بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

أسس الاشتراكية العربية : 1 .

 أسس الاشتراكية العربية .

الدكتور عصمت سيف الدولة . 


تقديم :

في سنة 1957 ، بلغت الحركة الثورية العربية المعاصرة نقطة تحول حاسمة . كان الشعب العربي قد هزم العدوان الاستعماري على مصر في أواخر سنة  1956 ، وبذلك أوقف المد الاستعماري واسترد مقدرته على المبادرة . وبعد أن كان النضال العربي ـ على مدى قرون ـ يدور في واحات محصورة بالقوى الرجعية الاستعمارية ، كسبت الثورة العربية أرضا مطهرة تماما من  الاستعمار  والنفوذ الأجنبي والأحلاف ، فكسبت بها قاعدة  تزحف منها الطليعة العربية الى معاقل الاستعمار دون خشية الطعن من الخلف . وبتحرر قاعدة الانطلاق العربي فرضت الوحدة ذاتها ، وبلغ المد الوحدوي ذروته فلم تلبث الوحدة بين سورية ومصر أن تحققت وقامت الجمهورية العربية المتحدة ، نواة دولة الوحدة ، والقاعدة الواحدة للثورة العربية الواحدة ، في فبراير1958 ، وتوالت الانتصارات فسقط الحكم الرجعي في بغداد في يوليو 1958 ، وتوافرت للثورة في الجزائر أبعادها العربية فاستحقت النصر الأكيد ... الخ .

حينئذ طرحت على الشعب العربي مشكلة جديدة : كيف نبني مستقبل الحياة في الأرض التي تحررت فتوحدت ، ثم كيف يكون بناء الحياة فيها على وجه لا يعطل معارك التحرر في باقي أجزاء الوطن العربي ، ولا يعوق وحدة الأجزاء التي تتحرر مستقبلا ؟

كانت أهمية الإجابة عن هذا السؤال تتجاوز الجمهورية العربية المتحدة بإقليميها ، لأنها لم تكن تمثل عند الشعب العربي دولة من إقليمين ، بل كانت قبل هذا وفوق هذا ، قاعدة انطلاق الى دولة الوحدة ، تحقق بها للعرب ، بعد قرون من القهر والكفاح ضد الاستعمار ، ما يستطيعون فيه ، وبه ، أن يصوغوا حياة الإنسان العربي ومستقبله . لهذا كان مستقبل الكفاح التحرري والوحدة القومية مرتبطا الى حد كبير بالطريقة التي تصاغ بها الحياة في الجمهورية العربية المتحدة ، وبمضمون تلك الحياة . وعندما تحددت الاشتراكية مضمونا لحياة المستقبل أصبحت الحرية والوحدة والاشتراكية ، أوجها ثلاثة لمستقبل عربي واحد ، فرفعتها الجماهير العربية شعارا لثورتها . غير أن وحدة الشعار لم تغن عن الإجابة عن السؤال الأول فبقي معلقا دون اجابة واحدة : كيف نحقق المصير الواحد بمضامينه الثلاثة ؟

كان ثمة إجابات  مطروحة .

أولها وأهمها ، جواب فرضته المعارك المحلية ، وضغط المشكلات التي ولدتها الظروف ، وضرورة الاستمرار في الحركة الثورية والمحافظة على مقدرتها على المبادرة مع الاحتفاظ بأكبر قدر من المرونة لمواجهة معركة المستقبل العربي التي تشعبت ساحتها ، كان الجواب : اذا كنا نريد أن نبني المستقبل فلنتصدى لبنائه ، واذا كنا نريد أن نصوغ الحياة فلنبدأ في صياغتها ، واذا كنا نريد أن ننتصر في معارك التحرر والوحدة فلنقتحمها فلا وقت للانتظار . قد نخطئ ولكن لا بد من العمل ولو تضمن خطأ ، فلنطهر أنفسنا من الخوف من الخطأ ، ولنمارس تجربتنا الحية . وهكذا انتهجت الثورة العربية منهج " التجربة والخطأ " ، وحققت في ظله كثيرا من الانتصارات ، ودفعت ثمنا له ما يقتضيه دائما من ثمن : تقدم غير مطرد ، وجهود ضائعة ، وتمزق في الصفوف يبدد طاقات كان من الممكن أن تكون دعما للثورة العربية . ولكنه على أي حال كان منهج الضرورة الملحة ، ولم يكن ثمة بديل غيره الا التوقف عن الحركة ، وكان التوقف مستحيلا بحكم الظروف التاريخية العادية والظروف التي يخلقها الأعداء معا . وفي هذه الحدود كان منهج " التجربة والخطأ " منهجا ثوريا تقدميا ـ غير أنه كان قاصرا عن أن يكون جوابا ملائما للمدى الأطول . كيف نبني مستقبل الحياة في الوطن العربي على أسس علمية بعيدا عن مخاطر التجربة والخطأ ؟

كان على الجواب أن يتضمن بديلا عن منهج الضرورة ، منهجا علميا يجمع الطليعة العربية على أهدافها في الحرية والوحدة والاشتراكية ، ويحدد العلاقات بينها ، ويصلح قاعدة للنضال في سبيلها ، فيطرد التقدم بدون نكسة ، وتثمر الجهود بدون أخطاء ، ويصلح حكما عند الاختلاف فتبقى الصفوف بدون فرقة ، ويضيء الطريق الى المستقبل فلا تتوه الغايات . ولم تكن ضرورة هذا المنهج غائبة عن أحد من التقدميين في الشعب العربي حتى أولئك المشغولين بالمعارك اليومية يديرونها ويسهمون فيها طبقا لمنهج الضرورة ، فان أحد منهم لم يقل أن منهج التجربة والخطأ منهج سوي اخترناه في غير ضرورة عاجلة فرضتها الظروف ، ولم ينكر أحد ما وقع من أخطاء وما تبدد من جهد . غير أن المشكلة كلها كانت في كيف نجد المنهج الذي نريده .

الجواب الثاني كان متاحا بالإسلام كعقيدة وشريعة ، ولم يكن الإسلام في حاجة الى جهد للإقناع به ، فهو تراث مستقر في ضمائر الجماهير العربية ، تجاوز الإقناع الى الإيمان فأصبح بالإيمان أكثر رسوخا وثباتا من أي اجتهاد فكري طارئ . وقد لاذ كثير بالإسلام جوابا للبحث عن أساس لصياغة المستقبل العربي . غير أنه من الواضح ، أنهم لاذوا به إعفاء لأنفسهم من أعباء الاجتهاد والبحث الذي يحرض عليه الإسلام ذاته . فالإسلام كعقيدة وشريعة غير محدود بالزمان والمكان وغير مقصور على مجتمع دون آخر ، وهو بهذا دين وليس مذهبا . انه أكثر شمولا وسموا في الوقت ذاته من كل النظم التي تتتابع على المجتمعات البشرية حلا لمشكلاتها في زمان معين ومكان معين . لهذا كان التماس الجواب في الإسلام يقتضي جهدا بالغا ليستخلص من محتواه الإنساني الشامل كعقيدة وشريعة ، منهج تصاغ على هديه الحياة في الوطن العربي في القرن العشرين . ويبدو أن تلك المهمة كانت فوق طاقة الكثيرين فلم يقدموا الجواب الذي تتطلع اليه مشكلات الظروف المعاصرة ، بل زادوا فنزلوا بالإسلام الى مستوى الرأسمالية أو الاشتراكية ، وقارنوه بهما تزكية جاهلة منهم لتقديمه بديلا عنهما ، ويقى السؤال بدون جواب .

والجواب الثالث ، كان في الماركسية . وللماركسية إغراء عام في بساطتها كمنهج ، وصلابتها النسبية كنظرية . وهي بعد نظرية جاهزة تغني عن عناء الإبداع الجديد بكل ما وراءها من تراث فكري وما حولها من جماهير عريضة على المستوى العالمي . أضيف الى هذا الإغراء العام إغراء خاص من تاريخ الوطن العربي في الفترة التي نتحدث عنها . فقد وقف الاتحاد السوفييتي ـ معقل الماركسية ـ موقفا دعم الجهد العربي في تخطي نقطة التحول الحاسمة ، وأسهم بتأييده الأدبي وما يمثله من ثقل دولي ، في دعم الانتصار العربي على العدوان الاستعماري . وقبيل هذا ، وبعده ، كان الاتحاد السوفييتي دولة صديقة ، رسخت صداقتها بتولي نيكيتا خروتشوف السلطة فيها , ولم يلبث ذلك الرجل الجذاب أن أضفى على الماركسية إغراءا جديدا ، فرفع عنها وزر ما أدان به ستالين , وفي ظل حكمه حاولت الماركسية أن تفلت من الجمود الى حد تناول بعض أسسها الفكرية ، وعلى وجه خاص تنازلها عن ضرورة قيادة البروليتاريا أية ثورة تقدمية . وقد كان ذلك اغراء شديدا لكثير من المثقفين العرب فظهرت من بينهم فئة الماركسيين غير الشيوعيين ، الذين يقبلون الماركسية منهجا ولا يقبلون الشيوعية مصيرا ، ويحتجون بوحدة النظرية واختلاف التطبيق .

ومع كل تلك المغريات لم يستطع الماركسيون أن يقيموا الماركسية منهجا لبناء المستقبل العربي لأسباب عدة : أهمها رفض الجماهير العربية النظرية الماركسية تحت شعار " اشتراكيتنا تنبثق من واقعنا " . ولم يكن عسيرا على الذين لا يستعلون على الجماهير ولا يتهمونها أن يتبينوا ما وراء الشعار البسيط من مبررات علمية وتاريخية . فالدين ـ مثلا ـ جزء من تكوين الأمة العربية بحكم أنها تكونت أمة في ظل الحضارة الإسلامية ، ولم يكن قيمة مضافة الى وجودها القومي بعد أن اكتمل ، بل اكتمل وجودها القومي به . وذلك مميز للأمة العربية عن كثير من الأمم الأخرى ، حتى الأمم المسلمة ، بحيث يعتبر الإسلام بالنسبة الى الأمة العربية أكثر من مجرد دين اذ هو جزء من نسيج قوميتها . ولما كانت الماركسية ملحدة ، فقد كان الدين حصانة للجماهير ضد مغرياتها ، ومبررا كافيا لرفضها . ولم تكن ثقة الماركسيين بنظريتهم كافية لتحدي الجماهير العربية ، فقام حاجز لم تستطع الماركسية أن تتخطاه لتصبح منهج المستقبل العربي ، ولم تستطع الماركسية " المتطورة " أن تتخطى ذلك الحاجز ، لأن أقصى تطور أصابها في مسألة الدين أن تجاهلته . والتجاهل قد يجدي في المجتمعات التي يعتبر الدين إضافة الى وجودها كالأمم الأوروبية ، أما عندما يكون الدين جزءا من وجود الأمة ذاتها ، كما هو الحال بالنسبة الى الأمة العربية ، فان تجاهله ولو بدون إدانة لا يجدي شيئا ، لأنه عندئذ عنصر ايجابي من عناصر القومية لا بد من مواجهته ايجابيا . لهذا فان الذين لا ينتبهون للإسلام أو يتجاهلونه ، أيا كان منطلقهم العقائدي أو الفكري ، سيرتطمون به عند أول احتكاك بالأمة العربية ، لأنه جزء مقيم من وجودها لا بد من مواجهته في اي بحث يتناول منهج صياغة مستقبلها .

من الأسباب الأخرى لرفض الجماهير العربية الماركسية ، قضية الوحدة ، فالوحدة جزء لا يتجزأ من المصير العربي الذي يقود كفاحها . والوحدة في الوطن العربي قائمة على أساس قومي ، أي أن مبرر الوحدة قائم في وحدة الأمة . وبهذا فهي ـ عند الجماهير العربية ـ مختلفة تماما عن التوحيد السياسي الذي تقتضيه الضرورات المرحلية الإقليمية والعالمية . لهذا كانت الوحدة تعني إلغاء التجزئة غير مشروطة بقدر من الشروط التي تقوم على أساس التجزئة ذاتها . وقد كانت الوحدة بين سورية ومصر التي فرضت ذاتها على اثر التحرر ، تجسيدا للوحدة كما تفهمها الجماهير العربية ، والماركسية أممية في جوهرها ، بدأت بإدانة القومية واعتبار الدولة القومية ( الوحدة ) مخططا برجوازيا تجب محاربته ، وانتهت ، في أقصى ما انتهت اليه ، بما كتبته أفاناسييف في كتابه " الفلسفة الماركسية " سنة 1963 : " بينما يؤيد الحزب الماركسي صراع الشعوب المضطهدة في سبيل التحرر يحاول أن يحرر العمال من تأثير القومية  البورجوازية ، لأنها لا تتفق مع الوحدة الأممية للطبقة العاملة ، أي النظرية التي تتطلب تضامن العمال في العالم . فالحزب الماركسي يحارب فكرة القومية البورجوازية بالتأكيد على دور الصراع الطبقي الحاسم في أية حركة اجتماعية وبالدعوة الى وحدة الطبقة العاملة في جميع البلاد " . وبهذه الطريقة يدس بالتدريج فكرة الأممية العالمية في أدمغة العمال . وقبل أن ينشر أفاناسييف كتابه " المتطور " كانت لدى كل عربي تقريبا حصيلة غنية من خيانات الشيوعيين قضاياه القومية في فلسطين وسوريا والجزائر .. حيث أدركت الجماهير من تجاربها المرة أن الإغراء الماركسي في قضايا التحرر والاشتراكية ينطوي على مناورة غادرة في قضية الوحدة . وبهذا قام حاجز آخر لم تستطع الماركسية أن تتخطاه لتكون منهج المستقبل العربي . وقد كان من سوء الحظ الذي تستحقه الماركسية ، أنه بينما كانت الإغراءات تتوالى تأييدا سياسيا واقتصاديا من الاتحاد السوفييتي ، وتفتحت الأفكار في الوطن العربي لإعادة الحوار مع الماركسيين ، مرت الماركسية بتجربة قاسية في العراق ، حيث تتعرض القومية العربية لمعارك طاحنة ضد الشعوبيين الذين يحركهم الاستعمار وعملاؤه ، وحيث القومية العربية تتجاوز مجرد التمييز القومي الهاديء الى قوة مقاتلة ضد أعدائها في معركة حياة أو موت في هذا الجزء العربي الذي تدور المعارك الرئيسية فيه بين قوميين ولا قوميين ، وجد الشيوعيون ساحة مفتوحة ليجربوا فيها منهجهم ونظريتهم لأول مرة في صف واحد مع الاستعمار وعملائه ، وبهذا الموقف هالوا التراب على كل ما كان مغريا في الماركسية ، وقدموا للجماهير العربية دليلا جديدا على سلامة موقفها في رفض الماركسية ، لم يلبث أن تأيد بتآمرهم على وحدة الجمهورية العربية ذاتها ، في صف واحد مع الرجعية العربية .

غير أن موقف الجماهير العربية ، لم يكن العقبة الوحيدة في طريق الماركسية ، فعلى مستوى البحث العلمي كانت الماركسية المتطورة مجردة من أي إغراء يرشحها منهجا للمستقبل العربي . اذ أن ما كان يحتاجه الشعب العربي ليس حصيلة تطبيقية تتمثل في مجموعة من النظم والقواعد والخطط ، فان المسلم أن كل مجتمع يصنع تجربته ويمارس من التطبيق في واقعه . لهذا لم يكن في الحصيلة التطبيقية المتطورة التي جاءتنا من الاتحاد السوفييتي أو غيره غناء لنا عن المنهج العلمي . والمنهج العلمي في الماركسية هو الجدلية المادية . ولم يدّع أحد من الماركسيين أن الجدلية المادية قد تطوّرت أو أصاب قوانينها أي تعديل . وهذا منطقي ، لأن المناهج العلمية اما صحيحة أو خاطئة ، فان كانت خاطئة يحل محلها منهج صحيح ولكنها هي لا تتطور . وفائدة أي منهج علمي في ثباته هذا ، كما أن فائدة أي مقياس في ثبات وحدته القياسية ، وأية نظرية  اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية ، تتطور من خلال التطبيق على وجه يتخطى منهج التطبيق ذاته ، تكون قد فقدت منهجها وأصبحت محصلة الممارسة ، أي تكون قد عادت الى منهج " التجربة والخطأ " . وقد كان القدر الأكبر من اغراء الماركسية نابعا من منهجها العلمي البسيط ( الجدلية المادية ) ، وصلاحيته مقياسا لما يجب أن تكون عليه الممارسة . فلما أن جاءت الممارسة بحصيلة تطبيقية لا تتفق مع ما يجب أن يكون طبقا للجدلية المادية ، كان لا بد لأي ماركسي من أن يختار بين النظرية كمنهج وحصيلة التجربة . وكان على الذين يقبلون حصيلة التجربة أن يعيدوا النظر في منهجهم الذي لم يحصنهم ضد احتمالات الممارسة فجاءت  على غير ما توقعوا . ولقد كان ذلك بابا مفتوحا للماركسيين الى المستقبل العربي . غير أن دخوله كان يعني طرح الماركسية على عتباته ومواجهة عناء البحث من جديد . ويبدو أن تلك مهمة كانت فوق طاقة الكثيرين منهم . فمنهم من جمد فعزل نفسه . ومنهم من لفق بين النظرية والتطبيق ، إما بتزييف الواقع ليطابق النظرية ، وإما بسلب الجدلية المادية حتميتها العلمية لتكون لها المرونة الكافية لاستيعاب حصيلة التجربة . وبهذا ذاته فقدت الماركسية منهجها وبقيت لها اجتهادات الممارسة الفعلية فأصبحت عاجزة عن أن تقدم الى المستقبل العربي منهجه لأن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون ، ولأن الثورة العربية أستاذة المبادرة التطبيقية ، تجد في انتصاراتها مبرر للثقة غير محتاج لمن يلهثون وراءها يجمعون ما تحققه ويحاولون تبريره . انها محتاجة الى منهج يعفي جهودها الثورية من أخطاء التجربة . والماركسية المتطورة عاجزة عن أن تكون جوابا لحاجتها .

فما العمل ؟

الحق أن الإجابة بالغة الصعوبة ، ويتجاوز الصواب فيها مقدرة أي فرد تسبقه الأحداث ولا تدع له الوقت الكافي للبحث العلمي كما سبقت أحداث الثورة العربية أغلب التقدميين العرب . لهذا فان كل ما يقال فيها اجتهادات من الخطأ ومن الخطر أن تتجاوز هذا الى الادعاء بأنها القول الفصل . وقد قدم المثقفون اجتهادات جادة حينا وغير جادة حينا آخر . وكان وراء الاجتهادات الجادة جهد مخلص لا شك فيه . وكل جهد مخلص في هذا الميدان لبنة بناء . ولكل الذين اجتهدوا ثواب الاجتهاد وان جانبه التوفيق . ولكل من جانبه التوفيق عذر في صعوبة المهمة التي ألقتها الظروف على كاهل هذا الجيل العربي . وترجع صعوبة المهمة  الى تشابك الأحداث في المرحلة التاريخية المعاصرة ، والمستويات العليا التي وصل اليها البحث العلمي . فالمنهج العلمي يجب أولا وقبل كل شيء أن يكون علميا ، أي مجردا من التحيز والتعصب والخوف . لهذا كان على اي عربي يريد أن يؤدي دورا فكريا في هذا الميدان أن يبدأ من أصعب النقاط : الصفر ، لا تبهره الانتصارات فيجنح الى تبريرها ، ولا تخيفه النكسات فيحتاط لها ، ولا تستفزه الاعتداءات فيتعصب لنفسه أو لغيره ، ولا تضغطه الشعارات فيجري وراء الجماهير يرفض ما ترفضه ويقبل ما تقبله . وتلك بداية ثقيلة ، ان تجاوزها وجد نفسه أمام تراث فكري عريض كل تيار فيه بالغ الخصوبة ، وعليه عندئذ أن يقبله كتراث وأن يستفيد منه ، وأن يطهر نفسه تماما من التعصب ضده أو معه ، وأن يفهمه على ضوء الأحداث التي صاحبت نشوءه ، ثم يعزله عنها ليختبره على ضوء الأحداث التي يعيشها ، وأن يحتاط ضد ما قد يكون فيه من مغريات ، وأن يفطن بوجه خاص الى الصراع الاجتماعي والسياسي الذي تعبر عنه تلك التيارات ، فلا يكون جهده ، من حيث لا يدري في خدمة أي من المتصارعين . ثم بعد هذا ، لو استطاع أن يهتدي الى قاعدة علمية بسيطة ، أصبح محتوما عليه أن يعود مرة أخرى الى أمته ليختبر مقدرة القاعدة التي اهتدى اليها ، على ضوء وجودها وتاريخها ومصيرها . وعلى القاعدة التي اهتدى اليها بعد هذا ، أن تجيب الأسئلة التي تطرح ، عن الإنسان كفرد ، والإنسان في جماعة ، والجماعة في الطبيعة ، وحركة كل هذا في الزمان ، لتستطيع أن تجيب الأسئلة التي تطرح عن الإنسان العربي وحركة الأمة العربية وتاريخها واتجاه هذا التاريخ ومصيره ، ثم أن تنتهي الى تحديد واضح لتلك الشعارات التي تصر الجماهير العربية على رفعها : الحرية . الوحدة . الاشتراكية ، وعلاقتها المتبادلة في المنطلق الفكري والمحتوى الموضوعي ومراحل التطبيق .. الخ . كل هذا على ضوء مشكلات العصر الذي نعيش فيه ، وبشرط أساسي ، أن تكون الإجابات عن كل تلك الأسئلة متسقة متكاملة .

عبء ، عبء ثقيل . وضع المثقفين العرب في تلك الحالة التي كثر الحديث عنها تحت عنوان " أزمة المثقفين " . وإنهم لفي أزمة حقا لا تخرجهم منها الا جهودهم الخلاقة .

الا أن الجهود الخلاقة لا تقبل العجلة خاصة في ميدان البحث العلمي . ولكن الأحداث لا ترحم . فقد بدأ منهج التجربة والخطأ ينضح أوضاره ويهدد الانتصارات العربية في سنة 1959 وما بعدها . اغتصب عبد الكريم قاسم ثورة العراق يؤيده الماركسيون تحت شعار الاشتراكية . واغتصب الاستعمار سورية وفصلها عن الدولة النواة تؤيده الرجعية العربية تحت شعار الحرية ، وتمزقت الجماهير العربية تحت شعار الوحدة . ولما أن رفعت الشعارات الثلاثة معا فوق مباحثات الوحدة الثلاثية في ابريل سنة 1963 ، لم تغن شيئا . وانعكس كل هذا على الشعب العربي ، فبدا كما لو كانت الثورة العربية على الانتهاء الى ظلام .

في وسط ذلك الظلام الدامس ، انظلق من القاهرة نداء " الحركة العربية الواحدة " . ولقد كانت الحركة العربية الواحدة حلم الطلائع العربية الثورية منذ أمد بعيد ، ولكن النداء الذي انطلق من القاهرة أكسبها مضمونا جديدا . كان كنداء الاستغاثة والتحذير في الظلمة القاتمة . وكان فوق هذا حكما صارما أطلقته القيادة التي حققت النصر وعانت النكسة معا ، على منهج الثورة العربية بكل انتصاراتها ونكساتها ، كان تقييما لكل حصيلة الكفاح العربي منهجا ومضمونا ، جمع منها كل ما أبقت عليه التجربة والخطأ من خيوط مضيئة في التجربة العربية الثورية ، في جملة مضيئة واحدة ، كافية كخلاصة أن تكون إنذارا وهاديا في الوقت نفسه . وبعد نداء الحركة العربية الواحدة ، أصبحت العودة الى منهج الماضي وتنظيماته وأساليبه ، أو حتى الإبقاء عليه ، تخليا عن كل ما تعلمته الثورة العربية من تجاربها المرة والحلوة معا ، وتثبيتا لأسباب الانتكاس ، ومحاولة لطمس الشعلة الوحيدة التي بقيت مضيئة ، كانت الحركة العربية الواحدة تعني ضرورة تجاوز الفراغ العقائدي الى عقيدة ، وتجاوز التجربة والخطأ الى منهج علمي ، وتجاوز التجمعات الجماهيرية المتعددة الى حركة جماهيرية واحدة . كانت تعني بكل وضوح أن على الطليعة العربية أن تحقق الحرية والوحدة والاشتراكية في ذاتها تنظيما قوميا ، اذا كانت تريد أن تحقق الحرية والوحدة والاشتراكية مستقبلا عربيا . وكان نجاح الطلائع العربية في تخطي رواسبهم الى حركة عربية واحدة ، متوقفا على ما تتجاوز به الحركة العربية الواحدة غيرها : منهج علمي وعقيدة واضحة ، تعلو بها على وحدة الصف أو وحدة الهدف أو التضامن ، أو المنظمات الحزبية والجماهيرية الإقليمية ، وتتجاوز بها حتى طاقة الحكومات ومقدرتها ، بالقوة التي تستمدها من طاقة الجماهير ومقدرتها .

عندئذ لم تعد المسألة أزمة المثقفين العرب ، بل أصبحت أزمة المصير العربي ، وكان لا بد من جهد ثوري مضاعف حتى لا يظل نداء الحركة العربية الواحدة بدون إجابة . ولقد وعى كثير من الطلائع العربية مسؤوليتهم ونذروا جهودهم للإسهام في الإجابة على النداء ، وان كانت الحركة العربية الواحدة لا تزال نداء لا يجد جوابا .

***

في ظل هذا الادراك أعددت هذا الكتاب الذي أقدمه ، وتلك علاقة الحديث به . ولقد بدأت البحث من أجله في تاريخ معاصر لبداية التحول الذي أشرت اليه في أول هذا الحديث ، وعلى التحديد في ديسمبر سنة 1957 . وكان الانتباه اليه استجابة تلقائية لحديث الوحدة المرتقبة في ذلك الحين . ومنذ ذلك التاريخ أعطيته كل ما أمكنني من جهد . واستطعت فيما أعتقد أن أوفر له من ضمانات البحث العلمي ما قدرت عليه من نفسي ، فجاء مجردا من الحيز والتعصب والخوف . أما المضمون فهو كل ما عندي من اجتهاد ، مهما كنت مقتنعا به فاني مقتنع أيضا بأن مناط الصواب والخطأ الحقيقة الموضوعية لا ما يدعيه المؤلفون . ولقد صغته وأعدت صياغته مرات عديدة ، فقد كانت الصياغة عبئا ثقيلا . وانتهيت به الى ما هو عليه مقسما الى فصول سبعة : في الفصل الأول تأكيد من واقع تجارب الأمم الأخرى على أن باب الاجتهاد لا يزال مفتوحا فلا مبرر للخوف ، وفي الفصل الثاني  طرحت الفكرة التي ظننت أنها قانون حركة الإنسان تحت عنوان " جدل الإنسان " ، وفي الفصل الثالث استعملت ذلك المقياس قاعدة لتحديد مفهوم الحرية ، وفي الفصل الرابع استعملته في تحديد مفهوم الاشتراكية ، وفي الفصل الخامس استعملته في تحديد مفهوم القومية ، وفي الفصل السادس استعملته في تحديد نقطة الانطلاق وأسلوب الثورة العربية الى غايتها ، وفي الفصل السابع استعملته أخيرا في تحديد الأسس التنظيمية للحركة العربية الواحدة . وفي خلال هذا كله تعرضت لكل ما أعرفه من آراء ونظريات ومفاهيم مقارنة وحوارا ، كما تناولت بقدر ما تسمح به دراسة الأسس معالم البناء الاجتماعي سياسة واجتماعا وفنا وأدبا وأخلاقا . ولما أن رأيت أن تلك الفكرة الواحدة قد استطاعت أن تكون قاعدة لمفاهيم عديدة دون تناقض بينها ، توهمت أنني قد أتيت بشيء يستحق أن يخرج للناس ، وربطت بينه كقاعدة انطلاق ، وغايته كحياة مقبلة ، فأسميته : " أسس الاشتراكية العربية " ، تعبيرا عن عدم تجاوز البحث أسس الانطلاق الى مناهج التطبيق .

غير أن جرأة إخراجه فعلا ، جاءت من مصدر آخر ، ففي سنة 1963 ، طرح على الناس كتاب بعنوان " أسس الماركسية اللينينية " . والكتاب من تأليف 39 عالما ومفكرا سوفياتيا ، قدموا فيه آخر ما تطور اليه الفكر الماركسي ، وقدموا له بأنه مؤسس على ما قاله ماركس وانجلز ولينين ، ثم على خبرة الحزب الشيوعي السوفييتي والأحزاب الشيوعية والعمالية ، وعلى ضوء الظروف المعاصرة . وعندما قرأته تبينت أن الدراسة الجادة غير المتعصبة قد أدت بنا الى أن نكشف شيئا يستحق ما بذل فيه من جهد ، فقد لمس " أسس الماركسية اللينينية " كل ما كنا قد انتهينا إليه . وكنا أكثر من مؤلفيه حسما ، لأننا لا نحتفظ مثلهم بولاء خاص لماركس أو انجلز أو غيرهما . وكان لا بد من صياغة أخيرة يضاف اليها حوار جديد مع 39 ماركسيا كبيرا ، وهو حوار أغنى البحث بما هم أصحاب الفضل الأول فيه .

عندئذ اعتقدت أن الكتاب يستحق أن يقرأ .                                              

القاهرة في 15 يناير 1965 . 

***

الفصل الأول : لماذا ؟ .. وكيف ؟.. 

ـ 1 ـ

هل يمكن ان توجد اشتراكية " عربية " متميزة عن النماذج الاشتراكية القائمة في العال الآن ؟ .. وإن وجدت ، فما هي تلك الاشتراكية العربية ؟ . سؤالان يثيرهما الحديث عن " الاشتراكية العربية  ، أولهما الأصل والأساس ، إذ لو سلمنا بأنه من غير الممكن أن توجد اشتراكية " عربية " لما كانت ثمة حاجة إلى البحث في ماهية  تلك الاشتراكية التي لن تكون .

يرد الاشتراكيون العرب على السؤال الأول نعم ، يمكن أن توجد اشتراكية عربية بل لا يمكن أن توجد إلا اشتراكية " عربية  في الوطن العربي .

لكي نجيب على هذا السؤال ، ينبغي أن نعرف شيئا عن نشأة وتطور الاشتراكية ، وذلك بالقدر الذي يكفي لمعرفة عم يدور الحديث ، ولنرى إن كان تاريخ الاشتراكية نفسه يمدنا بعناصر الجواب على ما نريد .

عندما بدأ القرن التاسع عشر، كانت أوروبا ـ الغربية على وجه خاص قد تحررت من النظام الإقطاعي، وبدأت تتذوق رخاء الثورة الصناعية . ومع الثورة الصناعية الحاجة الملحة إلى المواد الخام والأسواق وحرية انتقال البضائع ورؤوس الأموال . كان أي قيد على نشاط الفرد أو  إرادته ، وأية عرقلة للتجارة الداخلية أو الخارجية ، وقوفا في سبيل ثورة التصنيع وهي في دفعتها الثورية . ولما كانت الأفكار والنظريات لا يمكن أن تكون معلقة بعيدا عن الواقع ، فقد كان مذهب الاقتصاد الحر صاحب السيادة المطلقة في ذلك الوقت . كان انتعاش أوروبا ـ وانجلترا على وجه خاص ـ نتيجة تراكم الثروات التي انتُهبت من المستعمرات وتصنيعها ، وبيعها ، دليلا من الواقع على صحة مذهب الاقتصاد الحر . وكان مذهب الاقتصاد الحر تبريرا ، وتفسيرا نظريا وعلميا للواقع الاقتصادي المزدهر . والمذهب الحر يستند إلى الحريات التي انتزعتها ثورات التحرر من براثن عهد الإقطاع ولخصتها  في شعار مفتوح هو " دعه يمر، دعه يعمل " . شعار حمله  الفلاسفة والمفكرون واستطاعوا ان يرسوه على قواعد علمية كان يظن وقتئذ أنها أصلب من أن تدحض . وحمله التجار والصناع واستطاعوا ان يخلقوا منه ثروات متراكمة كان يظن وقتئذ أنها لن تزول .

حمله على وجه خاص المفكرون الانجليز والفرنسيون ، ولم يكن ذلك اعتباطا ، فقد كانت انجلترا وفرنسا في طليعة الدول التي تحتاج إلى أن يقول الجميع فيها " دعه يمر ، دعه يعمل" . حمله في انجلترا آدم سميث وأرساه على قانونين أساسيين ؛ قانون" المنفعة الشخصية "‘ وقانون " العرض والطلب" . فالفرد عنده ـ كل فرد ـ يسعى إلى إشباع حاجته الشخصية . هذا الباعث هو القانون الطبيعي العادل ، الحقيقي ، الذي يقود نشاط الأفراد . وما على الحكومة - أية حكومة - الا أن تلتزم الحيدة أو أن تمهد لهذا القانون السبل ليؤدي وظيفته في إسعاد الأفراد ، فالناس ليسوا أكثر من أفراد ان سعد كل واحد منهم أصبحوا جميعاً سعداء . وفي ظل التنظيم الصناعي تتعدد حاجات الأفراد ولا يستطيع كل فرد - بمجهوده - أن ينتج ما يشبع رغباته جميعاً ، ولهذا فإن كل فرد سيختار تلقائياً وطبيعياً ودون تدخل أفضل أنواع العمل الذي يجيده ( نظرية تقسيم العمل ) . ولما كان كل فرد لن ينتج لنفسه فقط ولكن لنفسه ولغيره فإن تعاونا طبيعيا وتلقائيا سيتم بين المجموع في سبيل رخاء الجميع ( نظرية التبادل) ، وسيحاول كل فرد ، مسوقاً إلى ذلك بنزعته الطبيعية إلى إسعاد نفسه ، أن يزيد من إنتاجه ليحقق أكبر فائض عن حاجته الشخصية . وسيكون هذا الفائض ادخاراً لمواجهة مزيد من رغباته المقبلة . وهكذا يتراكم الإنتاج ويعم الرخاء . كما أن الادخارات الفردية ستتحول إلى مزيد من رأس المال ( نظرية تراكم رؤوس الأموال ) : لإنشاء مزيد من الصناعات ، لإنتاج مزيد من السلع ، لإشباع مزيد من الرغبات ، لإسعاد مزيد من الناس . وسيوزع  الإنتاج  على  السلع النافعة وحدها ولن يستطيع أحد أن  يركز على إنتاج  بعض السلع ويحرم الناس من إشباع حاجتهم إلى سلع أخرى . ويتم هذا التوازن بين حاجة الناس والسلع المنتجة تلقائيا وطبيعيا ، اذ بجوار القانون الطبيعي الأول'' المنفعة الشخصية" قانون اقتصادي ينظم الإنتاج تنظيماً طبيعياً دون تدخل أية سلطة’ على الوجه الذي يسعد المجموع ويتفق مع مصالحهم . فلو أن اطلب  زاد على سلعة بحيث أتيحت الفرصة لمنتجها فرفع سعرها وحقق من وراء ذلك ربحا مرتفعا نسبيا ، فإن رؤوس الأموال ستتجه - بحثا عن الربح وبحكم قانون المنفعة الشخصية - إلى إنتاج مزيد من تلك السلعة ، فإن زاد إنتاجها وكثر عرضها في السوق ، أدى ذلك حتما إلى أن ينخفض ثمنها. ومن ناحية  أخرى ، إذا قل الطلب على سلعة فلن يستطيع منتجها التخلص من إنتاجه إلا ببيعها بسعر لا يحقق ريحاً وربما يتضمن خسارة ، عندئذ تتحول رؤوس الأموال عن  إنتاج تلك السلعة ، ويقل المعروض منها إلى أن يوازي الطلب .

وهكذا يتفاعل القانونان ، قانون "المنفعة الشخصية" ينطلق إلى أقصى غايته ، بكل النشاط الذي يحركه الباعث الشخصي ، ينظمه ويرده إلى حيث تتحقق مصلحة المجموع قانون" العرض والطلب" في إطار المنافسة الحرة  دون حاجة إلى أي تدخل .

هذا هو الأساس العلمي لمذهب الاقتصاد الحر الذي تحققت في ظله أكبر ثورة اجتماعية في المرحلة التاريخية التي بدأت من القرن السابع عشر . تبناه ألمع الاقتصاديين والفلاسفة في ذلك الوقت ودافعوا عنه ، وأضافوا إليه ، وحاول بعضهم أن يحد من إطلاقه ولكن في فرعيات لا تمس الأصل ، فإن أحدا منهم حتى الذين لم يأخذوه مطلقا بدون حدود ، لم يحاول أن يخرج عن إطاره .
فالفزيوكرات وعلى رأسهم كيزني ، ومرسيه دي لاريفيير ودوبون في فرنسا ، ومالتس وريكاردو في انجلترا ، بالرغم من الاختلاف الواضح في النتائج التي انتهت إليها ابحاثهم ، وبالرغم من ترددهم البين في إطلاق المذهب الحر دون أي قيد ، لم يكونوا سوى دعامات له وتلامذة في مدرسته . وقد بلغت سيطرة المذهب الحر على الفكر الإنساني في تلك الحقبة من التاريخ أن مالتس وريكاردو انتهيا
 - كل بطريقته - إلى أن الإنسانية مقدمة في ظله على كارثة ، حاول كل منهم أ'ن يجد لها علاجا ، ومع ذلك لم يخطر ببال أحدهما أن يخرج على مذهب الحرية الاقتصادية ولو لتلافي تلك الكارثة .

دخلت أوروبا النصف الأول من القرن التاسع عشر في ظل الرأسمالية الصناعية المزدهرة يدعمها ويبرّرها المذهب الحر مندفعين معا ، جنبا إلى جنب ، في ثورة غيرت التركيب الاقتصادي والاجتماعي لا في أوروبا وحدها بل في أجزاء كثيرة من بلاد العالم .

وأنه لمن المهم ، لنفهم الاشتراكية بصفة عامة ، والاشتراكية العربية بصفة خاصة ، أن نحيط بمدى هذا الانقلاب التاريخي . فأوروبا في النصف الأول من القرن التاسع عشر هي التربة التي نبتت فيها أول بذور الاشتراكية . وتغذت من عصارتها وحملت سماتها . ولن نجد وصفاً لآثار الرأسمالية الصناعية ولا تحليلا لتلك التربة أوفى وأدق مما قاله كارل ماركس وفريدريك أنجلز في " البيان الشيوعي " الذي نشراه في لندن في فبراير سنة ١٨٤٨ . قالا : " لقد لعبت البرجوازية ( الرأسمالية الصناعية ) دورا بالغ الثورية في التاريخ . فأينما كانت لها اليد العليا قضت على العلاقات الإقطاعية والقبلية والبدائية ومزقت ـ بدون رحمة ـ شتى الروابط التي كانت تربط  الإنسان إلى  سادته  الطبيعيين " .

" فقد كانت أول ما كشف عن القدرات الخلاقة لنشاط الإنسان ، فحققت من المعجزات ما يجاوز أهرام مصر ومنشآت الرومان وآثار الغوط ، وانتشرت انتشار طغى على كل ما سبقه من هجرات الشعوب وزحف الصليبيين . إن كل ما كان ثابتا مكينا من العلاقات قد تبدد . وكل ما كان منها في سبيل التكوين قد أصبح أثرا قبل أن يتكون . لقد ذهب مع الريح كل ما كان صلبا .

وكل مقدس أصبح كفرا . واضطر الإنسان ـ آخر الأمر ـ إلى أن يقف وجهاً لوجه أمام الظروف الحقيقية لحياته وصلاته بالنوع الذي ينتمي إليه . وهكذا دفعت الحاجة إلى أسواق دائمة تستوعب الإنتاج إلى أن تسعى الرأسمالية الصناعية فى أطراف الأرض جميعاً ، فعششت في كل مكان ، واستقرت في كل بقعة ، ووطدت علاقتها بكل اتجاه . وعن طريق استغلالها الأسواق العالمية ، طبعت الإنتاج والاستهلاك في كل بلد بالطابع العالمي . ورغم أنف الرجعيين ، سحبت من تحت أقدام الصناعة القاعدة الوطنية التي كانت تقوم عليها " . " وبدلا من الحاجات القديمة التي كانت المنتجات الوطنية تكفي لإشباعها ، أوجدت حاجات أخرى لا تشبع إلا بمنتجات تأتي من أقصى الأرض . وبدلا من الاكتفاء الذاتي العتيق خلقت تكاملا عالمياً بين الأمم . وقد استطاعت الرأسمالية الصناعية ، عن طريق التقدم السريع في أدوات الإنتاج ، والسهولة الفائقة في وسائل المواصلات ، أن تجذب أكثر الأمم بربرية إلى حظيرة المدنية ، إن الأسعار الرخيصة لمنتجات الرأسمالية الصناعية هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها أسوار الصين ، وتخضع بها الكراهية البربرية للأجانب " . " لقد أخضعت الرأسمالية الصناعية الريف لأحكام المدن وخلقت عديداً منها وضخمت سكانها على حساب سكان الريف . وهكذا انتزعت كثيراً من الناس من ركود الحياة الزراعية ، وكما جعلت من الريف عالة على المدن ، جعلت من البلاد المتخلفة وشبه المتخلفة عالة على البلاد المتمدنة . أصبحت البلاد الزراعية عالة على البلاد الصناعية . أصبح الشرق عالة على الغرب " .

هذا هو الجانب الايجابي من أوروبا في ظل الرأسمالية الصناعية كما رآه ماركس وانجلز ، أي الجانب الذي حلت به الرأسمالية مشكلات النظام الإقطاعي . أما الجانب الآخر ، فقد صوره ماركس وانجلز في البيان الشيوعي عندما قالا انها " لم تبق رابطة بين إنسان وإنسان سوى المصلحة الشخصية المجردة . سوى الرابطة الباردة كالموت ، الدفع نقداً . لقد أغرقت في بحر الأرقام  الأناني المتجمد أعمق ما في الدين والفروسية والعواطف . لقد حولت الإنسان إلى مجرد سلعة واستبدلت حرية التجارة وحدها بجميع الحريات التي نصت عليها المواثيق ٠ وفي كلمة واحدة : أحلت الاستغلال العاري الصفق المباشر القاسي محل الاستغلال الذي كانت تغلفه الأديان والأوهام السياسية " . " لقد جردت كل المهن من كل ما كان مقدساً وشريفاً وأحالت الأطباء والمحامين ورجال الدين والشعراء والعلماء إلى مجرد عمال أجراء . لقد مزقت قناع العاطفة في الأسرة وأحالتها إلى مجرد علائق مالية .

لم يكن ماركس وانجلز وحدهما كل من أحس بهذا التخريب الرأسمالي فإن أكثر ما قيل اعتدالا : أنه من ببن بريق ذلك الرخاء والتقدم تكررت ظاهرة اقتصادية اجتماعية مدمرة . فقد لوحظ أنه بين فترات تتراوح بين سبع سنوات وعشر سنوات يزيد الإنتاج زيادة مفرطة ، وتنهار الأثمان انهياراً مخرباً فتفلس المؤسسات وتغلق المصانع وتنهش البطالة والبؤس حياة العمال .

وبتكرار تلك الأزمات ، تكونت " طبقتان " متضادتان : أصحاب العمل أو الرأسماليون في ناحية ، والأجراء أو العمال في ناحية أخرى . وبدأت كل فئة في تنظيم وسائل الدفاع عن مصالحها . وقد وجد ذلك الصراع غذاءه في شروط العمل التي كانت تفرض على العمال . ففي سبيل زيادة الربح ، أو في سبيل تلافي الأزمات الاقتصادية المدمرة ، كان أصحاب الأعمال يحاولون بكل وسيلة تخفيض تكاليف الإنتاج . ولم يكن ثمة أي وازع أو مانع او رادع من استعمال الوسائل التي تتفتق عنها أذهان أصحاب الأعمال لتحقيق مصالحهم  الشخصية . لقد كان مبدأ حرية التعاقد الذي رفع لواءه قانون نابليون هو السائد في مجال العقود والشروط . وكان الخوف من الجوع والفزع من البطالة كافيين ليتعاقد العمال ، ويقبلوا " بإرادتهم الحرة " ، ما يفرض عليهم من شروط . فازدادت ساعات العمل إلى حد يتجاوز حتى الطاقات البشرية وانخفضت الأجور مجرد الحد الذي قد يبقي على الحياة . وحلت النساء والأطفال محل الرجال في كل عمل تستطيع امرأة أو طفل القيام به باجر اقل . وانتشر البؤس بين العمال وانحدرت مستويات المعيشة إلى حد ارتفعت معه نسبة الوفيات بينهم ارتفاعاً مروعاً . وقد أورد المؤرخ تريفيليان في كتابه " تاريخ انجلترا الاجتماعي" صوراً لحالة العمال في انجلترا في ذلك الوقت لا تقل بشاعة عن تلك الصور التي حرص ماركس على إثباتها في كتابه " رأس المال ".

ومن الناحية النظرية ، أصبح مفكرو الرأسمالية أكثر ضراوة وأقل (إنسانية " فالعمال مسئولون عن بؤسهم . وهو بؤس نافع على أي حال" كما قال شارلز دونييه ، " وبجب اعتبارهم - من الناحية الاقتصادية - مجرد آلات تولد قدراً من الطاقة  الإنتاجية وتحتاج إلى بعض نفقات الصيانة لتعمل بانتظام مستمر " كما قال موليناري . وكان هذا الجانب المخرب بمثل مشكلة ، الإنسان في ظل الرأسمالية .

ـ 2 ـ

من هذا الواقع بكل خصائصه :

(١) ازدهار الرأسمالية الصناعية ، (٢) في ظل المذهب الحر المطلق ، (٣) تدعمه مواد وأسواق المستعمرات ، (٤) ثم تكرار الأزمات الاقتصادية (ه) لفشل التوازن الاقتصادي (٦) وما أدت إليه من بطالة العمال وتعاستهم (٧) فوحّد البؤس بينهم (٨) في مواجهة أصحاب الأعمال (٩) كل هذا من حيث المكان في أوروبا الغربية (١٠) ومن حيث الزمان في الفترة التي بدأت من القرن السابع عشر واستمرت إلى ما بعد منتصف القرن التاسع عشر ، من هذا الواقع ، بكل ما له وما عليه ، ولدت الدعوة الاشتراكية كحل لمشكلة الرأسمالية .

نقول الدعوة الاشتراكية لأن الاشتراكية بدأت واستمرت إلى أوائل القرن العشرين دعوات نظرية ، ما عدا تجارب محدودة ومؤقتة .

إلى أي حد أثر ذلك الواقع في الاتجاهات الاشتراكية ؟

كانت كلها ـ بصفة عامة ـ تحمل سمة رد الفعل . أي تبدأ من صدمة رأسمالية لتنطلق  في اتجاه مضاد لتصحيح آثار الصدمة . ثم اختلفت بعد هذا في مدى شمولها وأصالتها .

ففي انجلترا ، حيث كانت قمة الازدهار الصناعي وحيث تكونت إلى جانب ، أو بدلا عن الارستقراطية الانجليزية القديمة ، ارستقراطية جديدة من ملوك الصناعة ، رأى بعض أولئك السادة ، أن انطلاق المذهب الحر إلى آخر مداه مشحون بالمتاعب لهم ومدمر لحياة العمال أيضا .

فحلوا لواء الدعوة إلى الاشتراكية ، وتبنوا الدفاع عن قضايا العمال . غير ان هذا الاتجاه قد وقف ـ من حيث أساسه الفكري ومداه التطبيقي ـ عند الحد الذي لا يهدد المدافعين أنفسهم .

وعلى هذا الأساس تكونت من الارستقراطيين الانجليز جمعية "انجلترا الفتاة" سنة ١٨٤٢ ، وعلى رأسها دزرائيلي ، تدعو إلى إنصاف العمال استنادا إلى مبررات دينية وأخلاقية مثالية ، وتلوذ بعقاب السماء لتردع المستغلين والشرهين من الرأسماليين .

كان أولئك الارستقراطيون " يسمعون " عن البؤس ، أما الذين رأوه ولمسوه فخطوا خطوة أكثر تقدمية . أشهر هؤلاء روبرت أوين "الاشتراكي الانجليزي" كان ملكاً من ملوك الصناعة وكانت اشتراكيته تحمل طابع  عطف رب العمل الرحيم . هزته الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت انجلترا سنة ١٨١٥ ، وزعزعت يقينه بسلامة الأسس التي تقوم عليها الصناعة فتطلع إلى تخفيض ساعات العمل من 17 ساعة إلى 10 ساعات والى عدم تشغيل الأطفال دون سن العاشرة والى الحد من توقيع الغرامات التي كانت تعتبر - لانتشارها وفداحتها - مصادرة حقيقية للأجور ، وتوافرت لدى أوين الإمكانات المالية ليطبق أفكاره في مصانعه في نيولانارك ، فأقام المساكن للعمال والحدائق لأطفالهم وأمدهم بالغذاء الصحي ووسائل التسلية والعناية الطبية ، ونظم في" ايكوس" بالولايات المتحدة مستعمرة شيوعية نموذجية لم تلبث أن انهارت وهجرها سكانها ، وأنشأ في برمنجهام محلا للمقايضة حيث يستطيع كل منتج أن يحصل على ما يريد عيناً في مقابل منتجات عينية فكانت تجربة خيالية الطموح للتخلص من استعمال النقود ومصادرة أية فرصة للاستغلال .

كان أوين يحلم بعالم دون ظلم ، ودون تعاسة ، يتآخى فيه رب العمل والعامل والناس جميعاً ويشتركون في خيراته ، بدون جشع أو حقد ، ولهذا سمّي اشتراكيا . كان يبرر اشتراكيته تبريراً رأسمالياً ؛ ففي اجتماع عقده مع شركائه من كبار الرأسماليين ، احتج بعض الشركاء على" تجديدات" أوين وما تستنفذه من أموال ، فقال دفاعاً عن "اتجاهاته" وتبريرا له : " لاشك أن التجارب قد علمتكم  مدى الفارق بين آلة  محكمة التركيب سلسة الأداء نظيفة ، وبين آلة أخرى مختلة وقذرة ومستهلكة ، فإذا كانت العناية التي تولونها الآلات تحقق لكم مزيدا من المنافع ألا يمكن أن نطبق هذا على تلك الآلات الآدمية "العمال" ؟ ألا يمكننا أن نستنتج من هذا أن تلك الآلات المرهفة الحس ستصبح أكثر قدرة وفاعلية وفائدة لو عاملناها برفق وعنينا بها وجنبناها القلق"؟.

وكان روبرت أوين يحلم بعاًلم دون ظلم ودون تعاسة ليحقق الصحة للعمال والازدهار للرأسمالية معا ، وبذلك كان رائداً ومبشراً " بالاشتراكية" الانجليزية .

وكانت فرنسا أقل تقدما ـ صناعيا ـ من إنجلترا ، أي كانت مشكلة الرأسمالية فيها أقل حدة وشمولا . ففيها الارستقراطية القديمة ، وفيها الارستقراطية الجديدة من ملوك الصناعة ، وفيها جبهة واسعة من صغار الصناع والتجار ، وأخيرا نصف الشعب من الفلاحين .

وكانت الأزمة الحادة أزمة تلك الفئة من متوسطي وصغار أصحاب الأعمال والتجار الذين هددتهم الصناعة الكبيرة والمنافسة الحرة وشبح الإفلاس . وكان المصير الذي يخشونه ، ان ينقلبوا عمالا فيذوقوا من كأس التعاسة الذي كاد يمتلئ فحملت تلك الفئة لواء الاشتراكية الفرنسية ؛ اشتراكية القانون والعدالة والإصلاح .

وتمثل هذه الاتجاهات " الاشتراكية الإنتاجية " التي نادى بها سان سيمون . كان سان سيمون من أشد المعجبين بالصناعة الحديثة . ألم تكن فرنسا في أشد الحاجة إلى مزيد من الصناعة لتدرك التفوق الانجليزي ؟ لهذا انحصر حله الاشتراكي في أن يخضع النشاط الصناعي للتنظيم بحيث يتولاه الفنيون والمهندسون والعلماء والتجار ، وان يقضى على كل الذين يحصلون على دخل دون عمل . على الذين يعيشون على " فوائد " أموالهم و " ريع " ممتلكاتهم يأتيهم وهم قعود . ولما ان قرن سان سيمون الدخل بالعمل سمّي اشتراكيا . واندفع تلاميذه ينظمون حركتهم على وجه عملي فيبدعون المشروعات وينفذونها ، وتركوا على الأرض آثاراً لم تتركها مدرسة من قبلهم . يكفي ان نعرف أن قناة السويس كانت مشروعاً سان سيمونياً ، وان ديلسبس كان تابعاً من أتباع سان سيمون .

أما فورييه فكان ممثلا حقيقياً للتجار ، فقد كان هو نفسه تاجرا صغيرا لهذا اتجهت اشتراكيته رأساً إلى مهاجمة المنافسة الحرة . وكان الحل السعيد الذي يوافقه ويوافق قطاعا كبيرا من الفرنسيين وقتئذ ، أن تبقى الرأسمالية الصناعية ولكن دون صراع ؛ دون أن يقضي الكبير على الصغير ، ودون إثارة مشاكل مع العمال وهكذا ابتدع نظاماً يقوم على أساس تقسيم عائد الصناعة بين العمال والرأسماليين والفنيين للعمال ٥/١٢ وللرأسماليين ٤/١٢ والفنيين ٣/ ١٢ .

أما المثقفون الفرنسيون فقد مثلهم لوي بلان الذي مكنته ثقافته من أن يدرك المشكلة إدراكاً أكثر شمولا من صاحبيه فتبنى قضية العمال صراحة وبوضوح وأدان الملكية الفردية والمنافسة الحرة ، ودعا إلى تكتل العمال وحرضهم على الكفاح في سبيل حقوقهم ، وأولها حقهم في العمل . وفى سبيل إيجاد عمل لكل عامل دعا إلى إنشاء "مصانع اشتراكية " يتعاون العمال فيها على الإنتاج ويديرونها او يشتركون في إدارتها وتزودها الدولة برأس المال وتقسم أرباحها إلى ثلاثة أقسام : قسم للعمال يضاف الى أجورهم ، وقسم يخصص لتأمينهم ضد العجز والبطالة ، وقسم يبقى احتياطياً . من أين جاءت هذه الأفكار للسيد لوي بلان ؟  جاءته بصفة أساسية من تعاسة قطاع العمال في فرنسا . ولكن قطاع العمال لم يكن قد وصل في اتساعه وعمق بؤسه إلى الحد الذي بلغه في إنجلترا مثلا . ولهذا لم يكن من الممكن ان يكون تفكيره حلا مناسباً لمشكلات الواقع السائد في فرنسا . ان كل علاقته بفرنسا أنه كان يحلق فوقها . ومن هناك ، خيل إليه أن الدولة ـ دولة فرنسا في ذلك الوقت ـ ستمد العمال برؤوس الأموال . وهو خيال يدل على انه كان يحلق عالياً وينظر الى الواقع من شاهق . فلما ان نزل إلى الأرض - إلى الواقع - واندلعت ثورة ١٨٤٨ في فرنسا ، وأسهم بنفسه فيها ، واستولى العمال على السلطة أربعة أشهر ( من فبراير إلى يونيو ) ـ أتيحت الفرصة للوي بلان فأصبح عضواً في الحكومة المؤقتة . ودبج بنفسه نصوص قانون حق العمل في ٢٥ فبراير ١٨٤٨ الذي لم يلبث ان ألغي . وانشأ " المصانع الاشتراكية " فالتحق بها في مدى شهرين عشرات الألوف من العمال ، يعملون في لا شيء لمجرد تبرير إعطائهم أجرا ، ولم تلبث أن أغلقت . ثم اتضح - بالرغم من إخلاص لوي بلان - أن بعض زملائه قد خانوا الثورة واتصلوا بأعدائها ؛ أعداء الاشتراكية .

ومع الحلول التي جربها لوي بلان جربت الثورة خلال تلك الفترة القصيرة أغلب الحلول التي تكون في مجموعها ما يمكن تسميته " بالاشتراكية الفرنسية وكانت النتيجة فشلا ذريعا .
وسحقت جموع العمال سحقا دامياً . وفشلت " أجمل النظريات الاشتراكية " لأن واقع فرنسا كان أقوى منها أي لأن الحلول الاشتراكية التي تبنتها ثورة ١٨٤٨ كانت في غير أوانها . لأن الثورة كما قال  برودون " ولدت قبل أن يتم تكوينها .

أما في ألمانيا ، فلم تكن المشكلة مشكلة خطر الرأسمالية الصناعية . فلم تكن ألمانيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر قد تخلصت تماماً من النظام الإقطاعي ، وكانت الرأسمالية الصناعية تحاول ان تثبت أقدامها في مواجهة بقايا الإقطاع الألماني وفي مواجهة خطر منافسة البضائع الانجليزية . لهذا كانت الدعوة التي تبناها فريدريك . ليست تهدف إلى تدخل الدولة ـ أحد ملامح الاشتراكية ـ ضد أسوأ جوانب الاقتصاد الحر في نظر الألمان ، أي ضد حرية التجارة الخارجية . وكان لا بد ان يتكامل الاقتصاد الألماني حتى يدعم مركز الرأسمالية الصناعية ويؤكد انتصارها . ولتبرير كل هذا نظريا أبدع ليست نظريته في " الأمة " في مقابل " الفرد " ، وفوقه . وأبدع نظريته في التطور التاريخي فقال أن الأمم تمر بمراحل خمسة مرحلة الصيد ، ومرحلة الرعي ، والمرحلة الزراعية ، والمرحلة الزراعية الصناعية ، وأخيرا المرحلة الزراعية الصناعية التجارية ، وان لكل مرحلة نظاماً يلائمها . وأن حرية التجارة لا تلائم سوى المراحل الثلاثة الأولى ، وان تدخل الدولة والحد من حرية الأفراد لازمان في المرحلتين التاليتين ، وهما المرحلتان اللتان كانت تمر بهما ألمانيا في ذلك الوقت . آراء لها أساسها الفكري والعلمي تكون حلا لمشكلة قائمة في الواقع . تحمل من الاشتراكية سمة التدخل وإعلاء مصلحة المجموع ـ الأمة ـ على المصالح الفردية ، فلم تلبث ان طبقت ونجحت ، فبفضل فريدريك اتحدت يفاريا وفرتمبرج في وحدة جمركية ، وكذلك فعلت بروسيا وهيس وانضمت اليها ساكس ، ثم انتهى هذا التوحيد الجزئي إلى وحدة جمركية ألمانية " الزولفرين " . ولم يكن الواقع الألماني ليقبل أكثر من هذا اتجاهاً في سبيل الاشتراكية ، فطرد كارل ماركس من ألمانيا . وعندما أراد الفلاسفة الألمان ان يغلفوا كتاباتهم بطابع اشتراكي أكثر تقدماً ، استعاروا أفكارهم من رواد الاشتراكية الفرنسية ووضعوا عليها عنواناً جديداً " الاشتراكية الحقيقية " وصوا ـ كما قال كارل ماركس وفريدريك انجلز ـ انه عندما انتقلت المذاهب الاشتراكية الفرنسية إلى ألمانيا لم تنقل معها الواقع الفرنسي .

لنتذكر أن ماركس وانجلز قالا هذا .

ولنقف قليلا لنرى أهما خصائص تلك الاتجاهات الاشتراكية التي سردنا شيئاً عنها حتى الآن على ضوء البحث عن إجابة هذا السؤال : " هل يمكن ان توجد اشتراكية عربية متميزة عن غيرها ؟ .

أهم تلك الخصائص ، كما قلنا من قبل ، أنها جميعا حلول لمشكلات الوضع الاقتصادي والاجتماعي في أوروبا الغربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر . فهي محاولات نظرية ـ أو تطبيقية ـ محدودة ومؤقتة لتجريد النظام الرأسمالي من عيوبه في التطبيق . من هذه السمة تفرعت خصائص أخرى :

فمن حيت الشمول في المكان، كانت كلها اشتراكيات " أوروبية " . وإذا اعتبرناها دعوات ثورية ، بالمعنى الدارج للثورة ، فقد كانت ثورة الاشتراكيين ـ وقتئذ ـ ضد فقر وبؤس العمال الأوروبيين " . كانت ثورة تريد ـ بطريقة أو بأخرى  ـ أن يشارك العمال في الثروات المكدسة  في بلادهم ، وان يتذوقوا ـ مع الآخرين من الأوروبيين ـ نعيم الازدهار الصناعي . وكان حرمان العامل الأوروبي من ذلك النعيم ، يحرج إحساس الاشتراكيين ، ويؤرق ضمائرهم ويستفز أفكارهم ، فتخرج النظريات داعية لإنصاف " الإنسان " العامل وإنقاذه ، ورد حقوقه . كانوا يتحدثون عن " الإنسان " ويعنون به الإنسان الأوروبي . ذلك أنه بالرغم من أن الحقيقة كانت تصرخ بأن معركة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك التي يخوضها الاشتراكيون منصبة على ثروات أكثرها غير أوروبي ، وبالرغم من أن الاشتراكيين كانوا يعلمون علم اليقين أن المواد الأولية التي تدور عليها مصانعهم منتزعة انتزاعاً عنيفاً من ملايين البشر في المستعمرات ، ومنقولة إليهم على رؤوس ملايين البشر من العبيد ، بالرغم من هذا فإن ملايين التعساء في العالم لم يؤرقوا عين اشتراكي أوروبي واحد ، لم يهتز ضمير السادة الاشتراكيين في أوروبا ، ولم تصل أبحاثهم العلمية جدا ، إلى ملاحظة صارخة هي ان اغلب ما يتنازعون على استهلاكه مسروق من شعوب أخرى .

كانوا ثائرين لأن منازل العمال الأوربيين ليست لائقة ، ولم يفكروا في ملايين البشر الذين لا منازل لهم إطلاقا ، كانوا ثائرين لأن أصحاب الأعمال يستولون على جزء من قيمة عمل العمال ، ولم يفكروا لحظة في ملايين البشر الذين سخرهم الاستعمار بدون أجر . كانوا ضد الغرامات ولم ينكروا الاحتلال . كانوا ضد إصابات العمل في المصانع ولم ينكروا إبادة الشعوب في المستعمرات .

كان علماؤهم يتفلسفون فيقولون إن قيمة كل سلعة تتحدد بمقدار ما فيها من عمل . وكان قصدهم ـ حتى على مستوى التحليل النظري الاقتصادي ـ عمل العمال الأوروبيين . أما عمال آسيا وأفريقيا ، الذين انتزعوا المادة الخام من الطبيعة وجهزوها للتصدير ، وحملوها على أكتافهم العارية ، إلى السفن لتذهب إلى أوروبا ، فكل هذا " العمل " الذي بذلوه لم يدخل في تحديد " قيمة " السلعة . لم يكن كل هذا مشكلة بالنسبة إليهم .

لنفهم هذا ، ونعيه ونذكره .

وفي داخل أوروبا ـ عالم الإنسان ـ افترقت الاتجاهات الاشتراكية ، على أسس قومية . وإذا كانت الكتابات الاشتراكية ، فد نسبت النظريات الاشتراكية إلى فرد أو أفراد ، فقيل اشتراكية أوين ، أو سان سيمون ، او سيسموندي او غيرهم ، وقيل الاشتراكية الإقطاعية والاشتراكية البورجوازية ، او غيرها ، فلأن كل تلك الكتابات أوروبية أو منقولة عنها . أي أنها نظرة من الداخل ؛ داخل الإطار القومي ، ونحن لا نستطيع إلا أن ننظر إليها من الخارج ، لأننا فعلا في الخارج . عندئذ نجدها اشتراكية قومية . فبالرغم من الاختلاف السطحي بين الاتجاهات الاشتراكية في انجلترا ، كانت في مجموعها متميزة عن مثيلاتها في فرنسا وكانت هذه متميزة عن مثيلاتها في ألمانيا . ذلك لأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية في تلك البلاد كانت مختلفة ؛ فبينما كانت انجلترا في طليعة التقدم الصناعي كانت ألمانيا في المؤخرة وبينهما فرنسا .

وكان لا بد ان نعرض فيما سبق للاتجاهات الاشتراكية ، ونشأتها ، لتتوافر لنا الجرأة فنسميها بأسمائها الحقيقية : " الاشتراكية الانجليزية " و" الاشتراكية الفرنسية " و" الاشتراكية  الألمانية ".

ونكون بذلك قد تقدمنا خطوة .

فالاشتراكية بدأت على الأقل تحمل طابعا قومياً تتميز به من حيث الشكل ومن حيث المضمون على الصعيدين الفكري والتطبيقي .

السمة الثالثة ، التي تهمنا هنا ، أن " الاشتراكيات " التي تكلمنا عنها كانت " فورية " بمعنى أنها كانت دعوات ونظريات جاهزة للتطبيق الفوري . ذلك أنها كانت معالجات لمآس قائمة محسوسة . وكانت هي صدى لتلك المآسي . كانت تريد ان تعالج طفحاً مرضياً على جسم حي مركب من أعضاء وخلايا ، منظم سياسياً واقتصاديا واجتماعيا ، أي مجمع واقعي معقد التركيب ومعقد الجوانب ، لهذا جاءت النظريات الاشتراكية تخطيطاً غير علمي لمجتمعات بديلة تتضمن كل دقائق التركيب الاجتماعي . وكانت تنقصها المعرفة العلمية الكافية لتكون تلك المجتمعات البديلة ممكنة التطبيق فأكمل الاشتراكيون نقص معرفتهم العلمية بتصوراتهم العاطفية وهذا يفسر الارتباك الذي نجده في كل تلك النظريات ، إذ لا يمكن للخيال العاطفي أن يحيط بكل ما في الكائن الحي - او المجتمع - من جوانب وتفصيلات . وهكذا خرجت النظريات الاشتراكية ولا حدود لشطحات الخيال فيها ، ولكنها تميزت بتلك الميزة الأساسية ، وهي أنها تضمنت تنظيمات اجتماعية شاملة لكن خيالية . فبدلا من لندن او باريس او برلين ، كانت " فلانستير " كما أسماها فورييه ، أو" إيكاريا " كما أسماها كابيه ، أو" المستعمرة الوطنية " كما أسماها أوين . مدن " فاضلة " بكل ما تحتاج إليه من أجهزة سياسية واقتصادية واجتماعية ، ولكن في أذهان أصحابها فقط ، يحتفظون بها لتكون جاهزة للتطبيق إن استطاعوا التغلب على الواقع . ولم يكن النضال الاشتراكي وقتئذ سوى محاولات لإخراج تلك " المدن المثالية " الى حيز الواقع وفورا . وقد رأينا كيف أن الثورة الاشتراكية في فرنسا سنة ١٨٤٨ ، لم تتردد في أن تحاول أن تخلق من باريس مدينة فاضلة يحكمها العمال طبقاً للنموذج الذي أعده مقدما دعاة الاشتراكية الفرنسية .

إذن ، فقد كانت الاشتراكية حتى  منتصف القرن التاسع عشر :

١ - " أوروبية " في مواجهة بقية العالم .

٢- " قومية ” في مواجهة بعضها البعض .

٣ـ "مثالية " في مواجهة الواقع الرأسمالي .

في حدود الخصائص التي ذكرناها ، يجب ان نعترف بان تلك الاتجاهات الاشتراكية كانت محاولات بطولية حقاً . فقد كان أولئك الرواد يقفون ـ أفراداً وجماعات ـ ضد التيار الجارف للرأسمالية ، حين كانت أزمتها جنيناً لم تتضح معالمه للكافة . لقد كان من السهل حينئذ الحديث عن الرأسمالية والانتساب إليها والدفاع عنها لأنها صاعدة ، كما هو من السهل الآن الحديث عن الاشتراكية والانتساب إليها والدفاع عنها لأنها تيار صاعد . غير أن ذلك الصعود الكاسح لم يستطع أن يخفي عن عيون رواد الاشتراكية معالم الخطورة الكامنة في النظام الرأسمالي فتعرضوا للتيار ووقفوا ضد سير الأحداث واستطاعوا ان يهتكوا حجب الرأسمالية وأن يقرعوا أجراس الخطر . ومهما كان حظهم قليلا من النجاح في ذلك الوقت ، إلا أنهم كانوا روادا ، بذروا البذور، وفتحوا الطريق لمن جاء بعدهم ، وأسهموا ـ على المدى الطويل ـ في إرساء قواعد الاشتراكية ،  أو في تقويض قواعد الرأسمالية .

ـ 3 ـ

لو ظلت الاشتراكية محتفظة بتلك الخصائص حتى وقتنا هذا لما ثار السؤال هل يمكن ان توجد اشتراكية عربية " ولما أنكر أحد او جادل في أنه ، إذا كان من الممكن أن توجد اشتراكية " إنجليزية " و " اشتراكية  فرنسية " فمن الممكن ـ قياسا ـ أن توجد اشتراكية عربية . وكما كان للاشتراكيين الانجليز والفرنسيين أن يبدعوا اشتراكياتهم فإن لنا - نحن العرب - ان نبدع اشتراكيتنا .

على أن الأمور جرت على غير هذا .

ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر ، ظهر إلى العالم الاشتراكي ذلك الرجل العبقري الفذ كارل ماركس . وتناول قضية الاشتراكية تناولا مجددا على أسس جديدة ، وانتهى فيها إلى نتائج جديدة على الفكر الاشتراكي ، غيرت ملامح الاشتراكية الأوروبية ، القومية ، المثالية ، فجاءت الماركسية " عامة ، عالمية ، علمية " . أو هكذا يقولون .

المهم ان الماركسية قد فرضت نفسها ، ولا تزال ، على الفكر الإنساني في جميع أنحاء العالم . وكانت من حيت الشمول والإطلاق ماسة بكل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . وامتدت بها الحياة أصيلة أو معدلة ـ حتى اليوم الذي أصبحت لنا فيه ـ نحن العرب ـ قضايا حية ، اقتصادية واجتماعية وسياسية . وهكذا عاش كارل ماركس في خلفائه وتلاميذه ومريديه حتى وقف أمامنا وجها لوجه ٠ وفي هذه المواجهة أصبحت قضايانا ، بل وجودنا ( القومية ) وحياتنا ( الاشتراكية ) محل إنكار وتساؤل ويحث . لذلك لم يكن من الغريب أن أغلب الكتابات العربية الحديثة تتصدى لكارل ماركس وللشيوعيين الذين ينتسبون إليه عند تصديها لقضايانا  :  الحرية  والوحدة  والاشتراكية .

هذا التصدي الذي تفرضه علينا طبيعة الماركسية ، لا بد منه فلنحاول ان نجعل منه شيئاً مفيدا ، فإننا لا نستطيع ان ننكر غبطتنا بأن وجد في العالم كارل ماركس ولا نستطيع ان نهمل التراث الفكري والعملي الذي قدمته لنا الماركسية في النظرية وفي التطبيق . لقد وفرت علينا قرناً من شطحات الفكر ومخاطر التطبيق ، وبذلك أسهمت وتسهم باستمرار في بناء اشتراكيتنا بناء سليماً ، حتى ولو لم يكن هذا الإسهام البناء إلا عن طريق إعفاء جهودنا من أخطاء تجربتنا .

ـ 4 ـ

تحمل الماركسية شعار " الاشتراكية العلمية " بجدارة ، ولكن يجب أن نرفع عن أذهاننا الضغط الذي يمارسه هذا الشعار ، فقد استخدم لزعزعة الثقة في أي إنتاج فكري غير ماركسي .

وتحت تأثير الكتابات المسخرة لخدمة أغراض غير علمية كاد يستقر في أذهان الدعاة والمدعوين جميعاً أن كون الماركسية اشتراكية علمية يعني أن كل تفكير اشتراكي يجري وينتهي إلى ما يخالف مضمونها يكون تفكيراً غير علمي ٠ إنه اتهام لا يمت للعلم بصلة ، ومع ذلك فهو كفيل بأن يشل التفكير رعباً وان يزيد من أدعياء الماركسية والاشتراكية .

إن العلمية ميزة تاريخية للاشتراكية الماركسية ، وصفت بها لتمييزها عن الاتجاهات الاشتراكية السابقة عليها والمعاصرة لها . لذلك. فهي صفة نسبية محضة . وأوجه الاختلاف التي ميزت الاشتراكية الماركسية عن تلك الاتجاهات وجعلتها جديرة بهذه الصفة ، انها لم تضع تخطيطاً عاطفياً لعالم اشتراكي . لم تكن لماركس مدينة فاضلة كتلك المدن التي حاول أغلب الاشتراكيين أن يضعوا مشروعات لها والتي عرفت في التاريخ باسم المدن الفاضلة او المدن المثالية " . لم يكن هم ماركس أن يبتدع عالماً لا جذور له ، بل كان همه أن يلاحظ تطور المجتمعات الإنسانية وان يستنبط من ملاحظاته القوانين التي تحكم ذلك التطور، وأن يستعمل تلك القوانين لمعرفة اتجاه التطور ونتائجه ، وهو تفكير مجرد من العاطفة كما نرى وأبعد ما يكون عن الأحلام حتى لو كانت أحلاما اشتراكية . إنه تفكير كان لماركس فضل انتهاجه في الحقل الاشتراكي ، لهذا كان عدلا أن يقال عن اشتراكية ماركس إنها اشتراكية علمية ، لتفترق بذلك عن الاشتراكيات التي كانت مجرد تصوير او تجسيد لرغبات أصحابها وأمانيهم دون قاعدة من البحث العلمي .

لقد أصبح المنهج العلمي ، الآن ، قاعدة أي بحث في أي علم ، وبالتالي لم يعد ميزة ينفرد بها الاشتراكيون او الماركسيون ، ولكنه لم يكن كذلك يوم أن انتهجه ماركس . وتأكيداً لفضله كرائد استحق ان يميز عن معاصريه بأن اشتراكيته كانت اشتراكية علمية .

هذا هو المدلول الحقيقي لشعار" الاشتراكية الماركسية العلمية " وليس له مدلول أبعد من هذا ؛ فهو لا يعني إطلاقاً ان الملاحظات التي جمعها ماركس كانت دقيقة حتماً ، ولا ان القوانين التي استنبطها كانت محكمة تماماً ، ولا أن النتائج التي وصل إليها كانت صحيحة مطلقاً ، كما لا يعني ان الاشتراكية الماركسية ، أي الحصيلة الموضوعية لدراسة ماركس ، هي كل ما يمكن أن يصل إليه  البحث العلمي في ميدان الاشتراكية .

ما هو ذلك المنهج العلمي الذي انتهى به ماركس إلى اشتراكيته العلمية .

باختصار ـ ونرجئ التفصيل إلى موضع آخر ـ استعار ماركس من هيجل جدليته المثالية وجردها من مثاليتها لتكون ما عرف باسم " الجدلية المادية " . ويكفينا ان نعرف الآن ان الجدلية المادية تنتهي إلى عدد من القوانين تقول إنها تحكم كل شيء ، كما تحكم تطور المجتمعات الإنسانية ، يهمنا من هذه القوانين ما يقول ان كل شيء ينطوي على تناقض ، وإن هذه المتناقضات تتراكم إلى أن تصل إلى درجة تحدث فيها طفرة تتحول بها التراكمات الكمية إلى تغيير نوعي ، أي يخرج من الشيء ونقيضه شيء ثالث مختلف نوعياً عن كليهما ويكون خروجه  مرة واحدة دون تدرج . ولما كان هذا الوليد المختلف نوعياً عن والديه يتضمن بذرة نقيضه فإن تراكم  هذا  التناقض  سيؤدي  إلى  طفرة  جديدة  ومولود  جديد  مختلف  نوعياً ... وهكذا  في  سلسلة من التغيير ، هي عملية التطور ذاتها . وعلى أساس هذه القوانين يتطور كل شيء من أقل ذرة إلى أكثر الموجودات تعقيدا ، وعلى أساسها أيضاً تتطور المجتمعات الإنسانية بكل ما فيها من عناصر ونشاط ، اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي أو فكري  .

لو صدق هذا ، لكان " حتما " ـ لأن الحتمية جوهر القانون العلمي ـ أن تكون الرأسمالية منطوية على نقيضها ، وان متناقضاتها ستتراكم حتى يؤدي هذا التراكم إلى " طفرة " تنهار بها الرأسمالية ونقيضها معاً ليخرج إلى الوجود نظام آخر مختلف نوعياً عما سبقه .

وهذا بالضبط ، ما حاول ماركس الوصول إليه في بحثه الاقتصادي والاجتماعي . ولا يمكن تجاهل العبء الثقيل الذي حمله ليصل إلى هذا ، كما لا يمكن إنكار أن أغلب الجهد الذي بذله لم يكن موجهاً الى مراجعة هذا المنهج عندما يبدو أنه غير متفق مع الواقع ولكنه كان موجها الى التنقيب المستمر الدؤوب في الواقع وفي التاريخ ، لتخرج النتيجة منسجمة ومؤيدة لقوانين الجدلية المادية . نلك أن ماركس كان جدلياً مادياً قبل ان يعلم نفسه الاقتصاد السياسي ويدرس النظام الرأسمالي في عصره .

فالجدلية المادية هي الركن الركين بل هي أساس الاشتراكية الماركسية . وليست هذه الأخيرة سوى حصيلة تطبيق الجدلية المادية على الواقع كما عرفه كارل ماركس .

وليكن هذا مفهوما جيدا ...

ـ 5 ـ

أين التناقض في النظام الرأسمالي ؟  أو كيف يتراكم ؟  والى أية نتيجة ينتهي ؟

يبدأ ماركس إجابته على هذا السؤال من نقطة هي حجر الزاوية في نظريته الاقتصادية كلها ونعني بها فائض القيمة . ونظرية " فائض القيمة " امتداد لوجهة نظر اقتصادية تبناها ماركس بعد ان كان ريكاردو قد سبقه إليها مؤداها ان أية سلعة تستمد قيمتها من العمل الذي بذل في إنتاجها . كانت مهزوزة عند ريكاردو فجاء ماركس وأكدها وأرساها على قواعد أكثر صلابة .

العمل إذن هو جوهر القيمة . لا يعني هذا أن منفعة السلعة ليست شرطا لتكون لها أية قيمة ، ولكن يعني أن العمل وحده هو الذي يصلح مقياساً لقيمتها التبادلية ، إذ أن المنفعة متغيرة من سلعة إلى أخرى ومن مستهلك إلى أخر ، بينما العمل هو العنصر المشترك في سائر السلع مهما كانت درجة منفعتها . وهكذا تتحدد قيمة كل سلعة عند مبادلتها بمقدار ما تضمنته من عمل .
ووحدة قياس كمية العمل في أية سلعة هي ساعة العمل . فالقيمة التبادلية لأية سلعة تساوي عدد ساعات العمل التي يبذلها عامل عادي في إنتاجها . فإذا اقتضى إنتاج سلعة ما ، تسع ساعات من العمل ، فإن قيمتها تساوي تسع ساعات عمل . ولما كان رب العمل الرأسمالي ، هو مالك الإنتاج فسيبيع السلعة المنتجة بقيمتها التبادلية ، أي بما يساوي تسع ساعات عمل .

كم يدفع للعامل في مقابل هذا ؟ إن جهد العامل ليس أكثر ولا أقل من سلعة في سوق العمل ، يشتريه الرأسمالي بما يسمى عقد العدل . ويحدد عقد العمل الأجر ، أي ثمن سلعة العمل . وكأية سلعة تتحدد قيمة جهد العامل ـ الأجرـ بعدد ساعات العمل اللازمة لإنتاجه ٠ هنا نصل إلى نقطة دقيقة ، إذ كيف يمكن قياس ساعات العمل اللازمة لإنتاج القدرة على العمل ؟ لو ان ثمة آلة بدلا من العامل لأمكن لأي خبير ان يقدر قيمة المواد اللازمة لتكون قادرة على الإنتاج . وفي الماركسية لا يختلف العامل في ظل الرأسمالية عن الآلة وبالتالي ، وحتى بدون خبير ، تكون قيمة القدرة على العمل هي قيمة المواد اللازمة ليكون العامل قادرا على العدل . بهذه القيمة التبادلية يبيع العامل ، ويشتري الرأسمالي ، قوة العمل . او بلغة النقود ، يحدد الأجر على هذا الأساس فيكون مساوياً لثمن المواد اللازمة ليكون العامل قادرا على الإنتاج . ويؤكد ماركس أن هذه القيمة أقل دائماً من قيمة السلعة التي ينتجها العامل . ولم يقدم ماركس دليلا على هذا التأكيد ، ويبدو أنه قد اعتبرها حقيقة لا تحتاج إلى دليل ، إذ لو تساوت القيمتان لكان معنى ذلك ان العمال يستهلكون كل المنتجات وهو أمر ينقضه الواقع ، والتاريخ ، وتراكم الثروات ، وتقدم المدنية ، الذي يعبر جميعه عن زيادة غير مستهلكة  في الإنتاج البشري .

على أي حال لنعد إلى ماركس . رأينا أن كل سلعة ، يبيعها الرأسمالي بما يوازي تسع ساعات عمل ، يدفع للعامل الذي أنتجها أقل من ذلك ، وليكن ما يساوي خمس ساعات عمل .

هناك إذن فرق بين الرأسمالي أربع ساعات عمل . هذا الفرق هو ما يسميه ماركس " فائض القيمة " ومعنى هذا ان الرأسمالي يقبض ما قيمته تسع ساعات عمل ، ولا يدفع للعامل إلا قيمة خمس ساعات فقط ، ويحتفظ بالفرق مجاناً . ومعناه أيضا أنه عندما تنقضي الخمس الساعات الأولى ، يكون العامل قد بذل من الجهد ما يساوي أجره تماما ، ثم يبدأ منذ الدقيقة الأولى من الساعة السادسة في العمل بدون أجر . هذه الساعات التي يعملها العامل ، ليحصل رب العمل على ناتجها في شكل فائض قيمة ، هي ما يسميه ماركس " فائض العمل " وهو يمثل جهداً بغير دخل بالنسبة إلى العامل ، ودخلا بدون جهد بالنسبة  إلى الرأسمالي .

ذلك هو الاستغلال ، أو بذرة التناقض في النظام الرأسمالي .

من ناحية نجد الرأسمالي يحصل على دخل بدون عمل ؛ لأنه مالك أدوات الإنتاج ملكية فردية ، ومن ناحية أخرى ، نجد العامل يعمل بدون دخل ؛ لأن العلاقات الاجتماعية التي خلقها  النظام الرأسمالي تحتم عليه ان يبيع جهده ليعيش .

من ناحية ''رأس المال" ، ومن ناحية أخرى "العمل" .

كيف تتراكم هذه المتناقضات ؟

يتراكم رأس المال ويتراكم العمل ، وتتسع الهوة بينهما ، على الوجه الآتي :

يقول ماركس : إن رأس المال عقيم بطبيعته ، لأن العمل وحده هو الذي يخلق القيمة .

ولكن في مجال العمل لا بد أن يخصص جزء من رأس المال لاستهلاك العمال في صورة أجور، ولهذا تجب التفرقة بين ذلك الجزء من رأس المال المخصص للعمال ، ويسميه ماركس " رأس المال المتغير" ، والجزء الآخر المساعد للعمل في شكل أدوات وآلات ومبان وغيرها ، ويسميه كارل ماركس " رأس المال الثابت " . هذا الجزء الثابت لا يتضمن " فائض قيمة " ، ولا يؤدي إليها ، ومع ذلك فهو منتج . ولكنه لا ينتج سوى ما يساوي قيمته بدون زيادة - وتتمثل تلك القيمة عمليا في جزء يساوي ما يستهلكه من الآلات أو المنشآت سنوياً . وهو ما يعرف باسمه الحقيقي" الاستهلاكات " ، والاستهلاكات تساوي ـ في مجموعها ـ قيمة  الشيء المستهلك لا أكثر . أي أن الرأسمالي لا يحقق من وراء هذا الجزء من رأس المال" ربحاً " . إنما يأتي ربحه ( فائض القيمة مع التجاوز عن خلاف دقيق بينهما ) من رأس المال المتغير فقط ؛ لأنه هو الذي يتضمن فائضاً في القيمة ، عندئذ يتحدد اتجاه الرأسمالي في أن يحصل غلى أكبر قدر من فائض القيمة  من الأرباح . والرأسمالي لا يفعل هذا جشعاً ، أي لاعتبارات خلقية ، ولكن لأن تلك هي طبيعة النظام الرأسمالي ؛ الإنتاج من أجل الربح .

وقد نشأت الرأسمالية على أنقاض عهد الحرفيين ، حيث كان كل واحد يملك أدوات إنتاجه ، فقضت الرأسمالية على هذا النظام ، وسلبت الحرفيين أدوات إنتاجهم ، وحولتهم بذلك إلى عمال يمدونها بفائض القيمة . واستمرت الرأسمالية في صعودها وازدهارها كالمنشار ، يأكل طالعاً ويأكل نازلا ، حركتان متقابلتان ومتعاصرتان ، تؤديان معاً ، إلى تراكم رؤوس الأموال ، وزيادة عدد العمال .

فتقدم الصناعة والإنتاج الكبير في ظل المنافسة الحرة ، يدمر المنشآت الصغيرة ويفلسها ، وهكذا يأكل الرأسماليون بعضهم البعض ، وتقضي المنافسة الحرة بالتدريج على المنافسة الحرة ، في عملية تنتهي بأن تصبح الرأسمالية ، أي الملكية الفردية لأدوات الإنتاج مركزة في أيدي عدد قليل من الرأسماليين ذوي المقدرة الهائلة على فرض إرادتهم على السوق : سوق السلعة وسوق العمل ، لتحقيق أرباح طائلة تزيد من قوتهم وشراستهم ، ومقدرتهم على القضاء على مزيد من المنافسين ، وضمهم إلى جموع الأجراء . وتكون الرأسمالية قد " عششت في كل مكان " من الأرض عن طريق الاستعمار ، وحطمت منافسيها في الخارج بعد أن حطمت منافسيها في الداخل . ومع هذا الانتشار على الأرض والتركيز في الملكية ، تصبح الرأسمالية نظاماً عالمياً ، وتخضع اقتصاديات العالم لتحكم قلة نسبية من الرأسماليين الذين يديرون هذا الاقتصاد ـ ومعه كل شيء  ـ  طبقاً لمصلحتهم الخاصة .

وإذ تتراكم رؤوس الأموال وتتركز ، تنتج عن هذا ، ومعه عملية مضادة هي زيادة عدد العمال ، أي زيادة عدد أولئك الذين يعيشون على دخل عملهم . فقد بدأت الرأسمالية بجيوش من العمال تكونت من الحرفيين الذين ورثتهم من العهد الإقطاعي ، بعد ان جردتهم من ملكية أدوات الإنتاج ، ثم أضافت إلى هؤلاء جيشا متزايدا أبدا من صغار الرأسماليين الذين دحرتهم معركة المنافسة الحرة ، وقضى عليهم التضخم الصناعي وتركيز رؤوس الأموال ، فلم يجدوا وسيلة للعيش إلا أن يتخلوا عن مهمة البائع ليبيعوا جهدهم ثم انضم اليهم جيش ثالث من العمال الزراعيين وصغار ملاك الأراضي الذين هجروا قراهم إلى المدن حيث أقيمت المصانع ، وهم جيش متزايد دائما في ظل الرأسمالية . ولهذه الجيوش من العمال جيش احتياطي ، كما أسماه ماركس ، يزيد وينقص تبعاً للأزمات الاقتصادية .. أزمات الإفراط في الإنتاج والبطالة ، وهو جيش موجود دائماً وان تغير أفراده ، او قل عدده ، ومهمته أن يزود الرأسمالية ببديل عن كل عامل يموت أو يعجز أو يفصل .

تراكم رأس المال ، وتراكم عدد العمال ، وحقق الرأسماليون ربحا من جهد كل عامل ، فقد رينا أن كل عامل يعمل تسع ساعات ينال ما يقابل خمسة منها ويؤول الباقي إلى الرأسمالي ، فاتساع جبهة العمل إذن تحقق زيادة رؤوس الأموال ، غير ان الرأسمالية لا يكفيها فائض القيمة الناتج عن زيادة عدد العمال ، بل تلجأ في سبيل الربح إلى طرق أخرى ، منها ان تزيد من ساعات العمل لتزيد ساعات " فائض العمل" ، فإذا كان الرأسمالي يحصل على ما يساوي أربع ساعات عمل إذا كانت مدة ساعات العمل تسع ساعات ، فإن من مصلحته أن تزيد هذه التسعة إلى عشرة أو أكثر، وكل ساعة تزيد يكون إنتاجها خالصا له . فقد رأينا أن العامل لا يستفيد إلا من خمس الساعات الأولى . وقد كانت ساعات العمل ، أيام ماركس ، تتراوح ببن ثلاث عشرة ساعة وخمس عشرة ساعة. ومن تلك الطرق أيضاً ، أن يعمل الرأسماليون على تخفيض تكلفة المعيشة ، فقد رأينا أن أجر العامل يتحدد بقيمة المواد اللازمة لإبقائه قادرا على العمل ، وأن ما يزيد عن هذا القدر يكون ربحاً للرأسمالي ، فمن مصلحة الرأسمالي إذن أن تكون تكلفة المعيشة منخفضة ؛ لأن ذلك سيؤدي إلى خفض الأجور ، وبالتالي زيادة الريح . وتلعب الجمعيات التعاونية الاستهلاكية دوراً ايجابياً في تحقيق هذا . غير أن للرأسمالي وسائله الأخرى في ميادينه الخاصة ، فالأطفال والنساء يحتاجون إلى كمية أقل مما يحتاجه الرجال للحفاظ على مقدرتهم على العمل ، ولذلك لا يتردد الرأسمالي في تشغيل النساء والأطفال بدلا من الرجال ، فيدفع لهم أجوراً أقل ، ويحقق بذلك مزيداً من فائض القيمة .

وضحت الآن المتناقضات وتراكمت . ولم تبق إلا الطفرة .

غير أنه قبل الطفرة يوجد الصراع ، الذي يولد مع المتناقضات نفسها ، ويزيد بتراكمها .

كيف يحدث هذا في ظل الرأسمالية ؟ .

يقول ماركس ، ان اطراد زيادة عدد العمال ، وانخفاض الأجور، وحدّة بؤسهم يحولهم إلى طبقة . والطبقة عند ماركس ـ ولست أدري كيف يمكن التركيز على هذا بقوة لا تنسى ـ ليست جموع العمال مهما كثر عددهم . ان مجرد وجود ملايين العمال في بلد ما لا يعني أن ثمة طبقة " عمال " بل حتى لو لم يوجد في بلد ما سوى العمال فقط فإنهم لن يكونوا " طبقة . الطبقة العاملة عند ماركس هي العمال منظمين في صراعهم ضد أعدائهم . ان الطبقة تعني الحركة المناضلة ، ولا تعني عددا من الناس يعيشون في مستوى متقارب ، أو متشابه ، أو يمتهنون مهنة واحدة ، حتى لو كانت مهنة العمل اليدوي . لذلك يقول ماركس إنه عندما تصل الحال بالعمال إلى ما بيناه ، ينظمون أنفسهم في طبقة ضد الرأسمالية ، فيكونون النقابات ، ويتحدون لرفع مستوى الأجور ،  وينشئون الاتحادات لتكوين احتياطي يلجئون إليه عند الثورة . ومن حين إلى آخر ، يصبح نضالهم ضد الرأسمالية صراعاً مكشوفا ، وقد ينتصر العمال ، في وقت أو في آخر ، ولكن نصرهم يكون وقتياً دائما ، لأن النتيجة النهائية لمعركتهم لا تتوقف على الانتصارات الوقتية ، بل هي مرتبطة بوحدتهم الشاملة . وتلعب سهولة المواصلات دورها في التقريب بين العمال واتصالهم ، وهو الاتصال اللازم ليصبح النضال المحلي وحدة نضالية طبقية على مستوى الأمة كلها . ولما كان كل نضال طبقي هو في الوقت نفسه نضال سياسي ، فلا يلبث العمال أن يكونوا لهم حزبا سياسيا .

لننقل الباقي من البيان الشيوعي . يقول : " إن تنظيم العمال في طبقة ، على هذا الوجه ، وبالتالي في حزب سياسي ، قد يعرقله النزاع بين العمال أنفسهم ، ولكنه سيقوم مرة أخرى أكثر قوة وحزما واتحادا . ويستطيع أن يرغم الهيئات التشريعية على الاعتراف بمصالح معينة للعمال ، وذلك عن طريق استغلال الانقسام بين الرأسماليين أنفسهم " . " وخيراً عندما يصل الصراع الطبقي الى الساعة الحاسمة ، عندما يصبح العمال معدمين ، وتصبح علاقتهم بأزواجهم وأولادهم مجردة من الروابط العائلية التي تعرفها الرأسمالية .. عندما تجردهم الرأسمالية من كل ما هو وطني ، ويصبح القانون والأخلاق والدين مجرد ستائر تخفي مصالح الرأسماليين . فإنهم لن يستطيعوا أن يصبحوا سادة قوى الإنتاج في المجتمع إلا بإلغاء نظام ملكيتها ، بل إلغاء أي نظام ملكية سابق .. ليس للعمال شيء يحافظون عليه ، ورسالتهم أن يدمروا كل ما كان محفوظاً مؤمنا من الملكيات الفردية .

ولن يستطيع العمال أن يفعلوا هذا إلا بتدمير النظام السياسي ، والاستيلاء على الحكم ، وإلغاء الملكية الفردية . عندئذ يكون التناقض الذي تراكم ووصل أقصاه قد حل بان خرج إلى الوجود عالم جديد هو عالم الشيوعية " .

وأين الاشتراكية ؟

هي تلك الفترة المؤقتة التي تمر بعد استيلاء العمال على السلطة ووسائل الإنتاج ، وتتم خلالها تصفية الرأسمالية . ان الاشتراكية فترة انتقال لا أكثر ولا أقل ، وأين الشيوعيون ؟

الشيوعيون ليسوا هم الطبقة العاملة . إنهم جزء منها ، ولكن أكثر وعيا . ولذلك فهم يقومون بدور الطليعة القائدة ، وتكون مهمتهم الأولى أن ينظموا العمال في طبقة ، ويقودوا نضالهم ضد الرأسمالية . " ويتميزون عن باقي الطبقة العاملة بميزتين : الأولى ، أنهم خلال الصراع الذي تخوضه الطبقة العاملة في أمة ما ، يركزون على أولوية مصالح الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم دون اعتبار للقومية ، والميزة الثانية ، أنهم ـ دائماً وفي كل مكان ـ يمثلون الحركة العمالية ككل " . فيما عدا هذا فإنهم لا يأتون بجديد ، ولا يبدعون من عندهم شيئاً . ان دورهم ـ كما قال ماركس وانجلز : " مجرد التعبير عن حركة تجري تحت أنظارهم . إن إلغاء علاقات الملكية القائمة ليست ميزة تنفرد بها الشيوعية " . والماركسية لا تسمح للشيوعيين ، أو غيرهم ، بأن يفعلوا أكثر من هذا ، لأن التطور ـ  كما قال ماركس ـ ليس أفكارا مبتكرة ، ولكنه  نتائج حتمية للقوانين الحديدية التي تحكم تطور المجتمع . فسواء أراد الرأسماليون أم لم يريدوا ، وسواء رغب العمال أم لم يرغبوا ، سيحدث الآتي : تنتشر الصناعة ، ويتراكم رأس المال ، ويتركز في أيد قليلة ، ويزيد عدد العمال ، وتستمر أجورهم في الانخفاض ، وساعات عملهم في الزيادة ، وبؤسهم في الشمول ، فينظمون أنفسهم ـ بقيادة الشيوعيين ـ فى طبقة تصارع الرأسمالية ، فتصرعها ، وتستولي على السلطة ، ثم تلغى الملكية الفردية . إنه قدر حتمه التاريخ ، وطوبى للذين يسيرون مع التاريخ ولا يقفون ضده .

هذه هي الماركسية ، قد نقبلها وقد نرفضها ، ولكنها وحدة متكاملة لا تتجزأ ولا تقبل التقسيم . فعلى الذين يقبلونها ، وعلى الذين يرفضونها ، أن يقبلوها جميعاً ، او يرفضوها جميعاً . فلا يمكن أن تكون ماركسيا إلا إذا سلمت بأن العمل وحده ، دون غيره ، هو الذي يحدد قيمة السلعة . ولا يمكن أن تكون ماركسياً إلا إذا كان رأيك أنه في ظل الرأسمالية تنخفض الأجور ؛ ويزيد بؤس العمال ، ثم يثورون لتدمير الرأسمالية ، وإلغاء الملكية الفردية . كما لا يمكن أن تكون ماركسياً وتناضل على أساس من القومية دون وحدة الطبقة العاملة ، أو أن ترجو الخير من غير حكم الحزب الشيوعي قائد الطبقة العاملة كما يقول ماركس . انها سلسلة من حلقات متماسكة ، كل محاولة لفك حلقاتها هي في الوقت نفسه تحطيم لها . وكل تطوير أو تعديل أو مراجعة ، ستهز الماركسية قبل ان تخلق شيئا جديدا ، حتى لو أسمته " الماركسية الجديدة " كما فعل سوريل وشيرنوف ويازاروف وبجدانوف ومن قبلهم برنشتين الذي أطاح بنظرية فائض القيمة ، وأراد أن يحتفظ بلقب ماركس . لقد كان ماركس منطقيا مع نفسه ، بل لعل عقله كان من أعظم العقول المنظمة التي أنجبها التاريخ ، فجاءت أفكاره متكاملة محكمة . ولم يكن ماركس ليقبل فكرة مهزوزة عنده . ولعل هذا ما منعه من أن ينشر في حياته باقي كتابه " رأس المال " ، فلما أن نُشر بعد وفاته ، تلقفه خصوم ماركس ، ووجدوا فيه تلك الثغرات التي حاول أنصاره سدها "بالماركسية الجديدة " ؛ أول مرحلة في الحركة التي تصر على انها تطوير للماركسية .

تلك هي الاشتراكية الماركسية التي يقال لنا أن ليس ثمة اشتراكية علمية غيرها ، وانه يكفينا ، إن كنا نريد اشتراكية عربية ، أن نطبقها على الواقع العربي .

كيف ؟ إن ماركس نفسه لم يقل كيف تبنى الاشتراكية ـ لم يخطط مجتمعا اشتراكيا أو غير اشتراكي .

صحيح أن ماركس وأنجلز أوردا في البيان الشيوعي نموذجا للتطبيق الاشتراكي في عشر نقاط هي :

١- إلغاء ملكية الأراضي واستعمال دخلها في الأغراض العامة

٢- فرض ضريبة تصاعدية مرتفعة على الدخل .

٣- الغاء حق الإرث .

٤- مصادرة  أموال المهاجرين والمتمردين .

ه- تركيز الائتمان في أيدي الدولة عن طريق بنك وطني برأس مال حكومي يحتكر عمليات الائتمان .

٦- تركيز وسائل المواصلات والنقل في أيدي الدولة .

٧- التوسع في المصانع وأدوات الإنتاج المملوكة للدولة وإصلاح الأراضي الشاسعة ، وتحسين التربة عموماً طبقاً لخطة واحدة .

٨- التنظيم الموحد لكل أنواع العمل . تجييش الناس في سبيل التصنيع خاصة في ميدان الزراعة .

٩- الربط بين الزراعة والصناعة ، والإلغاء التدريجي للتمييز بين المدينة والريف ، عن طريق توزيع السكان على مستوى الدولة توزيعا أكثر مساواة .

.١ - التعليم بدون مقابل لكل الأطفال في المدارس العامة - إلغاء الشكل الحالي لتشغيل الأطفال في الصناعة والربط بين التعليم والإنتاج الصناعي .. الخ .

كان ذلك نموذج التطبيق الاشتراكي في البلاد المتقدمة كما رآه ماركس وانجلز سنة ١٨٤٨ ، وفي سنة ١٨٧٢ قدم انجلز للطبعة الألمانية من البيان الشيوعي بقوله إن النموذج الاشتراكي الذي ورد فيه لم يعد مناسبا .

وهكذا عدنا كما كنا ، لا نستطيع أن ننسب إلى ماركس إلا شيئاً واحدا قاله وأصر عليه هذا النظام الرأسمالي سيؤدي حتما الى الشيوعية . ولم يذكر من ملامح الشيوعية إلا الغاء الملكية الفردية وهو وجهها السلبي .

صحيح ، أيضا ، أن خلفاء ماركس وانجلز ، وعلى رأسهم لينين الاشتراكي الروسي  قد أكملوا بعض النقص ، أو حاولوا ان يكملوه ، غير أن هذا جاء عند التطبيق ولنا فيه رأي وقبل أن نستطرد ، نحب ان نورد ملاحظة هامة على نظرية ماركس . إن ماركس بن نظريته على أساس الرأسمالية الحرة ، وكان مكملا للمذهب الحر المطلق كما قال به آدم سميث من قبل . فبمنهجه الجديد ، تلقى الخيوط التي كانت في أيدي فلاسفة المذهب الحر ، وسار مع الرأسمالية الحرة في خضوعها المطلق لقوانين " المنفعة الشخصية " ، و " المنافسة الحرة " و " العرض والطلب" ليكشف لنا مصير تلك الرأسمالية التي تعيش مطلقة السراح بدون تدخل .

وقد كانت غضبة ماركس الكبرى على الاشتراكيين المعاصرين له ؛ لأنهم يتجاهلون القوانين الاقتصادية ، ويحاولون الوقوف في وجه الرأسمالية لإيقافها ، بدلا من دفعها من الخلف لتقطع طريقها في أقل وقت ممكن . ولكن لا بد أن تقطع هذا الطريق . واذا كانت الماركسية متكاملة ومنطقية ، فان نقطة البدء فيها مجتمع تسوده الحرية الفردية بالمعنى الذي نادى به فلاسفة المذهب الحر ، وكان سائدا فعلا في النصف الأول من القرن التاسع عشر .

إن الشيوعية هي حديقة السطح في بناية الرأسمالية القاتم ، ولن تصل اليها إلا إن ولجت بابها وصعدت درجاتها المظلمة .

ـ 6 ـ

وصلنا من العرض الذي سبق إلى أن النظريات الاشتراكية ، أياً كان صاحبها ، لا بد أن تنبع من الواقع الذي تعانيه الشعوب ، وقد رينا كيف كان المذهب الحر. معبراً عن واقع غرب أوروبا ، وكيف حملت اشتراكية أوين الطابع الانجليزي ، وكيف كانت الاشتراكية الفرنسية استجابة للواقع الفرنسي ، وعندما تجاوزته هلكت في ثورة ١٨٤٨ . كما رأينا كيف كانت الماركسية نتيجة للرأسمالية التي كانت سائدة في غرب أوروبا ، طبقاً لمنهج الجدلية المادية ، وكيف ان ذلك المنهج قد طبق على وقائع كانت قائمة في النصف الأول من القرن التاسع شر .

ثم جاءت التجربة والتطبيق وقدمنا أدلة أخرى .

ـ 7 ـ

أولى هذه التجارب وأعمقها أثرا التجربة الاشتراكية السوفييتية التي بدأت في روسيا سنة ١٩١٧. ففي ذلك العام نجحت الثورة السوفييتية بقيادة لينين في الاستيلاء على السلطة وإسقاط القيصرية . في روسيا ، البلد الزراعي ، الذي لم ينتشر فيه الإنتاج الصناعي الكبير ، ولم تتراكم فيه رؤوس الأموال ، ولم تتركز في أيدي أقلية ، ولم تتكون فيه طبقة عاملة ، بل لم يكن العمال

جميعاً أكثر من جزء صغير فيه . في هذا البلد قامت أول ثورة ماركسية . كيف حدث هذا ؟ لا يمكن ان نجد الإجابة في نظريات " فائض القيمة " و" المتناقضات " ، المهم أن قد قامت الثورة ونجحت . فإذا كانت محتاجة لتبرير نظري فقد أبدع لها لينين نظرية النمو غير المتكافئ للرأسمالية أو ـ كما قال ستالين ـ الماركسية في عهد الامبريالية . وهل كان يمكن للينين او غير لينين أن يتجاهل أن الثورة الاشتراكية الأولى في التاريخ التي كتب لها النجاح قد تمت على غير ما كان يرى ماركس ؟ وهل كان يستطيع إلا أن يبررها نظريا ؟ فلنسلم على الأقل بأن نظرية لينين كانت وليدة الواقع الروسي ، او حتى الواقع العالمي ، الذي لم يدخل في حساب

ماركس عندما وضع نظريته . وليُسمها الغير " تطويرا للماركسية " إن شاءوا ، ولنعد إلى الواقع لنرى كيف كانت الماركسية في التطبيق .

نجحت الثورة تحت لواء الماركسية ، وكان أول ما فعلته أن وضعت الماركسية موضع التطبيق .

والماركسية كما قلنا هي إلغاء الملكية الفردية لأدوات الإنتاج . فليكن : فغي ٨ نوفمبر١٩١٧ صودرت كل الملكيات الكبيرة بدون تعويض ، وآلت الملكيات الزراعية إلى مجالس الفلاحين . وفي ١٤ نوفمبر ١٩١٧ خضعت كل المؤسسات الصناعية والتجارية للإشراف الفعلي المباشر للعمال. ثم تلا ذلك إلغاء التجارة الداخلية ، وتأميم البنوك ، والشركات ، وتقرر الاستيلاء على فائض الانتاج عينا .

لقد قضي على الرأسمالية و ألغيت الملكية الفردية وتملك العمال أدوات الإنتاج .

لقد طبقت الماركسية وزال التناقض .

ومضت أربع سنوات . ففي سنة ١٩٢١ وجد لينين العظيم في نفسه الشجاعة الكافية لإعلان فشل التجربة ، وإلغاء ما تم . ففي ٢٩ مارس ١٩٢١ ألغي الاستيلاء على فائض الإنتاج عيناً . وبعد ثلاثة أيام عادت حرية التجارة الداخلية . وفي ١٧ مايو ١٩٢١ صرح لصغار المنتجين ان يبيعوا منتجاتهم لحسابهم . وفي ٧ يوليو ١٩٢١ ألغي تأميم كل المؤسسات الصناعية التي لا يزيد عدد
العمال فيها على عشرين عاملا ( عشرين فائض قيمة ، عشرين ربحاً لرب العمل بدون جهد وجهداً من العامل بدون أجر
 ـ عشرين استغلالا ) ، وفي ١٠ يوليو ١٩٢١ أتيح للأفراد ، والشركات ، ان تقيم مصانع مملوكة لها ملكية فردية . وعندما انعقد المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي (مارس ١٩٢٢ ) فال لينثن .." قد يكون الواحد منا شيوعياً فاضلا أمينا مخلصا لمبدئه ، مضحيا في سبيله ، ولكنه مع هذا لا يصلح تاجراً ، لأنه ليس رجل أعمال ، ولأنه لم يتعلم ذلك ، أو لا يريد أن يتعلم ، ولا يعرف أنه يجب أن يبدأ من ألف باء . هذا الشيوعي الثوري الذي قام بأكبر ثورة في تاريخ العالم ، والذي تحدى أربعين دولة لا أربعين قرناً ، يلزمه ان يتعلم درساً من سمسار عادي لم يفعل إلا الجري عشرات السنين بين بيوت التجارة " . وقال " كفوا عن المناقشات البيزنطية ، عن العلاقة بين الاشتراكية ورأسمالية الدولة ، ولا تنسوا المهمة الأساسية " . كانت المهمة الأساسية هي زيادة الإنتاج في ووسيا بعد ان بلغت حد المجاعة . وأمام ذلك الواقع المؤلم لم يكن لينين من الجمود بحيث يقف عند نصوص الماركسية . لقد كان الناس يريدون ان يأكلوا وان يلبسوا ، وكان تملك العمال أدوات الإنتاج الذي تقول به الماركسية قد أدى إلى كارثة ، فعادت روسيا إلى نوع من الرأسمالية ، أو نوع من الاشتراكية على الأصح . ونشر لينين في جريدة كراسنايا نوفا في ٢٨ ابريل ١٩٢١ قوله " إننا أغبياء وضعفاء ، وقد اعتدنا القول بأن الاشتراكية شيء حسن ، وان الرأسمالية شيء سيء ، ولكن الرأسمالية ليست سيئة إلا بالنسبة إلى الاشتراكية ، أما بالنسبة إلى القرون الوسطى ، حيث لا تزال روسيا متأخرة ، فليست الرأسمالية سيئة " . ولم يقم لينين وزنا للمعارضة التي صادفته ، فلم يلبث أن منح شركة أمريكية احتكارا ـ نعم احتكار ـ استغلال بعض الثروات في الأورال ، ثم منح حوالي عشرين احتكارا آخر لشركات انجليزية وألمانية وفرنسية وأمريكية . - مرسوم صدر في ١٣ مارس ١٩٢٢ أصبح من المباح أن تؤلف شركات مختلطة ، يكون رأسمالها من أموال حكومية وأموال أجنبية ، وخضعت أغلب تجارة الخشب وصناعة التعدين لشركات من هذا النوع .

هل كان هذا النظام الواقعي الذي ساد روسيا تحت حكم لينين ، والذي سمي " بالنظام الاقتصادي الجديد " ، هو الاشتراكية العلمية كما قال بها ماركس ؟ قطعاً لا ، فحيث يعمل العمال في نظير أجر لدى رب عمل يملك أدوات الإنتاج ، ويجنى أرباحا من عملهم ، لا تكون ثمة اشتراكية ولا شيوعية في منطق الماركسية . وطبيعي أن لينين لم يكن يجهل معارضة النظام الذي طبقه للاشتراكية الماركسية . ولكن الفرق بينه وبين ماركس ، أنه كان يحاول تجربة عملية يلعب فيها الواقع دور إيجابياً .

وكان الواقع العملي بالنسبة إلى لينين هو الاتحاد السوفييتي ، بكل ما ينطوي عليه هذا التعبير من طبيعة جغرافية ، وتراث فكري وحضاري وتاريخي . كان لينين يعالج قضية الشعوب السوفيتية ، بينما كان ماركس يرسم نهاية رأسمالية غرب أوروبا في القرن التاسع عشر . ومن مجموع الحلول التي طبقها لينين ، والتبريرات النظرية لها ، تكونت " اللبينية " ويأبون إلا القول بأن اللينينية هي الماركسية متطورة ، وهو تعبير أجوف ، لأن أحدا لا يستطيع الزعم بأن نظاما ما مقطوع الصلة بما سبقه من نظم . وعلى هذا الوجه يمكن القول بأن الماركسية هي الرأسمالية متطورة ، وأن الرأسمالية هي الإقطاعية متطورة ، ومع ذلك فلكل منها ذاتيتها وخصائصها المميزة . إنما الواقع الذي لا شك فيه ، أن الثورة الشيوعية التي قامت في روسيا ، وحملت الماركسية شعارا ، قد حاولت أن تحقق الاشتراكية الماركسية على الواقع الروسي . وأقصى ما يمكن أن يقال إنصافا للشيوعيين ، أن النظرية والواقع قد تفاعلا ، فأخرجا نظاماً ليس هو الاشتراكية الماركسية ، ولا هو الإقطاعية القيصرية ، ولكنه نوع خاص من الاشتراكية تحمل الطابع الروسي ، بحيث يمكن تسميته " الاشتراكية - السوفييتية ، بدلا من اللينينية .

وقد تكرر الأمر نفسه أيام ستالين ، وظهر تبريرا له ما سمي بالستالينية . ثم استمر التطور أو التطوير ، وانعقد المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفيتي ، وأدان التجربة الستالينية . وهنا يجب أن نقف لحظة ، فمن العسير أن ينسب إلى ستالين ومولوتوف ومالينكوف ... الخ أنهم لم يفهموا الماركسية كما وضعها ماركس ، أو اللينينية كما طبقها لينين ، بل الذي نسب إليهم حقيقة هو الجمود وعدم التطور . أي ان المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي رأى أن الحلول التطبيقية التي اتبعها ستالين في التنظيم الاشتراكي داخل الاتحاد السوفييتي كانت خطأ ، أو بمعنى أدق ، أنه لم يكيف الحلول تكييفاً يلائم واقع المشكلات الروسية . فوجه التخطئة ان ستالين لم يخضع للواقع بالقدر الكافي ، لذلك أهدرت الستالينية وأدينت ، او على رأيهم ألغيت المرحلة الأخيرة من تطور الماركسية وعادوا إلى اللينينية . واللينينية ، في تاريخ الاشتراكية السوفييتية تمثل الجرأة على الماركسية ، ومعالجة الواقع وفقا لمقتضياته . وخروتشوف له جرأة لينين ، ولكنه عجز عن تبرير جرأته بنظرية من عنده ، فتمسك باللينينية ، ولم تظهر إلى الوجود نظرية خروتشوفية وإن كان هو القائل :

" اننا نعيش في عصر طرح فيه تطور الإنسانية الاجتماعي ، قضية الاستعاضة عن النظام الرأسمالي بالنظام الاشتراكي على الصعيد العالمي . وهذا عصر نضال حاد تفعل فيه الرأسمالية كل شيء لكي تؤخر ساعة هلاكها المحتمة ، بينما لا تدعم الاشتراكية وتطور مكاسبها فحسب ، بل تساعد أيضا جميع الشعوب على تحقيق طموحها المشروع إلى التحرر الوطني والاجتماعي وإلى السلام والتقدم ... لقد وضعت الحياة أمامنا مهمة ان نبين للشعوب ، في مدى تاريخي قصير ، مزايا أسلوب الإنتاج الاشتراكي وإمكانياته الهائلة . ولتحقيق هذه المهمة ، ينبغي لنا ، لا أن نوحد قوانا السياسية فحسب ، بل أن نوحد أيضا قوانا الاقتصادية ، عن طريق تطوير التعاون وتقسيم العمل ، واستغلال منجزات العلم والتكنيك الحديثين استغلالا فعالا وأفضل من ذي قبل . من الضروري التوصل إلى تطور البلدان الاشتراكية بمزيد من السرعة . وهذا الطريق إنما اعترفت به جميع الأحزاب الماركسية - اللينينية ، وهو معلل ومدعم في الوثائق التاريخية البرنامجية التي صودق عليها في اجتماعي موسكو عامي 1957 و  1960 .

" ومع ذلك يوجد من يقولون عن أنفسهم إنهم ماركسيون ، ويحاولون أن ينفوا    عن طريق التحكم اللفظي ، أهم ما استخلصه لينين خاصا بضرورة المباراة الاقتصادية السلمية بين النظامين .. نظام الاشتراكية ونظام الرأسمالية ، والأهمية الحاسمة لنجاحنا الاقتصادي . فهم إذ يقفون ضد سياسة التعايش السلمي ، والمباراة الاقتصادية السلمية . يزعمون ان هذه ليست غير تكرار لنظريات " الاقتصاديين " الذين - كما هو معروف - أولوا النضال السياسي ضد الرأسمالية أهمية من الدرجة الثانية ، بينما اعتبروا النضال الاقتصادي المهمة الأساسية للطبقة العاملة . 

* كلمة ناقصة في المصدر الأصلي تمت اضافتها حسب السياق العام ) .

" غير أن مثل هذا التحكم اللفظي لا يمكن ان يصدر إلا ممن لا يفهمون جوهر اللينينية .

" ... إن المباراة الاقتصادية السلمية بين النظامين التي تتحدث عنها الوثائق المنهجية للأحزاب الشيوعية والعمالية ، لا تنفي إطلاقا ، بل تفترض النضال السياسي الطبقي ، تخوضه الطبقة العاملة فى البلدان الرأسمالية من أجل الاشتراكية. ولكن نجاح الشعوب الاشتراكية في الجبهة الاقتصادية ، هو الذي يخلق أكثر الإمكانيات ملاءمة لأجل تطوير نضال البروليتاريا في البلدان الرأسمالية فى سبيل تحررها الاجتماعي ، ولأجل تقوية نضال التحرر الوطني للشعوب .
وهذه حقيقة جلية ، ومعترف بها عموماً بين الماركسيين .

وفي الظروف الجديدة ، واستنادا إلى تحليل عميق للواقع المعاصر ، طورت الحركة الشيوعية العالمية هذه الأفكار اللينينية في اجتماع ممثلي الأحزاب الشيوعية والعمالية في موسكو عام  1960 ".

ثم هو القائل " إن كل بلد اشتراكي يحرز نجاحا فعليا في تطوير الاقتصاد ، وفي رفع مستوى حياة الشعب ، إنما يسهم بقسطه ألأممي في قضية انتصار أفكار الماركسية  " .

وهكذا تطورت " وحدة الطبقة العاملة " و " التناقض العدائي بين الطبقة العاملة والرأسماليين " و " واجب الماركسي في أن يدفع بالمتناقضات إلى ذروتها لتحطيم الرأسمالية العالمية " و" أن العمال لا وطن لهم " ... الخ ، إلى أن واجب الاشتراكيين ، في كل بلد اشتراكي ، ينحصر في أن يقدموا من نجاحهم في تطوير حياتهم ، داخل بلادهم ، مثلا يجذب انتباه الآخرين ، ويدفعهم إلى احتذائه . ووراء كل هذا أفكار مس قوانين الجدلية المادية وتكشف ثغراتها ، كما سنرى فيما بعد .

ووراء مبرره سوى من الواقع ، " أو أشد المواد إقناعا ، أي واقع الحياة بالذات" كما قال خروتشوف ، وهو أن ويلات الحرب العالمية الثانية كانت كافية ليكتفي كثير من الشيوعيين بمشكلاتهم الخاصة وألا يزجوا بأنفسهم فى صراع غير وطني ، خدمة للنظرية الماركسية . ولهذا دلالة خاصة إذ أنه يحطم جمود الماركسية ، ووحدتها ، التي طبعتها بها الجدلية  المادية  .

ولقد جاءت الضربة الأولى من يوغوسلافيا ، ثم قادها خروتشوف الذي حمل لواء التعايش السلمي بدلا من الصراع الطبقي . وحالف الحكومات الوطنية ، وخذل الشيوعية المحلية التي لا تزال متعلقة بأهداب الماركسية ، ولعل أنور خوجه زعيم ألبانيا أن يكون صادقا عندما وصف خروتشوف بأنه اخطر مراجع للماركسية . ومع وقوف يوغوسلافيا في جاذب ، و روسيا في جانب ثان ، والصين وألبانيا فى جانب ثالث ، تحطمت سمة العالمية التي لا تقوم الماركسية بدونها . وانعكس هذا التحطيم على الأحزاب الشيوعية ، فانقسمت ، فكانت مذاهب شتى . وفي مواجهة كل هذا لا تزال الماركسية كما فهمها تروتسكي تسود الحركة الاشتراكية في بقاع من آسيا أخصها سيلان .

أيا كانت الأسباب التي أدت إلى هذه الفرقة ، فقد كانت دليلا من الواقع أن ثمة شيئا ما ، في الماركسية النظرية يعرضها للاصطدام بالواقع ، ويمزقها من الداخل .

تلك هي التجربة الأولى .

والتجربة الثانية في الصين ، فقد بدأت الاشتراكية فيها على صورة تختلف عن الاشتراكية الماركسية إلى درجة أتهم بسببها ماوتسي تونغ بخروجه على النظرية . ومع ذلك لم يلبث الواقع الصيني أن أخضع الماركسيين لأحكامه ، فجاءت الاشتراكية الصينية فذة في مميزاتها . اشتراكية بناها وما يبنيها الفلاحون وليس العمال . اشتراكية لم تقض على الرأسمالية الوطنية بل تعاونت معها . اشتراكية تبدع اليوم نظام " الكوميونات " مخالفاً في أصوله وجزئياته تملك العمال أدوات الإنتاج كما قال به ماركس ، ومخالفاً في أصوله وجزئياته الكولخوزات والسوفخوزات التي يقوم عليها التنظيم الزراعي في الاشتراكية السوفييتية ، انها ليست اشتراكية ماركسية ، ولا اشتراكية سوفيتية ، بل اشتراكية صينية لحما ودماء ، تتبادل مع الاشتراكية السوفيتية تهمة القومية ، وهذا حق .

والتجربة الثالثة ، هي قصة تطبيق النظام الاشتراكي في دول أوروبا الشرقية . فقبل الحرب العالمية الثانية ، كانت أغلب هذه الدول تحبو أو تمشي في مدارج الرأسمالية . وقيما عدا ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا ، كان لا بد من أن تمر سنون طويلة ، حتى ينتشر التصنيع ويزداد الرأسماليون قلة وغنى ، ويزداد العمال عددا وفقراً ، إلى أن تصل الأمور إلى ما يسمى " العتبة " فيحدث الانفجار . كان لابد من حدوث هذا ، حتى تكون ناضجة للاشتراكية الماركسية . ثم قامت الحرب ، ولما أن انتهت ، كانت كل هذه البلاد محتلة بالجيوش السوفييتية ، كما كانت أوروبا الغربية محتلة بالجيوش الأمريكية والانجليزية والفرنسية . وأينما وجدت الجيوش وجد نظام الدولة الغالبة فأوروبا الشرقية أصبحت اشتراكية ، واجتثت الرأسمالية من أساسها قبل أن تبلغ دور النضج . استولت الأحزاب الشيوعية - وكانت أقليات ضئيلة - على الحكم ، لا لأنها قد نظمت العمال في طبقة ، وقادت صراعها ضد الرأسمالية ، ولكن لأن روسيا أرادت ذلك . وكان هذا كله مخالفاً لقوانين تطور المجتمعات الإنسانية التي استعملها ماركس للوصول إلى الاشتراكية الماركسية . فرأينا اشتراكيات قائمة لم تكن يوماً وليدة أي تطور اقتصادي أو. اجتماعي بالمعنى الذي عرفته الماركسية . بل رأينا ما هو أغرب من هذا ؛ الحكومات الاشتراكية في أوروبا الشرقية تأخذ من جهود عمالها لتدفع للاتحاد السوفييتي تعويضات الحرب عن جرائم الرأسمالية رومانيا مثلا ، وأغرب من هذا على المنطق الماركسي ، أن بلدا كألمانيا ، التي كان شعبها الموحد في طور متساو من الناحية الاقتصادية والفكرية ، تنقسم إلى دولة اشتراكية ، ودولة رأسمالية .

وتقف حدود الاشتراكية عند الخط الذي رسمه المحتلون جميعاً اشتراكيون ورأسماليون . ويتكرر الأمر نفسه في كوريا ، فشمال خط ٣٨ مجتمع اشتراكي ، وجنوب خط ٣٨ مجتمع رأسمالي ٠ إن ماركس ليتململ في قبره لو نسبنا اليه أنه حلم يوماً بأن خطوط العرض الوهمية حدود لبداية أو نهاية التطور الاشتراكي . ثم يتكرر الأمر مرة أخرى في فيتنام ، وأينما اجتمع الاشتراكيون السوفييت والرأسماليون الأمريكيون ، في جنيف او باريس أو غيرهما ، رأينا النظم في بلاد لا نمت إلى المجتمعين بصلة ، تنقلب انقلاباً من اشتراكي إلى رأسمالي ، أو من رأسمالي إلى اشتراكي .

وهكذا أثبت الواقع الدولي ، فيما بعد الحرب العالمية الثانية ، أن " نوعا " من الاشتراكية يمكن أن ينشأ ويطبق دون سند سوى القوة العسكرية تفرضه وتحميه . القوة العسكرية المسخرة لحماية مصالح قومية ، روسية أو أمريكية ، والتي تصارعت ولا تزال على حساب الشعوب .

ثم أخيراً ، الاشتراكية التي نحب ان نسميها " الاشتراكية الاستعمارية ونعني بها تلك الاشتراكية التي حمل لواءها ، وينادي بها ، الاشتراكيون في انجلترا وفرنسا من خلفاء أوين وفورييه . وجد هؤلاء الاشتراكيون أنفسهم في بلاد مفعمة بالرخاء ، يتقاضى العمال فيها أجورا لا تخطر بأحلام زملائهم في بلاد العالم ، ويعيشون في مستوى يصبو إليه حتى الرأسماليون في أغلب بلاد أفريقيا وآسيا ، ومع ذلك فقد كانوا يوماً أصحاب نظريات اشتراكية قائم  منطقها  على بؤس العمال وظلمهم ، وعلى التناقض ببن مصالحهم ومصالح الرأسماليين ، أي على التناقض بين الرأسمالية والاشتراكية فما الذي حدث ؟ عندما تغير واقع العمال ، قال حزب العمال البريطاني ، حامل لواء الاشتراكية ، في كتاب نشره تحت عنوان " اشتراكية القرن العشرين " ." إن أكبر تحد للاعتقاد القديم بتناقض الرأسمالية والاشتراكية ، جاء من النجاح الذي أحرزه الإصلاح التطوري ... وإذا كان الرأسماليون قد رأوا أنه من المناسب أن يبعدوا في التطبيق عن مثلهم النظرية ، فكذلك فعل الاشتراكيون الذين أرادوا أن يصنعوا شيئاً أكثر من مجرد الحديث عن المستقبل . وخطوة خطوة اقتلعت أكثر مساوئ الرأسمالية في خلال الاتفاقات الجماعية ، والخدمات الاجتماعية ، واتساع نطاق الضرائب ، وانتشار المؤسسات التعاونية والمحلية ، وفوق هذا القضاء على البطالة ، فتغيرت حياة العمال بالرغم من أن رأس المال الفردي لا يزال قائماً ... وبينما اتجه الرأسماليون إلى قبول الوضع الجديد بل والادعاء بأنه من إنتاجهم ، انقسم الاشتراكيون وحاط بهم الغموض فلو ان الرخاء المادي ، وزيادة الإنتاج ، هي ميدان المنافسة بين الرأسماليين والاشتراكيين ، لأصبحت قضية الاشتراكيين على أحسن فروضها غير رابحة ٠ إذن فلواء الدفاع ضد الفقر الذي رفعه الاشتراكيون ونسجوه من نظريتهم قد سقط فلم يعد ثمة فقر في إنجلترا . ونعي الفقر الذي نرفعه في بلادنا ، وفي بلاد كثيرة من حولنا ، لأن الفقر قد تغير معناه عند الاشتراكيين الانجليز ، وحدده كروسلاند الاشتراكي الانجليزي ، بأنه الحد الذي يسمح للأسرة التي تتألف من خمسة أفراد مثلا ، بإنفاق ٦ شلنات و٨ بنسات على الشراب والدخان والهدايا والكتب والترويح عن النفس ، وفي فرنسا لم يختلف الأمر ، فحتى أندريه فيليب الاشتراكي الفرنسي ، الذي أدان بشجاعة العدوان الفرنسي على مصر وفي الجزائر ، ورثا الاشتراكية التي غدروا بها في كتاب حمله هذا العنوان ، يبدأ كتابه بإعلان أن التأكيدات الماركسية لا تتفق مع الواقع الذي نلمسه في المجتمعات الصناعية المتقدمة ، ثم قال : " يتخذ النمو الاقتصادي في البلاد يوماً بعد يوم الشكل المزدوج للاستثمار العام ، الذي تسحب المنشأة بموجبه من أرباحها المبالغ اللازمة لكفالة اتساعها ، بدلا من توزيع الأرباح على المساهمين . وفي هذه الظروف ، تلعب الملكية دور متضائلا في الخلاف بين الطبقات ، تلك الخلافات التي يحددها أكثر من ذلك اختلاف الدخل ، ولاسيما طرق استخدام هذا الدخل . إن ما يثير احتجاج أغلبية السكان ، ويثير المنازعات الاجتماعية ، إنما هو المصروفات التي تتعلق بالاستهلاك ، ولاسيما المصروفات التي تصرف بغرض التباهي " .

وهكذا أصبحت معركة الاشتراكية في انجلترا وفرنسا منصبة على كيفية توزيع الرخاء ببن العمال وأصحاب العمل ، ولكن بشرط أساسي ، هو أن يظل الرخاء قائما - والواقع ان أزمة الاشتراكيين في فرنسا وانجلترا ناتجة من نقطة واحدة هي ؛ أن أحدا منهم لا يريد ان يعترف ـ  صراحة على الأقل ـ بأن الرخاء الذي يتنازعون عليه ، والذي رفع مستوى معيشة العمال هناك ، هو حصيلة تراكم الثروات عندهم على مدى تاريخهم الاستعماري . إن كل قيمة عندهم اكتسبت ثمانين في المائة منها من جهود سكان المستعمرات ، ولو كان الاشتراكيون هناك اشتراكيين حقاً ، لكان حتماً أن يبدأوا برد المسلوب إلى أصحابه ، أو إيقاف عملية السلب على الأقل . غير أن هذا كان سيؤدي حتماً إلى انهيار المستوى المعيشي للعمال وللاشتراكيين وللشيوعيين . وللخروج من هذا المأزق أصبحت الاشتراكية هناك اشتراكية خاصة ، هي التي أسميناها " الاشتراكية الاستعمارية " . ومؤداها أ'ن تكون ذات وجهين ؛ فهي اشتراكية ماركسية ، أو نقابية ، أو فابية ، تناضل لمزيد من الكسب داخل بلادهم ، وعدوانية استعمارية ، أو على الأقل سلبية رجعية ، بالنسبة إلى قضايا تحرر المستعمرات . على الوجه الأول يناضل الاشتراكيون نضالا اشتراكيا ، وعلى الوجه الثاني لم تتردد الاشتراكية الفرنسية في التحالف مع الرأسمالية الانجليزية في شن عدوانها الغاشم على مصر عام ١٩٥٦ . وعلى هذا الوجه أيضاً تحالف الشيوعيون والاشتراكيون الفرنسيون مع الرأسمالية الفرنسية في المذبحة التي أجروها معا في الجزائر غداة الحرب العالمية الثانية ، حيث أبادوا ٤٥ ألف جزائري ؛ لأنهم نادوا بالاستقلال . وأعلن أتيين فاجون عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي أنه يرى وجوب علاقات دائمة بين فرنسا والجزائر ضمن اتحاد فرنسي حقيقي . وأدانت جريدة الأومانيتي " ، لسان الحزب الشيوعي الفرنسي ، ثوار الجزائر ، وطالبت بعقاب " الزعماء القوميين الذين خدعوا ـ عامدين ـ الجماهير المسلحة ، خادمين بذلك مصالح الأسياد المائة ، في سعيهم لإيجاد قطيعة بين السكان الجزائريين وشعب فرنسا " . ولم يتغير موقف الماركسيين الشيوعيين في فرنسا إلى أن تغير الواقع ، أي إلى أن أصبح واضحاً أن محاولة الاحتفاظ بالجزائر فرنسية ، واستمرار الحرب تهددان رخاء الفرنسيين بما فيهم العمال . عندئذ رفع حرج الواقع ، وتذكر الشيوعيون الماركسيون في فرنسا وحدة الطبقة العاملة فأصبحوا أكثر إيجابية . ولكن الحجة التي أقنعتهم ، وأخرجتهم من سلبيتهم ، لم تكن صلابة النظرية الماركسية ، بل مرارة الواقع الذي خلقه أبطال الجزائر . وهي حجة لم تقنع الشيوعيين فقط ، بل أقنعت الرأسماليين أيضاً ،  فانتهت الحرب الجزائرية .

وهكذا لم تكن المسألة في انجلترا وفرنسا مسألة أي النظريات الاشتراكية أكثر علمية ، وأكثر منطقا ، ولم يكن من الممكن أمام واقعهما الاستعماري أن تقوم فيهما إلا تلك الاشتراكية التي ينادي بها الانجليز والفرنسيون : الاشتراكية الاستعمارية .

ـ 8 ـ

كل تلك التجارب المختلفة ، المتميزة ، كانت في الحقل الاشتراكي ، أي في ذلك الحقل الذي وضع ماركس ـ طبقا لمنهجه العلمي ـ أساساً لحرثه ، وشق قنواته وبذر بذور الاشتراكية له . ومع ذلك ، لم يغن ما قاله ماركس عن ان تزرع كل امة حقلها الاشتراكي على الوجه الذي تستلزمه  تربتها الخاصة . على هذا أبدعت كل أمة اشتراكيتها .

بقيت ، بعد هذا ، عشرات القضايا الإنسانية التي لم يكن لماركس قول حاسم فيها .

بقيت قضايا التحرر الوطني من استعمار البلاد المتقدمة ، واختيار الشعوب الحرية . وهل ترضى أية دولة فقيرة في أسيا أو أفريقيا  ، ان تكون ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية  ، أو    جمهورية من  الجمهوريات السوفيتية ، ولو كان في هذا رخاء كرخاء الأمريكيين ، وقوة كقوة الروس ؟ .. وقيت قضايا الأمم التي لا تزال في مراحل البداوة  الأولى  . وهل تقبل أية امة أن تؤجل مستقبلها !لاشتراكي حتى تخوض تجربة الإقطاع والرأسمالية ؟ .. وبقيت قضايا القومية في الأمم التي تدرك وحدة وجودها ، فتريد ان تتحد ، أو أن تلغي تمزقها القومي . وهل تقبل أية أمة في الأرض أن تتخطى وجودها لتناضل فى سبيل طبقة عالمية عاملة او غير عاملة ؟ .. وبقيت قضايا الدين . وهل يقبل مئات الملايين من البشر أن يتخلوا عن معتقداتهم لأن سلوك الكنيسة في أوروبا لم يكن يعجب ماركس ؟ .. وبقيت قضايا الإنسان كإنسان ، ومكانه من الطبيعة ، وحريته التي تكاد المدينة الأوربية أن تكون تآمراً عليها ، من أول المادية إلى آخر الوجودية . وهل يكفي ، لينسى الإنسان أنه إنسان ، أن يقال له إنك جزء من الطبيعة ، وان الطبيعة خاضعة لقوانين حتمية ؟ " وبقيت قضايا الأخلاق . وهل يكفي أن نعرف علاقات الإنتاج في مجتمع ما ، لنعرف بذلك لماذا يلتزم ملايين البشر في مجتمعات شتى قواعد في السلوك يثيرهم الخروج عليها ؟ .. هل تفسر علاقات الإنتاج لماذا كان الكذب رذيلة في أركان الأرض جميعا ؟ .. وأخبراً وليس آخراً ، بقيت قضايا العلاقات بين الشعوب ، وهل تستطيع الجدلية المادية أن تفسر الخلاف الذي أصبح ، أو كاد ان يصبح عدائيا بين الصين والاتحاد السوفيتي ؟ لقد أعلن الطرفان ما أخفياه طويلا ، وهو أن خلافهم غير قائم على معرفة الظروف ، ولكن على أساس عقائدي ، أي أنهم مختلفون في المنهج الفكري العلمي الذي يقدرون على أساسه ، الظروف ، ويحددون على ضوئه مواقفهم . قد يدعي كل منهم أنه الجدلي المادي الماركسي اللينيني الأصيل ، وأن خصمه مثالي بورجوازي انتهازي . وكذلك يقولون . ولكن المهم ، هل تفسر الجدلية المادية الماركسية اللينيتية ... الخ ، ظاهرة الخلاف ذاتها ؟ لقد حاول الشيوعيون والماركسيون أن يفسروا كل شيء على ضوء الجدلية المادية ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يفسروا تمزقهم الداخلي ، الذي بدأ واستمر ولا يزال قائماً منن أن وجد ماركس على المستويين النظري والتطبيقي كليهما ، مع أن تلك ظاهرة " طبيعية " لا يستطيع أن يجحدها أحد من الشيوعيين أو الماركسيين وخاصة في الوطن العربي .

ـ 9 ـ

ما معنى  كل هذا ؟ ..

معناه ، أولا ، أن واقع كل أمة يبدع اشتراكيته ، وأن " اشتراكيتنا تنبثق من واقعنا كما اختارت أن تقول جماهير الشعب العربي الثي يضيق بمنطقها أدعياء الثقافة .

ومعناه ، ثانيا ، أن ثمة ظواهر اجتماعية طرحها ويطرحها يومياً الواقع المعاصر ، لم تستطع الجدلية المادية أن تقدم لها تفسيرا موحدا ، فاختلف فيها الاشتراكيون .

ومعناه ، ثالثا ، أن ثمة انفصاماً تتسع شقته بين النظرية العلمية التي أبدعها ماركس منذ أكثر من قرن ، وبين التطبيق الاشتراكي في القرن العشرين . لقد وجد الانفصام منذ البداية ، ثم عبر عن وجوده في جزئيات محدودة ، اتسعت ، حتى أصبحت اجتهادات الاشتراكيين اليوم تجري في وادي التطبيق دون ضابط علمي ، بينما تعيش النظرية في كتب التاريخ بعيدة عن حياة الناس .

ولقد بدأ ماركس ذلك الانفصام عندما زعزع فيما نشر من كتابه " رأس المال بعد وفاته صلابة نظريته في فائض القيمة . فبعد ان كانت في الجزء الأول حاسمة في أن العمل هو الذي يحدد قيمة السلعة ، وكانت بذلك نقطة انطلاق صالحة لتطبيق الجدلية المادية على الرأسمالية والانتهاء بها إلى ما انتهى ماركس ، أصبحت القيمة في الجزء الثالث من كتابه تتحدد ، لا بالعمل المبذول في السلعة فعلا ، بل بالعمل اللازم اجتماعياً لإنتاجها ، الذي يتحدد بدوره طبقا لما تقتضيه ظروف المجتمع في توزيع الطاقة العاملة على فروع الإنتاج المختلفة . لأن ـ هكذا يقول ماركس ـ " الشرط الأول هو قيمة المنفعة والحاجة الاجتماعية للسلعة .

ومن هذه النقطة ، انطلق الماركسيون : برتشتين وسوريل ولابريولا وخلفاؤههم "يطورون" الماركسية في الاقتصاد حتى أحالوا كتاب " رأس المال " إلى مجرد وثيقة تاريخية . 

والواقع أن ماركس نفسه لم يكن جامداً ، إلى حد إعلانه أنه ليس ماركسيا .

واشترك انجلز في التعبير عن هذا الانفصام بمنتهى الوضوح في المقدمات التي كتبها بعد وفاة ماركس ، للطبعات المختلفة من البيان الشيوعي . فأوصى في تقديمه الطبعة الألمانية سنة ١٨٧٢ بعدم التركيز غلى أجزاء منه لأن الظروف قد تغيرت . وفى تقديمه الطبعة الانجليزية ١٨٨٨ اسماه " اشتراكياً " وفسر تسميته بالبيان " الشيوعي " بقوله : " لم نكن نستطيع أن نسميه " اشتراكياً " عندما كتب . ففي سنة ١٨٤٧ كان المقصود بالاشتراكية ، من ناحية ، أنصار النظم المثالية كأتباع أوين في انجلترا وأتباع فورييه في فرنسا ، وقد تحول كل منهم إلى مجموعات صغيرة تموت تدريجياً ، ومن ناحية أخرى ، زمرة بالغة التباين من أدعياء الاشتراكية ، كانوا يلجأون إلى مختلف وسائل التلفيق في الدعوة إلى الحد من المآسي الاجتماعية ، دون المساس برأس المال والربح ، وكانت كل من الفئتين من خارج حركة الطبقة العاملة ، وتتطلعان في الغالب إلى تأييد " المثقفين " . وكلما اقتنع قسم من الطبقة العاملة بعدم كفاية مجرد الثورات السياسية ، وطالبوا بضرورة إحداث تغييرات اجتماعية شاملة ، أسموا أنفسهم شيوعيين . ولقد كانت نوعا بدائياً خشناً وغريزياً من الشيوعية ، ومع ذلك فقد كانت تمس النقطة الجوهرية ، وكانت من القوة في الطبقة العاملة بحيت أخرجت الى الوجود شيوعية خيالية في فرنسا .. وهكذا كانت الاشتراكية في سنة ١٨٤٧ حركة الطبقة الوسطى ، وكانت الشيوعية حركة الطبقة العاملة .. ولما كان رأينا منذ البداية أن : " تحرر الطبقة العاملة يجب أن يكون من صنع الطبقة العاملة نفسها " ، فلم  يكون من الممكن الشك  في أي الاسمين نختار  " ..

وعلى أساس  أن " تحرر الطبقة العاملة يجب أن يكون من صنع الطبقة العاملة نفسها " دون تطلع إلى تأييد " المثقفين " أو تعويل على " الفلاحين " لم ير انجلز ـ عندما قدم للطبعة الروسية  من البيان الشيوعي سنة ١٨٨٢ ـ في الثورة  تندلع في المجتمع الروسي الزراعي سوى إشارة لثورة " الطبقة العاملة " من غرب أوروبا .

وعندما نلاحظ نجاح الثورة الاشتراكية في روسيا ، وثورة الفلاحين الاشتراكية فى الصين ، وقيادة " المثقفين " من أمثال لينين وماوتسي تونج الثورات الاشتراكية ، ندرك إلى أي مدى وصل الانفصام بين النظرية والتطبيق . وإذ قال واضعو كتاب " أسس الماركسية ـ البينية " إن على كل العمال والعاملين سواء كانوا شيوعيين ام اشتراكيين ديمقراطيين ، أم أعضاء في منظمات خاضعة لنفوذ الكنيسة ، أن يوحدوا جهودهم ، ولو بغير قيادة الشيوعيين ، لأن مصلحتهم مشتركة ، فإنهم لا يفعلون سوى تأكيد بعد الشقة بين ما يقولونه وما قاله ماركس وانجلز من قبل .

قلنا ان ماركس لم يكن جامدا .

كذلك لم يكن انجلز جامدا إلى حد أنه أعلن في تقديمه لما كتبه ماركس عن " الصراع الطبقي في فرنسا " : " لقد أثبت التاريخ إننا كنا ، وكان كل الذين يفكرون مثلنا مخطئين .

وهو الذي قال عن إسناد التطور إلى العامل الاقتصادي وحده : " كان علينا أن نؤكد المبدأ الأساسي أمام أعداء ينكرونه ، ولم يكن يتوافر لنا دائماً المكان والزمان المناسبان للاعتراف للعوامل الأخرى بان تسهم في التطور بالقدر المناسب " .

والادق أيضاً ، إنصافا للذين أنصفوا أو يحاولون ، أن فئة كبيرة من الشيوعيين ومن الماركسيين ، وعلى رأسهم واضعو " أسس الماركسية ـ اللينينية " من مفكري الاتحاد السوفييتي ، يحاولون جهدهم أن ينفوا عن الماركسية الجمود ، والتحكم اللفظي ، و الاحتجاج بأقوال قيلت منذ قرن " . وتلك معركة خاضها من قبل لينين ضد اليساريين ، ثم ضد اليمينيين ، ثم ضد نفسه فيما كتب قبل الثورة وما فعل بعدها ، إلى ان أصبحت طريقته في تفسير الماركسية وتطبيقها مذهباً يحمل اسم " اللينينية " ، وخاضها ستالين ضد تروتسكي وزمرته ، وتفتك الآن بوحدة الجبهة الشيوعية وتمزق أحزابها في أنحاء الأرض . وفوق هذا كله تهدد ثقة الجماهير بالاشتراكية .

وهذا هو ما يهمنا .

إننا نقول ببساطة لكل الذين يهمهم مستقبل الاشتراكية :

إن الانفصام بين الجدلية المادية كأساس علمي للاشتراكية ، وبين التطبيق الاشتراكي ، " ظاهرة اجتماعية " يجب ان تدرس موضوعيا وعلميا ، حتى لا تهدد المستقبل الاشتراكي جميعه . وان دراستها الموضوعية العلمية تقتضي ألا ننكرها فتلك مثالية أولى . وتقتضي ألا
نتخذ منها موقفا مبنيا على التقدير الشخصي فتلك مثالية أخرى . وإن الاشتراكيين أمام أمرين : اما ان يتجمدوا فيصبحون في صفوف الرجعية ، واما أن يلوذوا بالتجربة والخطأ ، فيفقدون الأساس العلمي للاشتراكية .

ونقول ببساطة أيضا لا جدوى من التحايل .

إن كثيرين يجادلون في جدوى الفلسفة الماركسية أو الجدلية المادية . يقولون إن الاشتراكية الماركسية كانت تطبيقاً للجدلية المادية على وقائع عاصرت ماركس وغير قائمة الآن . فإذا صح أن تغير الظروف قد يؤدي إلى تغيير الحلول الاشتراكية ، فلا يمكن أن يؤخذ هذا دليلا على ان المنهج الفكري الماركسي أو الجدلية المادية قاصرة عن أن تصلح منهجا للدراسة والتطبيق في كل مكان وزمان . ونحن نقبل هذا التراجع ، ونقول معهم أن عيوب التطبيق قد تكون انحرافاً لا يعيب المنهج ، ولكننا لا نسلم معهم بأن ماركس قد أخطأ فى تطبيق الجدلية المادية على النظام الرأسمالي بالذات .

وقد رأينا من قبل كيف طبق ماركس قوانين الجدلية المادية على قوانين الرأسمالية ، فتتبع تطورها حتى انتهى بها إلى الشيوعية . فإذا كان المستقبل قد وقع على غير ما انتهت اليه دراسة ماركس ، أو كانت الشيوعية لا تعجب بعض الماركسيين مصيراً ، فلا يمكن ان نتهم الظروف ، فالجدلية المادية نظرية " علمية " كانت غايتها الوحيدة أن نحدد على أي وجه ستكون ظروف المستقبل . والحتمية هي مميز القوانين العلمية . فإن جاءت الظروف مغايرة لمنطق النظرية :

فإما أن يكون ماركس قد اخطأ في فهم وتطبيق قوانين الجدلية  المادية .

واما أن يكون قد اخطأ في فهم قوانين الرأسمالية .

واما أن يكون المنهج الذي اتبعه في دراسته ( الجدلية المادية ) خاطئا .

وعلى الذين يريدون ان يفعلوا شيئاً غير التحايل اللفظي ان يختاروا ما يريدون .

أما عندنا فماركس مبدع الجدلية المادية والمرجع فى اختبار قوانينها وتطبيقها . وعندنا أيضاً أن ماركس من أفضل من وعى قوانين النظام الرأسمالي التي لم تتغير قط . فلا  يمكن ان يكون العيب في فهم ماركس الجدلية المادية ، ولا في فهمه قوانين النظام الرأسمالي ، ولا في وقوع
المستقبل على غير ما انتهى إليه ماركس ؛ لأن هذه هي الظاهرة التي نبحث لها عن مبرر . لا يبقى بعد هذا إلا أن يكون العيب في الجدلية المادية ذاتها كمنهج انتهجه ماركس فلم يصل به إلى الحقيقة . لقد كان إعجاز ماركس في تطبيق الجدلية المادية هو الذي وجه نظرنا أول الأمر إلى أن مثل هذا الرجل الفذ لا يمكن أن يكون مسئولا عن النتائج التي أدى إليها تطبيق منهجه ، وكذبها الواقع ، إن هذا دون مستواه بكثير . فلا بد ان تراجع الجدلية المادية وقلما روجعت مراجعة جادة غير مغرضة
 . لكي نعرف أن ماركس لم يخطئ في القياس ، وان الخطأ في المقياس ذاته ، ولعل الخطأ الأساسي الذي يمكن أن ينسب إلى ماركس ، أنه قدر المستقبل دون حساب وجوده نفسه ، فقد كان وجوده أحد العوامل الرئيسية التي شكلت المستقبل على غير ما توقعه . ومع ذلك ، فإن هذا عيب في المنهج الذي لا يحسب للإنسان حسابا ، ولو كان إنسانا عظيماً كماركس .

وفيما يلي من فصول سنرى كيف كان هذا ، على أساس من دراسة المنهج الفكري .

وسنرى أن تصحيحا بسيطاً في ظاهره لقوانين الجدلية المادية ، لم تتوافر أسبابه إلا في القرن العشرين ، أقام المنهج الفكري على وجه يجيب به عن كل ما عجزت الجدلية المادية عن أن تقدم عنه اجابة صحيحة ، ويفسر لماذا وقع المستقبل على غير ما تنبأ به ماركس ، ويخرج الكثيرين من حيرتهم ، وتناقضهم ، ثم يقدم لنا دليلا من النظرية - بعد دليل التطبيق - على انه يمكن ان توجد اشتراكية  عربية ، بل لا يمكن أن توجد إلا اشتراكية عربية  في الوطن العربي .

***

لماذا نقول كل هذا ؟

لأننا في الوطن العربي ، مقدمون على صنع تجربتنا الاشتراكية . لأننا نريد أن نبني الاشتراكية العربية ، ولكن كثيراً من الجامدين ينكرون علينا أن نصنع تجربة خاصة بنا وان ننطلق من واقعنا ، ويحاولون - ما وسعهم المغالطة - أن يفرضوا على الفكر العربي والسياسة العربية ، نظريات وحلولا قرأوها في كتب وضعت لهم في أماكن بعيدة عنا ، واستمدّت مادتها من واقع غير واقعنا .

لأننا ، ونحن نبي الاشتراكية العربية ، نريد أن نستفيد ، ويجب  أن نستفيد من التراث الاشتراكي كله ، من الخطأ ومن الصواب ، من النجاح ومن الفشل ، وان نعوض تخلفنا بان نقدم على كل المتطلعين الى الاشتراكية ، تجربة غنية ، متحررة من الولاء للذين اكتسبوا ولاء لشعوبهم عن طريق قيادة نضالهم الخاص . ولكن كثيراً من الجامدين يريدون ان يفرضوا على تجربتنا أن تكون امتداداً وتكرارا ، لما تبعها من تجارب ، ويفرضون عينا ولاء لا حق لأحد فيه  ليرهبوننا فكريا بنوع من الكهانة والجمود .

لأننا لا نستطيع أن نتجاهل ما تطرحه أمتنا من مشكلات خاصة بها . ولا نستطيع ان نتجاهل ما تعبر عنه جماهير وطننا الكبير . ولكن كثيراً من الجامدين يحاولون ان يحتالوا علينا تحت ستار العلمية التي لا علمية بعدها ، والاشتراكية التي لا اشتراكية غيرها . إنهم ينكرون علينا الحق في بناء " الاشتراكية " ويرددون كالببغاوات ما هي تلك  الاشتراكية العربية ؟

مهلا .

قبل أن نعرف ما هي الاشتراكية العربية ، يجذب ان نعرف الأسس التي تقوم عليها ، فإننا نريد ان تكون اشتراكية علمية .

كيف ؟ ...


***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق