ، هما معاً مصدر امكانيات تطور امتنا . لا اكثر ولا اقل . وحتم علينا ان نتطور . ونحن لا نتطور الا بقدر ما نحل مشكلات الناس في امتنا . وللناس في امتنا مشكلات ذات مضامين مادية وثقافية متجددة ابداً . عن طريق اشباع تلك الحاجات تحل المشكلات وتتطور امتنا . وهي تشبع عندما نوفر لها ـ بالانتاج ـ مضامينها العينية . وفي سبيل انتاجها لا تملك ان نستفيد ألا بما هو متاح في امتنا من امكانيات بشرية ومادية . لا اكثر ولا اقل .
ونحن جزء من العالم الذي نعيش فيه ، يؤثر فينا ويتأثر بنا ” حتماً ” سواء أردنا هذا أم لم نرده ، ولنا فيه غايات مشتركة مع غيرنا في كل ما يسهم في التقدم الاجتماعي للبشر جميعاً ، ان وجودنا الخاص يعني انه وجود ” مستقل ” بذاته عن غيره من المجتمعات الأخرى . مستقل الوجود ومستقل المصير . ولكنه ليس مستقلاً ، لا وجوداً ولا مصيراً ، عن المجتمع الانساني الذي يشمله مع غيره من المجتمعات . فاستقلاله ـ اذن ـ لا يعني عزلته عن المجتمعات الاخرى أو عدم التعامل وتبادل المصالح معها ومن باب أولى لا يعني ” مناطحتها ” سواء كانت فوق مستوى صلابة عظامنا أو كانت مثلنا أو أقل منا صلابة .. إن القومية التي تعلمنا احترام الوجود الخاص لكل مجتمع ترفض مثل هذا الشغب الصبياني . بل أن أمتنا النامية التي تحاول أن تتقدم اجتماعياً من موقع متخلف عن كثير من المجتمعات ، وكثيراً عن بعضها، لفي أشد الحاجة ـ من ناحية ـ إلى أن تستفيد من الخبرة العلمية المتاحة في المجتمعات التي سبقتنا ، وإلى ما هو متوافر لديها من أدوات الإنتاج متقنة الصنع التي كاذت أدوات سبقها وثمرته معاً . وفي في أشد حاجة ـ من ناحية أخرى ـ إلى أن تدخر كل قواها البشرية والمادية لحل مشكلات التنمية فيها . وأفضل وسيلة للحصول عليهما أو على أي منهما هو التعاون وتبادل المصالح مع المجتمعات الأخرى في إطار من السلام والأمن والصداقة .
ولما كان كل هذا يتفق مع حتمية قوانين التطور التي تصح بالنسبة إلى كل المجتمعات ، فإنه كله يصدق بالنسبة إلى المجتمعات كلها . بمعنى أن قوانين التطور الاجتماعي تبلغ أقصى فعاليتها التقدمية ـ على المستوى الانساني ـ عندما يتطور كل مجتمع بكل ما هو متاح فيه من امكانيات بشرية ومادية لا أكثر ولا أقل . وعن طريق تبادل الفائض منها في كل مجتمع تتكامل الجهود الانسانية وتطرد حركة التقدم البشري . ولكن التبادل غير الاستيلاء . الأول إضافة بمقابل والثاني إضافة بدون مقابل . هذا الاستيلاء ، أيأ كان مبرره أو اسلوبه أو غايته ، لا بد من أن يكون ” سلباً ” لمقدرة المجتمع الذي فقد به مـا يملك على التطور الاجتماعي . فهو عائق دون تطوره . لا تتوقف آثاره المخربة على تخلف المجتمع المسلوب بل تتجاوزه إلى استيفاء قدر آخر من طاقته في سبيل التحرر من ذاك العائق . فقد عرفنا ” أنه عندما تحول أية قوة ، لأي سبب ، دون التطور الاجتماعي يصبح الصراع الاجتماعي حتمياً . وتكون غايته تصفية القوة المضادة للتطور ليستأنف التطور الاجتماعي مسيرته بدون صراع    ( فقرة 18 )  .
إن الاستعمار هو عملية السلب هذه .
إنه سلب امكانيات التطور الاجتماعي في مجتمع معين . وهو علاقة ذات طرفين أحدهما السالب والاخر المسلوب ، ولكن طبيعته المعوقة للتقدم الاجتماعي في المجتمعات المسلوبة امكانياتها لا تتغير تبعاً للاسلوب الذي يصل به المستعمرون الى الاستيلاء على امكانيات التقدم الاجتماعي في المجتمع الضحية. وإن هذا لمهم . مهم أن نكتشف طبيعة الاستعمار في مضمونه حتى لاننخدع في اسلوبه . فقد تغيرت أساليب المستعمرين فتحولت من البطش الى الاقناع ، ومن السيطرة بالقهر الظاهر الى السيطرة بالتحكم الخفي .
ففي البدء كان المستعمرون يتجولون في انحاء الارض ويكتشفون اطرافها بحثاً عما يحتاجون اليه من مواد خام أو بضائع ليستولون عليها بالخديعة او عنوة تبعاً لمواقف اصحابها . و تعود اساطيلهم محملة بما يريدون . ثم اقاموا في اماكن متفرقة من الأرض مراكز ثابتة لهم لتجمع ما تريد الى ان تأتي السفن فتحمله الى بلادهم . واصبح تأمين سلامة النقل ذهابأ وإيابأ هدفاً جديداً للمستعمرين حتى تتصل حركة الاستيلاء مما وراء البحار . فأقاموا لأنفسهم مراكز جديدة على طول الطرق المؤدية براً وبحراً الى مصادر ما يسلبون . وقد ذهب اغلب الوطن العربي ضحية رغبة المستعمرين في تأمين طريقهم إلى الهند . رويداً رويداً  تحول الاستعمار من مراكزمسلحة للاستيلاء على ثروات الشعوب ومخافر مسلحة لحراسة السفن الى الاستيلاء على المجتمعات باكملها ، أرضاً وبشراً ، ويحكمونها بقواتهم المسلحة . عندئذ استوفى الاستعمار كامل مضمونه : التبعية. وهي الكلمة التي تترجم بدقة مقابلاتها في لغات المستعمرين التي لا نعرف أي غبي ترجمها الى الكلمة العربية الدارجة : ” استعمار ” مع انه تخريب . على أي حال فهنا لا يكون الاستعمار استيلاء ، بالخديعة أو بالقوة ، على بعض ما هو متاح من مواد في المستعمرات ، بل هو وضع مجتمعات باكملها في خدمة القوى المسيطرة . هنا تصبح الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في المستعمرات مسخرة لخدمة الانتاج في الدول المسيطرة . لا تنقل إليها . ولكن توظف في مكانها أو تنقل تبعاً لمقتضيات الانتاج في الدول المسيطرة . وحتى عندما توظف في مكانها ، تتحدد وظيفتها تبعاً لما تحتاجه عملية الانتاج في الدول المسيطرة . و كما تصبح الأرض مصدراً للمواد الخام يصبح البشر مجرد مستهلكين لما يصنع سادتهم . باختصار تصبح المستعمرات بكل ما فيها ، ومن فيها ، امكانيات متاحة، لا لتطورها هي ، ولكن لتطور الدول المسيطرة . فيؤدي هذا ـ من ناحية ـ الى حبس التطور الاجتماعي في المستعمرات عند الطور الذي فقد فيه امكانياتها لا تتجاوزه إلا قليلاً . وبعد قرون سيغادر المستعمرون تلك المجتمعات فاذا هي في مرحلة التطور التي كانت عليها يوم أن دخلوها لم تتغير كثيراً . ولكنه يؤدي ـ من ناحية اخرى ـ وبحكم تحديه لحتمية قوانين التطور الاجتماعي الى مقاومة المستعمرين ، فلا يقوم الاستعمار إلا بالقهر وبالقهرب يستمر إلى أن يسقط ولو بعد قرون . وللقهر تكلفة متزايدة تبعاً لنمو حركة التحرر . فتنتهي ـ منذ وقت قريب ـ مرحلة الاستعمار الظاهـر ليظل الاستعمار الخفي ، أو الجديد كما يسمونه ، قائماً حتى الآن في أكثر من مكان من الأرض .
والخفي خفي فلا بد من جهد منتبه لاكتشافه . لقد اختفت من المستعمرات الجيوش المسلحة . ورفعت اعلام الاستقلال في أكثر انحاء الأرض . واتسعت هيئة الأمم المتحدة لمقاعد كثير من الدول التي كانت منذ وقت قريب مستعمرات . فهل زالت دولة المستعمرين وأصبح الحديث عن الاستعمار تشهيراً اعمى والنضال ضد المستعمرين معارك حمقاء ؟ ما الذي تفعله إذن الجيوش التي انسحبت من المستعمرات لتبقى في ثكناتها ، في بلادها، تنفق  آلاف الملايين لتزويدها باكثر الاسلحة فتكاً ؟ ماهيالمصالح ” التي تجهز تلك الجيوش ، وتبقى جاهزة ، لحراستها ، واين تقع ؟ .. لماذا تقطع تلك الدول قدراً كبيراً و متزايداً من دخلها القومي لبناء ترسانات الارهاب المسلحة ؟.. لماذا لا يكفون عن التدخل في شئون الناس لو  كانوا حقأ مشغولين بتطوير واقعهم الاجتماعي بقدر ماهـو متاح في مجتمعاتهم من امكانيات بثسرية ومادية لا أكثر ولا أقل ؟..  الحق أن جيوش المستعمرين قد انسحبت الى ثكناتها في بلادها لأنها ـ فنياً ـ قد أصبحت  قادرة على أن تعود إلى أي مكان في الأرض في الوقت الذي تريد . ولتفسح المجال لأسلوب جديد يحافظ به المستعمرون اليوم على الاستعمار، والاستعمار تبعية . وهي كما تتحقق بالاكراه المادي فتفرضها القوة الباطشة ، تتحقق بالاكراه الاقتصادي الذي يجذب ضحيته من امعائها الى الموقع الذي يراد لها بدون بطش ظاهر .
فلقد جلت الجيوش عن كثير من المستعمرات . ورفعت عليها رايات الاستقلال . وتولى ابناؤها الحكم فيها. وأصبحوا بذلك مسئولين عن حل مشكلات التنمية في مجتمع مسلوب منذ قرون . فهم لا يملكون من أسباب التقدم الاجتماعي إلا القليل من العلم و المال والادوات والمهارة وان كانوا يملكون الارض والبشر والرغبة في التطور . هنا يتقدم المستعمرون فيقدمون العلم والمال والادوات والخبرة ثم مطلبأ بسيطأ . أن يقبل ” المتحررون ” نصائحهم في كيفية تطوير مجتمعاتهم المتخلفة . على أن يكون لهم ، وحدهم، حق اختيار الطريقة المناسبة لتحويل تلك النصائح الى قرارات نافذة ، بحكم انهم ” متحررون ” وبحكم انه لا يجوز التدخل في شئون البلاد المستقلة . كيف يختار المستعمرون تلك ” النصائح ” التي يقدمون من أجل نفاذها العلم والمال والادوات والخبرة ؟… هنا الجوهر من المسألة كلها . انهم يختارونها تبعاً لما يتفق مع مصالحهم . ولا يمكن ان في يختاروها الا على هذا الاساس ، وعندما تنفذ لن تكون إلا في خدمة تلك المصالح . وهكذا تظل التبعية قائمة ولكن مغلفة بأكثر الاغلفة تضليلاً : اعلام الاستقلال السياسي . وفي ظلها يجد أكثر الناس حديثاً عن الحرية انهم غير قادرين على أن يتقدموا إلا بقدر ما يريد المستعمرين وفي الاتجاه الذي يريدونه ، أو لا يتقدموا على الإطلاق . فان تمردوا ظهر ما خفي وعرف من لم يكن يعرف لماذا يحتفظ المستعمرون بقواتهم المسلحة ويزيدونها تسليحاً .
انهم يقدمون العلم بمقابل أو بدون مقابل . ويقدمون المال في مقابل فائدة ويقدمون الادوات في مقابل ثمن. ويقدمون الخبرة في مقابل اجر . ويقدمون ” النصاثح ” بما فيه مصلحتنا. فهل هي مبادلة أم استيلاء ؟.. هذا سؤال كان يمكن أن يطرح في مراحل الاستعمار الأولى ، إنما الذي يطرح اليوم هو : هل هو تعاون أم تبعية ؟.. ان العلم بمقابل أو بغير مقابل يكون تبعية عندما نفقد المقدرة على اختيار من نتعلم منه . والمال بفائدة أو بغير فائدة يكرن تبعية عندما نفقد المقدرة على اختيار  من نقترض منه . والادوات بثمن أو بغير ثمن تكون تبعية عندما نفقد المقدرة على اختيار من نشتري منه . والخبرة بأجر أو بدون أجر تكون تبعية عندما نفقد المقدرة على اختيار من نستعين به . و” النصائح ” مفيدة أو غير مفيدة تكون تبعية عندما نفقد المقدرة على أن نقول : لا. لأننا عندما نفقد المقدره على الاختيار نفقد الحرية . وعندما نفقد الحرية نكون تابعين . يكون المستعمرون قد استولوا على مجتمعنا كله عندما استولوا على ارادتنا ، عندما سلبونا المقدرة على أن نقول تلك الكلمة التي تفرق بين الحر والعبد : ” لا ” . وليس من اللازم أن نفقد الحرية عنوة . هذا اسلوب قديم . بل نفقدها عندما نقتنع ” بأنا لا نستطيع أن نتقدم ـ في عصر الدول العظمى إلا إذا كنا تابعين . ونفقدها عندما نقبل التبعية غروراً منا بأنا كما دخلنا  شباكها مريدين نستطيع أن نفلت منها في أي وقت نريد . ونفقدها عندما لا نفطن الى علامات زائفة وضعت لنا خفية على طرق موهومة الى التقدم الاجتماعي فنندفع عليها الى أن نجد أنفسنا في الكمين . ونفقدها عندما يحملنا الطموح المثالي على أن نحقق في زماننا ما يتجاوز امكانياتنا الخاصة ” فنرهن ” المستقبل وفاء لما يزيد حتى اذا ماجاء المستقبل وجدنا أنفسنا تابعين . ونفقدها حتماً اذا توهمنا ان الاستعمار قد انقضى يوم ان غادرت جيوشه المستعمرات ورفعت في اماكنها اعلام الاستقلال . ان هذا الوهم المخدر كفيل بأن يذهب بنا الى مواقع التبعية بدون أن نعرف كيف اصبحنا تابعين ، أو حتى بدون ان نفطن الى اننا قد اصبحنا تابعين . فلا نعرف ما فقدنا الا يوم ان نحاول قول : لا، فنكتشف اننا غير قادرين . وهكذا لم يعد لازماً أن يضعنا المستعمرون في شباك التبعية بل قد نذهب نحن ” بحسن نية ” الى داخل الشباك المنصوبة فنفقد الحرية .
نحن نتحدث عن الاستعمار بدون أن نقول من هم المستعمرون .
ان هذا مقصود .
ذلك لأن الاستعمار تبعية . والتبعية حالة في المجتمع الضحية بصرف النظر عن المتبوعين . الاستعمار قيد يعوق تقدمنا الاجتماعي وما يهمنا أولاً هو القيد ثم يأتي بعد هذا من الذي وضعه وكيف يزول . اننا ببساطة لا نريد ، وما ينبغي لنا ، أن نغفل عن القيود  التي تعوق حركة تطورنا لنبحث عن صانعي القيود ، فان بحثنا عن بعض المستعمرين قد يكون حركة تابعة لبعض آخر من المستعمرين . أي قد تصل بنا التبعية الى ان ندخل مع سادتنا معركة ضد منافسيهم من سيادة البشر . اننا ، ببساطة ايضاً ، لا نريد ، وما ينبغي لنا ، ان نقيم من أنفسنا أوصياء على البشرية فنفتش في انحاء الأرض ونحاكم الناس فنحكم عليهم بأنهم مستعمرون أو غير مستعمرين . ان لكل مجتمع أن يسلك الى مستقبله الطريق الذي يراه . ولا نريد من أحد إلا أن يدعنا نسلك الطريق الذي نريد . وكل متبوع مستعمر وكل تابع ضحية للاستعمار بصرف النظر عن النوايا والاساليب . ان هذا هو التطبيق الفعلي لما علمتنا القومية من احترام الوجود الخاص لكل المجتمعات . ثم ان العلامات التي كانت تميز الاستعمار في مرحلته الظاهرة قد اختفت . واختلطت علاقات التبعية بعلاقات التعاون في مرحلة من التاريخ تشابكت فيها المصالح المتفقة والمصالح المتناقضة  وسقطت العزلة أو كادت ، وهكذا اصبح اكتشاف الاستعمار عن طريق معرفة ما ينتقص من الحرية في كل مجتمع اسهل من اكتشافه عن طريق معرفة ما يضمره الناس في كل مجتمع من نوايا السيطرة ـ أليست جثة القتيل كافية بذاتها لاثبات وقوع الجريمة ولو كان القاتل مجهولاً . هو كذلك . اذن فإن معرفة الجريمة أولى وأسبق من معرفة المجرمين . والتعرف على افخاخ التبعية أولى وأسبق من التعرف على من وضعها على طريق التابعين . وانا لنضرب هنا مثلاً ، اكثر اساليب السيطرة على المجتمعات خفية وأثراً : الاستيلاء الفكري على عقول الناس . عندما تستطيع أية قوة في الأرض ان تصوغ افكار الناس في أي مجتمع على الوجه الذي يتفق مع مصالحها الخاصة فقد كسبت كل شيء . لأن ” الناس هم أداة التطور الاجتماعي “، وعندما يكون الناس قد اصبحوا ادواتها فإنهم ، بكل وعيهم ” التابع “، سيستخدمون كل امكانيات التطور المتاحة في مجتمعاتهم على الوجه الذي تريده القوى المتبوعة حتى بدون ان يذكر اسمها . انه ” الاستعمار الثقافي ” الذي يتم خفية بأكثر الاساليب علانية : الكتب والصحف والاذاعات والمحاضرات … تحت ستار أشرف الغايات وأكثرها دفعاً للتقدم الاجتماعي : تبادل المعرفة
دقيقة إذن تلك الحدود التي تفصل ، في هذا العصر، بين الحرية والتبعية . وليس ثمة من سبيل الى التزامها إلا بالاحتفاظ في كل وقت ، وتحت كل الظروف ، وفى مواجهة كل القوى ، بالمقدرة على أن نقول : لا. أن تظل إرادتنا خارج قيود التبعية . وان ندرب أنفسنا على أن نقول : لا، حق في الحالات التي ندفع فيها ثمناً لمقدرتنا على الرفض بعض ما نملك من إمكانيات التقدم ، أو نحرم فيها إرادتنا التقدم من بعض ما نستطيع أن نحصل عليه مما يملك غيرنا . ان ” لا ” هذه غاية في ذاتها . تحفظ بها ونختبر فيها حريتنا . ونتأكد عن طريقها من أننا ما نزال نتعامل ونتعاون ونتبادل المصالح خارج نطاق التبعية . وما نخسره في سبيلها يعوض ولكننا لو خسرناها فقدنا كل شيء . إذ أن ” الانسان أولاً ” ، ولا حرية ـ أبداً ـ بدون أحرار .
ان كان كل هذا واضحاً واستقر قاعدة لموقفنا ، يصبح واجباً علينا أن نضيف أن الاستعمار نشأ وانتشر وتغيرت أساليبه مع نشأة وانتشار وتغير أساليب النظام الرأسمالي في سيطرته على الشعوب . لا لأن النظام الرأسمالي قائم على أساس الإنتاج من أجل البيع كما يقال ،  إذ أن كل الناس في ظل كل النظم بما فيها النظام الاشتراكي ينتجون ليبيعوا . فمنذ أن ابتكرت النقود انقضى عصر المقايضة وأصبح البيع هو أسلوب التبادل . إنما لأن النظام الرأسمالي قائم على أساس الإنتاج والبيع من أجل الحصول على “ الربح ”. والربح هو الفرق بين سعرالبيع وسعر التكلفة . وفي ظل المنافسة الرأسمالية الحرة يتحدد سعر البيع طبقاً لتوازن العرض والطلب في ” السوق ” . وفي السوق تكون كل السلع ” المثلية  والبديلة ”  ذات سعر واحد  بصرف النظر عن تكلفتها . ومن هنا لم يكن الرأسمالي قادراً على أن يحصل على ما يريد من أرباح عن طريق التحكم في سعر السوق يوم أن كان السوق حراً في مراحل الرأسمالية الأولى . فكان الحال المفتوح لزيادة الربح هو عنصر الإنتاج : العمل والمواد . وفي البدء كان العمل متاحاً ، في أوربا بأكثر مما تحتاج إليه الرأسمالية الناشئة، وجذبت المصانع إليها ملايين الفلاحين الذين تحرروا من سيطرة الاقطاع . بقي البحث عن المواد الخام . وقد بدأ الاستعمار بحثاً عن المواد الخام فيما وراء البحار، متاجرة أولاً ، ثم سلباً بعد حين . ومع تطور الصناعة في أوربا وتزايد الحاجة الى المواد الخام ثم الى مستهلكين لفائض الإنتاج ، من أجل مزيد من الربح ، قامت ” الشركات ” الرأسمالية ، في حماية دولها ، بالاستيلاء على العالم وحولته الى مستعمرات . وفي سبيل هذا تنافس المستعمرون  وقاتل بعضهم بعضاً . وأصبحت المستعمرة مخزناً من المواد و البشر ” تابعاً ” للمشروعات الرأسمالية في أوروبا ، تستخدم إمكانيات التطور الاجتماعي المادية والبشرية المتاحة فيها لخدمة النمو الرأسمالي . وتتولى الجيوش المسلحة المحافظة على تلك التبعية بالقوة . ولما أن أصبحت الشعوب قسمة بين الرأسماليين  بدأ قانون المنافسة الحرة يصفي الحساب فيما بينهم ، وخرج من حلبة المنافسة كل الضعفاء والمهزومين وتحولت الرأسمالية القائمة على أساس المنافسة الحرة الى إحتكارات رأسمالية إحتكارات لمصادر الإنتاج وأدواته وسلعه وسوقه . وقضى قانون المنافسة الحرة على المنافسة الحرة . وعرف الرأسماليون قبل غيرهم كذب الليبرالية ، وإن مصالحهم لن تتحقق تلقائياً خلال تحقيق كل منهم مصلحته ، فتعاونوا للابقاء على النظام الرأسمالي . وهكذا تحولت الرأسمالية التي نشأت فردية الى نظام إحتكاري جماعي يتعاون في ظل الرأسماليون من أجل الإبقاء على الشعوب في حالة تبعية . ولم يزل غير انه، حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يستهدف دائمأ حريته . وحتم على المجتمعات أن تتطور، ومن هنا نشأت وانتشرت وتغيرت أساليب النضال التحرري ضد السيطرة الرأسمالية تبعاً لنشأتها وانتشارها وتغير أساليبها . أما في أوربا فقد كان التحرر يقتضي تجريد الرأسماليين من ملكية أدوات الانتاج ” التي كانت هناك وسيلة تحقيق الربح عن طريق التحكم في أجر العمل . فكانت الاشتراكية هي أسلوب النضال التحرري من السيطرة الرأسمالية . أما في المستعمرات فقد كان التحرر يقتضي تجريد الرأسماليين من ملكيةمصادر الانتاج “. التي كانت هناك وسيلة تحقيق الربح عن طريق التحكم في المواد الخام . ولقد اكتشف لينين تلك العلاقة بين النضال من أجل الاشتراكية في أوربا والنضال من أجل التحرر في المستعمرات نعرف أن الذين يناضلون من أجل التحرر من الاستعمار إنما يحررون الرأسمالية في أوربا من بعض مقدرتها على مقاومة الاشتراكيين هناك . فأوصى بالتحالف بين قوى التحرر الوطنيوقوى الاشتراكية ضد العدو المشترك وأشاد بدور ” البورجوازية ” الوطنية في المستعمرات .
وهنا يعرض لنا سؤالان . أحدهما مطروح والثاني نطرحه .
أما الأول فيقول أن النظام الرأسمالي نظام فردي ولو كان احتكاريا بمعنى أن مصادر الانتاج وأدواته والسلع المنتجة مملوكة ملكية خاصة والدولة فيه ليبرالية لا تتدخل في الانتاج أو التوزيع أو الاستهلاك . وفي المجتمعات الرأسمالية تقوم المؤسسات الخاصة بالنشاط الصناعي والتجاري . فنحن عندما نتعامل مع مجتمع رأسمالي لا نتعامل مع الدولة بكل ما تملك من قوة البطش الظاهرة أو قوة السيطرة الخفية . بل نتعامل مع أفراد أو مع مؤسسات من افراد هذه ” الشركات ” ذوات الشخصيات المستقلة عن شخصية الدولة والحريصة نفسها على ألا تتدخل الدولة في شؤونها . وهي شركات متنافسة ولو كان أصحابها ينتمون الى مجتمع واحد . فلماذا نخشى التعامل مع الافراد، ونتوهم اننا إذ نتعامل معهم نقع في شراك التبعية ؟ أليس التعامل مع تلك الشركات الخاصة أكثر أمناً من أن نتعامل معدول ” تملك من القوة ما تفرض به علينا ان نكون لها تابعين ؟… لا . ان الليبرالية تمنع الدولة من التدخل في شؤون رعاياها ، ولكنها تضع الدولة في خدمة رعاياها ورعاية مصالحهم . لهذا كانت الدولة الليبرالية منذ البداية حارسة النشاط الاستمعاري الذي تقوم به المؤسسات الرأسمالية الخاصة خارج حدود دولتها . وبقدر ما تكون الدولة قوية بقدر ما توفر من حماية للرأسماليين . من هنا كانت الدولة الليبرالية هي ذاتها مؤسسة مسلحة تابعة للرأسمالية فلما نمت الرأسمالية وتحولت إلى نظام احتكاري قويت الدولة الليبرالية وأصبحت أ كثر شراسة ، لأن الرأسماليين هم الذين يوفرون لها القوة بقدر ماهم في حاجة الى استعمالها لحماية مصالحهم في الداخل أو الخارج . لقد رأى لينين في هذه  الظاهرة تحول الاحتكارات الرأسمالية من احتكارات خاصة إلى احتكارات “الدولة” وأسماها ” الامبريالية ” للدلالة على سيطرة الدولة على كثير من الشعوب والمجتمعات كما كان يفعل ” الاباطرة ” . والواقع من الأمر أن الدولة فى مرحلة “الامبريالية ” لا تتحول الى أداة احتكار رأسمالي بل تتحول الى اداة في يد ” امبراطورية ” المؤسسات الرأسمالية الاحتكارية التي تبقى احتكاراتها ملكية خاصة لها، لا تشرك في أرباحها حتى الدولة التي تستخدمها اذن فإن كان صحيحاً اننا عندما نتعامل مع الرأسماليين نتعامل مع مؤسسات خاصة ، إلا أنه صحيح أيضأ أن تلك المؤسسات ” الخاصةتتعامل معنا في حراسة مؤسسة “عامة ” مسلحة هي الدولة . وهنا يكون الخطر مضاعفاً لان الدولة ستفرص علينا التبعية للاحتكارات الرأسمالية أو تحرسها فلا تفلت منها بأمر من تلك الاحتكارات وبدون قيد حتى من مصلحة شعبها الذي هو واقع بدوره في قبضة المحتكرين . نريد أن نقول ان شراسة الدول الاستعمارية راجعة إلى أنها تقاتل بناء على طلب الرأسماليين وحماية لمصالحهم بجنود لا قيمة لحياتهم عند الرأسماليين . ومن هنا تكون أكثر استعدادا للتضحية بهم في الحروب من الدول التي هي أدوات الشعوب الحريصة على حياة أبنائها .
أما السؤال الثاني فيمكن أن يقول : هل هذه هي كل العلاقة ما بين التحرر والرأسمالية ؟ هل كل ما في الأمر هو أن ثمة نظاما رأسمالياً احتكارياً قائماً بعيداً عنها يفرض علينا التبعية أو يحاول فرضها ؟ … ان يكن الأمر كذلك فان حركات التحرر تحطم كل يوم قيود التبعية بالاسلوب الذي  تعلمته من الممارسة : رفع  تكلفة الاستعمار . ومنذ ان أدرك المستعمرون أنفسهم ان ” ما يدفعونه ” محافظة على وجودهم في المستعمرات المتحررة على سيطرتهم يهدد حسابات ” الأرباح ” التي جاؤوا من أجلها انسحبوا من المستعمرات خوفاً من ” الخسارة ” . ومنذ ربع قرن و هم ينسحبون طائعين أو كارهين . الا تنتهي اذن مشكلة الاستعمار بالتحرر فنتحرر نحن من مركبات النقص ونعود الى تقييم النظم الاجتماعية طبقاً لما أثمرت من تقدم علمي وصناعي في أوربا يوم إن كانت أوربا في مثل تخلفنا ، فنختار الرأسمالية  “الوطنية” وبدون تبعية ؟.
هذا كان زماناً .
كان يوم ان كانت الرأسمالية الناشئة منقسمة الى رأسماليات وطنية متنافسة ، وكانت كل دولة تدخل حلبة السباق الرأسمالي بابنائها من الرأسماليين يستولون على المستعمرات في الخارج ليقيموا المصانع في الداخل . وذلك عصر انتهى منذ ان تحولت الرأسمالية الى احتكارات عالمية لمصادر الانتاج وادواته وسلعه وأسواقه . في ظل هذه الامبريالية الرأسمالية العاتية يكون دخول الدول النامية ميدان المنافسة الرأسمالية انتحار لا شك فيه. انها إذ تواجه تلك الاحتكارات لا يكون أمامها الا أن تسحق فتفرض عليها التبعية فرضاً أو أن تخون فتصبح تابعة  تستمد مقدرتها على البقاء مما تخدم به مصالح الذين أبقوا عليها ولم يسحقوها . وإذ بدولة الرأسمالية الوطنية في المجتمعات النامية المتحررة هي الوسط “ الوطني الذي تعود به الى التبعية فتخسر خير ما كسبته أولاً . النظام الرأسمالي في المجتمعات النامية المتحررة هو، إذن، اقصر الطرق ” السلمية ” التي يعود عليها الاستعمار الى المواقع التي غادرتها جيوشه . ليس ثمة أمل لأي مجتمع نام ومتحرر أن يحتفظ بحريته في ظل نظام رأسمالي لا لأن الرأسماليين الوطنيين خونة ولكن لأن الاحتكارات الامبريالية أما ان تدفع بهم إلى هاوية الافلاس وإما أن تستدرجهم الى هاوية الخيانة . لا خيار لهم في هذا. فان كان ثمة من يدعي غرورا ان ” وطنيته ” اقوى من ان يقهر او يخون فليتأمل ما جرى ويجري لمن هم اكثر منه قوة واقتدارا . فمن قبل ارادت الرأسمالية الوطنية في المانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان الامبراطورية ان تزاحم الاحتكارات الامبريالية على مصادر الانتاج وادواته وسلعه واسواقه . وقدم لها الاحتكاريون تنازلات في مواقع عدة واشركوها معهم في استغلال الشعوب . ولكن عند حد معين ، عند ذلك الحد الذي ارادت به ان تنتزع قيادة امبراطورية الاحتكار الرأسمالي ، سحقوها سحقاً في حرب ضارية قدموا لها جميعاً اكثر من خمسين مليوناً من الضحايا البثسرية ، ولم يتردد عميل الرأسمالية وخادمها المطيع ورئيس الدولة الحارسة لامبراطورية الرأسماليين في ان يبيد هيروشيما ، رجالا ونساء واطفالا بضربة ذرية واحدة ، إن كانت المانيا النازية هي التي بدأت القتال فذلك هو الدرس الذي ينبغي ان نعيه . ان الرأسمالية الوطنية في هذا العصر لا تستطيع ان تعيش على ما هو متاح في بلادها من امكانيات مادية وبشرية لا اكئر ولا اقل ، ولا بد لها ، ان عاجلاً او آجلاً ، ان تحاول الاستيلاء على ما لا تملك مجتمعاتها من مصادر الانتاج اي ان تتحول الى قوة استعمارية . وستجد هناك الاحتكارات الرأسمالية التي سبقتها والتي لن تتردد في دفعها الى هاوية الافلاس أو استدراجها الى هاوية الخيانة . ولقد افلست المانيا النازية وأحالت المانيا خراباً . ولم تستطع الرأسمالية الألمانية أن تبقى إلا عندما اختارت الخيانة فأصبحت تابعة لامبراطورية الرأسماليين . ولم تستطع المانيا بكل قوتها أن تجمع بين التحرر والرأسمالية معاً . وتحت بصرنا تجري منذ سنوات قليلة معركة لا تقل ضراوة وإن كانت ما تزال سلمية . فمنذ سنوات قليلة تحاول فرنسا تحت قيادة ديجول التحرر من التبحية للاحتكارات الامبريالية التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية . وفرنسا رأسمالية . ولقد مات ديجول ، قائد معركة تحرير فرنسا قبل أن تنتهي المعركة . وقبل أن يموت كان قد انتزع من مركز القيادة . وتقف فرنسا اليوم في مفترق الطرق . ان كانت لا تريد أن تسحق كما سحقت المانيا من قبل فليس أمامها الا أن تختار بين الحرية والرأسمالية . إما أن تكون ديجولية وإما أن تكون أمريكية وطالما بقيت امبراطورية الاحتكارات الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية فلا أمل لفرنسا أو لأية دولة أخرى في أن تكون متحررة ورأسمالية معاً . وليس في العالم كله ـ الآن ـ دولة رأسمالية واحدة تملك من امر مصيرها اكثر مما تسمح به الولايات المتحدة الأمريكية . ولاتستطيع اية دولة رأسمالية ولوكانت في مثل قوة انجلترا أن تقول لساكن البيت الأبيض في واشنطن : لا ، الا في المجالات وإلى المدى الذي تسمح به  الاحتكارات الرأسمالية . هذا لا شك فيه أيضاً . وعلى من يشك فيه أن يفتش لنفسه في الأرض عن دولة واحدة متحررة ورأسمالية معاً . على أي حال ، فغداً او بعد غد ، طال الزمان او قصر سينقطع الشك باليقين ويتعلم الذين يجهلون العلاقة العضوية بين الاستعمار والرأسمالية ، وتخدعهم اعلام الاستقلال المزيفة في الدول الرأسمالية ، ان الاستعمار الذي نشأ وانتشر وتغيرت اساليبه مع نشأة الرأسمالية وانتشارها وتغير اساليبها لن يموت ويدفن الا مع النظام الرأسمالي في قبر واحد . حينئذ، وحينئذ  فقط ، يمكن للمجتمعات ان تقول انها قد تحررت نهائياً . وتستطيع اليد التي تحمل السلاح ان تلقيه لتتفرغ اليدان للبناء والتنمية والتقدم الاجتماعي بكل ما هو متاح من مجتمعاتها من امكانيات بشرية ومادية لا أكثر ولا اقل . أما قبل هذا فان الذين كسبوا معركة التحرر لا يمكنهم ان يكسبوا معركة التقدم الاجتماعي ما دام الاستعمار الذي يحاصرهم من كل ناحية ويتربص بهم في كل حين يجبرهم على ان يقتطعوا من الامكانيات المادية والبشرية ، التي كان يجب ان تتجه الى حل مشكلات الناس وبناء حياة افضل، قدراً كبيراً للمحافظة على حريتهم . ويظل شعار ” يد تبني ويد تحمل السلاحهو أصدق الشعارات لما يجب ان يكون في المجتمعات المتحررة النامية بالرغم من صدق ما يدل عليه من ان يداً واحدة هي التي تبني الحياة الافضل .
إننا لا ندافع هنا عن الاشتراكية ، ولكنا نكتشف جوانب مشكلة الاستعمار . فإذا كنا قد اكتشفنا أن الرأسمالية والاستعمار توأمان ، فلعل الذين يريدون التحرر والرأسمالية معاً أن يكتشفوا انهم يسيرون على طريق مسدود وان غاياتهم غير ممكنة موضوعياً بحكم الواقع الاجتماعي في هذا العصر. اما نحن فقد عرفنا من جدل الانسان : ان التطور الاجتماعي لا يتم بتحقيق كل ما يريده الناس بل بتحقيق ما يمكن تحقيقه فعلاً مما يريدونه في مجتمع معين في وقت معين . وقمة النجاح هو تحقيق كل الممكن . ويكون علينا ان نكتشف هذا الممكن موضوعياً في كل وقت ونحن نحاول ان نعرف الحلول الصحيحة لمشكلات الناس في ” واقعنا الاجتماعي ” ( فقرة 18) . وهكذا نعرف ان الحل الوحيد لمشكلة الاستعمار الرأسمالي كما هو محدد موضوعياً في الواقع الاجتماعي في هذه المرحلة التاريخية التي تمر بها امتنا العربية ليس مقصوراً على قطع علاقات التبعية مع الرأسمالية الأجنبية بل بالتقدم ـ أيضاً ـ عن غير الطريق الرأسمالية . بالقطع نتحرر من التبعية ، وبعيداً عن الطريق الرأسمالي سنكون في مأمن العودة الى التبعية .
هذا هو الاستعمار، فما هي مشكلته في مجتمعنا ؟
لا يمكن لأي انسان في الوطن العربي أن يجيب على هذا السؤال الخطير إجابة صحيحة إلا اذا واجهه من موقف قومي . ذلك لأن على كل من يتصدى للإجابة عليه أن يعرف أولاً ما هو مجتمعه . وبدون ان يعرف ما هو مجتمعه ـ معرفة صحيحة لن يعرف الامكانيات البشرية والمادية المتاحة فيه لصنع التقدم الاجتماعي . وعندما لا يعرفها لا يعرف ما هو مسلوب منها بالاستعمار الظاهر وماهـو مسخر منها لخدمة الاستعمار الخفي ، وبالتالي لا يعرف القوى التي تسلبه أو تسخره لخدمتها ، فلا يعرف لا مشكلة الاستعمار ولا حلها الصحيح . بعيداً عن الموقف القومي ، وخارج نطاق العلاقات القومية وسيظل أكثر الناس في الوطن العربي رغبة في التحررلايعرفون الطريق الى الحرية ، لانهم لن يستطيعوا أبداً معرفة الحقيقة الاجتماعية لمشكلة الاستعمار ما داموا لا يعرفون ” المجتمع ” الذي تثور فيه المشكلة- ولقد كانت لكل هؤلاء في سنة 1967عبرة اقتضت ثمناً فادحاً . فطوال عشر سنوات كاد فيها درس 1956 أن ينسى ظن ” الاقليميون ” وأعداء القومية العربية أنهم قد كسبوا معركة التحرر من الاستعمار منذ أن جلت الجيوش الأجنبية وسقطت الرأسمالية العميلة وبدأ التحول الى الاشتراكية والتقدم على طريقها فيمجتمعاتهم ” . وكادوا ان يستبدلوا بشعار يد تبني ويد تحمل السلاح ” شعار ” التفرغ للبناء الاجتماعي ” كأن الحقائق الاجتماعية الموضوعية متوقفة ، وجوداً او عدماً ، على ما يرفعونه من شعارات . كأنهم يستطيعون بالكلمات الكبيرة ان يلغوا مجتمعهم الذي صاغه التاريخ الطويل ليصطنعوا لأنفسهم مجتمعات بديلة . وجاءت سنة 1967 لتثبت لهم انهم ينتمون وجوداً ومصيراً الى الأمة العربية التي هي مجتمعهم سواء ارادوا ام لم يريدوا . وصدقت القومية فيما تقول من ان وحدة الوجود القومي تحتم وحدة المصير القومي فإذا بوحدة المصير القومي تفرض ذاتها على الاقليميين فلا يستطيعون ان يفلتوا من تأثيرها فيما يفعلون . ولهم ، ولنا ، في هزيمة يونيو (حزيران) 1967 عبرة ودليلاً من ممارسة  ليؤكد ذلك الدليل الذي لا ينقض على وحدة المصير . فبعد سنين قضاها الاقليميون في وهم التحرر من الاستعمار، يرون بأعينهم الجيوش الاستعمارية وقد عادت تحتل ارضهم قادمة من أرض عربية ظنوا انهم مستقلون عنها … وهكذا يتعلم الاقليميون ، او يجب ان يتعلموا، من اقسى دروس الممارسة انه ، ارادوا ام لم يريدوا ، لن تتحرر دولة عربية حقاً الا اذا تحرر الوطن العربي كله . وعندما يتحرر لن يستطيع احد ان يحافظ على حريته الا بدولة الوحدة .
اننا لا ندافع هنا عن الوحدة ولكنا نكتشف جوانب مشكلة الاستعمار . فاذا اكتشفنا ان الاستعمار والاقليمية حليفان ، وان مشكلة الاستعمار مشكلة قومية ، فلعل الذين يريدون التحرر والاقليمية معاً ان يكتشفوا انهم يسيرون على طريق مسدود وان غاياتهم غير ممكنة موضوعياً بحكم الواقع القومي للمجتمع الذى ينتمون اليه .
اما نحن فإنا نعرف ان مجتمعنا هو الامة العربية . وانه ، ارضاً وبشراً ، ذو حدود تاريخية . وان كل ما هو متاح فيه من امكانيات يجب ان يسخر لتقدمه الاجتماعي هو . وان الاستعمار هو سلب كل او بعض هذه الامكانيات او تسخيرها عن طريق التبعية لخدمة القوى المستعمرة . من هذا الموقف القومي ننظر الى مشكلة الاستعمار ونفهمها ونحلها ثم نرفض ان ننظر اليها او نفهمها او نحلها الا من هذا الموقف القومي. لاننا قد تعلمنا ” ان التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع القومي كما هو . بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين المشترك كما هو . ويكون علينا، اول ما علينا، ونحن نحاول معرفة واقعنا لنطوره ان نعرف معرفة صحيحة ، او نحدد بدقة ، واقعنا الاجتماعي . ان نجيب على اول الاسئلة التي يطرحها التطور الاجتماعي : ما  هو مجتمعنا . و أن نحتفظ به كما هو . وان نحافظ عليه كما هو . وان نتعامل معه كما هو . سواء اعجبنا أو لم يعجبنا أو كان منا من يتمنى لو لم يكن منتمياً اليه. ” ووعينا الانذار” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع  جاهلة أو متجاهلة او رافضة التعامل مع حقيقته الاجتماعية كما هي ”  (فقرة 18)  .
نحن اذن لا نبحث عن متاعب النضال ضد الاستعمار تطوعاً خارج حدود الدول التي نعيش فيها ، ولكن ببساطة ، لا نريد ان نفشل لا في معرفة حقيقة مشكلة الاستعمار ولا في حلها
فما الذي نراه من الموقف القومي ؟

(7)

45 ـ المعركة والقائد : 

حتى نهاية الحرب الاوربية الثانية (1939 ـ1945 ) كانت الأمة العربية كلها ، ارضاً وبشراً، واقعة تماماً في قبضة القوى الاستعمارية . كانت كل امكانيات التقدم الاجتماعي المتاحة فيها ، بشرية او مادية ، مسلوبة ومسخرة لخدمة المستعمرين في انجلترا وفرنسا وايطاليا ، ومقسمة فيما بينها بدون فائض تحت حراسة قواتها المسلحة المنتشرة على الارض العربية كلها إلا حيث رأت الدول الاستعمارية انها في غير حاجة الى حراسة مسلحة ( الحجاز واليمن) . وكان اقتسام الوطن العربي ذا دلالة على حقيقة المشكلة . فقد وضعت الامة العربية ” كجتمع قومى واحد ” على مائدة المستعمرين بعد الحرب الاوربية الأوربية (1614- 1918) بدون اضافة من خارجها ليقتسموها فيما بينهم . العراق وفلسطين وشبه الجزيرة العربية ومصر والسودان لانجلترا ، ” في مقابل ” أن تكون سورية ولبنان وتونس والجزائر والمغرب لفرنسا ، على ان تكون ليبيا لايطاليا . وهكذا كان كل جزء من الوطن العربي ثمناً لجزه آخر منه في عملية مبادلة تمت اتفاقاً بين القوى الاستعمارية وهي تقسم الأمة العربية . ولم يكن ثمة دليل على وحدة المصير أقوى من أن يكون تخلي دولة استعمارية أولى عن جزء من الوطن العربي لدولة استعمارية ثانية هو ” شرط ” استيلاء الدولة الاولى على جزء ثان من الوطن العربي . وقد بلغت استهانة المستعمرين بالامة العربية حد اعتبار فرنسا ان الجزائر جزء منها وحد الحاق الفاشية ليبيا بايطاليا . كان ذلك هو الاستعمار الظاهر بكل بشاعته . ومنذ اللحظات الأولى لم تتوقف مقاومة المستعمرين في أي جزء من الوطن العربي . وتوالت ثورات التحرر ولكنها كانت ، بحكم التجزئة ، ثورات تحرر اقليمي . حتى قوى التحرر التي كانت قد بدأت نضالها موحدة في المشرق العربي (1916) فرقتها التجزئة . وهكذا كانت حركات التحرر في الوطن العربي حركات اقليمية تقوم بها فصائل معزولة بعضها عن بعض تواجه كل منها بما هو متاح لها من قوة محدودة الحلف الاستعماري كله بقواه العاتية . فانهزمت في كل مكان . ودفعت الامة العربية من ابنائها عشرات الالوف من الابطال الذين استشهدوا في معارك التحرر الاقليمية الخاسرة . وفي الحرب الاوروبية الثانية بلغت التبعية حد العبودية والرق . واصبح الشعب العربيغريباً ” بكل دلالة الكلمة في وطنه العربي . الرؤساء والحكومات والموظفون والمنتجون والعاملون حتى العاطلون … كل هؤلاء كانوا لا يملكون من امرهم الا ان ينفذوا الاوامر الصادرة اليهم عن القوى الاستعمارية . حتى الاعراض العربية ابيحت للترفيه عن جنود المستعمرين وتحولت المدن العربية الى مواخير للدعارة العلنية . ولم يكن الشعب العربي في اي مكان يأكل او يشرب او يلبس الا بالقدر الذي يسمح به المستعمرون ومن فائض ما يستهلكونفقد استعمل المستعمرون الامة العربية ارضاً وبشراً اداة لهم في حربهم الرأسمالية ضد منافسيهم من النازيين والفاشيين في سباق السيطرة على الشعوب .
ثم تغير اسلوب الاستعمار بعد الحرب فاختارت الدول الاستعمارية سحب قواتها من المستعمرات توفيراً لنفقات الاحتلال بعد الخسائر الفادحة التي لحقت بها في قتالها الطويل باهظ التكلفة . واستأنفت حركات التحرر الاقليمي في الوطن العربي نشاطها فور انتهاء الحرب . واستطاعت دول كثيرة في الوطن العربي ان تكسب معارك الجلاء ضد قوات كانت قد اعدت خطط الانسحاب من قبل . ولكن الانسحاب لا يعني التحرر . فمن كل ارض عربية انسحبت الجيوش المحتلة بقيت التبعية للاستعمار قائمة . وتحت اعلام ” الاستقلال ” المتزايدة في الوطن العربي بقيت كل مصادر الانتاج وكل الاستثمارات ، وكل البنوك وكل شركات التأمين وكل ادوات الانتاج الزراعي والصناعي وكل وسائل الخدمات من اول القاطرات والطائرات والدراجات الى الادوية والاحذية والاغطية والاوعية … تابعة في سوق الانتاج او في سوق الاستهلاك ، تبعية مباشرة للاحتكارات الرأسمالية . وكان الفكر الليبرالي ومبتكراته السياسية من اول الحرية الفردية المقدسة الى آخر الديموقراطية الشكلية يعربد بدون شريك  في الرؤوس العربية الفارغة ويبيع الليبراليون ” اصوات ” الشعب العربي ويشترونها في سوق الانتخابات الحرة . وبينما بقيت معارك التحرر الاقليمي قائمة ضد الاستعمار الظاهر في الأماكن التي بقيت فيها جيوشه كاد الاستعمار ان يصفي حركات التحرر في الاقاليم المستقلة عن طريق التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية الكاملة تحت ستار الاستقلال السياسي . في تلك المرحلة الزائفة التي امتدت حتى سنة 1952  كانت اقدام المستعمرين على رؤوس الشعب العربي في الدول ” المستقلةاكثر ” ثباتاً ” منها في الاقطار التي تقوم الجيوش فيها علامات ظاهرة على التبعية . كيف يمكن اقناع الجيل الجديد من الشباب العربي الذي لم يشهد تلك المرحلة بالعبودية التي كان يعيش فيها الجيل الذي عاصرها . هل يكفي ان نذكر لهم ان السفير البريطاني في مصر، التي تضم ثلث الامة العربية بشراً وتمثل قمة تقدمها الحضاري ، كان صاحب الكلمة الاولى والوسطى والاخيرة في اختيار حكومة مصر رئيساً ووزراء ، ولم يكن كل جهاز الدولة من اول الملك في قصره حتى خفراء الامن في القرى الا تابعين له تبعية مباشرة يصوغها “البرلمانفي قوانين وتصوغها الحكومة في لوائح وقرارات ويحكم طبقاً لها القضاء وينفذها الشعب . ان ” الزواج الكاثوليكي ” الذي لا طلاق فيه كان رمزاً للعلاقة بالمستعمرين كما عبر عنه علناً وزير من وزراء حزب الاغلبية (الوفد ) الفخور بمعاهدة الشرف والاستقلال التي عقدتها الاحزاب مجتمعة سنة 1936 .  ولم يكن ذلك الوزير الا نموذجاً لأمثال نوري السعيد في العراق وغيره من العملاء في الاقطار الاخرى . أشنع من هذا وأبشع ان دولنا كانت تعلمنا ان تلك علاقة طبيعية في مصلحتنا لا تستحق الرفض فاستكانت اليها ولم يرفضها الا قليل .
وفي سنة 1952 قامت في مصر ثورة تحرر بقيادة  جمال عبد الناصر . وكانت كمثيلاتها من حركات التحرر في الوطن العربي حركة اقليمية : اقليمية المنطلقات اقليمية القوى اقليمية الغايات . ولم يكن الوطن العربي يمثل في منطلقاتها إلا ” دائرة ” ثانية تحيط بالدائرة الاولى التي هي مصر، وتتلوها دائرة اوسع هي دائرة العالم الاسلامي . وكانت قواها ( منظمة الضباط الاحرار) مصرية خالصة . وكانت غاياتها تحرير مصر من الاحتلال الانجليزي وتحرير المصريين من سيطرة الاقطاع ورأس المال وانشاء جيش قوي يحمي استقلال مصر . ان وضوح المعرفة بهذه البداية بالغ الأهمية في معرفة تطور معارك التحرير في الوطن العربي . ولم تلبث الثورة ان اتفقت سنة 1954 على جلاء الجيوش الاجنبية عن مصر في موعد أقصاه سنة 1956. ولم يكن ذلك شيئاً فذاً في عصره . فمنذ اوائل سنة  1947 كانت انجلترا التي أثخنتها جروح الحرب قد اتفقت مع الولايات المتحدة الامريكية على ان تتنازل لها عن السيطرة على الشرق الاوسط وأن تسحب قواتها . وكان اول تطبيق للاتفاق هو انسحابها من فلسطين لتعلن القيادة الجديدة للقوى الاستعمارية ممثلة في ترومان ” اعترافها بدولة اسرائيل فور الانسحاب . وقد دفع ايدن وجي موليه ثمن محاولتهما خرق ذلك الاتفاق سنة 1956. وليس من المنكور أنه بالرغم من الاهداف التحررية الواضحة التي اعلنتها ثورة 1952 منذ البداية لم تقاومها انجلترا ولا قاومتها الولايات المتحدة الامريكية بقدر ما كانت أي منهما تستطيع . واستقل السودان منفصلاً عن مصر تأكيداً لاقليمية الثورة .  وبدأت الثورة منذ 1954 محاولتها في التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في مصر في انتظار جلاء الجيوش الانجليزية سنة 1956. غير ان تلك الفترة الزمانية القصيرة التي انقضت ما بين سنة 1954 وسنة 1956 قد شهدت تحولا خطيراً في الوطن العربي . ففيها اختبر الاستقلال السياسي اختباراً حقيقياً فانكشفت التبعية التي تحاول القوى الاستعمارية ، او قيادتها الامريكية ، ان تفرضها خفية تحت شعار جلاء الجيوش الانجليزية . وفيها فرض الواقع القومي ذاته فعرفت مصر الثورة ان معركة التحرير ممتدة على نطاق الوطن العربي كله وخاضتها على هذا النطاق . وفيها دخلت الجماهير العربية معركة تحرير مصر ضد العدوان الثلاثي تأكيداً لوحدة المصير القومي . وفيها عرف الذين يناضلون من اجل التحرر انهم لا يستطيعون ان يكونوا احراراً ورأسماليين معاً . وفيها توحدت قيادة معارك التحرر في الوطن العربي فولدت اول حركة تحرر قومي موحدة القيادة في التاريخ العربي الحديث وإن كانت متفرقة القوى والساحات . وفيها كسبت الأمة العربية قائداً فذاً لمعارك تحررها وواحداص من أصلب قادة التحرر من الاستعمار في العالم على الاطلاق هو جمال عبد الناصر .
ذلك لأن فيها قال عبد الناصر ” لارفضاً لشرومل الرأسمالية الاجنبية التي كان يرغب في ان يستفيد بأموالها وخبرتها في التنمية ، ولكن بدون تبعية . وفيها قال ” لا ” رفضاً لمشروع ايزنهاور الذي كان يغلف التبعية بغلاف الدفاع عن ” الدائرة ” العربية ضد عدوان سوفييتي غير محتمل بالرغم من حاجته الى الدفاع عن وطنه ضد كل اعتداء ولكن بدون تبعية . وفيها قال ” لا ” رفضاً لشروط الولايات المتحدة الامريكية عندما حاول ان يحصل منها على السلاح بعد الاعتداء الاسرائيلي على غزة مع انه كان في اشد حاجة الى السلاح ولكن بدون تبعية . وفيها قال ” لا ” رفضاً لشروط الرأسماليين المقترنة بتمويل السد العالي مع انه كان شديد الرغبة في بناء السد العالي ولكن بدون تبعية . وفيها قال ” لا ” رفضاً لانحيازه ضدالمعسكر الاشتراكي فتعامل معه بالرغم من انه لم يكن يرفض التعامل مع المعسكر الرأسمالي ولكن بدون تبعية . ولم يكن عبد الناصر يقول لا ” مشاغبة ”  ولكن لأن  ثورة 1952 التحررية التي كان يقودها كانت في مرحلة اختبار من خلال مواجهة الاستعمار الجديد (التبعية) . كانت كلما تقدمت خطوة على طريق التقدم الاجتماعي تجد الولايات المتحدة هناك تقدم لها ما تريد مختلطاً بالتبعية . وكانت كل قيمتها كثورة تحررية متوقفة على مقدرتها على ان تقول ” لا ” رفضاً للتبعية . وقد قالها عبد الناصر ولم يتوقف عن قولها الى ان يغيب في سنة 1970.
وعندما قال ” لا ” وكلما قال ” لااشتعلت على الأرض العربية أكثر معارك التحرر ضراوة . دفاعاً ضد التبعية التي تريد الولايات المتحدة الامريكية فرضها على العالم العربي . وانكشف الاسلوب الجديد للاستعمار إذ لم يكن للولايات المتحدة الامريكية جندي واحد في مصر بينما هي التي تقود المعركة ضدها . واتضحت الحقيقة القومية لمشكلة الاستعمار . فقد فرض الحصار على مصر من الأرض العربية وسلط عليها كل عملاء الاستعمار من العرب . ومن ناحية اخرى كان على القوى الاستعمارية في انجلترا و فرنسا  واسرائيل أن تهاجم مصر وتسقط عبد الناصر حتى تستطيع ان تبقى في الجنوب العربي والجزائر وفلسطين . فلما ان اعتدت سنة 1956 حسم الأمر . ودخل الشعب العربي كله معركة الدفاع عن مصر واصبح عبد الناصر منذ ذلك الوقت قائد معارك التحرر العربي بدون منازع أو شريك . واكتشفت قوى التحرر العربي العلاقة الوثيقة بين الاستعمار والنظام الرأسمالي فاختارت حلفاءها من الاشتراكيين وضعت في مصر رءوس الأموال الاجنبية . ومنذ 1956 دخلت الولايات المتحدة الامريكية المعركة سافرة كقائدة لامبراطورية الاحتكارات الرأسمالية واستعملت كل الاسلحة : الصداقة والعداء ، المعونة والحرمان ، التدخل والحصار، الدبلوماسية والحرب ، الكلمات التي تريد أن تقنع والاساطيل التي تريد أن ترهب .. ولم تزل .
من الذي كان يواجه المستعمرين في معارك التحرير تحت قيادة جمال عبد الناصر؟
ليست أية دولة عربية . ولا مصر، لقد دخلتها دولة مصر بكل قواها ، خارج حدودها ، وقدم الشعب العربي فيها شهداءه حتى خارج حدود الوطن العربي في معارك التحرر ضد الاستعمار، لا لأن مصر الدولة كانت تنفذ مخططاتها التوسعية بل لأن القاهرة كانت مقر قيادة جمال عبد الناصر الذي هـو رئيس دولة مصر وقائد معارك التحرر العربي في الوقت ذاته ، وفي مصر ـ بعد ـ ثلث الشعب العربي كله . انما الذي واجه المستعمرين في معارك التحرر تحت قيادة جمال عبد الناصر هي الجماهير العربية في مصر وفي كل مكان من الوطن العربي . انها قوة اخرى مختلفة المنطلقات ومختلفة الغايات عن القوى الاقليمية ولو كانت تحررية . منذ سنة 1955 والجماهير العربية ، أعرض الجماهير العربية، تعتبر جمال عبد الناصر قائدها وكان عبد الناصر يقودها فعلاً في معارك التحرر في كل مكان من الوطن العربي من مركز قيادته في القاهرة . من تلك العلاقة ” شبه ” المنظمة بين الجماهير العربية في انحـاء الوطن العربي وبين قائد معارك التحرر في القاهرة ولدت في هذا العصر الحديث أول حركة تحرر عربي .
وقد كانت تلك الحركة من القوة ـ عربياً ـ بحيث يمكن أن نقول ـ بدون خطأ ـ أن كثيراً من القيادات في الوطن العربي كانت تستمد مواقعها الجماهيرية من صلتها بالرئيس عبد الناصر أو ـ  في بعض الاوقات ـ من ادعائها أن ثمة صلة بينها وبين عبد الناصر . وكانت من القوة ـ دولياً ـ بحيث ان الدول العربية ، كل الدول العربية ، التي ما كانت لتكسب دولياً إلا بمقدار وزنها الحقيقي ، وهو خفيف، قد كسبت سياسياً واقتصادياً ومالياً وأدبياً اضعاف اضعاف ثقلها الحقيقي في موازين الدول . نقول كل الدول العربية لأنه لا توجد دولة عربية واحدة ، حتى الدول التي يسخرها حكامها لمناهضة  حركة التحرر العربي ، لم تتمتع فعلياً بحماية الجماهير العربية شبه المنظمة تحت قيادة عبد الناصر . ولا يوجد حاكم أو قائد عربي واحد ، حتى الذين عاشوا يناهضون عبد الناصر، يستطيع ان يزعم أنه لم يكن يقيم حساباته على اساس أن الجماهير العربية تحت قيادة عبد الناصر ستتدخل لحماية الشعب العربي في دولته أو تحت قيادته ضد أي عدوان اجنبي بصرف النظر عن موقفه المناهض . بل ان منهم من كسب واثرى ابتزازاً من سادته تحت ضغط التهديد بانحيازه الى عبد الناصر . كانت حركة قوية الى درجة أن فجرت حفنة من المناضلين بالاتفاق مع عبد الناصر ـ في القاهرة ـ وبدعم ومشاركة منه حتى النهاية أروع ثورات التحرر في الجزائر . إلى درجة أن يسقط  مشروع ايزنهاور . إلا درجة أن يطرد ” جلوب ” من الأردن الى درجة أن يخرج الثوار من كهوف الإمامة في اليمن وينتصروا . إلى درجة أن يستطيع جنوب اليمن أن يخوض ضد بريطانيا حرباً مسلحة ثم ينتصر. الى درجة ان يرى الاتحاد السوفييتي انها حركة ذات وزن يستحق أن ينحاز اليه بكل وزنه الدولي والاقتصادي والفني … برغم موقف الشيوعيين العرب المناهضين لقيادتها . طوال خمس عشرة سنة كانت كل الدول العربية . وكل القوة في الوطن العربى، تعيش ، لا تحت حماية قواها الذاتية ، بل تحت حماية قوى اخرى منتشرة من المحيط الى الخليج ، وقادرة على أن تضرب في أي مكان . تلك هي قوى التحرر العربي موزعة الفصائل في الوطن العربي موحدة القيادة في القاهرة . كانت تلك القوى هي الاضافة الهائلة لوزن اية دولة عربية . ومن تلك القوى استمدت كل الدول العربية، بما فيها الجمهورية العربية المتحدة ، الثقل الذي جعلها أهلاً للصداقة اكثر مما تستحق بذاتها ، وأهلاً للعداء يخشاها الاعداء أكثر مما تقدر بقوتها . وهي هي التي تخوض منذ خمسة عشر عاماً معارك التحرر العربي ضد الاستعمار .
ولقد حققت حركة التحرر العربي هذه انتصارات عدة بلغت ذروتها في الفترة ما بين 1958 الى 1961. ففيها تحققت الوحدة بين مصر وسورية وتحرر العراق وانتصرت ثورة الجزائر وبدأ التحول الاشتراكي . واستطاع فيها جمال عبد الناصر ان يقول للأعداء والأصدقاء معاًلا ” ويصدر أمره من مركز قيادته الى جماهيره فيسقط عبد الكريم قاسم في العراق بعد بضع سنين بالرغم من أن كل القوى الدولية كانت تحميه . ولكنها ـ أيضاً ـ منيت بهزائم مروعة بدأت بالانفصال سنة 1961 وانتهت بهزيمة يونيو (حزيران ) سنة 1967.
ولكنها في سنة 1967 لم تكن بدون رصيد . ففي ظلام الهزيمة تألقت المكاسب التي كانت حركة التحرر العربي قد حققتها من قبل ، واسترد الشعب العربي المقابل العادل لتضحياته في المعارك السابقة . فقد انهارت الجيوش وفتحت حدود الأرض العربية للغزاة من الفرات الى النيل بدون عائق ، فتقدمت الدول التي كانت حركة التحرر العربي قد كسبت صداقتها لتحول دون الاجهاز على الدول العربية المهزومة وتعوضها عن خسائرها الفادحة وانهارت القوى ، كل القوى ، فتقدم الشعب العربي ، عشرات الملايين من أبناء الأمة العربية ، في كل مكان من الوطن العربي ، يومي 9 و 10 يونيو (حزيران) 1967 يقولون بقوة هادرة لا تملكها الا الجماهير: لا . كانت تلك هي الأمة العربية بكل ما فيها من اصالة وحضارة ترفض الهزيمة وتتحدى الواقع وتعيد الى مركز القيادة الرجل الذي اختبرت ، من قبل ، مقدرته على ان يقول : لا . والذي لم يكن لدى الجماهير العربية المتمردة ضد الهزيمة أي شك في انه، منتصراً او مهزوماً ، قادراً أو غير قادر، سيقول : لا. وقالت فصائل المقاومة الجماهيرية ” لا ” من فوهات البنادق . حتى رؤساء الدول العربية لم يستطيعوا إلا أن يقولوا في مؤتمر الخرطوم (اغسطس ” آب ” 1967لا مفاوضة . لا صلح . لا اعتراف ”  ثم يقولوا : ” لا ، رفضاً لانهيار قاعدة حركة التحرر العربي ومركز قيادته فقدموا ما استطاعوا من معونة ودعم الى الجمهورية العربية المتحدة .
طبقاً لأي قانون ما عدا قانون حتمية التحرر، وطبقاً لأي منطق مادي أو مثالي سوى المنطق القومي . واستناداً الى أية قوة في الارض غير قوة الجماهير العربية التي تحمل في ذاتها تراث امتها ، لم يكن من الممكن أن ينطق احد في الوطن العربي كلمة ” لا ” في ذلك الاسبوع الاسود من يونيو (حزيران) 1967. ولم تكن الجماهير العربية في ذلك الوقت تملك الا رصيد الثقة بمنطلقاتها وغاياتها وانتصاراتها السابقة تحت قيادة عبد الناصر . واستردت الجمهورية العربية المتحدة اضعاف اضعاف ما كانت قد بذلته من تضحيات خارج حدودها في السنين الماضية. ولو لم يوجد في التاريخ العربي كله سوى يومي 9 و 10 يونيو (حزيران)  1967 لكانا دليلاً من الممارسة لا ينقضي على صحة الفكر القومي وسلامة منطلقاته، فقد كانا دليلاً غير قابل للنقض على وجود الامة العربية ووحدة مصيرها .
ثم بدأت الانتصارات مرة اخرى . اولها واخطرها اثراً هو رفع مشكلة فلسطين من انقاض التشويه الذي حاولت كل القوى المعادية للتحرر العربي ان تدفنها تحته ، فاذا هي ، كما كانت دائماً، مشكلة ارض مغتصبة منذ سنة 1948 وليست مشكلة حدود وجوار بين الدول العربية واسرائيل . وبعد عشرين سنة تعود اسرائيل فتواجه معركة وجودها لا معركة حدودها . وبعد عشرين سنة . تعود الدول العربية لتواجه الاختيار بين ان تعود الى الحدود المحتلة او ان تعترف بالوجود المغتصب . وتتجسد وحدة مصير الارض العربية. وبعد عشرين سنة يعود المجتمع الدولي فيواجه التناقض بين الوجود الاسرائيلي ووجود الشعب العربي على ارض فلسطين . انها المشكلة التي ظن الناس انها قد انتهت منذ سنة 01948 اما الانتصار الثاني فهو عدم السماح لاسرائيل بان تفض الاشتباك الذي بدأ سنة 1967 لتعود الى حياة الامن على ارض فلسطين ، فقد حول الصمود العربي ورفض الاستسلام معركة يونيو ( حزيران) 1967 من حرب خاسرة كما حدث في سنة 1948 الى جولة خاسرة في صراع مستمر تثيره مشكلة مستمرة . اما الانتصار الثالث فهو عدم التراجع عن التحول الاشتراكي بعد الهزيمة ودعم العلاقات مع المعسكر الاشتراكي برغم كل ما قيل فور الهزيمة . اما الانتصار الرابع فهو ثورة مايو 1969 في السودان . أما الانتصار الخامس فهو ثورة سبتمبر  1969 في ليبيا . غير ان قمة الانتصارات كلها ان تعرض الدول المنتصرة ، ذات القوة التي لا شك في مقدرتها الباطشة، على جمال عبد الناصر، القائد الذي فقد اغلب قوته المسلحة ، ان يسترد سيناء في مقابل ان يكف نفسه ودولته عن ” التدخل ” في شؤون الوطن العربي فيقول ” لا . ولو لم يكن في تاريخ عبد الناصركله الا هذا الموقف لكان به واحداً من اصلب قادة التحرر القومي في العالم وبطلاً فذاً من ابطال الامة العربية ..
ان الاقليميين الذين يستحيل عليهم ، من داخل قواقعهم الضيقة، ان يروا مشكلة الاستعمار على حقيقتها  الاجتماعية ، فلا يعرفون كيف يواجهون قوى المستعمرين ، لأنهم لا يعرفون اين يواجهونها ، لن يروا فيما حدث منذ سنة 1967 إلا ان المصريين قد فقدوا سيناء وأن الاردنيين قد فقدوا الضفة الغربية ، وان السوريين قد فقدوا المرتفعات المحتلة . لأنهم عندما لا يعتبرون ارض فلسطين ارضهم لا يرون قوى الاغتصاب المرابطة فيها منذ سنة 1948، فلا يدركون النصر الذي تحقق بطرح مشكلة اغتصابها من جديد بعد سنة 1967، ولا النصر الذي تحقق يفرض الاستمرار في المعركة وعدم السماح لاسرائيل بأن تعود لتتفرغ للبناء الآمن على ارض فلسطين  . ولأنهم لا يعتبرون السودان وليبيا جزئين من الأمة العربية التي يحاول الاستعمار ان يفرض عليها سيطرته ، لا يرون في تحرير الشعب العربي في السودان وفي ليبيا انتصاراً في المعركة ضد الاستعمار. ولأنهم لايعرفون من وطنهم العربي إلا مواقع أقدامهم ولا يرون قوى الاستعمار إلا ما يقتحم عليهم منازلهم ، فلا شك يعتقدون أن رفض عبد الناصر لعزلة الشعب العربي فيدولتهم ” مقابل استرداد الجزء المحتل من وطنهم ” عناداً ” غير معقول . ثم لا يسألون انفسهم هذا السؤال البسيط : لماذا يقبل المستعمرون التخلي عن سيناء في مقابل تلك العزلة إلا اذا كانت العزلة اكثر اتفاقا مع مصالح المستعمرين من احتلال سيناء ؟ . ثم هذا السؤال  البسيط : لماذا يعرض المستعمرون اعادة الارض المحتلة بعد سنة 1967 في مقابل الاعتراف باسرائيل في داخل حدود آمنة إلا اذا كان الاعتراف باسرائيل في داخل حدود آمنة اكثر اتفاقاً مع مصالح المستعمرين من احتلال سيناء والضفة الغربية والمرتفعات المحتلة جميعاً ..
هل المستعمرون أغبياء فهم لا يعرفون ماذا يريدون ؟ .
كلا . إنما الاقليمية هي العمياء البكماء الصماء .. فلا يفقه الاقليميون مشكلة الاستعمار في الوطن العربي . فهم المهزومون في معارك التحرير ولو كانوا أبطالاً مناضلين . وما ينتصر فيها إلا القوميون التقدميون . ان عبد الناصر نفسه لم يكن اول ابطال معارك التحرر في الوطن العربي . لقد سبقه ابطال آخرون. كثيرون .. انهرموا عنوة او استسلموا للهزيمة اتفاقاً مع المستعمرين . ولكن عبد الناصر هو اول قائد عربي يواجه الاستعمار الجديد، الخفي ، فلا يضلله الأسلوب ، ويعرض عليه ما هو في أشد الحاجة اليه فيقول ” لا ”  ويرفض التبعية . وهو اول قائد عربي يواجه الاستعمار من موقع قيادته لدولة اقليمية فلا تخدعه الحدود ، ويعرض عليه ما هو في اشد الحاجة اليه فيقول ” لا ” ويخوض المعركة في ساحتها الحقيقية . وهو اول قائد عربي يواجة الاستعمار بدون نظرية ، فلا تغريه التنمية الرأسمالية ويعرض عليه ماهو في اشد الحاجة اليه فيقول ” لاويختار الاشتراكية . باختصار ان جمال عبد الناصر هو اول رئيس دولة في الوطن العربي فهم مشكلة الاستعمار علىحقيقتها القومية والاجتماعية وحاول ان يحلها حلاً صحيحاً وهذا هو على وجه التحديد ” خط ” عبد الناصر .
وهنا العبرة ، أبلغ العبر، لمن يريدون ان يتعلموا من تجاربهم شيئاً ينفعهم ، أو حتى للذين لا يريدون ان يذهب دم الشهداء هدراً . ان عبد الناصر قائد ثورة 1952 لم يكتشف كل هذا طبقاً لنظرية سابقة التقى عليها ” الضباط الأحرار ” في مصر . إنما اكتشفها من خلال محاولة تحقيق تلك الغاية المحدودة : تحرير مصر من الاحتلال الانجليزي والتخلف الاجتماعي . ولم يكن يملك في البداية إلا الاصرار على تحقيق هذه الغاية . واذا به من خلال عشرات المحاولات التي تجسدت في اشكال متنوعة ومختلفة ، يكتشف ان مصر التي يصر على تحريرها هي جزء من أمة لا يمكن ان تتحرر إلا معها . وان الحرية التي يصر على تحقيقها لا يمكن ان تتحقق عن طريق الرأسمالية . فنقول هنا انه اكتشف من خلال اصراره على تحرير مصر الحقيقة الموضوعية للوجود القومي ووحدة مصيره . وميزة عبد الناصر انه عندما اكتشف الحقيقة لم ينكرها ولم يتراجع عنها بل قبل التعامل مع الواقع الاجتماعي كما هو ليحرره. ولو بدأ عبد الناصر من اي قطر آخر في الوطن العربي لانتهى الا النتيجة ذاتها . فأولى بأن يعتبر الذين لا هم مثل عبد الناصر في اصراره على التحرر ولا هم حكام دولة كالجمهورية العربية المتحدة في كثافة امكاناتها  البشرية والمادية .
ولقد فقدت الأمة العربية قائد معارك تحررها في سبتمبر (أيلول) سنة 1970 والمعارك ما تزال مشتعلة . بل وحركة التحرر العربي في أدق وأخطر مراحلها . غير ان هذا لا يغبر من حقيقة مشكلة الاستعمار شيئاً . ذلك لأنها مشكلة لم  يصطنعها عبد الناصر لتنتهي معه ، بل هي مشكلة خلقها المستعمرون بما يستولون عليه لأنفسهم من الامكانات البشرية والمادية المتاحة في الأمة العربية عنوة او بالتبعية . وبما يفرضونه على الشعب العربي ، عنوة او تبعية ، من قيود تحول دون مقدرته على التطور الاجتماعي بكل ما هو متاح في أمته العربية من امكانيات بشرية ومادية لا اكثر ولا اقل . لا اكثر لأننا لا نريد ان نسلب من اي مجتمع ما يملك . ولا اقل لأننا لا نريد ان يسلب احد من  مجتمعنا مانملك . وسيظل حلها الصحيح هو ان نسترد من قبضة القوى الاستعمارية ، الظاهرة او الخفية ، كل ما يملكه مجتمعنا القومي  من مواد وبشر كما هو محدد بوجودنا القومي . وجودنا نحن لا وجود اي  مجتمع آخر . فنسخره في بناء مستقبلنا التقدمي . مستقبلنا نحن لا مستقبل اي مجتمع  آخر . والى ان تحل ليس امام الشعب العربي إلا ان يخوض معاركها بكل اسلحتها حتى النصر . أما كيف يخوضها فهذا امر متصل بالأسلوب الذي لا بد له من ان يستفيد من تجارب الهزائم السابقة . و انها لمعركة طويلة ومريرة ومعقدة ضد قوى كبيرة وقادرة وشرسة . ولكن النصر فيها لا شك فيه كما لا  شك في حتمية الحرية . وهي ، بعد ، قدر الانسان العربي الذي لا مفر منه اذ ” حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، ان يستهدف دائماً حريته ” . والأمة العربية ليست قطيعاً من الماشية في زرائب الاقليمية ، يرعاها او يعلفها ثم يحلبها او يذبحها المستعمرون . بل هي أمة عريقة من بني الانسان لا بد لها من ان تنتصر في معركة الحرية طال الزمان او قصر . ان كل ما تقدمه لنا النظرية القومية هو انها تسلحنا بالمعرفة الصحيحة بالقوى المعادية لحريتنا ، ومواقعها ، وساحات الصر اع ضدها ، وغاياتنا من الصراع ، فنصبح بها اكثر مقدرة على اختصار ايام العبودية لتسترد أمتنا ” المقدرة على الحياة بما هو متاح في الأرض .

لا أكثر ولا أقل .






                                                                                                                                                                                                                                                               



                                                                                
                                                                                         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق