بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

فرز واحد ... ام فرز متعدد ... ؟!


فرز واحد ... ام فرز متعدد ... ؟!

لا شك ان المتابع للجدل الدائر داخل العائلة القومية حول الإحداث والمتغيرات في الواقع العربي يلاحظ غياب الاتفاق حول الأولويات والخيارات المطروحة رغم وجود الفهم المشترك لعقدة المرحلة وهو ما يسبب هذه اللخبطة في المواقف والمعارك الوهمية الاستعراضية في كثير من الاحيان .. 

وتلك العقدة هي اننا امة مجزاة يطمح ابناؤها للتحرر والوحدة دون آداة نضالية موحدة قوميا تتجاوز دائرة الفعل الإقليمي في كل قطر ، وتتضافر فيها كل الامكانيات القومية البشرية والمادية .. وهو ما يجعل القوى القومية خارج المشهد الذي تتحكم فيه قوى اخرى فاعلة في الواقع  منها الاطراف النظامية في السلطة القطرية ، ومنها الاطراف الخارجية متعددة المصالح الخ .. وفي مثل هذا الوضع تجد قوى التحرر القومي نفسها مجبرة للبحث عن قوى فاعلة تؤيدها او تؤيد الاطراف المحلية المتحالفة معها ، الا انها لا تجد من بينها من يرتقي كليا الى مستوى طموحاتها ، فلا تتفق حولها جميعا .. ويزداد الخلاف تعقيدا بتعدد القوى المتدخلة والمتحالفة ، ثم يستمر باستمرار المشكلات والتدخلات والتحالفات ..

وفي الواقع فان الحل ليس في إدانة التحالفات حين تكون دون مستوى طموحاتنا ، او في استمرار إدانة المواقف منها حين نكون عاجزين عن تغييرها ونحن نعيش  خارج المشهد ، بل في معالجة الخلل الذاتي الذي يسبب هذا العجز  وصولا بالممارسة الى مستوى التحديات المطروحة ، وعندها سوف لن نكون في حاجة الى لوم الآخرين حينما يكونون في صفنا او ضدنا ، او حينما لا ترتقي مواقفهم ـ من موقع  العجز او من موقع المصلحة - الى مستوى الطموحات المطلوبة ..  بل سنعمل ـ نحن ـ بما يجب ان يكون لتغيير التحالفات ، وبناء التكتلات المطلوبة من موقع الفعل والتأثير والقيادة ، بمثل ما كانت تحضى به مصر وقيادتها التاريخية بعد ثورة يوليو 52 ..

والمشكل لا يتمثل في تداول مثل هذه المواقف وترديدها في فضاءات مختلفة ، بل فيما يترتب عنها من سلوك يترجمه البعض الى اجراء عملي يسمونه " الفرز " .. حيث تصبح مقولة الفرز قائمة عند البعض على  أساس الموقف من ايران او من حلفائها او من هذا النظام او ذاك وعلاقتهم بالاحداث الجارية  .. 

ولعل من أخر الحالات استهجانا وتمييعا لمقولة الفرز ما رأيناه مؤخرا من سجال بين القوميين حول الأحداث في ايران بين مؤيد ومعارض ، وكلاهما يبني تحليلاته وتوقعاته بناءا على مواقف سابقة من الصراع الدائر في مواقع كثيرة من الوطن العربي ، بما لها من ارتباطات سابقة ايضا بالاحداث الجارية في كل موقع  .. والحال ان تلك الاحداث لا تزال في بدايتها ، فلا يزال الحكم على ما يجري هناك سابقا لاوانه ، وقد ينتهي حتى قبل ان تتجلى الصورة بالكامل للمتابعين والمحللين ..  لذلك كان يبدو واضحا منذ البداية ان القول بان ايران تشهد ثورة شعبية ستعصف بالنظام مجانب للحقيقة  .. وان من ذهب بخياله اكثر من ذلك معتقدا امكانية ان يقع لايران ما وقع لسوريا واليمن فهو بعيد كل البعد عن الواقع .. حيث لا مجال للمقارنة بين الواقع الايراني وواقع الدول العربية  لعدة اساب منها بالاساس : 

- ان ايران دولة قومية تحكمها سلطة مركزية قوية ، محاطة بحاضنة شعبية ممتدة تحمل وعيا قوميا متقدما على مثيلاتها في  الدول العربية ..

- وان الاسلام السياسي الايراني ـ كما الاسلام السياسي التركي ـ هو قومي الولاء لايران ـ كما الاخر لتركيا - على خلاف الاسلام السياسي العربي العميل للخارج ..

لذلك فان مثل هذه الدول  يمكن ان تشهد احتجاجات وغضب شعبي بسبب الظروف المعيشية ، لكن غالبية الشعب في ايران لن ينجر الى اسلوب التدمير الذاتي الذي تسعى الاطراف الخارجية لتغذيته كما حصل في الدول العربية .. وقد رأينا كيف تصرفت فئات كثيرة من الشعب التركي ضد الانقلاب رغم الخروقات التي حصلت ضد كل المشبوهين ..

قبل ذلك كانت واقعة اغتيال المرحوم علي عبد الله صالح محطة أخرى من محطات " الفرز " على الفضاء الافتراضي عند البعض  .. حيث يظهر التشنج بين القوميين  مع كل جديد في الوطن العربي له علاقة بإيران او بحلفائها .. وقبلها حول مواقف من داخل المعارضة الحزبية على الساحة السياسية في تونس كما في مصر بعد 30 يونيو ، في علاقة باسلوب التعامل مع الحكومات والانظمة .. وقبلها وحتى اليوم حول الاحداث في سوريا ... الخ ...

ورغم ان الاختلاف حول قراءة الاحداث أمر عادي ولا يثير اي استغراب حينما يكون تلقائيا ومقترنا بالحوار ، لانه في النهاية يطفو على السطح ثم يتبخر مع تغير الاحداث .. الا ان تكرر استعمال هذه المقولة وكثرة تداولها بين منتمين لتيار معين دون غيره ، وبمشاركة " رموز" معروفين احيانا من رموز هذا التيار على الفضاء الافتراضي ، ثم توظيف هذا الاستعمال من طرف البعض في تصفية حسابات مبنية اساسا على مواقف سابقة من اطراف ومجموعات وقيادات واحزاب بعينها ، سرعان ما ينتهي  بالاتهامات والتخوين والتجريح .. مما يحوّل الحالة المتكررة الى ظاهرة مرضية مضارها على مستقبل العائلة القومية اكثر مما يظهر فيها من ايجابيات النقد والاختلاف والجدل ...

ما يهمنا من هذه الظاهرة هو انعكاساتها السلبية حينما يصبح استعمال كلمة الفرز خارج السياق ، فتتحول الى معول للهدم على غير وجه حق لعدة اسباب ..

- اولا ان مفهوم الفرز كمعيار لفرز القوى لا يكون على الفضاء الافتراضي بل على الميدان .. 

- ثانيا ان الفرز الحقيقي ـ بين اصحاب الفكر الواحد - يكون على قاعدة الثوابت وليس في التفاصيل والاجتهادات المتعلقة بالمتغيرات التي لا نملك في الغالب الماما كافيا بحيثياتها في بداية وقوعها فيحصل الاختلاف .. 

- ثالثا ان الفرز البناء لا يكون بادانة الاجتهاد الخاطئ الذي يمكن ان يصحّحه الجدل الاجتماعي بدل التشهير به عن طريق المواقف الفردية .

- رابعا اذا كان البعض يعتمد على " القسوة " كأسلوب للفرز " اقتداء " بأسلوب " السفود " عند عصمت سيف الدولة ، فان الفرز بهذا الأسلوب المتداول ابعد ما يكون عن ذلك الأسلوب .. 

- خامسا اذا كان المقصود من الفرز هو بناء الحركة العربية الواحدة ، فانه يتم على اساس الموقف من الهدف الاستراتيجي : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية . اي بين التقدميين والرجعيين ، وليس بين أصحاب الفكر الواحد والهدف الواحد حول ما يشهده الواقع من أحداث ومتغيرات ..  
ولكن ماذا يعني الفرز على اساس المتغير من الاحداث .. ؟ 

معناه أولا ، ان وراء كل عملية فرز ستظهر عملية فرز جديدة تحوّل الفرز الواحد ، بين انصار دولة الوحدة واعدائها ، الى فرز متعدد ومتجدد مع كل جديد ، بين انصار نفس المشروع .. 

ومعناه ثانيا ان مثل هذا الفرز سيؤدي الى ظهور شكل جديد من اشكال التجزئة على مستوى الدعوة لقيام التنظيم القومي ، ظاهرها انتصار الكل لنفس المشروع وباطنها مشاريع تجزئة " دعوية " تبعا لموقف كل مجموعة من الاحداث بكل ما فيها من تكتلات وتحالفات واصطفافات ( بعض مظاهرها وتداعياتها موجودة في الواقع ) .. 

فالبعض يتكلم عن التنظيم القومي وهم يقصدون تنظيما يجمع مناهضي النظام السوري وايران وحزب الله معتبرين غيرهم منحرفين وخارجين عن الصف القومي .. 

والبعض الاخر يتكلم عن نفس التنظيم وهم يقصدون تنظيما يجمع مؤيدي هذا الحلف ، مع نفس الموقف  الذي يتبناه الفريق الاول من مخالفيهم .. وهكذا قياسا على كل الاختلافات الحاصلة .. كل تعدد في الاسس التي يقوم عليها الفرز ، يتبعه تعدد في المقاصد والمفاهيم التي تقوم عليها الدعوة للتنظيم القومي ، وصولا الى تعدد القوى التي تمثله ... وهكذا لا يستغرب ان يكون في اذهان البعض تصورات مماثلة لقيام :

- تنظيم يجمع مؤيدي النظام في مصر وحلفائه وتنظيم يجمع معارضيهم ..

- تنظيم يجمع مؤيدي العمل الحزبي الاقليمي وتنظيم يجمع رافضيه ..

والبقية تاتي مع الاحداث والمتغيرات ... فلا يتردد هذا الفريق او ذاك في التشهير بالآخرين تحت عناوين ومسميات كثيرا ما تستعمل في هذا الاتجاه او ذاك حسب التوظيف الذي يتبعه كل فريق من خلال فهمه للأولويات رغم اتفاقهم حول المفاهيم العامة كالدفاع عن الوجود القومي ، ومناهضة التدخل الاجنبي ، ورفض الاقليمية والاستبداد والطائفية ،  والتصدي للقوى الرجعية الخ ... بما لها من امتدادات واصطفافات معقدة في الواقع لا يملكون لها حولا ولا قوة  ... !! والكل يستشهدون بمواقف الدكتور عصمت سيف الدولة ..!!

لذلك فان السؤال البديهي الذي يطرح نفسه في هذا الموضوع هو : ماذا كان يقصد الدكتور عصمت سيف الدولة حينما تحدث عن فرز القوى ؟ 

وفي هذا الصدد عندما نعود الى كتابات عصمت سيف الدولة نجد أول استعمال لمصطلح الفرز في الفقرة السادسة من نظرية الثورة العربية المتعلقة بالمنهج الليبرالي جاء فيها : " ان هذا القصور في ” النظرية ” قد سمح بأن تختلط بالقوى القومية التقدمية ، داخل الحركة القومية ، قوى رأسمالية متراجعة أو لا قومية متراجعة أو انتهازية ترفع جميعاً شعارات واحدة وتحتفظ كل منها بفهم خاص وتفسير خاص للشعارات الموحدة . فإذا بالحركة القومية ” المنتفخة ” بقواها غير قادرة على أن تحقق شعاراتها أو حتى أن تجمع في قوة واحدة جماهيرها العريضة . وأن الفشل المتكرر يعني أن ثمة خطأ ما في المسيرة كلها لا يكفي لتصحيحه مجرد الجمع في شعار واحد بين الحرية والوحدة والاشتراكية . فلا بد لنا من ” نظرية ” لتغيير الواقع العربي أكثر وضوحاً وأكثر بلورة وأكثر مقدرة على فرز القوى المختلطة داخل الحركة القومية . نظرية نلتقي بها في قوة واحدة ولو كانت أقل عدداً . ونلتزم فيها بخطة واحدة ولو كانت أطول مدى . وتقود خطانا ولو كانت أبطأ حركة . فإننا حينئذ سنتقدم تقدماً مطرداً بدلاً من أن نقفز إلى الأمام لنعود فنقفز الى الخلف ولا نتقدم الا قليلاً .

ثم تكررت نفس الجمل في كتاب الأسلوب الفقرة 66 ، وهو حديث عن المقدمات النظرية والفكرية اللازمة التي يجب أن يقوم عليها موضوع الفرز في هذه المرحلة من الحديث ، وقد رأيناه كيف ربط في مواضع شتى من نظرية الثورة العربية بين التخبط الفكري الذي ساد طويلا في الوطن العربي ، وبين الهزائم الحاصلة في تاريخ العرب الحديث ..

ثم بقليل من الجهد في تصفح كتاب الاسلوب نجد العنوان الابرز في الفقرة 67 تحت عنوان " فلتفرز القوى " ..  حيث يمكن أن نتبين القصد بوضوح وهو فرز القوى التقدمية من القوى الرجعية ، ونحن نعرف ان الدكتور عصمت سيف الدولة يعي ما يقول ويدرك مدلول الكلمات التي يستعملها  .. وانه واضح في تبويبه لكل فقرة واردة في كتاباته .. فهو على وعي تام بان مضمون هذا الكتاب موجه للتقدميين الذين خصهم وحدهم بالاجتهاد في اسلوب تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية التي قال عنها في نهاية الحديدث عن القوى التقدميىة التي تؤمن بتلك الغاية بانه " لا يوجد خارجها تقدمي واحد .. " ، باعتبار وحدة المشكلات ووحدة الحلول المناسبة لها في الواقع .. ولذلك نجده يستهل الحديث في كتاب الاسلوب بقوله : " قد لا يختلف اثنان من التقدميين في الوطن العربي على الغاية التي انتهينا اليها : دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . ولكنهما يختلفان ، ويختلف كثير غيرهم ، في الاجابة على السؤال : كيف تتحقق ؟ " .. 

وقد بدأ التمهيد لمفهوم الفرز في الفقرة المذكورة بما جاء في آخر الفقرة 66 ، من كتاب الاسلوب ، بالقول الواضح في موضوع الفرز الذي طرحه على اساس ما يعرف بثوابت المشروع القومي او ما سماه عصمت سيف الدولة بالمنطلقات والغايات والاسلوب وهو ما قاله في تلك الفقرة : " ... وهكذا كانت غيبة نظرية في الاسلوب على المستوى الفكري وفشل الاسلوب التجريبي على مستوى الممارسة هو الذي حملنا على تلك المراجعة لمنطلقاتنا وغاياتنا وعلى ان نعود فنبدأ من جديد بحثاً عن المنهج . فكأن كل ما قلنا كان بحثاً عن حل لمشكلة الاسلوب . ولقد بدأنا بذلك المنهج بسيط الكلمات (جدل الانسان) وحملناه معنا في كل سطر من فقرة وفي كل فقرة من موضوع فحددنا به منطلقاتنا وحددنا به غاياتنا وأجبنا به على كل الاسئلة التي خطرت لنا خلال الحديث . غير ان هذا كله أصبح معلقاً على صحة الاجابة على السؤال الذي يصل الفكر بالواقع وتتحول به الغايات الى حياة : كيف نحقق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية في الوطن العربي . ولقد أعدنا كل هذا لنعرف أمراً على جانب كبير من الأهمية : ان الاسلوب ليس متروكاً للاجتهاد الفردي في ساحة الممارسة ولكنه جزء من النظرية التي نلتقي عليها ونلتزم بها ونحتكم اليها ... (انتبهوا الان) ... وعلى اساس الالتزام بالمنطلقات والغايات والاسلوب معاً تفرز ” القوى ” كل يلتقي على نظريته ويلتزم بها ويعمل على تحقيقها في الواقع باسلوبها . وعندما تفرز ” القوى ” تكون كل واحدة منها أقدر بذاتها على تحقيق غاياتها منها وهي مختلطة بغيرها تحت ستار وحدة الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية . وهذا الفرز هو اول خطوة في سبيل حل مشكلة الاسلوب .. ". .. اي انه كان يقصد الفرز بين القوى التقدمية والقوى الرجعية وليس بين التقدميين انفسهم الذين يحملون نفس الغاية ويختلفون في بعض القراءات والتاويلات والمواقف الخاصة بالمتغيرات ..

ويزداد الموقف من الفرز وضوحا وتأكيدا في مقال للدكتور عصمت سيف الدولة بعنوان " صوت الاصيل الغائب " يشدد فيه على أن الفرز المقصود ـ في هذه المرحلة ـ هو فعلا بين القوميين التقدميين والاقليميين قال فيه : "  تفرز القوى فى الوطن العربى على أساس مواقفها من الواقع وتناقضاته ، القوميون التقدميون قوة مفرزة والإقليميون بكل اتجاهاتهم قوى مفرزة . كل قوة تمثل واقعا موضوعيا ماديا وبشريا . أحدهما الواقع القومى ، والثانى الواقع الإقليمى . وعندما تفرز القوى على هذا الوجه سيكون التناقض بينهما أعمق مما تجدى فيه المصالحة أو الحلول الوسيطة ، وسيكون الصراع بينهما أكثر ضراوة من كل صراع عرفته الأرض العربية . وهذا هو ما تدركه القوى الإقليمية تماما وتخشاه حتى الموت . ولما كانت القوى الإقليمية هى المسيطرة حاليا بأجهزتها الإقليمية " الدول " فإن كل تلك الدول تسخر قواها الظاهرة والخفية وتتعاون فيما بينها ومع أعداء الأمة العربية فى كل مكان للحيلولة دون أن تفرز القوى القومية نفسها فتصبح قوة مواجهة ضارية " . ثم يضيف : " إن القوى الإقليمية السائدة لن تسمح أبدا للقوى القومية التقدمية بأن تفرز نفسها وتلتحم معا لتكون قوة مستقلة عن الدول العربية وقواها الإقليمية " .

اكثر من هذا في موضوع الفرز ما جاء في محاورات الدكتور عصمت سيف الدولة للناصريين وهو يجتهد معهم في ما يجب غربلته من تجربة عبد الناصر الغنية لبلورة  نظرية المستقبل . فبعد ان يؤكد على ان التجربة لم تكن تستند الى نظرية جاهزة بحكم ظروفها التاريخية وباعتراف جمال عبد الناصر نفسه ، وبعد ان يستبعد امكانية ان يكون كل تراث ثورة 23 يوليو ومواقف عبد الناصر وتصريحاته وخطبه نظرية مبلورة ومكتملة باعتبار صدورها عنه وهو في موقع المسؤولية لدولة اقليمية ذات سياسات ومصالح ظرفية فضلا عن اختلاط تجربته بجهود الوصوليين والانتهازيين الذين أساءوا للتجربة ذاتها وهم يرفعون الولاء للثورة وقائدها ، نجده يتطرق الى ضرورة فهم خصوصيات التجربة سواء من ناحية اطارها الزماني والمكاني ( كرد فعل غير منظم جماهيريا على واقع ما قبل الثورة )  او من حيث ظروف نشاتها وتطورها على المستوى الفكري والحركي ( من الافق الاقليمي التحرري الى الافق القومي الوحدوي الاشتراكي  ) ، وهو ما يقود الناصريين ـ حسب هذا الطرح ـ الى ضرورة الفرز على اساس الافق الذي انتهت اليه الثورة ، ليضع الناصريين امام " ثوابت " النضال العربي الذي كانت تخوضه ثورة 23 يوليو : بناء دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ، فيقول في دراسته الناصرية كيف ؟ المنشورة بمجلة الشورى : "  لا تجوز الاستهانة بالصعوبات الواقعية التي تعترض استخلاص مبادئ الناصرية من الوعاء التاريخي الغني لمرحلة عبد الناصر .

انها صعوبات واقعية يقتضي التغلب عليها جهودا مخلصة ، ومعرفة علمية صحيحة بالواقع التاريخي الذي انقضى ، وبالأسلوب العلمي لاكتشاف المبادئ الأساسية التي أسهمت في تطويره . ولكن التغلب على تلك الصعوبات ليس مستحيلا . بالعكس . ان عوامل مساعدة كثيرة متوافرة الآن لتسهيل مهمة التغلب عليها . أهم تلك العوامل هو انكشاف سقوط أدعياء الناصرية بعد وفاة عبد الناصر ، وارتدادهم الى مواقع الهجوم على تجربته التاريخية .

من العوامل المساعدة أيضا وضوح المواقف الفعلية لكثير من القوى والأفراد من المنجزات التحرّرية والاشتراكية و الوحدوية التي شكلت الاتجاه العام لفترة قيادة عبد الناصر .. ففي مواجهة الارتداد أو السلبية تنمو حركة جماهيرية ايجابية للدفاع عن تلك المنجزات وتطويرها . وهكذا تكاد القوى التي كانت مختلطة تحت قيادة عبد الناصر أن تفرز كل منها نفسها فيتحدّد موقفها من المستقبل التقدّمي الذي يرمز له شعار عبد الناصر : حرية ، اشتراكية ، وحدة .  وإذا كان كل هذا قد أدّى إلى انكماش حجم الناصريين عددا فانه أدّى بالمقابل إلى وضوح هويتهم ، وبالتالي أصبحوا أكثر مقدرة على بناء نظريتهم . وعندما يبنونها سيعرف الجميع الإجابة الصحيحة عن السؤال : ما هي الناصرية ؟ " .

للإجابة على هذا السؤال يضع الدكتور عصمت سيف الدولة ثلاث ضوابط موضوعية لبلورة الاسس النظرية لالتقاء الناصريين وفرز صفوفهم على ان تؤخذ ـ كما يقول - " في بناء النظرية المبادئ الفكرية في درجة نموها القصوى التي وصلت اليها في حياة عبد الناصر . ان هذا يقتضي تتبع نشأة ونمو وتطور تلك المبادئ خلال الفترة التاريخية التي انتهت سنة 1970 وطرح كل المبادئ الفكرية التي تجاوزتها تجربة عبد الناصر وصححتها وطورتها .. "

ويحصر هذه المبادئ في ثلاث امثلة وهي :

المثال الاول " الذي يمكن أن نضربه  لبيان ضرورة هذا الفرز هو الموقف من الوحدة العربية " .

والمثال الثاني " الذي نستطيع ان نضربه بيانا لضرورة هذا الفرز هو موقف عبد الناصر من الاشتراكية " .

والمثال الثالث " الذي نستطيع أن نضربه لضرورة هذا الفرز يمكن أن نستمدّه من مشكلة الديمقراطية " .

اي انه يعود مرة اخرى في موضوع الفرز الى التركيز على اهداف النضال العربي التي تؤدي في النهاية الى بناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية مع التأكيد دائما على وحدة الاداة النضالية اللازمة لبنائها  .. بل انه في موقف آخر ورد في كتابه عن الناصريين واليهم ، نجده يكتفي بالميثاق باعتباره ثمرة لنمو فكر عبد الناصر الذي صقلته التجربة على مستوى وضوح الاهداف الثلاث فيقول مستعرضا ما جاء على لسان عبد الناصر وهو يحاور قادة البعث خلال مباحثات الوحدة ليؤكد بان الميثاق يمثل اسس نظرية شبه مكتملة لفرز الناصريين وتوحيد صفوفهم : "  أين هي نظرية حزب البعث .. احنا عندنا تجربة طلعنا منها بنظرية .. وطلعنا منها بوسيلة للتطبيق . عندنا الميثاق .. احنا كان عندنا الشجاعة في أول الثورة لنقول إن ما فيش نظرية . فيه مباديء محددة . مشينا في التجربة والخطأ وبقينا نقول إن احنا بنغلط 40 % وبنغلط 50  % وبقينا نقول ما عندناش نظرية . وبعد كده .. قدرنا نعمل تطبيق .. وبعدين عندنا تجربة تطبيق 11 سنة مستمرة ادت أساس للنظرية .. بالنسبة للاشتراكية وبالنسبة للوحدة كل شيء مبين في الميثاق ” . ( جلسة مساء يوم 6 ابريل 1963 ) . ثم يعلق عصمت سيف الدولة على هذا قائلا : " هذا القول صحيح في نصه وفي دلالته . فقد فرق عبد الناصر بين مرحلة التجربة والخطأ ( الممارسة ) ومرحلة الميثاق . وهي تفرقة صحيحة . فلا شك في ان الميثاق أكثر تقدماً على المستوى الفكري من الافكار المرحلية المختلطة بالتجربة والخطأ . أكثر تقدماً بكثير . وما عناه عبد الناصر في بداية الحديث من انه قد خرج من التجربة بنظرية عاد فحدده في نهاية الحديث بان ما أسفرت عنه التجربة وتضمنه الميثاق هو أساس للنظرية . وهو صحيح فلا شك في أن الميثاق قد تضمن معطيات فكرية مبدئية تصلح أساساً لنظرية متكاملة . ولا ينقص الأساس إلا البناء عليه " . وقد كان مبرر عصمت سيف الدولة ان الميثاق كوثيقة فكرية لم يقع تطبيقه بالكامل خلال التجربة ، كما انه - في نظره - يساعد  بما فيه الكفاية المؤمنين بهذه الافكار على بناء الاداة النضالية القادرة وحدها على حسم الخلافات والتاويلات  داخل اطرها الديمقراطية ، بل لعله يضيف مبررا آخر وهو عدم الهروب من معارك الواقع ، فيقول موضحا كل المبررات وهو يستعرض موقفا قديما له من هذه الوثيقة طرح فيه فكرة تحويل الميثاق الى ميثاق قومي : "  لم يكن هذا يعني ، ولا يعني حتى الآن ، أنه ليس في الميثاق ما يصلح لالتقاء الناصريين عليه والاحتكام إليه عند الخلاف ، بالعكس . فإن المبادئ الاساسية التي تضمنها الميثاق مازالت كافية لهذا الالتقاء بل إنها ـ عندنا ـ أكثر من كافية كبداية في هذه المرحلة من تاريخ الناصريين . أما إنها كافية فلأنها لم تجرب أبداً في التطبيق منذ أن صدر الميثاق وحتى وفاة عبد الناصر . ولقد اوضحنا بالتفصيل كيف ان الميثاق لم ينفذ في أهم ما جاء به من مبادئ وما استحدثه من نظم ( الاحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر ـ 1977 ) وبالتالي فإن مهمة تطبيق الميثاق ما تزال تنتظر من يؤديها وهي مسئولية الناصريين . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إن الميثاق هو الوثيقة الفكرية التي لا يستطيع أحد ان يشكك في نسبتها إلى عبد الناصر ، وبالتالي فهو ـ بالقطع ـ يصلح كبداية على الاقل لالتقاء كل الناصريين بدون أن يحول بينهم وبين تنميته وتطويره على هدي المرحلة التاريخية التي انقضت منذ صدوره . ولقد استمع إليّ كثيرون من شباب الناصريين وانا أردّد هذا الرأي تحريضاً لهم على ألا يبدّدوا الوقت والجهد في صياغات واجتهادات تثير الخلاف قبل ان يملكوا ما يختلفون داخله ويختلفون اليه ليحكم فيما بينهم . ولكن كل من له إلمام ولو بسيط بألغاز النفوس يعلم أن اصطناع معارك فكرية بدون مبرر واقعي ، هي اصطناع مبرر للهروب من معارك الواقع . ولقد زدنا ونزيد أن الميثاق أكثر من كاف كبداية يلتحم فيها الناصريون حزباً . ذلك لأن الردة قد عادت بالواقع العربي إلى مرحلة التحرر القومي ، أي إلى معارك ما قبل 1952 ، حيث يكفي التحام القوى على هدف التحرر ، ويبقى في الميثاق فائض من الأهداف ( الاشتراكية والوحدة ) التي تعتبر إستراتيجية بالنسبة للواقع الملح بمعنى ان الخلاف الفكري حولها الان عبث ، اما اشتراط تصفية هذا الخلاف قبل الالتحام في قوة تحررية فهو هروب صريح " .

نفس هذا الموقف تكرر في حوار مع الأستاذ رياض الصيداوي في شهر يوليو 1991 تحت عنوان حوارات ناصرية حين سئل عن المشكل النظري بالنسبة للناصريين جاء فيه : " إنني لم اكف أبدا عن اقتراح ان يبدأ الناصريون وحدتهم التنظيمية على أساس وثيقة جيدة الصياغة عميقة المضمون متقدمة فكريا ، وضعها عبد الناصر شخصيا ، وأعني الميثاق ، وأن يكمل التنظيم من خلال الممارسة ما قد يكون في الميثاق من قصور " .

ليس هذا فحسب بل ان الدكتور عصمت سيف الدولة لديه معيارا عمليا للفرز اعتبر من خلاله ان الناصريين هم فعلا أولئك الفئات الواسعة من المصريين الذين لا يزالون يحلمون بعودة المكاسب التي جاءت بها ثورة يوليو حين قال : " ومع ان أحدا لم يسأل الفلاحين والعمال والفقراء والمقهورين عن ما هي الناصرية فكرا ، فان الناصرية التي ينتمي إليها هؤلاء الذين اسميهم جماهير عبد الناصر هي الناصرية الحقيقية ولا ينقصهم الا مؤسسة تجمع كل أولئك الذين عرفوا عبد الناصر وآمنوا بالناصرية وما يزالون يتطلعون إليها نتيجة مكاسب عينية ، وليس نتيجة حوارات فكرية ، أقول جميعهم في مؤسسة منظمة يعبرون فيها عن إجاباتهم عن السؤال ما هي الناصرية ؟ ليتولى المثقفون في الحزب صياغتها . إذن هي الناصرية في الواقع وليست في أذهان المثقفين ".... وهذا راجع لكون الدكتور عصمت سيف الدولة أكثر انسجاما مع نفسه ومع الواقع ، فهو لم يكن ينشد تحقيق فكرة مجردة غير ذات صلة بالواقع حتى ولو كانت بحجم  دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، بقدر ما كان يبحث عن حلول للمشاكل الموضوعية التي تعيشها الأمة العربية في ظل واقع التجزئة والتخلف . لهذا كان الفرز في نظره يقوم دوما على أسس  موضوعية ، وهو ما يعني انه في علاقة دائمة بالظروف التي تمر بها قوى التغيير في الواقع العربي وبالقدر الذي يتلاءم مع تحقيق غايتها .. وهذه مسألة مبدئية في نظره .. نقول هذا ونحن نعلم أن ما هو مبدئي بالنسبة إليه لا يستطيع أحد ان ينسبه إليه دون أن ينسبه هو لنفسه بالقدر الكاف من الوضوح .. وهو ما يعني ـ أولا ـ أن ما ورد على لسانه في ما يخص تحديد ضوابط الفرز بالنسبة للناصريين في مرحلة التأسيس على أساس المبادئ التي جاء بها الميثاق ليس مجرد رغبة في تحقيق امنية بأي ثمن ، بقدر ما كان يعني بالنسبة إليه أن وحدة الناصرين على تلك المبادئ العامة كان يمثل حاجة ملحة بالنسبة لمستقبل النضال العربي في ظل الظروف التي شهدتها مصر والأمة العربية في تلك المرحلة ، فكانت ـ في نظره ـ  إمكانية الالتقاء على المبادئ التحررية التي جاء بها الميثاق أكثر من كافية لجمع الناصريين وحشدهم لمواجهة الردة ، فضلا عن مبادئ الاشتراكية والوحدة .. وهو ما يعني ـ ثانيا ـ أن الجانب المبدئي في هذا التوجه للدكتور عصمت سيف الدولة ليس مجرد استنتاج في علاقة بموضوع الفرز قد يختلف فيه المجتهدون ، بقدر ما هو موقف ثابت وصريح ورد على لسانه وبإقرار صريح منه ـ رحمه الله ـ نجده مفصلا في رسالته المعروفة بعنوان " رسالة من الأبدية " ..

في هذه الوثيقة الهامة ، وبعد أن يعرض علينا تفصيلا إضافيا لمسألة الإعداد الذي يؤدي الى قيام التنظيم القومي كما ورد في بيان طارق ، نجده يتطرق بإسهاب لمعضلة الفرز ، مؤكدا فكرة الالتقاء على الحد الأدنى من المبادئ الفكرية العامة على امتداد فترة الاعداد  ، والتي يسميها حرفيا " خط فكري عام " تجعل مهمة الحسم النظري مهمة من مهام التنظيم القومي وليس من مهام  الإعداديين ..

في هذا الجانب ، وبعد تذكيرنا بمراجعته الدقيقة لما جاء في بيان طارق ، يقول الدكتور عصمت سيف الدولة بأكبر قدر من الحسم والوضوح ان : " الإعداد الفكري والبشري على قدر ما فهمت من البيان ، يعني أن أنصار الطليعة العربية ليسوا ملتزمين نهائيا بشكل مسبق واشتراطي بمضمون فكري مبلور يدعون الناس إليه ويشترطون قبوله كما هو .. ليكون النصير نصيرا . بل إن الوصول الى هذا الفكر هو غايتهم النهائية التي يسعون لتحقيقها . ومؤدى هذا أنهم يبدؤون بالتجمع حول " خط فكري عام " هو ما يمكن تسميته : الفكر القومي التقدمي الذي ينطلق من الوجود القومي مستهدفا الوحدة الاشتراكية . يجمعون هذا الفكر من كل مصادره أيا كانت ويقبلون الاجتهاد فيه جميعا دون تحفظ  . ويديرون الحوار حوله لينتهي في النهاية الى أكبر قدر من الوضوح والتحديد ، كمشروع يقدمونه الى المؤتمر التأسيسي للتنظيم القومي الذي يكون من حقه وحده أن يعيد النظر فيه من جديد لإقراره وإعطائه صفة الإلزام .. إذا فليس من مهمات أنصار الطليعة ، وليس من واجبهم أو حقهم أن يلزموا أنفسهم أو يلزموا غيرهم بفكر معين يكون هو مناط اللقاء بينهم ومقياس الانتماء لعملهم . إنهم لو فعلوا ذلك لصادروا مهمتهم الأساسية بالذات على المستوى الفكري . أي لما كان ثمة مبرر لدعوتهم على الإطلاق ، ولوجب عليهم أن يفتشوا لأنفسهم عن اسم آخر أو عمل آخر لا يعنيني على الإطلاق .. ! " ..

يجرنا هذا الموقف الصريح الى طرح سؤالين مهمين في علاقة بعملية الفرز :

ـ أولا ، هل تقوم عملية الفرز على أساس المبادئ الفكرية العامة التي سمّاها الدكتور عصمت سيف الدولة في هذه الوثيقة " بالخط الفكري العام " وفي وثائق أخرى بالمنطلقات والغايات ، أم على أساس الاجتهادات المتعلقة بالمتغيرات الظرفية ؟

ـ وثانيا ، هل يجب أن تكون عملية الإعداد قائمة بذاتها ومستقلة عن التنظيمات الحزبية التي يحمل منتسبوها هذا الخط الفكري العام لأنصار الطليعة العربية ، أم تكون عملية شاملة ؟

الإجابة من الدكتور عصمت سيف الدولة تغنينا عن الرد عن السؤالين . إذ يقول في نفس الوثيقة : " أعتقد أن هذا واضحا نصا وروحا في بيان طارق الذي حذر تحذيرا صريحا من فكرة انسلاخ الشباب عن انتماءاتهم التنظيمية القائمة أو دعوتهم الى هذا بحجة الانضمام الى أنصار الطليعة العربية ، لأن هذه الأخيرة ليست تنظيما جديدا أو بديلا عن التنظيمات الجديدة ، بل هي دعوة فكرية وبشرية من أجل تأسيس التنظيم القومي . ويرى البيان أن هذه الدعوة ينبغي أن تتمكن ، ويتمكن الداعون لها من تحقيق نشاط مفيد ومثمر في الواقع ، أي داخل التنظيمات القائمة وخارجها ، من أجل تحضير الكوادر الفكرية والبشرية التي تحقق الانتقال السليم الى التنظيم القومي عندما تصبح قادرة فعلا على تأسيسه ، وليس قبل ذلك ! " ..

وهكذا فان : " أنصار الطليعة العربية هي صفة الموقف من التنظيم القومي ودعوته وأهدافه ، وليست اسما أو عنوانا لأي تنظيم .. "

ثم يضيف موضحا لما كانت الظروف وحدها كفيلة بإيضاحه : " بعض الأنصار نسوا مهمتهم أو لم يستوعبوا ما جاء فيها ، فلم يفطنوا الى ما يجري تحت أنوفهم . وهكذا وجدوا أنفسهم مشلولين في عزلة تامة ، واليكم الدليل ..

ـ ان هذه الأحداث وعمق تأثير الهزيمة والفشل المتلاحق الذي مني به العمل العربي تحت وطأة القوى الإقليمية لمواجهة النكسة ، وعلى وجه خاص فشل المقاومة وتعرضها للتصفية بفعل القوى الإقليمية .. كل هذا أدى الى عملية فرز عميق يدور الآن في الوطن العربي .."

على أي أساس يقوم هذا الفرز وبين أي قوى ؟

تأتينا الإجابة مفصلة من الدكتور ، وهو يعود الى التأكيد بأن عملية الفرز حينما تقوم على أسس سليمة تنتهي الى بلورة الفكر القومي التقدمي ، وكأنه ينمو نموا جنينيا لكي يثمر خلقا جديدا متكاملا ، فيقول :

ـ 1 " على المستوى الفكري تنكر كثيرون لأفكارهم أو استبدلوها بأفكار أخرى . ذهبت لسلة المهملات أغلب الكتابات والأفكار المنشورة قبل عام 67 ، ورويدا رويدا يتبلور الفكر القومي التقدمي  ويقترب من أكثر مضامينه نضجا ! .."

" ألم تكن عملية الفرز والبلورة هذه من مهمات الشباب العربي ، بل أغناها وأحوجها على الإطلاق ! .. لقد قامت الظروف بتأدية هذه المهمة دون أي جهد ايجابي من هؤلاء ، بل ربما تصدى بعضهم ، ممن اعتبروا أنفسهم من غلاة الأنصار لاعتراض هذه المهمة ونصب كل العراقيل والأفخاخ أمامها .. يكفي مراجعة المواقف الفكرية لكثير ممن كان يقال عنهم مفكرين قوميين أو مفكرين ماركسيين أو غيرهم ، لنرى بوضوح أن هزيمة 67 وما بعدها قد كشفت .. وفضحت .. وصحّحت .. وبلورت كثيرا من المواقف والاجتهادات الفكرية التي كانت تتزاحم على أبواب التنظيم القومي هي الأفكار التي يقوم عليها ، بينما قامت مرحلة التنظيم القومي من أجلها أصلا لكنها منعت من ذلك ! .. "

ـ 2 " وعلى المستوى البشري تأخذ عملية فرز القوى شكلا حديا ، ويتحرر الجهد المبذول لقيام التنظيم القومي بدونهم . فإذا بهم الآن وقد ألقت بهم الهزيمة في مواقع الحقيقة ، فلا هم قوميون ، ولا هم تقدميون ، ولا هم من أنصار التنظيم القومي ! .. "

ولكن ما عيوب هؤلاء الذين تكفلت الظروف ببيان فشلهم ؟

انها مشكلة الأسلوب أكثر من أي ناحية أخرى .. حيث يجيب الدكتور في الفقرات اللاحقة مبينا الحد الفاصل بين النجاح والفشل في أسلوب الصفوة وأسلوب الشباب المتحفز لبناء التنظيم القومي على وجه مغاير من خلال بعض المعطيات المتعلقة بأسلوب هؤلاء وهؤلاء : 

" ألم تكن عملية الفرز هذه لاكتشاف هذه العيوب قبل انفجارها ، هي إحدى أهم مهام الشباب العربي . لقد تكفلت الظروف بتحقيق هذه المهمة دون أي جهد ايجابي منهم ! .. "

ـ 3 " أكثر من هذا فان الأسلوب الديمقراطي في بناء التنظيم القومي يمكن أن نسميه أسلوب الشباب العربي بامتياز " .

فمن ناحية قضى الجانب الذاتي للناصرية الذي كان يمثله الولاء الشخصي للرئيس . لكن الناصرية لم تنقضِ بل أصبحت أكثر وضوحاً بمعناها الموضوعي وهو الولاء لخط  فكري وسياسي كان لعبد الناصر موقع القيادة فيه وهو يحتل قدراً مهماً من الفكر القومي التقدمي .

" ومن ناحية أخرى فإن وفاة الرئيس قضت على أكبر الآمال التي كان يتطلع إليها الشباب العربي في بناء التنظيم القومي من القيادة إلى القاعدة أي من قيادة عبد الناصر إلى قاعدته الشعبية . ذلك أن هذا الأمل كان يستمد بقاءه وقيمته من شخص الرئيس عبد الناصر . ووفاته إذ تنهي هذا الأمل فهي لا تبقي إلا أسلوب بناء التنظيم القومي من القاعدة إلى القمة ديمقراطياً وهذا هو أسلوب الشباب العربي بامتياز . لهذا ليس غريباً أن نرى أخلص الناصريين في الوطن العربي يتطلعون الآن لبناء التنظيم القومي والانفتاح عليه بدءاً من القواعد إلى القيادة بعد أن قطعوا فترات طويلة من رهن هذه المسؤولية بشخص الرئيس " .

ثم يستكمل الحديث مؤكدا علاقة الفشل بالمسائل المبدئية : القاعدة الفكرية ، وأسلوب البناء : " ان هذه المعطيات تكاد تجعل الشباب العربي في وضعية تماثل الوضعية التي دعا لها البيان من حيث بناء التنظيم القومي ديمقراطياً من القاعدة إلى القمة . لكن هذه المعطيات جميعاً فاتت عن وعي البعض لأنهم لم يستطيعوا رؤية إلا أنفسهم ، بحسبان أنهم الأصل وكل ما عداهم شيء طارئ أو عَرَضي :

1 ـ فهم لا يرون ولا يساهمون ولا يدفعون حركة التبلور الفكري ، لأنهم بلوروا أنفسهم بالفعل على فكر جاهز اختاروه لأنفسهم ، وأصبحوا يشترطونه على الآخرين كما هو . فأغلقوا عقولهم عن أوسع الأفكار والآراء التي كانت تتبلور بالفعل ، وكان يتوجب عليهم مساعدتها في التبلور ودفعها للأمام طيلة فترة التحضير للمستقبل . .

2 ـ وهم لا يرون ولا يساهمون ولا يدفعون حركة الفرز البشري . لأنهم تشللوا وأصبحوا تنظيماً (بحسب ظنونهم) يطلب انضمام الناس إليه . فعزلوا أنفسهم عن الناس جميعاً .. بما فيهم أولئك الذين كانوا يسعون من مواقعهم الخاصة لإقامة التنظيم القومي بشكل ديمقراطي !

3 ـ وهم لا يرون ولا يساهمون ولا يدفعون التحركات التي تشغل أعرض الشباب العربي ، خصوصاً الذي يسمى ناصرياً . والذي أحسب أنّ قضيته تسبق جهودهم وما يحسبون ! " ..

من اللافت هنا ان نشير الى بعض الغموض المتعلق بالاحداث في ما ورد في هذه الوثيقة من ايحاءات وتلميح لاطراف عديدة لا شك ان عصمت سيف الدولة قد تعمد اخفاءها أو تجاوز ذكرها لاسباب نعتقد انها تتعلق بمبدأ التحفظ عند عصمت سيف الدولة والذي سنتحدث عنه لاحقا ، وكأننا به يريد ايصال الفكرة دون الدخول في ملابسات الاحداث المتصلة بها ، وهو ما يتطلب جهدا اضافيا لفهمها من خلال الرجوع الى وثائق أخرى تتعرض لأحداث تلك الفترة التي يتحدث فيها عن انصار الطليعة .. بعضها وثائق في شكل رسائل للدكتور عصمت سيف الدولة وأخرى وثائق نشرها الاستاذ حبيب عيسى تتحدث عن تجربة انصار الطليعة وغيرها من المقالات التي تحيل الى نفس الحقبة ، وتتيح الفرصة لمعرفة الكثير من المعلومات الهامة حول تفاصيل تجربة الانصار .... فقط  في علاقة بهذا الجانب ، وبعد كل ما نقلناه من توضيح لموقف عصمت سيف الدولة بخصوص التأكيد على الخط الفكري العام ، فاننا لا نستطيع ان نقفز على ما يبدو في الظاهر ـ أو هكذا يمكن أن يُفهم ـ مما جاء في بيان طارق على أنه تحريض للطليعيين  وهو يتحدث عن نشر ما سمّاه الدكتور عصمت سيف الدولة بـ " الفكر الطليعيخلال فترة الاعداد ننقل منه هذه المقتطفات ثم نتفاعل معها حتى تتضح الصورة بالكامل حيث قال : " يتم هذا بتحقيق الوحدة الفكرية قبل الوحدة التنظيمية ، إذ أن النظرية تسبق الثورة دائما ، أو يجب أن تسبقها ، ليصبح ولاء المناضلين من أجل أهداف أمتهم ولاء عقائديا لهذه الأمة ، وليس ولاء حزبيا ، أو شخصيا لقيادتهم . ولما كانت مهمة التنظيم هي الأعداد للطليعة العربية ، وكانت تلك المهمة مؤقتة في الوقت ذاته فإن مهمته الأساسية لن تكون القيادة السياسية ، والنضالية للجماهير العربية ـ فتلك مهمة الطليعة العربية عندما توجد ـ بل ستكون أكمال ، وتعميق ، ونشر الفكر الطليعي ، وتثبيته في أذهان الجماهير على الوجه الذي يحقق قاعدة فكرية واحدة تجمعها ، أي أن عدم تحمل التنظيم بحكم مهمته الإعدادية ، والمؤقتة ، لأعباء النضال السياسي سيجعله تنظيما للوعي الفكري ، والتوعية غايته تحقيق الوحدة الفكرية في أعرض قاعدة جماهيرية . و معاركه كلها ستكون بصيغة أساسية متجهة إلى طرد كل فكر مناقض للفكر الطليعي ، وتثبيت هذا الفكر الطليعي في كل مكان " .

والسؤال أو الاعتراض الذي يمكن ان نتوقعه هو ماذا يقصد عصمت سيف الدولة بالفكر الطليعي ؟ ألا يقصد نظرية الثورة العربية تحديدا ؟؟ والاجابة قطعا : لا .. وذلك لتوفر عدة قرائن وحجج واضحة  .. أهمها أن بيان طارق ظهر في شهر يوليو سنة 1966 في حين لم يعرف من افكار عصمت سيف الدولة في ذلك الوقت وعلى نطاق ضيق سوى ما جاء في كتاب أسس الاشتراكية العربية المنشور في شهر يناير 1965 ، أي قبل سنة ونصف وهي مدة غير كافية لتداول افكاره بالطريقة الواسعة التي اصبحت بها متداولة بعد ذلك ، أي بعد نشر نظرية الثورة العربية في شهر شباط سنة 1972 بسنوات طويلة ، وهذا البطء يعود الى الحصار المضروب عليها من قبل الانظمة الاقليمية في مصر وفي كافة الدول العربية ، حيث قوبلت النظرية بالرفض من طرف الرقابة ولم تنشر الا في بيروت ثم حوصرت على نطاق واسع في كل الاقطار ..

من الحجج الاخرى الداعمة للاجابة بالنفي ما ورد في بيان طارق حول ماهية الفكر الطليعي وطبيعته الذي هو غير نهائي ومحل اختبار في بناء الوحدة الفكرية وفي مصيره عند الفشل في تحقيق أهدافه مثلما قال عصمت سيف الدولة : " ومن خلال هذا التنظيم الانتقالي ستتاح الفرصة كاملة لاختبار الفكر الطليعي ، ومدى قدرته على أن يحقق الوحدة الفكرية اللازمة لزوما لا يمكن تجاهله ، أو تخطيه لأي تنظيم قومي ، أو تتاح فكرة صقله أو إكماله أو تعديله خلال الممارسة بحيث يصبح عند مولد "الطليعة العربية" على أكثر قدر من النضج ، والتكامل ، والصلابة ، والوضوح ، وأن أي فشل لا يكون محسوبا على "الطليعة العربية "، فلا يهز الثقة ، وتتسع الفرصة مرة أخرى لمزيد من الاجتهاد الفكري والطليعي  " . .

والحجة الاخيرة المتعلقة بالتسمية وكما يبدو من توصيف وتعريف عصمت سيف الدولة نفسه " للطليعة العربية " انما يتعلق بالارتباط الموضوعي بين الوصف والموصوف أو كما قال في الفقرة السابقة بأن " أنصار الطليعة العربية هي صفة الموقف من التنظيم القومي ودعوته وأهدافه " .. وهكذا يبدو من خلال سياق الحديث عن الفكر الطليعي في بيان طارق أنه في علاقة مباشرة بالأهداف المطلوبة من وراء مرحلة الاعداد التي ستشهد نشرا لهذا الفكر ليس من أجل تحقيق الوحدة الفكرية بين صفوف الأنصار فحسب ، بل ـ وهذا هو المهم ـ من أجل تحقيق معايير موضوعية تختبر من خلالها الصلابة النضالية المطلوبة عقائديا وحركيا لفرز المناضلين من الكوادر والقياديين حتى يكونوا طلائع متقدمة في صفوف أمتهم يتحركون بكل وعي ومسؤولية بقطع النظر عن مصادر هذا الفكر ، وهذا تقريبا ما عبر عنه عصمت سيف الدولة في الوثيقة المذكورة سابقا وفي بيان طارق ايضا حينما قال : " وبهذا ينبثق التنظيم القومي من الجماهير العربية ذاتها صاعداً خلال مدة محددة من هذه القاعدة الجماهيرية لينتهي بالمستويات العليا حتى القيادة القومية ، بحيث أنه في نهاية المرحلة الانتقالية يكون قد تحققت في هذا التنظيم قاعدة من الجماهير الواعية بالفكر الطليعي ، والمدربة على العمل معا في سبيل غاية واحدة ، والمصقولة والمفرزة خلال العمل العقائدي والنضالي في فترة الأعداد . في نهاية تلك الفترة يمكن أن يتكون من أصلب عناصرها القيادية مؤتمر قومي تأسيسي تنبثق عنه " الطليعة العربية" تنظيما قوميا " ..... " و هذا ذاته سيفرز المناضلين أيا كانت مواقعهم ، لأن مدى الوعي سيتحدد بمدى مقدرة الواعين على التأثير في مواقعهم بدون أوامر قيادية . أي أنه من خلال مراقبتهم و هم يتحركون في كل الظروف بدون توجيه يمكن بسهولة معرفة إلى أي مدى يوفر وعيهم العقائدي في تصرفاتهم ، ومواقفهم الذاتية ، أي يمكن معرفة مدى التزامهم العقائدي قبل معرفة مدى مقدرتهم على الانضباط التنظيمي ، وهذا في منتهى الأهمية بالنسبة إلى التنظيم القومي ، لأن القيادة التنظيمية هي التي تأخذ عادة القرارات الحركية ، و تقوم القواعد بتنفيذها ـ اتكالا ـ على أن القيادة قد أخذتها في حدود العقائد التي تربط ، أو من المفروض أن تربط ، القواعد بالقيادة  "..

من الواضح أن فهم فكرة الفرز عند الدكتور عصمت سيف الدولة ليست بالهينة ، وهي لا تكتمل وضوحا الا بقدر ما نستقيه ونجمعه من كتاباته ومواقفه المتصلة بهذا الموضوع ، على أن نكون حذرين كل الحذر من أي تعسف أو تأويل لا يجوز أن ننسبه اليه وهو لم يعنيه ..  ومن ناحية أخرى فان مفهوم الفرز ـ كما أثاره الدكتور عصمت سيف الدولة ـ على صلة مباشرة بموضوع غير عادي يهم ذلك المشروع الذي آمن به ملايين العرب الوحدويين الذين يسعون لتغيير واقع الحياة في الوطن العربي ، فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون خاضعا لنزوات الأفراد وأهوائهم وهم يؤوّلون أقواله دون رجوع الى سياقاتها ومنابعها الأصلية ... ورغم أن هذا الموضوع غير متوقف على ما قاله الدكتور عصمت سيف الدولة ، إلا انه لا يعنينا ما يقال فيه إلا بقدر ما يتردد منسوبا إليه بين صفوف الوحدويين ..

وفي هذا الاطار ، وبناء على ما تقدم من عرض نستطيع كخطوة أولى أن نقول بأن الفرز ـ كما فهمنا من الدكتور عصمت سيف الدولة ـ يظل قائما من الناحية الفكرية العامة على فرز المؤمنين بوحدة الوجود القومي وبكل ما يترتب عنه من الالتزام ببناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية في بعدها الاستراتيجي بقطع النظر عن الجوانب التكتيكية التي يفترض أن يحدّدها ـ مشتركين ـ كل المؤمنين بهذا الهدف على ضوء الممكن خلال الحركة والممارسة الميدانية الخاصة بكل مرحلة .. وهو ما يحيلنا الى الناحية الثانية العملية  وهي تظل قائمة ـ كما فهنا أيضا ـ على أساس فرز الأساليب العملية وتنقيتها من كل شبهة إقليمية معيقة لتلك الغاية حتى لا تتحول الى قناعة تستدرج الوحدويين الى شراك الإقليمية البغيضة .. أما ما عدا ذلك وما سواه من المواقف والتأويلات الخاصة بالأحداث والمتغيرات فهو متروك للاجتهاد على قدر المساواة والحرية بين كل المؤمنين الصادقين بهذا الهدف الاستراتيجي العظيم والعاملين على تحقيقه في كل الساحات ، وفي كل مراحل البناء دون تبخيس أو تجريم أو تشكيك فيما يبذلونه في الواقع وفقا لاجتهاداهم إن كانوا في حالة التعدد التنظيمي ، أو في حالة الوحدة  .. اذ أن الغاية الأولى والأخيرة من الحديث عن موضوع الفرز ليس إلا ما يفيد المشروع القومي الذي لا يستطيع ان يحتكره طرفا لنفسه قبل قيام الحركة العربية الواحدة ، الممثل الشرعي والوحيد لهذا المشروع ..

ألا يكفي ما تقدم من قرائن لبيان الغرض من الحديث وقد أتينا على تتبع آثارها في كثير من أقوال عصمت سيف الدولة وأفعاله التي انتهت بنا الى تحديد هذا المضمون ؟

بلى .. ولكن دعونا نستمر في الحديث أكثر حتى نصل الى فهم غايته بشكل قاطع  .. ؟

لقد عرضنا من قبل موقف عصمت سيف الدولة الواضح من المضامين الفكرية وتأكيده على ما اسماه بنفسه " الخط الفكري الشامل " ، ولكن من الضروري في البداية أن نتوقف عند ملاحظة مهمة ، حيث يبدو للمتأمل من هذا التأكيد وكأنه يتجاهل منتوجه الفكري ، مما يجعلنا نطرح سؤالا على غاية من الأهمية : لماذا كان الدكتور عصمت سيف الدولة  يؤكد على عدم توخي اسلوب الالزام باي افكار مسبقة للطليعيين الذين كان يتوجه إليهم بالحديث عن الخط الفكري الذي كرس له حياته في بلورة أسسه ومنطلقاته وغاياته وأسلوبه على مدى ثلاثين عاما أو أكثر ، وفي المقابل نجده يطلق تلك المقولة الشهيرة منتصف الثمانينات في حديثه " عن الناصريين واليهم " : "  أريد أن أقول بأكبر قدر من الوضوح ، أنني كنت ولم أزل على يقين يتحدى أي شك بأن " الناصرية" هي " نظرية الثورة العربية " . وأن الناصري هو من يقبلها ويلتزمها وينميها بخبرة ما أنقضى من سنين الردة ولكن طبقا لمنهجها ، ومن منطلقاتها ، إلى غايتها ، بأسلوبها . وأن من يناقضها منهجا أو منطلقا أو غاية أو أسلوبا لا يستحق عندي على أي وجه أن ينسب إلى الناصرية ولن تثبت نسبته إليها ولو كانت بيده شهادة موقعة من عبد الناصر شخصيا  .. "؟ ألا يعتبر مثل هذا القول الصريح مناقضا لما أكد عليه في بيان طارق ؟

لا شك هنا أن المسألة حول هذا الموضوع بدأت تتشعب وتأخذ أبعادا مختلفة على عدة مستويات ..

في المستوى الأول نجد بعدا أو مفهوما خاصا بالسياق الثوري الذي أسس له الدكتور عصمت سيف الدولة في علاقة بالأهداف الإستراتيجية للمشروع القومي ، كمشروع فكري تتجلى فيه كل مبادئه الثابتة ، وتظهر فيه مواقف المفكر والداعية الذي شغل نفسه طوال حياته بالعمل من أجل هذا المشروع ، وهو المشدد باستمرار على التناقض الجذري بين القومية والإقليمية  في الفكر والممارسة ، الحريص بشكل دائم على تنقية هذا المشروع من أي أسلوب إقليمي ، المؤكد على فشل أي أسلوب من هذا النوع في تحقيق الوحدة أو حتى في تحقيق فائض من الرخاء للجماهير العربية في ظل التجزئة .. وهذه المواقف لا تستحق أي عرض لتوضيحها لأنها متناثرة في كل كتاباته ومحاوراته ، وهي الأساس الذي أقام عليه مشروعه .. وفي هذا الإطار نعتقد أن مقولته السابقة تتنزل في هذا السياق ، وربما حينما ندقق في ما صرح به في هذا الكتاب سنجد أنه كان يرغب في الإفصاح عن ذلك الموقف منذ زمن كما سنرى .. 

ولعل هذه الناحية على درجة كبيرة من الأهمية .. إذ أن عصمت سيف الدولة مفكر وليس سياسي فحسب .. تحدث بكل موضوعية في كل القضايا المطروحة في الوطن العربي وصاغ منها نظريات ومواقف عقائدية صلبة ، وأصبح رائدا وداعية لما يعرف في الساحات العربية بالفكر القومي التقدمي .. وهو حينما يطرح أفكاره على الملأ يطرحها بشكل قاطع وحاسم كأسس صلبة لمشروع له دعاة كثر غيره وأتباع من المحيط الى الخليج .. فهو لا يلزم أحدا بما يقوله او ينشره للناس ولكنه لا يستطيع أن يطرحه الا على هذا الوجه القاطع .. ومن ذلك مثلا انه قام بضبط خمس قواعد حاسمة وواضحة مبنية على اسس منهجية دقيقة في تعامل الحزب القومي مع القوى الاخرى في الداخل والموقف منها ومن الدولة أيضا باعتبارها من القوى التي يتعامل معها وكذلك مع القوى خارج الدولة ، وقد جاء هذا في موضعين ، في كتاب الاسلوب وفي كتاب الطريق ـ 2 ، يختمه بالقول مؤكدا على دور هذه القواعد في فرز القوى من تلك النواحي التي ذكرناها : " ان معرفة القوى وموقفها وتحديد موقف من كل منها يمثل القاعدة الثالثة في نظرية الاسلوب . لا ينبغي للحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي ان يغفل عن اية قوة في الوطن العربي أو ان يقف منها موقفاً سلبياً ، ليكون قادراً في كل موقع وفي كل مرحلة أن يفرق بين الحلفاء والاعداء . وتفيدنا القواعد الخمس السابقة في فرز القوى وتحديد الموقف الصحيح منها على الوجه الآتي .. " .. ثم يذكر خمسة مواقف أخرى مترتبة عن القواعد السابقة  في التعامل مع القوى المعادية لاهداف النضال العربي بجميع اشكاله المتصلة بالديمقراطية والوحدة والاشتراكية وبطبيعة القوى المعادية وافكارها وأساليبها وعلاقاتها ..الخ .

أما معالجته لمشكلة " الحركة العربية الواحدة " التي تلقى إجماعا وتأييدا عاما بين مختلف المدارس القومية ، فهي مشكلة سياسية بالأساس لا شك أنها تحتاج الى أسس فكرية ومنطلقات وغايات لا يجب في نظر الدكتور عصمت سيف الدولة أن يتم تجميع الناس حولها بناء على أفكار مسبقة ، حفاظا على حرية التفكير والاختيار ، وتكريسا لاسلوب الديمقراطية كضمان وحيد لتجنيب هذا المشروع أي منزلق خطير يقود الى الفشل .. لذلك رأيناه في بيان طارق وفي الوثائق التفسيرية التي جاءت بعده ، وفي حواراته مع الناصريين في مصر ، ومع فصائل المقاومة .. وكافة الشباب العربي الذين صادفهم .. كيف كان يدعوهم للالتقاء على الحد الأدنى من المنطلقات القومية الجامعة ، وإرجاء الحسم في النواحي الفكرية الى حين بناء التنظيم القومي .. وهكذا ـ على ما يبدو ـ فان موقفه الحاسم في تعريف الناصريين بتلك الصيغة القاطعة انما يأتي في اطار التعبير عن رايه ومفهومه للناصرية حتى يعرفه الناس استنادا الى قراءته للتجربة الناصرية ذاتها ، ولم يقصد ابدا ان يمارس الوصاية على الناصريين أو ان يسعى لالزامهم بما هو خاص بهم ..

ولهذا السبب أيضا كان المبدأ العام لمفهوم التنظيم القومي وخصائصه الموضوعية التي آمن بها ، يصده دوما على اتخاذ أي خطوة أو مبادرة تناقض دعوته القائمة على تلك الأسس والخصائص التي جاء بها بيان طارق  ، أي أن ما كان ـ في نظره ـ ملزما للطليعيين في إتباع ذلك المبدأ ، يُعتبر أكثر إلزاما له من أنفسهم .. الى درجة أنه كان يرفض التعجيل بقيام هذا التنظيم على غير تلك القاعدة ، أو قبل أن تتوافر ظروفه الموضوعية .. كما كان دوما يحرّم على نفسه أي تدخل أو وصاية في موضوع إنشائه .. وفي هذا المجال نجده يقول لمحاوره في مجلة الموقف العربي المصرية العدد 61 : " منذ ربع قرن وأنا أدعو الى أن التنظيم القومي هو آداة قيادة الجماهير العربية من منطلق وحدة الأمة الى هدف دولة الوحدة . ولكن التنظيم القومي ليس استجابة ذاتية لدعوة ما ، بل إن له مضامين موضوعية لا تنشئها إحدى الدعوات إذا لم تكن متحققة في الواقع  .

المضمون الموضوعي اللازم لقيام التنظيم القومي غير قابل للاكتشاف  إلا إذا قام التنظيم القومي فعلا ، أعني على وجه التحديد أنه مهما تكن الرغبة في إنقاذ الأمة العربية ومهما يكن فهم مشكل إنقاذها صحيحا ، ومهما يكن التنظيم القومي هو الحل العلمي الصحيح ، فان عدم قيام تنظيم قومي حتى الآن يعني أن طلائع الشعب العربي لم يصلوا بعد الى درجة من نضج الوعي والمقدرة على الحركة المنظمة تؤهلهم موضوعيا لتحمل مسؤولية بناء التنظيم القومي ... أما قبل ذلك فانه لن يقوم إلا مصطنعا ، وعندما يكون التنظيم مصطنعا لا يكون قوميا ، فلنصبر مع الصابرين ، ولندعو مع الدعاة ثم لنترك الشعب العربي يختار آداته " ..

والدكتور عصمت سيف الدولة يصرح بهذا الموقف بالرغم مما يحمله من قناعة راسخة بضرورة التقدم على خطى الفرز بين القوى العربية التقدمية في الوطن العربي والقوى الاقليمية الرجعية دون خوف او هروب حتى تصبح كلاهما قوى مفرزة ، ليس فيما يتصل مباشرة بصفوفهما المتداخلة فحسب مما يساعد القوى التقدمية على تحمل مسؤولياتها وهي لا تخشى الطعن من الخلف ، بل وحتى تصبح كل القوى مفرزة أمام الجماهير أيضا .. وفي هذا الجانب يقول في نفس الحوار : " وقد آن الأوان بأن تفرز القوى وأن تتحمل كل قوة مسؤولية مواقفها ، وان ترغم ـ إذ لزم الأمر ـ على أن تتحمل هذه المسؤولية وذلك بعدم السماح لها بالاختفاء وراء تعبيرات قد تصدق عليها وعلى  غيرها  من  القوى المختلفة معها " ... وليس هذا من باب قول الموقف ونقيضه بل هو دائما ـ وكما نرى في نفس الحوار ـ من باب تثبيت المبدأ والأخذ بمحاذيره في نفس الوقت ..

وفي هذا السياق ، فان ما يجب التفطن إليه في علاقة بهذا الجانب هو حرصه الشديد على تأجيل معارك الفرز التي لم يحن وقتها .. ومثل هذه الخلفية تظهر بوضوح في بعض المواقف التي يتعرض لها في محاوراته ولقاءاته المباشرة حين تطرح عليه بعض الأسئلة  فيتعمد تجنب الإجابة الصريحة عنها تفاديا لتداعياتها على مستقبل المشروع القومي ، ومنها الموقف الخاص بتعريف الناصريين حينما يلتقي بالشباب أو بالاعلاميين ..

والواقع فان مثل هذا التمشي لدى الدكتور عصمت سيف الدولة سواء من ناحية الحرص على ضرورة ملاءمة ظروف اقامة التنظيم القومي مع ظروف الوحدويين المتأثرة حتما بواقعهم ، او من ناحية التأكيد على التخفيف ـ مرحليا ـ من حدة الفرز في صفوفهم  يستحق التوقف لأنه على غاية من الأهمية ، وهو يعلمنا أن تأجيل بعض معارك الفرز وتغيير أساليبها من حين الى آخر صفة من صفات المناضل الفطن ، الصلب ، العارف بتكتيك المعركة ، الحريص على فرز الأولويات قبل الذهاب الى فرز الصفوف على غير اسس واضحة ، حتى لا تكون تلك المعارك عبءا مضافا لأعباء النضال اليومي حين تكون المهمات النضالية غير ملائمة للواقع الموضوعي أوغير متفقة مع المصلحة القومية .. 

ـ وفي الناحية الأولى يمكن ان نذكر موقفه من تصفية الحسابات مع الأنظمة الإقليمية وقت الأزمات التي تمر بها الأمة العربية على غرار ما جاء في رسالته الى الجماهير العربية بعنوان "ما العمل ؟ " بعد هزيمة 5 يونيو 67 وقد جاء فيها بيانا واضحا متصلا بمسالة بناء التنظيم القومي في علاقة بالظروف وأولويات المعارك الميدانية نذكره بكل إفاضة : " حذار من المثالية . إن تصفية الإقليمية واجب قومي حتى لا تجر أمتنا مرة أخرى للهزيمة والقتل والتدمير والألم والحزن والعار ، ولكن ليس الآن وقت تصفية الإقليمية . ليس هذا أوان البحث عما يجب أن يكون والتخلي عن الممكن المتاح ، إنما هو أوان استعمال الممكن الى أقصى حدود إمكانياتنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ... ولكنه على أي حال ليس أوان الانقضاض علي الإقليمية وسحقها أو إسقاطها بما يتطلبه هذا من صراع في الجبهة العربية . كما أنه ليس وقت تلفيق وحدة عربية بمنطق الإقليمية والإقليميين تحت ضغط الخطر القائم لتنفصل بعد زواله . وغدا أو بعد غد ، طال الزمان أو قصر ، سيصفي الشباب العربي حسابه مع الإقليمية المدمّرة . أما الآن فلتكن الدول الإقليمية أدوات في أيدي الشباب العربي لتكون لهم المقدرة بعد تصفية آثار العدوان على تحطيمها . إن الدول الإقليمية ـ الآن ـ هي الأدوات المتاحة في معركة لا تزال محتدمة ، فلتبق  أدوات ولكن لتكن الإرادة للشباب العربي . إرادة الصمود . إرادة الاستمرار في المعركة . إرادة إزالة آثار العدوان . وليفرض الشباب العربي هذه الإرادة على الأعداء والمتآمرين والمتخاذلين والمنهزمين جميعا .. فما العمل ؟

مرة أخرى ـ ودائما ـ من الممكن إلى ما يجب أن يكون . من الواقع إلى المستقبل . إن التخلي عن الاشتباك مع العدو في المعركة التي تدور الآن لمحاولة خلق تنظيم قومي يحقق الوحدة ليتدارك ما فات مثالية عقيمة . إن كثيرين من الانهزاميين سيفرّون من المعركة بحجة التحضير للجولة القادمة . إن هـذا هروب لأن الجولة القائمة لم تنته بعد والمعركة لا تزال مستعرة ... إن وحدة العدو، ووحدة الساحة ، ووحدة المرحلة تفرض عليكم أن تكونوا جبهة واحدة مع كل الذين يقاتلون . والذين يقاتلون فعلا فئتان مفرزتان عقيدة وغاية فلا تختلطان . أنتم القوى القومية التي تخوض في الأرض المحتلة معركة التحرر العربي في سبيل الوحدة . والقوى الإقليمية التي تخوض المعركة من أجل إزالة آثار العدوان أو من أجل تحرير فلسطين ثم لا يزيدون . أولئك حلفاء المرحلة رضيتم أم أبيتم وإن أبيتم فإنكم لا تخذلون سوى أمتكم ولا تعزلون  سوى قوتكم و لن تجديكم عزلتكم فتيلا . والحلف غير الوحدة فلا يجديكم في المعركة شيئاً أن تطلبوا وحدة المقاومة مضمونا وتنظيما . تلك وحدة تنطوي على أسباب الفرقة فلن تلبث حتى تمزق الصفوف كرة أخرى . إنما هي الجبهة العربية الموحدة بين القوى القومية والقوى الفلسطينية المقاتلة . كذلك فعل كل الذين أحرزوا من قبل النصر في معارك التحرير " .

طبعا مثل هذا الموقف يصبح على درجة قصوى من الأهمية اذا علمنا أنه يتزامن في الواقع مع إنشاء مشروع ما سمّي في تلك الفترة بأنصار الطليعة)  1966 ( الذي كان يمكن ان يُحدث منعطفا خطيرا في الأحداث وفي المستقبل العربي برمته بحلول سنة 1970.. ووجه الاهمية في هذا الموقف هو التحول الفوري في وجهة نظر عصمت سيف الدولة تجاه أسلوب مواجهة الواقع حينما حصلت فيه تغيرات جذرية استطاع أن يقدّر خطورة تداعياتها في الحين ، متخليا عن دعم تلك المهمة العظيمة كما هو واضح في موقفه السابق الصادر بعد عشرين يوما فقط من هزيمة 1967 ، للانتقال فورا من الدعوة " لأنصار الطليعة " الاعدادي الى الدعوة " لكتائب الانصار " المقاومة .. وما يهمنا في هذا الموقف هو ما يتصل بتغيير أهداف النضال من تغيير لمعايير الفرز وغايته .. فبعد أن كان الفرز يتم في الواقع حول شعار من هم الانصار الذي لا يقبل تداخلا في الصفوف ، اصبح الفرز حول من هم مع المواجهة والمقاومة وازالة آثار العدوان وكله مجال لتداخل القوى واختلاط الشعارات والمفاهيم ، لذلك دعى عصمت سيف الدولة في نفس الوثيقة لأن تكون المقاومة معيارا جديدا للفرز وتحويل ساحات القتال الى ساحات لمولد الطليعة العربية .. وفي هذا السياق يمكن ان ننقل تأكيدا على هذه الفكرة للاستاذ حبيب عيسى في منبر بساط الثلاثاء جاء فيه : " هكذا نلاحظ أن د . عصمت سيف الدولة تحسس الخطر منذ اللحظة الأولى لزلزال 1967 لكنه استمر في الهجوم على الواقع بهدف تغييره ، ودعا الشباب العربي إلى تشكيل ” كتائب الأنصار المقاتلة ” في معركة فلسطين ، وأن تنبثق ” الطليعة العربية ” من خلال التوحد في ساحة المعركة " ..

والاستاذ حبيب عيسى يذكر بعد ذلك اسبابا أخرى ساهمت في فشل تجربة أنصار الطليعة بعد الهزيمة منها رحيل عبد الناصر سنة 70 ثم انقلاب السادات على المشروع القومي والذهاب بمصر الى الموقع المعادي للقضايا العربية مسببا المزيد من الانهيار والهزائم والانكسارات ..

ـ وفي الناحية الثانية يمكن أن نذكر ما كان يبديه من تحفظات حول ذكر كثير من التفاصيل والأحداث والتجارب التي عاشها مع العديد من الأطراف القومية لما كان يرى فيها من ضرر بالمرحلة أكثر من نفعها حين لا تكون في وقتها .. بينما كان أحيانا أخرى يتهرب من الإجابة عن أسئلة كثيرة تطرح عليه ، وكان لا يرى نفعا في الإجابة عنها نذكر منها على سبيل المثال ما جاء في حواره مع جريدة الأنوار التونسية عام 87 حينما واجه سؤالا عن المرحوم العقيد معمر القذافي فكان رده الحاسم قاطعا لأي توظيف أو تأويل حين قال لمحاوره : " دعك من هذا السؤال وسؤالك أعرفه مسبقا ، وقد ألقوه علي عديد المرات ، وأنا أعرف الغاية منه ، وأنا لا أجيب عليه لكي لا يستعمل ضد الأمة العربية ، وكي لا يركبه البعض ويجعلونه مطية لتحقيق أهداف خسيسة  .." .

ونذكر منها ايضا تحفظه عن ذكر تفاصيل تهم القوى الناصرية في حواره المذكور تحت عنوان حوارات ناصرية حين قال بالحرف الواحد : " ان اجاباتي على هذه الاسئلة قد تعمق خلافات موجودة " ، مؤكدا فقط على دوره واسلوبه في مساعدة الناصريين على حسم خلافاتهم داخل الاطر التنظيمية حين قال : " انني لاحظت من خبرتي واتصالاتي بالشباب الناصري ، ان التركيز على المضامين او الصيغ الفكرية للناصريين بقصد الوصول الى تحديد لها ، كان من اسباب الخلاف بينهم وما يزال ، ولا يوجد ناصري شاب ممن قابلتهم ، وهم كثيرون ، لم يسمع قولي بان الصيغة الناصرية في المنهج والنظرية والاسلوب ليست مهمة فرد ولا مجموعة افراد ، ولكنها مهمة التنظيم الناصري الموحد " .. 

لا شك أن مثل هذه المواقف للدكتور عصمت سيف الدولة تجعلنا نستخلص ميزة نضالية وأخلاقية عالية تحيلنا مباشرة الى المستوى الثاني ، الذي يتميز به هذا المفهوم الخاص بالسياق المرحلي للمشروع القومي خلال كل مرحلة من مراحل النضال التي يخوضها الوحدويون العرب أينما كانوا في شتى التعبيرات والهياكل التنظمية التي ينتمون إليها في جميع مواقع الصراع مع القوى الإقليمية سواء في الأحزاب أو في النقابات أو في أي موقع بين صفوف الجماهير وهم يخوضون معارك الممكن ، من أجل تحقيق ما يحتاجه المواطن العربي من مكاسب مادية ومعنوية ، وهو يسعى للتحرر من الاستبداد والاستغلال والاحتلال وغيرها من القضايا المصيرية التي يواجهها في الواقع ، دون أن تؤدي بهم رغبتهم من تحقيق الفرز المنشود الى التشتت والتشرذم الذي يعيق هدفهم الاستراتيجي : بناء الآداة التنظيمية الكفيلة وحدها بتحقيق النصر ، حينما ينتقلون من التركيز على الثوابات الى البحث عن المشترك في المتغيرات .. 

وهكذا ، وحينما نعود الآن الى المقولة السابقة الخاصة بتعريف الناصريين ، يمكن أن نفهم السياق الذي جاء فيه إعلان موقفه الحاسم عندما حان موعده ، أي من ناحية التوقيت والمبررات التي ذكرها في مقدمة كتابه عن الناصريين واليهم وكأنه يريد أن يفصح عن كل ما أخفاه سنين طويلة وتجنب الخوض فيه حتى تتحقق تلقائيا كل النتائج المرجوّة ، فيقول : " وبعد فإن رأسي مليء حتى التخمة بما اختزنته فيه لأخرجه مكتوباً في أوانه ، ولم يعد العمر قابلاً للمراهنة على امتداده . لا بد إذن أن اكتب وأكتب ولو في غير معركة . ولن افتقد على أي حال معركة اشترك فيها بما اكتب ، فالعالم كله والوطن العربي مليء بالمعارك التي لا يعرف حتى المشاركون فيها كيف نشبت ولماذا ؟ .. وأينما وليّت الوجه فثمة معركة تتصل من قريب أو من بعيد بالأمة العربية . لقد قال المارشال ماك لوهان فيما كتبه عن ” الإعلام ” أن الأرض قد أصبحت بفعل تقدم وسائل الاتصال قرية . إذا كان هذا صحيحاً فإنها قرية يحكمها ملوك المال وملوك السلاح . وملوك الدعاية وملوك الصهاينة . والملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، هي إذن قرية يعيث فيها فساداً ذو القوة القادرين على البطش بالشعوب من أهلها . ونحن العرب ، لنا في هذه القرية دور ودروب وأغراض وأعراض لا بد من الدفاع عنها . المعارك إذن ، حتى العالمية تدور في دورنا ودروبنا فسنجد دائماً من يقاتلنا فنقاتله .. سقط العذر اذن . فلنكتب ولنستعن في المرحلة الأولى بما كتبنا من قبل ولم ننشره حتى لا نثير معارك في غير أوانها .. ولو لفترة قصيرة  .."

سقط العذر بعد أن انقضى العمر وفشلت كل محاولات النهوض بالناصريين وهو يتابع جهودهم ويدافع عنهم ويسدي لهم بالنصح اللازم دون وصاية حتى اقتربوا من كسب حقهم في التنظم ، لكنهم لم يصلوا الى انجاز المهمة التاريخية المناطة بعهدتهم  ، أو هكذا توقف الفرز في صفوفهم وهم يخوضون صراعا مريرا غير متفقين حول من هو الناصري ؟ .. فتشرذموا قوى وأحزابا  .. وكثير من هذا ذكره في  مواقع عديدة من الكتاب وهو يقدم قراءة معمقة لواقع الناصريين ، ويسرد أهم الفترات والتحولات التي شهدها  تاريخهم عبر كل الأجيال .. مؤكدا في البداية  وفي محطة أولى من الكتاب المذكور الحاجة الملحة لتنظمهم في ظل الردّة التي حلت بمصر وعادت بها سنوات الى ما قبل الثورة : " ارتد أنور السادات بمصر الدولة عن الاتجاه القومي لثورة يوليو الناصرية . أصبح إيقاف الردة وإنقاذ مصر من التردي الإقليمي بعد أن كانت مركز قيادة الحركة القومية ، أصبح هدفاً قومياً وأصبحت به مصر القضية المركزية للنضال القومي . هذا قلناه . ما لم نقله ، أن تحقيق هذا الهدف أصبح متوقفاً على حجم وتنظيم ونشاط القوى الجماهيرية التي تناضل من أجل تحقيقه . وقد استطاع فعلاً أن يستقطب الى ساحته قوى شعبية كثيرة ومتنوعة وإن لم تكن منظمة . كما استطاع ان يكسب مواقف بعض الأحزاب الرسمية . ولم يكن ذلك كافياً لإيقاف اندفاع دولة السادات الى الهاوية الفرعونية . كانت أعرض القوى وأكثرها مقدرة على التأثير فيما لو التحمت تنظيمياً . فناضلت هي القوى الناصرية  .." .

وستبقى مثل هذه الحاجة ملحة ليس في مصر وحدها ، بل في الوطن العربي كله ، حيث تتوافر كل الظروف الموضوعية لقيام الثورة العربية الشاملة ، ولا تؤخرها غير الشروط الذاتية للقوى التقدمية .. ومثل هذا الموقف  يتحدث عنه في حواره مع جريدة الرأي التونسية في نفس الفترة تقريبا ، أي منتصف الثمانينات ، وردا على سؤال محاوره حول الظروف الموضوعية للثورة في مصر والوطن العربي ، يجيبه بإسهاب طويل معرّجا على مشكلة الفرز : " إن  الشروط الموضوعية للثورة العربية كما عرضتها في نظرية الثورة العربية متوفرة في الوطن العربي وفي مصر باعتبارها جزء من الوطن العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية . والواقع أن انتباه كثير من الكتاب والمفكرين والقادة العرب الى محاولة الإجابة على كيفية وشروط نجاح الثورة العربية منذ نحو ثلاثين عاما ، كان يعني وعيا بأن الظروف الموضوعية للثورة متحققة .. وأعني بالظروف الموضوعية تحول الواقع الى عقبة في سبيل التقدم الاجتماعي في الوطن العربي .. كان  واضحا  للكافة بأن تطور الحياة في الوطن العربي تطورا متكافئا مع الإمكانيات المتاحة فيه  للشعب  العربي أمر غير ممكن بفعل الاستعمار الخارجي والتجزئة الإقليمية والاستبداد  والقهر  الاقتصادي  والسياسي داخليا . ولم يكن أحد يناقش في انه لا بد من ثورة عربية أولا ، بل كان الحوار دائرا حول كيف تقوم الثورة العربية وتنجح ..؟ وقد بلغ نضج الظروف الموضوعية حدا حمل المؤرخ الانجليزي " تونبي " على إبداء دهشته البالغة من أن الأمة العربية لم تتوحد رغم ضرورة هذه الوحدة ، وأنها ممكنة .. بل بلغ نضج الظروف للثورة العربية أن القوى التي كانت مرشحة لتقوم الثورة ضدها لتصفيتها تبنت هي شعارات الثورة وتصدرت بأساليبها التحقيق السياسي لمطلب ثوري . وأعني بتلك القوى الدول العربية ذاتها .. اذ هي المستهدفة  كعقبة من الثورة العربية الوحدوية .. وقد كان كل ما كتبته منذ عشرين عاما يستهدف حل إشكالية كيف الثورة ..؟  وقد انتهيت في هذا الى أن ما يعوق الثورة العربية هو غياب الشروط الذاتية وليس الموضوعية لقيامها .. بمعنى فشل القوى المرشحة موضوعيا لإشعال الثورة العربية الشاملة وقيادتها في القيام بهذا الدور التاريخي .. أول عناصر الفشل الذاتي ، أن الثوار العرب أي المرشحين موضوعيا لقيادة الثورة لم يفرزوا أنفسهم فرزا واضحا من القوى المعادية موضوعيا للثورة والتي ترفع شعاراتها في نفس الوقت ، فتحول بوعي أو بدون وعي دون قيامها .. ومن هذه الثغرة لم يستطع الثوار العرب أن يدركوا أن الثورة لا يمكن أن تقوم إذا تداخلت في قواها الدول العربية أو قيادتها بصرف النظر عن أشخاص هذه القيادات .. إذ أن أي قومي ثوري يصل الى حكم دولة إقليمية يجد نفسه بحكم الدولة الإقليمية ذاتها ورغم أنفه حارسا للإقليمية المتجسدة في حدود دولته وهوية شعبها ومصالحها  الإقليمية  ودستورها وحتى القانون الدولي وذلك ما تجسد في اتفاقية الدار البيضاء في 1966 عندما اتفقت جميع الدول العربية اتفاق صدق على ألا تتدخل دولة في شؤون الدولة الأخرى .. أي أن القادة الحاكمين في ذلك الوقت قد اكتفى كل منهم بمسؤوليته عن الشعب العربي في دولته وتخلى عن المسؤولية  القومية  التي تعني تماما شمولها الشعب العربي في كل مكان بصرف النظر عن  الدولة  التي يعيش داخل حدودها .. ولمدة عقدين سمح الثوريون العرب لأنفسهم بأن يكونوا تابعين للدول العربية أو لبعضها عبر إعجابهم  ببعض  رؤساء  الدول  العربية .. وقد أدّى ذلك الى نتيجة ثالثة هي عجز الثوار العرب عن أن يملكوا آداة الثورة وهي تنظيم قومي تقدمي ثوري واحد يلتحم فيه كل الثوار ويقومون  به ومن خلاله بتعبئة الشعب العربي وقيادته نحو أهدافه وما يزال هذا الوضع قائما الى الآن .. ثورة تحتاج الى آداة  ثورية وهم عاجزون عن ان يصنعوا من أنفسهم هذه الآداة . هذا على مستوى الوطن العربي كله وليست مصر ألا جزءا منه " .. 

واضح في هذه الفقرة ما يعنيه الدكتور عصمت سيف الدولة من حديثه عن الفرز ، وهو فرز صفوف الثوريين دعاة الوحدة من صفوف أعدائها أولا ، اذ هم أي الثوريون العرب كما قال : " لم يفرزوا أنفسهم فرزا واضحا من القوى المعادية موضوعيا للثورة والتي ترفع شعاراتها في نفس الوقت ، فتحول بوعي أو بدون وعي دون قيامها " ، أي ـ وهذا مهم ـ الثورة العربية الشاملة .. أو من بين صفوفهم ثانيا ، ومنهم من لم يدركوا " أن الثورة لا يمكن أن تقوم إذا تداخلت في قواها الدول العربية أو قيادتها بصرف النظر عن أشخاص هذه القيادات .. إذ أن أي قومي ثوري يصل الى حكم دولة إقليمية يجد نفسه بحكم الدولة الإقليمية ذاتها ورغم أنفه حارسا للإقليمية المتجسدة في حدود دولته وهوية شعبها ومصالحها  الإقليمية  ودستورها " .. وهو حديث عن الفرز ـ كما نرى ـ ذو وجهين وبعدين في نفس الوقت : وجه داخلي ووجه خارجي ، وبعد مرحلي وبعد استراتيجي ..

في المحطة الموالية من كتاب عن الناصريين واليهم يعرض علينا مشكلة الناصرين : " وهي مشكلة عويصة لأنها كانت تقتضي قبل أي بناء تنظيمي التحقق من أن كل فرد من القاعدة ناصري . وكل هذا التحقق يفتقد المعايير الموحدة كما يفتقد الحكم المقبول من الجميع أو حتى من الأغلبية ليتولى الفرز على ضوء تلك المعايير . باختصار كان مطلوباً لتسهيل مهمة تحول الناصريين أو أغلبهم إلى قوة منظمة الإجابة على سؤال : ” من هو الناصري ؟  " ..

نفس هذا الموقف نجده أيضا في الحوار مع جريدة الرأي ، وفي رده على سؤال حول من هم الناصريون  يقول لمحاوره : " الصعوبة في الإجابة على هذا السؤال هي تحديد ماهية الناصريين . فلا تنسى أن كل قيادات وكوادر ورجال وأحزاب الردة كانوا جزءا من دولة عبد الناصر .. أي لدى كل واحد منهم سبب تاريخي يستطيع أن يزعم به أنه ناصري . وأعتقد أن مكاسب كثيرة وقائمة ، ستظل قائمة الى ان يتحد الناصريون في مصر في حزب ناصري يكون هو محك الفرز بين   الناصريين   وأدعياء الناصرية " ..

وهو ما يعني ان على ضوء تحديد ثوابت الحزب وتوجهاته ومبادئه  العامة التي يحددها الناصريون ويتفقون حولها سيجد الفرز مكانه من الممارسة الطويلة ، أي على أسس موضوعية يحددها الناصريون جميعا في مؤتمراتهم الشعبية الديمقراطية وليس قبلها ، حتى لا تكون  أسسها المواقف الذاتية التي يحددها القادة المؤسسون .. اذ أنه خلال الممارسة الديمقراطية ستنمو تدريجيا وديمقراطيا كل الأفكار والمفاهيم المتعلقة بتفاصيل المشروع الناصري حتى يصل الى بلورة أسسه ومنطلقاته وغاياته دون فرض مسبق من أحد .. وهذا على قدر من الأهمية .. لأنه يتطابق بالكامل مع موقفه الذي عرضناه سابقا ، في الوثيقة التفسيرية لبيان طارق حينما أكد على ضرورة أن تحسم المسائل الفكرية بعد إنشاء التنظيم وليس قبله ، حتى يكون معبرا عنه وليس عن مواقف من أسّسوه  من الصفوة أو القادة ..

وهكذا ، الى أن يصل في محطة ثالثة من سرد الأحداث الخاصة بالناصريين في كتابه عن الناصريين واليهم ، وهو يساير لسنوات طويلة تطور مستوى الفرز داخل صفوفهم مبينا حرصه على كف تدخله في شؤونهم ، بمشيئة منه أحيانا ، أو بمشيئة الشباب أحيانا أخرى ، بالرغم مما كان يحدوه من رغبة في التوجه إليهم بقول حاسم ، فيقول : " هنالك ، منذ البدايات المبشرة ، قدرت أن أوفي بواجب أعتقد أنني قادر على الوفاء به : أن أنشئ وانشر دراسة اجتهد في أن تكون علمية وموضوعية تجيب على السؤال : ” من هم الناصريون ” علّها تساعد الناشئة من الشباب على فرز قواهم واختيار رفاق نضالهم بدون مخاطر الاحتواء أو الاختراق أو بأقل قدر من تلك المخاطر .. فبدأت في إنشائه عام 1983 على ما أتذكر . فلما فرغت من كتابة جزء كاف منه أقرأته بعض الشباب الناصري الذين كانوا وما يزالون على صلة حوار مستمر معي . فاقترحوا تأجيل إتمامه ونشره متحججين بأنهم ، طبقاً لمقتضيات المرحلة ، وهم أعلم بها مني ، يرون أن الكتابة في هذا الموضوع ستضيف الى متاعب اتفاق الناصريين متاعب الخلاف حول إجابة مطروحة على السؤال : ” من هو الناصري ” . وإن الوقت الملائم لمثل هذا الطرح لم يأت بعد ، فلم أستمر في الكتابة تقديراً لموقفهم من ظروف هم أعلم بها مني لأنها ظروفهم .. وقد ثبت صحة تقديرهم فعلاً ، إذ استطاعوا بدون إجابة على السؤال المؤجل أن يقفوا على أعتاب التنظيم الذي استهدفوه .." .

ولكن هل يمكن الانتظار والسكوت الى ما لا نهاية ..؟؟

طبعا لا ..!! لذلك نجده يعود الى الحسم  في محطة أخرى من الكتاب ، مسترسلا في حديثه عن موضوع الناصرين ، مؤكدا مبررات ما دفع به في البداية الى تأجيل الحديث الحاسم ، ثم الى مبررات العودة لاستكمال القول فيما يجب أن يقال ، أي على ضوء ما انتهى اليه واقع الناصريين وقد منحتهم الظروف ما يكفي من الوقت لفرز صفوفهم من جهة ، وما أصبح عليه هو شخصيا في مرحلة متقدمة من العمر ، قدم عنها وصفا دقيقا  لحالته ، وهو يريد الوصول الى إنهاء هذا الحديث الحاسم من جهة أخرى .. ليقول : " فعدت إلى ما بدأت أكمله .. لأنشره حديثاً ” عن الناصريين وإليهم ” .. إسهاما بقدر ما استطيع في حوار بدأ همساً ولا بد من أن ينتهي إلى ما يحقق الغاية القومية من التحام الناصريين في تنظيم يحقق الهدف القومي الملح الذي أشرنا إليه " . .

وقد يبدو من اللافت فعلا ان نجده في الحوار السابق ـ وهو يتحدث عن مشكلة الناصريين ومرجعياتهم الفكرية ـ يصرح بموقف يؤكد عكس المعنى الذي فهمه الكثيرون ، مستعملا نفس العبارات ونفس الترتيب تقريبا ( منهجا وغايات واسلوبا ..!! ) ناسبا اياها ـ كنظرية ـ الى الناصريين حين قال : " وأرجو أن يؤجل الشباب العربي الناصري محاولة الإجابة على هذه الأسئلة إجابة نهائية الى ان يتوحدوا فيتحولوا من ناصريين الى قوة ناصرية منظمة تجيب على كل الأسئلة الخاصة بالتراث الفكري والاجتهادات الفكرية .. عندئذ ستكون إجابة القوى الناصرية الموحدة هي الجواب الصحيح الملزم للناصريين المميز لهم عن القوى الأخرى أو الأفراد الآخرين حتى لو ادعوا أنهم ناصريون .... وأنا واثق تماما انه عندما يحدث هذا سأكون أول من يتبنى نظرية الناصريين ومنهجها أيضا وأسلوبها وغايتها والاعتراف بأنها هي فعلا الناصرية ، وبصرف النظر عما اجتهدت في أن أصوغه في كتب وكتابات قبل ذلك ، وذلك لأنه الواقع بالنسبة لاجتهاداتي الفكرية أيضا لم تكن أبدا نظرية بل كانت محاولة لصياغة ما اعتقد انه آلام وآمال الشعب العربي .. " .. وهو ما يؤكد ـ دائما ـ نهجه الثابت في قول ارائه الحاسمة في الوقت المناسب وبالطريقة التي يراها مفيدة للقضية التي يدافع عنها بقطع النظر عن طرق معالجته للمتغيرات الظرفية حينما يتفاعل معها دون ان يناقض مبدأه ومنهجه ..

وهكذا لو تتبعنا مواقفه في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موضع حول هذا الموضوع لخلصنا الى استنتاج قاعدتين أساسيتين للفرز عند الدكتور عصمت سيف الدولة : قاعدة مبدئية إستراتيجية متعلقة بالمشروع القومي على المدى الطويل ، بيّن أسسها كاملة في كل الاثر الذي تركه وفي بيان طارق وما ورد فيه من تفسيرات جانبية هنا وهناك ، وهي تستوجب قول كل ما يجب أن يقال حتى يكون الطريق الى المستقبل واضحا بلا غموض .. وقاعدة مرحلية تكتيكية تقتضي فهم متطلبات كل مرحلة ، وإبداع الوسائل المناسبة لتحقيق أكبر قدر من النصر في المعارك اليومية وتستوجب فعل كل ما يجب فعله لتحقيق تلك الغاية .. نفس القاعدتين لو بحثنا عنهما في مواضع أخرى غير التي عرضناها لوجدناهما أكثر تجليا ووضوحا .. ولنعد هذه المرة الى كتاب الطريق  ..

بالعودة الى هذا المصدر ، سوف نعود الى الأصل ، أو المبدأ المتصل بالمدى الاستراتيجي للحركة القومية في هذه المرحلة .. فهو حديث حاسم لفرز المنطلق القومي من المنطلق الإقليمي كما يسميه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الكتاب ، وهو أيضا حديث من نوع خاص لأنه يبين القاعدة التي يجب أن يتم وفقها أي حوار .. وفي البداية نجده يستبعد من هذا الحديث كل المتسلقين والانتهازيين من القوى الرجعية المعادية للوحدة ، ليخص به القوى الوحدوية  دون سواها ، وكل حديث خاص من هذا النوع بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة لا بد أن يكون على قدر كبير من الثقة والاحترام والجدية والصراحة .. فيقول في هذا المجال مؤكدا على الناحيتين : " ان الحديث عن الطريق الى الوحدة العربية يعني أنه حديث مقصور على الوحدويين من العرب ، أي أنه ـ على وجه ـ حديث خاص . وللحديث الخاص مميزات يستمدها من أنه قائم على افتراض أنه حوار بين إخوة انعدمت فيما بينهم الغربة الفكرية على الأقل . وأنهم ـ على الأقل أيضا ـ رفاق نضال بحكم الإمكان . ولهذا تكون للحديث الخاص ـ عادة ـ منطلقات مشتركة ولغة مشتركة ودلالة مشتركة للألفاظ التي يدور بها . فهو منطلق "فرضا" من منابع فكرية واحدة الى غاية واحدة يبحث عن الطريق اليها لينطلق عليها المتحدثون كتلة نضالية واحدة . من هنا لا يتحوط الحديث الخاص ضد سوء القصد والعسف في التأويل لأنه حديث بين إخوة فلا يغدرون ولا يدلسون ، ولا يخشى الخطأ في الاجتهاد لأنه خطاب الى رفاق لا ينكر بعضهم على بعض حق الإسهام في سبيل مصيرهم المشترك فلا يستعلون ولا يستأثرون .. وكل هذا يبدو مفترضا بين دعاة الوحدة من العرب ، وحملة شعارها ، الذين لا ينقصهم ـ فيما يزعمون ـ الا معرفة الطريق الى الوحدة فيتحاورون .." .

ثم يواصل للمزيد من التوضيح : " غير أن ليس كل "فرض" صحيحا في الواقع . وسنرى هذا فيما بعد .. يهمنا الآن أن نؤكد أن الحديث عن "الطريق الى الوحدة العربية" غير موجه الى أعداء الوحدة ، سواء أكان مرجع عدائهم لها إنكار وجود الأمة العربية أصلا ، أو قبولهم التجزئة ، أو الجهل لا أكثر . ومن الجاهلين من لا ينكرون وجود الأمة العربية ، ولا ينكرون أن التجزئة من صنع الاستعمار الذي يحاربونه . ولكن الفكر اللاقومي يضللهم فلا يعرفون علاقة الوجود القومي بالوحدة السياسية  .. كل ذلك لا يعنينا الحديث إليهم في هذا الحديث الخاص .." .

هكذا إذن .. هذا الحديث هو حديث خاص ، غايته كما قال : " أن نكشف ما وراء تلك الظاهرة المفزعة القائمة بين دعاة الوحدة العربية أنفسهم . انهم ـ فرضا ـ يسلمون بوجود أمتهم العربية ، وبانتمائهم إليها ، ويسلمون بأن تجزئة وطنهم العربي الى دول ودويلات عدة يجب أن تزول ، ويستهدفون الوحدة العربية فيما يقولون وبرغم هذا كله لا يتفقون على الطريق الى تحقيقها . فلعلنا لو عرفنا لماذا يختلفون أن نعرف فيم يختلفون . وتكون تلك مقدمة لازمة لفصل القول في الطريق الى الوحدة العربية .." .

من المهم في هذا الجانب أن نفهم ما قصده الدكتور عصمت سيف الدولة بمن يعنيهم فعلا في هذا الحديث الخاص ، ومنهم فئة من الإقليميين كما يبين لاحقا ، وبعد أن يستبعد كل من فقد وعيه وولاءه القومي وأصبح من أعداء الوحدة الذين يسميهم "بالقلة التافهة" يوافينا بالتوضيح : " أما الكثرة الغالبة من الإقليميين فهم أولئك الذين لم يبقوا على أصلهم القومي خالصا ، ولم تكتمل صفتهم الإقليمية تشويها ، فاختلطت الأمور في وعيهم فهم غير قادرين على إدراك التناقض بين القومية والإقليمية فاحتفظوا بقدر من الولاء للاثنين معا . وأصبح لهم بهذا موقف خاص من التجزئة والوحدة . فهم يقبلون التجزئة كواقع ولا ينكرون الوحدة كغاية . ولما  كانوا يعيشون في واقع التجزئة ويتمسكون به ولاء إقليميا لدولتهم الإقليمية ، وكانوا في الوقت ذاته يتطلعون الى الوحدة كمستقبل يرجونه ويعلقون ولاءهم القومي على تحقيقه ، فان القدر المتيقن من ولائهم يكون لدولة الإقليم . فهم يبدأون من التسليم بالإقليمية في تصورهم للوحدة ، فيأتي تصورهم للوحدة العربية تصورا إقليميا ، وعندما يتصورون الطريق إليها يتصورونه إقليميا أيضا .. ذلك ما أسميناه التصور الإقليمي للوحدة . " ..

ومن المهم أن نعرف أيضا أن هذه الفئة من الناس يسميهم الدكتور عصمت سيف الدولة " الإقليميون ـ الوحدويون " ، كما يسمي خلفيتهم بالـ " الإقليمية ـ الوحدوية " التي يقدم لها تعريفا خاصا يقول فيه : " فالإقليمية ـ الوحدوية ، ليست عقائدية ، بمعنى أنه لا يتوافر لها النقاء الفكري لتكون عقيدة قومية ، ولم يتوافر لها التكامل الفكري الإقليمي لتكون عقيدة وطنية إقليمية ، لهذا فكل الإقليميين غير عقائديين في تصورهم للوحدة العربية والطريق إليها .. ويترتب على هذا أمران : الأول أن ليس للوحدويين ـ الإقليمين خط فكري متميز يمكن أن يلزمهم تصورا فكريا واحدا للطريق الى الوحدة العربية . لهذا قد يجتمعون على الوحدة ولكنهم  يختلفون حتما في الطريق إليها . الأمر الثاني أن عدم الالتزام العقائدي في الموقف الوحدوي ـ الإقليمي يسمح بأن ينظم إليه أو يتسلل ـ وهو اصح ـ عديد من ذوي العقائد اللا قومية أي من أعداء الوحدة .. " ..

وطبعا نهاية مثل هذا التفكير كما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة أن : " تصورات الطرق الى الوحدة العربية من منطلق إقليمي لا بد من أن تتعدد بتعدد الأقاليم بحكم التجزئة ذاتها .." ، وأن " تكثر الطرق بما يضاف اليها من طرق ضالة عمدا .. " .. وهو يشرح كل تلك الطرق الرسمية كما يسميها بقطع النظر عمن يطلبها من الحكام أو المؤسسات أو المنظمات والأحزاب الإقليمية .. فطريقها واحد الى الفشل في تحقيق الوحدة حتى لو كانت النوايا صادقة لما فيها من بذور الإقليمية .. لذلك كما يقول في نهاية العرض لأغلب الأساليب الممكنة : " فلتسقط  الإقليمية " .. 

لكننا حينما نسترسل في متابعة هذا النهج الذي اتبعه الدكتور عصمت سيف الدولة في حديثه عن المنطلق الإقليمي ، نجده أيضا يتطرق الى فئة أخرى من الناس يسميهم " الرجعيون ـ الوحدويون " ويسمي أسلوبهم في طلب الوحدة بـ ـ " الطريق الرجعي الى الوحدة " ، وهم أولئك الذين يزعمون كما قال : " اننا أمة عربية واحدة لا شك في هذا ، وأن وحدتنا القومية لازمة لا شك في هذا أيضا ، ويمجدون الأمة والقومية والوحدة تمجيدا يتراوح بين الحنين الى عودة الماضي المجيد ، ووحدة التراث ، والتطلع الى الانتماء الى دولة قادرة على تصفية إسرائيل  ، ولهذا ـ هكذا يقول الحسين بن طلال مثلا ـ أنهم وحدويون حتى النخاع ، ويريدون الوحدة من جماع قلوبهم ، ومستعدون للفداء في سبيل الوحدة . ولكن يا أخي ـ هكذا يستدركون ـ قضية الاشتراكية شيء مختلف ، فان كثيرا من أخلص الوحدويين يصدهم عن النضال في سبيل الوحدة تلك الاشتراكية التي اقتحمت مسيرة النضال العربي وأصبحت عامل فرقة بين القوى الوحدوية .. " ..

من المهم أن نتوقف هنا بعد كل هذا العرض لنطرح السؤال التالي :  لماذا يقحم الدكتور عصمت سيف الدولة من سماهم بالوحدويين الرجعيين في هذا الحديث الجاد عن الوحدة .. أليس ذلك واضحا بما فيه الكفاية للوحدويين أصحاب العقيد القومية الواضحة .. أم هو حديث موجه أيضا لمثل هؤلاء وقد تولى من ناحية أولى ، الحكم بالفشل عن هذا الطريق معلنا أنه طريق مسدود .. كما تولى من ناحية ثانية ، الكشف ـ بما يكفي من الأمثلة ـ عما  يمكن أن يكون وراءه  من نوايا غير بريئة قد يكون بعضها بمرتبة الخيانة حين قال ان : " أول الطريق اللا اشتراكي الى الوحدة خيانة قومية عفنة .." ، وهي خيانة قد بين أسبابها في تفاصيل طويلة نكتفي منها بما جاء في هذه الفقرة  : " عندما يناقض أي طريق الى الوحدة مصلحة الجماهير الكادحة في الوطن العربي ، فهو طريق مشبوه ، مجرد من الولاء للجماهير ، أي مجرد من السمة القومية ولو رفع شعاراتها ، ولا بد أن يكون منطلقا من ولاء للرجعية الإقليمية المستغلة التي تحتمي وراء سدود التجزئة ، أو ـ وهذا هو الأصح ـ  من ولاء مباشر للاستعمار تقاضى أصحابه أجر العناء في الدعوة إليه مقدما .. " ..

يجيبنا الدكتور عن السؤال موضحا الغاية من ذلك العرض الطويل :

إنها أولا : " أمثلة لكشف اتجاه يدعو الى الوحدة ولا يعرف الطريق إليها " .

وإنها ثانيا ، ورغم أن الغاية كما قال : " غير مقصورة على أن نكشف الطبيعة الفاشلة في المنطلق الإقليمي الى الوحدة عن طريق اختيار الطرق التي تبدأ منه ، فإننا لم نقيّم أي طريق منها تقييما كاملا ولم نحاكم الإقليميين تماما ، بل أخذنا كل فئة منهم بمنطلقها الخاص ، وتتبعنا طريقها من منطلقه الإقليمي الى غايته الضالة أو المسدودة ليكتشف  الإقليميون بأنفسهم أنهم يبددون جهدهم في الوصول الى الوحدة العربية على طرق مسدودة . وإنهم إن فشلوا فليس مرد هذا أن أحدا قد خانهم أو ضللهم أو أنهم قد قصروا في الجهد المبذول على وجه أن يعوض في تجربة وحدوية مقبلة . لا ليس السبب كل هذا ، أو أي من هذا فلا جدوى من أن يخفوا فشلهم تحت ستار الشتائم والاتهامات التي يكيلها كل منهم لأخيه . ولا جدوى من العودة الى محاولة أخرى للبحث عن طريق آخر من ذات المنطلق الإقليمي ، إنها كلها طرق مسدودة بالفشل ، الابن الشرعي للإقليمية .. " . وهو ما يعني أنه حديث موجه أيضا الى بعض المخدوعين من الإقليميين .. لذلك يقول متحدثا عن الوحدويين الحقيقيين مؤكدا هذه الناحية ، وبذلك نصل نحن الى الغاية من كل هذا الحديث المستفيض الذي أردنا أن نربطه بموضوع الفرز :

" لا يعني هذا أن الوحدويين غير قادرين على تقييم هذه الطرق ومحاكمة أصحابها وكشف ما وراءها من دوافع أو محركات أو جهل مقيم ، كما لا يعني أنه لن يكون للوحدويين موقف من " الإقليميين" حاسم وصارم يوم أن تستعر معركة الوحدة على الطريق اليها . بل معناه أن الوحدويين يشعرون بولاء عميق للأمة العربية بما فيها بعض أبنائها الضالين لأنهم لا يعرفون ، وأن مسؤولية الوحدويين أن يأخذوا بأيدي الذين يستهدفون الوحدة ثم يخطئون في المنطلق ، وأن يسيروا معهم على الطريق التي يتصورونها حتى يلمسوا بأيديهم السدود القائمة عليها والتي تقطعها دون الوحدة ، لعلهم بعد هذا أن يعودوا معا الى بداية صحيحة تحدد لهم الطريق الصحيح الى الوحدة العربية .. " ..

الى أين يأخذونهم يا دكتور ؟؟

الى المنطلق القومي .. بكل خصائصه وهو منطلق " مناقض تماما للمنطلق الإقليمي من حيث المضمون الفكري والسمة العقائدية والسلوك الحركي " .. فهو قائم على :

ـ " الوعي بأن الوجود القومي )الأمة( طور من التكوين الاجتماعي متقدم على التكوين الذي سبقه ويتميز عنه أساسا بوحدة الأرض المشتركة  )الوطن القومي( "..

ـ " ان التكوين القومي ذاته كان مرحلة حتمية تمت خلال ممارسة الحياة عبر التاريخ كحل لمشكلات اجتماعية عجزت التكوينات الاجتماعية السابقة عليه عن أن تحلها .... وبالتالي ... فان مشكلات الأفراد والأجزاء من الأمة الواحدة لا تجد حلها السليم ، الا داخل الوجود القومي التي هي جزء منه ... وهو ما نعبر عنه بوحدة المصير القومي "..

ـ " ان الوحدة الموضوعية لمشكلات الأفراد من الأمة الواحدة .... تحتم وحدة الدولة ، وهو ما نعبر عنه بالوحدة السياسية " ..

ـ " أن الأمة العربية اكتملت وجودا واتحدت مصيرا وكانت لها دولة واحدة قبل أن يقتطع الاستعمار منها أجزاء ثم يفرض عليها التجزئة ..... وبالتالي فان الوحدة العربية تعني إلغاء التجزئة الطارئة على الوجود القومي " ..

ـ " ان التجزئة غير مشروعة موضوعيا لتناقضها مع وحدة الوجود القومي ... وهي غير مشروعة سياسيا لأنها ثمرة عدوان غير مشروع .. وبالتالي فان الولاء أولا وأخيرا للأمة العربية ككل ، ولا يستحق أي إقليم الولاء الا لأنه جزء منها .." ..

بعد هذا ، لا يهم ان كانت حقيقة الوجود القومي قد بلغها أبناء الأمة الواحدة عن طريق "مناهج المعرفة " أو من خلال " ممارسة الحياة ذاتها " .. المهم أن يعرف كل الذين وعوا هذه الحقيقة السبيل لتحقيق الوحدة ؟؟ وهي لا تتحقق إلا إذا تحول ذلك الوعي الى سلوك وممارسة وتخطيط وتنظيم .. ونكون قد وصلنا مع الدكتور عصمت سيف الدولة الى تحوّل نوعي في الحديث الذي يقول فيه : " إننا عندما نعرف ما هو حق يتغير الوضع تماما . فها هنا وجدنا الذي كنا نبحث عنه تحت إلحاح الحاجة إليه ، فلا يبقى إلا أن يؤدي وظيفته . ان الخطوة التالية لاكتشاف حقيقتنا القومية أن نجسدها سلوكا ذاتيا عن طريق التزامها في الفكر والعمل  . عندئذ نصبح نحن والحقيقة التي اكتشفناها شيئا واحدا ، وبعد أن كانت حقيقة موضوعية تصبح مجسدة فينا أنفسنا . عندئذ تصبح القومية العربية عربا وحدويون . وعندئذ يتضح تماما أنه مهما كان حديثنا عن الطريق الى الوحدة العربية منشورا كاملا فهو حديثنا الخاص . فلا يفقد الوحدويين أنفسهم في زحمة المتطفلين .. " ... وهكذا يصبح الحديث عن الوحدة العربية حديثا عن قضية مصيرية مرتبطة بالمستقبل .. ويصبح الوحدويون العرب أصحابها وحماتها ودعاة تحقيقها جيلا بعد جيل ، من منطلقها القومي الذي وعوه ، الى غايتها : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. بآداتها وأسلوبها : الحركة العربية الواحدة .. فهو اذن حديث خاص أهدافه معروفة ، ولا يبقى غير تدبر المهام .. وعلى هذا الطريق الطويل الشاق يأتي الحديث عن الفرز من أجل تحقيق تلك الغاية البعيدة  .. وهذا ما ينهي به الدكتور عصمت سيف الدولة حديثه عن المنطلق الإقليمي والمنطلق القومي الذي يتخذه حدا فاصلا لفرز الصفوف فيقول : " هكذا تضيق حلقة المتحدثين عن الطريق الى الوحدة العربية أو يجب أن تضيق . فبعد أن خرج منها أعداء الوحدة منذ بداية الحديث يجب أن يخرج منها ـ من الآن حتى نهايته ـ أولئك الذين يستهدفون الوحدة من غير منطلقها القومي ، ليبقى مقصورا على المنطلقين إليها من إيمانهم بأمتهم وولائهم لجماهيرها . فالإيمان بالوجود القومي يبدد " افتراض " أن كل من يستهدف الوحدة العربية ذو حق في أن يسهم في البحث عن الطريق إليها أو أن يشترك في المسيرة العربية على ذلك الطريق . وهو " الافتراض " الذي بدأنا به وصبرنا عليه حتى هذا الموضع ليرى الذين يقبلونه أنه هباء موهوم . هنا لا بد من أن تفرز الصفوف باسم الأمة العربية ، ليقف الوحدويون على منطلقهم القومي صفا واحدا مطهرا في مواجهة كل الذين ينكرون وجود هذه الأمة فيحاربون وحدتها ، والذين لا ينكرونه ثم يريدون الى الوحدة طريقا يبدأ من منطلقاتهم الإقليمية ...... وعندما تصبح صفوف القوميين نقية فإنهم يعرفون طريقهم من منطلقهم القومي الى الوحدة العربية .. " .

كل ما يأتي بعد هذا في كتاب الطريق من حديث عن الثورة وآداة الثورة وخصائصها وعلاقة الثوريين العرب بالسلطة وبالدولة الإقليمية ... وغيرها من القضايا والمهام المطروحة عليهم .. إما انه مطروح لبيان قصور في فهم مضامينه أو أنه حديث نوعي متقدم في ظل وجود التنظيم القومي .. وكل حديث عن الفرز في علاقة بهذا الموضوع .. لا معنى له لأنه سابق لأوانه ، وخارج عن سياقه الزمني الا فيما يتصل ببعده الاستراتيجي في بناء هذا التنظيم .. حيث تطرح عشرات .. بل مئات المهام على الثوريين العرب قبل بلوغ تلك الغاية انتصارا للمنطلق القومي ، من زمان الى زمان ، ومن مكان الى مكان ، سيرا على الطريق القومي الى الوحدة المنشودة .. وجوهر ما يتصل بهذا الموضوع الالتزام بالمنطلق القومي على مستوى الفكر والعقيدة القومية العامة ، ثم بالطريق القومي الى تلك الغاية .. وسنحاول حوصلة كل ما يلزم به الثوريين العرب منطلقهم القومي وعقيدتهم القومية كما وردت في معناها العام في هذا الفصل من كتاب الطريق .. وهي تقريبا خطوط عريضة لن تلبث أن تتحول حتما الى مضامين للفرز من مرحلة الى أخرى .. وليس من القومية في شيء ، ولا من التقدمية أو الثورية  طرح أي محور منها خارج إطاره وظروفه ومعاركه الخاصة به كما بينّا سابقا في أسلوب عصمت سيف الدولة وممارسته .. ومن أبرز المضامين المحددة للمنطلق القومي :

ـ ان المشكلة الموضوعية التي يريد الوحدويون العرب حلها هي التجزئة ، والمشكلة هي التي تحدد دائما الطريق الى حلها وليست الأمنيات . ولما كانت التجزئة مفروضة على الأمة العربية ، فان حلها مفروض على الوحدويين العرب .. ولهذا فان التجزئة تحتم الثورة لتحقيق الوحدة العربية .. والمهم أن نعرف أن العنف ليس شرطا للثورة ، وان حدث فليس الثوريون العرب مسؤولون عنه ..

ـ ان الطريق الوحيد للوحدة العربية هي الثورة العربية الشاملة ، وان نجاح أي ثورة يكون مناط وضوح عقيدتها الثورية .. لذلك فان العقيدة القومية في بعدها الشامل وخصائصها الفكرية إنما تمثل جوهر الحلول لتلك المشكلات الموضوعية التي يطرحها الواقع العربي ، فهي بالأساس عقيدة قومية تحررية اشتراكية وحدوية .. ومهما تعددت العقائد في الأمة الواحدة ، ومهما كانت معارك الفرز التي يخوضها الثوريون العرب على طريق الوحدة العربية الشاملة ، فان العقيدة القومية في الأمة الواحدة لا تكون الا عقيدة واحدة مضامينها متعدّدة بتعدد مشكلاتها الأساسية .. يقول الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الجانب : " وقد تفرز الصفوف بقدر ما في الأمة من عقائد ويقتتل الناس من الأمة الواحدة تحت ألوية عقائدية مختلفة ألوانها ، فثمة القوميون وثمة الاشتراكيون وثمة الديمقراطيون .. الخ وهذا يعني أن المقتتلين جميعا على ضلال . اذ أن المضامين العقائدية وان تعددت في أمة واحدة فإنها حصيلة وجود اجتماعي واحد . وهذا يعني أن ثمة علاقة موضوعية بين تلك المضامين تحدد تأثيرها المتبادل . وان الصراع تحت ألوية العقائد في أمة واحدة لا يعني أنه صراع عقائدي ، بل يعني ـ انه صراع الجاهلين بوحدة الوجود الاجتماعي التي تجمعهم والتي تحدد في الوقت ذاته العلاقة بين ما يحملون في رؤوسهم من معتقدات ... وطبيعي أن أي ثورة تنطلق من مضمون عقائدي جزئي لتصوغ المستقبل في أمة واحدة ثورة فاشلة ، أي أنها طريق مسدود الى المستقبل . فلكي تستطيع الثورة في أي أمة أن تحقق غايتها لا بد من أن تتوافر لها ـ أولا ـ وحدة العقيدة ، تقابل وحدتها وحدة الأمة . ويقابل مضمونها المركب المضامين المركبة في الواقع ذاته ، ثم ـ وهذا بالغ الأهمية ـ تتكامل مضامينها وتتفاعل كمقابل لتكامل وتفاعل مضامين الحياة ذاتها . فوحدة العقيدة إذن لا تعني مضمونا عقائديا واحدا ولكن تعني عقيدة واحدة ذات مضامين عدة منبثقة من الواقع الموضوعي في كل امة ومقابل له .." ..

الواقع ان ما يعبر عنه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا الجانب الخاص بالعقيدة الثورية إنما هو ارتقاء بالمضامين الفكرية ليس من باب تقديسها لأنه يميز بين العقيدة الدينية والعقيدة الفكرية ، إنما يرفع من شأن الفكرة لتتحول الى مبادئ عليا راسخة في أذهان حامليها فلا يساومون عليها ولا يبدلونها مهما كانت التضحيات .. وهي في أبعادها الفكرية تقابل تماما ما أطلق عليه في سياقات أخرى المنطلقات والغايات .. حيث تنبثق المنطلقات من الواقع ذاته لتصاغ منها بعد إدراكها إدراكا موضوعيا تاما غايات النضال العربي التي هي بدورها ليست الا تعبيرا عن الحلول الممكنة  للمشكلات المطروحة في الواقع .. وهو ما يقوله في هذا السياق موضحا له حين يأتي عليه كله ، فيربطه بالعقيدة ومنزلتها : " ليست الأمة العربية استثناء من الأمم التي تعلمت من التاريخ ومن ظروفها الخاصة مضامين يرتفع اليقين بها الى حد العقيدة . فقد عرفنا المضمون القومي فيما سبق من حديث . وعرفنا معرفة اليقين أن الثورة طريق الوحدة ، وعرفنا المضمون الاشتراكي مما تعلمناه من التاريخ المعاصر ومما نعلمه في أمتنا من تخلف واستغلال . ونعرف من واقع أمتنا أنها مجزأة دولا . كما نعرف أن الاستعمار يفرض سيطرته احتلالا لأجزاء من الوطن العربي ، وأن جزءا منه قد اغتصبه الصهاينة وأقاموا عليه دولة إسرائيل . كل هذا ثابت لدينا ثبوتا مطلقا لا شك فيه ، لأنه الواقع الموضوعي الذي نعيشه . وكل هذا يرتفع بثبوته الى مستوى المضامين العقائدية القادرة على تحريك الثورة في الارض العربية .. " .. ثم يضيف بعد ذلك وبشكل قاطع تطابق العقيدة الثورية مع منطلقاتها وغاياتها فيقول : " لهذا فان وحدة العقيدة لازمة لأية ثورة في الوطن العربي أيا كان الشعار الذي تحمله . ووحدة العقيدة هنا تعني أن تكون الثورة تحررية قومية اشتراكية معا . وأن تحتفظ بهذه الوحدة العقائدية طوال مسيرتها الثورية . ان هذه الوحدة العقائدية هي التي ستضيء طريق الثورة في كل خطوة ، وتحدد موضع التقدم في الخطوة التالية .. " .. وهو ما يعني بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة أنها عقيدة من أجل وحدة الممارسة ونجاحها معا .. أي أن غايتها هي المحددة لطبيعة الفرز وليس العكس ..

ويبقى جانب مهم عند الدكتور عصمت سيف الدولة فيما يخص فرز الصفوف من الناحية الأخلاقية .. فبعد تجربته الخاصة مع من خدعه نتيجة لعدم اكتمال عقيدته القومية بالجانب الأخلاقي نجده يطلق تحذيره في تلك الرسالة الموجهة للشباب القومي في تونس منتصف الثمانينات قائلا قولته الشهيرة المتداولة : " لقد كان توفيقا ان أخصص الفصل الأخير من كتاب " أسس الاشتراكية العربية " للحديث عن أخلاق الطليعي . ولكن ـ هناك ـ كنت أريد أن اثبت أن منهج جدل الإنسان قادر على ان يفسر لنا تفسيرا علميا تلك الأخلاق التي ربانا عليها تراثنا الروحي ، ومع ذلك كيف يمكن الاختبار ؟ الحمد لله على ان التنظيم القومي لم يؤسس من قبل حينما كان عشرات ومئات بل آلاف يرشحون أنفسهم للانخراط فيه يوم أن كان عبد الناصر يدعو له ، ويحاول أعوانه تأسيسه . فلما مات عبد الناصر انقلبوا يأكلون لحمه ميتا . وحمدت الله على ان دعوت في بيان طارق الى أن يسبق تأسيس التنظيم القومي مرحلة إعداد يختبر فيها الناس خلال نضال حقيقي دفاعا عن الشعب العربي ضد القهر الإقليمي فلا يجتاز الإعداد الى التأسيس الا قومي الفكر ، تقدمي الاتجاه ، وحدوي الغاية .. صلب الخلق . هكذا كنت أفكر بينما كان محمد عبد الشفيع يدلي بأقواله المذهلة .. ومنذئذ حفظت الدرس ودعوت الشباب الى أن يحفظوه . ولأن الدرس كان في ظروف قاسية فقد تبدلت عندي أولويات المقاييس : صلابة الخلق أولا ، وحدوية الغاية ثانيا ، تقدمية الاتجاه ثالثا ، ثم قومية الفكر رابعا وأخيرا .. أرجو أن تتأمل هذا الترتيب الغريب . فليس ثمة تنظيم في الأرض قد عرفه فالتزمه .. ولكن التزامه مسألة حياة أو موت بالنسبة للتنظيم القومي .. لأنه لا يوجد ولم يوجد تنظيم على الأرض يعد نفسه لتحقيق مثل ما هو مطلوب من التنظيم القومي : إلغاء مجموعة من الدول وإقامة دولة واحدة ، في ظروف عربية ودولية معادية جميعا لدولة الوحدة العربية ... صلابة الخلق أولا ، ومن هو على خلق يصدق إذا قال ان غايته الوحدة ، ومن كانت غايته الوحدة فهو تقدمي الاتجاه ، ثم يأتي الفكر القومي ليبرر ويفسر ويعمق منطلقات المسيرة وغايتها ، فان آمن به من هو على خلق فقد صح إيمانه وصدق ... أما صاحب الفكر القومي ولو كان مبدعا فهو آخر من يرجى منه في تأسيس التنظيم القومي إلا أن يكون ـ أولا ـ على خلق قويم .. " ..  

الفرز إذن عند الدكتور عصمت سيف الدولة ليس غاية في حد ذاته ، بل هو آداة لتحقيق غاية عظيمة ، وهو فرز واحد على قاعدتين متصلتين ، قاعدته الأساسية الأولى أن يؤدي على المدى الاستراتيجي للحركة القومية الى ترسيخ المنطلق القومي عقيدة والطريق القومي أسلوبا وصولا لبناء آداة الثورة العربية كما يجب أن يكون تحقيقا  لأقصى غاياته : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية وفيه قول فصل .. وقاعدته الأساسية الثانية أن يؤدي على المستوى المرحلي الى بناء ممارسة نضالية سليمة خلال كل مرحلة من مراحل النضال حتى الوصول الى تلك الغاية بأكبر قدر من النجاح ، وفيه مجالات واسعة لسعة الاجتهاد كما تقتضيه شروط  أي نجاح مطلوب ..

فهل هناك من يطلب المزيد من الحديث عن الفرز ؟ .

سنرى لاحقا كيف انه يشمل به الماركسيين أيضا ..!!

اما بالنسبة لمصطلح " السفود " الذي استعمله الدكتور عصمت سيف الدولة على صفحات مجلة الشورى بداية السبعينات ، فقد كان الغرض من استعماله واضحا منذ البداية حينما قال : " اريد من كتاب الشورى ان يفهموا اننا نشوي لننضج لا لنحرق هل في هذا عيب ؟ ".. وقد كان رحمه الله يعتمد فيه مع القوميين او مع غيرهم اسلوبا راقيا : موجها ، موضحا ، ناقدا ، مصححا ، ناصحا ، مقترحا ، مثمنا ، جادا ، غاضبا او مازحا احيانا  ..... وهذا من جهة ، وطارحا اضافات فكرية منهجية لاغناء الفكر القومي من خلال ما يدسه في الحوار من مواقف وافكار جديدة من جهة اخرى ، ولكنه لم يقصد ابدا الانتقاص او الاتهام او التشهير او التخوين لمن يخطئ في الاجتهاد .. وقد كان هذا الاسلوب واضحا في رسالة لرئيس تحرير مجلة الشورى وهو في اشد لحظات التاثر جاء فيها : " ... وانني لحزين ، اخشى الا اطيق صبرا على الشورى فاطفئ النار واحمل السفود واعود الى الصمت ، لقد دعوتني فاستجبت وكتبت ، كنت سعيدا اذ التقيت بالكاتبين من الشباب العربي على صفحاتها ، ادير معهم حوارا جادا مرحا ، اخفف من جهامة النقد الجاد بما ادسه فيه من معارف تثير غبطة الاكتشاف . ابذل في هذا جهد ،" الخاطبة " . تلك التي تحبب الناس في الناس ليصبحوا ازواجا . كنت اريد ان يقترن القراء بالشورى قران حياة من مدخل الحب ، هذه هي المرة الثالثة التي احاول الكتابة فيها ، واني لحزين ، لا استطيع ان اصطنع المرح فلا استطيع ان اكتب ما يثير الغبطة . لست قادرا على كل ما تقدر عليه الخطابات . ان في الشورى ـ عروس القراء ـ عيوبا تهدد الخطبة بالفسخ .... " 

اما غير القوميين الذين يختلف معهم فقد رايناه ينصف الى حد بعيد كل من يحاوره في افكاره حينما يستشهد بها او حينما يفسرها ويؤولها ليرتب عليها ما تنتهي اليه مدلولاتها طبقا لمنطقها الداخلي كما حدث مع الكثير من المفكرين الماركسيين والمفكريين العرب والغربيين في كثير من محاوراته الفكرية .. وحتى الذين شدد عليهم بالقول او بالنقد في بعض الاحيان ، فقوله لم يصل ابدا الى حد الرجم بالغيب ، ولا الى التخوين او التجريح الشخصي .. ولعل من اكثر ما قاله في هذا الجانب هو رده على نخبة من الماركسيين المتحاورين على صفحات مجلة الطليعة ، بداية السبعينات ، متحدثين في موضوع الوحدة .. وقد عرف ذلك الرد تحت عنوان " اعتاقة من اجل الوحدة " .. حيث وجدناه بعد ذلك الكم من الجلد ، يخاطبهم : " يا اخ فلان ... " ويا دكتور فلان .. " ... مثمنا مبادرة الحوار .. حتى انتهى الى القول الصريح معهم بانهم في خندق واحد مع القوميين نحو تحقيق تلك الغاية العظيمة : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، قائلا بكل وضوح : "  ومهما يكن اختلاف المنابع الفكرية بين العرب الاشتراكيين والاشتراكيين الماركسيين فلا بد أن يستمر بينهم الحوار .. ولا بد للقوميين الاشتراكيين أن يلتحموا حوارا أو حركة مع الماركسيين والمنتسبين الى الماركسية في الوطن العربي حتى لو أراد هؤلاء جميعا أو نفر منهم أن يقطعوا الحوار بالهروب منه أو الاستعلاء على الفكر القومي أو عدم الجدية في طرحه ونقده .. ولقد كان هذا الالتحام لازما طوال السنين السابقة ، وكانت القطيعة سلبية بالنسبة للاشتراكية بذات القدر الذي كانت به سلبية بالنسبة للوحدة .. والجماهير العربية هي الخاسرة دائما .. والحوار الآن أكثر لزوما على ضوء " تحديات المستقبل " ذلك العنوان الموفق الذي اختارته الطليعة لموضوع الوحدة .. فها نحن نرى أمام أعيننا " وحدة " القوى المضادة للحرية والوحدة والاشتراكية معا ، بمعنى أن أعداء التحرر العربي يضربون من أجل أهدافهم الاستعمارية أمل الجماهير العربية في الوحدة والاشتراكية معا .. ونرى الإقليميين يدفعون ثمن قبولهم الحصار الإقليمي الذي فرضه أعداء الوحدة ، ويتعرضون لمخاطر التصفية في واحاتهم المنفصلة .. ان هذا لا يعني إلا شيئا واحدا يجب على كل  الاشتراكيين في الوطن العربي أن يحفروه في رؤوسهم قبل أن يواجهوا تحديات المستقبل : بحكم الواقع الموضوعي للحركة القومية التقدمية في الوطن العربي ، فان مصير الاشتراكية معلق على مصير الوحدة ، كما ان مصير الوحدة معلق على مصير الاشتراكية ولن يفلت أحد من هذا المصير ...

لا بد اذن من الالتحام .. والحوار مقدمة للالتحام .. وبكل ما نملك من ولاء للأمة العربية وإخلاص لهدف جماهيرها العظيم : دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ، نرحب ونشيد بالخطوة الايجابية التي بدأتها "مجلة الطليعة" وكتابها الماركسيين عندما تصدوا للكتابة عن الوحدة العربية وتحديات المستقبل ..
اننا غير متفقين في كثير من النقاط ، ولسنا نتوقع أن نتفق في كل النقاط .. ولكنا نرى فيما كتبه نخبة من المثقفين الماركسيين في مصر من نقاط الاتفاق أكثر مما نراه من نقاط الاختلاف .. ".

وقال ايضا بعد جهد جهيد من العرض والتبسيط للافكار المتداخلة بين ما طرحه المتحاورون سواء في علاقة بمنابعها الفكرية اوبالاحداث التاريخية التي افرزتها فضلا عن علاقتها بالواقع القومي وبواقع الحرركة القومية واطروحاتها الحالية : " فمن مدخل الاشتراكية والنضال ضد أعدائها اكتشف كثير من الماركسيين أن أعداء الاشتراكية هم أعداء التحرر هم أعداء الوحدة .. كما اكتشفوا " استحالة التقدم في الوطن العربي على أساس التجزئة " ، وكان الصراع العربي ضد الصهيونية والامبريالية مفجرا لهذه الاكتشافات التي عرف منها كثير من الماركسيين أن المجتمع العربي يناضل على أساس انه أمة .. ويعامله الأعداء على أساس أنه أمة .. ويتحالف معه الأصدقاء على أساس انه امة .. ولا تجد مشكلاته في التحرر والاشتراكية كامل إمكانيات حلها وقهر أعدائها إلا في إطارها القومي .. فسلموا بأننا أمة عربية مكتملة التكوين .. فنقول أنهم عاجلا أو آجلا سيصبحون جزءا من قوى الثورة العربية من أجل إقامة دولة الوحدة الاشتراكية .. وهم الذين نصر على الالتحام بهم حوارا وحركة حتى لو قطعوا الحوار أو هربوا من الالتحام .. ولا يهمّنا كثيرا الآن أن يكونوا قد وصلوا الى موقفهم الايجابي من الوجود القومي ومن دولة الوحدة الاشتراكية عن طريق ما يسمونه الماركسية المتطورة ، أو الماركسية المعربة .. يكفينا وحدة الموقف ووحدة الهدف ووحدة النضال لنسير معا الى آخر الشوط .. وهؤلاء هم الذين نحاورهم فنقول أن أول ما يجب أن نؤكده ونحن نحاول اكتشاف الإستراتيجية المناسبة لتحقيق هدفنا المشترك هو أننا ننتمي الى مجتمع واحد تكوّن تاريخيا هو " الأمة العربية " وان تلك هي نقطة انطلاقنا .. " .

وقد انتهى الدكتور عصمت سيف الدولة ـ بعد ان رسم خطوات الهدف الاستراتيجي في هذا الحوار ـ الى القول الحاسم الذي يعود فيه الى موضوع الفرز ليشمل به هذه المرة الماركسيين المتجاوبين مع الوحدة الاشتراكية ، وبعد جهد اخر من الحديث عن المعوقات الذاتية والموضوعية امام الوحدة والاشتراكية في الوطن العربي يقول : " إذا تم فرز المصالح على أساس تناقض بين المصالح الإقليمية والمصالح القومية وتم بالتالي فرز القوى على أساس العداء بين الإقليميين والقوميين تكون الإستراتيجية المناسبة لتحقيق الوحدة العربية قد كشفت عن بعض الخصائص اللازمة لها : إنها ـ على وجه التحديد ـ إستراتيجية تصفية وإلغاء وهزيمة الإقليمية مصالح ومضامين ومؤسسات وقوى وحلفاء وصولا الى أن تقيم القوى التقدمية المنتصرة دولتها الواحدة الاشتراكية  والديمقراطية . ولن تتم هذه الهزيمة مرة واحدة . أبدا .. ولا بدون هزائم مرحلية . أبدا .. انه صراع طويل .. طويل .. ولكن الوحدة كما قال الأستاذ فليب جلاب "هدف جدير بأن نبذل من أجل تحقيقه كل جهد ممكن ، وأن نتخطى في سبيله كل العوائق " .. وأول جهد يجب أن نبذله ، وهو ممكن ، هو أن نعرف ونحدد ونواجه أعداء الوحدة . وأهم من هذا ألا نترك مصير هدفنا بين أيديهم فندعوهم ونتوسل إليهم وننصحهم ونعظهم بأن يتقاربوا ، بأن يتعاونوا ، بان يتوحدوا ..الخ ، إن كل الاقتراحات التي اقترحها كتاب "الطليعة" من أول ترك النظم تتفاعل ، الى التكامل الاقتصادي مرورا بالتعاون والتنسيق والرقص الجماعي على إيقاع " الهارموني " ممكن ، ومطلوب كخطوات على طريق الوحدة إذا كان الذين يخطون هذه الخطوة ملتزمين بالاستمرار في خطوات متتالية حتى يتحقق هدفهم الاستراتيجي .. والعبرة هنا ليس بما يعلنه كل من خطا خطوة ، فكلهم يقولون أنهم يريدون الوحدة . ولكن العبرة بموقعهم من التناقض بين المصالح الإقليمية الخاصة بكل دولة والمصالح  القومية الخاصة بالشعب العربي في كل الدول .. " 

ثم يمضي بكل اسهاب في الحوار مع الماركسيين وشرح ابعاد الاستراتيجيا وعلاقتها بالواقع وقواه الفاعلة لينتهي بالقول  : " ان إستراتيجية تحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية هي التي يضعها من يريدون أن يلتزموا بها .. انها خطة تضعها قوة منظمة التقت على الهدف ، وتريد أن تنظم حركتها النضالية على مراحل ، وتقسم العمل على مناضلين معروفي العدد والمواقع والمقدرة .. وضع الخطط الإستراتيجية أيها الشباب العربي ، ليس حذلقة فردية ، بل عمل نضالي على أكبر قدر من الجدية والخطورة تقوم به القوى التي التقت على الهدف بعد أن تكون قد التحمت في آداة نضالية واحدة .. بعد أن تكون قد أصبحت تنظيما .. إستراتيجية النضال الجماهيري لا تسبق أبدا الحزب الجماهيري وإلا أصبحت موعظة فردية لا قيمة لها .. وعندما يلتحم القوميون التقدميون في الوطن العربي في تنظيم جماهيري مناضل من أجل دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ، لن يكون وضع الخطة  الإستراتيجية على أسس واقعية وعلمية ومناقشتها ديمقراطيا ثم الالتزام بها ، إلا مهمة عادية من مهامه النضالية ..

فليستمر الحوار إذن ، بين كل أنصار دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية الى أن يلتقوا في حركتهم العربية الواحدة .. وكل ما تطالبهم به ـ الآن ـ "خبرات الماضي وتحديات المستقبل" أن يكونوا أكثر جدية في الحديث وأكثر ديمقراطية في الحوار .. وبكل قوة أؤيد ما عبر عنه الأستاذ عادل حسين تأكيدا لدور مصر العربية ، وهذا يعني أن الذين يتحاورون في مصر من موقع الانتصار لدولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية مطالبون بقدر من الجدية والجهد المكثف يتفق مع ثقل الجماهير العربية في مصر التي تمثل ثلث الأمة العربية ... " 

وليس هذا فحسب ، بل نجده ـ قبل ذلك اواخر الستينات ـ يتوجه الى الماركسيين ايضا في حديث خاص عن المقاومة يحاورهم فيه متحدثا عن دور القوى الاشتراكية في بناء دولة الوحدة ، مستعملا اسلوبا خاصا ومدخلا مغايرا لكشف العلاقة بين القومية والتقدمية ، وهو يعلم ارتباط مفهوم التقدمية بالاشتراكية عند الماركسيين ، منطلقا من البديهيات التي يسلم بها الماركسيون حتى يصل بهم بعد جهد وعناء في الاجتهاد الى ما تفضي اليه تلك المسلمات الى ان المجتمع الذي يواجهونه من اجل تحقيق الاشتراكية ليس الا المجتمع القومي بكل خصائصه ، مستعملا في استدلاله معهم منطقهم الخاص ومنطلقاتهم الفكرية ومصطلحاتهم التي يستعملونها من اول عبارات الجدلية والصراع الطبقي ، الى اخر مفاهيم الامة والبناء الاشتراكي .. وقد ورد هذا التوضيح لاسلوب الحوار في محاضرته الشهيرة : " المقاومة من وجهة نظر قومية " في رده على احد الاسئلة الحوارية المتعلقة بهذا الجانب الذي قال فيه صراحة : " في حديثنا لا نستهدف التدليل على الوجود القومي . انما نستهدف الوصول الى اقناع بعض الاشتراكيين في حوار موجه اليهم بان القومية رابطة تقدمية او لا تقوم عقبة في سبيل الاشتراكية .. وفي هذه المرحلة حيث اصبحت وحدة القوى التقدمية ملحة بحكم المعركة ، نرى ان ندير الحوار معهم انطلاقا من مواقفهم ذاتها ليتبينوا انهم كاشتراكيين مطالبون بالالتزام القومي . وعلى هذا فالاشتراكية ليست مدخلا لمعرفة الوجود القومي ، ولكنه المدخل الذي قد يكون مناسبا لاخراج بعض الاشتراكيين من عزلتهم وتحطيم جمودهم العقائدي وانفتاحهم على جماهير امتهم " .

واننا لو عدنا لقراءة كل هذه المحاورات الفكرية للدكتور عصمت سيف الدولة مع النخب الماركسية لتغيرت اشياء كثيرة في فهم اسلوب التعامل مع الاخر الذي يهتم بموضوع الوحدة ، ومع بعضنا البعض بدرجة اولى .. ولوقفنا  بالخصوص على ذلك الجهد الجبار الذي بذله في سبيل تذليل الصعوبات التي تقف امام الماركسيين لكي يكونوا قوى فاعلة في تحقيق الهدف العربي الاستراتيجي : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. 

هكذا وبكل بساطة بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة : تحقيق دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكبة كهدف استراتيجي ، سبب كاف وموجب للحوار والتنسيق والتفاعل مع كل القوى في الوطن العربي التي تسلم بهذا الهدف .. 

فلماذا يفعل كل هذا مع الماركسيين ؟ هل كان عصمت سيف الدولة عبثيا او مثاليا لا يدرك مفهوم الفرز ؟ وهل كان يريد ان يتحول الماركسيون من الفكر الماركسي الى الفكر القومي ؟ 

ابدا .. انه كان - بلا شك - على قدر من المسؤولية انطلاقا من قناعته التامة بان الطريق الى الوحدة طويلة ووعرة ، ويمكن ان تقود خلال مسيرتها الشاقة الى المرور بمحطات كثيرة تلتقي فيها قوى متعددة قبل الوصول الى النهاية ..

وقد كان كافيا في نظره ان يلتقي الفريقان في الوطن العربي ولو على غاية واحدة ثابتة وجامعة بينهما كمعيار لفرز طويل الامد : النضال من اجل الاشتراكية ... 

وقد فعل هذا بالرغم من مواقفه الواضحة الحاسمة ، مع الاشتراكيين العرب في قول ما يجب ان يقال لهم في مواضع الحسم  .. حيث وجدناه في كتاب الغايات ، وفي سياق الحديث عن القيم العربية في ظل الاشتراكية يتوجه اليهم بقول يربطه بالفرز جاء فيه : " نقول بحسم قاطع لكل " الاشتراكيين " الذين يجهلون أو يتجاهلون أنهم يتعاملون مع امة ذات تراث حضاري ، فينكرون أو يتنكرون لقيمها الحضارية ، إنكم في دعوتكم الى الاشتراكية تخاطبون أنفسكم ولا تخاطبون جماهير هذه الأمة فهي لا تسمعكم . وأن النظام الاشتراكي على أيديكم فشل محض . نقوله للاشتراكيين من كل دين لأن الإسلام هنا ليس ديناً بل مصدراً للتراث الحضاري للأمة العربية . ونقوله للاشتراكيين أصحاب القومية " البدوية " الذين يتوهمون أن القيم العربية امتداد غير نام لتقاليد الصحراء فينكرون ويتنكرون لما أسهمت به الشعوب السابقة على التكوين القومي في البناء الحضاري للأمة العربية . ونقوله للاشتراكيين الإقليميين الذين يريدون ـ عبثا ـ أن يلغوا تاريخ امة ليبعثوا حضارتهم البدائية الدفينة في قبور التاريخ . كلهم ـ طال الزمان أو قصر فاشلون ـ لا لأن الاشتراكية نظام اجتماعي فاشل بل لأنهم لا يتعاملون مع المجتمع " كما هو " . ولقد عرفنا من " جدل الإنسان " إن التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع الاجتماعي كما هو . بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين المشترك كما هم . ونحن أمة فلا ينجح في تطوير واقعها إلا القوميون الاشتراكيون " . ثم يضيف معرجا عن الفرز : " فمن أجل أن نلتقي مفرزين فلا نختلط بالفاشلين ، وان نلتزم واعين فلا ننحرف مع المنحرفين ، وان نحتكم راضين فلا نتمزق كما يتمزق الآخرون ، نلتقي ونلتزم ونحتكم الى " الاشتراكية العربية "   نظرية لإقامة النظام الاشتراكي في دولة الوحدة الديمقراطية  .." . 

افلا يكون كافيا ووافيا ان يقوم الفرز بين القوميين على قاعدة العشرات من الثوابت الفكرية والحركية لتحقيق الممكن خلال هذه المرحلة وصولا الى ما يجب ان يكون .. ؟؟؟ 

بلى .. ممكن ..

ولكننا  ـ في الأخير ، وبعد كل هذا ،  لا نريد ـ من ناحية ـ ان نعطي انطباعا بأننا نبالع في اتخاذ المحاذير من فرز الصفوف حتى نصل الى تلك الدرجة من الخوف التي أشار الدكتور عصمت سيف الدولة الى تبعاتها في كتاب الطريق ـ 2 . ولا نريد ـ من ناحية أخرى ـ أن نخلط الأمور بإقحام الماركسيين في جدل نعرف منذ البداية انه خاص بالوحدويين ، وقد أشار إليه أيضا الدكتور عصمت سيف الدولة في نفس المرجع ..

في الناحية الاولى ، وبعد تأكيده مرة أخرى على فرز القوى مكررا ما جاء في كتاب الاسلوب بقوله الحاسم : " فلتفرز القوى " ، وبعد التذكير بان انتصار القوى العربية التقدمية متوقف على التحامها في تنظيم قومي واحد ، نجده يتساءل : " لماذا لا يفعلون " ؟ ثم يجيب مباشرة : " لأنهم لم يفرزوا انفسهم من القوى التي تختلط بهم فاختلطت الأمور عليهم . وأكثر ما أثاره اختلاط الأمور هو الخوف من أن يؤدي الفرز الى مزيد من الفرقة والتمزق بين القوى الجماهيرية في الوطن العربي في الوقت الذي تواجه فيه الأمة العربية ككل مخاطر استعمارية وصهيونية عدوانية شرسة . وهو أمر لم تكف القوى الاقليمية الرجعية عن استغلاله لإرهاب القوى العربية التقدمية وشل مقدرتها على تحقيق وحدتها . فبقي اللقاء بين القوى الجماهيرية في الوطن العربي على المستوى التكتيكي عاجزا عن تجاوزه الى وحدة الإستراتيجية . وكلما حاول العرب التقدميون فتح حوار بناء لتجاوز هذا الالتقاء المرحلي المحدود الى وحدة تنظيمية دائمة وشاملة ثار الإقليميون واتهموا المحاولة بأنها تجريدية ، وغير واقعية ، وأنها تؤدي الى تمزق صفوف الجماهير ، أو اتهموها بأنها محاولة غبية ومحاولة عميلة ..الخ . وهي اتهامات تثير الرعب فعلا . ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ شل الخوف القوى العربية التقدمية فلم تحقق وحدتها ، وبذلك افتقد النضال العربي المقدرة على النصر عندما فقد وحدة الإستراتيجية على المستوى الوحيد الذي يمكن أن تتحقق فيه ، وهو المستوى الجماهيري " .

وفي الناحية الثانية ، واذا كان اختلاط معايير فرز القوى التقدمية مفهوميا ، أي من حيث الخصائص والمفهوم قبل فرزها على أي أساس آخر فكري أو سياسي يثير كثيرا من الخلط والخوف معا ، فان ما بذله الدكتور عصمت سيف الدولة في توصيفه للقوى العربية التقدمية بناء على الناحيتين المتصلتين بالتسمية أي " الهوية العربية " و" الهوية التقدمية " لما يسمى قوى " عربية " و " تقدمية " ، كفيل بأن يزيل الخوف ليجعل الفرز مبنيا على أسس موضوعية سليمة هدفه تحقيق وحدة القوى العربية التقدمية التي تبقى كما ـ قال مرارا ـ طريق النصر الوحيد ، وهو لا شك على علاقة وثيقة بكل القوى التقدمية التي تجمعها نضالات مرحلية مشتركة قال فيها : " اذا كانت وحدة القوى العربية التقدمية هي الطريق الى النصر ، وكانت تلك الوحدة لا تتحقق الا بفرز القوى في الوطن العربي ، فان هذا الفرز لا يعني الفرقة أو التمزق أو العداء مع القوى الجماهيرية الأخرى وهي جميعا تواجه خطرا مشتركا فان وحدة القوى العربية التقدمية لا تحول دون اللقاء والتعاون والتنسيق والتحالف مع كل القوى التي تقف معها في مواجهة العدو المشترك ، بل ان وحدتها هي التي تمكنها من قيادة النضال المشترك حتى يحقق غايته بدون تخاذل أو تراجع أو تظاهر أو مزايدة . والنضال المشترك في غيبة قيادة قومية لا يؤدي الى النصر العربي . هذا اذا كنتم قد تعلمتم شيئا من هزيمة 5 يونيو 1967 " ..

بلى ، تعلمنا ..

وبهذا نعود مع الدكتور عصمت سيف الدولة الى القول الفصل ونحن لا نخشى من الخوف أو من تداخل الأمور ، وقد تعلمنا منه كيف ومتى نتقدم خطوة خطوة ، من الممكن الى ما يجب أن يكون .. حيث على امتداد ميادين المعارك في الوطن العربي مجالات كثيرة لفرز القوى .. في ميدان المعارك ضد الاستبداد ، وفي ميدان المعارك ضد الاستعمار والصهيونية  ، وفي ميدان المعارك ضد الاستغلال ، أملنا ـ كما قال ـ الوصول الى " توفير الاسلوب العلمي " الذي لن يحقق " النصر العربي "  بدون قوى مفرزة  ..

غير أن الاسلوب العلمي كما تعلمنا منه أيضا ، أن نكون أبعد ما يكون عن المثالية ، أي أن نتحلى بالواقعية .. ولعلنا تأكيدا لهذا المعنى نستعير فكرة الدكتور عصمت سيف الدولة نفسه حينما كان يردّ في كتابه الاستبداد الديمقراطي على اتهام بعض منتقدي فكرة الديمقراطية الاجتماعية عند روسو واتهامهم له بالمثالية .. فبعد عرضه لمقولة رسو الشهيرة حول الديمقراطية التي قال فيها : " لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بطريقة ديمقراطية فهذا النوع من الحكم الذي يبلغ حد الكمال لا يصلح للبشر " .. وهي المقولة التي نفى بها عصمت سيف الدولة تهمة المثالية لروسو ، نجده يجتهد في فهم منهجيته التي يمكن من خلالها فهم مقاصده حين قال : " ان هذا القول ينفي ما نسب الى روسو من انه كان مثاليا ، ويؤكد انه كان واقعيا وهو يعرض المثل الاعلى " للنظام الديموقراطي . اذ المثالية هي فرض " الفكرة " ـ ولو كانت مثلا أعلى ـ على الواقع الذي لم تتوافر فيه الظروف الموضوعية لتجسيدها . ونهاية المثالية الى الفشل . ثم يبقى المثل الاعلى قادرا على الهام البشر معا الطريق الى الخلاص " .. وبالمثل يمكن فهم كل مقولات  عصمت سيف الدولة ومواقفه الحاسمة ، التي لم يثبت ابدا انه كان يتعسف في طرحها على الواقع بقدر ما كان يطرح في كل مجال الحل الأمثل أو بتعبيره " المثل الأعلى " لكي ينير دروبا كثيرة للسائرين عليها .. ثم تنزيلها على الواقع وتجسيدها في مهام نضالية واقعية دون ان تضيع البوصلة .. وهذا كما نعلم جوهر منهجه " جدل الانسان " الذي يحتم على البشر ان يتخلوا عن المثالية ويلتزموا بالواقع حتى لا يكونوا فاشلين .. 


القدس \ 5 فيفري 2018 .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق