بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

أسس الاشتراكية العربية : 3 .

   
  أسس الاشتراكية العربية .


الدكتور عصمت سيف الدولة .




ـ 1 ـ

الاشتراكية التي كانت أمل الجماهير المضطهدة في كلل مكان تمر بأزمة منذ ان انتقلت من المرحلة النظرية ـ في القرن التاسع عشر ـ إلى مرحلة التطبيق في القرن العشرين ٠ وأزمة الاشتراكية حادة لأنها تتصل بحرية الإنسان . لم يعد من مصلحة الاشتراكية أن يتجاهل الاشتراكيون تلك الظاهرة المفزعة التي صاحبت قيام النظام الاشتراكي في كثير من الدول ، ونعني بها إلغاء الحرية الفردية ، وفرض الاستبداد ، بحجة تحقيق الاشتراكية . وهي ظاهرة تفرض نفسها على الملاحظة العادية في كثير من دول أوروبا ، وتحاول ان تجد لها مكانا في التطور الى الاشتراكية خارج أوروبا ، ولا يمكن ان ننسى انه باسم الاشتراكية قامت النازية في ألمانيا ، ولم تلبث ان دمرت نفسها ، وأسهمت في قيام الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من تخريب إجرامي . كما لا يمكن تجاهل أزمة الحرية في دول أوروبا الشرقية وفي مقدمتها الاتحاد السوفييتي نفسه . فقد طرح حكام الاتحاد السوفييتي أنفسهم أزمة الحرية في بلادهم في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي . وإذا كان أعداء الاشتراكية في أنحاء الأرض قد هللوا لهذا الكشف فإن الاشتراكيين قد أصابهم الفزع ، فقد كانت التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي أكبر أثرا من ان تكون قومية .

كانت التجربة الأولى للاشتراكية بصفة عامة ، ومن هنا كانت تهم كافة الاشتراكيين . والسؤال الذي لا بد ان يكون قد طرحه كل اشتراكي على نفسه لم يكن منصبا على سلوك ستالين كفرد ولكن على الاستبداد كظاهرة استطاعت ان تعيش في ظل الاشتراكية ، وان توجه قسوتها إلى الاشتراكيين أنفسهم . وقد وصف خرتشوف تلك الظاهرة عندما قال في خطابه في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي : " إن الطغيان الذي يمارسه شخص واحد يشجع الآخرين على ممارسة الطغيان ضد غيرهم . ومن ثم فإن الاعتقالات واسعة النطاق ، ونفي الآلاف من الناس ، والإعدام بغير محاكمة وبغير تحقيق ، خلقت أوضاعاً يشوبها الشعور بعدم الأمان والخوف واليأس أيضا " . كيف يحدث هذا في ظل الاشتراكية ؟ . كيف تحدث المأساة كما أسماها خرتشوف عندما ترتكب الإجراءات العنيفة والقمع الجماعي والاستبداد في وقت كانت الثورة فيه قوية ظافرة ، والنظام السوفييتي مستتباً ، والطبقات المستغلة قد استؤصلت ، والاشتراكية صلبة عميقة الجذور في الحقل الاقتصادي " ؟ المشكلة او المأساة ليست في معرفة كيف استطاع ستالين أن يستبد ، ولكن كيف أمكن الاستبداد أن يقوم في ظل الاشتراكية ؟ كيف لا يحتوي النظام الاشتراكي مناعة ذاتية ضد الطغيان ؟ كيف تمكن الحزب الشيوعي في المجر من ان يتجاهل " شعور جماهير الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين ، وان ينتهك حرمة القانون بشكل خطير " كما قال بافل بارنيكوف في كتابه " ماذا حدث في المجر " وهو يحلل أسباب ثورة الشعب المجري سنة ١٩٥٦ ؟ لا يمكن أن يتجاًهل الاشتراكيون كل هذا ، ولا ان يتجاهلوا التيار الانتهازي الذي كاد ان يصبح ظاهرة عامة بعد الحرب العالمية الثانية ؛ فعندما وعى الناس من تجربة الحرب مدى ما يمكن ان يؤدي إليه النظام الرأسمالي من تخريب شامل ، وتطلعت الجماهير المستعبدة في جميع أنحاء الأرض إلى الاشتراكية كضمان لمستقبل من السلام والتقدم ، قام الانتهازيون والمغامرون بل والإقطاعيون والرأسماليون أنفسهم برفع شعار الاشتراكية ، فكيف يمكن ان تكون الحرية في الاشتراكية غير محددة إلى الدرجة التي تسمح لأعدائها بادعائها ؟

كيف لا تحمل الاشتراكية مناعة حية ضد الانتهازية ؟ . لا يمكن ان يتجاهل الاشتراكيون  وما ينبغي لهم ان يتجاهلوا مدى ما وصلتا إليه معركتهم ضد الرأسمالية من ميوعة مضللة . لقد ظل الاشتراكيون حقبة من الزمان يعتقدون ان الرأسمالية في طريقها إلى الانهيار بحكم ما أسموه الصراع الباطني في النظام الرأسمالي ذاته ، واستطاع الاشتراكيون أن يقدموا لهذا تبريرات نظرية فانتقل اقتناعهم النظري إلى صفوف الرأسماليين أنفسهم ، فعرضت الرأسمالية في تقهقرها الحلول التصفية والمهادنة وبدأت ـ تحت ضغط الفكر الاشتراكي ـ في التخلي عن مواقعها . ولكن الأمر يبدو ألان مختلفا . فقد استرد الرأسماليون أنفاسهم عندما رأوا أن الاشتراكية في التطبيق مهددة من داخلها ، ويعلن الرأسماليون الآن أنهم منتظرون انهيار النظام الاشتراكي نتيجة بذور الخطر الكامنة في تركيبه الداخلي . وتسللت هذه الدعوة إلى الفكر الاشتراكي نفسه ، فبعد أن كان الاشتراكيون مشغولين بتطوير الاشتراكية الصاعدة أصبحوا مشغولين بالدفاع عن مصيرها . ومن صفوف الاشتراكيين خرجت دعوات الحلول الوسطى ومهادنة الرأسمالية .

كل هذا واقع ملموس ، لا يمكن تجاهله ولا ينبغي ان نتجاهله .

من أين جاء هذا الخطر الذي يهدد الاشتراكية ؟ .

لا يمكن أن يكون هذا الخطر راجعا إلى ضراوة الرأسمالية وهي تدافع عن بقائها ، فان أي اشتراكي يعلم ان الرأسمالية لن تنهار دون ان تقاتل بوحشية للاحتفاظ بالمكاسب التي انتزعتها من أفواه الشعوب . وإذا كانت الرأسمالية الغربية مثلا قد لعبت دورا قذراً في ثورة المجر، او حتى لو كانت هي التي أشعلت الثورة ، فإن أي اشتراكي كان يجب ان يتوقع أن الرأسمالية متربصة بالاشتراكية وانها لن تتردد فى استعمال أقذر الأساليب لتهزمها - أليس هذا أول درس في الاشتراكية ؟ .. إذن فليخرس كل أولئك الذين يدعون الاشتراكية ويستغلون معاركها استغلالا رخيصا . أولئك الذين يريدون للاشتراكيين ان يقبلوا الاستبداد والعبودية حتى لا تضعف ثورتهم ضد الدكتاتورية في صفوف الاشتراكيين . الذين لا يسمعون كلمة في سبيل الحرية إلا ويملئون الأرض عويلا على وحدة الصف الاشتراكي ثم يملئونها سباباً لأن الرجعية المتربصة ستستفيد من الثورة على الاستبداد كأن الاستبداد ليس رجعية عاتية . إن هؤلاء الاشتراكيين " الأصلاء " يطيب لهم ان يحددوا مواقفهم تابعين مواقف الرجعية . إن صمت الرجعيون تكلموا، وان تكلم الرجعيون صمتوا ، وبذلك أصبحوا من حيث لا يدرون لعبة في ايدي أعداء الاشتراكية . إن الاشتراكية والاشتراكيين أكثر ايجابية من هذا ، لأن مواقفهم تتحدد على أسس علمية لا تعرف النفاق أو الانتهازية ، ولا تعرف الخوف أيضا . إن عداء الرجعية للاشتراكية أمر مفروغ منه ، وثقة الاشتراكيين بمبادئهم تمنحهم الجرأة على مواجهة أعدائهم ، سواء كانوا رأسماليين أم فاشيست ، والانتصار الحاسم على العبودية فى الرأسمالية أن يكون الناس أحراراً في الاشتراكية . فلنكف إذن عن العويل فإن العويل لا يجدي وعلى الاشتراكيين أن يبحثوا عن السبب الذي مكن منهم أعداءهم . عليهم أن يبحثوا عن السبب الذي جعل الاشتراكية في المجر سنة ١٩٥٦ تفقد حيويتها وتجف حتى تصبح هشيماً تلتهمه النيران التي يشعلها الرأسماليون .

إن الصراع ضد الرأسمالية والرجعية في كل مكان ليس هو الخطر الذي يهدد الاشتراكية . ولا يمكن أن يرجع الخطر إلى عجز الاشتراكية كنظام اقتصادي . إن الرأسمالية كنظام اقتصادي ينحسر ، وان الأساليب الاشتراكية تزاحم الأساليب الرأسمالية وتغزوها من الداخل ؛ ففي ميدان لقمة العيش وتأمينها تفوقت الاشتراكية على الرأسمالية تفوقا ساحقاً عندما حلت مشكلتين لم تستطع الرأسمالية ولن تستطيع حلهما ، ونعني بهما البطالة والجوع . وإذا كان النظام الاشتراكي في كثير من البلاد لم يرتفع بالرخاء إلى المستوى الذي تحقق في بعض البلاد الرأسمالية فلأن الاشتراكية كانت ملزمة بأن تتوقف عن الانطلاق الرأسي إلى الرخاء ، لتوفر الضرورات الأولى على مستوى جبهة عريضة تضم الجماهير كلها بدون استثناء . ان الشعور الشامل بالمسئولية الشعبية عطل - مؤقتا ـ الانطلاق السريع الى الرخاء الفردي . وعندما تعدت بعض البلاد الاشتراكية مرحلة تحقيق الضرورات الأولى ، انطلقت في المجال الاقتصادي ولفني بمعدل من السرعة يفوق الانطلاق الرأسمالي ، مما يضمن لها ان تلحق به وتجاوزه .

إذن فنتيجة السباق في الميدان الاقتصادي تثبت تفوق الاشتراكية وبالتالي لا يكمن فيه خطر على مصيرها .

إنما يكمن الخطر في عجز أغلب التطبيقات الاشتراكية ، حتى الآن ، عن تحقيق التقدم الاقتصادي والحرية الفردية معا . هذا الخطر الذي يفرض نفسه على الملاحظة العادية في داخل البلاد الاشتراكية ، وفي هزائم الأحزاب الاشتراكية خارجها ، أصبح شاملا لأغلب الجبهة الاشتراكية في العالم . هنا الخطر على الاشتراكية ، لأنه يمس أساسها الذي لا تقوم إلا عليه ، إذ يمس الجماهير ذاتها . إن عجز النظام الاشتراكي في التطبيق ـ حتى الآن ـ عن الحفاظ على الحرية وامتداد هذا العجز إلى أغلب التطبيقات الاشتراكية ، كاد ان يربط الاشتراكية بالاستبداد في أذهان الجماهير، أي في أذهان أولئك الذين تعتبر الاشتراكية نور حياتهم . ويوم ان تفقد الاشتراكية ثقة الجماهير فيها كحل لمشكلات حياتهم اليومية ستنهار مهما كانت صلابة أساسها النظري . ولا يمكن لاشتراكي ـ إن كان اشتراكيا حقاً ـ ان يلوم الجماهير إذا كانت قد لمست وأحست في حياتها العادية أن النظام الاشتراكي كما طبق في أماكن كثيرة يمارس مع تقدمه الاقتصادي ضغطا خانقا لحرية الأفراد . لا يجدي الاشتراكية شيئاً ان تستأصل المعبرين عن شكواهم بمجازر التطهير وان توصمهم بالخيانة والانحراف . إن أي مستبد يستطيع ان يطلق على الناس ما شاء من ألقاب الخيانة ، ولكن هذا لن يجديه شيئاً كما لم يجد ستالين ابتكاره تهمة عدو الشعب ، وقضاؤه على الاشتراكيين أنفسهم تحت ستار هذه التهمة البشعة . على الاشتراكيين ان يكونوا أكثر موضوعية في علاج موجة خيبة الأمل التي تهدد ثقة الجماهير في العالم الاشتراكي الآن . عليهم ان يدرسوا دراسة موضوعية أزمة الحرية في الاشتراكية ، وان يصلوا فيها إلى حل ، وان يطبقوا هذا الحل ويختبروا صحته في الواقع . عليهم ان يحققوا الاشتراكية الديمقراطية بأي ثمن ولو كان معاناة ألم الإفلات من راحة الجمود النظري وتجاهل الواقع .

ان لم يفعلوا  فانهم يعرفون النتيجة ، والنتيجة الواضحة الآن هي ان الرجعية الرأسمالية تنصب للجماهير فخ الحرية الشكلية المفرغة من كل مضمون حقيقي لتجذبها الى العبودية الاقتصادية. 

ان النجاح في تحقيق الحرية الفردية فى الاشتراكية في النظرية وفي التطبيق معا هو الأمل الذي يتطلع اليه الاشتراكيون في العالم ، وعندما يتحقق سيبدأ به عهد جديد في تاريخ البشرية . ونحن نعلم ان الإفلات من الجمود أصعب من مقاومة التجمد ، وان التحرر من الاستبداد أصعب من المحافظة على الحرية ، لذلك فإننا لا نأمل كثيراً في أن يأتينا حل الأزمة من الاشتراكيات المستبدة ومن أوروبا عى وجه عام . ففي ظل الاستبداد يتحمل الاشتراكيون ضغطين : ضغط الدكتاتورية الداخلي ، وضغط الرأسمالية من الخارج . ولا شك في ان كثيرا من الاشتراكيين في أوروبا محتاجون لكل قواهم لتحطيم هاذين الضغطين قبل ان تتوافر لهم فرصة إرساء قواعد الاشتراكية الديمقراطية ، بل لعلهم يتطلعون إلى غيرهم من الاشتراكيين للقيام بهذه العملية الخلاقة .

فرصة هؤلاء الاشتراكيين ان يوجدوا في البلاد التي تمارس التجربة الاشتراكية لاول مرة حيث لا تشدهم الى الماضي قيود من صنع أيديهم ، وحيث يزودهم تاريخ النظام الاشتراكي بثروة بالغة الغنى والخصوبة من تجارب الاشتراكيين الحلوة والمرة معا . وإنه لمن السفاهة الحمقاء أن يبدد الجمود النظري والتعصب الطولي هذه الثروة الني جمعها التاريخ بعد ان استوفى ثمنها الغالي دماء الملايين من الضحايا والمضطهدين . ومن ببن البلاد التي تمارس تجربتها الاشتراكية لأول مرة - أي المتحررة من ضغط الجمود النظري - تتاح الفرصة الكبرى للاشتراكيين في البلاد المتخلفة اقتصاديا ؛ أي المتحررة من ضغط النمو الرأسمالي ، حيث لا تمتد للرأسمالية جذور لا يمكن اقتلاعها ، وحيث تمكن المبادرة الى القضاء عليها قبل ان تكون قد تجمعت لها عناصر صلابة المقاومة الجادة .

في هذه البلاد تتاح الفرصة الكبرى لإنقاذ الاشتراكية من أزمتها .. والوطن العربي ضمن هذه البلاد .

من هنا ندرك مدى مسئولية الاشتراكيين العرب . إنهم مطالبون ، لا بحل أزمة الحياة اليومية للجماهير فحسب ، بل مطالبون أيضا بتحقيق الحل الوحيد لأزمة الاشتراكية في مرحلتها التاريخية المعاصرة . مطالبون ببتر أطراف الاخطبوط الرأسمالي قبل ان تنمو ، وبتحقيق التقدم الاقتصادي حتى الرخاء ، وبالحفاظ على الحرية فى الوقت نفسه ، وإن كان الفيصل في هذا متوقفا على ما يحققونه في المستقبل الفسيح الذي ينتظر جهودهم الخلاقة .

ـ 2 ـ 

من هذه الزاوية فقط ، أي زاوية الأزمة الملحة ، قلنا : الحرية أولا ، ولم نقلها لأن الحرية أهم من الاشتراكية أو بديل عنها . فعندنا أن الحرية في مجتمع غير اشتراكي شكل فارغ مضلل ، وعدنا أن الاشتراكية بدون حرية نظام مشوه غير قابل  للحياة .

ـ 3 ـ 

إن معرفتنا الاشتراكية كادت أن تبلغ حد النضج بعد أكثر من قرن من الجدل النظري والممارسة الفعلية ، وهي معلومات حية لأنها حياة قائمة فعلا . أما معرفتنا الحرية فقد شملها الغموض من كل جانب ؛ ففي مقابل كل 100 كتاب عن الاشتراكية تقال كلمات عارضة عن الحرية ، وتأتي من صفوف الرأسماليين الذين لم يغفلوا قط عن أزمة الحرية المستعصية على الحل في النظام الرأسمالي . فقد تعلمنا من " جدل الإنسان " أن الجدل يثور للبحث عن حل مشكلة قائمة . ولم يكف الرأسماليون قط عن مناقشة مشكلة الحرية ، لأن الحرية في الرأسمالية مشكلة دائمة . ولا يفلت الاشتراكيون من هذا القانون الجدلي . إننا إذ نحاول مناقشة الحرية فلأن الحرية في الاشتراكية قد أصبحت مشكلة تحتاج الى حل .

فما الحرية ؟

يقول مؤلفو " أسس الماركسية - اللينينية " : " وصل الفلاسفة في مناقشتهم مشكلة الحرية الى نتائج مختلفة ولكنها كانت دائما نتائج خاطئة " .

هذا القول صادق بالنسبة الى المتفلسفين من بني البشر ، ولكنه لا يصدق بالنسبة الى الإنسان البسيط الذي يقول " أنا حر أفعل ما أريد " . ولما كنت متحيزاً تماما لأخذ البسيط من أفواه أصحابه منطلقا للبحث عما وراءه من أسس غير بسيطة فإني منطلق من القول أسهل : " أنا حر أفعل ما أريد " وهو قول ينقلنا مباشرة إلى أدق جوانب مشكلة الحرية ، ونعني بها الضرورة كشرط للحرية . فالضرورة أي خضوع الطبيعة والإنسان نفسه لقوانين علمية حتمية هي الشرط الأول لإمكان تحقيق أي فعل في المستقبل ، وقابلية ما نصممه على أساس تلك القوانين للوقوع استنادا الى حتميتها العلمية . فقد رأينا أن الماضي يفلت بمجرد وقوعه من إمكانية الإلغاء ، وبه تصبح الحرية حركة موضوعها المستقبل الذي لم يقع بعد والذي تتجه إلى أن تحققه على الوجه الذي تختار، وسيلتها الى هذا أن تحول دون امتداد الماضي تلقائيا في المستقبل ، بأن تغير شروط قوانين تحوله ، ليقع المستقبل على ما تريد . وكل هذا يصبح وهما لو أن الطبيعة والإنسان نفسه يعبران الماضي الى المستقبل ، تحولا أو تطورا ، على غير قاعدة منضبطة علمية . وعندما يصبح المستقبل مصادفة أو قدرا ، يمتنع الحديث عن الحرية أصلا .

على هذا الأساس نستطيع أن نقدر المذاهب الفكرية التي تنكر انضباط العالم على قوانين حتمية " كالقدرية " مثلا . فالقدرية تذهب إلى أن ما يقع مقدر وقوعه حتما قبل أن يتدخل الإنسان . غير أن هذا القول ينطوي على مفهومين متعارضين ، يخلط  بينهما خلطا جاهلا ، الذين لم يتعبوا أنفسهم في دراسة " القدرية " ويرفضونها أصلا لأنها نظرية نشأت في كنف الأديان ، مع أنه لا يمكن فهم القدرية ولا فهم الأديان ، إلا بالتمييز بين المفهومين اللذين يتعارضان تحت عنوان واحد . فالقدرية على وجه تعني أن القوة المحركة للكون وللإنسان نفسه قائمة ومحددة قبل تدخل الإنسان ، وان الإنسان مقيد بها ، فلا يستطيع أن يفعل إلا ما يقتضيه نظامها وانضباطها . وهذا يساوي تماما القول بأن الطبيعة والإنسان معا متطوران على أساس قوانين حتمية لا يستطيع الإنسان أن يتجاهلها أو أن يخلق قوانين أخرى بديلة عنها . وهو تفكير علمي لا تضيره صياغته غير الدقيقة أينما وجدت في الكتابات الدينية أو غيرها ، كما لا يضيره أن تسمى تلك القوة أسماء مختلفة . والقدرية على هذا الوجه شرط أول للحرية ، وحافز عليها ، ومعين لا ينضب من الثقة في المقدرة على " أن نفعل ما نريد " وقد نستطيع أن نعرف على ضوء هذا كيف غبر المسلمون وجه الأرض وأرسوا على أركانها حضارة علمية عريقة . والقدرية ، على وجه آخر ، تعني أن مضمون المستقبل ذاته ، سيقع على الصورة المقدرة له دون تدخل من الإنسان وعلى غير قاعدة معروفة ، أي أن هناك قوة أخرى ، أو إرادة خفية ، تحل للإنسان مشكلات حياته ، وتبني له مستقبله طبقاً لهواها الذي لا تمكن معرفته أو التنبؤ به . عندئذ تكون " الحرية " كلمة جوفاء لا معش لها ؛ لأن الماضي الذي وقع لا نستطيع أن نلغيه ، والمستقبل الذي سيقع لا نستطيع أن نعرفه . فلا بد ان نقبله . وقد نستطيع أن نعرف على ضوء هذا موقف العلم من كثير من المذاهب الدينية التي تعلق مصير الإنسان على غير إرادته ، وتسلبه المقدرة على التأثير في المستقبل لأن المستقبل من صنع غيره ، غير أن هذه " القدرية ليست مقصورة على بعض المذاهب الدينية ، فإن كثيرا من المفكرين يجردون العالم من انضباطه على قوانين حتمية - باسم البحث العلمي في بعض الأوقات - فيصلون الى تلك " القدرية " التي تجهل المستقبل وتفلت به من إرادة الإنسان ومعرفته تاركة للمصادفة المجهولة التي تصبح على أيديهم " لا أدرية " .

ـ 4 ـ

من هؤلاء هنري برجسون الذي حرر الإنسان من المستقبل المحتم وأسترد له حريته لمجرد ان يعطلها مرة أخرى ، وقال للإنسان لا تخف إن مستقبلك غير مفروض على إرادتك إذ لا مستقبل لك . يقول برجسون في كتابه" التطور الخالق " : " لما كان الماضي يبقى حيا في الحاضر، فإنه يستحيل علينا أن نمر بالحالة الواحدة مرتين ، وإن شخصيتنا تنمو وتنضج دون انقطاع . وهي بهذا النمو تكسب شيئاً لا يمكن ان نتنبأ به من قبل ؛ لأن التنبؤ معناه إسقاط  في المستقبل لإدراك فى الماضي ، أو تصور إدراك جديد لعناصر أدركت سابقاً ولكن ما لم يدرك بعد وما هو بسيط  في الوقت نفسه فإنه بالضرورة يبقى عصيا على التنبؤ . فإذن نحن نخلق أنفسنا كل لحظة وهذا الخلق يؤثر في شخصيتنا من جديد . وعلى هذا نقول إذا كان ما نعمل يتعلق بما نحن عليه فإن ما نحن عليه أيضا هو إلى حد ما نتيجة ما نعمل . إن أعمالنا هي ادني تعلمنا " . وهكذا رد برجسون للإنسان حريته ، لأنه يخلق نفسه في كل لحظة ، كل ما في الأمر أنه لا يستطيع أن يعرف ما سيخلق عليه من جديد ، وعلى أي حال فإن مسئولية ما هو عليه راجعة إليه وحده لأن ، " أعمالنا هي التي تعملنا .

لقد استطاع برجسون ان يدرك فكرة الزمان الذي لا يمكن فهم الحرية بدونه ، ولكنه لم يفسر الحرية في الزمان الذي اكتشفه . فقد كان عليه بعد أن عرف تلك التي أسما الديمومة " ، ونقض على أساسها مذاهب الجبرية ، ان يحدد دور الحرية في سيال الزمان المستمر . وقد اختار برجسون الماضي وركز عليه كدافع للحركة إلى المستقبل وقال فى " التطور الخالق " : " ليس من شك في ان الماضي بأجمعه يتبعنا في كل لحظة ، فكل ما شعرنا به وما فكرنا فيه ، وما أردناه منذ طفولتنا الأولى قائم هناك متجه نحو الحاضر الذي سوف نلحق به " . وفهم الحرية على أنها اتحاد الماضي بالإنسان والتقدم معه . قال في" المعطيات المباشرة للشعور" : " إننا نرغب ونريد ونعمل بماضينا كله " . لقد حرر الإنسان من جبرية الجمود ، وحركه الى المستقبل ، وعرف أن الحرية هي تلك الحركة ، ولكنه لم يزد عن أن جعل الإنسان كقذيفة تدفعها الى الأمام طاقة انفجار البارود التي خلفها دون ان تدري أي هدف تصيب . دون ان يدري ماذا يفعل . فالحرية عند برجسون تقدم تلقائي تسقط عن النفس " كسقوط الثمرة الناضجة من الشجرة " كما قال فى "المعطيات المباشرة للشعور" .

ـ 5 ـ

ثمة وجهة نظر أخرى طبقها ببراعة ليكونت دونوي في كتابه " مصير الإنسان " . مؤدى هذه النظرية ان كل القوانين التي نقول أنها حتمية ، ليست مطلقة ولكن لها استثناءات ، حتى القوانين الطبيعية . فإننا نلاحظ في الطبيعة ألاف الحالات ثم نربظ بين حركتها ونستنتج قاعدة تقول إنها تحكم أية حالة مع ان الواقع أن تلك القاعدة قانون إحصائي ( ستاتيكي ) لا تنضبط به إلا الحالات التي لاحظناها حتى لو تعدت الآلاف ، ونحن إذ نعممه لنجعله قانونا فلأننا نفترض أننا إذ لاحظنا أغلب الحالات فإن ما بقي منها استثناء لا يعتد به . إن هذا الاستثناء لم يخضع قط لملاحظتنا وقد لا يخضع قط لقانون ، ولكننا نتجاهل ما هو استثناء لأن القانون يكفي لمعرفتنا الموضوع ، دون ان ننسى أن ثمة احتمالات خاصة بالاستثناء الذي تجاهلناه . ومؤدى هذا ان الإنسان قد يكون حرا ولكن فاعلية حريته ، ليست حتمية .

كما انه قد يكون حرا بمعنى أنه ليس مسيرا بغرائزه . ولكن الواقع " الإحصائي " أن الأفراد يتركون أنفسهم في اغلب الحالات لتقودهم غرائزهم دون استعمال لحرياتهم . ويترتب على هذا انه إن كان ثمة مجال لحرية الفرد فهومجال غير مؤثر ولا يعتد به .

سبق أن رأينا كيف نفذ هذا الفكر اليائس إلى كتابات الماركسيين ، وهو فكرسهل النفاذ
 أنه مرن ؛ فهو يقر وجود ( نوع ) من القوانين مما يوحي بأن ثمة مجالا للحرية على أساس من تلك القوانين . ثم يعود فيجرد القانون من الحتمية بالنسبة الى " كل " النوع الذي يضبط حركته ورغم توافر" كل " شروط فاعليته ويجعله قانوناً بالنسبة الى اغلب الحالات مبقيا على الإيهام بأن الإنسان حر في أغلب الظروف . وما ان ننزلق معه إلى هذا الحد حتى يعود فيستعمل قانونه الإحصائي المشوه ، ليقول إن الإحصائيات تثبت أن الإنسان لا يستعمل حريته في " اغلب " الظروف ، فهي حرية لا يعتد بها ، وبذلك يصبح مستقبل الإنسان عصيا على إرادته في أغلب الأحوال .

إن الفكر الستاتيكي مرحلة متخلفة من البحث العلمي . فقد رينا أن البحث العلمي يبدأ بملاحظة الوقائع المفردة ، أي بجمع إحصائيات ، غير أنه لا يقف عند هذا الحد ؛ بل يكشف العنصر المشترك في الوقائع المفردة ليصوغ منه قانونا يطبقه على ما لم يرد في ملاحظاته الأولى ، فإن صدق ثبت ، وإن لم يصدق كان معنى هذا أننا في حاجة إلى مزيد من الملاحظة والكشف لنعيد الاختبار ... وهكذا إلى ان نصل إلى تحديد القانون الذي يفسرما لاحظناه أولا وأخيرا وما لم يقع في مجال الملاحظة بعد . والقانون لا يعتبر قانوناً إلا بهذا ، أما قبله فهو قاعدة إحصائية إذا وقف عند الملاحظة ، أو فرض إذا لم يصل إلى حد التجربة ، ولكن التجربة والتطبيق ينهيان الإحصائيات والفروض ، ويضعان في يدنا قانوناً حتمياً . عندئذ لا يمكن التشكيك في حتمية القانون بأن كل شيء لم يدخل في نطاق الملاحظة ، أو بأن شيئا لم يكن موضع التجربة ، فليس من اللازم ـ مثلا ـ ان نغلي مياه الأرض جميعاً لنعرف ان الماء يغلي في درجة 100 مئوية في الضغط العادي . وإنما يكون التشكيك في أي قانون بتحديه واقعة معينة يخطئ في تفسيرها ، هنا يفقد صفته كقانون لنعود فنبحث عن القانون الذي لا يخطئ ، لا لنكتفي بالملاحظة الإحصائية ، فنوهم أنفسنا بأنها قانون غير حتمي . والاكتفاء بهذا الوهم يحيل الحرية وهما ؛ لأن الإنسان ، بها ، لن يستطيع ان يصنع مستقبله مهما كان حرا لأن الطبيعة تسير على قوانين غير حتمية ، وما دمنا لا نعرف القوانين التي تحكم الطبيعة فلا أمل لنا في أن نغيرها . ومن ناحية أخرى فإن أية محاولة تغيير لن يكون لها أثر ؛ لأنها استثناء لا يعتد به . وإذ يفهم الإنسان هذا ، ويقنعه به مفكرو الرأسمالية ينتهي حتما إلى قبول الواقع كما هو ، ما دام لا يعرف كيف يغيره ، وذا حاول ان يغيره فلن تكون جهوده مثمرة ، ويبقى الإنسان عبدا لجهله لا يعرف ماذا يفعل .

وقد اعتبر هذا الفكر الإحصائي مرحلة متخلفة فعلا منذ أن اكتشف الإنسان الذرة  وعرف قوانينها وهي التأثير والتأثر والحركة والتغير، وعرف ألا شيء يفلت من هذه القوانين لأن كل شيء من ذرات ، وأحس الإنسان بهذا أنه حر حتى في أن يفلت من الأرض إلى الكواكب ، وان يتخطى كل حاجز دون إرادته .

غير أن الأمر لم يطل حتى عاد ذلك الفكر اليائس في مظهر أشد خطرا وخطورة ٠ ففي سنة ١٩٢٧ حدث حادث علمي أثر تأثيرا عميقا في البحت العلمي والاجتماعي معا . في تلك السنة قدم العالم هايزنبرج بحثاً انتهى فيه إلى القول بوجود قانون جديد من قوانين الطبيعة الكلية عرف باسم قانون اللاحتمية . فقد تخيل هايزنبرغ عالما يحاول أن يحدد مكان وسرعة الإلكترون الذي يتحرك في الذرة لمعرفة قانون حركته باستخدام مجهر خيالي تبلغ قوة تكبيره مائة بليون مرة حتى تستطيع العين أن ترى الإلكترون . ولما كان الإلكترون أصغر من موجة الضوء فلا بد للعالم من ان يستخدم إشعاعا طول موجته أصغر . والأشعة السينية ولو أن موجتها أقصر من موجة الضوء إلا أنها عديمة الجدوى ، ولا تصلح لرؤية الإلكترون ، ولا تمكن رؤيته إلا باستخدام أشعة جاما التي تنبعث من الراديوم . ولكن التجارب العلمية أثبتت أن أشعة الضوء العادي تؤثر بقوة كبيرة في الالكترونات ، وان الأشعة السينية تؤثر فيها بقوة أكثر، فلا بد من أن تكون أشعة جاما مدمرة لها . إذن فمن المستحيل تحديد موضع وسرعة واتجاه الإلكترون في وقت معتن . فلا يمكن لعالم أن يقول ان الإلكترون يشغل مكانا بالذات لأنه أثناء ملاحظته يكون قد غير من سرعته وبالعكس إذا حدد سرعته بدقة فإن مكانه يتغير ولا يتحدد . وعلى هذا فأدق ما يستطيع ان يقوله أي عالم عن الأكثرون هو ان نقطة تمثل الوضع المحتمل له في مستقبل حركته . وانتهى هايزنبرج في بحثه الذي نال من أجله جائزة نوبل سنة ١٩٣٢ إلى ان قانون اللاحتمية ليس راجعا الى نقص في العلم ولكن الى ما أسماه الحاجز المطلق الذي يفصل الإنسان عن الكون والطبيعة .

وقد تلقف اللاأدريون هذا الكشف ليؤيدوا به رأيهم في أن القوانين التي يقال أنها تحكم الطبيعة محل شك كبير . ويقول لنكولن بارنت مؤلف كتاب "انشتين والعالم " : " إن نظرية هايزنبرج إذ تسمح بإثارة الشك من جديد تحيي فينا الأمل القديم " . وانضم ب . ديراك مؤلف "مبادئ الميكانيكا الكوانطية " إلى السير آرثر أدنجتون مؤلف " طبيعة العالم الفيزيائي" ليقيما وجهة نظر كاملة على أساس هذا الكشف . فأعلن أدنجتون أن الطبيعة خالية من أي قانون حتمي وان القوانين الحتمية لم تكن مؤسسة على معرفة علمية كاملة . فإذا كانت الذرة لا تخضع للحتمية في حركتها فإن الروح الإنسانية تشبهها ولا يمكن الاعتداد بأي رأي يذهب إلى أن الفكر أكثر انضباطاً من الذرة .

قد يبدو هذا القول تأييدا من البحث العلمي لحرية الإنسان ، وهذا غير صحيح . إذ أنه إذا كانت الطبيعة سلسلة من الاحتمالات بدون ضابط فليس ما يمنع أن يكون - بل لا بد ان يكون ـ تفكير الإنسان سلسلة من التصورات بدون هدف ، وإرادته جهدا منوطا بالصدف . وحتى لو تصورنا هدفا معينا فإننا نفقد الثقة في ان نحققه لأن معرفتنا الظروف معرفة غير حقيقية لكون الظروف غير خاضعة لقوانين بمعناه الحقيقي ، أي غير منضبطة بقواعد حتمية . إذن فليبق كل شيء على ما هو عليه ، وهذا هو المقصود ؛ أي سلب الإنسان حريته في تغيير حياته واختيار مستقبله ، وترك مصيره للصدفة .

ومع ذلك ما هي الصدفة ؟

ان أصحاب نظرية الصدفة يلقون بها رفضا لأي انضباط سابق ، إلا أنهم لم يقولوا ما الصدفة التي يعنونها ، او ـ على الأصح ـ يتجاهلون ما وراء الصدفة من انضباط خشية ان يكون وراء الصدفة قانون للصدفة . لقد حلل أرسطو الصدفة وانتهى بها إلى انها نتائج علل آلية بحته . وقال كورنو إنها ناتج تقابل سلسلتين مستقلتين من العلل معينتين ، وتقابلهما ذاته معين . فما هما تلكما السلسلتان أو أي عدد من السلاسل المعينة التي يريد أصحاب" الصدفة" أن يحيلوا إليها أقوالهم ؟ إن القول بالصدفة ليس قولا نهائياً ولكنه خطوة تثير سؤالا للبحث عما وراء الصدفة .

وهو لا يزيد من حيث الأساس العلمي عن الاستعمال الدارج لكلمة الصدفة ؛ عندما نعبر بها عن وقائع بسيطة لا نتعب أنفسنا في تقصي عللها كمقابلة صديق دون موعد سابق - وهو لا يعني أن الصديق و نحن كنا قبل الالتقاء نسير على غير هدى، وإلى غير غاية ، ودون أن نخضع خطانا للقوانين الفسيولوجية على الأقل . فإذا كنا لا نعرف - ربما كسلا عن البحث عن المعرفة - تلك العلل التي وراء ما يبدو صدفة فإن هذا الجهل لا يصلح دليلا على جهل آخر بالقوانين التي تحكم الطبيعة ، لكنه قد يصلح دليلا على ان ثمة في الطبيعة ما يقتضي مزيدا من الجهد لمعرفته . إن الخطأ كله في شعار الهروب ؛ " ما لا نستطيع تفسيره يكون غير قابل للتفسير . والبحث العلمي أكثر من هذا تواضعا بكثير .

المهم ، أن القول "باللاحتمية " ينقض الحرية ، ويترك المستقبل لقدرية الصدفة ، وسنرى كيف يخرجنا " جدل الإنسان " من مأزق اللاحتمية تاركين فيه الجدلية المادية تواجه محنة علمية .

ـ 6 ـ

عندما واجهت الحرية أزمتها في تحدي " اللاحتمية" هرب الوجوديون من المعركة بقيادة سارتر. رأى سارتر أن الماضي الذي عبأه برجسون وراء الإنسان يطلقه قذيفة حرة عبء على حرية الإنسان ، فأعدمه . والعدم والإعدام والتلاشي والملاشاة عند سارت ر والوجوديين أمر يسير، فما على الوعي إلا أن يفرز العدم ، كما يقول سارتر، فيصبح الموجود غير موجود ويصبح الإنسان حرا ؛ لأن " الحرية هي الكائن البشري الذي يفرز عدمه الخاص فيستبعد ماضيه " كما يقول سارتر في "الوجود والعدم " . ويبسّط سارتر المسألة فيقول : "إنه إذا كان قد ضرب لصديق موعدا في أحد المقاهي ثم وصل متأخرا عن موعده يكون المقهى مليئا بالمقاعد والمناضد والناس . ولكنه إذ يبحث عن صديقه يصبح كل شيء غير صديقه غير موجود ". أي أن العدم والوجود ـ عند سارتر- عدم ووجود بالنسبة الى كل إنسان على حدة . وطبيعي بعد هذا أن لو عثرت قدم سارتر بأحد المقاعد ونسي صديقه لحظة فإن المقعد اللعين سيدخل الوجود ويذهب صديقه الى العدم . على هذا الأساس تقوم فكرة الحرية في الوجودية . فالحرية تبدأ بالانفصال عن الماضي عن طريق اعدامه ، وبذلك توجد الحرية في مواجهة الماضي طبعا ولكن سارتر بعد ان حرر الإنسان من ماضيه خشي أن يتقدم به خطوة الى المستقبل حتى لا يصطدم بتلك " الموجودات فى ذاتها" وقوانينها الحتمية ويكون مضطرا لتحديد علاقة الحرية بكل تلك القوانين المتشابكة ، فتقوقع فى الوعي . قال إن الحرية " شروع" . والشروع في علم القانون هو البدء في التنفيذ ، أي التعبير عن القصد في الواقع بأعمال مادية ، اما الشروع في علم الوجودية فهو مجرد اتجاه النية إلى الفعل دون محاولة الفعل ذاته . إنه اتجاه الإرادة او القصد او الاختيار.

اما الحصول على الغاية ، أو حتى محاولة الحصول عليها فيخرج عن الحرية . فالسجين يحقق حريته بمجرد ان يريد الهروب ، ويكفيه ـ ليصبح  حراً - ان يختار الهروب . وهذا لا يعني انه حر في ان يهرب فعلا ؛ أو انه لا يكون حرا إلا إذا هرب من سجنه  ، فإن تحطيم الأغلال ليس لازماً للحرية ، إنما الحرية في الرغبة العقيمة في أن تحطم ؛ لأن الحرية نقص في وجود معطى وليست انبثاقا لوجود مليء ، كما قال سارتر في" الوجود والعدم" . وهكذا تتمثل الحرية عند سارتر في موقفين : في مواجهة الماضي بالانفصال عنه وإعدامه في الوعي ، وبذلك يكون الانسان حرا إزاء كل ضغط ياتيه من ماضيه ، أو. من الظروف ٤ إذ بالانفصال يتلاشى الماضي وتتلاشى الظروف ، ويبدأ الإنسان من وجوده نفسه وفى هذا حريته وفي مواجهة المستقبل يكون الإنسان حرا في ان يختار أو يريد او يقصد دون قيد حتى من الإمكانيات ٠ إن شيئا لا يحدد له ما يختار فهو حر ؛ لأن الأمر كله لا يعدو أن يكون اختيارا فكريا . حتى البواعث والدوافع لا تؤثر فيما يختاره ؛ لأن الإنسان حر في أن يختار البواعث التي تعجبه . ولم يحاول سارتر أن ينتقل بالإنسان خطوة الى المستقبل ، ومن هنا نفهم ذلك الإطلاق الذي يضفيه سارتر ـ في تعبيرات مغرية ـ على مفهوم الحرية . فهي إذ تكون رفضا للماضي وسلبية بالنسبة الى المستقبل تظل مقصورة على فكرة داخل الوعي تتحد بوجوده . ويتخذ سارتر من هذا مبررا لرفع شعاراته البراقة من أن الإنسان هو الحرية ذاتها وانه لا يملك إلا أن يكون حراً . 

لقد كانت حرية الإنسان عند برجسون في انطلاقة قذيفة يدفعها الماضي إلى حيث لا ندري ، ثم أصبحت عند سار قنبلة " قلقة " في أحشائها المقدرة على الانفجار ولكنها ملقاة في مكان ما بين الماضي والمستقبل ، لا يدري أحد متى تنفجر ، ولا من تصيب بانفجارها - وهكذا هرب سارتر بالحرية من أي موقف فعلي ، وتلك حرية تتفق وتناسب الضياع الأوروبي بعد حربين دمرتا كل القيم وأحالتا الحياة إلى شيء يثير " الغثيان " . ولم يكن الهروب والضياع في حاجة إلى تبرير أقوى من تلك الحرية الزائفة المفرغة من أية قيمة . وظل بناء المستقبل وإبداع الحياة في معزل عن حرية الإنسان ومقدرته . ومن لا يهمه المستقبل ولا يريد أن يسوم فيه حر في أن ينفصل عنه ، عندئذ  لن يوجد المستقبل ويصبح ذاته عدما .

ـ 7 ـ    

الضرورة ، إذن ، شرط الحرية . وفي ظل القوانين العلمية الحتمية يمكن أن يكون الحديث عن الحرية شيئا مجدياً . غير ان سيلا من النظريات "الأوروبية" انطلق من الضرورة ليلغي الحرية . ولا شك في ان ظاهرة عداء التيارات الرئيسية في الفكر الأوروبي - في القرنين الأخيرين – لحرية الإنسان تثير الانتباه وتستحق الدراسة . فلعل السيطرة الأوروبية على شعوب العالم كانت في ضمائر الفلاسفة الأوروبيين الذين ناقشوا فكرة الحرية على كل وجه ما عدا وجهها الذي يوفر للمستعبدين في الأرض الثقة في مقدرتهم على تقرير مصيرهم ، وتحقيق هذا المصير على الوجه الذي يريدون . والا فكيف نفسر ان الذين اختاروا الحرية للإنسان أحالوها حالة فكرية او نفسية منعزلة عن ظروفه ، والذين انتبهوا إلى الظروف أسقطوا الإنسان من حسابهم ، ومن تناول الحرية من حيث الإنسان كجورج جوسدورف في كتابه "المفهوم الإنساني للحرية" (١٩٦٣ ) وجد نفسه مكرهاً على كشف ما في ضمائر الجميع فقال عن الحرية التي يعنيها لا تفهم إلا منسوبة إلى الرحل الأبيض والمدنية الغربية ؟

ومن قبل جوسدورف ، قال اسبينوزا في كتابه " الأخلاق " : " إن النفس لا تنطوي على أية إرادة حرة او مطلقة " بل مجبورة على أن تريد هذا أو ذاك بمقتضى علة هي أيضاً مشروطة بعلة أخرى . وهذه العلة بدورها محددة بعلة أخرى ، وهكذا الى ما لا نهاية ٠ وقال فوتير في تأملات في الحكومة " : إننا عجلات في آلة كبيرة " . وقال هربرت سبنسر في "مبادئ هدم النفس" : "إذا ما عنينا بالحرية ان نفعل ما نريد ، فإننا أحرار لأننا نفعل دائما ما نريد ، ولكن الواقع أننا لا نستطيع أن نفعل غير هذا ، لأننا لا نستطيع أن نريد ما نريد " . وقال في كتابه "الإنسان والسلطة " : " إن الوهم الكبير الذي سيطر على الماضي كان الحق الإلهي للملوك ، والوهم الكبير الذي يسيطر على الحاضر هو الحق الإلهي في الديمقراطية" . وقال أوغست كونت في "علم الاجتماع " : " إن الحتمية الاجتماعية صلبة إلى حد ان المشرعين أنفسهم يخضعون لها ، سواء علموا هذا أم لم يعلموه ..الخ ..

وقد بدأ الالتفات إلى الضرورة وعلاقتها بالحرية بإلغاء الحرية إلغاء تاما ، واعتبرت الضرورة نفيا للحرية . كان ذلك تيار الضرورة الميكانيكية ، الذي تأثر بالنهضة العلمية واكتشاف قوانين الطبيعة ودقة انضباط الحركة في الكون ، فلم يتصور في الإنسان إلا جزءا من الكون نفسه لا بد أن يخضع في حركته ومصيره لما تخضع له النجوم والكواكب ، أما الفكر الذي يميزه فإن المخ يفرزه كما " تفرز الكبد الصفراء " كما قال كازل فوجت . ولما كان الإنسان يبدو عصيا على ذلك الانضباط الميكانيكي فقد خلق المفكرون الأوروبيون كائنا جديدا مختلفا نوعيا عن الإنسان أسموه المجتمع . ويوضح دوركهايم هذا الكائن الجديد في كتابه " قواعد المنهج في علم الاجتماع " ؛ فعنده أن اجتماع أشخاص في مجتمع معين يخلق ظاهرة جديدة مغايرة لمجرد الجمع بين الأشخاص وهو المجتمع . ودليله على هذا أننا إذا خلطنا النحاس بالحديد أصبح التركيب برونزا ، ولما كنا لا نستطيع ان نعرف خصائص البرونز بدراسة خصائص الحديد أصبح خصائص النحاس بل يجب ان ندرس البرونز ذاته ، فإننا لا نستطيع أن نعرف المجتمع بدراسة أحوال الأشخاص الذين يتكون منهم . صحيح ان دوركهايم قد تجاهل ان المجتمع إضافة إنسان إلى إنسان أي تكوين من نوع واحد ، كإضافة الحديد إلى الحديد ، أو إضافة النحاس إلى النحاس ، وليس تركيباً من نوعين ، غير ان هذا لم يمنع المذاهب الفكرية" الأوروبية التي ارتضت الضرورة نظاما للحياة ، من ان تهرب من مواجهة مشكلة حرية الإنسان الفرد ، وركزت على ذلك الكائن الذي بلع الإنسان وهضمه ، وتمثله ، ونما به ، فأصبح مخلوقا جديدا أسموه المجتمع ، في مقابل أولئك الذين اختاروا الحرية الفردية فأنكروا الضرورة فأصبحت الحرية على أيديهم وهما منوطا بالصدفة ، أو شروعا نفسيا لا يجاوز الذات إلى الحركة . وعندما فطن بعض المفكرين إلى عجز تلك الضرورة الميكانيكية ، التي تنقض الحرية على أساس العلية ، وتجعل من السبب محركا كافيا دون الإدارة ، عن تفسير ما يحققه الإنسان من معجزات ، اكتشفوا الجدلية تفسيرا لعملية الخلق . ولكن جرثومة عداء الفكر الأوروبي للحرية ـ في ظل العهد الاستعماري ـ أفسدت كل ما جاءت به الجدلية ، وأحالت الجدلية المثالية التي قال بها هيجل قدرا مثاليا ، وأحالت الجدلية المادية التي قال بها ماركس قدرا ماديا .

يقول مؤلفو" أسس الماركسية اللينينية " : " من بين كل الفلاسفة السابقين على ماركس ، قدم هيجل أعمق الحلول لمشكلة الحرية والضرورة . لقد حاول ان يربط الحرية بالضرورة فعرف الحرية بأنها إتباع الضرورة ، ولكنه كان يفهم الضرورة على أنها ضرورة تطور الفكر المطلق ؛ فقد كانت الحرية في مذهبه متحققة في عالم الروح فقط . والخطأ الأساسي في نظرية هيجل، وكل المثاليين الآخرين ، أنهم يتصورون الحرية في الروح أو الفكر فقط ، متجاهلين تماما الظروف الحقيقية لحياة الإنسان . أكثر من هذا ، أنهم  يتحدثون عن حرية الفرد فقط ويتجاهلون تحرر الجماهير" .

وهذا قول صدق .

فقد أهدر هيجل الحرية طبقا لذات قوانين الجدل التي أقام بها صرح الضرورة . قال في فلسفة القانون " إن حرية الإرادة تبدأ بان تحقق نفسها في الواقع حتى لا تظل مجردة . ولكنها تدرك أن هذا التمجيد الفردي في الواقع قيد عليها ، فتحاول أن تصبح أكثر شمولا ، بأن تتحد مع حريات الآخرين فتصبح حرية جماعية فى صورة العائلة . ومن التناقض ببن الحرية من ناحية وانحصارها في الواقع العائلي من ناحية أخرى ، تتجه الحرية إلى مزيد من الشمول لتتحد في حرية المجموع التي تمثلها الدولة . وهكذا تصبح حرية الدولة في أن تفعل ما تشاء هي أرقى ممارسة للحرية الفردية ذاتها . ولما كانت الدولة تمارس حريتها ـ التي هي الحرية الفردية في أرقى صورها ـ بمجموعة من القوانين فإن القوانين هي مصدر الحرية . يقول هيجل في " فلسفة القانون " : " إن الرأي السائد حاليا ، ان حرية كل فرد محدودة بحرية الآخرين ، وان القوانين تمثل هذه الحدود ، وان الحياة الاجتماعية هي هذا التحديد المتبادل للحريات . والحرية على هذا الوجه ليست إلا تحكما فإن القانون لا يحدد الحريات ولكن يضعها . وكل قانون هو الحرية بذاتها لأنه يتضمن إرادة الروح الكلية ".

فالجدلية الهيجلية ، بعد ان قالت بالروح الكلية أو الفكر المطلق ، وأضفت عليه صفة الكمال الذي لا كمال بعده ، ضبطت حركته على قوانين حتمية هي قوانين الجدل ، فأصبح المستقبل كله من صنع الفكر المطلق ، الذي هو شيء غير فكر الإنسان . عندئذ فقد الإنسان شيئا يستطيع أن يريده أو أن يفعله ، أي فقد الحرية ، وبقي صفرا على شمال الواحد الأحد الذي هو الفكر المطلق ، يتجسد في أرقى صوره في استبداد الدولة بشؤون الأفراد .

وهذا قول غير صادق .

ثم يضيف مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " : " تقدم الجدلية المادية حلا علميا لمسألة العلاقة بين الحرية والضرورة ؛ فبينما تأخذ الضرورة أساسا ، تعترف الجدلية المادية في الوقت نفسه بإمكان حرية الإنسان . ان حرية الإنسان الحقيقية ليست في الانفصال ( الموهوم ) عن قوانين الطبيعة والمجتمع ( والواقع أن هذا الانفصال غير ممكن) ، بل انها تكمن في معرفة تلك القوانين والعمل على أساس من هذه المعرفة . إن الناس ليسوا كائنات فوق الطبيعة ، ولا يمكنهم أن يتخطوا حدود القوانين الطبيعية أكثر من مقدرتهم على تفادي التنفس . وفوق هذا فإن الناس يعيشون في مجتمع ولا يمكن ان يفلتوا من قوانين الحياة الاجتماعية . إنهم لا يستطيعون طبقا لأهوائهم إنكار قوانين التطور الاجتماعي القائمة ولا ان يصطنعوا قوانين جديدة ، ولكن يستطيعون أن يعرفوا قوانين الطبيعة والمجتمعات ، وعن طريق معرفة طبيعة واتجاه عملها ، يمكن ان يستخدموها في سبيل مصالحهم الخاصة أي ان يضعوها في خدمتهم .

" إن كل التكتيك الحديث ، الذي هو أبعد ما يكون عن تجاهل قوانين الطبيعة ، القائم على استعمال تلك القوانين استعمالا هادفا إلى تحقيق غاية ، يثبت انه يمكن استخدامها لمصلحة الإنسان".

وهكذا عرض مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " ، أفضل ما قيل في الضرورة كأساس للحرية ، بقي أن نعرف ما هي الحرية ؟ .. كيف يضع الإنسان قوانين الطبيعة في خدمته ، ويستعملها استعمالا " هادفا " إلى غاية ؟

عند الإجابة عن هذا السؤال تسقط الكتابات الماركسية الإنسان الفرد نهائيا وتتخطاه إلى المجتمع ،  وبذلك تقع في ذات الخطأ الذي وقع فيه الذين عزلوا الفرد عن المجتمع في حديثهم عن الحرية . وعندما يصبح المجتمع شيئا غير الإنسان تصبح حرية المجتمع في قوانين تطوره ذاتها أخذا بمبدأ الضرورة ويقف الناس عاجزين حيال تلك القوانين ؛ لأنهم ـ كما يقول أفاناسييف في " الفلسفة الماركسية " : " لا يستطيعون ان يلغوا قوانين التطور الاجتماعي ، أو أن يخلقوا قوانين غيرها ولكنهم قادرين على فهم تلك القوانين والضرورة التاريخية ، ومن خلال علمهم بالضرورة يأخذون أماكنهم في حركة التاريخ " .

إذن فقد أسقطنا الإنسان الفرد من مجال البحث عن الحرية ، ثم أصبح دور الناس في المجتمع  لا ان يغيروا مجرى تاريخهم ، ولكنهم يأخذوا أماكنهم في مجرى الحركة التاريخية . وكيف يتحرك التاريخ ؟ . خلال الصراع الطبقي . وما الذي يحدد الطبقات وغايات صراعها واتجاه التاريخ نفسه ؟ .. ملكية أدوات الإنتاج . وهكذا يتحدد اتجاه التاريخ وتوالي أحداثه طبقا لضرورة التطور في طريقة الإنتاج المادي . ولا يمكن للإنسان ولا للجماهير ـ ان تغير هذا الاتجاه او ان تتخطى طورا منه إلى الطور الذي يليه ؛ لأن الإنتاج المادي يحدد بالضرورة كل أوجه الحياة الاجتماعية ، كما ان الثورات الاجتماعية او قيام نظام اجتماعي على أثر نظام آخر، يقع بالضرورة كما قال أفاناسييف . ولأن المبدأ الأساسي في التطور التاريخي كما قال مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " هو ما قاله ماركس من ان " ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ، بل العكس ان وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم " .

كل هذا منطقي مع نفسه ، لأنه تطبيق لمنطلق فكري واحد ، هو ان أفكار الناس ، ( آرائهم ، رغباتهم ، وإرادتهم ) مجرد انعكاس للمادة . وطبقا لقوانين الجدلية المادية ، يكمن التناقض والصراع الجدلي في المادة ، وتتطور به غير متوقفة على أفكار الناس ، التي تتطور تابعة لما هو متطور حتما بدونها . ومن هنا تكون حرية الإنسان ، وحرية الجماهير ، في ان يفهموا إلى أين يسير التاريخ ، ثم ان يسيروا معه أو أن " يأخذوا أماكنهم " في حركته كما قال أفاناسييف . حتى الحزب الشيوعي ، قائد الطبقة العاملة ، تكون حريته كلها ، وفاعليته كلها ، في " أن يعبر عن حركة تجري تحت أنوف " الشيوعيين" كما جاء في البيان الشيوعي .

وكما هي العادة ، تضمن كتاب " أسس الماركسية ـ اللينينية " تراجعات عن البداية الجدلية المادية ، سندها التجربة " في الوقت الحالي " ؛ فلم تعد الضرورة كأساس للحرية نظرية علمية تصلح لتفسير مفهوم الحرية في كل زمان ومكان ، ولكنها مقصورة على تفسير الحرية في التاريخ الذي انقضى . اما التاريخ الحديث ـ عهد الانتصار الاشتراكي ـ فإن الإنسان ، قد خرج به من عهد الضرورة إلى عهد الحرية ، وأصبح الناس قادرين " لا على إخضاع قوانين الطبيعة لإرادتهم فحسب ، بل إخضاع الأحداث الاجتماعية أيضاً " كما قال أفاناسييف .

كل هذا لابأس فيه ، لو استطعنا أن نعرف ما هي الحرية التي أفلتت من الضرورة ؛ ما هي الحرية في ظل الاشتراكية ؟ ما هي حرية الإنسان في علاقته بالطبيعة ، وما حريته في علاقته بمجموعة من الناس ، ( أسرته ، زملائه في العمل ، وطنه ، أمته ) وما حرية مجتمع معين في علاقته بمجتمع آخر؟؟

إننا لا نستطيع أن نعرف حرية الإنسان على أساس " الضرورة المادية " ، أو قوانين الطبيعة ، لأن حركة الطبيعة لا تفسر حركة الإنسان ، للاختلاف النوعي بين الاثنين . ولا نستطيع أن نعرف حرية الإنسان على أساس " الضرورة الاجتماعية " إذا افترضنا أن المجتمع شيء غير الإنسان ، أو على الأقل إلا إذا عرفنا حرية الإنسان داخل المجتمع . إننا لا نستطيع أن نعرف جيدا مفهوم العبودية في ظل عهود الرق أو الإقطاع أو الرأسمالية ، إلا إذا عرفنا أولا ما الحرية ؛ لأن العبودية سلب لها . وإذا كانت الجدلية المادية وتطبيقاتها النظرية ، قد اسقطت الفرد وأحلت المجتمع محله ، ثم قالت إن الحرية هي التزام قوانين المجتمعات في تطورها واستخدام الناس لها استخداما هادفا إلى تحقيق غاية " ثم عادت فقالت في " أسس الماركسية ـ اللينينية " : " من المسلم به ان كل شخص مقود في أعماله ببواعث خاصة إلى غايات خاصة . والسؤال الذي يطرح هو : لماذا يكون لكل شخص بالذات تلك البواعث والغايات وليس غيرها ؟ ثم إنه حتى المعرفة السطحية بالتاريخ تكشف عن أن غايات ومصالح مختلف الناس ، وبالتالي أفعالهم ، قد تصادمت دائما ، وأن النتيجة النهائية لهذا التصادم ـ وهي حدث تاريخي ـ كثيرا ما نختلف اختلافا بينا عما كان يهدف إليه أي شخص بعينه أسهم فيها " ، وبذلك جردت الإنسان وبواعثه وغاياته من إمكانية أن " يفعل ما يريد " وعادت إلى أصلها لتقول إن الإنتاج المادي هو الذي يحدد للناس بواعثهم وغاياتهم وبالتالي أعمالهم ، إذا كان هذا هو منطق الجدلية المادية ، فان الحرية في الجدلية المادية تعني ان الإنسان قادر على ان يفعل ما تريده له الطبيعة المادية ، وحريته محصورة في أن يتبعها . وهو ذات ما قاله هربرت سبنسر: " إننا لا نستطيع ان نريد ما نريد" .

أهم من هذا ، أن ذلك هو فعلا منطق الجدلية المادية . لذلك عندما نرى في " أسس الماركسية ـ اللينينية " أقوال الماركسيين التابعين للجناح السوفييتي في الحركة الشيوعية ـ بعد أزمة الحرية في عهد ستالين ـ جنوحاً الى الاعتراف بمقدرة الإنسان على ان يخضع لإرادته ، لا قوانين الطبيعة فحسب ولكن الأحداث الاجتماعية أيضا " ، ويصبح صانعو التاريخ ، ليست الطبقة العاملة التي تكون عنصرا في قوى الإنتاج فقط ، بل " الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين العاملين وفئات أخرى تسهم في التقدم الاجتماعي " ، ثم يتطور الأمر إلى إلغاء القاعدة الطبقية للحزب الشيوعي السوفييتي ليصبح " حزب الشعب كله " ، نكون قد قبلنا ما طرحته الممارسة العملية ، وبعدنا عن الجدلية المادية ، ويكون الحزب الشيوعي الصيني على حق عندما يتحدى الشيوعيين السوفييت في ان يجيبوا عن سؤالين محددين هل ينطبق كل هذا على قواعد الماركسية ؟ وهل كان ستالين ماركسيا عظيما أولا ؟ ( خطاب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني إلى الحزب الشيوعي السوفييتي في ٢٩ فبراير١٩٦٤ ) . ونكون - أخيرا ـ في حاجة الى أن نبحث عن أساس علمي جديد للحرية ، حتى لا تترك حياة الناس وحرياتهم لمخاطر الاجتهاد في الممارسة الفعلية ، وتصبح منوطة بأهواء الحاكمين . إن المعرفة العلمية للحرية تجنب مستقبلنا الاشتراكي مثل التجربة المريرة التي خاضها السوفييت في عهد ستالين ، وتقيم للاشتراكية ركنها الديمقراطي ، وتخرجها من أزمتها التي ورثتها عن الجدلية المادية . ثم إننا لا بد ان نواجه الكشف العلمي الحديث ، ونعني به اللاحتمية ، الذي يتجمع حوله ويحتمي به كل الرجعيين واضعين الجدلية المادية في مأزق علمي . إذ لو كان تطور المادة يحدد حركة الإنسان ، وكانت حركتها " لا حتمية " كما قال هايزنبرج - وقد سلم مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " بصحة الكشف العلمي فإن الأفكار إذ هي انعكاس للمادة لا بد ان تكون غير محددة بقانون ، ويكون مستقبلها منوطاً بالصدفة ، وتضيع الحرية في مجاهل الصدف . وفي هذا المأزق تقف الجدلية المادية عاجزة عن أن تبدد التضليل الرأسمالي الذي يستغل الكشف العلمي الحديث لسلب الإنسان حريته وثقته في أن يبني المستقبل الاشتراكي ـ يقينا ـ على أطلال الرأسمالية او غيرها من النظم الرجعية .

ـ 8 ـ

تقوم الحرية في " جدل الإنسان " على أساس الضرورة العلمية ، أي انضباط حركة العالم ، بما فيه الإنسان ، على قوانين حتمية معروفة أو تمكن معرفتها . وقد رينا هذا الأساس في الجدلية المثالية والجدلية المادية كلتيهما ، وفي نظريات أخرى سبق ان عرضنا لها . وفي هذا يتفق " جدل الإنسان " مع الجدلية المثالية والجدلية المادية في رفض أية نظرية تفصل بين الحرية والضرورة ، او تعتبر الحرية تحديا للقوانين العلمية او الضرورة قيدا على الحرية .

وفيما عدا هذا ، يتجاوز " جدل الإنسان " النظريات الجدلية السابقة ويتميز عنها بقيامه على أساس من التغاير النوعي للقوانين العلمية ، وبما انتهى اليه من أن قانون الجدل قانون خاص بالإنسان وحده ، دون الطبيعة المادية او الفكر المطلق . ومن هنا يقدم جدل الإنسان مفهوماً للحرية مختلفا ومتميزا عن مفهومها في النظريتين الجدليتين ، المثالية والمادية . فإذا كان الفكر المجرد منضبطا على قوانينه الخاصة ، وكانت الطبيعة المادية تتحول طبقاً لقوانين حتمية ، فإن حركة الإنسان ـ او حريته ـ تخضع للقوانين الخاصة بالإنسان نفسه .

غير ان الإنسان ، كجزء من كل ، يخضع للقوانين الكلية التي عرفناها والتي تحكمه وتحكم المادة والفكر معه .

وتصبح حرية الإنسان في هذا الانضباط ( أخذا بمبدأ الضرورة ) ، لا على مقتضى قوانين التطور الفكري فقط ( ضرورة مثالية ) كما قال هيجل ، ولا على مقتضى قوانين التطور المادي فقط ( ضرورة مادية ) كما قال ماركس ، ولكن على مقتضى قوانين تطور الإنسان ( ضرورة نوعية ) في علاقته بالفكر والمادة معا . والواقع أن الفكر المطلق ان وجد بعيدا عن الإنسان فإن الحديث عن الحرية يصبح غير ذي دلالة لعجز الفكر ـ بدون الإنسان ـ عن ان يتحول إلى عمل . كما ان الطبيعة المادية كانت قائمة تتحول على مقتضى قوانينها قبل أن يوجد الإنسان بملايين السنين دون ان تجد حتى من يخطر على باله لفظ الحرية . وإنما وجدت الحرية يوم ان وجد الإنسان نوعا متميزا عن الطبيعة المادية وعن الفكر المطلق ، وان كان وحدة من المادة والفكر . وأصبح الحديث عن الحرية لازما لمعرفة كيف يستطيع أن يضع الإنسان المادة والفكر معا في خدمته ، وأن " يستعملهما استعمالا " هادفا إلى غاية " طبقا لذات القوانين الحتمية التي تحكمها . فالبحث في الحرية ، إذن ، ليس بحثا في علاقة المادة بالفكر ، ولكن بحث في علاقة الإنسان بكل من الفكر والمادة . إن فهم الحرية لا يتأتى من معرفة ما الذي يقود حركة التطور ، هل هي المادة أو الفكر، ولكنها تفهم فهما صحيحا بمعرفة " كيف " يقود الإنسان حركة التطور عن طريق إخضاعه المادة والفكر معا لإرادته . فعندما يقول الرجل البسيط : " أنا حر أعمل ما أريد " يكون هو الحر الوحيد الذي " يريد " و " يعمل " ، وذلك قانونه النوعي الذي لا يوجد مثله في الطبيعة المادية التي لا تريد " ، أو الفكر المجرد الذي لا يعمل .

وعلى هذا يرفض " جدل الإنسان " كل النظريات المثالية في الحرية التي تتجاهل الإنسان كلية " كالقدرية " الميتافيزيقية ، او التي تنسب الحرية إلى الفكر المطلق كالمثالية الهيجلية ، او التي تزيف الإنسان فتحيله إلى كائن نفسي متجاهلة انه وحدة لا تتجزأ من الذكاء والمادة لا وجود له ولا لحريته خارج الظروف التي يعيش فيها " كالوجودية " ؛ لأن الحرية هنا إرادة بغير موضوع .

ومن ناحية أخرى ، يرفض " جدل الإنسان " كل النظريات المادية التي تتجاهل الإنسان كلية ، وتنسب الحرية إلى الطبيعة المادية ، " كالجبرية الميكانيكية " ، أو إلى الظروف المادية التي يعيش فيها " كالماركسية " ، او المجتمع كنوع مختلف عن الإنسان كما قال دوركهايم ؛ لأن الحرية هنا موضوع بغير إرادة .

إن الحرية ـ في جدل الإنسان ـ للإنسان وحده .

وحريته في ان يلتزم القوانين الكلية التي تحكمه وتحكم الطبيعة معه ، والقوانين النوعية للطبيعة المادية ، خلال التزامه قوانينه النوعية كإنسان . وسنرى كيف يكون هذا .

غير انه لا بد ـ قبل هذا ـ من ان نواجه تلك الفلسفة التي تستند إلى قانون "اللاحتمية " . الخطأ في تلك الفلسفة أنها تصورت الإلكترون وحدة ذات كيان منفصل عن الذرة ، بحيث يقال إن له قانونا خاصا به هو قانون اللاحتمية . وهو مثل الخطأ الذي يجزئ الإنسان إلى فكر ومادة ويختار أحدهما فارضاً حركته على الإنسان الذي هو وحدة من الذكاء والمادة . إنه يتجاهل التغاير النوعي للقوانين . وقد أوضح المفكران الفرنسيان مينور في "العلم والقانون" ولانجوفان في " الاتجاه المعاصر للعلم " ان عزل الإلكترون عن الذرة والنظر إليه منفردا كأن له وجودا خاصا غير صحيح ، وغير علمي ؛ لأن ملاحظة الإلكترون هي ملاحظة الذرة ذاتها . ومع ذلك فعندما قام العلماء بمحاولة حساب الحدود الرياضية لقانون اللاحتمية وجدوا انه أياً كان الاحتمال الذي لم يستطيعوا تحديده فإن حركة الإلكترون متضمنة المعادلة الرياضية التي قال بها ماكس بلانك . ومعنى هذا أن ثمة عنصراً مشتركاً في حركة الإلكترون وإن كنا لم نستطع ان نقيس تلك الحركة ونحدد اتجاهها بوسائلنا العلمية الحالية . مع هذا فإذا كان للإلكترون قانون خاص به ، فإنه سيظل قانوناً نوعيا . إذ ابتداء من الذرة إلي كل تركيباتها الطبيعية لم يظهر أثر لقانون اللاحتمية هذا . وجدل الإنسان لا يتأثر بهذا الكشف أياً كانت النتيجة التي يصل إليها البحت العلمي ؛ لأنه قائم على أساس التغاير النوعي لقوانين الحركة في الأشياء ، وان قانون الجدل بما يتضمنه من مقدرة على التطور الإرادي قانون نوعي خاص بالإنسان . فإذا كان ما دون الذرة موجودا وجودا مستقلا عن الذرة وله قوانينه الخاصة ، فإن هذا يؤيد انفراد الإنسان بقانون الجدل في عالم ما فوق الذرة . وهكذا يفلت " جدل الإنسان " من المأزق الذي وجدت الجدلية المادية نفسها فيه بعد اكتشاف هايزنبرج . وتبقى الحرية ـ حرية الإنسان وحده ـ في " جدل الإنسان " فوق مستوى محاولات الذين يريدون أن يستغلوا هذا الكشف لتحويل الحرية إلى تصرفات عشواء منوطة بالصدفة . ويقول مينور إن تطبيق ما أسفرت عنه الملاحظة في عالم الإلكترون على الأفراد تطبيق خاطئ ؛ لأن الحرية لا تكون إلا لكائن ذكي وهو ما لا يتوافر للإلكترون . فالتفسير الفلسفي لكشف هايزنبرغ تطبيق لملاحظة في غير المجال الذي تطبق فيه . وهذا الذي يقوله مينور يتفق تماماً مع " جدل الإنسان " و يؤكد صحته .

إلا أننا لازنا على يقين من أن" اللاحتمية" دليل على قصور علمي مؤقت وليست دليلا على قانون علمي . فهايزنبرغ  لم يكشف " اللاحتمية " كحقيقة علمية موضوعية ، ولكنه اكتشف أنه لا " يستطيع " أن يحدد سرعة الإلكترون واتجاهه في الوقت نفسه ، وإن كان من " الممكن " تحديد السرعة والاتجاه كل منهما على حدة . وإلى ان " يستطيع " العلماء تحديد سرعة الإلكترون واتجاهه في الوقت نفسه ، وبالتالي معرفة ما إذا كان هذا الاتجاه منضبطاً على قاعدة ام غير منضبط ، سيظل قانون الشك واللاحتمية محل شك وغير حتمي ؛ لأن القول بان القانون يكون لا حتمياً ، يساوي القول بان " اللاحتمية " حتمية ، وهو قول فارغ من أية دلالة ؛ لأن اللاحتمية " لا تكون حتمية إلا إذا خضعت لقاعدة ، فإن خضعت لها لم تعد لا حتمية ٠ إن الحتمية من خصائص القوانين الموضوعية ، ولأنها موضوعية فإن الإنسان يستطيع ان يكشفها ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من عجزه عن اكتشافها دليلا على عدم وجودها ، والا أهدرنا كل دلالة المنجزات العلمية ، وتطور الإنسان نفسه ، الذي قام ويقوم على أساس أن جميع الأشياء خاضعة في حركتها لقوانين علمية موضوعية وحتمية ، وأصبح كل ما أنجزه الإنسان على أساس قوانين الذرة التي اكتشفها وهما . فهل هو وهم ؟

ليس وهماً أيضاً ان الإنسان حر ، وان حريته قائمة على أساس الانضباط الحتمي للطبيعة وللإنسان نفسه على ما تقتضيه القوانين العلمية ، وان الحرية هي استخدام تلك القوانين لتحقيق إرادته التي تخضع بدورها لقانونها الحتمي : قانون الحرية ، وان البحث المجدي في الحرية يجب ان يهدف إلى كشف قانونها وعلاقته بالقوانين الموضوعية الأخرى .

ولقد عرفنا ان للإنسان قانوناً خاصاً هو قانون الجدل ، وبقي أن نعرف ما الحرية ، وما حدودها، عن طريق معرفة كيف يستعمل الإنسان مقدرته الجدلية في استخدام قوانين الطبيعة استخداماً هادفاً إلى تحقيق غايته . وهذا يقتضي تحديد مفهوم الحرية خلال علاقة الإنسان بالكون الذي ينتمي إليه ، وبالطبيعة والظروف التي يعيش فيها .

ـ 9 ـ 

 قلنا إن القوانين الكلية للطبيعة ـ بما فيها الإنسان ـ ثلاثة : التأثر ، والحركة والتغير ، وان تلك القوانين حتمية وكلية . وعلى هذا فإن الإنسان ليس حرا في أن يتأثر أو لا يتأثر ، وليس حرا في أن يتحرك أو يجمد ، وليس حرا في أن يتغير أو لا يتغير . وقولنا أن الإنسان ليس حرا في هذا يعني أن محاولة التعطيل الإرادي لهذه القوانين ليست حرية ، بل تحديا فاشلا لما هو متحقق حتما سواء أراد الإنسان أم لم يرد . ومن أمثلة هذا التحدي الفاشل لقانون التأثر تجاهل الطبيعة والظروف التي يعيشها الإنسان فعلا ، ومحاولة الهروب منها أو الانسلاخ عنها ليعيش في أوهام من فكره ولو أسماها " الفكر المطلق " كما قال هيجل . والظروف الاجتماعية القائمة فعلا مؤثرة في الإنسان الذي يعيش فيها تأثيراً لا يمكن أن ينسلخ عنه أو يلغيه . ليس لعربي مثلا اًلحرية في أن يكون غير عربي وألا يتأثر بظروف العرب ومن هنا تبدو الانعزالية واللامبالاة والسلبية أنماطاً من السلوك الفاشل الذي لا يعبر عن أية حرية .

والواقع ان اتخاذ موقف سلبي من الظروف ومشكلاتها هو تحديد لموقف متأثر بالظروف ، وكل ما يميزه أنه عقم محض ، وبالتالي تأييد سلبي لامتداد الماضي في المستقبل ومحاولة لإعدام إمكانيات التغيير . لهذا تكون الانعزالية واللامبالاة والسلبية رجعية تخدم الماضي وتحاول أن تؤكده . ولهذا أيضا تكون " المثالية " بمعنى تجاهل ظروف الطبيعة والظروف في الإنسان ، مثلا كاملا للرجعية المضادة للحرية . فالحديث عن " حرية " الإنسان في أن ينعزل عن الطبيعة والمجتمع حديث خرافة ، لأنه متأثر بهما سواء أراد هذا أم لم يرده .

كذلك ، يؤثر الإنسان في الطبيعة وفي ظروفه وفي المجتمع حتما لا حرية له في هذا ولا إرادة ، ويكون تجاهل الإنسان وتأثيره مغالطة انهزامية مضادة للحرية .

ومن أمثلة التحدي الفاشل لقانوني الحركة والتغير ، التشبث بما تحقق فعلا وإضفاء القدسية عليه ومحاولة تعطيل مصيره إلى حيث هو متغير حتما . إن كل شيء في الطبيعة ، وفي الإنسان ، وفي المجتمعات ، وفي النظم متغير خلال حركته في الزمان الذي لا يقف ولا يمكن إيقافه . وكل محاولة لإيقاف تحول الأشياء وتطور الإنسان والمجتمعات والتشبث بالماضي وتقديسه ، محاولات رجعية مضادة للحرية ؛ بمعنى ألا حرية للإنسان في هذا ، فكل شيء سيتغير سواء أرد هذا أم لم يرده . لا حرية في الرجعية ولا حرية في التعصب لما كان ضد ما سيكون .

ـ 10 ـ

والطبيعة المادية قائمة تتحول على مقتضى قوانينها النوعية . لا يمكن لأي إنسان أن يخلق طبيعة لا قوانين لها ، أو أن يضع للطبيعة قوانين غير قوانينها ، أو أن يكتفي بإنكار وجود المادة وقوانينها الحتمية . الإنسان ليس حراً في أن يولد أو لا يولد ، وليس حرا في أن يجوع أو لا يجوع ، وليس حرا في أن ينبض قلبه وتعمر شرايينه بالدماء ، وليس حرا في أن يتأثر بالحرارة والبرودة والرطوبة ، وأن يدق عنقه إن سقطت عليه كتلة من الصخر. ومعنى أنه ليس حرا في هذا أن الطبيعة المادية والحيوية وظواهرها وتحولاتها تتم وتقع حتما سواء أراد أم لم يرد "إذا" تحققت شروطها طبقا لذات قوانينها الموضوعية . فحتمية التحول الطبيعي طبقا لقوانين الطبيعة تخرج عن نطاقحرية الإنسان . ولكن محتوى التحول ذاته يخضع لإرادته ؛ فإن كان الطقس حارا لم يعد حراً في أن يتأثر أو لا يتأثر، ولكنه يستطيع أن يغير درجة الحرارة بالتكييف الصناعي ، وطريقه الى هذا أن يستعمل ذات القوانين الحتمية التي تحكم درجة حرارة الجو . فالماء يغلي حتما إذا كان نقيا وبلغت حرارته 100 درجة مئوية في الضغط العادي ، فإن تحققت تلك الشروط ولو في المحيط يغلي الماء ولا يتوقف على إرادة الإنسان . ولكن الإنسان يستطيع أن يحول دون غليان الماء بأن يحفظ حرارته دون المائة درجة مئوية أو أن يفسد نقاءه ، أو أن يعدل الضغط الواقع عليه . والإنسان يجوع حتى إذا لم تجد عصارة معدته ما تهضمه ، ويؤثر هذا في جهازه العصبي فيتألم ، وكل هذا يتم طبقا لقوانين فسيولوجية فوق إرادته . ولكنه يستطيع عن طريق علمه بتلك القوانين الفسيولوجية واتكالا على حتميتها أن يتخلص من ألم الجوع ، بأن يأكل ، أو بأن يستعمل من العقاقير ما يخدره فلا يحس ... وهكذا .

ولقد كانت الطبيعة دائما ، ولا تزال ، قيدا على حرية الإنسان ، وكانت حرية الإنسان دائها ، ولا تزال ، تنمو وتتسع كلما اكتشف مزيدا من قوانين الطبيعة ، والتزم حتمية هذه القوانين ، واستعملها لتغيير التحول التلقائي للطبيعة وظواهرها ، وفى هذا يتميز الإنسان عن جميع الموجودات الأخرى . ولهذا قلنا إن الإنسان هو الحر الوحيد ؛ لأن حريته في هذا عينه تغيير السير التلقائي للظروف وتحقيق ما يريد عن طريق علمه بقوانين الظروف المحيطة به واستعمالها في خدمة أغراضه .

وكانت الطبيعة ، ولا تزال ، قيدا وشرطا لحياة أي حيوان ٠ ولم تكن نظرية داروين سوى متابعة لآثار ضغط الطبيعة على الحيوان إلى الحد الذي تنقرض به أنواع ، وتنشأ به أنواع أخرى . فإذا كانت نظرية داروين قد أثبتت شيئا فهو أن الحيوان ليس حراً . انه يولد وكل حيلته أن يتقبل تأثير الطبيعة فيه . وأن يتكيف طبقا ، وتبعا ، لذلك التأثير دون وعي منه أو إرادة . فهو يعيش ويقضي على ما تمنحه الطبيعة تلقائيا ، يحتمله بكل عجز وصبر وغباء في الوقت ذاته . إن الحيوان عبد الطبيعة كما اختار أن يقول جورج جوسدروف . ومهما قيل عن ذكاء الحيوان فلا يزيد القول على أن يكون استعمالا مجازيا لكلمة " ذكاء " للدلالة على مرونة هذا النوع أو ذاك من الحيوان مرونة بيولوجية في مواجهة التأثير الطبيعي فيه وعليه . إن الذكاء هنا تعبير عن مرونة الغرائز؛ إذ ليست الغرائز الا تلك المواجهة التلقائية للظروف أو" الفعل المنعكس الشرطي" كما يسميه علماء السلوك ليفرقوا بينه وبين الفعل الإرادي .

من هنا نعرف أن كل النظريات التي تحدد سلوك الإنسان - وبالتالي حريته ـ طبقا لقوانين غير قوانين الإنسان نفسه ، كالطبيعة المادية مثلا كما قال ماركس ، أو الوسط الجغرافي كما قال راتزل ، عاجزة تماما عن تقديم مفهوم للحرية يفرق بين الإنسان والحيوان .

فعندما تقول الماركسية - على عهد ماركس وانجلز - إن الإنسان يعكس التطور المادي ، ويتحدد سلوكه تبعا له ، تكون قد ألغت حرية الإنسان كلية ، إذ أحالت سلوكه إلى مجرد فعل منعكس شرطي " للظروف التي تحيط به . لهذا كان منطقيا أن تستند الفلسفة الماركسية الى نظرية دروين ، وكان العالم الروسي بافلوف ماركسيا صادقا عندما حاول أن يثبت أن الأفعال التي يقال لها إرادية ليست الا أنماطا من الأفعال المنعكسة الشرطية . غير أن أحدا لا يقول ما قاله بافلوف ، ولا حتى في ؛ الاتحاد السوفييتي" في الوقت الحالي". فقد أثبتت التجارب العلمية وخاصة التجارب التي أجراها جلدشتين أن إرادة الإنسان تستند الى تركيب بيولوجي مختلف ، هو ما يسمى بالتخصص المخي فى الإنسان ، أي وجود منطقة في مخه تشرف على الحركة ، وتؤدي الى أن ينفرد بأهم شرط من شروط الفعل الاردي ، وهو الكف ؛ أي مقدرة الإنسان - دون غيره - على أن يكف نفسه عن أفعال توافر لها المنبه الطبيعي . من خلال هذه المقدرة على الاستجابة كما يستجيب غيره من الموجودات للمؤثرات الخارجة ، والكف عن هذه الاستجابة مع توافر المؤثر، كسب الإنسان سمة الحرية ، وأصبحت الحرية في أبسط صورها ؛ أي الاختيار الإرادي ببن أمرين : القبول السلبي للأثر التلقائي للظروف ، او خلق الظروف الملاءمة لحاجته ، ميزة مقصورة على ذلك الكائن العظيم الذي يسمى إنسانا . من تلك البذرة ، بذرة الحرية ، واجه الانسان الظروف الطبيعية التي تحيط به مواجهة ايجابية ، وفرض عليها ما استطاع عن طريق تعطيل تحولها التلقائي وتحويلها صناعيا على أساس علمه بقوانينها الموضوعية ، أي خلق مستقبله ويخلقه في كل لحظة . كذلك أوجد الإنسان قناة السويس ، وبنى السد العالي ، وأطلق الصواريخ ،
وكذلك لما أن عرف من - ماركس - ما ينتظره كنهاية للتطور التلقائي للنظام الرأسمالي طبقا للقوانين الرأسمالية لم ينتظر مصيره الشيوعي ، وصنع تاريخه الاشتراكي ، ويصنعه ، مغيرا المستقبل الرأسمالي في بعض المجتمعات ، ومتخطيا المرحلة الرأسمالية في بعضها الأخر، مفلتاً - بحريته - من الشيوعية كمصير للتطور الرأسمالي التلقائي ، إلى الاشتراكية ، كمستقبل يختاره ويحققه عن طريق تحرير الإنسان من عبودية الرأسمالية . وما كان للطبيعة ، أو لأدوات الإنتاج ، أن تفعل هذا أو ذاك لو لم يكن هو قد " أراد "و" فعل" .

على ضو هذا ، وليس على ضوء الجدلية المادية ، يمكن فهم ما قاله مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينبة " من أن " الحيوان يلائم بين نفسه وبين الطبيعة سلبيا عن طريق انتفاعه بما تقدمه الطبيعة ذاتها ، وبالعكس يلائم الإنسان بينه وبين الطبيعة ايجابياً بتغييره الطبيعة تغييراً هادفا الى خلق ظروف الحياة التي لا يجدها معدة له ، والتي تأخذ شكل تغير العالم الخارجي " . ليس لهذا الكلام الصحيح أساس من نظرية داروين في انتقاء الطبيعة ما يلائمها من انواع ، ولا في اكتشاف بافلوف اللغة كشرط للافعال المنعكسة للإنسان كما يحاول أن يقول مؤلفو أسس الماركسية ـ اللينينية " . فإن بافلوف ـ المادي ـ  لم يجد في اللغة إلا شرط للأفعال المنعكسة في المستقبل ، إن تحقق وقع الفعل حتما ، كما يسيل لعاب الكلب الذي ارتبطت أفعاله بالغذاء والرنين معا ، فلما أن غاب الغذاء سال لعابه للرنين وحده ، لا إرادة له في أي من الحالتين . ومع هذا فإنها محاولة للإفلات من أزمة الحرية في الجدلية المادية ؛ من القول الأول ـ قول ماركس وانجلز وبليخانوف .. الخ . إن الإنسان ما كان ليتطور لو لم تكن له تلك اليدان المكونتان تكوينا رائعا ، والذي يرجع تكوينهما إلى " خصائص معينة للوسط الجغرافي الذي نوع التركيب الفسيولوجي للإنسان تنويعا ملائما للظروف المحيطة به " ، إلى القول قبل الأخير - قول مؤلفي أسس الماركسية ـ اللينينة " إذ أن القول الأخير لم يقل بعد ، إن : " التقدم الكبير في ملاءمة الإنسان لظروفه التي تأخذ شكل تغيير العالم الخارجي لم تكن ممكنة الا خلال التقدم الكبير لقدرة الإنسان الذهنية في تقدير ناتج سلوكه وعمله  .

ان التقدير والحكم مقدمة لاختيار العمل الأفضل .

وما يقال عن علاقة الحرية بقوانين الطبيعة المادية ، يقال عن علاقتها بقوانين الفكر المجرد ؛ إذ أن للفكر المجرد - كما عرفنا - قوانينه النوعية المعروفة باسم قواعد المنطق . وهي قواعد حتمية يستعملها الإنسان ويستخدمها في أن يفكر تفكيرا سليما ويقول قولا صحيحا . وهو حر في اختيار محتواها والموضوع الفكري الذي يبحثه على هديها ، ولكنه ليس حرا في أن يتجاهلها أو أن يخلق قوانين غيرها ، وقولنا انه ليس حرا في هذا يعني أن عدم انضباط الفكر والقول على مقتضى قواعد المنطق ليس إلا تحديا فاشلا لها ، فلا حرية في المغالطة أو السفسطة أو الهذيان .

ـ 11 ـ

ويقول" جدل الإنسان" ؛ إن الإنسان - دون الكائنات جميعا - وحدة من المادة والذكاء ويخضع في هذا لقانون خاص به هو قانون الجدل ؛ أي إدراك المشكلات (بالمعرفة العلمية للتناقض بين ظروفه وحاجته ) وحلها ( بالتفكير المنطقي على أساس القوانين العلمية لتحول الطبيعة وتطور الإنسان ) وتنفيذ الحل (بمقدرته ـ وحده - على العمل وتغيير السير التلقائي للظروف) . وقد تختلف المشكلات وتتعدد ، وتختلف الحلول وتتغاير من إنسان الى إنسان ، ومن مكان إلى مكان ، ومن زمان الى زمان ، ومن مشكلة الى أخرى ، ويأخذ العمل أنماطاً لا حصر لها ، منها السلبي والايجابي ، والنظري واليدوي ، والزراعي والصناعي ، وأمام كل هذا يختار الإنسان المشكلة التي أدركها قبل غيرها ، ويضع الحلول للمشكلات التي يعاني منها أشد معاناة ، ويقوم بالعمل الذي يستطيعه . ولكنه لا يكف ـ ولا يستطيع أن يكف - عن أن نكون له مشكلاته وأن يبتكر لها الحلول ، وأن يعمل حلا لها ، ولو كان عمله مجرد الكف عن الحركة صبراً على المتاعب حتى يأتي الوقت الذي يختاره ليتخلص من متاعبه . لا خيار للإنسان في هذا لأنه إنسان - ولا حرية في هذا لأن محاولة الهروب من المشكلات وحلها ليست سوى تحدياً فاشلا لقانون الجدل الذي يحكم بني الإنسان ، سواء أرادوا أم لم يريدوا . إن التوقف عن الجدل ليس حرية ولكن موت .

ـ 12 ـ

وذا كان الإنسان ليس حرا في مواجهة حتمية القوانين الكلية التي تحكمه وتحكم كل شيء معه ، وليس حراً في مواجهة حتمية قوانين الطبيعة المادية ، وليس حرا في مواجهة حتمية
قواعد المنطق ، وليس حراً في مواجهة قوانينه النوعية ومنها قانون الجدل ، فإن الحرية تنحصر في جدل الإنسان ذاته . وبهذا يقدم لنا " جدل الإنسان" أدق ما نعرف من تعريفات الحرية - إن الحرية هي المقدرة على التطور . هي إدراك المشكلة وحلها ، وتنفيذ الحل بالعمل . وبذلك نكون قد وصلنا إلى ذلك المقياس الذي نبحت عنه لمعرفة ما يتفق مع الحرية وما يعتبر استبدادا . إذ أن انحصار الحرية في الحركة الجدلية مع معرفتنا أن الإنسان هو الجدلي الوحيد يمكننا من الحكم على كل تلك النظريات المادية او المثالية التي تجرد الإنسان من مقدرته الجدلية وتخضع تطوره لجبرية الطبيعة أو التاريخ أو الروح أو الفكر ، أي تخضعه لقوة خارجية . إنها كلها دعوات ونظريات منافية للحرية ورجعية ؛ لأنها تلغي حرية الإنسان ، ثم تتوقع حل المشكلات من غير الإنسان وهو جهاز الجدل الوحيد ، وتسمح بذلك للماضي أن يمتد في المستقبل حاملا ذات المشكلات بدون حل .

ـ 13 ـ

إن انحصار الحرية في الحركة الجدلية يحدد مجالاتها واتساقها في الزمان تبعا لترتيب الحركة الجدلية ذاتها ، ويقدم لنا أنواعا من الحريات غير مختلطة بل محددة كل منها بالأخرى تحديدا مصدره قانون الجدل نفسه .

فمثلا ، إذا قلنا إن الحرية للإنسان وحده ، وإن الإنسان جهاز الجدل ، أصبحت للإنسان حريات أساسية متصلة بوجوده ، لأن الإنسان الجدلي يجب أن يوجد أولا ، وأن يحفظ له هذا الوجود حتى يستطيع أن يتطور . وعلى هذا يكون كل ما يعدم وجود الإنسان أو يضعفه أو يعطله إهدارا لحرية الإنسان ؛ فالقتل والاعتداء على الجسم والمرض الجسدي أو العقلي والجوع إهدار صريح وإجرامي لحرية الإنسان في الوجود . ولما كان وجود الإنسان شرط الجدل فإن حرية  الوجود شرط التطور، أي لها أولوية التحقق على أية حريات أخرى .

وإذ يوجد الإنسان، يوجد التطور . وقد قلنا ان التطور حركة جدلية تبدأ بالمشكلة ثم حلها ثم تنفيذالحل بالعمل . ومن هنا تكون للإنسان حرية أخرى هي حريته في الجدل . وتتضمن حريةالمعرفة ، أي إدراك المشكلات ، وحرية الرأي أي تصميم الحل ، وحرية العمل أي تنفيذالحل .

وهذا الترتيب يحدد مدى الحريات نفسها . فكما أن الوجود شرط الجدل فإن حرية الوجود شرط حرية الجدل . فحرية الوجود سابقة على حرية الجدل . وتحدها ، وحرية الجدل قائمة على حرية الوجود وتكملها ، ولكن لا تلغيها . وحرية الجدل ذاتها منضبطة في ترتيبها بقانون الجدل ، فحرية المعرفة شرط لحرية الرأي وتحدها ، وحرية الرأي مكملة لحرية المعرفة ولا تلغيها ٠ كما أن حرية الرأي شرط لحرية العمل وتحدها وحرية العمل مكملة لحرية الرأي ولا تلغيها .

كل هذا حتمي ؛ لأن قانون الجدل حتمي ؛ لأن العالم بما فيه الإنسان منضبط على قوانين حتمية ؛ لأن حرية الإنسان فى هذه الحتمية ولا حرية فيما يخالف ما تقضي به القوانين العلمية . لهذا كان حتما أن نحدد الحريات على ما بيناه منضبطة في تريبها على الحركة الجدلية هذا الترتيب هو ما يمكن أن نسميه قانون الحرية . وسنرى كيف يمكن أن نفهم على أساسه ، الحريات في " نظام " ، أو نظام الحريات أو ما يسمى " الديمقراطية .

ـ 14 ـ     

تكلمنا حتى الآن عن " الإنسان " الواحد ، غير أن هذا الإنسان الفرد غير موجود بمفرده في الواقع ، ولكن الموجود أفراد ينتمون إلى نوع الإنسان . إنهم محمد أو أحمد أو صلاح أو عائدة أو سعاد ، وكلهم إنسان . فالإنسان لم يوجد قط في غير مجتمع . لقد خلق الإنسان من ذكر وأنثى وهما كافيان لتكوين مجتمع صغير لن يلبث أن يزيد أفراده عددا . إذن فالإنسان عضو في مجتمع ، وابتداء من هذه الحقيقة نصبح في قلب المشكلة الحقيقية للحرية أي حرية الإنسان في المجتمع .

لقد عرفنا كيف يتطور الإنسان وعرفنا أن حريته هي تطوره . فإذا اجتمع شخصان فإن كلا منهما يتطور عن طريق العمل تتفيذا للحل الجدلي لمشكلاته الخاصة كما يدركها هو وكما يتصور حلها وطبقا للإمكانيات التي يحصل عليها . وتتم الحركة الجدلية أو التطور الفردي بقدر ما تكون معرفته المشكلة وإمكانيات الظروف معرفة صحيحة ، وتصوره الحل صحيحا ، واستعماله إمكانياته صحيحا . هذه هي الحركة الجدلية كما عرفناها . غير أن حاجات الإنسان متعددة ، لأنه كائن مركب وليس بسيطا . وكل حركة وأي تصرف يقوم به الإنسان في حياته إشباع لحاجة قائمة . وعندما يجتمع اثنان تبدأ عملية "الجدل الاجتماعي" . ونعني بها الاشتراك في حل المشكلات المشتركة . والاشتراك يكون بتبادل الجدل ؛ أي يتبادل المعرفة فيعرف كل واحد من الاثنين كيف نشأت المشكلة المشتركة لديهما ، وتبادل الفكر أي معرفة كل واحد وجهة نظر الآخر في حل المشكلة ، وتبادل العمل أي مساهمة كل منهما في إشباع حاجتهما المشتركة وبهذا يتطوران ـ أي يتطور المجتمع ـ عن طريق المعرفة المشتركة أوالعلم ، والرأي المشترك أو العقيدة ، والعمل .

تلك أبسط صور التطور عندما يكون المجتمع مكونا من فردين . والإضافة الى الاثنين تمد أبعاد المجتمع على مستويات ثلاثة ؛ امتداد أفقي حيث ينتشر الناس من الفرد الى الجماعة وحيث يحمل كل فرد حاجته معه ، وتتعدد المشكلات والحلول في حركة جدلية تتجه من الجزء الى الكل . وامتداد رأسي يبدأ من الحاجة الخاصة بكل فرد الى الحاجة العامة التي يشترك فيها الجميع ، وتتسع المشكلات والحلول فى حركة جدلية تتجه من الخاص الى العام . وامتداد الى المستقبل حيث يسير التطور في حركة جدلية تتجه من الحاجة الى الغنى . في حدود هذه الأبعاد تتطور أية وحدة اجتماعية خلال حركة جدلية جماعية متجهة الى التحقيق الشامل لكل حاجات الأفراد . وكأية حركة جدلية تقتضي لقيامها الوجود ثم الجدل . أي وجود المجتمع نفسه ، ثم تبادل المعرفة ، فتبادل الرأي، فتبادل الجهود . ولا بد أن يتم هذا ليتطور المجتمع وتتحقق حرية الإنسان فيه ؛ لأن قانون الجدل قانون حتمي . ومن هذه الحتمية يستمد الفرد في المجتمع حريات جديدة هي :

حرية وجود المجتمع الذي ينتمي إليه ، وحرية التطور فيه . وترتيبها على هدى قانون الجدل يجعل من حرية وجود المجتمع شرطا للتطور الجماعي وحرية التطور الجماعي مكملة لوجوده ولا تلغيه . وحرية التطور الجماعي ذاتها تتبع حركة الجدل . فالمعرفة المشتركة أو العلم شرط لحرية الرأي المشترك أو العقيدة ، وحرية العقيدة شرط لحرية العمل في المجتمع .

ـ 15 ـ

ولما كان الجدل الاجتماعي يشمل الجدل الفردي فإنه يتضمنه ولا يلغيه ، ولكن يحدده ، ومن هنا يتحدد مدى حريات الإنسان التي استمدها من كونه إنسانا بحرياته التي استمدها من كونه إنسانا في مجتمع ، أي تتحدد الحريات الفردية بالحريات الاجتماعية . فحرية وجود الفرد تنتهي عند حرية وجود المجتمع . ويموت الإنسان إذا كان في موته حفاظ لوحدة المجتمع ووجوده . وحرية المعرفة الفردية تنتهي عند حرية التعلم الجماعي ؛ فاحتكار المعرفة ليس حرية ولكنه عدوان على حرية التعلم . وتنهي حرية التعلم عند حرية الرأي ؛ ففرض رأي واحد على الجميع ليس حرية ولكن إهدار لحرية الرأي . وحرية العمل تنتهي عند الحريات المدنية والسياسية ؛ فكل إنسان حر في أن يفعل ما يشاء دون أن يمس حقوق غيره . كلمة الحقوق هذه تدفعنا إلى أن نسمي الحريات باسمها الحقيقي . إذ لا توجد داخل المجتمع ما تسمى حريات فردية وهو التعبير السلبي الذي يعني عدم منع الفرد من عمل شيء ، إذ أنها في المجتمع تصبح حقوقا أي إمكانيات فردية ومجالات للتصرف محدودة بمجالات أخرى على أبعاد المجتمع الثلاثة . محدودة أولا بحق المجتمع في سلامة وجوده وقدرته على التطور أي تحرره من القيود التي تفرض عليه ككل أو تمزق إمكانياته . ثم محدود داخل كل مجتمع بحقوق الآخرين على المستوى الأفقي ، ومحدودة بالحقوق الاجتماعية على المستوى الرأسي ، ومحدودة باتجاه التطور في الممارسة الفعلية . وبذلك تسترد الحريات مضمونها الايجابي أي تصبح الحريات في المجتمع التزاما على المجتمع يجب تحقيقه في الواقع ، والحريات الفردية التزاما على الأفراد أن يحترموه .

ـ 16 ـ

ومن هنا يتبين لنا أن كل تلك الحقوق أو الحريات الايجابية متكاملة ولازمة لتطور الإنسان كما هي لازمة لتطور المجتمع ، وهي لا تجتمع - بحكم قانون الجدل الحتمي ـ إلا محدودة في مداها طبقا لترتيب الحركة الجدلية نفسها ، أي طبقا لذات قانون الجدل الذي هو مصدرها ، إذ هي ضرورة له .

وهكذا يرسم" جدل الإنسان" حدودا واضحة لحقوق الإنسان وللديمقراطية .

فما الديمقراطية ؟

إن القول الدارج بأن " الديمقراطية " حكم الشعب بالشعب لمصلحة الشعب ، قول خاطئ ومضلل ومتناقض ، الجرس اللفظي كل ما فيه من إغراء .

فحكم الشعب يعني أن يكون الشعب محكوما ، أي أن تكون له حكومة ، وهذا ليس جديدا على الشعوب حرة كانت أو مستبدة ، وليس مقصورا على الديمقراطية . ان الحكومات الدكتاتورية أكثر الحكومات تعبيرا عن ذاتها ، وإرهاقا للشعوب إثباتا لوجودها . ومنذ أن انقرض وهم الإنسان الذي لا مجتمع له من أمثال " حي بن يقظان" لم يعد من الممكن توهم وجود شعب بدون ذلك الجهاز الذي يقوم على شؤونه ، قسرا أو اختيارا ، والذي سمي أخيرا " حكومة " وبه أصبح حكم الشعب غير ذي دلالة خاصة ديمقراطية أو غير ديمقراطية .

والحكم بالشعب لا يعني أن الشعب حاكم على أية صورة ولو بالمشاركة غير المباشرة . وقد يعني اتخاذ الشعب أداة للحكم به ، وليس في هذا دلالة ديمقراطية على أي وجه كان فهمنا للديمقراطية . فاتخاذ الشعب أداة للوصول الى الحكم أو للحكم لا تعني حتما أنها أداة واعية مريدة تحقق لها بهذا ما أرادت أن يكون ، بل لعل العكس أن يكون متفقا مع السلبية الخاملة التي تعبر عنها كلمة أداة ؛ يحكم بها من يستطع أن يفرض إرادته فيحكم . وفى التطبيق ، قدم لنا المستبدون في الأرض وفي التاريخ ، نماذج ذكية ذكاء مستبدا من الحكم بالشعب دون أن يزيد الشعب عن كونه مطية مغلوبة على أمرها ، تزين وتطهم ثم تساق في طرق مرسومة لها لا تحيد عنها خشية السياط  في يد الذي يتقدم بها . . . ولكن عليها .

والحكم لمصلحة الشعب يخلق أو يختلق مبررات الديمقراطية أو الدكتاتورية طبقا لما يدور في وهم الحاكمين أو القادرين على الحكم من أنه مصلحة الشعب ، مخلصين فى هذا أو مخادعين ، ويترك مجالا مخيفا للسيطرة على الشعب بحجة تحقيق مصلحته . ويعني أيضا أن الديمقراطية ذاتها لا تمثل مصلحة للشعب ، وأنها لا تطلب لذاتها ولكن توسلا بها إلى مصلحة أخرى ، فإن تحققت تلك المصلحة عن غير طريق الديمقراطية ، فقدت الديمقراطية قيمتها المستعارة من غيرها ، وهو قول ينطوي على نية مبيتة لإهدار الديمقراطية .

" ان الشعوب لا تعرف مصلحتها " . تلك حجة المستبدين فى أركان الأرض جميعا . وإذا كان أي حاكم يستطيع أن يدعي أنه يحكم الشعب ، بالشعب ، لمصلحة الشعب ، فلأن هذا القول فارغ من أي مضمون تتميز به الديمقراطية عن غيرها من أساليب الحكم ، فهذا كما يكون شعارا للديمقراطية يكون شعارا للديكتاتورية سواء بسواء ، لا يتضمن تمييزا بين هذي وتلك  .

وإننا لنعرف كيف أصبح هذا الشعار دارجا على الألسن وفي الكتابات . أنه يمثل فلسفة في الحرية وفي الديمقراطية سادت في الفكر والتطبيق قرونا من الزمان . إن الديمقراطية التي هي حكم الشعب بالشعب لمصلحة الشعب " ، تمثل الشعار الرأسمالي للديمقراطية ٠ وأهم مأ يميزه ويجعله معبرا عن هذا النظام أنه تركيب لفظي ينطوي في ذاته على احتمالات استغلاله وإهداره ، وتلك مميزات الأفكار التي قام عليها النظام الرأسمالي . والواقع ان الأساس الفردي لفلسفة النظام الرأسمالي يحول دون أن يقدم هذا النظام مفهوماً حقيقيا للديمقراطية .

فنحن نعرفأن الأساس الفكري للنظام الرأسمالي هو أن للفرد الحق المطلق ، الطبيعي ، في تحقيق مصالحه الخاصة بطرقه الخاصة ، وأن مصلحة المجموع ستتحقق حتما ، وطبيعياً ، وتلقائيا ، دون تدخل أو توجيه ، من خلال تحقيق كل فرد مصلحته الخاصة . فالأنانية بمعانيها  : القانوني ، والاجتماعي ، والأخلاقي ، هي أساس الحياة الرأسمالية . هذا في حين أن أبسط مظاهر الديمقراطية في الشكل أن تكون تنظيما جماعيا يلتزم فيه الفرد برأي المجموع . فإذا أخذنا في الاعتبار ان الآراء تعبير عن مصالح ، مادية أو غير مادية ، فإن الديمقراطية تنطوي على سيادة مصلحة المجموع على مصلحة الفرد ، أي أنها قائمة على أساس فكري جماعي . ولا شك في أن التناقض هنا واضح بين الأساس الفردي للرأسمالية والأساس الجماعي للديمقراطية . فالحرية الفردية المقدسة التي انطلق منها النظام الرأسمالي توهم الفرد بأن له حقا حتى في الإفلات من المجتمع الذي ينتمي اليه وتحديه ، لذلك تعرف الرأسمالية أنواعا غريبة من"الحرية" : كحرية الرجعية ، والسلبية ، واللامبالاة ، والتخريب ، والاستغلال ، وتعرف أيضا حرية الموت والجوع والعري والتشرد والانتحار، فكلها تمثل الاختيار الإرادي للفرد الذي لا ينبغي أن يرد عنه حتى يظل حرا . فليكن ما تريد الرأسمالية ، ولكن أين كل هذا من الديمقراطية ؟ الديمقراطية لا تعرف سوى الشعوب التي يجب أن تنظم إدارة مصالحها المشتركة على وجه يحقق مصلحة الأغلبية . إن كلمة الأغلبية هذه التي تكمن وراء أي مفهوم ديمقراطي هي التي تقلق الاستقرار المنطقي في الرأسمالية ، لأنها تتضمن انتقاصا من حرية العمل" للأقلية " حتما ، وفلسفة الحرية الفردية في الرأسمالية لا تطيق هذا الانتقاص .

وقد قدمت لنا الرأسمالية في تاريخها الطويل ، ومحاولاتها حل هذا التناقض ، كل ما يخطر على البال من أساليب الحكم والتمثيل والانتخاب ، وعرفنا أشكالا شتى من التنظيم الديمقراطي تذخر بها الدساتير وتجري فيها اختبارات الطلبة في كليات الحقوق . ثم توهمت أنها قد حلت ذلك التناقض بالشكل الديمقراطي ؛ بأن يكون الانتخاب العام المتروك للتقدير الفردي أسلوب الحياة السياسية ، أسلوب الديمقراطية  :

بشرط ألا يؤدي هذا الأسلوب الى الحد من جموح المصالح الفردية أو مصالح الأقلية . وكان لا بد ، لكي تعبر آراء الأغلبية عن مصالح الأقلية ، من أن تزيف المصالح أو تزيف الآراء ، أو تزيف الحياة كلها . وقد فعلت الرأسمالية كل هذا عن طريق الإكراه . عن طريق استعمال المقدرة الاقتصادية والتحكم في الأرزاق وإكراه الكادحين من أغلبية الشعب على أن يكون خيارهم بين الجوع أو التصويت في اتجاه غايات المتسلطين على أرزاقهم . عن طريق أن يكون الناخبون أغلبية الشعب ، وان يكون التمثيل مقصورا على السادة القادرين على الإنفاق على المعارك الانتخابية . وهكذا كانت الأشكال الديمقراطية في الرأسمالية فارغة من أي مضمون ديمقراطي . كانت " حكم الشعب بالشعب لمصلحة الشعب " كما يقدرها سادة الشعب .

كان فراغ الشكل الديمقراطي في النظام الرأسمالي من مضمون ديمقراطي هو الذي أبقى الديمقراطية سمة المشكلة التي لا تزال في حاجة الى حل . لقد حلت الإنسانية ملايين المشكلات بدون تضحية . واختبرت ثم اختارت ثم أكدت ملايين الأفكار في سلام . وبلورت ملايين المفاهيم وإحالتها الى بدهيات دون أن تسفك نقطة دم واحدة . ومع دلك فإن المشكلة التي بذلت البشرية من أجلها أغلى التضحيات ، ودفعت ثمنها أجيالا كاملة عبر التاريخ لا تزال قائمة لم تحل .

لقد عاشت الإنسانية قرونا تخدرها الخدعة الرأسمالية ، فلما أن تكفلت الممارسة بالكشف عن الفراغ الديمقراطي في الرأسمالية ، جذب الفراغ إليه عشرات من النظريات والآراء .

أهم تلك الآراء أو النظريات ، الديمقراطية في الماركسية . وقد كانت نقطة انطلاق تفكير ماركس في تحليل النظام الرأسمالي والانتهاء به إلى مصيره المحتوم ، قبول النظام الرأسمالي كما هو بكل قوانينه وقواعده وقيمه ؛ فهو منحدر حتما عن طريق ذات القوانين والقواعد والقدم إلى حيث تدفنه الطبقة العاملة بقيادة الحزب الشيوعي . والى أن يدفن ، فإن دور الطبقة العاملة وطليعتها ( الحزب الشيوعي) أن تدفع بهذا النظام ليقطع أجله في أقل وقت ممكن . أما المناقشة حول الشكل الديمقراطي قبل تحقق الشيوعية ، أو محاولة تحقيق مضمون ديمقراطي في عالم البرجوازية فهو وهم وتضليل ؛ لأن " علاقات الإنتاج في النظام الرأسمالي لا يمكن أن تسمح بديمقراطية غير هذه التي يعرفها البورجوازيون .

والجدلية المادية - مذهب ماركس - تعتبر كل الأفكار والنظم السياسية والقانونية انعكاسا متفقا للواقع المادي ، فاعتبر ماركس أن كل الحريات - بما فيها حرية الانتخاب - السائدة في النظام الرأسمالي من ابتكار الفكر الرأسمالي الخبيث لتأكيد مصالحه وأن مصيرها الى الزوال بمجرد سحق البرجوازية . والدولة نفسها في المجتمعات الرأسمالية ليست الا خادما للرأسماليين يجب القضاء عليها معهم . قال لينين فيما كتبه عن الدولة إن فكرة ماركس هي أن الطبقة العاملة يجب أن تحطم وتدمر جهاز الدولة القائم تماما ، وألا تكتفي بالاستيلاء عليه " . والبديل عن كل هذا ، البديل عن حرية الانتخابات العامة ... أن ينظم العمال أنفسهم في " طبقة " تكافح أعداءها ، وتدمر النظام السياسي ، وتستولي على الحكم . قال ماركس في البيان الشيوعي " : " لا شك فى أن غاية الشيوعية إلغاء . . . الحرية البرجوازية " .

وبعد ؟

لقد حكم ماركس على الديمقراطية " البرجوازية " ، أي على الشكل الديمقراطي بأن يقبر مع الرأسمالية . فليكن . ولكن ماذا ترك للمضطهدين بعد أن أصبحوا سادة قوى الإنتاج ؟ كيف يكون التنظيم الديمقراطي :

(١) داخل الحزب الشيوعي

(٢) داخل الطبقة العاملة.

(٣) داخل المجتمع الشيوعي.

عبثا نحاول ان نجد في كتابات ماركس أو انجلز مفهوما محددا للديمقراطية يميزه على أي وجه عن الفراغ الرأسمالي ، ولكن نجد بديلا عنها " ديكتاتورية للبروليتاريا " . و " ديكتاتورية البروليتاريا " تفترض اللجوء الى عنف صارم لا هوادة فيه ، سريع حازم ، " وجوهرها ؛ الرئيسي يكمن في روح التنظيم والنظام والطاعة " كما قال لينين .

إذن فالشكل التنظيمي الذي جاء به ماركس ليملأ الفراغ الديمقراطي في الرأسمالية بعد انهيارها ، هو " ديكتاتورية البروليتاريا " . أي ديكتاتورية الطبقة العاملة . على من ؟ على من ليسوا من الطبقة العاملة . عندئذ لا يكون هذا الشكل منطويا على أدنى مفاهيم الديمقراطية إلا في مجتمع أغلبيته من الطبقة العاملة . ولكن ، حيث لا تمثل " الطبقة العاملة " إلا جزءا من الشعب دون الأغلبية لا يمكن أن يقال إن" ديكتاتوريتها" تنطوي ولا حتى على أمل ديمقراطي .

فلم تكن الديكتاتورية قط طريقا الى الديمقراطية .

ومن ناحية أخرى ، لا تمارس " الطبقة العاملة " في الماركسية سلطاتها بنفسها . والواقع أن هذا مستحيل ؛ إذ أن " الطبقة العاملة " ليست شخصا طبيعيا حتى يمكن أن يمارس سلطاته . وفي الماركسية تناط الممارسة الفعلية لديكتاتورية البروليتاريا بالحزب الشيوعي قائدها وطليعتها ، الذي يمثل " التنظيم والنظام والطاعة " . ومن خلال " التنظيم والنظام والطاعة " يعهد الحزب الشيوعي بسلطاته إلى لجنته المركزية التي ينوب عنها في الممارسة سكرتيرها الأول ، وهكذا يتطور الأمر وتنزلق " ديكتاتورية البروليتاريا " المنسوبة الى الطبقة العاملة ، على مستويات " التنظيم والنظام والطاعة " من الطبقة العاملة الى الحزب إلى لجنته المركزية لتستقر أخيرا في يد فرد .

وان ستالين على ذلك لشهيد .

يقال عادة إن ديكتاتورية البروليتاريا موجهة ضد أعداء الطبقة العاملة وطالما أن البروليتاريا بحاجة الى دولة فإن الدولة لن تكون من أجل الحرية بل لتحطيم أعدائها  كما قال انجلز ، فهي إذن " السلطة التي تعتمد على القوة اعتمادا مباشرا " . بغية سحق مقاومة المستثمرين الرأسماليين والمالكين العقارات وأذنابهم " كما قال لينين فى مقاله " تحية إلى عمال المجر" ويتركون للاستنتاج المنطقي أن يظن الديمقراطية داخل الطبقة العاملة أو داخل الحزب الذي يمثلها . وحتى لو افترضنا افتراضا أن ثمة في الواقع ما يسمح بهذا الظن فهي ديمقراطية شكلية أيضا . فعندما تكون الديمقراطية دائرة مغلقة فإن الخوف من الخروج أو الإخراج من هذه الدائرة يحيل الداخلين فيها عبيداً كالخارجين عنها . ان المستبدين هم أكثر الناس خوفا ؛ إذ أن أشد ما يرعب أعضاه الأقلية الديكتاتورية هو أن ينتقلوا إلى صفوف المضطهدين . وليس هذا الرعب نفسه إلا نوعاً بشعاً من الاضطهاد . وكلاهما يشل إرادة الإنسان ، ويجرد الحياة من أي مفهوم ديمقراطي .

وإلا فما الذي أسكت خرتشوف عن ستالين حتى المؤتمر العشرين ؟

إنها رؤوس الرفاق الطائرة .

غير أن الأمر قد تغير فيما يبدو ، وبلغ تراجع الماركسيين السوفييت عن فكرة ديكتاتورية البروليتاريا حد إسقاطها . ففي البدء قال ماركس في " نقد منهج جوتا " : " بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي تقوم مرحلة ثورية التحول من الواحد الى الآخر - تصاحب هذا أيضا فترة تحول سياسي لا يمكن أن تكون الدولة خلالها إلا الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا .

وقال انجلز فيما كتبه " ضد دهرنج " : " تستولي الطبقة العاملة على سلطة الدولة وتحول أدوات الإنتاج منذ اللحظة الأولى الى ملكية الدولة ولكن بهذا تضع نهايتها كطبقة عاملة ... ان العمل الوحيد الذي تقوم به الدولة كممثل حقيقي للمجتمع ككل ، وهو الاستيلاء على أدوات الإنتاج باسم المجتمع ، تفقد به في الوقت ذاته آخر عمل خاص بها كدولة - وقال لينبن فيما كتبه بعنوان " مهام البروليتاريا في ثورتنا " : " إن الديمقراطية شكل من أشكال الدولة  بينما نحن الماركسيين ضد كل ، وأي ، نوع من أنواع الدولة .

على هذا الوجه كان مؤسسو الماركسية يعرفون ديكتاتورية البروليتاريا كدولة ثورية رادعة مهمتها أن تحول المجتمع الرأسمالي الى المجتمع الشيوعي ، ثم تنتهي وتزول بمجرد القضاء على الاستغلال الطبقي والاستيلاء على أدوات الإنتاج . وهي وجهة نظر متفقة تماما مع منطق الجدلية المادية حيث يتحول المجتمع الرأسمالي " طفرة " الى مجتمع مختلف نوعيا هو المجتمع الشيوعي . ولم يعرف ماركس الاشتراكية التي أصبحت كلمة دارجة في كتابات الماركسيين ، وإنما عرفها لينبن فقال انها " المرحلة الدنيا من الشيوعية" . المهم أنه طبقا للماركسية تقوم دولة ديكتاتورية البروليتاريا لسحق البرجوازية وتظل قائمة حتى تصفى جميع الطبقات المستغلة ، عندئذ تزول دولة الديكتاتورية البروليتارية : دولة وحزبا وطبقة كما قال انجلز . لذلك لا يكون مفهوما طبقا لقواعد الماركسية أن تظل الدولة قائمة دون أن تكون ديكتاتورية البروليتاريا .

إلا أن مؤلفي " أسس الماركسية ـ اللينينية " يقولون غير هذا ، مع ملاحظة أنهم يستعملون كلمة " الاشتراكية " بدلا من كلمة " الشيوعية " ، قالوا : " لقد بدأت النظرية الماركسية ـ اللينينية دائما من حقيقة هي أن ديكتاتورية البروليتاريا أداة تحول تاريخي ولازمة فقط خلال فترة التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية . أما عن التغييرات التي تتبع انتصار الاشتراكية ، وما تكون عليه طبيعة وظيفة الدولة الاشتراكية عندئذ ، فإن هذه الأسئلة الهامة لم يكن من الممكن الإجابة عنها إلا فيما بعد على أساس حصيلة التجربة التاريخية . وهذا ما أنجزه برنامج الحزب الشيوعي السوفييتي الذي أقره المؤتمر الثاني والعشرون ، أي برنامج الحزب الذي تم بناء الاشتراكية تحت قيادته لآول مرة . فعلى أساس تجربته التاريخية الغنية قدم الحزب الشيوعي السوفييتي إضافة أساسية وهامة للنظرية الماركسية اللينينية ، هي أن ديكتاتورية البروليتاريا تصبح غير لازمة قبل الوقت الذي تزول فيه الدولة .. قال : " إن الدولة التي قامت كدولة ديكتاتورية البروليتاريا قد أصبحت في المرحلة المعاصرة الجديدة دولة كل الشعب ، أي جهازا يعبر عن مصالح  وإرادة الشعب ككل " .

ويثير هذا التراجع الماركسيين الصينيين فيوجهون الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي سؤالا صريحاً ( خطاب ٢٩ فبراير ١٩٦٤ ) هو هل يجب على الدولة الاشتراكية أن تحتفظ وتدعم ديكتاتورية البروليتاريا أو يجب عليها أن تستعمل ذلك الذي يقال له دولة كل الشعب ، وذلك الذي يقال له حزب كل الشعب لتمهيد الطريق لعودة الرأسمالية ؟ " . ويقول الصينيون في رسالتهم تلك إن الإجابة لا تحتمل اللبس . وهي كذلك . فطبقا للنظرية الماركسية لا بد أن تظل ديكتاتورية البروليتاريا قائمة إلى أن تتحقق الشيوعية ، وهي لا تزول إلا بزوال الدولة .

ذلك هو منطق النظرية .

أما ما يقوله السوفييت فهو منطق " المرحلة المعاصرة الجديدة " . منطق " خبرة الاتحاد السوفييتي والديمقراطيات الشعبية وكذلك خبرة الطبقة العاملة " التي أثبتت كما يقول مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية " :

لكي يعبر الشعب العامل عن إرادته في السلام ومعارضة التحضير للحرب ، يجب أن يكون له حق التظاهر والتجمع والاجتماع والنشر ... الخ . ولكي يستطيع أن يؤثر في الحكومة يجب أن يكون له ممثلوه في البرلمان . ولكي يحمي استقلاله الوطني وسيادته حماية فعالة يحتاج الى قدر من الديمقراطية حتى تستطيع الجماهير أن تعلن إرادتها أو أن تصر على مطالبها " .

و " إن الحصول على أغلبية برلمانية صلبة معتمدة على الحركة الجماهيرية الثورية للطبقة العاملة وحلفائها ممكن أن يخلق الظروف لإحداث تحولات اشتراكية جذرية .

و " ان الجهاز التقليدي للديمقراطية البورجوازية ( البرلمانية ) ممكن أن يتحول إلى أداة حقيقية لإرادة الشعب .

وأكثر من هذا وأهم : " يقول المراجعون إن النظام البرلماني يفترض وجود نظام تعدد الأحزاب ووجود معارضة وان ديكتاتورية البروليتاريا تستبعد هذا تماما ... لقد أثبتت خبرة الديمقراطيات الشعبية فعلا أنه من الممكن الاحتفاظ بنظام تعدد الأحزاب خلال فترة البناء الاشتراكي" .

كل هذا حسن ، لولا أنهم قالوا أخيرا : " من المفهوم ... أن الديمقراطية الاشتراكية ليست ديمقراطية بدون اتجاه بل ديمقراطية موجهة " . من الذي يوجهها ؟ ." يوجهها الحزب والدولة " . إلى أين ؟ " إلى مزيد من التطور إلى الاشتراكية وبناء الشيوعية " .

حزب من ؟ الحزب الشيوعي .

دولة من ؟ ديكتاتورية البروليتاريا .

وهكذا يتخبط الماركسيون بين نظرية عاجزة وتجربة بدون نظرية . وليس أكثر من " النظرية الديكتاتورية " خطراً على الحرية والديمقراطية إلا " الديكتاتورية بدون نظرية " .

ـ 17 ـ

أقسى ، وأصدق ، تعبير عن محنة الديمقراطية أن كل نظام في الأرض يدعيها ويستطيع أن يخلق لها تفسيرا يبرر ما يدعي . ولما أن تتعدد المفاهيم للتعبير الواحد يفتح باب التضليل على مصراعيه .

فما العمل ؟

هل تبقى المشكلة قائمة بلا حل ؟

أبدا . ان المشكلات لا بد أن تحل . قد يكون الحل ناقصا ، ولكن هذا لا يعني سوى ضرورة بذل مزيد من الجهود الجادة لإيجاد الحل الكامل . وإذا كانت الرأسمالية والماركسية قد فشلتا في إرساء الديمقراطية على أسس سليمة نظريا وتطبيقيا ، فإن لنا في هذا فرصة إبداع الحلول التي تتناسب مع مشكلة الديمقراطية كما يطرحها مجتمعنا العربي . لقد قضينا أربعة عشر قرنا في ظل الحضارة الإسلامية تمجد حرية الإنسان ، فلم تكن الحرية يوما محل شك أو إنكار، ومع هذا فليس لنا ، في الوطن العربي تقاليد ديمقراطية جامدة ، نظريا أو تطبيقيا ، أي لنا الحرية الكاملة في أن نبدأ حياتنا الديمقراطية من البداية ، دون عبء من تراث الماضي ودون تعصب موروث .

والبداية ـ قبل التطبيق - هي النظرية .

وقد عرفنا من " جدل الإنسان " كيف يتطور الإنسان عن طريق الجدل الفردي وقلنا إن حرية الإنسان هي تطوره ، وانها منضبطة بقانون الجدل ذاته . وعرفنا كيف يتطور المجتمع عن طريق الجدل الاجتماعي . ونقول ان حرية الإنسان في المجتمع هي تطوره فيه ، وانها منضبطة بقانون الجدل أيضا ، وبذلك تكون الديمقراطية هي نظام الجدل الاجتماعي . هي أسلوب الشعب في (١) إدراك مشكلاته (٢) حل تلك المشكلات (٣) تنفيذ الحل بالعمل . وقلنا إن الوجود شرط التطور، وان سلامة وجود المجتمع شرط للجدل الاجتماعي .

من هذه النقطة الأخيرة ، يصبح الحديث عن الديمقراطية في مجتمع مستعمر أو ممزق حديث خرافة ، فالاستفتاء على قبول الاستعمار أو رفضه ، والاستفتاء على وحدة المجتمع الواحد أو تجزئته ، تضليل باسم الديمقراطية وليس ديمقراطية .

فإذا انتقلنا إلى داخل المجتمع الحر الواحد ، كان حتما أن يقوم أي نظام ديمقراطي على أسس ثلاثة يحددها ويحدد علاقاتها معا قانون الجدل ذاته :

فإذ يبدأ التطور الاجتماعي بالمعرفة المشتركة للمشكلات المشتركة ، تتوقف قيمة أي تنظيم للتطور على مدى صحة معرفة الجميع بمشكلات حياتهم . ولا تمكن معرفة المشكلات - المشتركة أو الفردية ـ إلا عن طريق تعبير الناس عنها . لهذا يكون الأساس الأول للديمقراطية حرية التعبير والشكوى والعلم بمشكلات الناس دون قيد . وكلما استطاع كل إنسان في المجتمع أن يعبر عن ألامه ، وكلما كانت إمكانيات تبادل المعرفة بالآلام أوسع وأشمل كان من الممكن إدراك المشكلات إدراكا صحيحا . ولهذا وجهان وجه سلبي يتمثل في دفع أسباب الخوف عن الإنسان ، ووجه ايجابي يتمثل في أن تطرح جميع المشكلات وأراء الناس كما هي بدون تزييف أو تشويه ، وأن يكون في مقدور أي إنسان في المجتمع أن يقول ما يريد وأن يعلم ما يريد ، دون خوف أو تضليل .

هذي أول حركة في الجدل الاجتماعي ، والأساس الأول في الديمقراطية ، قبل أن تصبح تنظيما للاستفتاء والانتخابات ومجالس تنعقد وتناقش وتنفض . وبدونها يصبح أي شكل ديمقراطي فارغاً من أي مضمون حقيقي . لهذا لا يمكن - مثلا - الحديث عن الديمقراطية في ظل النظام الرأسمالي حيث يعيش العاملون في خوف دائماً على أرزاقهم اليومية ، وحيث تنفق الملايين لإخفاء الحقائق وتضليل الناس ، عن طريق احتكار الصحف ودور النشر والإعلام ، والدعاية المنظمة لتزييف كل حقيقة . كما لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل " ديكتاتورية البروليتاريا " حيث الجزاء الرادع لكل من يقول غير ما يراد له أن يقول ، وحيث لا يعلم الناس إلا ما يراد لهم أن يعلموا ، عن طريق واحد يحدد القول والمعرفة هو الحزب الشيوعي ، أو لجنته المركزية ، أو سكرتيرها الأول ، وفي غير هاتين ، وحيثما خاف الناس من أن يقولوا ما يحسونه ، وحيل بينهم وبين أن يعرفوا ما يعانيه الآخرون ، يصبح إدراك المشكلات إدراكا صحيحا مستحيلا ، ويصبح التطورمنطلقا من مشكلات الناس كما يتصورها أفراد أو مجموعة منهم ، ويصبح تنظيم الخائفين المضللين وحشرهم ، ليسمعوا من غيرهم تشخيصا لمشكلاتهم وحلولا لها ، تبريرا للاستبداد وليس من الديمقراطية فى شيء .

وإذ تطرح مشكلات كل الناس ، كما يحسها الناس أنفسهم ، ونعرف من خلالها أين التناقض بين ماضي المجتمع ومستقبله ، أو بين ظروفه ، واحتياجاته ، تتحدد المشكلات العامة ( على المستوى الرأسي للمجتمع ، أي التي يعاني منها الناس جميعا) والمشكلات الخاصة ( على المستوى الأفقي للمجتمع ، أي المشكلات الفردية او مشكلات قطاع من الناس ... الخ ) والمشكلات الملحة ( في اتجاه التطور ، أي التي يكون حلها شرطا لحل ما يليها من مشكلات ) ، وتبدأ الحركة الثانية في الجدل الاجتماعي البحث عن حل . وهنا أيضا لا بد أن تطرح كل الحلول . فقد قلنا إن الإنسان جدلي حتما ، وإن له دائما حلولا لمشكلاته ، لهذا لا يمكن الوصول الى الحل الصحيح بتجاهل الحلول التي يضعها الناس على أساس معرفتهم مشكلاتهم ، وما يتطلعون اليه من مستقبلهم . ولما كان الحل الصحيح هو ما يرضي حاجات الناس جميعا ، أي ما يتضمن كافة الحلول الفردية ، فإن الوصول اليه يقتضي أولا معرفة الحلول التي كونها الناس ، أي تبادل الرأي بين الناس ، بدون قيد ، ثم تفاعل هذه الحلول خلال الجدل الاجتماعي ليكمل بعضها بعضا ويغتي بعضها بعضا ، لتنتهي الى حلول جماعية محددة .

إلى هنا تكلمنا عن مشكلات " كل الناس " وحلول " كل الناس " وقلنا إن معرفتها وتبادلها ونضجها خلال الجدل الاجتماعي أسس ديمقراطية ، لا تقوم الديمقراطية الا عليها ؛ ذلك لأن الديمقراطية إذ تكون " أسلوب الشعب في حل مشكلاته ، أو أسلوب تطوره لا بد أن تنطلق من مشكلات " كل واحد " من الشعب ، أي كل إنسان ينتمي الى الشعب ، لا تفرق بين إنسان وإنسان على أية قاعدة من التفرقة : لا تفرقة على أساس من الدين ، أو اللغة ، أو المهنة ، أو التعليم ...إلخ . ان الناس في آلام المشكلات سواء . ولا تمكن معرفة ما إذا كانت المشكلات عامة أو خاصة ، ملحة أم غير ملحة ، إلا إذا طرح كل واحد مشكلاته أولا ، إلا إذا عبر كل واحد عن الحل الذي يرضيه .

غير أننا عندما ننتقل الى الحركة الأخيرة من التطور الجدلي ، أي تنفيذ الحل بالجدل ، لا بد من أن يطبق حل واحد إذا تعددت الحلول . ولا شك في انه طبقا للقوانين الموضوعية للجدل الاجتماعي لا يؤثر اختلاف الناس في المشكلة ، في أن لكل مشكلة حقيقة واحدة . ولا يؤثر اختلافهم في الرأي ، في أن للمشكلة الواحدة حلا صحيحا واحدا في الظروف الواحدة . واختلاف الرأي في المشكلة أو الحل ، لا يدل الا على أن المشكلة وحلها غير معروفين معرفة علمية صحيحة للجميع ، ولا يمكن تخطي هذا ، إلا بمزيد من حرية المعرفة وحرية الرأي ؛ بمزيد من الجدل الاجتماعي . لكن المشكلات لا بد أن تحل في زمان معين فإن التطور لا يقف - عندئذ تثور مشكلة أي الحلول ينقذ باًلعمل . ولا مقياس للاختيار هنا ـ ديمقراطيا - الا بتطبيق الحل الذي يرضي حاجة " الأغلبية " من الناس ، أي بحل" العدد الأكبر" من المشكلات عن طريق" عمل كل الناس " . وعمل " كل " الناس ذو أهمية خاصة في مفهوم الحرية طبقا لجدل الإنسان ، إذ أن ضرورته كحركة أخيرة في الجدل الاجتماعي ، تجرد الأقلية - صاحبة حرية الرأي - من حرية عرقلة تنفيذ رأي الأغلبية ولو سلبيا . وإذا كان هذا لا يعجب الأقلية فإن طريقها أن تمارس حرية الرأي لكي تنقل وعيها المشكلة ورأيها في الحل الى الأغلبية ، ولكن ليس من حقها أن توقف التطور بتعطيل الحلول وتنفيذها الى أن تحصل لرأيها على أغلبية الناس .

على هذا تكون" الديمقراطية "- طبقا لجدل الإنسان - هي أسلوب المجتمعات الحرة في حل مشكلاتها . أي أسلوب المجتمعات الحرة في التطور على أساس من قانون الجدل الاجتماعي  : حرية الرأي للجميع ، حرية العقيدة للجميع . عمل الجميع في تنفيذ رأي الأغلبية .

ـ 18 ـ

بهذا تكون" الديمقراطية" نظاما للحياة ، وليست نظاما للاستفتاء والانتخاب والحكم  ، وتكون نظاما حتميا للتطور لأن جدل الإنسان في المجتمع ، أو الجدل الاجتماعي ، قانون حتمي يضبط حركة تطور المجتمعات . وعلى ضوء هذا المضمون الحي للديمقراطية يتحدد الشكل الديمقراطي وعلاقته بمضمونه .

فالمضمون الديمقراطي هو الأصل ، والشكل تعبير عنه لا يجوز أن يضغط عليه أو يلغيه . وذا كنا قد عرفنا الديمقراطية بأنها أسلوب المجتمعات في حل مشكلاتها فإن شكل الأسلوب يجب أن يكون مقيدا بحل المشكلات : أن يضمن حرية الرأي والمناقشة للجميع ، ويضمن حرية العمل للأغلبية .

غير أنه - من ناحية أخرى - لا يمكن أن تكون ثمة ديمقراطية بدون شكل ا وتنظيم ؛ لأن الشكل أي التعبير الظاهر المادي هو الدليل الوحيد على أن هناك ديمقراطية . فبدون تنظيم ديمقراطي لا توجد ديمقراطية ولو كان الشعب كله من الفلاسفة الصالحين .

فإذا كان الأساس الأول للديمقراطية - كما قلنا - حرية تبادل المعرفة بالمشكلات ، فلا يمكن أن يتم تبادل تلك المعرفة أي التفاعل الجماعي للآراء الفردية إلا داخل نظام ييسر للناس أن يجتمعوا وأن يتبادلوا الرأي ، كتابة أو شفويا . وتعتبر التنظيمات الجماهيرية بكل ما تتضمنه من أجهزة في خدمة آراء أعضائها وبكل أنواعها واتساعها لكل الناس قمة الشكل الديمقراطي لحرية المعرفة  . كما تلعب وسائل التعبير والإعلام كالكتابة والخطابة والإذاعة والفنون دورا أساسيا في الحياة الديمقراطية بقدر ما تكون في خدمة كل الآراء . وبعد المعرفة بالمشكلات يأتي الحل ، كعنصر من عناصر" أسلوب المجتمع في حل مشكلاته " . لهذا لا يمكن أن توجد ديمقراطية إلا إذا أعلنت الآراء والمبادئ ، وعرضت على الشعب ليتحدد الحل الذي يحل أغلب المشكلات . ليتحدد حل الأغلبية . لا يغني عن هذا الشكل أن يكون في جيب كل واحد منا برنامج كامل للعمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، ولا يغني عنه أن يتصدى فرد أو أفراد قلائل لتخطيط الحلول ادعاء بأنهم أقدر على هذا من الشعب . ليس في هذا شيء من الديمقراطية . وعلى من يعتقد أن لديه حلا لمشكلات الشعب أن يقدم الدليل على صحة اعتقاده . والدليل المقبول - ديمقراطيا - أن يكون حله حلا لمشكلات الناس كلهم أو أغلبهم ، ولا طريق الى معرفة هذا الا بالرجوع الى الشعب نفسه .

أما كيف يكون التطبيق الديمقراطي ، أي ما هو الشكل الديمقراطي في زمان معين ومكان معين ، فلا قاعدة في هذا ، ولكن تختلف " كيفية" تبادل المعرفة وتبادل الرأي وتنفيذه بالعمل تبعا لاختلاف ظروف وإمكانيات كل مجتمع على حدة . إلا أنه يمكن القول بأنه منذ أن اختفت القبائل كوحدات اجتماعية ، والمدن كدويلات صغيرة ، أصبح من غير الممكن أن يتولى الشعب تنفيذ رأي الأغلبية بالعمل المباشر، وكان لا بد من أن يقوم به الجهاز الذي يتولى ـ عن الأغلبية - تنفيذ الحل الذي تراه ، وأن يكون له من السلطة القدر الكافي لمنع الأقلية من تعطيل التنفيذ . وتختلف أساليب اختيار الحكومة ومحاسبتها وإسقاطها ، ولكن يجب دائما أن تكون حكومة مختارة قابلة للمحاسبة وللإسقاط ، أما تحديد مشكلات الناس خلال التعبير الحر المجرد من الخوف ، وتبادل الرأي في الحلول التي يضعها الناس لمشكلاتهم ، فتلك مهمة " الشعب ومنظماته ، ليس للحكومة أن تعطله او تقيده أو تلغيه باسم الأغلبية . وبذلك نصل الى تعريف كامل للديمقراطية : فهي أسلوب المجتمع في حل مشكلاته وتنفيذ رأي الأغلبية بواسطة الحكومة .

ونفهم كل هذا فهما صحيحا ، في انضباطه على قانون الجدل ، وعلى معرفتنا السابقة بحدود حرية الإنسان . فالديمقراطية بكل عناصرها ، إذ هي نظام حرية الإنسان في المجتمع ، لا تقوم حيث لا تكون للإنسان حرية . فهي أسلوب التطور طبقا لحركة قانون الجدل ، وبالتالي ليست طريقا - مثلا - لإفلات الفرد من ظروفه ومجتمعه . وليست طريقا للإبقاء على الماضي ممتدا تلقائيا في المستقبل وتعطيل حل مشكلاته ؛ لأن تأثير الظروف والمجتمع في الإنسان ، واتجاه التطور من الماضي الى المستقبل ، لا يخضع لحرية الإنسان ولا حرية للإنسان فيه .

ـ 19 ـ     

الحرية للإنسان وحده ولكل إنسان . والديمقراطية أسلوب المجتمعات في التطور، في حل مشكلات الإنسان في المجتمع . كل إنسان جدلي ، وكل مجتمع متطور، حتما لأن الإنسان الفرد أو الإنسان في المجتمع ، لا يفلت من قانونه النوعي . وبعد هذا لا تستوي المشكلات في حدتها ، ولا تستوي الحلول في صحتها ، ولا تستوي المقدرة على العمل في كل مجتمع على حد واحد . كذلك لا يستوي الناس في قدرتهم على ممارسة الجدل : لا يستوون في الوعي الذي يدرك المشكلات إدراكا علميا على ضوء صلاتها بالماضي والمستقبل ، وعلاقتها بالظروف . ولا يستوون في معرفة الحلول على أساس من الفكر المنطقي والعلم الصحيح بقوانين التحول الطبيعي والتطور الإنساني . ثم لا يستوون ـ أخيرا - في المقدرة على العمل الفكري والنظري واليدوي بكل ما تتضمنه أنواع العمل من تخصصات وفرعيات ؛ أي لا يستوي الناس في قدرتهم الجدلية ، ولو أن كلهم جدليون . وقد يرجع العجز الجدلي أو التفوق الجدلي إلى أسباب بيولوجية أو فسيولوجية أو وراثية أو اجتماعية أو غيرها ، وقد يكون مؤقتا أو دائما بالنسبة الى فرد أو مجموعة من الإفراد ، غير أن هذا يرد على " مدى " القدرة على الجدل وليس على القدرة على الجدل ؛ فإن الإنسان جدلي حتما لا يعفيه من قانونه النوعي سوى الموت . ومن ناحية أخرى ، لا يتم التطور، ولا تحل المشكلات بغير طريق الجدل ، أي بغير حرية الإنسان ؛ لأن الجدل قانون التطور الحتمي ، وهو مقصور على الإنسان وحده . وبذلك يتوقف مدى قدرة المجتمعات على التطور عن طريق الجدل الاجتماعي ، على مدى نمو قدرة الأفراد في المجتمع على الجدل : على حريتهم ومدى قدرتهم على ممارسة تلك الحرية . ولما كانت المقدرة الجدلية السليمة متوقفة على صحة المعرفة العلمية للمشكلات وأسبابها ، وصحة المعرفة للحلول العلمية لتلك المشكلات ، والمقدرة على تنفيذ تلك الحلول بالعمل تنفيذا كاملا بما يتطلبه هذا من جهد بشري وأدوات صناعية وإمكانيات طبيعية ؛ فإن مدى تطور أي مجتمع يتوقف على مدى حرية الأفراد فيه ( حرية المعرفة ثم حرية الرأي ثم حرية العمل ) وشمول هذه الحرية كل المشكلات وكل الحلول وكل أنواع العمل . والطريق - الذي لا طريق غيره ـ لنمو قدرة الإنسان في هذا المجتمع على الجدل ، أن ينمو وعيه يصقل رأيه ويعمل ، أي مزيد من الحرية . وهكذا تصبح الديمقراطية ، وممارستها على أوسع نطاق ، الطريق الوحيد الى التطور السليم  (المعرفة الصحيحة للمشكلات ، والمعرفة العلمية للحلول ، والعمل المثمر الذي يحل مشكلات الناس) . فلا وجه إذن لضيق المتفوقين في الجدل : القادرين على الإحاطة بالمشكلات ومعرفتها معرفة صحيحة ، وإيجاد الحلول العلمية لها ، والقادرين على العمل ، بالذين لا يعون المشكلات وعيا صحيحا ، ولا يعرفون حلولها العلمية ، ولا يقدرون على العمل الذي يتطلبه الحل ؛ لأن ضعف المقدرة على الجدل الاجتماعي ، مشكلة المشكلات في أي مجتمع لا تجد مشكلاته حلولها الصحيحة ، ولا القادرين على تنفيذ تلك الحلول بالعمل . فإذا لم يدرك الذين يدعون التفوق الجدلي هذه المشكلة ويحلوها ، فإن مقدرتهم الجدلية تكون زعما مغرورا لا أساس له وإن أدركوها فإنها لا تحل بالمحاولة الفاشلة لتعطيل الجدل الاجتماعي ، بإلغاء الديمقراطية ، ولكن بنقل وعيهم الى الغافلين ، وعلمهم الى الجاهلين ، وبأن يكونوا طليعة العاملين . أي بمزيد من الحرية والديمقراطية . بمزيد من العلم والتوعية والممارسة .

وفي كل المجتمعات ، يوجد أولئك الطلائع . ولكنهم قد يختلفون في مدى قدرة كل منهم على كل حركة من حركات الجدل الثلاثة ، فمنهم القادر على إدراك المشكلات لأنه لصيق بالجماهير؛ غير مستعل طيهم قادر على فهم مشكلات حياتهم ، وقد تعوزه مع هذا الثقافة العلمية - الي تمكنه من معرفة الحل الصحيح . ومنهم المثقف المدرب ذهنيا على التفكير العلمي وقد تعوزه معرفة مشكلات الناس أو المقدرة على العمل ، فتضيع ثقافته في اصطناع حلول لمشكلات لا وجود لها . ومنهم القادر على التنفيذ ، ينطلق اليه من تصوره الشخصي للمشكلات منفذا ما يحلو له تنفيذه ، يحتج بالايجابية تبريرا للمغامرة ، وهو لا يدري أن الايجابية التي لا تكون تنفيذا لحل علمي لمشكلة معروفة معرفة صحيحة ، ايجابية مخربة ، حصيلتها النهائية أن تكون مشكلة يجب حلها . ولكي يمكن أن يكون أولئك الطلائع قوة اجتماعية يكمل بعضهم بعضا لا بد من أن يلتحموا فى جدل اجتماعي واسع يكمل به المدرك لمشكلات الناس ما ينقصه من الثقافة ، ويكمل به المثقف ما ينقصه من المعرفة بمشكلات الناس ، ويكمل به القادرون على العمل ما ينقصهم من معرفة المشكلات وطريقة حلها أي ـ مرة أخرى- لا بد من مزيد من الحرية والديمقراطية .

ولقد يوجد الإنسان الذي تتوافر له قدرة ممتازة على الجدل : إحساس عميق بمشكلات كل الناس ، وفهم صحيح لها ، وقدرة على التفكير العلمي ، وتفوق في المعرفة العلمية بالحلول الاجتماعية ، ثم مقدرة وشجاعة فذة على العمل الايجابي . عندئذ يوجد الزعيم . وآية زعامته أن يكون أكثر الناس في مجتمعه التصاقا بالناس وإدراكا لمشكلاتهم ، وأكثرهم مقدرة على إيجاد الحلول العلمية المؤسسة على معرفة صحيحة بقوانين التطور الإنساني ، وأكثرهم مقدرة على العمل تنفيذا للحل . وزعامته تلك ، تحول دون أن يفرض نفسه أو أن يقوم عقبة فى سبيل حرية الإنسان وتطوره عن طريق الديمقراطية ( الجدل الاجتماعي ) ؛ إنه عندئذ ينقلب الى ديكتاتور ويصبح نفسه مشكلة . إنما يظهر الزعماء خلال الممارسة الديمقراطية ، يقدمون من وعيهم وثقافتهم وبطولتهم الدليل على تفوقهم الجدلي ، فيرفعهم الناس إلى حيث يكونون أكثر فائدة للناس ، أي إلى قيادة التطور . إن أكثر الناس ديمقراطية لهم الزعماء .

لما كانت حرية الإنسان ، أو حريته في المجتمع ( الديمقراطية ) محكومة بقانون ، فإنها تكون أسلوب التطور حتما ، أيا كان محتوى المشكلة أو الحل أو نوع العمل الذي يحل المشكلة فقد قلنا من قبل إن حرية الإنسان في استخدام القوانين الحتمية ، ولا حرية له في أن يتجاهلها أو يعطلها أو في أن يخلق قوانين بدلا منها . ومؤدى هذه الحتمية أن تحدي الحرية والديمقراطية جهد فاشل ، إذ أن القوانين التي تحكم الحركة من الماضي الى المستقبل لا تخضع لإرادة إنسان ولا حرية لأحد فيها . وفي الجدل الفردي يحل الإنسان من مشكلاته ما يدركه ويستطيع حله ، ويختار محتويات جدله . قد تبقى بعض مشكلاته معلقة ، لا يعرف لها حلا صحيحا ، أو لا يقدر على تنفيذ الحل باًلعمل ، ولكنه يظل أبدا مشغولا يحل مشكلاته . كذلك يجري جدل الإنسان في المجتمع ، فتتغير محتويات الجدل والجدل قائم دائما . وكلما كانت الديمقراطية شاملة ، تحددت أكثر المشكلات حدة ، أي أعمق صراع بين الماضي والمستقبل ، وعرفت أسلم الحلول الممكنة علميا ، واتجه العمل الى حيث يجب أن يتجه ؛ يحل من المشكلات ما يعتبر حلها شرطا لحل غيرها في تتابعها في الزمان . وبحل المشكلات تبعا لحدتها يستقيم التطور على وجه أكثر فاعلية وسرعة ، لا يقفز الى المستقبل فيبقى تصورا ، ولا يتخلف عنه فتبقى المشكلات قائمة ، ولكن يلتقي عن طريق المعرفة العلمية الصحيحة ، بنقاط التقاء الماضي بالمستقبل ، يحل المشكلات التي تطرحها الظروف ـ فعلا - مختصرا فترات المعاناة والألم . ولما كانت المشكلات القابلة للحل ، هي التي تنشأ من نقطة التقاء الماضي بالمستقبل ، أي تكون قد نضجت خلال الصرع بينهما ، فإن الجهد الجدلي الذي يدور بعيدا عنها إما لعدم معرفتها ، أو لعدم إدراك حدتها ، أو لعدم معرفة حلها ، أو لعدم إمكانية تنفيذ الحل ، لا ينهي الصراع ولا ينتهي الى عمل مثمر . غير أن الحرية ومزيدا من الحرية ، والديمقراطية ومزيدا من الديمقراطية ، هما الطريق الى صقل تلك المقدرة الجدلية في الإنسان ، بحيث يستطيع أن يلتقي بما تطرحه ظروفه من مشكلات التقاء المدرب على معرفة الظروف ومواجهة مشكلاتها تدريبا مصدره الممارسة الديمقراطية . وخلاصة كل هذا ، أن الحرية والديمقراطية قانونا حل مشكلات الفرد والمجتمع ، لا خيار للإنسان في هذا ولا إرادة . لا بديل لهما ولا يستطيع الإنسان أن يجد لهما بديلا . وإنهما ككل القوانين قد يستعملان استعمالا خاطئا ، أي غير مؤسس على معرفة علمية صحيحة ، فلا يؤديان إلى أن تحل المشكلات فتبقى معلقة يعاني منها الإنسان ألم صراع الضدين في ذاته . وعلاج هذا ، أن نستعملهما استعمالا صحيحا ، بتحقيق شروط فاعليتهما ، لا أن نتجاهلهما أو نبتكر - من أوهامنا - أساليب أخرى لتطور الإنسان والمجتمعات . وشروطهما ـ كما رأينا ـ هي المعرفة الصحيحة بالمشكلات ، والحلول العلمية لها ، والعمل تنفيذا للحلول .

ـ 20 ـ

غير أنه قد تحدث محاولات لتعطيل قانون الجدل أو تطوير المجتمعات عن غير طريق الديمقراطية . وتكون وسيلة المستبدين في هذا اصطناع " نظم " شكلية تكبت فيها حرية الإنسان وتلغى بها الديمقراطية . مثل أولئك كمثل الذي يحبس البخار في المرجل ، متجاهلا قوانين الضغط الطبيعية إن نهاية هذا أن ينفجر المرجل لينطلق البخار، تحكم حركته قوانينه النوعية . فالحرية والديمقراطية ، إذ هما قانونا اندفاع الفرد والمجتمع من الماضي الى المستقبل ، لا يمكن تجاهلهما لأن الزمان لا يتوقف . فلا بد أن ينفجر الإطار، وتتحطم القيود ، ولا بد من أن يهدم الإنسان ، الذي لا حيلة له في أن يكون حرا ، سدود حريته ، وان تدرك الشعوب ، التي لا حيلة لها فى أن تتطور، صروح الاستبداد ونسمي هذا " ثورة " .

فالثور ، التي يستخدم اسمها للدلالة على التطور في القول الدارج لها معنى علمي محدد في " جدل الإنسان " . انها - في المجتمع - تحطيم النظم التي تقيد حرية الإنسان . انها تعبير الديمقراطية عن نفسها في مواجهة الاستبداد . فهي ظاهرة حتمية إذا تحقق شرطها ٠ وشرطها أن يصل الاستبداد إلى مالا حرية لإنسان فيه ، أي أن يوقف الجدل الاجتماعي : أن تلغى الحرية والديمقراطية . عندئذ تكون الثورة هي الأسلوب الديمقراطي ... الى الديمقراطية والحرية .

ومن هنا نفهم لماذا لا تأخذ الثورة شكل التطور الديمقراطي فلا يستفتى الناس فيها ، ولا تخططها أغلبية الشعب ولا يفجرها الجميع إذ لو تحققت في أي مجتمع حرية الرأي للجميع ، وتخطيط الأغلبية للحلول ، ومساهمة الشعب في العمل ، لتحققت الديمقراطية وبالتالي لم يعد ثمة مبرر  للثورة . فالشروط الموضوعية للثورة  أن تكون في سبيل الحرية . لهذا تطلق " الثورة" مجازا على كل ضربة يوجهها الإنسان ليزيل بها حاجزا دون حريته فالثورة الصناعية التي حطم بها الانسان الحواجز التي كانت تقوم من جمود الطبيعة دون حريته .

ـ 21 ـ

تلك هي الحرية ( الديمقراطية ) في" جدل الإنسان " . قد تكون متفقه " في كثير من جوانبها مع ما تعلمته البشرية خلال دروس الصراع المرير ضد العبودية والاستبداد ، وإنها لمتفقة كما سنرى من تاريخ نضال الإنسان فى سبيل الحرية . ولكن مميزها - هنا - أنها تطبيق لمقياس واضح ومحدد وليست استنتاجا من ملاحظات تاريخية منتقاة على ما قد يهوى المؤرخون . قد نستطيع على ضوئها أن نفهم التاريخ وان نحكم على النظم ، ولكن استنادها الى قانون علمي ، يجنبنا المغالطة في تفسير التاريخ والنظم .

وللحديث في الحرية بقية تستحق أن نفرد لها فصلا خاصا .






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق