الغايات :
ـ ثالثا ـ
الاشتراكية .
(1)
53 ـ مدخل
الى الحديث :
اذا
كان هذا الحديث الذي طال قد بدأ بالقول : ” عندما أثبتت هزيمة يونيو (حزيران) 1967
جسامة المخاطر التي ينطوي عليها الأسلوب التجريبي أصبح مسلماً أن مواجهة المستقبل
العربي بغير نظرية حماقة خرقاء ” (فقرة 1) ، فإنه ، إذ يصل بنا الى الحديث عن
الاشتراكية يكون قد وصل بنا الى أهم مجالات الاختلاف ” الأحمق الأخرق ” الذي يحول
دون أن يتلقى الذين يدعون التقدمية في الوطن العربي على نظرية فيحول دون وحدتهم
فيرشح أمتهم الى هزيمة اخرى . وانه لمن المفارقات العجيبة في هذه الأمة أن تلعب
بعض القوى التي تزعم التقدمية في الوطن العربي دور ” الطابور الخامس ” للقوى
الاستعمارية والصهيونية والرجعية . ألم نر كيف أن هذي القوى المعتدية تكاد تكون
موحدة المنطلقات موحدة الغايات موحدة القوى بالرغم من اختلاف مواقعها وتنوع
أساليبها بينما تتمزق القوى التي تدعي التقدمية وتفترق نظماً وأحزاباً وجماعات
وشللاً متعادية متخاصمة متصارعة يفتك بعضها ببعض ؟ .. ألا يمثل هذا التمزق أشد
المخاطر التي تهدد المستقبل العربي ، أشد حتى من المخاطر التي تمثلها القوى
المعادية جهاراً ؟.. بلى . ان القوى الاستعمارية والصهيونية والرجعية مفضوحة
العداوة فلا يخطىء الشعب العربي ، ولو من تجاربه اليومية ، في التعرف فيها على
أعداء مصيره التقدمي . ولكن الذين يدعون التقدمية يخاطبونه من مواقعهم في صفوفه
خطاب المدافع عن مصيره . وعندما يختلفون ويتمزقون لا يكونون هم وحدهم ضحايا أنفسهم
، بل انهم يمزقون صفوف الشعب العربي الذي يزعم كل منهم انه ” يناضل ” معه ، ضد أعدائه
، من اجل تقدمه. كذلك فعل ” الطابور الخامس ” ففتك بصفوف المقاومين في ” مدريد ”
وهم يواجهون زحف طوابير أربعة ظاهرة العداوة أثناء الحرب الأهلية في أسبانيا .
وفيم يختلفون الذين
يدّعون التقدمية في الوطن العربي ؟ .
في الاشتراكية .
والاشتراكية التي بدأت
فكراً منذ اكثر من قرن ، وطبقت نظاماً منذ اكثر من نصف قرن ، ومنها في كل مجتمع
معاصر قدر تام من الفكر والتطبيق ، وتقوم خبرة الاتحاد السوفياتي فيها دليلأ ، ليس
وحيداً، على التقدم لمن يريد أن يتقدم ، لا يمكن أن تكون ” لغزاً ” تختلف في حله كل هذه الشلل التي تملأ الوطن العربي ضجيجاً باسم الاشتراكية ،
لا يمكن ان تكون المضامين الاشتراكية ، بعد خبرة الشعوب الكثيرة قبلنا، غامضة الى
الحد الذي يجعل الحديث عنها في الوطن العربي حديثاً ” بابلياً ” وإن كان يدور بلغة
واحدة تستعمل فيها ذات الألفاظ للدلالة على مفاهيم مختلفة . فلم يختلفون ؟
نعتقد اننا اذا استبعدنا
احتمالات التخريب المتعمد ، فان مرجع الاختلاف الى ان أغلب الذين يدّعون
الاشتراكية ويقومون على الدعوة اليها في الوطن العربي هم جماعات من ” المثقفين ” المترفين العاطلين الذين يرون في الشعب العربي المتخلف الفقير العامل ، فرصة
متاحة ليكونوا هم ” قادته “. ويتوهمون أنهم يستطيعون ان يقودوه الى حيث يحكمونه
اذا هم أطعموه أكبر كمية من الكلمات الكبيرة المركبة المعربة التي استعاروها من
كتب هم قادرون على شرائها من فائض ما يملكون بينما الشعب العربي لا يملك خبز يومه
، قادرون على قراءتها بينما الشعب العربي لا يقرأ ، قادرون على أن يملأوا بالحديث
عنها أوقات فراغهم بينما الشعب العربي يعمل . هذا مع انه لو طبقت فعلاً تلك
الكلمات التي يتشدقون بها لانتزعهم الشعب العربي من منازلهم المترفة ، وجردهم من
ملابسهم الأنيقة ، وكان على أكفهم الناعمة أن تدمى في الحقول والمصانع ليتعلموا
الفرق بين الكمات المنمقة ومضامينها االحية . فمن الذين يخدعون بهذا الضجيج ، أو
أي دور يلعب في الوطن العربي اولئك المتحدثون عن ” الطبقة العاملة ” في مقاعدهم
الوثيرة ، المتصدون لقيادة الفلاحين من ” صالونات ” المدن ، دعاة الاشتراكية
العلمية من منابر مؤسسات النثسر الرأسمالية ؟ .. إن كانت الاشتراكية كما يقولون
فهل يخدعون انفسهم أو من الذي يخدعون ؟ .
غريب أمر هؤلاء
الاشتراكيين الذين تتحول الاشتراكية فيهم إلى مجرد ” كلمة ” غير ذات مضمون ومع هذا
ففيها يختلفون ، بدون أن يدركوا ـ ان كانوا حسني النية ـ انهم لا يفعلون شيئاً إلا
الاساءة إلى الاشتراكية عند الجماهير الكادحة التي يتحدثون كثيراً بالنيابة عنها ،
ويعوقون المسيرة الاشتراكية التي هي أمل تلك الجماهير الكادحة التي لا تعرفهم .
مثال . عرفنا أن في الحركة القومية في الوطن العربي تياراً سائداً ” ما يزال يفهم
الأمة أو القومية كما تعلمها من اساتذة الفكر القومي الاوائل ، فهي سلبية بالنسبة
إلى مشكلات التغيير الاجتماعي . ومن هنا تبقى الوحدة مطلباً قومياً يصر عليه
ويبرره ليبرالياً وأن كان لا يعرف علاقته بالاشتراكية . أما الاشتراكية فقد عرفها
بالتجربة كضرورة لتخطي مرحلة التخلف الاقتصادي ، فهي مطلب قائم على أساس مستقل . وهما مطلبان كان من حظنا التاريخي ان نحتاج إليهما معأ، فيكفي الا يكون بينهما
تناقض ولكن لا يلزم على أي حال أن تقوم الوحدة والاشتراكية على اساس فكري واحد .
والعبرة بما تحققه في الممارسة بغير قيد من النظريات مع الحفاظ في كل خطوة كل
المكاسب التحررية ” (فقرة 6) . طوال خمس عشرة سنة كانت القوى المنتمية إلى هذا
التيار هي التي تكافح ضد القوى الاستعمارية ، وهي التي تقاتل الصهيونية ، وهي التي
تكسب معارك الجلاء، وهي التي تسقط ” الاقطاع ” و توزع الأرض على المعدمين ، وهي
التي تنشىء المصانع وتحول الفلاحين إلى عاملين ، وهي التي تخضع النشاط الاقتصادي
للتخطيط ، وهي التي تؤمم البنوك ومؤسسات الادخار، وهي التي تطورـ بقدر ماتستطيع ـ
حياة الجماهير الكادحة إلى ما هو أفضل . وهي تفعل كل هذا باسم الاشتراكية وتحت
شعارها . ومنها سمعت الجاهير كلمة الاشتراكية مقترنة ـ لأول مرة ـ بمنجزات عينية
غيرت حياتها . ومع ذلك فهي هي ذات القوى التي قلنا عنها ـ أيضأ ـ ” قد لا يكون فيما تبذله من جهد قصور عن امكانياتها
المتاحة ، ولكن ثمة شك كبير في معرفتها كيف تغير الواقع العربي على وجه تتحقق به
شعاراتها . فهي تنتقل من نجاح إلى فشل ، ومن صمود إلى نكسة ، ومن نصر إلى هزيمة ”
(فقرة 6) انه ـ إذن ـ تيار يحاول تحقيق الاشتراكية
من خلال الممارسة في مجتمع متحرر حديثاً متخلف اقتصادياً بجدية ولكن ينقصه
الوضوح الفكري فماذا يكون موقف أي مثقف اشترا كي من مثل هذه المحاولة ؟… أن يسهم
في انضاجها فكرياً بان يضع ثقافته في خدمة جماهيرها لتتجاوز قصورها بدون تشكيك في
منجزاتها التقدمية . بدهي . ومع هذا فان شلل ” المثقفين ” أدعياء الاشتراكية في الوطن العربي لا
يكفون عن ادانة المحاولة كلها وتشكيك الجماهير العربية فيها ، وانكار منجزاتها ،
لأنها لم تتم تحت ” قيادتهم ” بل تحت قيادة ” البورجوازية الصغيرة ” .
والبورجوازية الصغيرة كما يقولون عدوة الاشتراكية ، ويتوهون بغباء غريب انهم بهذه
الكلمات الفارغة يخدمون قضية الاشتراكية في الوطن العربي . ويدينون البورجوازية
الصغيرة . ويجهلون أن لو قد صدقتهم الجماهير الكادحة التي يتحدثون فضولاً بالنيابة
عنها ، واستقر في وعي العمال الذين انشئت لهم المصانع ، والفلاحين الذين وزعت
عليهم المزارع ، والمقهورين الذين تحرروا من الاحتلال والاقطاع والرأسمالية
العميلة ، أن كل ذلك كان من منجزات أعداء الاشتراكية فانهم لن يهتفوا للاشتراكية ”
الكلمة ” ، بل سيهتفوت ولو تحت كلمة ” البورجوازية الصغيرة ” للمنجزات التقدمية. ولماذا كل هذا ؟ … لأنه منذ مائة عام أو منذ خمسين قال فلان أو قال علان أن ” الاشتراكية لا تتحقق إلا بقيادة الطبقة العاملة ” فحفظوها صماً ويرددونها
كالببغاوات بدون حتى أن يفطنوا إلى انهم من حيث هم مثقفون عاطلون ليسوا إلا
بورجوازية صغيرة . ويشيعون بهذا كله أكبر قدر من البلبلة حول ” الاشتراكية ” في الوطن العربي فيسهمون بقدر في تعويق وحدة العرب الاشتراكيين .
ثم تأتي طائفة أخرى من ،
المثقفين ، يجادلون بالماركسية ، لا معرفة بمضامينها ، ولكن توهماً أنها تملأ
الفراغ العقائدي الذي يحسونه من أنفسهم ولا يستطيعون عليه صبراً ويسألون لماذا لا
يتفق الثوريون العرب على الماركسية نظرية للثورة العربية يلتقون عليها ويحققون بها
الوحدة الفكرية فما بينهم . ان الماركسية اشتراكية . وهي اممية فهي اذن للامم
جميعاً فلماذا لا نتبنى الماركسية ؟ .. كلام سهل وظريف له من أبناء امتنا هواة
وضحايا . فلسنا نشك في أن أكثر من نصف القلة الماركسية في الوطن العربي ينتحلون
الماركسية تحت ضغط الفزع من الفراغ العقائدي ، ورغبة منهم في أن تكون لهم ” نظرية
” يكملون بها وجاهة الثقافة لا أكثر ولا أقل . وإلا كيف تفسر أن كثيراً من ”
الماركسيين ” في الوطن العربي يجهلون الماركسية ؟.. وقد بلغ امر الجهل بها إلى حد
أن بعض المثقفين العرب الطامحين إلى الخروج من حيرتهم الفكرية قد ظنوا الا مخرج
لهم إلا بتلك العملية التلفيقية التي يسمونها، ” تعريب الماركسية ” . وهم لا يعنون
بهذا أن يجتهد المثقفون العرب في أضافة جديدة الى التراث الفكري الاشتراكي الذي
تشغل الماركسية حيزاً كبيراً منه ، فان أية اضافة عربية الى التراث الفكري الانساني
تقتضي منهم أن يبذلوا جهداً ايجابياً فكرياً أصيلاً هم غير راغبين فيه لانهم ـ
ببساطة ـ غير قادرين عليه. انما يعنون بتعريب الماركسية تأويل المقولات
الماركسية وتحوير مضامينها ومد أطرافها حتى تستوعب أفكارهم الخاصة . وهو طموح غريب
.
يقول الماركسيون أن
الماركسية مادية بمعنى أنها قائمة على أساس ” أن المادة أزلية لم يخلقها أحد ولا
توجد أية قوة فوق الطبيعة أو خارج العالم ” (أفاناسييف : الفلسفة الماركسية)
ومع هذا فان الطموحين الحائرين من الشباب العربي يريدون أن يجردوا الماركسية من أساسها
المادي لتستوعب التراث الديني والروحي الذي تمثلته الجماهير العربية في تاريخها الطويل . وعندهم أن هذا تعريب الماركسية .
ويقول الماركسيون ” ان الماركسية اممية (لا قومية) في ذات جوهرها ” (اسس الماركسية
ـ اللينينية) ولكن الطموحين الحائرين من الشباب العربي يريدون أن يجردوا الماركسية
من ذات جوهرها لتكون ماركسية قومية ، ويكونوا هم ماركسيين قوميين معاً .
وعندهم أن هذا تعريب الماركسية . ويتحدثون عن التاريخ فلا يرونه الاعلى مراحله الماركسية : الشيوعية البدائية
ثم العبودية ثم الاقطاع ثم الرأسمالية ثم الاشتراكية ، ويبذلون جهداً في
تقسيم التاريخ العربي على هذه المراحل ومع هذا لا يقبلون المقولة الماركسية : ” إن
اسلوب انتاج الحياة المادية بحكم حركة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية ”
(كارل ماركس- نقد الاقتصاد السياسي) في حين أن المادية التاريخية وتقسيم التاريخ
الى تلك المراحل لا يكونان مفهومين إلا على أساس هذا الذي قاله ماركس ، ثم أنهم
يقبلون أن يتطور التاريخ على تلك المراحل ويتوقفون عند الاشتراكية ويرفضون
الشيوعية ، في حين أن ذات الأساس الفكري الذي قسم التاريخ الى مراحله التي قبلوها
هو الذي يحتم الشيوعية مصيراً للبشرية … الخ الخ . وكل هذا عندهم تعريب للماركسية
. إنهم ينسون او يتناسون انهم يستعملون تراثاً ذا دلالة فكرية خاصة ، وأن تجريده ـ
الجريء ـ من دلالته لا يعني أنهم يعربون الماركسية بل يعني تماماً أنهم
يشوهونها .
وقد بلغ الطموح ببعض الذين ينتحلون التعبيرات
الماركسية ، ويلفقون لها مضامين من عندهم ، إنهم يتهمون الشيوعيين العرب بأنهم غير
ماركسيين وأنهم ـ هم ـ الماركسيون الأصلاء . وزاد بعضهم فزعموا أنهم قد اهـتدوا من أسرار
الماركسية الى ما فات ماوتسي تونج وستالين ولينين وأنجلز وحتى ماركس ، وأنهم
وحدهم العالمون ببواطن امور النظرية الماركسية . و يهمسون ـ مثلا ـ بأن ثمة سطراً
ما في رسالة ما كتبها ماركس في يوم ما الى شخص ما تزيل التناقض بين الماركسية
والقومية، وتسمح بتعريب الماركسية . إنه كالجنون . والحيرة بعض أسباب الجنون .
وبعض المثقفين في الوطن العربي حائرين حتى الجنون بحثاً عن طريق ما يصل بهم
الى مواقع القيادة من الجماهير العربية . ويعتقدون أن الماركسية ، ماركسيتهم ، هي الطريق . وهم بهذا كله لا
ينالون شيئاً من الماركسية ولا من الشيوعيين لأن الاختلاس الفكري لا يجدي صاحبه
شيئاً . وستبقى الماركسية محتفظة بأسسها الفكرية وبمضامينها الخاصة أي بقيمتها
العظمى كتراث إنساني ولو لم تكن صحيحة في بعض أسسها أو خاطئة في بعض مضامينها .
ويدرك بعض المثقفين
العرب ما في الماركسية من قصور، ولكنهم عاجزون ـ تماماً ـ عن تجاوزه . أي أنهم
بينما يرفضون الماركسية لأنها لا تتفق مع منطلقاتهم القومية عادة .. ليس لديهم
مفهوم واضح عن الاشتراكية . ومع ضرورة أن يكونوا قادة أو أن يصلوا الى مراكز
القيادة ، يطلقون أكبر الشعارات ” الاشتراكية العلمية ” . اشتراكية علمية واحدة
وتطبيقات عدة . لا توجد إلا اشتراكية علمية واحدة . ويعتقدون أنهم بهذا قد أصبحوا
” علماء في الاشتراكية ” ، وأنهم قد حسموا الخلاف وجاءوا بالقول الفصل . ويتجاهلون
أن السؤال الذي ينتظرهم هو : ما هي هـذه الاشتراكية العلمية الواحدة ؟ . ثم
، كيف يترجمونها في الواقع العربي الى حياة أفضل ؟ منهم من يقول انها الماركسية
ويكون أميناً مع نفسه ، حتى لو كان قد اختفى ” تكتيكياً ” تحت شعار ” الاشتراكية
العلمية ” ، أما الآخرون ـ وهم كثرة من الذين يزعمون انهم قوميون واشتراكيون معاً ـ فلا يعرفون ماذا
يقصدون بالاشتراكية العلمية . إنها تبدو فيما يكتبون ويقولون مثل : الأدوية الطبية
، والمنشآت الهندسية ، والفنون التشكيلية ، كلمات مركبة لا تدل على مضامين معينة .
فما دلالة هذا التعبير الذي يتشدق به كثير من المثقفين العرب عندما يتحدثون عن
الاشتراكية ؟
لتعبير ” الاشتراكية
العلمية ”
دلالة تاريخية . ففي النصف الأول من القرن
الماضي كانت أوروبا تضج بالاشتراكيين الذين هالهم التخريب الرأسمالي لحياة
العاملين في المؤسسات الرأسمالية والمطرودين منها الى ظلام البطالة . وقد كان كل
منهم يحاول ما وسعه الجهد الفكري أو العلمي أن يقف ضد تيار الرأسمالية الصاعد ،
وان يحرر الجماهير العاملة من العبودية والقهر اللذين يفرضهما الرأسماليون ، فعرفوا
باسم الاشتراكيين . وذهب كل منهم يبرر وقفته تلك تبريراً سنده رأيه الخاص . واقترح كثير منهم حلولاً للمشكلات التي لمسوها كانت سمتها الرئيسية أنها ردود
فعل لما لمسوه . كما حاول بعضهم أن يصوغ فكرياً مجتمعات بديلة خالية من البؤس الذي
يراه . وتساووا جميعاً في ان ما أبدعوه فكرياً لم يكن محصلة بحث علمي ، فكانوا
اشتراكيين خياليين أو مثاليين . في مواجهة كل هؤلاء انتهج كارل ماركس منهج العلم
في أبحاثه التي انتهت الى ما نعرفه الآن باسم ” الاشتراكية الماركسية ” . ومنذ ذلك أصبح للاشتراكية العلمية دلالة
تاريخية . فهي ميزة تاريخية للاشتراكية الماركسية وصفت بها لتميزها عن الاتجاهات
الاشتراكية السابقة عليها والمعاصرة لها . لذلك فهي صفة نسبية محضة . واوجه
الاختلاف التي ميزت الاشتراكية الماركسية عن تلك الاتجاهات وجعلتها جديرة بهذه
الصفة إنها لم تضع تخطيطاً عاطفياً لعالم اشتراكي . لم تكن لماركس مدينة فاضلة
كتلك المدن التي حاول أغلب الاشتراكيين أن يضعوا مشروعات لها والتي عرفت باسم ”
المدن الفاضلة ” أو” المدن المثالية ” . لم يكن هم ماركس أن يبدع عالما لا جذور له
بل كان همه أن يلاحظ تطور المجتمعات الانسانية وأن يستنبط من ملاحظاته
القوانين التي تحكم ذلك التطور، وأن يستعمل تلك القوانين لمعرفة اتجاه
التطور ونتائجه . وهو تفكير مجرد من العاطفة كما نرى وأبعد ما يكون عن الاحلام حتى
لو كانت أحلاماً اشتراكية. انه تفكير كان لماركس فضل انتهاجه في الحقل الاشتراكي . لهذا كان عدلا أن يقال عن اشتراكية ماركس أنها اشتراكية علمية، لتفرق بذلك عن
الاشترا كيات التي كانت مجرد تصوير أو تجسيد لرغبات أصحابها وأمانيهم دون قاعدة من
البحث العلمي . أما الان فقد أصبح المنهج العلمي في البحث قاعدة البحث في أي علم ،
وبالتالي لم يعد ميزة ينفرد بها الاشتراكيون أو الماركسيون . ولكنه لم يكن كذلك
يوم أن انتهجه ماركس . وتأكيداً لفضله كرائد استحق أن يميز عن معاصريه بأن
اشتراكيته كانت اشتراكية علمية . هذا هو كل المدلول الحقيقي لشعار ” الاشتراكية
الماركسية علمية ” وليس له مدلول أبعد من هذا. فهو لا يعني اطلاقاً أن الملاحظات
التي جمعها ماركس كانت دقيقة حتماً ولا أن القوانين التي استنبطها كانت محكمة
تماماً ، ولا أن النتائج التي وصل إليها كانت صحيحة مطلقاً . كما لا يعني أن
الاشتراكية الماركسية، أي الحصيلة الموضوعية لدراسة ماركس ، هي كل ما يمكن أن يصل
إليه البحث العلمي في ميدان ” الاشتراكية ” .
باختصار ان ” العلمية ”
تتصل بمنهج البحث لا بصحة نتائجه ، و كم من العلماء قضوا حياتهم في البحث العلمي
فلم تسفر جهودهم إلا عن نتائج لايقبلونها أنفسهم . وكم من الماركسيين لا يقبلون ـ
الآن ـ نتائج أبحاث ماركس نفسه ، ومع هذا فإن الماركسية اشتراكية علمية .
من هذا يتضح ان ”
للاشتراكية العلمية ” دلالتين : فهي تعني ” الاشتراكية الماركسية ” اذا أخذت على
دلالتها التاريخية . كما تعني ايضاً انتهاج البحث العلمي سبيلاً الى الاشتراكية
فكراً وتطبيقاً . وطبيعي اننا نتوقع من الذين يزعمون لأنفسهم ” الاشتراكية العلمية ” أن يبينوا على أي وجه يطلقون القول ، لأن الاشتراكيين
يخاطبون الجماهير وأولى مسؤولياتهم أن يكونوا معها صادقين ان كانوا حقاً اشتراكيين
. والجماهير العربية جماهير لم تتح لها فرص العلم والمعرفة حتى يفترض فيها أن
تكتفي من الذين سبقوها الى العلم والمعرفة بالكلمات الكبيرة المعقدة . فهل يعنون
بها ” الاشتراكية الماركسية ” اخذاً بالدلالة التاريخية للتعبير أو يعنون بها
اشتراكية قائمة على اسس علمية ولو خالفت الماركسية ؟… الذين يعنون الاشتراكية
الماركسية امناء فيها يقولون لأنهم يأخذون بالدلالة التاريخية للتعبير. والذين لا
يعنون الماركسية يكونون مطالبين بمزيد من البيان : ما هي نظريتهم ، وكيف عرفوها ،
وفيم تختلف عن النظريات الاخرى ، وما علاقتها بالواقع العربي ، وكيف تتحول فيه الى
حياة افضل . الخ . بدون هذا البيان لا يكون مقبولاً من أحد أن يختبىء وراء تعبير ” الاشتراكية العلمية ” . انه خباء لا يخفى الفراغ تحته .
من اين جاء كل هذا الى
الوطن العربي ؟
من حداثة عهد الفكر
العربي بالاشتراكية . جئنا متأخرين بحكم ظروفنا التاريخية . لقد كان الماركسيون
فصائل صغيرة متناثرة في الوطن العربي منذ وقت مبكر . ولكنهم لم يستطيعوا ان يكونوا
ذوي اثر يذكر في طرح الفكر الاشتراكي . لأن الوطن العربي الواقع في قبضة الاستعمار
كانت تستغرقه فكرياً قضية التحرر فلا يجد فيها متسعاً للفكر الاشتراكي من ناحية .
ومن ناحية اخرى لأن قوى التحرر كانت قومية ليبرالية او اقليمية ليبرالية وفي
الحالتين كانت مناهضة للاشتراكية . ومن ناحية ثالثة لأن الماركسيين كانوا ينشطون
في مواقعهم في ظل الدوليات تحت القيادة الستالينية فكانوا مقطوعي الصلة بواقعهم
العربي وقضاياه فانعزلوا جماهيرياً وانعزل معهم الفكر الاشتراكي . ومن ناحية رابعة
لأن كل القوى التي كانت قائمة على السلطة سواء كانت ممثلة للقوى الاستعمارية أو
تعمل بأمر منها كانت تسلط بطشها على أية مبادرة فكرية تقدمية ولو لم تكن
ماركسية . كانت الشيوعية تهمة لها عقوبة ” قلب نظام الحكم بالقوة ” ، وكان كل
تقدمي ولو بالكلمة المتواضعة شيوعياً يستحق ذات العقوبة . كل هذه الظروف ـ مجتمعة
ـ أدت الى تأخر الوعي الاشتراكي في الوطن العربي .
ثم جاءت تجربة التنمية
الاقتصادية بعد التحرر فطرحت الاشتراكية على أوسع نطاق . وأتيحت فرصة، تاريخية
ثمينة ليثبت الماركسيون ان الاشتراكية تعني بالنسبة اليهم اكثر من ” الكلام ” ودخلت الماركسية فيهم اختباراً دقيقأ : هل تستطيع ان تحدد لهم الموقف الصحيح
مما يجري في واقعهم الاجتماعي ؟ ففشلت وفشل الماركسيون في أن يدركوا الطبيعة
الخاصة لحركة التطور الاجتماعي في مجتمع قومي متخلف فارتكبوا واحداً من الأخطاء
القاتلة عندما أدانوا حركة التحرر العربي وآمال الوحدة القومية فانعزلوا وعزلوا
معهم الفكر الماركسي كله . سبقتهم التجربة ولم تسعفهم النظرية . فانبرت جماعات من
المثقفين العرب تلاحق التجربة وتلهث وراءها ” لتبررها ” فكرياً ، فنشأ ذلك الفكر
الاشتراكي الذي قلنا عن أصحابه أنهم قد أغرقوا الوطن العربي بكتب وكتابات ” ضخمة
الكلمات ، عالية النبرات عن القومية والوحدة والاشتراكية ، استغلوا فيها تتابع
الصفحات في الكتب استغلالاً غير خفي . ففي فصل يحدثنا الكاتب عن القومية والوحدة
حديثاً موروثاً من أساتذة الفكر الليبرالي . وفي فصل تال يحدثناءن الاشتراكية
حديثاً غريباً ، أو مناقضاً ، لليبرالية كثيراً ما تقحم فيه إقحامأ التعبيرات
المستعارة من التراث الماركسي بعد ان تسلب دلالتها الأصلية ، وفيما بين الفصلين
ينقطع المنطق انقطاعاً فجاً ( فقرة 16) . ولما كان هؤلاء يلاحقون التجربة ليبرروها
والتجربة متغيرة كل يوم ومتعثرة في بعض الأيام ، فإن هذا الاضطراب قد ترك آثاره
اضطراباً في نمو البناء الفكري التابع له . يتقدم ثم يتعثر فيتراجع ليتقدم مرة
اخرى بدون ان يستطيع ان يسبق الممارسة التجريبية أو ان يخضعها لضوابط فكرية .
ودخلت ساحة الحوار حول
الاشتراكية جماعة من المثقفين في الدين تحاول ارجاع المقولات في الفكر الاشتراكي
الى منطلقات دينية فانشأت بدخولها تياراً يحمل شعار” اشتراكية الاسلام ” أو ”الاشتراكية الاسلامية ” . وهو تيار لم يولد اصيلاً . بمعنى انه لم يكن
اجتهاداً في الفكر الاسلامي ينميه ويضيف اليه ليواجه مشكلات الحياة في هذا العصر ،
بل كان دفعاً للفكر الماركسي ودفاعاً ضد منطلقاته المادية . فتحددت طبيعته منذ
مولده ، فهو ليس اجتهاداً مبدعاً في النظام الاشتراكي ، بل هو حوار معاد في
الفلسفة الميتافريقية . فنجده يبدأ بالتسليم بأغلب مضامين الممارسة الاشتراكية :
تدخل الدولة ، التأميم ، الحد من الملكية ، توزيع الأرض الزراعية ، توفير الخدمات
الاجتماعية .. الخ ، ثم يستنفذ كل جهده في محاولة اسناد هذه المنجزات الى نصوص من
القرآن أو السنة أو اقوال الفقهاء والأئمة . ولقد استطاع فعلاً وبنجاح كبير أن
يثبت قضية ليست في حاجة الى اثبات : ليس في الاسلام ما يمنع تدخل الدولة والتأميم
او الحد من الملكية أو توزيع الأرض الزراعية أو توفير الخدمات الاجتماعية … الخ .
ولكنه في كل هذا كان أبعد ما يكون عن مشكلة الاشتراكية والنظام الاشتراكي . إذ أن
المشكلة هي كيف ينظم المجتمع على الوجه الذي يحقق كل هذا ؟ . ان كان المرجع الى ”
ولي الأمر ” فإن له أن يتدخل في النشاط الاقتصادي والاجتماعي على الوجه الذي يحقق
مضمون الآية : ” إنما المؤمنون أخوة ” وله أن يلغي الملكية الخاصة تاويلاً للآية :
” لله ملك السموات والأرض ” . وله أن يؤمم بعض الملكيات وله سند من الحديث، الناس
شركاء في ثلاثة : الماء والكلأ والنار ” و(الملح) ، وله نموذج في ” الوقف ” . وله سوابق في ” الحمى” (الارض المحمية من
الانتفاع الفردي لتكون لانتفاع المسلمين جميعاً ) . وله أن يوزع الأرض على زارعيها
ويمنح فيها ملكية الرقبة فلا تباع ولا تشتري وله في هذا سوابق مما فعل عمر في أرض العراق والشام ومصر … الخ . الاشتراكية إذن غير محرمة في الاسلام ولكن ما هي الاشتراكية وكيف تقوم نظاماً
في مجتمع معين ؟. هذا هو السؤال الذي لم يجتهد فيه الذين أثبتوا القضية الأولى غير
المحتاجة الى إثبات : ليس في الاسلام ما يمنع … الخ وطبيعي أن أقوال السلف لن تسعفهم في الاجابة على هذا السؤال . لأن أولئك كانوا
يجتهدون في تنظيم مجتمعاتهم فكانت أقوالهم إستجابة للمشكلات الاجتماعية التي
عاشوها . وقد اختلفوا أقوالاً وافترقوا مذاهب تبعاً لاختلاف وافتراق الظروف
الاجتماعية التي كانت تطرح عليهم المشكلات فيجتهدون في إبداع الحلول . ” وتعاونوا
على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ” . هكذا أمر القرآن .
فوضع كل مسلم في كل مكان وفي كل زمان أمام مسئولية أن يحدد ـ من واقع
المجتمع الذي يعيش فيه ـ ما هو البر وما هي التقوى وما هو الاثم وما هو العدوان
وأن يبين للناس كيف يكون التعاون بينهم . وقد أوفى كل إمام وفقيه من السلف الصالح
بما استطاع تحديداً وبياناً من واقع مجتمعه . وعلى الذين يريدون أن يوفوا
بمسئولياتهم أن يحددوا ويبينوا من واقع مجتمعاتهم . ان الأثمة لم يكونوا مسئولين
عنا يوم أن حددوا وأبانوا ولسنا مسئولين أمامهم عندما نحدد ونبين . فليس كل ما
قالوا حجة علينا إلا بالقدر الذي يتفق مع ما نحدده ونبينه من واقع مجتمعنا ، هذا
إلا اذا كانوا هم وحدهم المسلمين . وهو ما نرفضه لأن ” لكل أجل كتاب “ . إذن فلكل حكم زمان ينفذ فيه فهو زمانه .
والزمان حركة مليئة بالمشكلات الاجتماعية المتجددة . إن الذين يحاجون في
الاشتراكية بأقوال الائمة السابقين يجدون في دولة عمر بن الخطاب تراثاً
عبقرياً في إنسانيته وفي عدالته فيريدون تقليده . ولقد كان عمر بن الخطاب
أحد عباقرة الحكم ومن أعلم الناس في زمانه بأمور الدنيا و الدين ، ومن أكثر الناس
في كل زمان شعوراً بالمسئولية وشجاعة في الوفاء بها . غير أن هذا التقليد ذاته ليس
منهجاً ” عمرياً ” لأن عمر كان مبدعاً خلاقاً ولما يكن مقلداً . وقد أبدع ما أبدع
من نظم الحكم في زمانه فهل يغني ما فعل عمر في هذا الزمان ؟… إن الاحتجاج باقوال
الأئمة والفقهاء في قضايا الاشتراكية التي هي نظام العصر يتضمن افكاراً للتطور
الاجتماعي الذي يصيب المجتمعات لتغيرات لا تتوقف وهو ما يخذل المدافعين عن
الاشتراكية باقوال قيلت منذ عشرة قرون يريدون أن يحفظوا لها الحجية في غير زمانها
كأن شيئأ لم يتطور . ثم انه يخذلهم حتى فيما يريدون من دفع الفكر الماركسي فهم
يزجون بالاسلام في معركة فكرية لا يحسنون الدفاع فيها فيسيئون الى الاسلام
بقدر قصور دفاعهم . أن كانوا علماء في الدراسات الدينية فقد ينتصرون في معارك
الفلسفة أما معارك الاشتراكية فلا ينتصر فيها إلى المحيطون بالدراسات الاشتراكية ،
وعلى وجه خاص بالدراسات الاقتصادية . ولو كانوا محيطين بها لاستطاعوا ـ بقدر
من الجهد ـ أن يأخذوا من تحريم ” الربا ” مدخلا الى الاجتهاد في الاشتراكية . وليتبينوا أن هذا التحريم قد حال دون أن تنمو الرأسمالية في هذه الأمة الى أن تصبح احتكارية مستغلة لولا أن ” احتال ” بعض الفقهاء على
هذا المحرم فأباحوه ” بالحيل ” التي لا بد يعرفونها من التراث . ولكانت لهم في هذا
مقدمة الى الرجوع عن ” الحيل ” الفقهية لمواجهة المشكلة التي تقلق ضمائر المؤمنين
: كيف يتقاضون عن أموالهم فوائد وهي محرمة ؟ وانهم ليدخلون حينئذ ساحة المشكلات
الاجتماعية الحقيقية ليواجهون مسئولية الاجتهاد فيما ينفع الناس : ان البناء
الاشتراكي في المجتمعات المتخلفة يتطلب استثمار المدخرات في التنمية، والاشتراكيون
يحرضون ، الجماهير المؤمنة على اقراض الدولة ما يدخرون في مقابل فائدة معينة ؟..
وليس أمام الاشتراكيين الا ان يقترضوا من الناس في مجتمعهم فيحتفظوا بحريتهم أو أن
يقترضوا من دول أجنبية فيفقدوا الحرية . فهل ثمة فارق بين أن يقرض المسلم ماله الى
اخر بفائدة وبين أن يقرضه ” الى الجماعة (المجتمع) بفائدة ؟… اليس هذا سؤالأ حيأ في مجتمعنا العربي يستحق من علماء الدين ان
يجتهدوا في الاجابة عليه ؟.. ولو فعلوا لجرتهم محاولة البحث عن اجابة الى النظر في
النظم المختلفة التي تحكم الجماعة. ولفرقوا بين مجتمع منظم على وجه تستثمر فيه
القروض فيما يحقق مصلحة الناس كافة (اشتراكي) وبين مجتمع تستعمل فيه القروض لاشباع
الحاجات الخاصة (رأسمالي) . في الأول يقرض المسلمون اموالهم لله ، في عباده قرضاً
حسنأ فيضاعفه لهم . وفي الاخر يستغلون حاجة المحتاجين فيرابون ، ولكان عليهم عندئذ ان يروا كيف ينظم المجتمع
على الوجه الذي يكفل الا يكون الاستثمار محرماً مثل الربا. كيف ينظم المجتمع في
دولة لا يستطيع أحد ان يستغل فيها احد . ولقدموا لنا نظرية في “ الاستغلال ” . وقد يصلون الى نظرية في ” علاقات العمل
” لو انطلقوا من تحريم الغبن والكراه . ويصلون الى نظرية في ” التخطيط ” لو انطلقوا من فرض التعاون على البر . على هذا الوجه يواجهون فكراً اشتراكيأ
بفكر اشتراكي ويحسنون الدفاع عن قضيتهم . أما عندما ينتهي الاجتهاد الى مثل ما
قاله واحد من افضل الذين دخلوا معارك الفكر الاشتراكي باسم الدين من انه يرى
(تأميم الكهرباء والمياه وبعض المواد الغذائية مما يحتمه الحديث : الناس شركاء في
ثلاثة : الماء والكلأ والنار والملح . والماء هو مصلحة المياه اليوم . والنار هي مؤسسة الكهرباء في عصرنا الحاضر . والكلأ والملح أمثلة للمواد الضرورية التي لا يستغني عنها انسان ما (اشتراكية الاسلام ـ الدكتور مصطفى السباعي) .
فان أقل ما يمكن أن يقال ان هذا رأي علاّمة في التراث لا يعلم شيئاً في الاشتراكية
. ولقد استدرك المؤلف فأوصى بأخذ رأي الاقتصاديين والاجتماعيين في شأن
التأميم عملاً بقوله تعالى ” فاسألوا أهل الذكر ” (صفحة 101) . وهو قول حكيم
. ان اهل الذكر الاقتصاديين الاجتماعيين هم الذين سبقونا الى الفكر الاشتراكي او
إلى بناء الاشتراكية ، نسألهم ونختار مما يقولون ما ينفعنا . والماركسيون من
السابقين الى الفكر والبناء الاشتراكي فلنسألهم . نسألهم ـ على الأقل ـ
كيف تطورت الشعوب في الاتحادالسوفييتي من قاع
التخلف الى قمة التقدم في نصف قرن فقط . وبعد أن نعرف ، نختار ما نشاء . ولا بأس
في ان نعرف من الان ان الفكر الاشتراكي الماركسي تراث ذو مصدرين : أولهما النظريات
التي صاغها المثقفون الماركسيون قبل التجربة، وثانيهما حصيلة تجربة البناء
الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي والجمهوريات الشعبية . وانه لمن السفه أن نرفض الماركسية
كتراث فكري بالغ الخصوبة والاستفادة منه كمجموعة من التجارب الانسانية الضخمة ،
بكل ما له وما عليه ، ليسهم كتجارب في رخاء فكرنا العربي الأصيل، لأن جماعة من
المثقفين العرب يحفظون النصوص الماركسية ويرددونها ولا يعرفون من تجربة البناء
الاشتراكي شيئاً . ولو استفدنا من التراث الماركسي ، بدون ان نزيف أنفسنا أو نزيفه
، لكانت لدينا فرصة ثمينة للابداع الفكري الذي يتجاوز الماركسية ذاتها ويحقق اضافة
عربية الى التراث الفكري الانساني . ذلك لأننا نفكر ونتصرف في ظروف أكثر ملاءمة
للابداع الأصيل من الظروف التي فكر وتصرف فيها الماركسيون الأوائل أو من جاء بعدهم . إذ بين أيدينا حصيلة التقدم العلمي في قرن . وبين أيدينا تجارب العالم جميعاً
. وبين أيدينا تراث الماركسية النظري والتطبيقي ذاته . بينما لم يكن بين أيدي
مبدعي الماركسية تراث بمثل هذه الخصوبة . كما اننا نتحرك تحت ألوية غير ماركسية
فنحن غير مقيدين بمثل قيود الثورات التي انتصرت تحت ألوية الماركسية وتجد نفسها
مكرهة على الاحتفاظ بولائها حتى وهي تراجع وتتراجع وتغير مضامينها في الممارسة
الفعلية .
ثم ، ان لنا القومية منطلقاً فكرياً وحركياً ، وهو منطلق يفتقد الماركسيون ـ بحكم
نظريتهم اللاقومية ـ قوته الايجابية الدافعة ، ويحاول الكثير
منهم ـ تحت ضغط الواقع الذي لا يخطيء ـ ان يتراجع اليه لتكون له قاعدة أكثر صلابة
من نظرية فقدت صلابتها .
من اجل هذا نختار التراث
الماركسي النظري والتطبيقي شريكاً في الحوار حول الاشتراكية لنختبر فيه صلابة
افكارنا ولنتبين على أي حد استفدنا من تجارب الذين سبقونا . وسنركز بوجه خاص على
حصيلة تجربة الماركسيين في البناء الاشتراكي ، إذ عندما تجري التجربة على غير ما
جاء في النظرية تكون الممارسة أكثر صحة من الافكار ، ويكون علينا ان نستفيد مما هو
صحيح .
(2)
54 ـ لماذا الاشتراكية ؟ :
المشكلة
فالحل فالعمل .
المشكلة
تقدم الاجابة عن : لماذا الحل ؟.. والحل يقدم الاجابة عن : لماذا العمل ؟.. وفي
الوطن العربي يعاني أغلب
الاشتراكيين من الانفصام بين أركان هذا الثالوث الجدلي . المثقفون البعيدون عن
المشكلات البارعون في معرفة النظريات يطرحون حلولاً جاهزة لمشكلات غير معروفة .
ويقدمون الاشتراكية ذاتها إجابة عن لماذا الاشتراكية كما لو كانت الاشتراكية
مطلوبة لذاتها يقولون ان الاشتراكية هي إلغاء الملكية الخاصة، وانها إلغاء الملكية
لأدوات الانتاج ، أو انها إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج الأساسية . وكل هذا
قد يكون لازماً لحل مشكلة اجتماعية ، ولكنهم لا يقولون ما هي المشكلة التي
يحلها إلغاء الملكية الخاصة ، أو إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج .. الخ .
ويكتفون بالقول القول انها مشكلة ” استغلال الانسان لأخيه الانسان ” ولكنها
إجابة غير كافية . إذ أننا لا نعرف ماهية الاستغلال إلا اذا كنا اشتراكيين ابتداء
، أي إلا اذا كانت لنا حلول نظرية للمشكلات الاجتماعية فنقول عما يخالفها انه
استغلال وهذا يقتضي أن نبدأ بالمشكلات . وهم لا يبدأون . فتبدو الاشتراكية كما لو
كانت فرضأ للأفكار المجردة على الواقع الحي . أما التجريبيون فيطرحون عملاً فعلياً
لمشكلات جزئية ومرحلية. ويقدمون الاشتراكية تبريراً لما يفعلون في حين اننا لا
نعرف ماهية الفعل وما اذا كان اشتراكياً أو غير اشتراكي إلا اذا كنا نعرف من قبل
ماهية الاشتراكية .
فلنبدأ
نحن بالمشكلة .
ومشكلة أمتنا العربية في هذا النصف الثاني من القرن العشرين هي التخلف : ” عجز الشعب العربي عن توظيف كل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة فعلأ في الأمة العربية ” (فقرة 38) وقد عرفنا أن لهذا العجز أسبابأ عدة . منها ان بعض تلك الامكانيات المتاحة في الأمة العربية ليست متاحة للشعب العربي لأنها مسلوبة منه عنوة أو عن طريق التبعية ، فعرفنا الحل من واقع المشكلة: التحرر (فقرة 39 وما بعدها) . ومنهما ان واقع التجزئة يحرم الشعب العربي من كامل مقدرته على توظيف الامكانيات المتاحة فعرفنا الحل من واقع المشكلة : الوحدة (فقرة 45 وما بعدها) . فلماذا تكون الاشتراكية حلاً لمشكلة التخلف وكيف تكون ؟.. هذا ما نريد ان نعرفه .
(3)
55 ـ الاشتراكية والديموقراطية :
عرفنا
ان الديموقراطية هي النظام القانوني الذي يسمح للشعب باكتشاف الحلول الصحيحة
لمشكلاته الاجتماعية وتنفيذها بالعمل : (فقرة 52) وهذا يصل بنا مباشرة الى المدخل
التقليدي للفكر الاشتراكي : تحرير الشعب من القهر الاقتصادي . وليس معنى انه مدخل
تقليدي انه غير قانم في المجتمعات المعاصرة . بل هو قائم في كل مجتمع غير اشتراكي
. حيث تكون الثروات قد اكتسبت على وجه يمكن بعض الناس من فرض ارادتهم على الآخرين
. وهو الحصيلة المميزة للنمو الرأسمالي . ويكون تحرير الشعب من القهر الاقتصادي
شرطاً لا بد منه للممارسة الديموقراطية. نقول الممارسة الديموقراطية ولا نقول
الممارسة الاشتراكية . ويقتضي التحرر من القهر الاقتصادي ، تجريد القوى
الاقتصادية المسيطرة من مقدرتها على القهر والسيطرة . وطبيعي أن هذا الاجراء
التحرري يختلف تبعاً لاختلاف الظروف الاجتماعية في كل مجتمع : يدخل فيه إلغاء الملكية
الخاصة ، والحد من الدخل ، والعزل من الوظانف العامة، وتحريم الممارسة السياسية ،
وتحطيم السيطرة العشائرية والقبلية .. الخ . وفي نطاق هذه الاجراءات يدخل انتزاع
الاراضي وتوزيعها على الفلاحين الذي يعرف ” بالاصلاح الزراعي “. ولا يمكن حصر ما
يدخل في نطاقها . وإنما نلاحظ فقط انها غير مقصورة على اجراءات اقتصادية ، وانها
تتوقف على الأسباب التي تستمد منها القوى المسيطرة مقدرتها على السيطرة التي لا بد
من أن تلغى ليتحرر الناس من القهر بصرف النظر عن لزومها
للبناء الاشتراكي . وتقع الاشتراكية الماركسية التقليدية كلها في نطاق هذه
الاجراءات التحررية كما سنرى فيما بعد (فقرة 58) . ان مثل هذه الاجراءات محسوبة
على الاشتراكية ، وهي منها من حيث هي مقدمة لها ، ولكنها لا تؤدي بذاتها الى
الاشتراكية. ومن هنا لا ينبغي لنا أن نخلط بينها وبين اجراءات اقتصادية واجتماعية
اخرى تقتضيها الاشتراكية من حيث هي حل لمشكلة عجز الشعب عن توظيف كل امكانياته من
أجل تقدمه الاجتماعي ، لأننا إذ نخلط بينهما قد نقع في عدة أخطاء . منها الاكتفاء
بالتحرر من القهر الاقتصادي فلا
ننتبه الى ان التحرر من القهر الاقتصادي هو مقدمة للبناء الاشتراكي فلا غنى عنه. ومنها
تقييم لزومها ومداه على أساس اقتصادي ، وكثيراً ما تكون النتانج سلبية . ففي
الاصلاح الزراعي مثلأ ليس المقصود ان يفيض الناتج الزراعي للأرض الموزعة على
الفلاحين عن ناتجها وهي في ايدي الاقطاعيين ، انما المقصود هو تجريد ”
الاقطاعيين ” من المقدرة على قهر الفلاحين وتحرير الفلاحين من القهر. وفي تصفية
القوى الرأسمالية المسيطرة لا يكون المقصود من مصادرة أموالهم ومنشآتهم ان تحقق في
يد الدولة ما كانت تحققه في ايدي أصحابها من انتاج ، سواء كان اكثر أم أقل ، ولكن
المقصود منه تحرير العمال من سيطرة الرأسماليين .. ومنها أخيراً السماح بعودة
القهر الاقتصادي حتى بعد تصفية القوى المسيطرة وتجريدها من مقدرتها الاقتصادية على
القهر . وهو خطر كبير يتهدد الجماهير في المجتمعات المتخلفة أو النامية ، حيث
تتولى ”البيروقراطية ”
المتفوقة علماً وفناً ادارة الأموال التي استردت من أصحابها فتعود الى قهر الشعب
الذي أصبحت هي المسيطرة على أرزاقه ولكن ـ في هذه المرة ـ باسم الاشتراكية فلا
تفعل إلا أن تشوه الاشتراكية .
من
هنا نتعرف على الصلة العضوية الوثيقة بين الديموقراطية والاشتراكية . ونضع حداً
فاصلاً وحاسماً بين الاشتراكية وبين النظم التي تختلط بها وتشوهها لأنها تتفق معها
في تولي الدولة ادارة الانتاج ، أو إلغاء ملكية بعض أدوات الانتاج ، أو التأميم .. الخ
. نضع حداً فاصلاً بين ” رأسمالية الدولة ” وبين ” الدولة الاشتراكية ” . ففي
كل منهما تسيطر الدولة على وسائل الانتاج . كيف تمكن التفرقة بينهما ؟ ..
بالديموقراطية . اذ ليست الملكية العامة هي
المقياس هنا ولكن المقياس هو سيطرة الشعب على الدولة ذاتها . ان الغاء الملكية
الخاصة عامة ، أو إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج الصناعي أو الزراعي أو
التأميم أو أي نوع من التنظيم للعلاقات الاقتصادية ليست أسلوباً اشتراكياً في ذاته
، إنما تتوقف سمته الاشتراكية على ما اذا كان بارادة ولحساب الشعب ممثلاً في
دولته الديموقراطية أم بارادة ولحساب فرد أو جماعة أو طبقة . ليست العبرة في
الاشتراكية بالغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج ، بل العبرة ـ كل العبرة ـ
بمن تؤول إليه ملكية أدوات الانتاج التي ألغيت ملكيتها الخاصة . إن آلت الى الشعب
ممثلاً في دولته النائبة عنه الخاضعة له ، فتلك ” اشتراكية ” . وان آلت الى قلة من
الأفراد فذلك ” اقطاع ” وان آلت الى الدولة الديكتاتورية فمستبدون بدلاً من
مستبدين والقهر قائم فلا اشتراكية .
وهكذا
:
الغاء
القهر الاقتصادي شرط المارسة الديموقراطية .
والممارسة
الديموقراطية شرط للاشتراكية .
ويبدو منه بوضوح ان إلغاء القهر الاقتصادي يختلف في مبرراته وأسلوبه وغايته عن ” النظام الاشتراكي ” ، أي ذلك النظام الذي يوظف به الشعب كل امكانياته البشرية والمادية المتاحة في تنفيذ الحلول التي اكتشفها ديموقراطياً لمشكلاته الاجتماعية . ولما كانت كلمة ” الاشتراكية ” تطلق على الاجراءات الاقتصادية أو السياسية التي تكون غايتها تحرير الشعب من القهر الاقتصادي كما تطلق على عملية البناء الاشتراكي ذاتها فاننا سنستعمل فيما يلي تعبير ” النظام الاشتراكي ” للدلالة على اسلوب توظيف الموارد الاقتصادية المتاحة من أجل حل المشكلات الاجتماعية ، منطلقين من افتراض اتمام التحرر من القهر الاقتصادي بكل ما يقتضيه من اساليب تجريد القوة المسيطرة اقتصادياً من مقدرتها على القهر . اننا بهذا سنحرر حديثنا من الغموض الذي تثيره استعمال كلمة الاشتراكية للدلالة على مفاهيم مختلفة وعلى وجه خاص غموض العلاقة بين اسلوب الوصول الى النظام الاشتراكي وبين النظام الاشتراكي كأسلوب لتوظيف الموارد الاقتصادية من اجل اشباع الحاجات المادية والثقافية للشعب كله . اي بين الطريق الى الاشتراكية وبين الاشتراكية كطريق الى التقدم الاجتماعي . وعندما ننتبه الى ان ” الاشتراكية ” تنطوي على نظام اجتماعي لن تتحول الاشتراكية في اذهاننا إلى مجرد ” كلمة ” تختلف في دلالتها .
(4)
56 ـ سيطرة الشعب على وسانل الانتاج :
مجتمع
متحرر في دولة ديموقراطية . كل ما هو متاح فيه من الامكانيات البشرية والمادية
متاح للشعب ليوظفه في حل مشكلاته الاجتماعية . هذه هي القاعدة الاولى والأساسية
لبناء النظام الاشتراكي . ونعرف منها انه قبل أن نناقش ” كيف ” يوظف الشعب
الامكانيات البشرية والمادية المتاحة له في
حل مشكلاته الاجتماعية ، يجب ان يكون هو وحده صاحب الحق في توظيفها على الوجه الذي
يراه . انطلاقاً من هذه السيطرة سيحول ارادته في توظيفها الى نظام اشتراكي عام
يردع كل الذين يخرجون عليه بقوة دولته . وبدون هذه السيطرة الشاملة ، اي حق توظيف
كافة الامكانيات المادية والبشرية المتاحة ، لن يكون الشعب قادراً على ان يوظفها
فعلاً في حل مشكلاته الاجتماعية . ولهذا آثار في بناء النظام الاشتراكي
بالغة الأهمية منها مثلأ أن المتفق عليه كما سنرى أن النظام الإشتراكي يستلزم
الغاء الملكية الخاصة لادوات الانتاج ” الاساسية ” وهو ما قد يوحي بان ادوات
الانتاج ” غير الاساسية ” تظل خارج النظام الاشتراكي ولا تخضع لغايته فيوظفها اصحابها
كما يشاؤون وهو اخلال يكون النظام الاشتراكي نظام اجتماعي . ومنها ما نعرفه من
واقعنا العربي فيما يسمى ” بالقطاع العام ”
و ” القطاع الخاص ” وهو ماقد يوحي بأن ثمة مجالاً لنظامين اقتصاديين في مجتمع واحد
وهو اخلال بوحدة النظام الاجتماعي .
وسيطرة الشعب على كل وسائل الانتاج ليست مقصورة على انتاج المواد والسلع بل تشمل ايضاً انتاج الخدمات . وتشمل حتى قوة العمل ذاته باعتباره عنصراً أساسياً من عناصر انتاج المواد والخدمات . ففي النظام الاشتراكي يكون للشعب أن يوظف الناس فيه في الأماكن التي يحددها لهم ولا يسمح لأحد بأن يوظف عمله في غير حل المشكلات الاجتماعية ، لا بطالة ولا فصل ولا استقالة . ان هذي مؤشرات صادقة الدلالة على الاشتراكية وعلى الاشتراكيين . أصدق كثيراً من اللافتات والادعاءات . وهي تفرق بحسم بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي . في النظام الاشتراكي يكون المجتمع مسؤولاً عن تشغيل كل قادر فلا يترك أحداً ، أي أحد ، للبطالة . ولا يدفعه الى البطالة بطرده من العمل . وبالمقابل لا يسمح لأحد، أي أحد ، أن يهرب من مسؤوليته الاجتماعية فكيف عن العمل . حق المجرمون يقضون العقوبة ويعودون الى العمل . وينتقل العامل في اي مجال من مكان الى مكان ولكن لا يفصل . وينصف العامل في أي مجال ولكن لا يستقيل . ونحن نضرب العمل مثلأ لنؤكد ان سيطرة الشعب في المجتمع لا تحتمل أية مناقشة . وانها أساس أول لبناء النظام الاشتراكي . وتحت هـذا الأساس تدفن ـ في النظام الاشتراكي ـ كل المفاهيم الليبرالية عن الحرية ، وخاصة حرية التعاقد، وحرية العمل ، وحرية التملك . الحرية مقدرة على التطور. والتطور اجتماعي . ولا حرية لأحد في أن يعوق التطور الاجتماعي أو يقف منه موقفاً سلبيأ أو يعزل عن المساهمة فيه . كل هذا قبل ان يحدد الشعب دور كل شيء وكل واحد في التطور الاجتماعي . قبل ان يوظف كل الامكانيات المادية ـ والبشرية المتاحة في المجتمع يجب ان يستقر له الحق المطلق لتوظيف ” كل ” الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في حل مشكلاته الاجتماعية .
(5)
57 ـ التخطيط الاقتصادي :
كيف
يوظف الشعب في دولته الديموقراطية كل ” الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في حل
مشكلاته الاجتماعية ؟ . يبدو ان الاجابة على هذا السؤال ستصل بنا الى موقف مناقض
للديموقراطية . فها نحن نحاول أن نلزم الشعب ” نظامأ اقتصادياً ” معيناً قد لا
يكون راغبأ فيه وهو ما يمس حريته . الرأسماليون يقولون هذا ويسألون من موقف زائف
العطف على الحرية : لماذا لا تتركون الشعب يختار نظامه الاقتصادي في دولته
الديموقراطية ؟ .. وردنا هو ” ان كل شيء منضبط في حركته بقوانين حتمية
معروفة او تمكن معرفتها ” ( فقرة 3) وان حرية الانسان نفسه منضبطة بقانونه
النوعي (جدل الانسان) وانه كما أن الانسان حر يحقق حريته بتغيير واقعه فانه
حتم عليه ” ان تتأثر فعاليته بحتمية القوانين الموضوعية التي تحكم واقعه ” ( فقرة
18) . نحن إذن لا نفرض على الشعب نظاماً في كيفية توظيف الامكانيات المادية
والبشرية المتاحة له من أجل اشباع حاجاته المادية والثقافية المتجددة أبداً ، انما
نقول له : ما دامت هذه هـي الغاية فان توظيف الامكانيات المتاحة من أجل تحقيقها
يخضع لقوانين حتمية معروفة او تمكن معرفتها ، يمكنه استخدامها فينجح في تحقيق ما
يريد ولا يجديه شيئاً جهلها او تجاهلها . ثم نضيف ان تجارب المجتمعات من قبلنا والتقدم
العلمي قد اكتشف تلك القوانين وان مجتمعات اخرى تستخدمها بنجاح وتفشل المجتمعات
التي لا تستخدمها ، وان التخطيط الاقتصادي الشامل هو الاسلوب الوحيد لاستخدامها .
والتخطيط
الاقتصادي يقوم على تحديد مسيرة عملية الانتاج من مصادره حتى استهلاكه على وجه
تتحقق به غاية محددة من قبل . ومهم أن ننبه إلى غاية التخطيط تكون محددة قبل الخطة
. فهنا العنصر التقدمي في التخطيط الاقتصادي حيث يحول الانسان دون التطور التلقائي
لظروف الانتاج ، ويفرض على الظررف أن تتجه إلى حيث يريد . وبهذا تعلوا إرادته على
الظروف فيسخرها لارادته . أن التخطيط الاقتصادي هو أرقى صيغة لحرية الانسان في
مواجهة ظروفه المادية .
ولأن
التخطيط الاقتصادي يجسد إرادة الانسان الفعالة في مواجهة ظروفه لم يحجم الرأسمليون
عن تبنيه ، واصبح شيئاً عادياً أن تلجأ المؤسسات والاحتكارات الرأسمالية إلى تخطيط
نشاطها على وجه يحقق غايتها ، كما اصبح عادياً ان تضع بعض الدول الراسمالية
تخطيطاً اقتصادياً (أو برمجة أو تخطيطاً تأشيرياً كما يسمونه ) لتنظيم مسيرة
الانتاج أو إحدى مراحله ، في قطاع او اكثر ، ولو اقتضى هذا ملكية الدولة لبعض
وسائل الانتاج . ولقد امتد التخطيط إلى مجالات اجتماعية اخرى غير ذات طابع اقتصادي
خالص . وبهذا أصبح شائعاً . وعندما تشيع الأمور تختلط وتتوه معالمها وقد تبعد عن
غايتها الأصيلة أو تفقد الصلة بتلك الغايات . وقد اختلطت الأمور بالنسبة الى
التخطيط الاقتصادي ، حتى كاد أن يستقر في الاذهان انه علم خاص بتقنية (تكنيك) الانتاج ، فهو علم
مباح بصرف النظر عن غاية الانتاج ذاته . وبعد ان كان التخطيط الاقتصادي مفخرة
الاشتراكيين كاد ان يصبح مباحاً لكل من يتبناه .
لو
صح هذا لكان حديثنا عن ” التخطيط الاقتصادي” حديثاً عن التطبيق الاشتراكي وليس
حديثاً عن النظام الاشتراكي .
ولكنه
غير صحيح . فالتخطيط الاقتصادي ليس علماً خاصاً بتقنية (تكنيك) الانتاج . إن كيفية
اعداد الخطط الاقتصادية وتنفيذها هي ذلك العلم التكنيكي . ولا يزال التخطيط
الاقتصادي مميزاً للنظام الاشتراكي ، حتى لو اجاد بعض الرأسماليين ” كيفية ” وضع
الخطط الاقتصادية.
لماذا
يكون ” التخطيط الاقتصادي ” مميزاً للاشترا كية ؟
ليس
في أية نظرية إشتراكية نعرفها ما يحدد التخطيط الاقتصادي مميزاً للنظام الاشتراكي
لا يقوم إلا به ويميزه في الوقت ذاته عن غيره من النظم . ففي النظريات غير
الماركسية يدور الحديث عن البناء الاشتراكي ـ أياً كانت صيغته ـ باعتباره تنظيماً
للنشاط الاقتصادي وهو ما يوحي، او يفرض ، ان ثمة ارادة واعية وراء هذا التنظيم .
وهذا واضح مما قال سان سيمون عن الصناعة بوجه خاص . ولكن أيأ منها لم يحدد التخطيط
الاقتصادي الشامل مميزاً جوهرياً للنظام الاشتراكي .
ثم
جاءت الاشتراكية الماركسية ـ العلمية
ـ خالية تماماً من أي مضمون لعلاقة الاشتراكية بالتخطيط الاقتصادي ، بل لعل بعضنا
لا يعرف أن ما يسمى الاشتراكية الماركسية لا تتضمن أي شيء محدد عن الاقتصاد
الاشتراكي ، أي عن النظام الاقتصادي في ظل الاشتراكية . ان
كل الأفكار التي صاغها فلسفة ومنهجاً ونظرية كارل ماركس وفريدريك انجلز لم تكن فيها
أية إجابة محددة عن السؤال الخطير : ماذا يحب على الاشتراكيين أن يفعلوا بعد أن
يسقطوا الرأسمالية ؟ ولا عن السؤال : ماذا يجب على
الاشتراكيين أن يفعلوا لتحقيق الاشتراكية عن غير الطريق الرأسمالي ؟ وهما
السؤالان اللذان يشغلان الاشتراكيين في كل مكان من العالم وخاصة العالم الثالث .
يقول أوسكار لانج : ” ان مؤسسي الاشتراكية العلمية، ماركس وانجلز كرّسا جهودهما
لتحليل الاقتصاد الرأسمالي . اما فيما يتعلق بالاقتصاد الاشتراكي فقد اقتصرت
مساهمتهما على إيراد بعض الملاحظات العامة ، ورفضا من حيث المبدأ الدخول في التفاصيل
وذلك خشية القيام بعمل غير علمي والانحراف وراء الخيال . (ابحاث في التخطيط
والاقتصاد الاشتراكي) .
لهذا
لم يكن غريباً ان أول دولة إشتراكية ماركسية قد ظلت إحدى عشرة سنة تحاول أن تبني
الحياة الاشتراكية بأساليب تجريبية بحته وبدون تخطيط . وعندما أبدع الاشتراكيون
فيها التخطيط الاقتصادي كان إبداعاً من خلال الممارسة . ففي ديسمبر 1920، أي بعد
ثلاث سنوات من ثورة أكتوبر، حدد لينين أمام المؤتمر السابع لمجلس
السوفييتيات ماهية ” الاشتراكية السوفييتية ” ولم يقل كما يقول أطفال اليسار : ”
الاشتراكية العلمية ” فقال : إنها :
(1) كل السلطات للسوفييت (2) كهربة الاتحاد
السوفييتي (3) تصنيع البلاد (4) التجميع الزراعي . ولما كانت تلك مهمات متعددة
ومتداخلة فقد طرحت مشكلة العلاقة بينها، وإتمامها معاً بدون أن تعوق أحدها المهمات
الأخرى . ومع أن لينين لم يعش حتى يحل تلك المشكلة فإن حلها الجزئي بدأ منذ 1925
عندما وضعت خطة محدودة بسنة لتنظيم الانتاج في قطاع الصناعة ، وفي سنة 1927 شرعت
الحكومة في وضع أول خطة اقتصادية بمعناها الشامل . وكانت خطة خمسية . وبدأ تنفيذها
في أول أكتوبر 1928. في ذلك التاريخ بعد ثمانين سنة من اعلان ماركس وانجلز البيان
الشيوعي سنة 1848 ثم مولد التخطيط الاقتصادي الاشتراكي ، وقد توالت جهود
الاشتراكيين في كل مكان ـ بعد هذا ـ لوضع مباديء الاقتصاد الاشتراكي .
المهم
أن ” التخطيط الاقتصادي ” قد استقر كأحد معالم النظام الاشتراكي . وأصبح مسلماً
انه لا يمكن الحديث عن الاشتراكية في أي مجتمع لا يخضع النشاط الاقتصادي فيه
للتخطيط . غير ان هذه العلاقة الوثيقة بين النظام الاشتراكي والتخطيط كانت تفتقد
دائماً أساسها في النظريات الاشتراكية بالرغم من تأكيدها بالممارسة . ومعنى هذا ان
أغلب النظريات الاشتراكية كانت قاصرة عن أن ” تبرر” صيغة الاشتراكية كما يمارسها
الاشتراكيون فعلاً . وتلك ثغرة في الفكر الاشتراكي سمحت لأعداء الاشتراكية أنفسهم
بالخلط بين التخطيط الاشتراكي والتخطيط في ظل الرأسمالية ،
على أساس أن كلأ منهما وسيلة فنية للانتاج لا تتميز بالنظام الذي تقوم في ظله .
وكما قد تقتضي متاعب الانتاج في ظل الرأسمالية أن يلجأ الرأسماليون الى
التخطيط ، قد تقتضي متاعب الانتاج في ظل الاشتراكية طرح التخطيط .
نريد
أن نقول انه بينما تتضمن النظرية الرأسمالية ـ وتتميزـ بالعرض والطلب في السوق
الحر ضابطأ لمسيرة الانتاج، لا تتضمن أغلب النظريات الاشتراكية ـ وبالتالي لا
تتميزـ بالتخطيط الاقتصادي ضابطاً لمسيرة الانتاج . ومن هنا يصعب على كثير من
الاشتراكيين أن يعرفوا لماذا يستحيل عليهم أن
يكونوا اشتراكيين اذا لم يلتزموا بالتخطيط الاقتصادي وسيلة لبناء النظام الاشتراكي
حتى قبل أن يصلوا الى مواقع البناء ، وما الذي يميز التخطيط الاشتراكي عن التخطيط
في ظل الرأسمالية؟ . واذا كان المتواتر في أحاديث الاشتراكيين أن التخطيط
الاقتصادي في ظل الاشتراكية يتميز بأنه تخطيط شامل ـ وهو ما أكدته الممارسة ـ
فيبقى السؤال لماذا يكون شاملاً؟ وتلك أسئلة نعرف الاجابة عليها . ذلك لاننا قد
عرفنا أن ” النظام الاشتراكي ” يقوم على أساس سيطرة الشعب على كل وسائل الانتاج .
وسهل أن نعرف أن تجسيد سيطرة الشعب على ” كل ” وسائل الانتاج يكون بالتخطيط
الاقتصادي الشامل . وأن التخطيط هو التعبير الاقتصادي عن مشاركة الشعب في وطنه.
وما دامت مشاركة شاملة فإن التخطيط لا بد أن يكون شاملاً .
وأول
ما يترتب على هذا أن مبرر التخطيط الاقتصادي في النظام الأشتراكي هو سيطرة الشعب
على وسائل الانتاج وليست المتطلبات الفنية لعملية الانتاج . أي أن مبرره قائم في ”
النظرية ” الاشتراكية
ذاتها تتميز به وتميزه . ولما كانت سيطرة الشعب على وسائل الانتاج أساس جوهري في ”
النظام الاشتراكي ” ، فان التخطيط الاقتصادي هو ذات النظام منظوراً إليه من زاوية
اقتصادية. وبهذا نفهم ـ نظرياً ـ لماذا لا يكون التخطيط الاقتصادي مجرد وسيلة
للبناء الاشتراكي وأنه ـ قبل هذا ـ ” صفة أساسية للاشتراكية ” كما قال اوسكار لانج
(أبحاث في التخطيط والاقتصادالاشتراكي) . ونفهم أن التخطيط الاقتصادي ـ على مستوى
المقارنة والتمييز النظري ـ هوالضابط الاشتراكي لتنظيم الانتاج المقابل للعرض
والطلب في السوق الحر ضابطاً للانتاج في الرأسمالية . أي نفهم أن الالتزام
بالتخطيط الاقتصادي هو التزام عقائدي نتميزبه كاشتراكيين ،
وأنه لا يخضع ـ وجوداً وعدماً ـ لتقديرنا ونحن نواجه متطلبات البناء الاشتراكي في
التطبيق . وإذا كانت الممارسة قد أكدت أنه لا يمكن الحديث عن الاشتراكية في مجتمع
لا يخضع النشاط الاقتصادي فيه للتخطيط فلأنه لا يمكن الحديث عن ” النظام الاشتراكي
” حيث لا تكون للشعب السيطرة على وسانل الانتاج .
غير
أن ثمة نتائج اخرى تترتب على هذا، هي ذاتها الاجابات التي نعرفها عن الاسئلة التي
قد لا يعرف غيرنا كيف يجيبون عنها .
فمثلا
لا بد من أن يكون التخطيط الاشتراكي شاملاً ـ وهي ما أكدته الممارسة ـ لأن
الاشتراكية عندنا هي سيطرة الشعب على ” كل ” وسائل الانتاج . وبهذا يتميز التخطيط
الاشتراكي عما تلجأ إليه بعض الدول الرأسمالية عندما تضع خططاً اقتصادية لتنظيم
مسيرة الانتاج أو احدى مراحله في قطاع أو أكثر ولو اقتضى هذا ملكية الدولة لبعض
الانتاج . ان
الملكية العامة التي تخضع لخطة اقتصادية ليست من الاشتراكية في شيء إلا أن تكون
جزءاً من تخطيط اقتصادى شامل . ويقول شارل بتلهيم : ” لا تكفي ملكية الدولة لبعض
وسائل الانتاج بالطبع لتمييز التطور نحو الاشتراكية
” (التخطيط والتنمية) . ومثلا لا بد من أن يكون التخطيط تجسيداً لسيطرة ” كل الشعب
” وهو ما انتهت إليه الممارسة في اكثر الدول خبرة بالتطبيق الاشتراكي . لأن
السيطرة على وسائل الانتاج للشعب ” كله ” طبقأ لما
انتهينا إليه من قبل (فقرة 21) . وبهذا يتميز التخطيط
الاشتراكي عن الخطط التي تضمها فئة أو طبقة تجسيداً لسيطرتها ” الخاصة
” على وسائل الانتاج ولو ألغت الملكية الخاصة. ولو أخذت شكل الملكية الجماعية .
وهنا نلتقي بالنقطة التي قال اوسكار لانج أنها تمثل خطراً حقيقياً على الاشتراكية
وهي : ” أن يكف المثسروع (الاقتصادي) عن العمل طبقاً لمقتضيات المصلحة العامة .
وفي هذه الحالة إن ملكية وسائل الانتاج ، كائنة ما كانت صفاتها القانونية أو
الشرعية تكف عملياً عن أن تكون ملكية اشتراكية وتصبح مجرد ملكية مشتركة بين مجموعة
من الافراد ، ملكية قد انسلخ عنها مفهوم المسئولية تجاه المجتمع . وأني سأطلق على
هذه الحالة اسم ” التهلهل أو
التفسخ النقابي الفوضوي ” ( أبحاث في التخطيط والاقتصاد الاشتراكي ). لا تهلهل ولا
تفسخ ولا فوضى اذن في النظام الاشتراكي ” ونحن نعرف لماذا ؟ لأن النظام الإشتراكي
يقوم على أساس سيطرة الشعب على وسائل الانتاج . كل الشعب على كل وسائل الانتاج .
حصيلة
ما سبق هو أن سيطرة الشعب على وسائل الانتاج يتجسد ـ سياسياً ـ بالديموقراطية
وتتجسد ـ اقتصادياً ـ بالتخطيط الشامل لمصلحة الشعب كله . وأن بهاتين السمتين
يتميز النظام الاشتراكي أما كيف يتم هذا في الواقع فذلك التطبيق الاشتراكي .
وحصيل
الممارسة كما يقول اوسكار لانج : ” إن الملكية الاشتراكية لوسائل الانتاج تستوجب
تحقيق شرطين في الوقت ذاته : استخدام وسائل الانتاج لمصلحة المجتمع كله، ومشاركة
فعالة وديموقراطية للمنتجين وبقية العاملين في ادارة وسائل الانتاج . تلك هي
الصفات الاساسية للاشتراكية . أما النماذج الخاصة للاشتراكية والتي تتجسد فيها هذه
الصفات فيمكن أن تختلف من بلد لآخر ومن مرحلة لأخرى في تطور المجتمع الاشتراكي” .
(أبحاث في التخطيط والاقتصاد الاشتراكي) .
كيف
وصلنا نحن الى هذه النتيجة ؟
منذ
بدأنا من المنطلق الانساني (جدل الانسان) كان لا بد لنا من أن نصل اليها سواء قال بها اوسكار
لانج او غيره ام لم يقولوا . اما اوسكار لانج فقد وصل من خلال خبرته الفذة بالبناء
الاشتراكي . من خلال الممارسة وليس تأسيساً على نظرية سابقة . فهو الماركسي الذي
قال: ان ليس في الماركسية إلا
ملاحظات عابرة عن الاقتصاد الاشتراكي . ان اوسكار لانج هنا يمثل ويعبر عن خلاصة
تجارب الاشتراكيين من اجل هذا نستشهد بما قال .
اما
لماذا اوسكار لانج بالذات ؟ فلأنه اشتراكي خالص فقد كان عضو مجلس الرئاسة في
بولندة الاشتراكية. ونحن لا نستشهد بأقوال غير الاشتراكيين لأننا لا نثق فيها .
ثانياً لأن علمه بالاقتصاد الاشتراكي لا شك فيه ، فقد كان رئيساً للمجلس الاقتصادي
في بولندة ، واستاذاً في اكاديمية العلوم ، ورئيساً للجنة الخطة والميزانية ،
واستاذ الاقتصاد في جامعة وارسو . ثالثاً لأنه من أكثر الاشتراكيين خبرة بالاقتصاد
والنظم غير الاشتراكية ، فقد عاش في الولايات المتحدة ردحاً من الزمان كمندوب
للبلاد لدى هيئة الأمم المتحدة ، وكاستاذ في جامعة كاليفورنيا ،
وجامعة ستانفور، وجامعة شيكاغو . رابعاً لأنه خبير محيط باقتصاديات البلاد
المتخلفة والنامية، فقد كان مستشاراً للهند وزائراً ومحاضراً في كثير من بلاد
العالم الثالث ومنها بلادنا . خامساً ـ وأخيراً ـ فلأنه عاصر تجربة الاشتراكيين
كاملة وعاشها معهم فقد ولد سنة 1904 ولم يتوقف إلا سنة 1964.
لا
شبهة إذن فيما يقول اوسكار لانج عن حصيلة الممارسة الاشتراكية .
على
أي حال فان ” التخطيط الاقتصادي” الذي قضت به الممارسة الاشتراكية قد اصبح بالنسبة الينا حكم ”
النظرية ” . أما كيف توضع الخطة
الاقتصادية الشاملة ، ومدتها وأغراضها مرحلة فمرحلة ، وموضع كل وسيلة على حدة في
داخلها ، وكيفية توظيفها لوسائل الانتاج ، فكل هذا يدخل في التطبيق الاشتراكي ،
ويخضع للظروف المحلية والقومية والعالمية كما تكون في الزمان الذي تبدأ فيه
الجماهير بناء النظام الاشتراكي .
وبهذا
تكون الاشتراكية عندنا هي : سيطرة الشعب
بالتخطيط الاقتصادي عن طريق دولته الديموقراطية على وسائل الانتاج لاشباع حاجاته
المادية والثقافية المتجددة ابداً . الاشتراكية نظام اجتماعي لتحقيق غاية تقدمية وليس
” كلمة ” تقوم في ذاتها غاية لا يعرف احد لماذا قامت .
وماذا عن الملكية الخاصة ؟
(6)
58 ـ الملكية الخاصة والاشتراكية :
منذ
أن بدأ الحديث عن الاشتراكية في مطلع القرن التاسع عشر وأغلبه دائر حول ” الملكية
الخاصة ” . وقد أدان اغلب الاشتراكيين ” الملكية الخاصة ” ادانة عامة استوى فيها
الاشتراكيون الخياليون والاشتراكيون العلميون . ولم يكن متوقعاً من أي اشتراكي في
ذلك الوقت وما بعده على مدى قرن كامل إلا أن يدينها . إذ فيها كانت تتمثل وتتجسد ” اداة
” الرأسماليين في الاستغلال والقهر الافتصادي . وان تفاوتت المدارس الاشتراكية بين
تقيد الملكية الخاصة وبين الغائها ، ثم في المبررات التي قدمتها كل مدرسة لذلك
التقييد او الالغاء . واذا كان برودون ـ الفوضوي ـ قد قال : ” ان الملكية هي
السرقة “ ، فقد قال ماركس ان الملكية الخاصة لادوات الانتاج تمكن الرأسماليين من
الحصول كل ” فائض القيمة ” فيجب أن تلغى . وكان ماركس اكثر
علماً واصالة من برودون .
المهم
ان ندرك جيداً انهم جميعاً كانوا يتحدثون عن الملكية الخاصة فيدينونها وهم بصدد
الحديث عن النظام الرأسمالي وادانته . لهذا عندما تقدم ماركس محاولاً ارساء قواعد
الاشتراكية على اسس علمية بدأ في كتابة ” رأس المال ” بدراسة النظام الرأسمالي كما
هو، أي بنظام انتاج السلع بقصد الربح في ظل المنافسة الحرة والفعالية التلقانية
لقوانين السوق . فدرس السلعة واجتهد في تحديد قيمتها التبادلية وأوضح كيف ان العمل
هو الذي يحدد تلك القيمة ثم انتقل الى علاقات الانتاج فأبان كيف يحصل الرأسمالي
على فائض القيمة عن طريق تحكمه في قوة العمل كسلعة .
ونحن
نعرف ونعترف بأن نظرية ” فائض القيمة ” من أروع ما أبدعه ماركس الاقتصادي وانها
عنده المبرر العلمي لالغاء الملكية الخاصة لادوات الانتاج . ولكنا نعرف ايضاً ان
أحداً من المفكرين لم يظلم كما ظلم ماركس ، وان قليلاً هم الذين قرأوه فصبروا على
أنفسهم حتى فهموه . فلنحاول معاً أن نفهم كيف انتهى ماركس من نطرية فائض القيمة
الى الغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج .
أولاً
، وقبل كل شيء ، كان كارل ماركس يحلل النظام الرأسمالي . أن هذا مهم . إذ لا يمكن
أن نفهم مـا قال ، ولا يجوز أن نحاول فهمه بعيداً عن موضوعه . بمعنى أنه لا يمكننا
فهم ما قاله ماركس بمعزل عن الفعالية التلقائية للقوانين الاقتصادية التي تحكم
النظام الرأسمالي بدون معوّق . ومن ناحية اخرى كان ماركس يحلل اسلوب ” الانتاج
” الرأسمالي أي تلك المرحلة التي تتحول بها المادة الخام عن طريق العمل على أدوات
الاننتج الى سلعة (الصناعة) . أما ما يسبق هذا من تمويل مثلا وما يليه من توزيع
واستهلاك أو ما يحيط به من انتاج الخدمات فكل هذا النشاط
الاقتصادي . لم يكن ـ عند ماركس ـ عملاً منتجاً (أوسكار لانج ـ الاقتصاد
السياسي) . فالذين يزرعون الارض والذين يقرضون النقود للرأسماليين مقابل فائدة
والذين يتاجرون في السلع بعد انتاجها لا يضيفون شيئاً الى قيمة السلعة . وما
يحصلون عليه من ريع وفوائد وأرباح تجارية ليس ” فائض قيمة ” جديداً مضافاً الى ما
يحصل عليه الرأسماليون ولكنه جزء من فائض القيمة الذي يحصل عليه الرأسماليون . قال
ماركس : ” أن الريع والفائدة والربح الصناعي ليست إلا أسماء مختلفة للأجزاء
المختلفة من القيمة الفانضة للسلعة أو العمل غير المدفوع المتحقق فيها وهي تستوي
في أنها مستمدة من هذا المنبع وحده . فهي ليست مستمدة من الارض لكونها أرضاً أو من
رأس المال لكونه رأسمالاً ولكن الارض ورأس المال يمكنان اصحابهما من الحصول على
نصيب كل منهم من فائض القيمة المستخلصة بواسطة الرأسمالي المستخدم من عامله . أما
بالنسبة الى العامل نفسه فهذا موضوع ذو أهمية ثانوية، وسوأء أكان لديه فائض
القيمة ، وهو نتيجة فائض عمله ، أو العمل غير المدفوع قد دخلت كلها في جيب
الرأسمالي المستخدم أو أن الاخير مضطر الى أن يدفع أجزاء منها باسم ريع أو فائدة ،
(القيمة والثمن والربح) . في هذه الحدود ـ حدود علاقة الانتاج بين الرأسمالي
والعامل ـ انتهى ماركس الى القيمة التبادلية (سعر السوق) لأية سلعة تتحدد بما
تتضمنه السلعة من عمل . أي أن العمل ـ والعمل وحده ـ هو الذي يحدد قيمة
السلعة . غير أن العمل عند ماركس هو متوسط العمل اللازم اجتماعياً لإنتاج السلعة .
فلم يكن ماركس معنيأ وهو يدرس ظاهرة اجتماعية بالظروف الخاصة بأحد الرأسماليين أو
بأحد العاملين أو بالفوارق بين المجتهدين والكسالى فتلك ” ذبذبات ” محدودة لا تؤثر
في متوسط العمل اللازم اجتماعياً الذي هو مقياس قيمة السلعة . قال : ” ان صفة
الاجتماعي تتضمن كثيراً من النقاط . فبقولنا أن قيمة سلعة ما تتحدد بواسطة كمية
العمل المندمج فيها تعني كمية العمل اللازم لانتاجها في حالة معينة للمجتمع تحت
ظروف اجتماعبة معينة للأنتاج مع متوسط مجهود اجتماعي معين ” (القيمة والثمن
والربح) . بعد هذا التحديد انطلق ماركس الى كشف كيف يحصل الرأسمالي على فائض
القيمة مبتدئاً من نقطة ثابتة هي سيادة قوانين الاقتصاد الرأسمالي فنفى نفياً
حاسماً أن يستطيع الرأسمالي تحقيق أي ربح عن طريق بيع السلعة بأكثر من قيمتها
الحقيقية . سأل نفسه : ” ما هي العلاقة اذن بين القيمة وأثمان السوق أو بين الاثمان
الطبيعية وأثمان السوق ؟ ” وأجاب : ” لايضاح الطبيعة العامة للارباح يجب أن تبدأوا
من النظرية القائلة أن السلع في المتوسط تباع بقيمتها الحقيقية وأن الارباح تأتي
من بيعها بقيمتها الحقيقية أي بنسبة كمية العمل المتحقق فيها . وإذا لم تستطيعوا
تفسير الربح على أساس هذا الفرض فلن تستطيعوا تفسيره على الاطلاق ” . وقال ” اني
اكرر أن الارباح العادية والمتوسطة يحصل عليها ببيع السلع لا بأكثر من قيمتها
الحقيقية بل بقيمتها الحقيقية ” . ( القيمة والثمن والربح) .
اذا
كان الرأسمالي لا يستطيع أن يحقق ربحاً عن طريق تحكمه في سعر السلعة المنتجة لانه
لا يستطيع أن يتحكم في قوانين السوق فمن أين يأتيه الربح ؟
من
تحكمه في سعر العمل . هنا جوهر النظرية . في مواجهة القوانين الاقتصادية التي تحكم
السوق يقف الرأسمالي عاجزاً . ولكنه غير عاجز في مواجهة العمل وسعره . ولكن كيف ؟
أن العمل ذاته سلعة تتحدد قيمته (الأجر) ” بقيمة الضروريات اللازمة لصيانة وتناسل
العامل” وهو كأية سلعة ،
سيتلاءم ثمنه (الأجر) في السوق على مر الزمان مع قيمته ” . وقوانين
السوق كما نعلم عن ماركس لا يمكن المساس بها فهي تعمل ” تلقائياً
” في النظام الرأسمالي ” بدون توقف على إرادة أحد، فكيف يستطيع الرأسمالي أن يحصل
على فائض القيمة ؟ من أين تأتى مقدرته على التحكم فى العمل
كسلعة ؟
السر،
والعقدة ، ان الرأسمالي لا يشتري قدراً محدداً من عمل العامل ، بل يشتري ” قوة ”
العمل . يقول ماركس ” ان
ما يبيعه الرجل العامل ليس عمله مباشرة وإنما قوته العاملة التي يخول للرأسمالي
التصرف فيها مؤقتاً ، ” القيمة والثمن والربح ” . فالرأسمالي إذ يدفع سعراً محدداً
يحصل على قوة عمل تتوقف حدودها على ما يستطيع أن يستنزفه منها من ساعات عمل . ”
المجتمع الرأسمالي الى مجتمع ليبرالي فهو لا يسمح بالتدخل في تحديد ساعات العمل أو
الأجور “. وبعد الساعات الأولى المقابلة للأجر تصبح كل الساعات التالية عملاً
غيرمدفوع الثمن ، أي فائض عمل . هو مصدر فائض القيمة.
الى
هنا انتهى تشخيص ماركس للمرض الرأسمالي باكتشافه : ” ان ما يميز الأسلوب الرأسمالي
للانتاج بوجه خاص هو إنتاج فائض القيمة باعتباره الهدف المباشر والدافع
الحاسم للانتاج ” “رأس المال “. ويقول انجلز إن ماركس إذ ابان : ” على هذا النحو
كيف ينشأ فائض القيمة وكيف يمكن أن ينشأ في ظل سيطرة القوانين المنظمة لتبادل
السلع فانه قد كشف الغطاء عن آلية الأسلوب الرأسمالي القائم للانتاج وأسلوب
التوزيع القائم على أساسه وأظهر الجوهر الذي يتبلور حوله كل النظام القائم . ” ضد
دهرنج “. ولما كان لكل نظام إجتماعي قانون إقتصادي أساسي يحدد الأسلوب الذي يسير
عليه ذلك النظام ويربط بين جميع القوانين الاقتصادية السارية فيه ويجعل منها كلأ
متسقاً ويفرض طابعه على سيرها ، فان ماركس وانجلز كانا يعتقدان أن قانون ” فائض
القيمة ” هو القانون الأساسي للنظام الرأسمالي .كما يقول أوسكار لانج ، ” الاقتصاد
السياسي ” .
فليكن
. المهم ما هو العلاج ؟
في
سنة 1848 ماركس في البيان الشيوعي ان العلاج هو الغاء الملكية الخاصة . وفي سنة
1865 قال في خطبة القاها امام المجلس العام للدولية الاولى انه ” بدلا من شعار
المحافظين : اجر مناسب ليوم
عمل مناسب يجب ان يخط العمال على رايتهم الشعار الثوري : القضاء
على نظام الاجور “. وكل من القوانين يكمل الاخر ويوضحه إذ ان الحل الذي كان كارل
ماركس يبحث عنه هو اخراج قوة العمل من السوق كسلعة ، لأن الرأسمالية كما قال : ”
لا تنشأ إلا حيث يجد صاحب وسائل الانتاج ووسائل المعيشة عاملاً حراً في السوق يعرض
للبيع ما يملك من قوة العمل ” ( رأس
المال). وقد رأى ماركس ان ذلك يكون بالغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج ، أي
باخراج الشارين من السوق عن طريق تجريدهم من المقدرة على الشراء . قال كيف نشأت
هذه الظاهرة العجيبة ، ان نجد في السوق فئة من الشارين يملكون الأرض والالات
والمادة الخام ووسانل المعيشة، وجميعها ـ ما عدا الأرض في حالتها الفطرية ـ
منتجات العمل ، و في الناحية الاخرى نجد فئة من البائعين ليس لديهم شيء يبيعونه
سوى قوتهم العاملة . عندما يحدث الانفصال بين العامل وادوات العمل سيظل هذا الوضع
قائماً وسيتضاعف بدرجة مطردة حتى تقلبه مرة اخرى ثورة جذرية جديدة في
طريقة الانتاج تعيد الاتحاد الأصلي في شكل تاريخي جديد، (القيمة والثمن والربح) .
وواضح
أن عودة الاتحاد الأصلي بين العامل وأدوات العمل تعني ملكية العاملين لأدوات
الانتاج ملكية جماعية أي إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج .
هذه
هي النظرية الماركسية ـ ملخصة ـ في
الملكية الخاصة لأدوات الانتاج ومبررات الغائها . وهي نظرية محكمة تبدأ من قيمة
السلعة ، ففائض القيمة ، وتنتهي بالغاء الملكية الخاصة لادوات الانتاج . وهي نظرية
متكاملة فكون فائض القيمة هو القانون الاساسي المميز للنظام الرأسمالي يعني ان
الغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج هو المميز الاساسي للنظام الاشتراكي . وهي
نظرية علمية فإن ماركس كان عالمأ مجتهداً و لم يكن دعياً او عاطفياً . فهو الذي
قال : ” ان وجهة نظري وجهة ينظر على اساسها إلى تطور النظام الاقتصادي للمجتمع
كعملية من عمليات التاريخ الطبيعي ، ( الاعمال المختارة) . لهذا ” إذا ” كانت
النظرية صحيحة علمياً فإن الغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج يصبح لازماً حتماً
في ” النظام الاشتراكي ” لأن الحتمية اهم خصائص القوانين العلمية الصحيحة .
ولسنا
نريد هنا ان نناقش تلك النظرية الفذة . ولكنا ـ كالعادة ـ ندع الممارسة تكشف عن
مدى صلابتها اتفاقاً مع انجلز في قوله : ” ان الممارسة هي المحك الذي لا يخطىء ”
ثم نعود الى الحوار على هدى حصيلة الممارسة وتجارب الاشترا كيين .
فما
الذي حدث ؟
عندما
انتصرت ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا بدأت عملية الغاء الملكية الخاصة لادوات
الانناج . ففي 8 نوفمبر 1917 صودرت كل
الملكيات الكبيرة بدون تعويض وآلت الملكية الزراعية الى مجالس الفلاحين . وفي 14
نوفمبر 1917 خضعت كل المؤسسات الصناعية والتجارية للاشراف الفعلي المباشر للعمال
ثم تلا ذلك الغاء التجارة الداخلية وتأميم البنوك والشركات والاستيلاء على فانض
الانتاج عيناً … الخ . خرجت قوة العمل من السوق عن طريق الغاء الملكية الخاصة
لأدوات الانتاج . ولكن الانتاج وتكرر الانتاج كاد يتوقف . فأعلن لينين فشل التجربة
بعد اربع
سنوات من بدايتها والغى قدراً كبيراً مما تم . ففي 21 مارس 1921 الغى الاستيلاء
على فائض الانتاج عيناً . وبعد ثلاثة ايام عادت التجارة الداخلية . وفي 17 مايو
1921 صرح لصغار المنتجين ان يبيعوا منتجاتهم لحسابهم . وفي 7 يوليو 1921 ألغي
تأميم كل المؤسسات الصناعية التي يزيد عدد العمال فيها على عشرين عاملاً وعادت
إليها الملكية الفردية . وفي 10 يوليو 1921 ابيح للافراد والشركات ان تقيم مصانع
مملوكة ملكية فردية او مشتركة . وبمقتضى مرسوم صدر في 13 مارس 1922 اصبح مباحاً ان
تؤلف شركات مختلطة يكون رأسمالها من اموال حكومية واموال اجنبية ، وخضعت اغلب
تجارة الاخشاب وصناعة التعدين لشركات من هذا النوع . اي عاد لينين الى اقتصاد
السوق في نظامه الاقتصادي الجديد ” النيب ” كما لاحظ شارل بتلهيم (التخطيط والتنمية
والاقتصاد السوفييتي ) .
والوضع
الان ، بعد خمسين سنة من الممارسة الاشتراكية ، كما أورده اوسكار لانج (ابحاث في
التخطيط والاقتصاد الاشتراكي) ، ان فى الاتحاد السوفييتي ملكية تعاونية بين ملاك
متعددين لوسائل الانتاج بجانب ملكية الدولة . وان في الديموقراطيات الشعبية ملكيات
مؤممة وملكيات تعاونية وملكيات فردية لأدوات الانتاج وملكيات رأسمالية . وان
الملكيات الزراعية التي تستخدم عمالاً باجور ذات حجم هام لا يستهان به . وان
الملكية الرأسمالية تتميز بقوة خاصة في المانيا الديموقراطية . وان الملكية
الرأسمالية تلعب دوراً هاماً في الصين الشعبية.. الخ.
والان
، بعد خمسين سنة من الممارسة الاشتراكية ، ينشر الاتحاد السوفييتي كتاباً يقول فيه
الاستاذ اكسينيونوك ” انه قد اثبتت
التجربة خاصة منذ الحرب العالمية الثانية ان الزراعة يمكن أن تتطور على خطوط
جماعية اشتراكية بدون تأميم كل الأرض خاصة حيث تكون طبقة صغار ومتوسطى المنتجين
كثيرة العدد وحيث يكونوا شديدي التمسك بالأرض التي يملكونها ومثال هذا بولندة
والمجر، (أسس القانون السوفييتي ) .
ما دلالة
هذا ؟ ما هي حصيلة الممارسة ؟
أمران
يؤديان ـ معاً ـ الى أمر ثالث : الأول انه ” لا
يكفي ” الغاء ، الملكية الخاصة لأدوات الانتاج لقيام النظام الاشتراكي . تلك حصيلة
تجربة لينين . الثاني انه ” لا يلزم ” الغاء ” كل ” الملكيات
الخاصة لأدوات الأنتاج في النظام الاشتراكي وتلك حصيلة تجربة الاشتراكيين بعد
لينين . الأمر الثالث الذي يترتب عليهما أن نظرية ماركس في علاقة ” الملكية الخاصة
لأدوات الانتاج بالرأسمالية وبالاشتراكية كليهما غير صحيحة لأنها لم تصدق في
الممارسة .
ثم
نعود إلى الحوار لنعرف كيف اكتشف الاشتراكيون ” علة ” ، هذا الانفصام بين النظرية
والممارسة وكيف عالجوه . الاشتراكيون
الماركسيون بوجه خاص ، اذ هم السابقون الى الممارسة الاشتراكية .
المسألة
ان ماركس وهو يحلل علاقات الانتاج في ظل قوانين الاقتصاد الرأسمالي أراد ان يخرج
قوة العمل من السوق فألغى الملكية الخاصة لأدوات الانتاج . كان يريد أن يحرر
العمال من القهر الاقتصادي الذي يمارسه عليهم الرأسماليون في مجتمع انفصل ” طبقياً
” ففيه يواجه العمال الذين لا يملكون شيئاً أصحاب العمل الذين يملكون كل شيء ،
ويملكون على وجه خاص أدوات الانتاج التي هي في الوقت ذاته أدوات السيطرة على
العاملين . بمجرد ان ننظر الى فكر ماركس كله من هذه الزاوية التحررية نكتشف
المضامين الحقيقية لما قال ، ونكتشف في الماركسية التقليدية ، نظرية تحرير” الطبقة
العاملة من القهر الرأسمالي في ظروف نشأتها التاريخية ، فنستطيع أن نقدر الدور
التاريخي الذي لعبته بجدارة من ناحية ومن ناحية اخرى نعفي ماركس من بناء نظام
اشتراكي على أساس مقولاته الثورية . والواقع ان ” نظرية ” بناء
النظام الاشتراكي او الاشتراكية من حيث هي نظام اجتماعي لن تبدأ إلا من خلال
معاناة الممارسة بعد لينين ولن تكمل أسسها الفطرية إلا متأخرة من خلال تجربة
الاتحاد السوفييتي . لهذا فإن النظرية الماركسية قد وقفت عند تحرر الطبقة العاملة
من القهر الرأسمالي بالغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج . ولم يقل ماركس شيئاً
عن تلك القوانين الاقتصادية ومصير فعاليتها بعد الغاء الملكية الخاصة لأدوات
الانتاج . وهو صمت قد ينطوي على تصور استمرار الاقتصاد خاضعاً لتلقائية تلك
القوانين في النظام الاشتراكي وإن كان أوسكار لانج قد علله بخشية ماركس ان يقول
شيئاً غير علمي . المهم ان قيمة نظريته ظلت متوقفة على ما سيكون من شأن القوانين
الاقتصادية بعد الغاء الملكية الخاصة . وقد أدى هذا الى ظهور تيار تزعمه بوخارين
وروزا لوكسمبرج ، مؤداه ان القوانين الاقتصادية تنتهي بمجرد الغاء الملكية الخاصة
لأدوات الانتاج . فينقل
اوسكار لانج عن روزا لوكسمبرج قولها :” ان الاقتصاد السياسي ينتهي دوره في اللحظة
التي يزول فيها اقتصاد الرأسمالية الذي تسوده الفوضى ويخلي مكانه لاقتصاد مخطط
ينظمه ويوجهه عن وعي المجتمع العامل كله . وهكذا فانتصار الطبقة العاملة الحديثة
وتحقيق الاشتراكية يعنيان نهاية الاقتصاد السياسي باعتباره علماً ” . ويقول : ” انها
كانت تظن ان علاقات الانتاج في ظل الاشتراكية ستكون من الوضوح والبساطة بحيث لا
تكون هناك حاجة الى علم خاص للأقتصاد السياسي ” . ثم يضيف أن بوخارين ذهب ابعد من
هذا (الاقتصاد السياسي) . فلما أثبتت الممارسة في
السنين الأولى التي تلت ثورة اكتوبر ان عملية الانتاج بعد الغاء الملكية الخاصة
لأدوات الانتاج ليست بهذه البساطة ظهر تيار لينين : العودة الى إدارة الانتاج
طبقاً للقوانين الاقتصادية وخاصة قوانين السوق . وكان ذلك اعترافاً بفعالية
القوانين الاقتصادية الموضوعية حتى بعد الغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج .
وهذا ما أكده ستالين بعد هذا عندما قال : ” ان قوانين الاقتصاد في ظل الاشتراكية
هي قوانين موضوعية تعكس حقيقة كون عمليات الحياة الاقتصادية يحكمها قانون
وتعمل مستقلة عن ارادتنا . ان الذين ينكرون هذه المقدمة المنطقية ينكرون العلم في
الحقيقة. وهم اذ ينكرون العلم ينكرون أية امكانية للتوقع . وبالتالي امكانية توجيه
النشاط الاقتصاد . (القضايا الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفييتي).
” توجيه النشاط الاقتصادي ” … هنا مفتاح حل
المشكلة .
ولكن
كيف يمكن توجيه النشاط الاقتصادي في حين ان القوانين الاقتصادية تعمل مستقلة عن
ارادتنا ؟ .
لننقل
الاجابة عن اوسكار لانج . قال :
” القوانين الاقتصادية ظواهر
موضوعية ووجودها وسيرها مستقلان عن ارادة البشر ووعيهم . ولكن قد تعمل ، أو لا
تعمل ، القوانين الاقتصادية بطريقة تتفق مع أهداف الانسان الواعية ومع نشاطاته
التي يراد بها تحقيق تلك الأهداف . ففي الحالة الأولى نقول ان القوانين الاقتصادية
تؤدي عملها بطريقة مقصودة من جانب الانسان ، وفي الحالة الثانية تعمل بطريقة
تلقائية . وهذه الحالة الثانية تنطبق على أغلب القوانين الاقتصادية في جميع النظم
الاجتماعية السابقة على ظهور النظام الاشتراكي ” و” من الضروري أن نتذكر الفرق بين
تلقانية القوانين الاقتصادية وبين الطابع الموضوعي الذي تتصف به هذه القوانين ،
فموضوعيتها منبثقة من كونها خاصية للعملية الافتصادبة الحقيقية التي تجري في
الواقع الموضوعي ، أي مستقلة عن ارادة الناس ووعيهم ، في حين ان التلقائية خاصية
تميز الطريقة التي تعمل بهما القوانين الاقتصادية وعلامة على ان سير هذه القوانين
لا يتفق مع نوايا الانسان . ان التحكم في سير القوانين الاقتصادية أي ضمان اتفاقها
مع نوايا الناس يتحقق اذا ما استخدمنا استخداماً سليماً الطريقة الموضوعية التي
تعمل بها القوانين الافتصادية “ .
ثم ، ” ان الاشتراكية العلمية محاولة للتغلب على تلقائية التطور الاجتماعي ولاقامة نظام من علاقات الانتاج تؤدي فيه القوانين الاقتصادية عملها بطريقة يقصدها الانسان ” (الاقتصاد السياسي ) . هل عرفنا ما هي ” الاشتراكية العلمية ” ؟ ..
على
أي حال هنا نصل الى الاجابة المقابلة للأمر الأول من حصيلة الممارسة : ” لا يكفي ”
الغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج لقيام نظام اشتراكي ، مع ترك القوانين
الاقتصادية تعمل تلقائيا ، بل لا بد من السيطرة على تلك القوانين واستخدامها في
تحقيق الغايات الاجتماعية التي يحددها الانسان .
ثم
نستمر .
يقول
اوسكارلانج : " ان الشرط الاساسي للتحكم في اسلوب سير النظام الاجتماعي هو
تقرير الملكية العامة لوسائل الانتاج الرئيسية مما يؤثر في البواعث الاقتصادية
بحيث يكون رد الفعل من جانب الشعب ازاءها متمشيا مع ارادة الشعب المنظم " (
الاقتصاد السياسي ) . ويقول شارل بتلهايم : " حين تصبح وسائل الانتاج
والمبادلة الاساسية بيد المجتمع لا بيد الافراد " ( التخطيط والتنمية ) . وكل
الاشتراكيين يقولون ـ الآن ـ معهما أن السيطرة على القوانين الاقتصادية واخصاعها
للغايات الاجتماعية التي يحددها الانسان يستلزمان تأميم (الغاء الملكية الخاصة)
وسائل الانتج " الأساسية " أو " الرئيسية " أو " القيم
الاقتصادية المسيطرة " كما يسميها بتلهايم .
اذن
، فكاجابة مقابلة للأمر الثاني من حصيلة الممارسة : لا يلزم الغاء " كل
" الملكيات الخاصة لأدوات الانتاج في الظام الاشتراكي ، بل يلزم ويكفي "
تأميم وسائل الانتاج " الأساسية " التي تمكن الشعب من سيطرته على
القوانين الاقتصادية والغاء سيرها التلقائي واخضاعها لغايته .
كيف
يتم ذلك ؟
بسيطرة
الشعب بواسطة دولته الديمقراطي عن طريق التخطيط الاقتصادي الشامل على " كل
" وسائل الانتاج . ولم نقل وسائل الانتاج " الأساسية " عمدا . لأن
سمة " الأساسية " هنا مستمدة من ضرورتها لالغاء تلقائية القوانين
الاقتصادية ، أي بمدى تأثيرها الاقتصادي في مجتمع معين . لهذا فهي سمة نسبية تتوقف
على مستوى النمو الاقتصادي ونوع الغايات الاقتصادية المرحلية التي يراد تحقيقها .
فالخطة الاقتصادية هي التي تحدد ما هو " الاساسي " وغير الاساسي لاخضاع
القوانين الاقتصادية للأهداف التي تحددها . وما لا يكون أساسيا في مرحلة يكون
أساسيا في مرحلة اخرى . حتى لو كان ثمة قدر مشترك ذو سمة اساسية طبقا لعلم
الاقتصاد والتكنيك التخطيطي الحديث مثل البنوك ومؤسسات الادخار والصناعات الكبرى
... الخ . والسيطرة المفروضة سابقا على كل وسائل الانتاج ، هي التي تسمح للتخطيط
أن يختار فيحدد وسائل الانتاج الاساسية التي يجب أن تؤمم وهي التي توفر له المرونة
اللازمة لمواجهة المشكلات المرحلية . لهذا فان الشرط الاساسي للنظام الاشتراكي هو
السيطرة الديمقراطية عن طريق التخطيط الشامل . فبهذا وحده ، وليس بدون هذا يمكن أن
يحول الانسان ـ مهما كان نوع الظروف الاقتصادية ـ دون السير التلقائي للقوانين
الاقتصادية ويستخدمها لتحقيق أهداف يحددها .
وهنا
نصل الى الاجابة الصحيحة كمقابل للخطأ الذي كشفته الممارسة : ليس المميز الاساسي
بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي هو الملكية الخاصة لأدوات الانتاج وجودا
أو عدما . انما المميز هو خضوع المجتمع للسير التلقائي للقوانين الاقتصادية في
النظام الأول ، وسيطرة الشعب على تلك القوانين واخضاعها لتحقيق غايات اجتماعية
يحددها في النظام الثاني .
في
الأول يكون الشعب عبدا لظروفه المادية . وفي الثاني يكون الشعب سيد تلك الظروف .
ولما كانت سيادة الشعب تعني سيطرة الشعب على وسائل الانتاج بالتخطيط الاقتصادي
الشامل ، فان هذا التخطيط الديمقراطي الشامل هو المميز الفاصل بين النظام
الراسمالي والنظام الاشتراكي . وصدق بتلهايم عندما قال : " اني ألح في ابراز
التعارض الجوهري الذي يرتكز عليه التمييز بين اقتصاد مخطط واقتصاد غير مخطط إلا
وهو التعارض بين مجتمع اشتراكي ومجتمع راسمالي . (التخطيط والتنمية ) .
بمجرد
فرض سيطرة الشعب بالتخطيط الاقتصادي الشامل يتغير النظام الاجتماعي نوعيا من نظام
رأسمالي الى نظام اشتراكي ، تبعا للاختلاف النوعي للقانون الاقتصادي الأساسي في كل
من النظامين . والقانون الاقتصادي الأساسي لأي نظام اجتماعي كما عرّفه أوسكارلانج
هو ما " يحدد الدافع الاقتصادي الرئيسي فضلا عن طريقة الاستجابة الى هذا
الدافع داخل النظام ... وبالتالي يحدد سير جميع القوانين الاقتصادية الخاصة به (
الاقتصاد السياسي ) .
فالقانون الاقتصادي الأساسي في النظام الرأسمالي هو الحصول على أقصى حد من الأرباح .. وهذا طبيعي . اذ في ظل الفعالية التلقائية للقوانين الاقتصادية لا يستطيع أي فرد أن يحدد لنفسه غاية اقتصادية غير تحقيق الربح . أقصى حد من الربح . أما في النظام الاشتراكي فان القانون الاقتصادي الاساسي هو اشباع الحاجات المادية والثقافية المتزايدة أبدا لكل الشعب . وهو ما يستهدفه التخطيط الاقتصادي اذا كان تجسيدا لسيطرة الشعب . يقول نيكيتين السوفييتي المعاصر : " ان اشباع حاجات جميع أعضاء المجتمع هي الغاية المحددة موضوعيا للانتاج في ظل الاشتراكية " ( اسس الاقتصاد السياسي ) .
(7)
59 ـ الملكية الاشتراكية :
عند
هذا الحد من الحديث قد يقابلنا اعتراضان لا ينبغي أن نهرب من مواجهتهما . الاول :
اننا لم نقل رأياً في نظرية ” فائض القيمة ” كنظرية اقتصادية ، واحتكمنا مباشرة
الى الممارسة الاشتراكية . والواقع أننا هنا في حرج له ما يبرره . فنحن أولاً ـ كاشتراكيين
ـ لا نريد أن نسهم في الحملة التي يشنها الرأسماليون ضد نظرية فائض القيمة . إذ
أنها حملة غايتها ” تبرئة ” النظام الرأسمالي وليس الوصول الى الحقيقة الاقتصادية
العلمية . وليس الاشتراكيون العرب من السذاجة بحيث ينخدعون في الابحاث الاقتصادية
عندما تأتي من جانب الرأسماليين . ونحن ثانياً نتحدث عن النظام الاشتراكي ونظرية ”
فائض القيمة ” قد تصلح موضوعاً لحوار بين الاشتراكيين من ناحية والرأسماليين من
ناحية اخرى يكون موضوعه ” الرأسمالية
” وليس ” الاشتراكية ” . إذ أنها ـ صحت أو لم تصح ـ نظرية في النظام
الرأسمالي . وبمجرد انتقال الحديث الى النظام الاشتراكي لا يكون لها موضع فيه إذ
لا موضع لها إلا في ظل الفعالية التلقائية للقوانين الاقتصادية حيث يكون “العمل ”
سلعة معروضة في سوق المنافسة الحرة . لهذا آثرنا أن نتجاوز نقدها اقتصادياً الى
الحل الاشتراكي الصحيح لأن هذا هو ما يهمنا في هذا الحديث ومع هذا فلمجرد تأكيد
الثقة في أننا لا نهرب من الاجابة عن أي سؤال نقول أن قصور نظرية فائض القيمة جاء
من أمرين : أولهما : إن القيمة
التبادلية للسلعة (سعر السوق) لا تتحدد بمقدار ما تتضمنه السلعة من عمل فقط . يقول
اوسكار لانج أنه واضح من الجزء الثالث من كتاب ” رأس المال ” ان ماركس كان مدركاً
لدور الطلب (أو المنفعة) في تقرير توزيع الموارد وإن كان ـ مثل ريكاردو ـ عاجزاً
عن العثور على معادلة واضحة لتأثير قانون الطلب . وهكذا حصر ماركس وانجلز نفسيهما
داخل حدود الاقتصاد الكلاسيكي ” ( تخطيط الانتاج في الدولة الاشتراكية) . وثاني
الامرين أن ماركس الذي فطن للسمة ” الاجتماعية ” للعمل الذي يحدد القيمة حصر
هذه السمة وقصرها على العلاقة المحدودة بين الرأسماليين والعمال في المصانع وفي
مرحلة محدودة من مراحل النشاط الاقتصادي هي مرحلة انتاج السلع المادية . وهكذا
بسط السمة الاجتماعية للحياة الاقتصادية على وجه أراد معه أن يحل مشكلاتها على
أساس نظرية قيمة العمل . ويقول اوسكار لانج أن ذلك ” حل ناقص وساذج ” (تخطيط
الانتاج في الدولة الاشتراكية) . ولا نزيد عمداً لنهتم بما هو أهم .
الاعتراض
الثاني قد يكون كما يلي : إننا قد رتبنا
على حصيلة الممارسة الاشتراكية ” حتى الان ” بما تتضمنه من تواجد الملكية ” الخاصة
” لأدوات الانتاج بجانب الملكية العامة الا إن النظام الاشتراكي لا يقتضى الغاء ”
كل ” الملكيات الخاصة لأدوات الانتاج . وهو ترتيب خاطىء
. إذ يتجاهل أن هذا التواجد المزدوج خاص بمرحلة الانتقال الى الاشتراكية . وما دام
يبدو في حديثنا تقدير خاص لكارل ماركس فانه نفسه قد
أشار الى هذا عندما قال : ” لا يمكن رسم خطوط مجردة ، جامدة وسريعة بين عصور
التاريخ الاجتماعي ” (رأس المال) . إذن فبقاء بعض الملكيات ” الخاصة ” لأدوات
الانتاج في بعض المجتمعات الاشتراكية لا يعني أن الاشتراكية قد فقدت مميزها
الاساسي وهو إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج . بل سيظل هذا “غاية ”
الاشتراكيين في خلال مراحل التحول الى الاشتراكية .
اعتراض
وجيه يفتح لنا مجالات خصيبة للفهم .
وقبل
أن نرد يجب أن نقررـ منعاً لأي لبس ـ إننا كاشتراكيين لسنا ضد إلغاء الملكية
الخاصة لأدوات الانتاج ، ولا حتى ضد الغاء الملكية الخاصة عامة . بل لعلنا
كاشتراكيين “ عرب ” أن نكون أكثر الناس استعداداً لقبول هذا الالغاء لأسباب قومية
سنعرفها فيما بعد ( فقرة 63) . فعلينا ألا نسمح لأحد بأن
ينقل الحوار مغالطة الى حيث تبدو كما لو كنا نقدس الملكية الخاصة . وليبق الحوار
محصوراً دائمأ في : متى ؟ ولماذا ؟ تلغى الملكية الخاصة لأدوات الانتاج ، كلها ،
أو بعضها ، أو غيرها من الملكيات الخاصة .
إن
اجابتنا واضحة تماماً : تلغى الملكية الخاصة ـ أولاً ـ متى أراد الشعب إلغاءها .
وفي الحدود التي يريدها ولو ألغاها جميعاً ، بعد أن تكون قد تحققت له السيطرة على
كل وسائل الانتاج في دولته الديموقراطية وهي لا تتحقق له إلا إذا ألغى ـ ثانياً ـ
الملكية الخاصة لأدوات الانتاج الأساسية . ولماذا ؟ لأنها ـ حينئذ ـ تكون عقبة في
سبيل سيطرة الشعب بالتخطيط الاقتصادي على القوانين الاقتصادية وتسخيرها لتحقيق
غايته الاجتماعية . ذلك لأن النظام الاشتراكي هو هذا ذاته : سيطرة الشعب على
القوانين الاقتصادية من خلال سيطرته على وسائل الانتاج بواسطة دولته الديموقراطية
. أما الالغاء الفعلي ومداه فهو استعمال لتلك السيطرة يخضع لتقدير الشعب كأي تطبيق
اشتراكي .
وتلك
إجابة وصلنا إليها قبل أن نعرض لحصيلة الممارسة الاشتراكية . وصلنا إليها كخلاصة
نهائية لحلقة محكمة من المقولات الفكرية : الانسانية كفلسفة ، فجدل الانسان كمنهج
، فالشعب كقائد للتطور، فسيطرة الشعب كنظام للاشتراكية. وأولها يؤدي إلى آخرها ولا
يمكن فهم آخرها الا على ضوء منطلقها الأول . وتلك خصائص النظريات العلمية .
فإذا
كانت الممارسة الاشتراكية قد انتهت إلى ما يتفق مع ” الاشتراكية ” كنظرية نعرفها ،
فهي دليل من الواقع على صحة نظرية صحيحة فكرياً . ونحن نعرضها فعلاً كدليل . أي إن
ما نرتبه على حصيلة الممارسة هو تأكيد صحة نظريتنا إزاء هذا لا تجوز العودة إلى
المقولات النظرية التقليدية التي تجاوزها ، التراث الاشتراكي فكراً وتطبيقاً
للاحتجاج بها على خلاصة التفاعل بين الفكر والتطبيق الاشتراكيين . نريد
أن نقول لمن قد يعترضون بما سبق : من أين جئتم بأن الاشتراكية تعني إلغاء ” كل ”
الملكيات الخاصة لادوات الانتاج ؟ إن لم يكن مما قاله ماركس عن فائض القيمة فهو
صخب غير علمي لا يستحق المناقشة . وإن كان من ” فائض القيمة ”
فتلك نظرية أقل ما يقال فيها أنها أصبحت تراثاً . وكما رأيتم لا يقول بها
الماركسيون المشغولون فعلاً ببناء الحياة الاشتراكية على أسس علمية صلبة .
انهم مشغولون بأشياء أخرى مختلفة وحديثة وعلمية . مشغولون مثلأ ” بالسوبرنطيقا ” .
والسوبرنطيقا علم حديث يبحث في كيفية توجيه النشاط الانساني بطريق غير مباشر إلى
غرض ما بتحريك سلسلة طويلة من العلل والنتائج المرتبطة فيما بينها . ويدخل في
نطاقه ـ بالنسبة إلى ما نحن بصدده من حديث ـ كيفية توجيه النشاط الاقتصادي للأفراد
والتحكم في هذا النشاط بغير الأوامر الادارية والتعليمات البيروقراطية . وعندما
يكتمل هذا العلم سينقلب ـ أو ينعدل على الأصح ـ حال البشرية . يكفي أنه لن
يكون الاشتراكيون في حاجة إلى جيش من الموظفين يديرون وسائل الانتاج بيروقراطياً .
ولن يستطيع أحد ـ مالكاً أو غير مالك ـ أن يفلت من إرادة الشعب المتحكمة بالعلم في
نشاطه الاقتصادي . إنه العلم . العلم الذي يفتح للانسانية آفاقأ جديدة ورائعة .
وهي آفاق من حق الاشتراكيين أن يكونوا روادها . فلماذا يحاول بعضهم إحياء الموتى
في عصر ” السوبرنطيقا ” وهو عبث . إن التكرار
الطفولي الممل لمقولات نظرية عتيقة تجاوزها الاشتراكيون فعلاً ، يعني أن بعض
الاشتراكيين لم يستفيدوا شيئاً من التراث الاشتراكي ومعاناة الاشتراكيين .
دعونا-
إذن- نتقدم معاً لنعرف شيئاً عن مراحل التحول التي ” يتمحك ” بها المعترضون .
في
التراث الاشتراكي (الماركسي) كان النظام الاشتراكي ذاته هومرحلة التحول .
وكانت له بداية محددة ونهاية محددة : يبدأ بديكتاتورية البروليتاريا و تتم خلالها
تصفية الملكية الخاصة وينتهي بالشيوعية . والشيوعية هي ذلك النظام المتميز
اقتصادياً بوفرة في الانتاج تسمح بأن يأخذ كل فرد منه بقدر حاجته بصرف النظر عن
عمله . المتميز اجتماعياً بخلوه من الصراع الطبقي وسيادة روح الأخوة
والتعاون بين البشر ، المتميز
سياسيـاً بزوال الدولة . وهو كلام مفهوم . مفهوم أن توجد في النظام الاشتراكي الذي
هو مرحلة تحول مؤقتة ، ملكية خاصة ، وصراع ، ودولة مؤقتأ وتحت التصفية . ولكن وصف
النظام الاشتراكي بأنه مرحلة تحول يصبح غير مفهوم إذا كانت الشيوعية وهماً غير
قابل ـ علمياً ـ للوجود . ولسنا نريد أن
نحتج هنا بما قاله كاوتسكي متهكماً من أن ذلك المجتمع الشيوعي ” المبارك ” سيبقى
إلى الأبد مجرد حلم خيالي (الثورة العمالية) . فسيقال ان
كاوتسكي ماركسي كبير ولكنه “مرتد” . ولكنا نقول ان الشيوعية قائمة على افتراض أن
“حاجات ” الناس ستقف عند حد تدركه وفرة الانتاج وتغطيه . وهذا فرض غير علمي وغير
صحيح . غير علمي بمعنى أنه غير ثابت علمياً . وغير صحيح بمعنى
أن ما هو ثابت علمياً ينفيه . فالثابت أنه كلما أشبعت حاجة للانسان نشأت له حاجة
جديدة وان حاجات الناس المادية والثفافية متزايدة أبداً . وإن ذلك سر ومحرك التقدم
الاقتصادي من الندرة إلى الوفرة ، فالحاجة تسبق الانتاج وتبرر تكراره . ومعنى هذا
أنه ما دام الانسان إنساناً فستظل له حاجات تتطلب الاشباع مهما أشبع من حاجاته
السابقة . أي لن يأتي اليوم الذي تقف حاجاته عند حد يدركه الانتاج ويغطيه بوفرته .
أما مسألة زوال الدولة فقد تم التراجع عنها وبالتالي لم نعد في حاجة إلى الحديث عن
علاقات ” الأخوة والتعاون ” التي
ستحل محلها. أيأ ما كان الأمر فإننا لا نستطيع أن نعرف علمياً ما إذا كانت
الشيوعية ستجيء ومتى تجيء . وهذا يكفي لاخراجها كنظام من مجال الحديث الجاد .
بخروج
” الشيوعية من الحديث ، يسقط الحد النهائي ” للنظام الاشتراكي ” كمرحلة تحول . أي
يفقد النظام الاشتراكي سمة المرحلية المنسوبة إليه ، ليبقى نظاماً جديداً لعصر
جديد لا نستطيع أن نعرف علمياً نهايته . ويصبح واجباً على الذين يتمسكون بأن
الاشتراكية هي إلغاء الملكية الخصة لأدوات الإنتاج إلغاء شاملأ وتاماً وأن يبحث عن
مبرر للتواجدالمزدوج للملكية الخاصة والملكية العامة في ظل الاشتراكية غير مبرر ” المرحلية
” الذي ينسبونه إلى الاشتراكية .
هذا
إذا أخذنا بمنطق الاشتراكيين التقليديين .
ونحن
لا نأخذ به لأن النظام الاشتراكي منطلقاً ومنطقاً جديدين عرفناهما منذ بداية هذا
الحديث .
طبقأ
لهما يبدأ النطام الاشتراكي بالسيطرة على القوانين الاقتصادية . وقد عرفنا إن هذا
يتحقق بالتخطيط الاقتصادي الشامل . وبهذه البداية تدخل البشرية عصراً جديداً
تماماً ومختلفاً نوعياً وجوهرياً عن كل صور التاريخ السابقة عليه . إذ بها تنتقل
من عصور الخضوع للسير التلقائي للقوانين الاقتصادية الى عصر السيطرة على سير تلك
القوانين . وإذا كنا نعرف أن الرأسمالية هي آخر مرحلة من النظم في عصور العبودية
الاقتصادية فإننا نعرف أن النظام الاشتراكي أول نظم عصر الحرية ولكنا لا نعرف
نهاية هذا العصر . ولعل النظام الاشتراكي أن يكون حداً يقسم التاريخ البشري قسمين
متميزين وانه ليس مجرد نظام اجتماعي أو اقتصادي ذي عمر محدود . على أي حال فحيث
يوجد انتقال يمكن أن توجد مرحل انتقالية أو مرحلة تحول . غير أن هذا يحتاج إلى
مزيد من التحديد ، إذ أن خصائص المراحل الانتقالية تختلف تبعاً للمستوى الاجتماعي
الذي تنسب إليه .
فعلى
مستوى الانسانية عامة، صدق ماركس عندما قال : ” لا يمكن رسم خطوط مجردة ، جامدة و
سريعة، بين عصور التاريخ الاجتماعي ، (رأس المال) . إذ أن الامم والمجتمعات
المعاصرة لا تتقدم من مستوى نمو واحد ولا بمعدل واحد لسرعة التنمية . لهذا يكون
طبيعياً أن تتواجد في زمان واحد مجتمعات لا تزال في عصور العبودية الاقتصادية
ومجتممات تجاوزت تلك العصور إلى عصر الحرية ، عصر الاشيراكية . فمثلا لا يمكن أن
نقول أننا نعيش الان في عصر الاشتراكية بالرغم من ان الاشتراكية سائدة في مجتمعات
تتزايد باستمرار . وهذا التزايد هو الذي يبرر قولنا عصر انتصار الاشتراكية . ولكنه
ليس العصر الاشتراكي بالنسبة إلى البشرية . إذ أن مجتمعات أخرى كثيرة لا تزال تعيش
في ظل الرأسمالية أو ما هو أكثر منها تخلفاً وعبودية .
هذا
واضح .
واضح
ايضاً أن الأمر يختلف اذا كان حديثنا عن مرحلة التحول منصرفاً الى مجتمع منظم معين
. فهنا يمكن فى وجه التحديد معرفة متى انتقل ـ أو ينتقل ـ هذا المجتمع من النظام ـ
الرأسمالي ـ مثلاً ـ الى النظام الاشتراكي . ينتقل
في الوقت الذي يفرض الشعب فيه سيطرته بالتخطيط الشامل على كل وسائل الانتاج بواسطة
دولته الديموقراطية . بمجرد ان يتم هذا يكون قد اصبح مجتمعاً اشتراكياً ، اذ
بالتخطيط الاقتصادي الشامل الذي يجسد السيطرة يتحقق أمران ، أولهما : يكف السير
التلقائي للقوانين الاقتصادية وتصبح خاضعة ومسخرة لتحقيق أهداف الشعب . ثانيهما :
يصبح القانون الاقتصادي الأساسي في المجتمع هو إشباع الحاجات المادية والثقافية
المتزايدة لكل افراد الشعب . وبهما تبدأ المسيرة الاشتراكية الى ما لا نهاية .
معنى
هذا ان مرحلة التحول الى النظام الاشتراكى تتم في قلب النظام السابق عليه حيث يتجه
نضال الاشتراكيين الى فرض سيطرة الشعب على وسائل الانتاج وإقامة دولة الشعب
الديموقراطية.. والمفروض ان يكون
الاشتراكيون عارفين ماذا يفعلون بعد فرض سيطرة الشعب ، أي ان يكونوا قادرين على
تجسيد تلك السيطرة في تخطيط اقتصادي شامل . فاذا جرى الأمر على غير هذا فاستولى ”
الاشتراكيون ” على السلطة باسم الشعب ولم يستطيعوا ان يجسدوا بالتخطيط الاقتصادي
الشامل سيطرة الشعب على وسائل الانتاج، اما لأنهم لا يعرفون ، أو يعرفون ولا
يقدرون ، أو يعرفون ويقدرون ولكنهم يجسدون بالتخطيط سيطرتهم كحاكمين فلا يكون ثمة
مجال للحديث عن الاشتراكية او عن النظام الاشتراكي . وقد يمكن القول بأنها فترة
تحول ولكنها فترة تحول تتم داخل النظام المتخلف غايتها معروفة ومحددة : سيطرة
الشعب على وسائل الانتاج بالتخطيط الاقتصادي في دولته الديموقراطية . ولأن نهايتها
معروفة ومحددة يكون مقبولاً أن يقال أنها فترة تحول ، ولكن الأهم من هذا ان تكون
تكون تلك النهاية المحددة هي الهدف الذي يناضل من أجله الاشتراكيون ويحاسبهم
الشعب على مدى ما يحققون من اجل الوصول اليه . وهكذا لا ترهق الجماهيرـ جيلاً بعد
جيل ـ سعياً وراء نهاية فترة التحول الى النظام الاشتراكي وكلما اقتربت منه ابتعد
كما لو كانت الاشتراكية سراباً تلهث وراءه الجماهير العطشى الى الحرية وهي تحمل
على اكتافها قادة مراحل التحول التي لا يعرف أحد متى تنتهي ..
على
أي حال ، عندما يتحول الى نظام اشتراكي يكون من الخطأ الفاضح ان يجمل الاشتراكيون
معهم المفاهيم التي عرفوها من قبل . اننا هنا نعاني نقصاً فادحاً في ” اللغة ”
الاشتراكية ، فنحن مضطرون الى استعمال تعبيرات لها دلالة تاريخية خاصة ورثتها عن
عصور ما قبل الاشتراكية. وكل ما نستطيع ان نعوض به هذا النص أن ننتبه دائماً الى
ان كل شيء يصبح في النظام الاشتراكي ذا دلالة مختلفة نوعياً . وهذا ينطبق بوجه خاص
على تعبير الملكية . ان مفهوم الملكية في ظل نظام اجتماعي قانونه الاقتصادي
الاساسي تحقيق اكبر قدر من الربح مختلف نوعياً عن مفهوم الملكية في ظل نظام
اجتماعي قانونه الاقتصادي الأساسي إشباع الحاجات المادية والثقافية المتزايدة لجميع
أفراد الشعب . مفهوم الملكية في اقتصاد غير مخطط غير مفهوم الملكية في اقتصاد مخطط
. فقد عرفنا ان من خصائص القانون الاقتصادي الأساسي أن يؤثر في كافة عناصر النشاط
الاقتصادي ويوجهها الى الغاية التي يتجه اليها . وفي التراث الاشتراكى محاولات
كثيرة للبحث عن تعبيرعن الملكية في ظل الاشتراكية ، آخرها وأكثرها استقراراً هو ”
الملكية الاجتماعية ” . وهنا لا بد ان نلاحظ ان
هذا التعبير غيرمنصرف الى تحديد المشاكل القانونية للملكية : ملكية فردية ، ملكية
مشتركة، ملكية اسرة ، ملكية عامة ، وقف .. الخ . بل هو تحديد لوظيفة الملكية أى
لصاحب الحق في اتخاذ القرار الاقتصادي بالنسبة للشيء المملوك . والملكية
الاجتماعية تعني أن القرار الاقتصادي من حق المجتمع . ويبدو هذا واضحاً اذا تذكرنا
ما قلناه من قبل من ان ” الملكية العامة ” لا تعني دائماً انها اجراء اشتراكي
ومعنى هذا أن ” الملكية العامة ” أي ” التأميم ” لا يعني دائماً
انه ” ملكية اجتماعية ” . فاذا استطعنا ـ للأيضاح ـ أن نقول ان تعبير” الملكية
الفردية ” يدل على الشكل القانوني للملكية وان تعبير ” الملكية
الخاصة ” يدل على حق المالك في اتخاذ القرار الاقتصادي بالنسبة اليها ـ دون المجتمع
ـ وهو مفهوم الملكية الخاصة الذي كان يواجهه ماركس نستطيع أن نقول ألا مكان
للملكية الخاصة في النظام الاشتراكي وثمة مكان للملكية الفردية حتى لو أخذت
تلك الملكية الفردية شكلاً جماعياً في كيفية ادارتها واستغلالها فقيل انها ” ملكية
تعاونية ” وهو نموذج سائد في المجتمعات الاشتراكية وإن كان لا يخفى انه ادارة
جماعية لملكيات فردية مجتمعة . فقدت صفة الملكية الخاصة (بالمعنى الذي حددناه) لأن
ادارتها واستغلالها ، أي توظيفها لا تحدده إدارة أحد المالكين ، ولا بعضهم ، بل
تحدده الادارة الجماعية لهم على ضوء المهمة الموكولة اليهم بمقتضى الخطة
الاقتصادية الشاملة . وبقيت لها صفة الملكية الفردية ( بالمعنى الذي حددناه ) لأن
عائد الانتاج لا يذهب الى المجتمع ككل : بل يؤدي قسطه في التكاليف العامة ثم يعود
صافي العائد الى مالكي المشروع التعاوني دون غـيرهم . وهم محددون مهما كان عددهم
كبيراً .
في
حدود هذا الاجتهاد ـ مجرد الاجتهاد ـ في تحديد دلالة بعض التعبيرات المتدوالة عن
الملكية على وجه يسهم ـ كما نرجو ـ في ازالة مايثيره عدم دقتها من لبس في أذهان
الاشتراكيين نقول ان الملكية أيأ كان شكلها القانوني تصبح في ظل النظام الاشتراكي ” ملكية
اشتراكية ” . أي تصبح ذات وظيفة اجتماعية تتحدد طبقاً لما يقرره الشعب في خطته
الاقتصادية الشاملة تحت سيطرته في دولته الديموقراطية . فاذا أبقت الخطة الشاملة
بعض الملكيات الفردية لوسائل الانتاج ، وكل ما تبقيه ، والى المدى الذي تحدده لهذا
البقاء على ضوء غايتها الاجتماعية، تصبح تلك الملكيات الفردية ملكيات اشتراكية
بصرف النظر عن شكلها القانوني . وكل صيغة لعلاقات الانتاج تقررها الخطة وتقرها في
المجتمع الاشتراكي هي علاقة انتاج اشتراكية . وهكذا نعرف الأساس النظري لما
انتهى اليه الاقتصاديون الاشتراكيون خلال الممارسة من ان الغاء الملكية الخاصة
لوسائل الانتاج لا يعني دائماً انه اجراء اشتراكي . ونعرف انه كما ان تأميم
الملكيات الفردية لبعض وسائل الانتاج في ظل النظام الرأسمالي لا يفقدها صفتها
كملكية رأسمالية ، فان بقاء الملكيات الفردية لبعض وسائل الانتاج في ظل النظام الاشتراكي
لا يفقدها صفتها كملكية اشتراكية .
هل
معنى هـذا انه من الممكن أن يقوم نظام اشتراكي بدون تأميم ؟ لا أبداً . لم نقل
هـذا بل قلنا ـ أولأ ـ ان تحرير الشعب من القهر الاقتصادي قد يقتضي الغاء الملكية
الخاصة لتجريد القوى المسيطرة اقتصادياً من فرض ارادتها على الشعب حتى لو أدى هذا
الى انكماش مؤقت في الانتاج لأن “ الانسان اولأ “. وقلنا ـ ثانياً ـ ان السمة
الموضوعية لقوانين الاقتصاد تحتم تأميم وسائل الانتاج الأساسية . وهي حتمية تلزم
حتى الشعب نفسه . بمعنى انه بمجرد ان يريد الشعب تحقيق غاية اقتصادية جماعية ، يجد
نفسه ملزماً ـ علمياً ـ بتأميم وسائل الانتاج الأساسية التي تمكنه من توجيه النشاط
الاقتصادي الى تلك الغاية . وهذا هو القدر المتفق عليه بين الاشتراكيين المعاصرين
وقلنا ـ ثالثاً ـ ان القرار الاقتصادي بالنسبة الى كل عنصر من الانتاج لا بد أن
يكون للشعب كله فلا محل في النظام الاشتراكي للملكية الخاصة . فنحن ” نزيد ” فنشترط
لقيام النظام الاشتراكي سيطرة الشعب على كل وسائل الانتاج بما فيها وسائل الانتاج
غير المؤممة . لأن وسائل الانتاج ـ اياً كان الشكل القانوني لملكيتها ـ تؤدي وظيفة
في عملية الانتاج الاجتماعية ، فلا بد من أن تكون وظيفتها متفقة مع مصلحة الشعب
ككل ، وهذا يقتضي أن تظل دائماً تحت سيطرة الشعب . نحن إذن لا نقبل ” مجرد ” تأميم
وسائل الانتاج الأساسية ، فقد عرفنا ان التأميم بذاته لا يكفي لقيام نظام اشتراكي.
ونرى أن يكون هذا التأميم في نطاق تخطيط شامل يفرض سيطرة الشعب على كل وسائل
الانتاج بما فيها وسائل الانتاج غير المؤممة . ونركز على ان هذه السيطرة هي التي
تضفي على الملكية صفة الملكية الاشتراكية . ولكنا بالمقابل لا نقبل الادانة
المطلقة للملكية الفردية على وجه يقلب الاشتراكية الى تشنج غير علمي ، ويفتح الباب
واسعاً ليهرب الاشتراكيون من مسؤوليتهم عن تحقيق حياة أفضل . إنما
نقول ونكرر ان النظام الاشتراكي يتحقق بفرض سيطرة الشعب على كل وسائل الانتاج .
وفي ظل النظام الاشتراكي تكون كل وسائل الانتاج تحت تصرف الشعب . ويصبح
الاشتراكيون هم المسؤولون عن كيفية توظيفها لتحقيق حياة افضل . ولهم
في سبيل هذا ان يصوغوا علاقات الانتاج على الوجه الذي يحقق هذه الغاية ، ولو الغوا
الملكية الفردية لكل أدوات الانتاج، ولو أبقوا الملكية الفردية لبعضها تحت سيطرة
الشعب ، ولو انشأوا صيغاً جديدة للملكية وعلاقات الانتاج … الخ . لهم كل هذا
يفعلونه طبقاً للقواعد العلمية في التنمية الاقتصادية وعلمهم بظروف مجتمعهم . وكل
ما يفعلونه في ظل النظام الاشتراكي اجراء اشتراكي .
اننا
بهذا نمنحهم كل المقدرة اللازمة لبناء حياة افضل ، لأن الاشتراكية هي النظام
القادر على تحقيق حياة أفضل . ولكنا نسلبهم ـ في الوقت ذاته ـ كل مقدرة على
الاعتذار من الفشل، فان فشلوا فليست الاشتراكية نظاماً فاشلاً، بل هم الفاشلون.
هل
يمكن أن تكون هناك فائدة من الابقاء على بعض الملكيات الفردية ؟
الاجابة
في علم الاقتصاد الاشتراكي ، الذي يتضمن قوانين توظيف وسائل الانتاج ويعالج مشكلات
الانتاج والتوزيع والاستهلاك والنقود والاثمان والاجور… الخ . وهي اجابة تتوقف على
الظروف الاقتصادية في كل مجتمع على حدة ونوع المشكلات الاقتصادية التي يواجهها. وبقدر
ما يعرف الاشتراكيون من علم بناء المجتمعات وبقدر ما يعرفون من ظروف مجتمعاتهم ،
وبقدر ما يلتزمون العلم في معالجة ما يعرفونه ، يستطيعون الاجابة عن هذا السؤال .
ومع
هذا نورد ما قاله واحد من أكثر الاقتصاديين الاشتراكيين علماً وخبرة . فبعد دراسة
علمية حقاً لمشكلة توزيع الموارد والاثمان في النظام الاشتراكي ، قال اوسكار لانج
: ” عالجنا فيما سبق توزيع الموارد وتقرير الاثمان في الاقتصاد الاشتراكي على أساس
أن النظام الاشتراكي قد استتب فعلاً في الدولة . ولا يحتوي الموضوع عندئذ أية صعوبة
نظرية ، خاصة إذا احتضن الاقتصاد الاشتراكي درجة من المشروع الخاص والملكية الخاصة
لوسائل الانتاج بشرط أن تحقق هذه الشريحة ـ على أساس النتائج التي استنبطناها من
المناقشة السابقة ـ الثلاثة شروط الآتية : (1) أن تسودها المنافسة الحرة (2) وأن
تكون كمية وسائل الانتاج التي يمتلكها أي منتج خاص صغيرة حتى لا تسبب تباينا
ملحوظاً في توزيع الدخول ، و أخيرآ (3) أن
يكون الانتاج الكبير على المدى الطويل أكثر تكلفة في هذه الميادين من الانتاج
الصغير ” (تخطيط الانتاج في الدولة الاشتراكية) . وهكذا نرى أنه طبقاً لرأي أوسكار
لانج يسهل وجود قطاع من الملكية الفردية وسائل الانتاج في ظل النظام الاشتراكي
(وليس فترة التحول) حل مشكل توزيع الموارد وتقرير الاثمان خاصة عندما تكون تكلفة
الانتاج في المشروعات الفردية أقل منها في الانتاج الكبير .
وكخاتمة
لهذه الفقرة نقول أن رأي اوسكار لانج أو غيره لا يلزم الاشتراكيين العرب . فطبقاً
لنظريتنا وفى نطاق الالتزام بها يستطيع أي منهم أن يرى الغاء الملكية الفردية
لوسائل الانتاج إلغاء شاملاً ، ويستطيع كل منهم أن يكون له رأي في مدى ما قد يراه
من الغاء أو إبقاء . فكل هذا يدخل في التطبيق الاشتراكي المتروك ـ بحكم النظرية ـ
لاختيارالشعب . كل ماهم مطالبون به أن يكون اجتهادهم في هذا موجهاً الى الشعب ، لا
مفروضاً عليه . و لكل مجتهد في هذا أن يقنع الشعب بأن الالغاء أو الابقاء يحقق
للشعب غاياته الاجتماعية فيجب أن تتضمنه الخطة . لا تثريب عليهم في هذا . إنما
الذي لا يمكن قبول الاجتهاد فيه فهو ” سيطرة الشعب بالتخطيط الشامل على كل وسائل
الانتاج في دولته الديموقراطية وما يستلزمه علمياً من تأميم وسائل الانتاج
الأساسية “. ذلك لأن النظام الاشتراكي هو هذا ذاته .
بقى أن نعرف كيف يكون هذا ” النظام الاشتراكي ” الغاء للاستغلال ، وهو يقتضي أن نعرف ما هو الاستغلال . وما كنا لنعرفه إلا بعد أن عرفنا ما هو النظام الاشتراكي .
(8)
60 ـ ما هو الاستغلال ؟
عندما يكتب البعض في
الاشتراكية عن ” الاستغلال ” يعلو صوت الكلمات ، وتدق الطبول الجوفاء ، ويرفع الف دون كيشوت
حراب الاشتراكية … غير أن طواحين الهواء لا وجود لها ، لأن أبطال النضال ضد
الاستغلال لا يعرفون على وجه التحديد ما هو الاستغلال . وإلا فاذا كان ثمة كاتب
عربي في الاشتراكية ـ غير ماركسي أو مقتبس من الماركسية ـ عرف الاستغلال معرفة
علمية ، فانّا نتقدم اليه بالإعتذار عن جهلنا بوجوده . ليس معنى هذا أن الذين
يكتبون في الاشتراكية لا يجيبون عن السؤال : ما هو الاستغلال ؟ فإن لدى كل واحد
منهم إجابة جاهزة . ولكن معناه ان قليلين ـ جد قليلين ـ اولئك الذين يعرفون معرفة
علمية لماذا يكون الاستغلال على الوجه الذي يقولون .
وتدك مسألة خطيرة .
بالغة الخطورة . فقد تبذل الحياة من اجل إلغاء الإستغلال . وقد تزهق الأرواح جزاء
للاستغلال . وعندما تتوقف حياة الناس على ما يقوله الاشتراكيون عن الاستغلال فان
واجب الذين يحاولون القول ـ ان كانوا اشتراكيين حقاً ـ الا يهربوا الى الكلام
الانشائي “الفارغ” من مضمون محدد، او الى الكلام الصاخب الذي لا مضمون له ، وان
يبذلوا الجهد الجاد في تحديد ما يقولون .
ولنضرب لهذا مثلاً .
يردد كثير من الذين
يكتبون في الاشتراكية ان الاشتراكية تعني : ” من كل حسب مقدرته ولكل حسب عمله ” ، ويرتبون على هذا ان
مناط الاستغلال ، وجوداً وعدماً ، أن يكون العمل هو المصدر الوحيد للدخل .
فمستغلون إذن من يحصلون على دخل بدون عمل . ويعتقدون أنهم قد حسموا الأمر بهذا
القول . فهل هو قول فصل ؟
ان شعار ” من كل حسب
مقدرته ولكل حسب عمله ” شعار ذو جذور تاريخية في التراث الاشتراكي فقد كان دعوة
الى تحديد علاقات العمل داخل مؤسسات الانتاج على وجه لا يرهق العمال ولا يسلبهم
أجورهم . أو بعض تـلك الأجور . ” من كل حسب مقدرته ” دعوة الى تحديد ساعات العمل ”
لكل حسب عمله ” دعوة الى عدم انتقاص مقابل العمل . والشعار كله صادق في حدود
دلالته التاريخية في التعبير عن موقف الاشتراكيين من شروط العمل . فان تجاوزهـا ،
ليدل على الاستغلال في المجتمع وجوداً أو عدماً ويصبح بهذه ” الدلالة الشاملة
مقياس الاشتراكية كنظام اجتماعي مطهر من الاستغلال ، فهو تجاوز لا يستقيم .
ذلك لأنه اذا كان
المقصود ” بالعمل ”أي عمل يدوي أو ذهني فيمكننا القول بأن كل القادرين على العمل يحصلون على
دخلهم من عملهم اذن فليس العمل المبذول مناط استحقاق الدخل بدون استغلال. وليس كل الذين يحصلون على دخلهم من عملهم أبرياء من الاستغلال ولو لم
يكن لهم مصدر رزق سوى ما يعملون .
فلنقل العمل المنتج .
لنرى ان ما يقرب من نصف البشر في أي مجتمع يحصلون على دخل بدون عمل ، لسبب بسيط ،
هو انهم غير قادرين على العمل أصلاً (الشيوخ والأطفال والعجزة) . وفي المجتمع
الاشتراكي بوجه خاص يحصل كل من هؤلاء على دخل مقتطع من دخل العاملين . فلا
العاملون حصلوا على دخل عملهم . ولا العاجزون عملوا شيئاً يستحقوق به الدخل الذي
حصلوا عليه .. الخ . اذن فليس العمل المبذول مناط استحقاق الدخل بدون استغلال ،
وليس كل الذين يحصلون على دخل بدون عمل مذنبين .
ثم، هل الدخل المشروع
اشتراكياً هو دخل العمل الحال أم دخل العمل الماضي ( المتراكم ) . عامل يبذر وعامل
يوفر .
وتبلغ مدخرات الأخير قدراً يقرضه ـ للدولة
مثلاً ـ فيحصل على دخل يسمى فائدة . فهل ثمة استغلال ؟ فان لم يكن فإنه لم
يقرضه بل اقام به منزلاً يؤجره لغيره ويحصل منه على دخل يسمى ريعاً . فهل
ثمة استغلال ؟ فان لم يكن فقد انشأ بمدخراته مصنعاً يعمل فيه غيره بأجر ويحصل
منه على دخل يسمى ربحاً . فهل ثمة استغلال ؟.. الخ . واذا كان المقصود هو العمل
الحال، فهل يصبح الادخار استغلالاً في النظام الاشتراكي ، أم يحدد الدخل ، لاحسب
العمل ولكن حسب الحاجات الضرورية لكل عامل على حدة حتى لا يكون لدى أي عامل فائض
يدخر، أم يكافأ المبذرون … الخ .
ثم . ماذا عن الحصول على
دخل من ثمرة عمل الآخرين ؟ انه يبدو استغلالاً صارخاً . ومع هذا فلا داعي لرفع صوت
الكلمات . فالميراث والوصية يتيحان للورثة والموصي لهم دخلاً لم يعملوا من أجل قط
. فهل ثمة استغلال في الميراث والوصية ؟ وهل يلغى الميراث والوصية في النظام
الاشتراكي ؟ ليس في هذا السؤال احراج ، فنحن في غير حاجة الى ان نتحدى بعض الذين
يكتبون عن الاشتراكية بتراث امتهم الروحي الذي يكررون انهم حريصون عليه بدون أن
يقولوا كيف . إذ لم يوجد بعد المجتمع الذي يحرم الميراث أو الوصية . فحتى في
الاتحاد السوفييتي تورث الأموال ويوصى بها . صحيح ان ذلك مقصور على الملكيات ” الشخصية ” وهي محدودة وان كانت تتسع لمنزل
وحديقة … الخ . ولكن المهم ان الوارث والموصى له لم يبذلا عملاً في كسبها ، وانها
ثمرة عمل الاخرين . ومع ذلك فهو مشروع في مجتمع يحرم الاستغلال (اسس القانون
السوفييتي) .
نريد ان نقول ان مشكلة
الاستغلال ما هو، ليست بسيطة الى الحد الذي يتصوره بعض الذين يكتبون في الاشتراكية
، وان الكلام الصاخب لن يلغي الاستغلال . ولن يبنى النظام الاشتراكي بالكلام
الانشائي المرسل . إنما يلغى الاستغلال ويبنى النظام الاشتراكي بالعلم . والعلم هو الذي يحدد ما يلغي الاشتراكيون وما يبنون . وهذا يعني ان يكون تحديد
ماهية الاستغلال على هدى نظرية علمية في الاشتراكية .
فلنعد الى الاشتراكية
العلمية التقليدية … الى الماركسية ..
الاستغلال في الاشتراكية
التقليدية في غاية البساطة والوضوح .
فالبداية المسلمة ان
الانتاج ذو سمة اجتماعية . وطبقاً للنهج المادي (المادية الجدلية) يكون مجال
الاستغلال هو علاقات انتاج السلع المادية بين الرأسماليين والعاملين على
أدوات الانتاج . والاستغلال هو الحصول على فائض القيمة . والمستغلون هم
الرأسماليون . وضحايا الاستغلال هم العمال . وسبب الاستغلال هو الملكية الخاصة
لأدوات الانتاج . والغاء الاستغلال يكون بإلغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج .
والاستغلال في نظريتنا
في غاية البساطة والوضوح .
فالبداية المسلمة ان
الانتاج ذو سمة اجتماعية. وطبقاً للمنهج الانساني ( جدل الانسان) يكون مجال الاستغلال
هو كل العلاقات الاقتصادية في المجتمع بحكم الوحدة الموضوعية للحلول الصحيحة
لمشكلات التطور الاجتماعي . والاستغلال هو اتجاه النشاط الاقتصادي الى غير مصلحة
المجتمع ككل . والمستغلون هم الذين لا يستهدف نشاطهم تلك المصلحة . وضحية الاستغلال هو
المجتمع كله. وسبب الاستغلال هو السير التلقائي للقوانين الاقتصادية . والغاء
الاستغلال يكون بسيطرة الشعب على وسائل الانتاج بالتخطيط الشامل وتوجيه النشاط
الاقتصادي الى مصلحته ككل .
وقد تعمدنا أن تكون هذه
الصيغة مقابلة للصيغة الماركسية لتسهل علينا ملاحظة أن الفارق بين النظريتين مقصور
على مدى السمة الاجتماعية المسلم بها ابتداء . فبينما هى في الاشتراكية التقليدية
محصورة في علاقات العمل ، فالاستغلال فيها اعتداء على فرد أو ” طبقة ” وبالتالي لا يكون ثمة استغلال في النشاط الاقتصادي المالي أو الزراعي
أو التجاري أو النقل أو الخدمات .. الخ ، إلا بصفة تبعية حيث يحصل كل نشاط في هذه
المجالات على مكافأته جزءاً من فائض القيمة الذي حصل عليه الرأسمالي المستغل ، إذ
بها في نظريتنا تأخذ مداها الاجتماعي الكامل ، فيصبح الاستغلال اعتداء على المجتمع
كله الذي أعطى الانتاج سمته الاجتماعية . ففي النشاط الاقتصادي المالي وفي الزراعة
وفي التجارة وفي النقل وفي الخدمات … الخ . يوجد الاستغلال كلما كان النشاط موجهاً
إلى غير الغاية التي تحددها مصلحة المجتمع ككل . صحيح ان الضحايا المباشرين
للاستغلال يكونون من الافراد أو الجماعات ولكنهم غير مقصودين لذواتهم ، بل يقعون
فرائس تبعاً لمواقعهم في العلاقات الاقتصادية التي يحددها التقسيم الاجتماعي للعمل . فالرأسماليون يستغلون العمال بصفتهم
الاجتماعية أي بصفتم عمالاً . والتجار يستغلون المستهلكين بصفتهم الاجتماعية
أي بصفتهم مستهلكين … الخ . وليس أي من العمال أوالمستهلكين … الخ . مقصوداً
شخصياً بالاستغلال . إنها أفخاخ استغلال منصوبة للمجتمع كله . ولما كان المجتمع
يتكون من أفراد فإنه يقع في الفخ ممثلاً في أفراد منه . ان الضحايا المباشرين
للاستغلال هم أولئك الذين يتلقون على رؤوسهم الضربة الموجعة إلى المجتمع ، غير أن
هذا لا يغير شيئاً من أن الضربة موجهة إلى المجتمع . وهذا ذاته يكشف الطبيعة
الاجتماعية للاستغلال ومعركة الغائه . انها ليست معركة الضحايا المباشرين بل معركة
المجتمع كله . فتحرير العمال من الاستغلال الرأسمالي ـ مثلاً ـ ليست مهمة العمال
وحدهم لأنهم ” طبقة ” بل هي مهمة المجتمع كله ، وعندما يتحررون يكون كل أفراد
المجتمع قد أصابوا نصيباً من تلك الحرية . ولو لم يكونوا عمالاً لدى الرأسماليين .
وهذا يفسر ما أثبتته الممارسة من ان الطلائع الثورية التقدمية التي تصدت لقيادة
الثورات العمالية لم تكن دائماً من العمال (ماركس . انجلز . لينين
. ستالين . ماوتسي تونج … الخ ) وهو موقف صحيح تماماً .
مؤدى هذا كله ان كون
الاستغلال كما نراه أكثر شمولاً من الاستغلال كما تحدده الاشتراكية التقليدية ،
يعني انه يتضمن كل صور الاستغلال في هذه ويتجاوزه إلى صور أخرى لا تعرفها ويضعنا
أمام مسؤوليات أضخم من التي يواجهها غيرنا . فلا يغني ـ عندنا تأميم المصانع عن تأميم
التجارة . ولا نجد في إلغاء الملكيات الزراعية بديلاً عن بناء العقارات
الاستغلالية . إن العبرة ” بمصلحة المجتمع ككل “. إلا أن هذا يتوقف ، على ما إذا
كانت ” مصلحة المجتمع ككل ” قابلة للتحديد ، وكيف تتحدد .
(9)
61 ـ الاستغلال بين الرأسمالية والاشتراكية :
مصلحة المجتمع ككل هي ”
الحلول الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته ” ” وقد عرفنا أن اختلاف
الناس فيها لا يعني أنها غير قابلة للمعرفة . وقد كان ذلك مدخلنا الى الديموقراطية
كأسلوب يمكن الشعب من اكتشافها ( فقرة 52) وها نحن نعود فنلتقي بالديموقراطية مرة
اخرى ونحن نحاول أن نعرف الاستغلال ليتأكد لنا مرة أخرى العلاقة الوثيقة بين
الديموقراطية والاشتراكية ذلك لأنه لما كانت مصلحة المجتمع ككل (الحلول الصحيحة
لمشكلاته الاجتماعية) هي مقياس للاستغلال وجوداً وعدمأ فان تحديدها الواضح هو
المقياس الذي يمكن على ضوئه معرفة ما إذا كان نشاط اقتصادي ما مستغلا أو غير مستغل
. لا يعني هذا أنه إذا لم تتحدد مصلحة المجتمع ككل يصبح كل نشاط اقتصادي مضاداً
لها ، بل يعني أنها لا يمكن أن تكون هدفأ للنشاط الاقتصادي .
وهنا تفرقة جذرية بين
النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي ، تفرق جذريا بين مفهوم الاستغلال في كل من
النظامين .
فالنشاط الاقتصادي في ظل
الرأسمالية ، قد يتفق أو لا يتفق مع مصلحة المجتمع ككل . إنه يخضع للصدفة (فقرة 2) ولكنه في كل الحالات غيرموجه الى تحقيق تلك المصلحة، لسبب بسيط هو أنها غير
محددة موضوعيأ كغاية لهذا النشاط . فحيث يخضع النشاط الاقتصادي للسير التلقائي
للقوانين الاقتصادية يستحيل توجيهه لغير المصلحة الخاصة لأن امكانية هذا التوجيه
غير قائمة . وبالتالي ، إن اتفق النشاط الاقتصادي الخاص مع مصلحة المجتمع ككل ـ في
ظل الرأسمالية ـ فهو اتفاق اعتباطي غير مقصود، وعرض غير دائم . يترتب على هذا انه
لا جدوى من الحديث عن صور الاستغلال في النظام الرأسمالي ، إذ لا يمكن علمياً تتبع
النشاط الاقتصادي الفردي لمعرفة مدى اتفاقه الاعتباطي في كل حالة على حدة مع مصلحة
المجتمع غيرالمحدودة . وعلى هذا فان محاولة إلغاء الاستغلال في ظل الرأسمالية بقوانين ، أو بأوامر،
أو باتفاقات نقابية، أو بتحديد للربح، أو بالضرائب التصاعدية … الخ ، قد تنقذ بعض
الضحايا، وقد تنقل الاستغلال من مجال الى مجال وقد تضيق حدود الاستغلال، ولكنها لا
تلغى الاستغلال أبداً . ذلك لأن النظام الرأسمالي بحكم طبيعته نظام استغلالي . لا
يمكن لأي انسان في ظل الرأسمالية ، إلا أن يكون طرفاً في علاقة استغلالية :
مستغلاً أوضحية لاستغلال . وغاية ما يستطيعه أى انسان أن يغير موقفه فبدلاً من أن
يكون ضحية مباشرة يكون مستغلا . وذلك هو محور الصراع الاجتماعي فعلاً في ظل
الرأسمالية وأحد قوانينها الذي يسمونه المنافسة الحرة . المنافسة الحرة الى مواقع
الاستغلال إفلاتاً من مواقع الضحايا المباشرين للاستغلال . والمجتمع ككل هو الضحية
الدائمة. لا حيلة لأحد في هذا . فهذا هو حكم القوانين الاقتصادية الموضوعية
في سيرها التلقائي . وهي لا تسمح بغير هذا . لا يستطيع أحد في ظلها إلا أن يتجه
الى الاستفادة ـ الى أقصى حد ممكن ـ من السمة الاجتماعية للنشاط الاقتصادي، أي أن
يكون مستغلاً ، أو ـ إن عجز ـ أن يكون ضحية الاستغلال . إزاء هذا لا تجدي النصائح
والوعظ المثالي كما لا يجدي حسن النية ، بل ان الطيبين حسنى النية هم ضحايا ـ
جاهزة ـ للاستغلال الرأسمالي . ليس لالغاء الاستغلال طريق في ظل الرأسمالية إلا
بالغاء النظام الرأسمالي جملة وأن يستبدل به نظام يتميز أساساً بأن ” مصلحة
المجتمع ككل ” محددة فيه تحديداً واضحأ.
ذلك هو النظام الاشتراكي
.
فقد عرفنا أن النظام
الاشتراكي هو سيطرة الشعب على وسائل الانتاج بالتخطيط الشامل في دولته
الديموقراطية. الديموقراطية شرط لمعرفة مصلحة المجتمع ككل . والتخطيط الشامل شرط لتحديد تلك
المصلحة كغاية للنشاط الاقتصادي . والسيطرة على وسائل الانتاج شرط لتوجيه ذلك
النشاط الى تلك الغاية والتحكم فيه فلا ينحرف عن غايته. وبهذا كله تكف القوانين
الاقتصادية عن سيرها التلقائي وتصبح أداة مسخرة لتحقيق مصلحة المجتمع . وبهذا تكون
مصلحة المجتمع ككل في النظام الاشتراكي- في أي وقت- محددة بأرقام ومقاييس ومكاييل
واضحة، تكوّن بمجموعها ما يسمى “ هدف الخطة “. وأمام هذا التحديد الواضح لا يمكن
أن يخطى أحد في الحكم على ما إذا كان النشاط الاقتصادي لأي فرد أو مجموعة من
الافراد مستغلاً أو غير مستغل .
مؤدي هذا أن النظام
الاشتراكي هو النظام العلمي الوحيد لألغاء الاستغلال .
ولكل ليس معناه انه لا
يمكن ان يوجد استغلال ومستغلون في النظام الاشتراكي . بل هو ممكن بشرط أن نتذكر ما
قلناه من قبل من أن كل شيء في النظام الاشتراكي يكون ذا مفهوم مختلف نوعياً عن
مفهومه في النظم الاستغلالية . فالاستغلال في ظل الرأسمالية هو النشاط الطبيعي
المشروع . أما الإستغلال في النظام الاشتراكي فهو انحراف غير مشروع . في الرأسمالية “ شطارة ” وتفوق . وفي النظام
الاشتراكي تخريب وجريمة . وليس مستحيلاً أن توجد الجرائم في المجتمع ولو كان مجتمعاً اشتراكياً . إنما ميزة النظام الاشتراكي انه يسلب الاستغلال مشروعيته ، ويكشف ويحدد صفته
الاجرامية .
وليس من الصعب أن نعدد
ألوانأ من الانحراف الاستغلالي في النظام الاشتراكي . ولكنا نفضل ان نصوغها في
جملة واحدة : ” كل جهد سلبي أو أيجابي ، يعوق أو يحول دون تحقيق الغايات المحددة
في التخطيط الاقتصادي الشامل جهد منحرف ومستغل ” . وكل الذين يعوقوق أو يحولون دون
تحقيق مصلحة المجتمع كما هي محددة في الخطة مستغلون من اول العمال المتمارضين الى
البيروقراطيين المدمرين . وخاصة البيروقراطيون الذين يشلون المقدرة الايجابية
للنظام الاشتراكي . اولئك الذين قال عنهم اوسكار لانج انهم الخطر الحقيقي الذي
يهدد الاشتراكية (تخطيط الانتاج في الدولة الاشتراكية) أما الذين يختلسون السيطرة
على وسائل الانتاج لحسابهم ، والذين يتصرفون كما لو كانوا ورثة ـ بدون نسب ـ
لوسائل الانتاج المؤممة، والذين يعتقدون انهم فوق الشعب فيلزمون غيرهم بالتخطيط
ولا يلتزمون ، كل هؤلاء وأمثالهم ليسوا منحرفين مستغلين فحسب، بل هم المرتدون عن
الاشتراكية أو أعداؤها .
(10)
62 ـ الاشتراكية العربية :
عندما كنا نحاول ان نحدد
” الغايات ” قلنا ” ان ثمة وظيفة للفكر عندما يكون في خدمة قوى التطور الاجتماعي هي تحقيق
الوحدة الفكرية بينها. وهو لا يستطيع أن يؤديها إلا اذا حدد لتلك القوى غايات
صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام اليها . وهي لا تكون كذلك إلا اذا
كانت منسوبة الى مجتمع معين . ومنه ندرك ان لكل مجتمع نظرية خاصة بتطوره . وانها
لا تكون صالحة لخدمة قوى تطويره إلا اذا كانت خاصة به… ( وعليه فاننا ) .. في
مرحلة الالتقاء الفكري قبل الالتزام وقبل الممارسة لا نستطيع إلا أن نميز غاياتنا
بنسبتها الى مجتمعنا فهي غايات عربية أيأ كان مضمونها ليعرف كل واحد منذ البداية
انه ملتزم و مسؤول أمام جماهير هذه الأمة . على أن يكون مفهومأ تماماً ، أن ليس في
هذا التخصيص ما يعارض أو ينكر القيمة التلقائية للفكر المجرد عن التطور أو التقدم
أو الحرية أو القومية أو الاشتراكية . وليس فيه ما يعارض أو ينكر أو ينفي المضامين
المشتركة بين كل النظريات عن التطور أو التقدم أو الحرية أو القومية أو الاشتراكية
تمامأ كما أن كوننا عربأ لا يتعارض أو ينكر أو ينفى اننا بشر . وأنه ـ على سبيل
القطع ـ ليس تحدياً بنظرية مخترعة في التطور أو التقدم أو الحرية أو القومية
أو الاشتراكية . إنما هوـ ببساطة ـ مغادرة للتجريد الفكري المعلق فوق واقعنا
الاجتماعي البعيد عن الحياة فيه والتقاء بواقع امتنا العربية تتحول به أفكارنا
المجردة عن التطور والتقدم و الحرية والقومية والاشتراكية الى غايات عينيه نستطيع
أن نلتقي عليها ونلتزم بها ونحتكم إليها في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها ،
(فقرة 34) .
ولقد عرفنا فيما سبق من
حديث عن الاشتراكية والنظام الاشتراكي القدر المشترك من النظريات الاشتراكية . التحرر من القهر الاقتصادي (فقرة 55) وسيطرة الشعب على وسائل الانتاج (فقرة 56) والتخطيط
الاقتصادي (فقرة 57) والملكية العامة لوسائل الانتاج الأساسية (فقرة 58) والملكية الاشتراكية (فقرة 59) هي عناصر النظام الاشتراكي الذي ينتهي به
الاستغلال (فقرة 60) ويتميز بها النظام
الاشتراكي عن النظام الرأسمالي ، في أي مجتمع في أي وقت أو أنها ـ إذا شئنا أن
نقول ـ النظرية الاشتراكية في صيغتها الفكرية المجردة من الالتزام بها في الممارسة
في مجتمع معين أو الاحتكام إليها عند الاختلاف بين قوى معينة . ونستطيع أن نصدق
مقولاتها الفكرية ونعجب بها بدون أن يعني هذا أننا ملتزمون لتحقيقها في ” نظام
اشتراكي ” واقعي . لأن مثل هذا الالتزام يقتضى أن نعين المجتمع الذي نلتزم بإقامة النظام الاشتراكي فيه فنصبح
ملتزمين بإقامته في هذا المجتمع على وجه التحديد .
وبمجرد أن نحولها الى
الالتزام بتحقيقها في ” نظام اشتراكي ” في الوطن العربي على وجه التحديد تصبح
نظرية الاشتراكية العربية . نظرية اقامة نظام اشتراكي في الوطن العربي . وهو ما
يلزمنا بأكثر من الالتزام بتحرير الشعب العربي من القهر الاقتصادي أو فرض سيطرته
على وسائل الانتاج … الخ . لأنه يلزمنا بالغاء التجزئة وإقامة دولة الوحدة
الديموقراطية .
والواقع أن الأمر لا
يحتاج الى ذكاء خاص لنعرف أن الذين يدينون باصرار عجيب تعبير “ الاشتراكية العربية ” ، ويقبلون ” الطريق
العربي الى الاشتراكية ” أو ” التطبيق العربي للاشتراكية ” أو ” التطبيق الاشتراكي العربي ” أو أي تعبير إلا تعبير واحد هو “الاشتراكية العربية ” لا يستهدفون تصحيح الفكر الاشتراكي العربي ولا تقويم
الممارسة الاشتراكية في الوطن العربي ، وبالتالي ليست غايتهم أن يضيفوا شيئاً
مفيداً لما هو قائم فعلاً على المستويين النظري والتطبيقي ، بل غايتهم الوحيدة هي
فسخ العلاقة بين الوحدة والاشتراكية . ان الطعنة موجهة ـ من وراء ظهر الاشتراكية ـ الى الوحدة . يريدون أن يوهموا الجماهير العربية
الكادحة بأن النظام الاشتراكي غير متوقف على الوحدة العربية .
فعندما يتحدث اللاقوميون
الاقليميونءن الاشتراكية ، أو يرفعون شعار تعدد التجارب الاشتراكية في الوطن
العربى لا يعني هذا اكثر من : تكريس التجزئة وستر الانفصال بلافتات اشتراكية زائفة.
والأمر في منتهى البساطة : فلو انطلقنا من القدر الذي يقبلونه من المفهوم
الاشتراكي ” إلغاء استغلال الجماهير العاملة ” فإن أي اشتراكي في الوطن العربي لا
يستطيم أن يهرب من مواجهة سؤال يطرح ذاته حتما : من هي تلك الجماهير العاملة التي يزعم انه اشتراكي لأنه يريد ان يحررها ؟… إن كان يعني الجماهير
العاملة في الوطن العربي كله فلا بد له من ان يرفض التجزئة التي تحبس تلك الجماهير
في إطارات سياسية مصطنعة وتحصرهم في دويلات قائمة على أساس التجزئة لتبقيهم دائماً
تحت سيطرة المستغلين . أما اذا كان يعني الجماهير العاملة في اقليمه تاركاً مهمة
تحرير الجماهير العاملة في باقي الأقاليم العربية لها ، معتبرً ان ليست تلك مهمته
فإن أعرض رايات الاشتراكية لن تستطيع ان تستر موقفه اللاقومي . انهما موقفان
مختلفان من الواقع العربي يمثل كل منهما التزاماً اشتراكياً مختلف- المضمون . الأول تحدده الاشتراكية العربية ، والثاني تحدده الاشتراكية المجرد من نسبتها
الى الأمة العربية . وطبقأ للالتزام وفي حدوده تكون الحركة في ساحة الممارسة . اذا
كان الاشتراكي الاقليمي يثور في مكتبه في بغداد من اجل العاملين في كركوك ، ويثور
” رفيقه ” في القاهرة من اجل العاملين في طنطا ، معتبراً كل منهما نفسه مسئولاً عن
تحرير العاملين من القهر الافتصادي محدداً مدى هذه المسئولية بحدود اقليمية ، فان
العربي الاشتراكي يثور من اجل ” المقهورين من أبناء الأمة العربية أينما وجدوا في الوطن
العربي من بغداد الى الرباط . وإذا كان هذا فارقاً في مدى الرؤية والمسئولية
فلأن وراءه فارقاً في النظرية التي تحدد مضمون الالتزام الاشتراكي . وبدون هذا التحديد لا
يمكن ان يلتقي الاشتراكيون في الوطن العربي على نظرية يلتزمونها في الممارسة
ويحتكمون اليها عند الاختلاف . لهذا لا تؤدي الاشتراكية كنظرية وظيفتها في تحقيق
الوحدة بين الاشتراكيين في الوطن العربي إلا إن كانت اشتراكية عربية ” .
وينطبق القول نفسه على
النظام الاشتراكي .
ان القدر المشترك بين كل
النظريات الاشتراكية هو سيطرة الشعب على وسائل الانتاج والتخطيط الاقتصادي الشامل
والملكية العامة لأدوات الانتاج أو الملكية الاشتراكية . فماذا لو تم هذا في بعض
الأقطار العربية الغارقة في بحور البترول أو الغارقة في الفقر ؟ هل ينتهي نضال
الاشتراكيين فيها ؟
لا يستطيع أي متحذلق
اشتراكي ممن يرفضون ” الاشتراكية العربية ” أو ممن ينكرون عليها أن تكون نظرية الثوريين
العرب إلا أن يجيب : نعم . نعم اذا استطاعت الكويت ان تكون دولة اشتراكية، وان
استطاعت السعودية ان تبني نظاماً اشتراكياً في مملكتها ، وهما أمران لا يستلزمان
إلا القضاء على المستغلين هناك ليجد الشعب العربي بين يديه رخاء متاحاً بدون عمل ،
أو كما استطاعوا في اليمن الجنوبي ان يقضوا على السلاطين ، ليجد الشعب العربي هناك
فقراً متاحاً بدون فرصة عمل ، فإن الاشتراكية المثلى على النمط التقليدي تكون قد
تحققت ، وما على الاشتراكيين بعد هذا إلا ان يقتسموا الرخاء او الشقاء . وليس هكذا
يكون الموقف الذي يحدده الالتزام بالاشتراكية العربية ، إنها تلزم
الاشتراكيين باقامة نظام اشتراكي في الوطن العربي كله توظف به كل الامكانيات
المادية والبشرية المتاحة في الأمة العربية لخدمة تطور الشعب العربي في كل مكان . وهو ما يعني ان النضال من اجل الاشتراكية لا يتوقف بالغاء الملكية الخاصة لـ
350.000 فداناً من الأرض متاحة في اليمن الجنوبي ـ مثلاً ـ ليبقى الشعب العربي
هناك في موقف يائس من أن يجني ثمرات نضاله ضد الاستعمار والسلاطين بينما ” سلاطين ” آخرون في الوطن العربي
يبددون ثروات أمته في سفه داعر، بل يعني ان الشعب العربي هناك قد كسب قاعدة ـ مجرد
قاعدة- ينطلق منها الى ” الاشتراكية العربية ” نظاماً للحياة التقدمية في الوطن
العربي الذي هو شريك فيه، نسخر امكانياته المتاحة التي هو شريك فيها ، لتحقيق حياة
أفضل للشعب العربي الذي هو جزء منه . وبهذا فقط يكون للاشتراكية مضمون اكثر من
مجرد إسقاط السلاطين لإقامة دولة في الجنوب . ان ” الاشتراكية العربية ” هي التي تحدد لنا الالتزام بأن نرفض أن يكون أي جزء
من الشعب العربي مالكاً وسائل الانتاج المتاحة في الاقليم الذي يعيش فيه
ملكية خاصة به ولو كانت ملكية مشتركة فيما بينه . وعندما تتصرف أية حكومة اقليمية
، او يتصرف أي جزء من الشعب العربي في اقليمه في وسائل الانتاج كما لو كانت خاصة
به دون باقي الشعب العربي، فانه، “ استغلال ” نعرفة من نظرية ” الاشتراكية العربية ” ولا يمكن ان نعرفه إلا من نظرية “ الاشتراكية العربية ” . وطبقأ لها ـ ليس طبقأ لأية نظرية اخرى ـ نكون
ملزمين بالغاء الملكية ” الاقليمية ” لوسائل الانتاج في الوطن العربي . وهي غاية
لا تعرفها أية نظرية في الاشتراكية . و لكن تحديدها لازم في أية نظرية صالحة
ليلتقي عليها الاشتراكيون العرب ويلتزمون بها في الممارسة ويحتكمون اليها عند
الاختلاف .
إذن ، من أجل تحرير
الجماهير العربية في كل مكان ، ومن أجل بناء نظام اشترا كي في الوطن العربي ،
نلتزم ـ كاشتراكيين ـ بالغاء
التجزئة واقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . وتميز النظرية التي تحملنا هذا الالتزام الاشتراكي النابع من طبيعة المشكلات
الاجتماعية في أمتنا المجزأة : ” الاشتراكية العربية ” لتكون بهذا التعبير مميزاً
لغاياتنا التي تلزمنا بها فلا نتوقف دونها أبداً ونحتكم اليها عندما نختلف . لهذا
عندما يحاول بعض ” الوحدويين ” الافلات من هذا الالتزام تحت شعار ” اشتراكية علمية واحدة ” لا يمكن ان نخطىء
التعرف في هذا الشعار على محاولة الارتداد ” الخجول ” عن هدف الوحدة .
لماذا ؟ لنعد مرة اخرى
الى الاشتراكية العلمية التقليدية التي يسمونها وحيدة : الاشتراكية الماركسية .
سبق أن عرفنا ان
الاشتراكية الماركسية تعني إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج الرأسمالي وبهذا
المفهوم السلبي تكون علاقة الاشتراكية بالوحدة ذات وجهين : أولهما ان الوحدة غير
لازمة للاشتراكية . فلا شك في ان أي مجتمع موحد أو مجزأ ، اقليم أو قرية ، يستطيع
أن يكون ـ بهذا المفهوم ـ مجتمعأ اشتراكيأ بدون حاجة الى أن يتحد مع غيره أو يتوحد
. فما على الاشتراكيين القادرين فيه إلا أن يبطشوا بمالكي أدوات الانتاج ويلغوا
ملكيتها الخاصة فتكون لهم الاشتراكية . وثاني الوجهين ان الوحدة تقتضي أن تبلغ
الشعوب التي تسعى اليها درجة متساوية من النمو الاقتصادي بحيث لا تعرقل
أجزاؤها المتخلفة انطلاق الأجزاء الأكثر تقدماً نحو الاشتراكية . فان تمت الوحدة
بين مجتمعين غير متساويين في النمو الاقتصادي فمعنى هذا ان المجتمع الأكثر
نمواً يضم اليه ـ بحجة الوحدة القومية ـ المجتمع المتخلف ليكون له فيه مرتع جديد
للاستغلال يضاف الى الاستغلال المحلي . ولن تصبح الوحدة مطهرة من شبهة الاستغلال إلا
اذا كانت بين مجتمعات اشتراكية فعلاً ، أما قبل هذا فهي محاولة ” بورجوازية ” تسعى
تحت شعار الوحدة الى الاستيلاء على السوق في الاجزاء المتخلفة .
ولقد سمعنا كلاماً مثل
هذا ردده :
بعضهم في سورية والعراق في سنة 1959 وردده
الانفصاليون من بعدهم في سنة 1961 كما نظن ان ذلك
المفهوم الاشتراكي كامن في أذهان الذين يشترطون لاتمام الوحدة العربية ان ينجز كل
جزء من الوطن العربي حل مشكلاته الخاصة ومنها مشكلة قيام نظام اشتراكي .
على أي حال بعد
الاشتراكية التقليدية جاءت الممارسة خلال نصف قرن فأسقطت الوجهين . أما الوجه
الأول فسقط عندما انتهت الممارسة الاشتراكية الى انه لا يكفي إلغاء الملكية الخاصة
لأدوات الانتاج ليكون المجتمع اشتراكياً ، بل ان النظام الاشتراكي منوط وجوداً
وعدمأ باخضاع القوانين الاقتصادية الموضوعية لتحقيق الاشباع المادي والثقافي
المتزايد لكل أفراد المجتمع ، وان ذلك يكون بالتخطيط الاقتصادي الشامل الذي يوجه
النشاط الاقتصادي الى تلك الغاية عن طريق الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج
الأساسية فقرة (57) . إزاء هذه االحصيلة للممارسة الاشتراكية لم يعد مقبولأ من أحد
الادعاء بانه حقق وعوده الاشتراكية لمجرد انه قد الغى الملكية الخاصة لبعض ـ أو
حتى لكل ـ أدوات الانتاج . إنما يكون قد حقق من وعوده بقدر ما يحقق من اشاع حاجات
الشعب المادية والثقافية المتزايدة . أي بقدر ما يحقق من تنمية ورخاء . وأصبح
تحقيق هذا في أي مجتمع نام مرهونأ بحشد كل امكانياته المادية والبشرية لتتجاوز
الجانب السلبي (الغاء الاستغلال) إلى الجانب الايجابي (تحقيق الرخاء) من مضمون
الاشتراكية . وأدى هذا الى أن ينتبه الاشتراكيون الى دراسة مجتمعاتهم وامكانياتها
ليلغوا كافة السلبيات التي تحول دون حشد كل الامكانيات المادية والبشرية في خطة
اقتصادية شاملة لتحقيق التنمية والرخاء في مواجهة ـ وبالرغم من ـ النشاط الاقتصادي
الاستعماري ، أي بدون تبعية، وهو ما يستلزم أن يتوافر لأي مجتمع قدر من التكامل
الافتصادي يكفي لكي يكون موضوعاً لتخطيط اشتراكي .
أما الوجه الثاني ، وهو
اشتراط درجة خاصة من النمو الاقتصادي لقيام نظام اشتراكي فقد سقط بالممارسة
الاشتراكية في العالم الثالث ، حيث اندفعت الشعوب الى النظام الاشتراكي من مراحل
اقتصادية متخلفة عن غير الطريق الرأسمالي . وأصبح مسلماً أنه مهما تكن درجه النمو
الاقتصادي، تمكن اقامة نظام اشتراكي . بل أصبح مسلماً أن النظام الاشتراكي هو الحل
العلمي لمشكلة التنمية وتعويض سنوات التخلف في المجتمعات النامية .
والوطن العربي ـ كجزء من
العالم الثالث ـ يقدم من تجربته الخاصة تأكيداً لخبرة الاشتراكيين . إذ لما كانت
التجزئة تحول دون الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية في الدول الاقليمية (فقرة
47) فان بعض تلك الدول تجد نفسها مضطرة الى أن تكون تابعة لاقتصاد أجنبي ، أي تلقى
بجزء من الشعب العربي في براثن الاستغلال الاستعماري ، لمجرد المقدرة على
الاستمرار في الوجود كدولة (فقرة 46). ومن ناحية اخرى فان طبيعة التجزئة في الوطن
العربي أحالت بعض الدول والدويلات والامارات والمشيخات … الخ . الى مجرد وسائل
تبديد سفيه للثروة القومية . هذا بالاضافة الى أن تحمل الانتاج في الوطن العربي لتكلفة قيام دول وحكومات
ووزارات وإدارات متعددة عبء معوق لقوى الانتاج ودعم للتخلف . وأدى هذا كله الى أن
الاقتصاد العربي أصبح يدور على محاور من قوانين اقتصادية متعددة ومتناقضة تبعاً
لتعدد وتناقض النظم الاجتماعية فيه ، مما يحول النشاط الاقتصادي العربي الى أداة
هدم متبادل ، محصلتها النهائية تعويق التقدم في الأجزاء جميعاً بما فيها الأجزاء
التي تحاول أن تبني الاشتراكية ، وهنا تفرص العلاقة الموضوعية بين الوحدة والإشتراكية نفسها على كل الاشتراكيين
في الوطن العربي . إذ بعلاقة الهدم المتبادل في الاقتصاد العربي، لا تكون التجزئة
سلباً لأمكانيات الأقطار التي تحاول بناء الاشتراكية الاقليمية فحسب ، بل تكون
معوقأ ايجابياً للبناء الاشتراكي في تلك الأقطار .
وليس ثمة من يجهل أن
الاقطار التي بدأت التحول الاشتراكي كان الجانب الأسهل فيها هو إلغاء الملكية
الخاصة لبعض وسائل الانتاج وتأميم وسائل الانتاج الأساسية . لقد تم هذا بنجاح سهل
نسبيأ ، غير أن عملية البناء الاشتراكي لا تزال بالغة الصعوبة . صحيح أن
للتحول الاشتراكي في أي مجتمع ثمنه الغالي من التضحيات التي يحب أن يبذلها الشعب
مقابل حريته ، ولكنا لا نستطيع أن نتجاهل أن المحاولات الاشتراكية في بعض أقاليم
الوطن العربي تدفع ثمناً باهظاً وليس غالياً فقط . وفي أقطار منها كادت أن
تحدث ردة اشتراكية . وفي أقطار لجأ ” الاشتراكيون ” الى قهر الجماهير لستر عجزهم
في دولتهم الاقليمية عن تحقيق وعود التنمية والرخاء . وفي أقطار اضطر ” الاشتراكيون ” الى قبول التعاون الاقتصادي مع الاحتكارات
الرأسمالية بقصد تخطي حاجز الفقر . ومن ناحية أخرى ليس ثمة من يجهل أن قدراً من
الجهد والامكانيات التي كان يمكن أن تسخر للبناءالاشتراكي مشغولة في معارك فرضتها
الرجعية العربية . وأن معارك أخرى مفتوحة لمجرد استنزاف مقدرة الاشتراكيين على
البناء الاشتراكي . والهدم الاقتصادي المتبادل قائم على قدم وساق في الوطن العربي
. كل هذا لأن الأقطار التي تحاول أن تبني الاشتراكية رخاء ، تتحمل نصيبها في
الاعباء القومية بحكم أنها أجزاء من كل ، ثم تحرمها التجزئة من امكانيات الكل التي
هي أجزاء منه. ثم لأن مهمة النشاط الاقتصادي في الأجزاء الأخرى تكاد تكون مقصورة
على هدم المحاولات الاشتراكية وإفشالها في الأقطار التي تحاولها . وتقوم التجزئة ـ
باسم استقلال الدول الاقليمية ـ درعا حامياً للمخربين من قبضة الجماهير العربية . هذه هي التجزئة أداة تعويق وهدم لأية محاولة اشتراكية في أي اقليم من الوطن
العربي، ودعم قائم لأسباب التخلف فيه. أن هذه العلاقة ” الموضوعية ” التي
أثبتتها الممارسة في الوطن العربي هي الترجمة الفعلية لما عرفناه من النظرية عند
حديثنا عن المصير القومي من أنه يعني ” أن ثمة وحدة موضوعية ، قد نعرفها وقد لا
نعرفها ، وبين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي أياً كان مضمونها . وانها
بهذا المعنى مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بامكانيات
قومية وقوى قومية في نطاق المصير القومي ” (فقرة 22) .
نريد أن نقول
للاشتراكيين في الوطن العربي أن الحقائق الموضوعية لا تخضع للأهواء . كذلك أنكم لا
تستطيعون بناء النظام الاشتراكي في عزلة عن مشكلات امتكم العربية واولها مشكلة التجزئة
، انكم حتى لو اردتم ان تتفرغوا نهائياً لمشكلات البناء الاشتراكي في اقاليمكم على
قدر ما تستطيعون ـ وما تستطيعون الا قليلاً ـ فإن الرجعية العربية لن
تحترم عزلتكم ، ولن تسمح لكم بالهرب من ساحة المعارك القومية . ستقتحم عليكم
الحدود او تتسلل منها لتهدم كل ما تبنون . فلماذا هذه المكابرة . هل تبحثون ـ تحت لواء الاشتراكية ـ عن الفشل ؟
يقولون كيف تقوم الوحدة
بين نظم اجتماعية مختلفة ؟
ومن قال أن دولة الوحدة
الديموقراطية الاشتراكية ستقوم ، أو يمكن ان تقوم ، او حتى نقبل ان تقوم بين نظم
اجتماعية مختلفة ؟ .. كيف يمكن ان تنطوي دولة واحدة على نظم اجتماعية مختلفة ؟ ..
انها اما أن تكون دولة ديموقراطية واما ان تكون دولة ديكتاتورية . إما أن تكون
رجعية وغما ان تكون اشتراكية . و” الاشتراكية العربية ” تلزمنا بإقامة دولة الوحدة
الديموقراطية الاشتراكية وتلزمنا ـ في الوقت نفسه ـ بالنضال ضد أية محاولة لإقامة
دولة ديكتاتورية أو اقطاعية او رأسمالية في الوطن العربي . لأن ذات نظريتنا في
القومية التي ألزمتنا بإلغاء التجزئة وإقامة دولة الوحدة الديموقرطية من أجل تمكين
الشعب العربي من توظيف كل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في امته في حل
مشكلاته الاجتماعية هي التي تلزمنا بالاشتراكية نظاماً يوظف به الشعب العربي ـ فعلاً ـ الامكانيات
المادية والبشرية المتاحة في أمته من اجل حل مشكلاته الاجتماعية وحدة الوجود
القومي التي علمتنا ان الشعب في الأمة شريك في الوطن هي ذاتها التي علمتنا أن
الوحدة الديموقراطية تجسد مشاركة الشعب في وطنه . ووحدة المصير القومي التي علمتنا
أن ثمرة وحدة موضوعية بين مشكلات التطور القومي ، هي ذاتها التي علمتنا ان النظام
الاشتراكي هو نظام تحقيق المصير التقدمي الواحد . فكيف يمكن ان نقبل نظاماً غير
النظام الاشتراكي في دولة الوحدة إلا إذا خنا نظريتنا القومية ؟ … وكيف يمكن ان
نعبر عن هذا الالتزام في الممارسة ونحتكم اليه عند الاختلاف إلا إذا التقينا ، قبل
الالتزام والحركة ، على نظرية تبين لنا ـ بوضوح قاطع ـ هذه العلاقة بين الوحدة
والاشتراكية فنسميها ـ حتى لايكون بيننا أي غموض ـ الاشتراكية العربية ؟ .
ومع ذلك فاننا لا يمكن
أن نتجاهل خصائص أخرى للنظام الاشتراكي في دولة الوحدة مرجعه الى هذا الذي يقولون
من اختلاف النظم الاجتماعية في الدول العربية . فنحن أمة متخلفة ومجزأة معاً .
ولا صعوبة في ادراك أن
التخلف الاقتصادي يحدد للتخطيط الاشتراكي أهدافاً متميزة عن مثيلاتها في المجتمعات
الاشتراكية النامية . وينعكس هذا التمييز على كل النظام الاشتراكي ويطبعه بطابعه .
فالانتاج ، وزيادة الانتاج ، ثم زيادة الانتاج تصبح الهدف الأول والأساسي للتخطيط
الاشتراكي . تصبح زيادة الانتاج بأسرع معدل ممكن هي الترجمة الحية الاشتراكية. وفي
ظلها تتغير وتتميز معايير الإجراءات الاشتراكية الى الحد الذي قد يصبح به تحديد
ساعات العمل الى القدر الذي كان ينادي به الاشتراكيون في مجتمعات أخرى أو
يطبقونه فعلاً في البلاد النامية اجراء غير إشتراكي . الى الحد الذي تصبح فيه الرفاهية
ـ تلك الغاية البعيدة للنظام الاشتراكي ـ إنحرافاً بعيداً عن الاشتراكية .. الخ .
الى هذا الحد لتتميز المضامين العينية للنظريات الاشتراكية في المجتمعات المتخلفة
ـ ومنها أمتنا العربية ـ
عنها في المجتمعات النامية كدول أوربا الشرقية مثلا . ثم تأتي التجزنة فتضفي ـ كعادتها ـ تعقيدات جديدة الى مشكلة البناء الاشتراكي
لأن اختلاف النظم الاجتماعية التي سادت في الوطن العربي ستورث دولة الوحدة مميزات
لنظامها الاشتراكي لا مثيل لها في أي مكان آخر من العالم . وتحدد للاشتراكيين في
الوطن العربي إلتزامات عينية لا يعرفها الاشتراكيون غيرهم .
ذلك لأن اختلاف تلك
النظم الاجتماعية قد أدى الى عدم استواء النمو الاقتصادي في أجزاء الأمة العربية
وهو ما يزيد من الصعوبات التي يواجهها العرب الاشتراكيون في اقامة نظامهم
الاشتراكي . غير انه لا يعني أن يتخلوا عن الشعب العربي في الأجزاء الأكثر تخلفاً
ويتركوه لمصيره تحت قبضة الرجعية هروباً من متاعب البناء الاشتراكي . بل يعني أن يتركوا التشبث العقيم بالنظريات التي لا تقدم لهم حلولاً لمشكلات
مجتمعهم الذي تختلف أجزاؤه في درجة نموها الاقتصادي . والحل في ” الاشتراكية ” بسيط . ففي سبيل تحقيق مصلحة الأمة العربية ككل ، طبقاً لخطة
إقتصادية شاملة واحدة ، في ظل سيطرة كل الشعب العربي على كل وسائل الانتاج بدولة
الوحدة الديموقراطية ، تحدد الخطة النشاط الاقتصادي في كل جزء بما يتفق مع درجة
نموه بقصد تعويض الأجزاء المتخلفة عن تخلفها ، وهو ما سيؤثر بالتالي ، بحكم وحدة
الخطة، في النشاط الاقتصادي الذي تحدده الخطة في الأجزاء الأكثر نمواً ، وذلك طوال
الفترة اللازمة ، المخططة ، التي يتحقق فيها استواء النمو الاقتصادي في الأمة
العربية كلها . وفي خلال تلك الفترة ـ التي لاشك يكرهها الاقليميون في الدول
الأكثر نمواً ـ يمكن بمقتضى الخطة ” العامة ” الملزمة بحكم القانون في دولة الوحدة
أن يكون إجراء ما اشتراكياً في جزء ( متفقاً مع الخطة فيه) مستغلاً في جزء آخر
(غير متفق) مشروعاً في جزء محرماً في جزه آخر . وهكذا يمكن أن يتميز المضمون
العيني للالتزام الاشتراكي في الوطن العربى بأنه متنوع على مستوى الأجزاء وهو ما
لا وجود له في أي مجتمع اشتراكي آخر . وهو سبب جديد مستمد من واقع مجتمعنا المجزأ
لتأكيد صحة ” الاشتراكية العربية ” كنظرية لبناء النظام الاشتراكي في المجتمع
العربي ، فهي وحدها التي تبرر لنا هذا التنوع بين الأجزاء في دولة الوحدة الديموقراطية
الاشتراكية ، فهي وحدها الصالحة ـ في أمتنا العربية في هذا النصف الثاني من القرن
العشرين ـ للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في
الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف .
وليس هذا هو كل شيء .
(11)
63 ـ القومية والاشتراكية :
ان ” الاشتراكية العربية
” نظرية قومية في الاشتراكية ، بمعنى انها نظرية اقامة نظام اشتراكي في مجتمع
متميز بانه مجتمع قومي : أمة . وقد عرفنا من قبل كيف كانت القومية مدخلاً الى
الديموقراطية كأسلوب لممارسة سيادة الشعب على وطنه بحكم وحدة الوجود القومي . وكيف
كانت مدخلاً الى الاشتراكية كأسلوب توظيف الشعب لامكانيات امته على الوجه الذي
يتفق مع وحدة مصيره . ونريد هنا أن نكتشف ونطرح ميزتين للنظام الاشتراكي في
المجتمع القومي من حيث ان الأمة هي تكوين تاريخي ، أي انهما لا تلزمان الاشتراكيين
في كل المجتمعات ، بل يلتزمون بهما في المجتمع القومي وحده بحكم المشاركة
التاريخية في الوجود القومي . أولاها تنبهنا اليها ممارسة الاشتراكيين من قبلنا
فإذا بها مبررة بنظريتنا . والأخرى تلزمنا بها نظريتنا القومية بدون ان تكون لها
سابقة .
أما الأولى فبسيطة .
ومرجعها الى ان الأمة التي تكونت نتيجة تطور تاريخي هي مجتمع ذو حضارة متميزة
(فقرة 21) تتجسد في المنجزات
الثقافية والمادية التي أضافها الشعب العربي وهو يتطور إلى أن أصبح امة ثم وهو
يطور واقعه القومي . انه ما يسمى ” التراث الحضاري” وبه تفترق الأمم عن المجتمعات القبلية أو التي في دور التكوين
القومي . ويشكل الجانب الفكري من التراث الحضاري ” قيماً ”
قومية في كل امة . ذلك لأنه خلال ممارسة الحياة أحقاباً طويلة والتفاعل الحي بين
الناس في الأمة وبين الأمة وظروفها ، تطرد علاقات الناس حول موضوع معين فيصبح ”
قيمة ”
اجتماعية خاصة . وتكسب تلك القيمة سمة
الالزام بحكم اطرادها المستقر نسبياً ، فنرى الناس في كل امة ملتزمين نمطاً خاصاً
من التفكير والسلوك يستنكرون الخروج عليه وان كان قليل منهم من يستطيع ان يتقصى في
تاريخ امته مصدر ذلك الالتزام . ويعود ذلك الاطراد فيؤثر في الناس أنفسهم، فيصبحون
نماذج بشرية متميزة بما تحمل من قيم تنعكس على كل ما يفعلون علماً، أو فكراً أو
عملاً وتميز صيغة حياتهم أياً كان مضمونها ، تصبح القومية متضمنة الولاء لقدر
متميز من القيم . ويكتفي الباحثون عادة بنسبة تلك القيم الى اهلها عند تمييزها
فعندما يقال مثلاً : فكر عربي او ادب عربي أو فن عربي … الخ ، يعني هذا ان ثمة
خلقاً انسانياً توافرت له الخصائص الموضوعية ليكون فكراً او ادباً أو فناً ولكنه
مصوغ طبقاً للقيم العربية . وفي التاريخ القومي يرث كل جيل قيماً حضارية خاصة ثم
يطورها ويغنيها . ولكنها كقيم قومية تبقى ملزمة للناس في الأمة . وتتأثر تلك القيم بالنظام
الاشتراكي وتؤثر فيه وهو قانون ( فقرة 18 ) .
تتأثر به من حيث أن
النظام الاشتراكي يتيح للشعب في الأمة أفضل امكانيات التقدم الحضاري وتطوير واغناء
قيمه القومية . فلقد أثبتت تجربة الحياة في ظل النظام الرأسمالي ـ مثلاً ـ ان علاقات الانتاج الرأسمالية مصدر للاستغلال الذي يتحول من خلال اطراده إلى
قيمة اجتماعية تفسد عن طريق العدوى بالتفاعل باقي القيم الانسانية . في الاسرة ،
وفي العلم ، وفي الفكر، وفي الأخلاق … الخ نرى الأثر المخرب للقيم الرأسمالية ،
الفردية التي تتقدم على اشلاء الاخرين . وقد عرفنا من قبل كيف ” تمثل الفردية
نموذجاً للانحراف عن القومية … وانه … عندما تبدأ المسيرة المتردية عن القومية منحطة الى الشعوبية ، إلى الاقليمية ،
إلى الطائفية ، الى العنصرية القبلية . ثم تصل الى الفردية . تكون قد وصلت الى قاع
المنحدر … فلا يمكن ان يكون الفردي قوميأ مهما بلغت مقدرته على ادعاء الولاء للامة
العربية ” (فقرة 21) . ومنه نعرف ان أي نظام اجتماعي فردي (ليبرالي) وهو نظام مضاد
للقومية ومخرب لمضامينها الحضارية . انه تنظيم للتمرد على القيم الحضارية المشتركة
وأولاها قيمة المشاركة الحضارية . ومعوق للتطور التاريخي للامة . وفي النظام الاشتراكي وحده يتسق النظام
الاجتماعي مع حقيقة المجتمع القومي فتواصل الأمة مسيرتها التاريخية بدون عائق ،
وفي مسيرتها تبدع وتنمى حضارتها .
وهي تؤثر في النظام
الاشتراكي من حيث ان الغاء القيم الاستغلالية لا يعني إضافة قيم حضارية جديدة الى
تاريخ الأمة بل الغاء قيم فاسدة . فبينما تزول القيم الاستغلالية بالانتصار
الاشتراكي تبقى القيم القومية لتسم إسهام ايجابياً اكثر وضوحاً في البناء
الاشتراكي . انها تحدد مضامين الحياة في النظام الاشتراكي . سيقال ان العلم
والفكروالعمل والفن و الأدب و الأخلاق . الخ أصبحت اشتراكية بمعنى أنها مطهرة من
القيم الاستغلالية، ومع ذلك سيقال أيضاً انها علم وفكر وعمل وفن وأدب وأخلاق عربية
، بمعنى انها مطبوعة بالطابع القومي ومصوغة على هدى قيمه . يمكننا أن نتبين هذا من
المقارنة بين الحياة ومضامينها وقيمها وأساليبها في المجتمعات الاشتراكية القائمة
. فعلى مستوى القياس الاشتراكي لا تتميز الصين عن رومانيا . ولا هذه عن روسيا أو
بولنده .. ومع ذلك فما تزال مضامين وصيغ الحياة في الصين متميزة عنها في رومانيا
عنها في روسيا عنها في بولنده .. الثقافة الاشتراكية متميزة . والفن الاشتراكي
متميز، والأدب الاشتراكي متميز .. الخ . ومرجع ذلك الى ان كل أمة منها تقدمت ـ بعد
إقامة النظام الاشتراكي ـ فقدمت الى الحياة الاشتراكية مضامين متميزة تبعاً
لتكوينها الحضاري والقيم السائدة فيها . وقد وضع كل هذا حداً للاحتجاج المطلق
بالقول الماركسي القديم ” ان أسلوب انتاج الحياة المادية يحكم حركة الحياة
الاجتماعية والسياسية والثقافية ” (نقد الاقتصاد السياسي) . نريد أن نقول انه قد
حد من اطلاقه. وبالتالي لم يعد الاشتراكيون يرددونه بدون إقامة وزن للتمايز
الحضاري بين الأمم في ظل النظام الاشتراكي . في يوم أراد كاوتسكي أن يقول ان الجديد فقط في كل فترة تاريخية هو الذي
يتأثر بالعلاقات الاقتصادية ويبقى التراث الموروث بعيداً عن تأثيرها ، فاعتبر
كاوتسكي مرتداً عن الماركسية . أما الآن فيقول الماركسي اوسكار لانج وهو يتحدث عن
” قانون التوافق الضروري بين البنيان العلوي والأساسي الاقتصادي ” : ” حين يتغير
الأساس الاقتصادي لا تتغير معه إلا تلك العلاقات الاجتماعية الأخرى وتلك العناصر
من الوعي الاجتماعي التي تتجافى مع متطلبات الأساس الاقتصادي الجديد . في حين لا
يطرأ تغيبر على غيرها من العلاقات الاجتماعية وعناصر الوعي الاجتماعي . ومن هنا ،
فالعلاقات الاجتماعية ، خلاف علاقات الانتاج ، والوعي الاجتماعي في مجتمع معلوم ،
والتي تشكلها عملية تاريخية .. يتضمنها أحيانأ البنيان العلوي في النظام الاجتماعي
الجديد .. ففى حضارة معلومة تكون للنشاط الاقتصادي البشري أهداف خاصة يقررها العرف
والأخلاق ويقرها الدين كما يعتمدها أحياناً التشريع أيضاً ” . وينقل إلينا أنه ”
في رأي علماء الاجماع السوفييت المعاصرين لا تنتمي بعض موضوعات ومظاهر الوعي
الاجتماعي مثل العلاقات العائلية والثقافة القومية والعلوم وما الى ذلك ، لا
تنتمي كلها الى البنيان العلوي ” (الاقتصاد السياسي) .
ونحن نعرف من نظريتنا
القومية كل هذا الذي اكتشفوه من الممارسة بعد انكاره أول مرة . ومن هنا فان ” الاشتراكية العربية ” من حيث هي نظرية قومية في الاشتراكية كما تلزمنا بإقامة
نظام اشتراكي في الوطن العربي تلزمنا في ظل النظام الاشتراكي باحترام وتنمية
تراثنا الحضاري وقيمنا القومية الي لا تتناقض مع النظام الاشتراكي من حيث هو نظام
اقتصادي . تلزمنا بأن نواصل مسيرتنا التاريخية لا بأن نقطعها ، وبأن نبني امتنا
العربية لا بأن نهدمها ، وقد عرفنا من قبل العلاقة التاريخية الحضارية بين التكوين
القومي العربي وبين الاسلام ( فقرة 26) . وقد ورثنا من التفاعل بين الحضاره الاسلامية
والحضارات الشعوبية السابقة عليها قيماً عربية في تقدير انسانية الفرد والتعاطف
بين الناس في المعاملة واحترام رابطة الأسرة والتعاون بين ذوي القربى والاحساس
بآلام الغير و آماله ، وكرم الضيافة ، والنجدة .. الى آخر ما لا يمكن
حصره وإن كان من الممكن دائماً اكتشافه في الدراسات المتخصصه في الحضارة
العربية ـ فاذا لاحظنا أن ” النظام الاشتراكي يتضمن حق الشعب في توظيف الافراد فيه
وأنه تحت أساسه المتين ” سيطرة الشعب” ستدفن كل المفاهيم الليبرالية عن الحرية
(فقرة 56) ، فان مصير كل هذه القيم سيكون معلقاً على صيغ العلاقات
الاجتماعية في دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . وما دام الشعب هو الذي سيصوغ
حياته في دولته الديموقراطية ـ فانه سيفرض قيمة في النظام الاشتراكي . لا خوف على
مصير الشعب ما دام مصيره بيده . إنما الخوف على مصير النضال من أجل الاشتراكية
تقوده قوى لاتعي المضامين الحضارية لأمتها ولا تلتزم باحترام قيمها القومية
وتنميتها بل منها من يجاهر منذ الان باحتقارها ويعد الجماهير العربية ، أو يهددها
في الواقع ، بأن يفرغ حياتها من أعز القيم عندها ، فلا يزيد عن أن يستفزها ضد
الاشتراكية التي تحولت في فمه الى كلمة بذيئة . إنهم لن يستطيعوا أن يهدموا ما
بناه التاريخ أو يستعيروا للوطن العربي شعباً غير شعب الأمة العربية ، هذا بدهي .
إذن فانهم عندما لا يعون فلا يلتزمون لا يستطيعون إلا الفشل في اقامة نظام اشتراكي
للامة العربية . فنقول ببساطة واضحة أن الاشتراكيين القوميين هم وحدهم القادرون
على إقامة نظام اشتراكي في الوطن العربي لأن التزامهم الاشتراكي قائم ابتداء على
أساس وعيهم القومي ، ونضالهم من أجل الاشتراكية منطلق ابتداء من ولائهم لجماهير
امتهم التي تحمل في ذاتها خلاصة قيمها الحضارية . ثم نقول بحسم قاطع لكل ” الاشتراكيين ” الذين يجهلون أو يتجاهلون انهم
يتعاملون مع امة ذات تراث حضاري ، فينكرون أو يتنكر ون لقيمها الحضارية ، إنكم في
دعوتكم الى الاشتراكية تخاطبون أنفسكم ولا تخاطبون جماهير هذه الأمة فهي لا تسمعكم
. وأن النظام الاشتراكي على أيديكم فشل محض . نقوله للأشتراكيين من كل دين لأن
الإسلام هنا ليس ديناً بل مصدراً للتراث الحضاري للأمة العربية. ونقوله
للاشتراكيين أصحاب القومية ” البدوية ” الذين يتوهمون أن القيم العربية امتداد غير
نام لتقاليد الصحراء فينكرون ويتنكرون لما أسهمت به الشعوب السابقة على التكوين
القومي في البناء الحضاري للأمة العربية . ونقوله للاشتراكيين الاقليميين الذين
يريدون ـ عبثا ـ أن يلغوا تاريخ امة ليبعثوا حضارتهم البدائية الدفينة في قبور
التاريخ . كلهم ـ طال الزمان أو قصر فاشلون ـ لا لأن الاشتراكية نظام اجتماعي فاشل
بل لأنهم لا يتعاملون مع المجتمع ” كما هو ” . ولقد عرفنا من ” جدل الانسان ” إن ” التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع الاجتماعي كما هو. بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين المشترك كما هم ” (فقرة 18) . ونحن أمة فلا ينجح في
تطوير واقعها إلا القوميون الاشتراكيون .
فمن أجل أن نلتقي مفرزين
فلا نختلط بالفاشلين ، وان نلتزم واعين فلا ننحرف مع المنحرفين ، وان نحتكم راضين
فلا نتمزق كما يتمزق الاخرون ، نلتقي ونلتزم ونحتكم الى ” الاشتراكية العربية” نظرية لاقامة النظام الاشتراكي في دولة الوحدة
الديموقراطية .
ثم تأتي المسألة الثانية
وهي تستحق حديثاً خاصاً .
(12)
64 ـ الملكية القومية للأرض :
نحن أمة عربية. والأمة ”
مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة تكوّن نتيجة تطور
تاريخي مشترك ” ( فقرة 21) . ولقد حاولنا فيما سبق أن نترجم هذا الاختصاص بالأرض و
” المشاركة التاريخية ” فيها الى نظام للحياة سياسي واجتماعي . فإلى أي مدى نحن على استعداد لقبول النتائج التي تلزمنا بها نظريتنا ؟. انه
سؤال موجه الى الشباب العربي الذين يريدون أن تكون لهم نظرية ويحسبون النظرية
ترفاً ثقافياً نعلقها على اعلام النضال العربي ، أو ” علاجاً نفسياً ” لمن يعانون مركب نقص عقائدي . وينسون انها إلزام
وإلتزام . وانه عندما تكون لنا نظرية فنلتزمها ننتقل بهذا من مرحلة فوضى التفكير والحركة
التي تثيرها أهواؤنا الشخصية فلا نتفق ، الى مرحلة الانضباط العقائدي فكرأ
وحركة حيث تتحقق بهذا وليس بدون هذا ـ الوحدة الفكرية فيما بيننا .
والمسألة أن نظريتنا
القومية تحرم نهائياً ملكية الأرض .
المفروض أن نكون قد
انتبهنا الى هذه المسألة منذ أن عرفنا من نظريتنا حدّة التناقض بين القومية
والاقليمية ، فادنا الاقليمية القائمة على أساس التجزئة استناداً الى القومية التي
تعني ـ كما قلنا ـ ان الوطن أرض
مشترك فتحول ” دون أي جزء من الشعب وان يتصرف في الاقليم الذي يعيش عليه أو في جزء
منه بالتنازل عنه للغير أو تمكين الغير من الاستيلاه عليه ” (فقرة 39) . وقد تردد
هذا المعنى بصيغة أو بأخرى في كل فقرة مما كتبنا لانه هو جوهر النظرية القومية .
التصرف أو التنازل ـ إذن ـ عن جزء من الأرض العربية محرم بحكم القومية ، لان الأرض
ملكية تاريخية مشتركة . فلندفع بالنظرية الى نهايتها فنجزء الاقليم بين الناس فيه
” ليختص ”
كل فرد بمساحة من الأرض فما الذي يحدث ؟
الموقف القومي من التجزئة لا يمكن أن يتغير، فليس لمن يقيم ولو وحده في هذه
المساحة ولو كانت شبراً من الأرض العربية، أن يتصرف فيها أو يتنازل عنها . انه لا
يملكها دون الشعب العربي . إذن فأرض الوطن لا يمكن أن تكون محل ملكية فردية ولا
مشتركة بين أفراد . فهل يمكن أن تكون ملكية عامة . ملكية الشعب العربي كله
ممثلاً في دولته الديموقراطية ؟… لنرى . أن الدولة (النظام القانوني للمجتمع ) لا
تملك أن تصوغ علاقات قانونية ـ ومنها الملكية ـ إلا بقدر ما يملك الشعب الذي
أقامها نظاماً قانونياً للعلاقات فيما بينه . فهي مرتبطة بذلك الجيل من الشعب الذي تمثل كنظام قانوني ارادته . ونحن نعرف من نظريتنا
القومية أن ملكية الأرض للشعب بملكية تاريخية مشتركة فيما بين الأجيال فلا يملك
الشعب كله ولا ممثلاً في دولة واحدة أن يتصرف فيها أو يتنازل عنها. وقد رتبنا على هذا نتائج محددة عند دراستنا لمشكلة فلسطين منها ” ان ليس من حق
الشعب العربي كله ، من الخليج الى المحيط ، ولو كان ممثلاً في دولة الوحدة ، أن
يتنازل عن أرض فلسطين… انه بهذا يتصرف
فيما لا يملكه وحده لانه ملك مشترك بينه وبين الأجيال العربية القادمة ” (فقرة 41)
. إذن فان أرض الوطن ، كلها أي شبر منها ، لا يمكن أن تكون ملكية عامة . انها
ببساطة خارج نطاق التنظيم القانوني للملكية . انها ملكية ، تاريخية ولا يمكن أن
تكون محلاً لملكية قانونية (وضعية) . والملكية التاريخية مقصورة على الأمم التي
اختص شعبها بأرضها نتيجة تطور تاريخي وليس نتيجة دستور موضوع .
ولكن ما هي الأرض ؟
انها الأرض ” على الفطرة
” كما أسماها ماركس . الأرض التي لم يخالطها ” عمل ” . هذه غير قابلة للتملك لا
بيعاً ولا شراء ولا رهناً ولا ميراثاً ولا وصية ولا تنازلاً ولا تبرعاً ولا
إتلافاً ، لانه لا أحد من الأفراد ولا الشعب كله يملك أن يبيع أو يشتري أو يرهن أو
يورث أو يرث أو يوصي أو يتنازل أو يتبرع أو يتلف الوطن . والوطن هو الاسم الدال على الأرض وكل ذرة منها . والواقع أن الأرض " على الفطرة " التي هي
تكوين مادي جيولوجي من معادن ومياه وغازات ... الخ ، لا يستطيع أحد أن يقول أنه
أوجدها أو حتى أضاف اليها . ان أقصى ما يستطيع أن يفعله هو أن ينقل اليها منها لأن
" المادة لا تفنى ولا تتجدد " . أي أن أقصى ما يستطيعه هو أن ينتفع بها
. لهذا فان " الأرض " لا يرد عليها الا حق الانتفاع . اذ بمجرد أن يبدأ
" العمل " في الأرض يخلق الانسان شيئا جديدا لم يكن موجودا في الأرض فهو
ثمرة عمل . وابتداء من هنا ـ فقط ـ أي ابتداء من الانتفاع بالأرض يصبح من حق الشعب
في دولته الديمقراطية الاشتراكية أن ينظم كيفية الانتفاع بالأرض على الوجه الذي
يتفق مع مصلحته .
ان
هذا المضمون الاشتراكي للقومية لن يصدم الراسمالية الهزيلة في الوطن العربي التي
اعتادت أن تخرج من نظريتها في الملكية كل ما هي غير قادرة على امتلاكه ( الجبال
والصحاري والأنهار والهواء ) وكل ما تريد للشعب أن ينشئه لخدمتها ( الطرق
والميادين والحدائق والمطارات ...الخ ) بقدر ما سيصدم مالكي الأرض الزراعية ،
اولائك الذين لم يمسكوا فأسا قط ، ولم يستنشقوا قط رائحة الطين ، ولم يخوضوا
بأقدامهم الحافية في المياه الملوثة . ولا يعرفون الفرق بين نبات البرسيم ونبات
القمح . ثم يحدد كل واحد منهم جزءا من الأرض العربية ويتبجح ويقول : هذه أرضي ..
اشتريتها أو ورثتها ممن اشتراها . ويستولي من جهد الفلاحين مقابل انتفاعهم
بالمعادن والأملاح والغازات التي تكوّن " الطين " كأنه هو الذي خلق طين
الأرض .
الارض
لمن يزرعها . باسم " الاشتراكية العربية " التي هي نظرية اقامة النظام
الاشتراكي في مجتمع قومي . أو باسم القومية العربية كما نفهمها بمنطق جدل الانسان
.. يستويان . ان وحدة المنهج تنسق بين غاياتنا .
الأرض
لا تملك . كل الأرض ، بكل جبالها وصحاريها ومعادنها وأشجارها الفطرية ومياهها
وبترولها .. كل هذا " خارج عن التعامل بطبيعته " كما يقول رجال القانون
، فهو لا يُملك ولكن يُنتفع به . وابتداء من الانتفاع يتدخل النظام الاشتراكي
ليضمن " توظيف " كل الامكانيات المادية والبشرية في الأمة العربية .
الأرض والبشر ، من أجل تقدمه الاجتماعي على الوجه الذي يتفق مع وحدة المصير القومي
. والتوظيف انتفاع وليس ملكية . وكما أن البشر لا يكونون محلا للملكية فان الأرض
لا تكون محلا للملكية . لان الأمة التي هي تكوين اجتماعي من البشر والارض لا تباع
ولا تشترى ولا تكون محلا للملكية .
نرجو
أن يكون هذا واضحا .
ولو
كان واضحا ثم تذكرنا ما عرفناه من قبل ونحن ندرس مشكلة " الأقليات " من
أننا " عندما نلتزم عقائديا بنظرية قومية نكون ملزمين بأن نتخذ موقفا قوميا
موحدا من كل المشكلات التي نتصدى لها ". وأنه يجب " ألا تكون لنا أبدا
نظريتان في موقف واحد " (فقرة 31) ، لعرفنا معرفة اليقين العقائدي أننا عندما
نقبل أن يملك عربي واحد شبرا واحدا من الأرض العربية لن يكون الفارق بين الملكية
الفردية للأرض والملكية الاقليمية لها الا فارقا كميا . يكفي قبول القليل منه لهدم
النظرية من اسسها فيكون موقفنا من الكبير موقفا مجردا من اسسه النظرية .
هكذا
تحدد لنا نظريتنا غايات عينية في واقعنا العربي . فاذا كانت الغايات تتفق مع الحل
الذي تتمناه أغلبية شعبنا العربي من الفلاحين فليس مرجع هذا الاتفاق الاستجابة الى
ما يتمناه الفلاحون ولكن مرجعه الى نظريتنا القومية . ولو تطور الواقع العربي
وتقدمت الصناعات حتى أصبح الفلاحون أقلية لما تغير موقفنا القومي من ملكية الأرض
.
(13)
65 ـ دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية :
وبعد
.
فان
غاياتنا تبدو متعددة : استرداد فلسطين ، التحرر من الاستعمار ، الوحدة ،
الديمقراطية ، الاشتراكية ... مع أننا قد قدمنا لها بأننا نبحث عن حل لمشكلة واحدة
؟ لأنها غاية واحدة . انها دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .
التحرر
استرداد لأرضها . والوحدة شكلها السياسي . والديمقراطية أسلوب شعبها في التطور .
والاشتراكية نظامها الاقتصادي في التطور . لا أكثر .
ليست
لنا غايات متعددة اذن . ليست غايتنا الحرية والوحدة والاشتراكية ، ان هذا شعارنا .
أما الغاية العينية في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا العربية فهي : اقامة دولة
الوحدة الديمقراطية الاشتراكية في الوطن العربي . على هذه الغاية نلتقي وبها نلتزم
واليها نحتكم .
فكيف
نحققها ؟
لقد
وصلنا الى الاسلوب الذي يكتمل ببيانه بناء النظرية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق