نظرية الثورة العربية : المنطلقات
المنطلقات
" كل مذهبين مختلفين اما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، واما أن يكونا جميعا كاذبين ، واما أن يكونا جميعا يؤديان الى معنى واحد وهو الحقيقة ، فاذا تحقق في البحث وأنعم في النظر ، ظهر الاتفاق ، وانتهى الخلاف " .
ابن الهيثم .
20 ـ الوجود القومي :
إن أية محاولة ” لتغيير الواقع ” على ضوء التسليم بأن الانسان هو العامل الاساسي في عملية التغيير تفرض علينا أن نبدأ بتحديد واقعنا البشري من خلال الاجابة عن السؤال : من نحن ؟ .. نحن مجتمع من البشر. إذن . فماا هو مجتمعنا ؟. وعندما نعرف من نحن وماهو مجتمعنا لن تكون عمليةة التغيير تجريداً . لن تكون هناك مشكلات بل مشكلاتنا ، ولن تكون هناك قوى بل قوانا ، ولن تكون هناك معركة بل معركتنا ، ولن يكون هناك اعداء بل أعداؤنا ، ولن تكون هناك حرية بل حريتنا … الخ . كل شيء سيكون أكثر وضوحاً وتحديداً لأنه منسوب الى مجتمع واضح ومحدد .
فما هو مجتمعنا الذي ننتمي اليه .
أسهل الاجابات وأقربها الى الذهن هي : أن مجتمعنا محدد ” بالدولة ” التي نحن رعاياها . فلكل دولة شعب معين ، ووطن معين ، وواقع اجتماعيي واقتصادي معين ، ومشكلات معينة … الخ . ذلك هو ” الأمر الواقع ” . وليس من المنكور أن ” الأمر الواقع ” هو بداية الطريق لأية ممارسة . وأن تجاهل الأمر الواقع أو القفز من فوقه الى غيره ” مثالية ” تهدر الطاقات ولا تغير من الواقع شيئاً . ولكن ” الدولة ” واقع سياسي في مجتمع . والمفروض انها تمثل وتجسد الواقع الاجتماعي الموضوعي . وهو فرض قد يكون صادقاً او قد لايكون تبعاً لظروف قيام الدولة في كل مجتمع . أي أن صدق التجسيد السياسي للمجتمع في دولة ما متوقف على مدى مطابقة الشكل الياسي للمضمون الاجتماعي . وهذا يعني أن الدولة لا تحدد المجتمع على هوى الذين أقاموها ليحكموا بها ، ولكن المجتمع هو الذي يحدد الدولة على ما تقتضيه حقيقة وجوده الموضوعي . وعندما تكون الدولة متفقة مع الوجود الموضوعي للمجتمع تصبح تجسيداً سياسياً صحيحاً لهذا الوجود . أما إذا لم تكن متفقة معه فإنها تكون قائمة على غير أساس سوى القهر ويجب ان تزول . وهنا فقط يفرض الأمر الواقع ذاته على مسيرة التغيير وأسلوبه . لأن إقامة الدولة الحقيقية لابد أن يبدأ من الدولة المصطنعة ذاتها : بتحطيمها .
فالأمر الواقع حجة ملزمة في ” ممارسة ” التغيير ، ولكنه ليس حجة ملزمة في ” النظرية ” . لأن نظرية تغيير الواقع تعني تحديد الواقع من اجل تغييره ، وليس احترام الواقع والابقاء عليه. ومن هنا نعرف لماذا لا نقبل الاحتلال وهو أمر واقع ، ولا اسرائيل وهي أمر واقع ، والاستبداد وهو أمر واقع ، ولا التخلف وهو أمر واقع .. الخ . لأننا نعرف أن ” كل شيء في تغير مستمر ” وان مهمتنا على وجه التحديد هي تغيير الأمر الواقع إلى ما هو أفضل ، ونظرية تغيير الواقع هي التي تحدد لنا ما الأمر الذي نغيره من الأمور الواقعة وإلى أين يكون التغيير . إذن فكون ” الدولة ” أمراً واقعاً يحدد لنا مجتمعنا لا يعني بالضرورة انها التحديد الصحيح للمجتمع الذي ننتمي اليه . إنما نكون كذلك عندما تكون تجسيداً للحقيقة الموضوعية للمجتمع ، ويكون علينا ان نبحث عن تلك الحقيقة الموضوعية لنرى بعد هذا ما إذا كانت الدولة تتفق مع تلك الحقيقة أو لا تتفق .
فكيف يمكن أن نكتشف الحقيقة من أمر مجتمعنا الذي ننتمي إليه ؟
بمعرفة كيف تتكون المجتمعات البشرية .
وخلاصة ما نراه في هذا ، طبقاً وتطبيقاً ” لجدل الانسان ” انه إذا اجتمع اثنان وتطورا معاً ، خلال الزمان ، فإن هذا يعني أن ثمة مشكلة ، أو مشكلات ، مشتركة بينهما لا تحل إلا بارتباطهما ، وتطورهما ، معاً . وهما يحلان تلك المشكلة أو المشكلات عن طريق تبادل المعرفة فيعرف كل واحد منهما ما هي المشكلة المشتركة وكيف نشأت . وتبادل الفكر بينهما فيعرف كل واحد منهما وجهة نظر الآخر في كيفية حل المشكلة . وتبادل العمل ، أي مساهمة كل واحد منهما بجهده في حل المشكلة المشتركة وإشباع حاجتهما المشتركة والاضافة الى الإثنين ، خلال الزمان ؛ تمد أبعاد المجتمع الصغير ، أو الجماعة ، على مستويات ثلاثة : إمتداد أفقي حيث يتعدد الناس وحيث يحمل كل فرد حاجته معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الافراد. وإمتداد رأسي يبدأ بالحاجة الفردية إلى الحاجة الجماعية أو المشتركة . وإتجاه إلى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية وجماعية جديدة تضاف إلى ما كان موجوداً وتكسب كل مشكلة اولويتها في الحل بقدر ما تكون حادة ومشتركة … وهكذا .
وقد تكون الرابطة الأولى التي جمعت بين اثنين هي الاجتماع على حل مشكلة ” حفظ النوع ” التي يؤدي حلها إلى أن يضاف إلى الاثنين ثالث فتوجد الاسرة ثم العائلة ثم السلالة … الخ . تلك وحدة الاسرة تظل واقعاً مشتركاً بين الناس تميزهم عن غيرهم حتى يتجاوز التعدد ـ في الزمان ـ ما يميز الناس بأصلهم الواحد فتتوه الانساب المشتركة في الكثرة . غير ان مجرد اجتماع اثنين ، ولو على مشكلة حفظ النوع ، ينشيء مشكلة مشتركة جديدة على كل منهما ، أي انها وليدة التناقض بين اجتماعهما في مشكلة واحدة وانفصالهما ـ كل منفرد بذاته ـ في الوقت نفسه ، مضمونها كيف يفكرانن ويتبادلان الرأي ويسهمان في حل مشكلتهما الأولى . وقد حلت تلك المشكلةة الجديدة بأول إضافة رائعة ابتكرها الانسان ونعني بها اللغة . فعن طريق اللغة أمكن الوصول ـ بين المتعددين ـ إلى وحدة الادراك والفكر والعمل لمواجهة المشكلات المشتركة . وباللغة وجد التطور الاجتماعي أول أدواته فانطلقت كل أسرة تواجه ـ مجتمعة ـ ظروفها المشتركة وتحقق مستقبلها المشترك . ثم يستمر النمو بالتعدد ، وتتعدد المشكلات ، وتتنوع في مضامينها ، بحيث تتجاوز في اتساعها ، وفي مضمونها ، رابطة الدم التي تصبح عاجزة عن ان تجمع جهد كل الأسر ، والعشائر ، لحل المشكلات المشتركة فيما بينها ولتحقيق مصالحها المشتركة ، فتتكون المجتمعات القبلية حلاً لمشكلات مشتركة بين أفراد كل قبيلة ، وتكون القبيلة بذلك طوراً جديداً ، نامياً ، يتجاوز بمقدرته المشتركة مقدرة الأسر فيه على حل المشكلات المشتركة .
فقد أتى على الانسان حين من الدهر ، استنفذه في الصراع ضد الظروف الطبيعية للحصول على ما يحفظ حياته من ناتج الأرض والصيد . وكان شكل صراعه متابعة ثمار الطبيعة المتاحة تلقائياً الى حيث هي ، والبقاء المؤقت على الأرض حيث يحدها ، إلى ان تنضب فيهجرها الى مكان آخر من الأرض . كانت الهجرة تغييراً للظروف المادية ( الطبيعية ) بالانتقال من مكان الى آخر . وبالهجرة ، وخلالها ، إلتقاء بجماعات أخرى تسعى وراء الغاية ذاتها . فيلتقيان على مصدر انتاج واحد فيقتتلان عليه . وبغلبة أحدهما يدخل مرحلة من التطور بدأت بحل مشكلة التزاحم فيستقر على الأرض ويبدأ في مواجهة المشكلات الجديدة التي تطرحها ظروفه الجديدة . فيبتكر في الأرض التي استقر عليها ما يحل مشكلات جمع نتاجها وتخزينه وتوزيعه وحراسته من فؤوس ومنازل وحراب ونبال … الخ . وإذ يكون هذا هو الطريق الوحيد لحفظ الحياة وإشباع حاجاتها المتجددة ، يصبح جهد الأسر والعائلات قاصراً عنها فيكون الحل الحتمي أن تتجمع الأسر والسلالات والعشائر ـ تدريجياً ومن خلال مواجهة المشكلات ذاتها ـ لتكون قبائل . أي لتكون بكثرتها ومقدرتها أقدر على حل مشكلات الظروف المشتركة . ويطرح تعدد الأسر والعشائر في المجتمع القبلي مشكلات جديدة تحلها القبيلة بما تضيفه من نظم وتقاليد وعادات تضبط سلوك الجميع ويحتكمون اليها فلا يتفرقون . وقد يتحقق لهم جميعاً نصر مشترك ضد عدو مشترك فيمجدون انتصار ” قبيلتهم ” على الطبيعة وعلى الأعداء شعراً وغناء وألحاناً … إلى أن ينضب رزق الأرض ، أو يغلبوا على أمرهم ، فتبدأ مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة والأعداء بهجرة جديدة يصاحبها قتال جديد … الخ .
وهكذا كانت المجتمعات القبلية وحدات متماسكة داخلياً ، مهاجرة ، مقاتلة دائماً .
ذلك هو الطور القبلي من المجتمعات : داخل المجموعة الانسانية الواحدة ، ينفرد كل جماعة وحدة قبلية متميزة عن القبائل الأخرى بأصلها الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها وثقافتها القبلية . ولا تميزها عن غيرها ” الأرض ” التي تعيش فيها ، لتبادل المواقع من الأرض كراً وفراً خلال الصراع القبلي .
وقد انتهى الطور القبلي أو كاد أن ينتهي . فخلال احقاب طويلة من الهجرة المقاتلة ، أهتدت بعض الجماعات والقبائل الى الأرض الخصيبة وأودية الانهار فاستأثرت بها خلال مشكلة ندرة الرزق التي كانت تعالجها بالهجرة من مكان إلى مكان . ولم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبيعة تلقائياً ، بل ” استقرت ” على الأرض وابتكرت الزراعة وأدواتها . حينئذ افترق تاريخ الشعوب والمجتمعات ولم يعد من الممكن الحديث عن ” التاريخ الانساني ” أو ” تاريخ البشرية ” بل لابد من تتبع كل جماعة على حدة لنعرف تاريخها الخاص على ضوء ظروفها الخاصة .
فالجماعات القبلية التي استقرت على أرض معينة خاصة بها دخلت مرحلة تكوين جديدة هي مرحلة تكوين الأمم ، التكوين القومي ، لتتميز بهذا الاستقرار على أرض خاصة عن الطور الذي سبقها . الطور القبلي . غير أن هذا لا يعني أنها قد أصبحت أمماً فنحن لا نقول أن أية جماعة من الناس لها لغة مشتركة وتقيم في منطقة معينة من الأرض قد أصبحت أمة . بل ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل . فالأمة تدخل مرحلة التكوين باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الأرض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكوين وتتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها . وقد تكون أول مشكلة واجهتها الجماعات المستقرة هي المحافظة على هذا الاستقرار . أي حماية الأرض المشتركة . ذلك لآن القبائل لم تستقر كلها في وقت واحد . بل بينما استقر بعضها ودخل مرحلة التكوين القومي ظلت الجماعات القبلية الأخرى مهاجرة مقاتلة معاً . تغزو أطراف الأرض التي استقر عليها الأولون فتقيم فيها مختلطة بسكانها الاصليين مبتدئين معاً مرحلة من الحياة المشتركة المستقرة لن تلبث أن تكوّن منهم أمة واحدة . أو محاولة غزوها فمنحسرة عن حدودها . وقد يثير الغزاة حروباً مضادة تخرج فيها الجيوش لمطاردة المغيرين والقضاؤ عليهم وضم مراكز تجمعهم الى الأرض الخاصة فتمتد حدودها ليشملها جميعاً الاستقرار مقدمة لتكوين أمة. وقد استمرت فترات الغزو القبلي وحروب المطاردة فترات طويلة من التاريخ عوّقت تطور الجماعات المستقرة الى أن تكون أمماً مكتملة . وان كانت قد أسهمت ـ من ناحية أخرى ـ في ان يتجاوز المستقرون على الأرض الخاصة المشتركة ، رواسب الطور القبلي فيلتحموا معاً خلال العمل المشترك لحماية الأرض المشتركة في مواجهة العدو المشترك . وعندما تثبت حدود الأرض مؤذنة بانتهاء الصراع حول الاختصاص بها تكون الحدود ذاتها حدوداً لما يليها من ارض خاصة بجماعات مستقرة أخرى .
الى هنا تكون قد توافرت للجماعة المستقرة على ارض معينة ( الامة في دور التكوين ) وحدة اللغة ووحدة الأرض المشتركة . غير أن هذا لا يميزها عن غيرها من الجماعات المستقرة التي لها بالضرورة لغتها وأرضها . انما تكتمل خصائص الأمة من تكوينها القومي المنطلق فمن استقرار الشعوب على أرض خاصة فتفاعل الناس مع الناس مع الطبيعة ينتج حصيلة مادية ( انتاج زراعي ، انتاج صناعي ، أدوات انتاج ، مبان … الخ ) وتفاعل الناس في المجتمع ينتج حصيلة اجتماعية من الأفكار والمذاهب والنظم والقيم والتقاليد والفنون … الخ . والنظر الى هذه الحصيلة من تفاعل الانسان مع الطبيعة ومع غيره في المجتمع نظراً الى ما يسمى ” الحضارة ” . فإذا اضيف الى هذا ـ في دور التكوين القومي ـ ان الطبيعة محددة بأرض معينةة متميزة عن غيرها ” وليست ممتازة ” وان الناس قد تحددوا بشعب معينن متميز عن غيره ( وليس ممتازاً ) كان مؤدى هذا التحديد أن حصيلة تفاعل الناس مع أرضهم الخاصة وفيما بينهم ستكون متميزة في مضمونها المادي والثقافي عن غيرها ، أي تكون متميزة ” حضارياً ” . وتكون بذلك قد اكتملت ” أمة ” .
وعندما تكتمل الأمم وجوداً قد تظل فلولاً من الجماعات القبلية محاصرة او محصورة على أطراف الأرض الوعرة فيما بين الأمم . أو متخلفة في أماكن متفرقة داخل الأمة . وقد تحاول من حين الى آخر أن تكمل مسيرتها التاريخية مستقلة وان تدخل هي ايضاً مرحلة التكوين القومي خاصة بها ، وهذا لا يكون إلا بأن تقتطع لنفسها جزءاً من الأرض تختص به . ولكن الأمر لا يكون قد حسم تاريخياً باختصاص الأمة التي سبقت تكويناً بالأرض المعينة المشتركة حتى اقصى اطرافها بصرف النظر عمن قد يكون مقيماً على أرضها ، وفي كنفها ، من أفراد ، أو أسر ، او عشائر لا ينتمون اليها او من يكون متخلفاً من ابنائها لأن التكوين القومي الجديد هنا لن يكون إلا على حساب تكوين قومي اكتمل تاريخياً .
21 ـ وحدة الوجود القومي :
يقولون في تعريف الأمة : ” انها جماعة من البشر تكونت تاريخياً لها لغة مشتركة وأرض مشتركة … الخ ” . فلماذا ـ اذن ـ نسرد كل هذا لنصل الى ما يقولون ؟ لأن هناك اقوالاً أخرى في ” الأمة ” غير صحيحة وان كانت متداولة في الفكر العربي . ونعني بها تلك الآراء التي لا تدخل ” الأرض المشتركة ” عنصراً في التكوين القومي . وهو خطأ كبير . اذ أن اية نظرية في ” الأمة ” لا تسلم بأن ” الأرض المشتركة ” عنصر لازم لأية جماعة بشرية لتكون امة هي نظرية فاشلة في التعريف بالأمة . ذلك لأن كافة العناصر الأخرى مثل وحدة اللغة التي ترتكز عليها النظرية الألمانية ، أو وحدة الحياة الاقتصادية التي يرتكز عليها الفكر الماركسي ، أو وحدة الثقافة التي تشيد بها الكتابات العربية ، أو حتى وحدة الارادة التي تركز عليها النظرية الفرنسية . الخ ، كل هذه عناصر ممكن ان تتوافر ن وان تجتمع ، لجماعات بشرية لا ترقى الى مستوى ” الأمة ” كالمجتمعات القبلية مثلاً . ان هذه نقطة هامة لا نعتقد ان الأدب القومي قد منحها كل العناية التي تستحقها ، مع انها ـ كما سنرى ـ من العناصر الجوهرية في نظرية القومية .
يقولون في تعريف الأمة : ” انها جماعة من البشر تكونت تاريخياً لها لغة مشتركة وأرض مشتركة … الخ ” . فلماذا ـ اذن ـ نسرد كل هذا لنصل الى ما يقولون ؟ لأن هناك اقوالاً أخرى في ” الأمة ” غير صحيحة وان كانت متداولة في الفكر العربي . ونعني بها تلك الآراء التي لا تدخل ” الأرض المشتركة ” عنصراً في التكوين القومي . وهو خطأ كبير . اذ أن اية نظرية في ” الأمة ” لا تسلم بأن ” الأرض المشتركة ” عنصر لازم لأية جماعة بشرية لتكون امة هي نظرية فاشلة في التعريف بالأمة . ذلك لأن كافة العناصر الأخرى مثل وحدة اللغة التي ترتكز عليها النظرية الألمانية ، أو وحدة الحياة الاقتصادية التي يرتكز عليها الفكر الماركسي ، أو وحدة الثقافة التي تشيد بها الكتابات العربية ، أو حتى وحدة الارادة التي تركز عليها النظرية الفرنسية . الخ ، كل هذه عناصر ممكن ان تتوافر ن وان تجتمع ، لجماعات بشرية لا ترقى الى مستوى ” الأمة ” كالمجتمعات القبلية مثلاً . ان هذه نقطة هامة لا نعتقد ان الأدب القومي قد منحها كل العناية التي تستحقها ، مع انها ـ كما سنرى ـ من العناصر الجوهرية في نظرية القومية .
على أي حال لقد عرفنا من حديثنا عن كيف يتكون الوجود القومي ، وكيف تكتمل الأمة تكويناً ، ان المميز الاساسي للأمة عن الجماعات الانسانية السابقة عليها هو عنصر الأرض الخاصة المشتركة . الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية الاخرى ، المشتركة فيما بين الناس فيها . ومن هنا تكون الأمة تكويناً واحداً من الناس ( الشعب ) والأرض ( الوطن ) معاً . فنحن عندما نقول ـ مثلاً ـ اننا امة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل ( الأمة ) الذي يتضمن الجزء ( الوطن ) . فالشعب العربي ( الناس ) والوطن العربي ( الأرض ) يكونان معاً الأمة العربية التي ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التي تقيم عليها الى امة ، أو من أرض لا تخص شعباً بعينه الى امة ، الاعندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجوداً واحداً هو الأمة العربية .
وإذا كان لابد من تعريف فإن الأمة : مجتمع ذو حضارة متميزة ، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة ، تكوّن نتيجة تطوّر تاريخي مشترك . أما كل ما تعلمناه من مميزات الأمة كاللغة او الثقافة او الدين … فتلك عناصر التكوين الحضاري وهي تختلف من أمة الى أمة تبعاً لظروف التطوّر التاريخي الذي كوّنها . اما عن المصالح الاقتصادية المشتركة فهي متوافرة في كل مجتمع حتى لو لم يكن أمة . واما الحالة النفسية المشتركة ، والولاء المشترك … الخ فتلك معبرات في الأفراد عن انتمائهم الى امة قائمة . وتختلف من فرد الى فرد في الأمة الواحدة تبعاً لوعيه علاقته بمجتمعه القومي . ولكن الوجود القومي لا يتوقف عليها . وقد قلنا ان الأمة مجتمع تكوّن نتيجة ” تطور ” تاريخي مشترك لأن القول بأنها تكوّن تاريخي لا يكفي للدلالة على انها طور من المجتمعات أكثر تقدماً من الأطوار السابقة عليه .
ولا بأس في ان ننبه ـ هنا ـ الى أن معرفة أو تعريف ” الأمة ” ليست مباراة في المقدرة على الصياغة ، بل هي ضرورة لازمة لمعرفة الظاهرة الاجتماعية التي سيكون كل الحديث ـ بعد هذا ـ دائراً حول تطورها . ولقد نعرف من كثير مما كتب عن الأمة في الأدب العربي ” تساهلاً ” في معرفة الأمة والتعريف بها . فإذا بالانطلاق منها الى قضايا المستقبل يصل بهم الى مآزق غير سهلة . ونضرب لهذا ثلاثة امثلة حية : المثل الأول ” التساهل ” في عنصر الأرض الخاصة والمشتركة والتركيز على الوحدة الثقافية أو الروحية وهي النظرية في الأمة التي قامت عليها الحركة الصهيونية . والمثل الثاني ” التساهل ” في عنصر التطور التاريخي والتركيز على وحدة الارادة وهي النظرية التي ادت وتؤدي بكثير من المثقفين العرب الى الخطأ في فهم مشكلة الاقليات القومية . والمثل الثالث هو الاختلاف في الرأي حول تقييم الحركة القومية الراجع الى الاستعمالات المتباينة لكلمة ” أمة ” . ويغذي هذا الاختلاف ان اللغات ذات الأصل اللاتيني تتضمن ، وتستعمل ، مفردات لغوية لا تتفق مع المفردات العربية المستعملة في الأدب القومي . أهمها ما يترجم عادة الى كلمة ” قوميات ” . انهم ـ هناك ـ يقصدون بها ما يمكن أن تدل عليه كلمة : ” أمم ” او ” اقليات قومية ” . ونحن نعرف اللبس الذي أدت اليه الترجمة ـ الخاطئة أو المتعمدة ـ لما كتب في الأدب الماركسي عن ” المسألة القومية ” فإذا بها تصبح ” المسالة الوطنية ” . وقد عرفنا من قبل ما يؤدي اليه هذا اللبس من خلط بين ” حركات التحرر الوطني ” و ” الحركات القومية ” ( فقرة 11 ) .
أياً ما كان الأمر فإن فيما سبق بياناً للأمة كما نفهمها . وبذلك المفهوم سنستعملها فيما يلي من حديث .
22 ـ وحدة المصير القومي :
والآن نعيد السؤال :
والآن نعيد السؤال :
ما هو مجتمعنا الذي ننتمي اليه ؟ ما هي حقيقته الموضوعية كتكوين تاريخي . هل نحن ما زلنا مجموعات من القبائل ، أم أننا مجموعة من الأمم ، أم اننا ننتمي الى امة عربية واحدة ؟
والاجابة هنا تكاد تكون جاهزة . نحن امة عربية واحدة . والأمة العربية هي مجتمعنا الذي ننتمي اليه . وهي إجابة غير منكورة من كل الذين يعنينا أن نقيم معهم حوار بناء حول المستقبل العربي ونظريته . وقد اكتشف كثيرون حقيقة الوجود القومي العربي من شعورهم بالانتماء الى هذه الأمة العربية التي تتجاوز مجتمعاتهم السياسية بشراً وأرضاً ، أي من خلال ما يسمونه ” الحالة النفسية المشتركة ” التي تعبر بذاتها عن اكتمال التكوين الاجتماعي الذي تعكسه . واكتشفه آخرون عن طريق البحث العلمي في تاريخ الأمة العربية . واكتشفه غيرهم عن طريق الممارسة حيث تعاملها شعوب الأمم الأخرى على أساس أنهم ” عرب ” ينتمون الى امة عربية . بل ان كثيرين قد اكتشفوا انتماءهم القومي الى الأمة العربية من خلال صدمة النكبة سنة 1948 ، وصدمة النكسة سنة 1967 . المهم انه قد اصبح مسلماً بأننا ننتمي الى امة عربية مكتملة التكوين ، وهذا يعفينا من جهد لا مبرر له لإثباته . فنحن مقبولون ” كأمة ” وهذا يكفي . يكفي لنقول اننا امة عربية . وبعد ؟
هذا هو السؤال الدقيق . ان مجرد القول بأننا امة عربية واحدة قد لا يعني شيئاً عند الكثيرين . ونحن نعرف أن كثرة من الناس يسلمون معنا باننا أمة عربية ثم لا يرون ان لهذا اثراً في مخططات النضال من اجل المستقبل . ومعنى هذا ان ثمة فجوة في الحوار لا بد من ان تملأ لنلتقي . خاصة ونحن نتحدث عن الوجود القومي في إطار نظرية النضال من اجل المستقبل .
لا يمكن فهم العلاقة بين الوجود القومي ووحدة مصيره إلا إذا عرفنا ” لماذا ” تكونت الأمم ؟ لماذا كنا امة عربية مثلاً ؟ هل كان ذلك مصادفة تاريخية ، أو تم اعتباطاً لا أحد يدري لماذا ؟ إنه سؤال لم يكن لنا حظ التعرف على أية اجابة عليه في اية دراسة أخرى . مع انه سؤال حاسم.
” في الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل . ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل . إضافة فيها من الماضي ومن المستقبل ولكن تتجاوزهما الى خلق جديد ” . هذا هو قانون التطور الجدلي كما عرفناه من ” جدل الانسان ” وترجمته الاجتماعية هي : ان المجتمعات تتطور من خلال العمل المشترك ( الجماعي ) لحل التناقض بين الواقع ( حصيلة الماضي ) والمستقبل ( كما تعبر عنه حاجاتها ) أو بتعبير أسهل : ان المجتمعات تتطور خلال حل المشكلات التي يطرحها واقعها مستهدفة دائماً اشباع حاجاتها المادية والثقافية المتزايدة ابداً .
إذا نظرنا على ضوء هذا الى تطور المجتمعات ” نجد ان التكوين القبلي كان حصيلة نمو واضافة تحققت خلال حل مشكلات الطور الذي سبقه . فهو اكثر منه تقدماً ، وأكثر منه شمولاً ، فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف اليه ما يحدده كما يحدد الكل الجزء . فالمجتمع القبلي لم يلغ الاسرة فيه ، بل ظلت أسراً وبطوناً وأفخاذاً يقوم الدم فيها رابطة بين ذوي الدم الواحد في حدود مشكلاتهم العائلية ، تضاف اليها الرابطة القبلية الواحدة فيما يتجاوز حدود الاسرة الى القبيلة . اضافة كانت حلاً لمشكلة تحققت بها للافراد حتى من الاسرة الواحدة حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها من مقدرة على التحرر . اللغة الواحدة بقيت كما كانت وسيلة للمعرفة ولتبادل الرأي ولكنها أصبحت أكثر غنى بما أضاف الناس اليها في المجتمع القبلي من معارف وآراء جديدة طورتها فتجاوزت لغة الأسر والبطون والعشائر التي بقيت لهجات تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل فكسب به كل فرد من أية أسرة حريات أكثر مما كانت له وهو محصور في امكانيات بني دمه … ( كذلك ) التكوين القومي للمجتمعات ( كان ) حصيلة نمو وإضافة تحققت خلال الحل الجدلي لمشكلات الطور الاجتماعي الذي سبق القوميات فهو أكثر منه تقدماُ ، أي فيه من الحريات للانسان أكثر مما كان . وهو اكثر منه شمولاً فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف اليه ويحدده كما يحدد الكل الجزء . فكما ان المجتمع القبلي لم يلغ الاسرة بل ظلت اسراً وبطوناً وافخاذاً . يقوم الدم فيها رابطة مميزة بين ذوي الدم الواحد ، بقيت الاسر في الأمة الواحدة واضيفت اليها الروابط المحلية والاقليمية فيما يتجاوز التمييز العائلي ، تمييزاً للخلف المستقر للجماعات القبلية ، قرى ومدناً ومناطق واقاليم ، ثم اضيفت اليها الرابطة القومية إضافة كانت حلاً لمشكلات الاسر والاقاليم ذاتها ، وتحققت بها للافراد من الأسر ومن الاقاليم حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها او الروابط المحلية وحدها . اللغة الواحدة بقيت كما كانت من قبل وسيلة مشتركة لتبادل المعرفة وتبادل الرأي ، واصبحت اكثر غنى بما اضاف اليها الناس في المجتمع القومي من معارف وآراء جديدة طورتها فتجاوزت لغة الاسر والاقاليم التي بقيت لهجاتها تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق إضافة في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل ، فكسب به كل فرد من اية اسرة ، ومن اية اقليم ، علماً وثقافة وحريات اكثر مما كان له وهو محصور في امكانيات بني دمه او عشيرته أو اقليمه . والاضافة لا تلغي المضاف اليه ولكن تكمله فتغنيه … الخ .
وهكذا جاء كخلاصة لدراسة طويلة في ” اسس الاشتراكية العربية ” باللغة المنتقاة على ما تفرضه الدراسة هناك . ونقوله هنا باللغة البسيطة التي تناسب الحوار المفتوح : اننا لم نكن أمة عربية اعتباطاً ، بل تكونا أمة عربية من خلال بحث الناس عن حياة افضل ، فإذا كنا قد بلغنا من خلال تلك المعاناة التاريخية الى الطور القومي ، أي ما دمنا أمة عربية واحدة ، فإن هذا يعني ان تاريخنا ، الذي قد نعرف كل احداثه وقد لا نعرفها ، قد استنفذ خلال بحث اجدادنا عن حياة افضل كل امكانيات العشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معاً لتكون أمة عربية واحدة . وانها عندما اكتملت تكويناً كانت بذلك دليلاً موضوعياً غير قابل للنقض على أن ثمة ” وحدة موضوعية ” قد نعرفها ، وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها . وانها ، بهذا المعنى ، مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق المصير القومي . قد يحاول من يشاء ان يحل مشكلاته الخاصة بإمكانياته القاصرة ، ثم يقنع بما يصيب ، ولكنه لا يلبث أن يتبين ، في المدى القصير او الطويل ، ان الحل الصحيح المتكافيء مع الامكانيات القومية ، المتسق مع التقدم القومي ، قد أخطأه عندما اختار ان يفلت بمصيره الخاص في الوحدة الموضوعية للمشكلات التي تشكل حلولها المصير القومي الواحد .
ذلك هو ما تعنيه ” وحدة المصير القومي ” .
انه ذات التعبير في مجتمع قومي عن البدهية التي عرفناها من قوانين التطور الاجتماعي ( فقرة 18 ) : ” ما دام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً … فلو استطعنا أن نحصر كل ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع ان يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف تحل . أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هي محددة موضوعياً . مؤدى هذا ان كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها الاحل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها أكثر من حل خاطيء ، قاصر أو متجاوز أو مناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها ، ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا أن يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي واحد ” .
23 ـ وحدة الدولة القومية :
لا يتفق فقهاء علم القانون على تعريف واحد للدولة ، ولكنهم يتفقون على العناصر التي يجب ان تتوافر لأي مجتمع ليكون دولة ، فيقولون انها ثلاثة : (1) شعب و(2) أرض و(3) سلطة شاملة الشعب والأرض جميعاً مستقلة عن أية سلطة أخرى . ويضيف بعضهم ” الاعتراف ” كعنصر رابع وان كان هذا محل خلاف كبير يدور حول ما إذا كان الاعتراف لازماً لتوحيد الدولة أم للاقرار بوجودها أم للامرين معاً . وفقهاء علم القانون ، في كل هذا ، ” يصفون ” الدولة ” النموذج ” ، ولكنهم لا يهتمون بكيفية قيام الدولة ” الواقعية ” . فيكفيهم أن تقوم في الواقع بعناصرها النموذجية لتكون عندهم دولة ، ثم يبدأون ، بعد هذا ، في شرح دلالات عناصرها والاثار القانونية ( الحقوقية ) المترتبة عليها غير ان اكثر جهد فقهاء علم القانون كان وما يزال منصباً على شرح دلالة وىثار ذلك العنصر الثالث : ” السلطة ” أو ” السيادة ” كما يقال في كثير من كتب القانون حيث تتداول الكلمتان كما لو كانتا ذاتي مدلول واحد . وفي هذا يدور الحوار الخصيب حول ما يسمى ” بالمشكلة الدستورية ” . ماهي السيادة ؟ أو ماهي السلطة ؟ وما مصدرها ؟ . ومن صاحب الحق في ممارستها ؟ .. وما هي حدودها … الخ . وما يزال ما يقولونه في هذا غير منته الى اتفاق . ذلك لأنهم يعالجون موضوعاً ذا جذور تاريخية موغلة في القدم كانت السلطة فيها اسبق الى المعرفة من السيادة . وكان مصدرها ما يسمى ” بالتفويض الالهي ” . حيث يمثل الملك إرادة الله في الأرض ولا يكون مسؤولاً إلا أمامه في السماء . وقد انتهى هذا المفهوم بنهاية القرن الثامن عشر حيث أصبح الشعب مصدر السلطة . وفيه دخل تعبير ” السيادة ” لغة القانون . فالشعب مصدر السلطات لأن الشعب ، وليس الملك ، هو السيد . ولكن الشعب السيد لا يمارس سيادته فما هي العلاقة بينه وبين من يمارسها ؟ أو ما هي العلاقة بين السيادة والسلطة ؟ وفي هذا كلام كثير . ووراءه كل هذا النظريات التي شاعت في أوروبا قبل القرن الثامن عشر وابدعها فلاسفة الليبرالية من امثال روسو و منتسكيو الذين كانوا يبذرون أفكارهم للتمهيد للثورة ضد الاقطاع . ولسنا ندخل ساحة الحوار مع هؤلاء أو مع فقهاء علم القانون . انما نحاول هنا أن نترجم نظريتنا القومية الى لغة القانون .
” يمكننا منذ البداية أن نفرق بين السيادة والسلطة . فالسيادة أشمل من السلطة إذ السلطة هي ” ممارسة ” السيادة . أو ان حق السيادة هو مصدرر حق السلطة . وهما في علاقة قريبة من علاقة حق الملكية بحق الانتفاع ، إذ الأول يتضمن الأخير وهو مصدره . ويترتب على هذا ـ أولاً ـ أن من يملكك حق السيادة يملك حق السلطة ، ولكن ليس من اللازم أن يكون مالك حقق السلطة مالكاً لحق السيادة . ويقوم هذا عندما يمارس صاحب حق السيادة حقه في السلطة لا بنفسه ولكن بمن يختاره ليمثله وينوب عنه في ممارسته . ويترتب عليه ـ ثانياً ـ أن من يمارس السلطة نيابة عن صاحب حق السيادةة يظل تابعاً لمن أنابه فكما يختاره له ان يحاسبه وان يعزله وان يعين غيره .. وعندما يسلب منه هذا الحق يكون قد فقد سيادته . فإذا طبقنا هذا على المجتمعات نجد أن الشعب هو صاحب حق السيادة بما يتضمنه من سلطة . أما محل الحق فهو الأرض . ومن هنا يكون للسيادة مفهوم ذو حدين : سيادة الشعب على ارضه دون الشعوب والجماعات الأخرى ( الاختصاص بالأرض ) . وسيادة كل الشعب على ارضه ( المشاركة فيها ) . ولما كان الشعب مكوناً من أفراد عديدين فإنه يمارس سيادته في حديها من خلال أفراد يمثلونه وينوبون عنه ويكونون مسؤولين أمامه . أولئك الذين يطلق عليهم لفظ الحكومة . هنا تبقى السيادة للشعب وتمارس الحكومة السلطة نيابة عنه ثم تتوزع وظائف السلطة على اجهزة متخصصة في التشريع او القضاء … ويصاغ كل هذا في عديد من القواعد الملزمة لكل واحد من الشعب أياً كان موقعه . وبمجموع تلك القواعد يتحول المجتمع الى مؤسسة منظمة . منظمة بمعنى أن علاقة الناس فيها بالأرض وعلاقاتهم فيما بينهم وعلاقتهم بمن ينوبون عنهم في ممارسة السلطة تكون محددة بقواعد ملزمة لهم جميعاً ولكل واحد منهم . ونلتقي هنا بكلمة الشرعية . أي اتفاق السلوك الفردي أو الجماعي مع قواعد ذلك النظام القانوني . ويصبح غير مشروع كل سلوك لا يتفق معها . تلك القواعد التي تضبط سلوك الناس في مجتمع منظم هي ما يسمى ” بالقوانين ” التي تطلق عليها بدورها اسماء شتى من أول الدستور ( القانون الاساسي ) الى آخر الأوامر الادارية . المهم انه أياً كان اسم القاعدة الملزمة فهي جزء من نظام قانوني ( حقوقي ) غايته أن يضبط سلوك الناس في المجتمع على قاعدتين تمثل كل منهما حداً من حدي السيادة ، الأولى اختصاص الشعب بالأرض دون غيره . والثانية مشاركة الشعب في أرضه . وعندما يقوم هذا النظام في أي مجتمع يتحول المجتمع الى منظمة قانونية ( حقوقية ) من البشر والأرض ، أو كما يقال من الشعب والوطن ، أي يتحول الى ” دولة ” بعناصرها التي يعرفها فقهاء علم القانون ، الشعب والأرض والسلطة ( السيادة ) .
ثم يأتي الاعتراف صادراً من دولة اخرى ويكون من آثاره التزام الدولة المعترفة بالآثار الملزمة للقواعد التي تشكل بمجموعها المنظمة القانونية ( الدولة ) المعترف بها .
ولقد عرفنا من قبل كيف يتحدد عنصرا البشر والأرض في المجتمع القومي خلال التطور التاريخي . وكيف أن الأمة هي تكوين اجتماعي من شعب معين وأرض معينة خاصة بها ومشتركة فيما بينه . ويضيف هذا الى مفهوم السيادة مضموناً جديداً هو المشاركة التاريخية فيها بين الاجيال المتعاقبة من الشعب . وننتهي الى عدم شرعية تنازل الشعب ، أي جيل من الشعب ، عن السيادة على الأرض . وان شرعية الدولة ذاتها منوطة باتفاق نطاقها البشري والاقليمي مع التكوين التاريخي للمجتمع .
بناء على هذا كله نستطيع ان نقول اننا عندما نكون في مواجهة امة فإن وحدة الوجود القومي تحتم وحدة الدولة فيها . بمعنى ان الدولة القومية التي تشمل الشعب والوطن كما هما يحددان تاريخياً هي وحدها التي تجسد سيادة الشعب على وطنه القومي ومشاركته التاريخية فيه . وهي لابد ان تكون شاملة البشر والأرض جميعاً لتكون دولة قومية مكتملة السيادة . إذ عندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الشعب يكون هذا الجزء قد حرم من ممارسة سيادته على وطنه . وعندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الوطن يكون الشعب قد حرم من ممارسة سيادته على ذلك الجزء من الوطن .
غير ان هذا ليس كل شيء .
فقد عرفنا أن وحدة المصير القومي تعني أن ” ثمة وحدة موضوعية ” ، قد نعرفها وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها . وانها ، بهذا المعنى ، مشكلات قومية لا يمكن أن نجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق المصير القومي ( فقرة 23 ) . ومؤدى هذا ان وحدة الدولة القومية شرط لازم لإمكان معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية في المجتمع القومي ، وحلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذ تلك الحلول في الواقع . ان هذا لا يعني أن الناس في الدولة القومية سيعرفون تماماً حقيقة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة أو انهم سيحلونها فعلاً إنما يعني أن كل هذا يكون متاحاً لهم في الدولة القومية أما الباقي فيكون متوقفاً على مقدرتهم على الانتفاع به .
ونلاحظ هنا ملحوظة دقيقة .
إذا كانت ممارسة حل المشكلات الاجتماعية في مجتمع قومي تتم في غير نطاق الدولة القومية ، فإننا لا نستطيع ان نعرف ـ من مجرد الممارسة ـ حقيقة مشكلة غياب الدولة القومية . لأن الدولة القومية هي الشرط الأول لمعرفة حقيقة المشكلات التي يطرحها الواقع الاجتماعي القومي بما فيها مشكلة الدولة ومناسبتها لآداء وظيفتها . نريد أن نقول أنه مهما عرفنا من المشكلات الاجتماعية في مجتمعنا القومي وحلولها والامكانيات المتاحة لحلها ، فإن غياب الدولة القومية يعني بذاته اننا نواجه مشكلة ” نقص ” المعرفة بالمشكلات وحلولها ، و ”نقص ” الامكانيات المتاحة لحلها . ان هذا النقص في المعرفة لا يمكن ان يعوض إلا علمياً وعقائدياً . أما النقص في الامكانيات فلا يعوض إلا بالدولة القومية ذاتها . لهذا فإننا نلاحظ أن الذين يتصدون لحل المشكلات الاجتماعية في غيبة الدولة القومية ، بدون وعي قومي ، لا يعرفون من الممارسة ضرورة الدولة القومية في المجتمع القومي إلا بقدر ما يفشلون وفي المجالات التي يفشلون فيها وفي وقت الفشل . ومن هنا لا يتذكرون الوحدة إلا عندما يفشلون ولا يطلبونها إلا في مجالات فشلهم ولا يقبلونها إلا بقدر ما تكون ” نافعة ” كتعويض لهذا الفشل . نافعة في إكمال معرفتهم بالمشكلات أو إكمال معرفتهم بحلولها أو إكمال امكانيات حلها . فهي مرتبطة عندهم بالمنفعة كما يلمسونها ، وإنما يلمسونها ، وعندما يلمسونها في الممارسة . وهو طريق تجريبي للمعرفة طويل وباهظ الثمن ولكنه يؤدي ، في النهاية ، الى ذات المنطلق العقائدي الصحيح . إذ لما كانت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية في الواقع الاجتماعي القومي محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ( المجتمع القومي ) ذاته فإن الممارسة في غيبة الدولة القومية ستعلم أصحابها كيف يقبلون الحل الصحيح لمشكلاتهم : الوحدة . هذا لاشك فيه طال الزمان او قصر . كل ما في الأمر أنهم لن يتعلموا إلا بعد أن يبذلوا جهوداً مهدرة في محاولات التطور الفاشلة . وهذا هو الفارق بين المعرفة العلمية لقوانين التطور الاجتماعي والتزامها وبين الجهل بها أو تجاهلها وممارسة التطور الاجتماعي بالتجربة والخطأ . الفارق بين حركة التطوير الاجتماعي العقائدية وبين حركة التطور الاجتماعي التجريبية .
وعندما نكون عقائديين ، وعندما نكون علميين ، ونعرف أن واقعنا الاجتماعي هو ” أمة ” نطلب الوحدة السياسية ( الدولة القومية ) حتى نوفر لأنفسنا اول شروط المقدرة على التطور ولا نطلبها لحل إحدى مشكلات التطور . نطلب دولة الوحدة لمجتمعنا القومي لنستطيع ان نتطور ” فيها ” ولا نطلبها لنطور ” بها ” واقعنا الاقليمي مثلاً . الأول موقف قومي سينتصر حتماً والآخر موقف انتهازي سينكشف حتماً فينهزم.
فما القومية ؟
24 ـ القومية :
قلنا أن الاضافة الى الاثنين ـ خلال الزمان ـ تمد أبعاد المجتمع الصغير ، أو الجماعة ، على مستويات ثلاثة : امتداد افقي حيث يتعدد الناس ويحمل كل فرد حاجته معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الافراد . وامتداد رأسي يبدأ بالحاجة الفردية الى الحاجة الجماعية أو المشتركة . واتجاه الى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية وجماعية جديدة تضاف الى ما كان موجوداً وهكذا عندما يكتمل التكوين القومي ونكون في مواجهة ” أمة ” تكون لكل أمة أبعاد ثلاثة . البعد الأول يحددها من حيث علاقتها بالجماعات الانسانية الخارجة عنها . والبعد الثاني يحددها من حيث علاقتها بالجماعات الانسانية الداخلة فيها . والبعد الثالث يحددها من حيث مسيرتها كأمة . هذا بالاضافة الى حدها الرابع ( الحد الزماني ) الذي هو الواقع الاجتماعي للأمة في وقت معين .
من مجموع هذه الابعاد التي تصل الأمة بغيرها ، كما يحددها ويتحدد بها الوجود القومي نعرف أن ” القومية ” وصف للعلاقة التي تجمع الناس في مجتمعهم القومي والموقف القومي هو الذي يتحدد متفقاً مع علاقات المجتمع القومي بغيره . والحركة القومية هي التي تستهدف تطوير المجتمع القومي في حدود التزامها تلك العلاقات . أما المجتمع القومي فهو الأمة نفسها .
اننا ـ هنا نلتقي بأولى مميزات ” نظرية تغيير الواقع القومي ” . انها أولاً وقبل كل شيء نظرية قومية . بمعنى أنها بيان لمنطلقات وغايات وأساليب تطوير مجتمع حقيقته التاريخية ـ كما هي ـ أنه ” أمة ” .
فهي تبدأ من الوجود القومي الى مصيره القومي وتتعامل معه في حركته ” كما هو ” . إذن ، نحن لن نختر القومية نظرية لتغيير واقعنا العربي تعصباً مرضياً بل قبولاً علمياً للتعامل مع واقعنا الاجتماعي ” كما هو ” . وقد عرفنا من نظرية تطور المجتمعات ( فقرة 18 ) ( المنهج ) ، التي هي واحدة بالنسبة الى كل المجتمعات ، إن التعامل مع الواقع الاجتماعي ” كما هو ” هو أول مفاتيح النجاح في حل مشكلات التطور الاجتماعي في أي مجتمع . فإذا كنا نرفض أية نظرية ” لا قومية ” مهما كانت وعودها مغرية فلأننا نعرف أنها نظرية فاشلة في تحقيق ما تعد به في واقعنا العربي المحدد موضوعياً بأنه واقع قومي . وأنها إن تكن نظرية محدودة ومقصورة على تطوير الواقع الجزئي في مجاله ( مجال اقتصادي أو اجتماعي ، أو سياسي .. الخ ) أو في مكانه ( تطوير الواقع في مكان ما من الوطن العربي ) فإنها ستكون فاشلة ايضاً ما لم تكن متسقة كجزء مع النظرية القومية لتطور الأمة العربية . حتى لو لم يكن فشلها إلا في عجزها عن أن تحقق في واقعها الجزئي ما يمكن موضوعياً تحقيقه طبقاً للنظرية القومية .
ولنبدأ بالبعد الأول للوجود القومي .
25 ـ القومية والانسانية :
” في الكل الشامل للطبيعة والانسان : كل شيء مؤثر في غيره متأثر به ” هذا هو القانون . وتطبيقه على الوجود القومي وحركته يؤدي الى معرفة أن كون ” الأمة ” مجتمعاً من بني البشر ذا خصائص متميزة لا يعني أنه ليس جزءاً من وجود وحركة المجتمع الانساني كله . ومن هنا لا تعني ” القومية ” الانعزال عن القضايا التي تمس المجموعة الانسانية ككل أو أية مجموعة انسانية منها . بل تعني ، من ناحية ، المشاركة فيها بقدر ما تؤثر في الوجود القومي وحركته . وتعني ، من ناحية أخرى ، ان الحركة القومية منضبطة بحدود القضايا التي تمس المجموعة الانسانية ككل أو أية مجموعة انسانية أخرى . على اساس أنها مؤثرة فيها حتماً . أن مشكلة السلام العالمي ، في عصر الاسلحة النووية ، تقدم لنا مثلاً حياً لهذا التأثير المتبادل بين الوجود القومي والوجود الانساني . ولكنه ليس المثل الوحيد . في حدود هذا يظل الوجود القومي مجرد وجود خاص . فهو إضافة الى ، وليس انتقاصاً من ، وجود الجماعات الانسانية الأخرى . وهكذا تكون ” القومية ” علاقة قبول واحترام للوجود الخاص لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية .
غير أنه يبدو أن ” الممارسة ” التاريخية لا تؤيد هذا . فإن ” القومية ” متهمة بأنها كانت وما تزال علاقة عدوانية . ويضربون لهذا مثلاً ، أمثلة عديدة في الواقع ، من تاريخ العدوان الاستعماري المستمر على الشعوب ، ومن الحرب ” الاوروبية ” الثانية التي شنتها النازية والفاشية . ويقولون أن كل هذا كان ، وما يزال ، أثراً من آثار القومية . والواقع أنه ليس من الغريب ـ كما سنرى ـ أن يكون كثير من المعتدين الاستعماريين ، والنازيين ، والفاشيين قد شنوا حروبهم العدوانية باسم القومية . ولكن الغريب حقاً أن يصدق بعض الذين يدعون المعرفة العلمية ما يقوله المعتدون . إن أقل مقدرة من المعرفة العلمية بالاستعمار وبالنازية وبالفاشية ، وغيرها من الحركات العدوانية ، يكشف عن حقيقة القوى الكامنة وراء الحروب العدوانية ، وبواعثها ، وأغراضها . انهم الرأسماليون الذين يستغلون ، أول ما يستغلون ، الشعوب من اممهم ذاتها ، ثم يستعملونها وقوداً للحروب التوسعية بقصد اغتصاب ما لدى الشعوب الأخرى من ثروات وقوى لاستهلاكها أو لتصنيعها ثم اعادتها الى ذات الشعوب المقهورة لا ستهلاكها في مقابل الاثمان التي يفرضها الغاصبون . كل هذا بقصد تحقيق مزيد من ” الربح ” للرأسماليين . لا جشعاً منهم ، كما يقال عادة ، ولكن لأن تلك هي طبيعة النظم الاستغلالية حيث لا يستطيع أحد إلا أن يكون سارقاً أو مسروقاً بحكم قانون المنافسة المخرب . والمستغلون الذين كانوا قد أخضعوا شعوبهم قبل أن يتطلعوا الى الشعوب الأخرى ، وأبقوها على الجهالة قسراً ، وسموا عقولها بما يملكون من مقدرة اقتصادية في الاعلام والتوجيه ، ما كانوا ، ولا يمكن أن يكونوا ، صادقين معها فيطلبوا منها أن تبعث بأبنائها الى مجازر الحروب ” فيما وراء البحار ” أو ” فيما وراء الحدود ” للبحث عن مصادر جديدة للثروة والربح . ثروتهم الخاصة وأرباحهم الخاصة . فلا يجدون ما يسترون به جرائمهم ، ويدفعون به الشبهة عن مطامعهم ، إلا أكثر الروابط الانسانية بعداً عن العدوان : القومية . وهم لا يتورعون عن استغلالها متى كانت أكثر ملائمة لاخفاء الأسباب الحقيقية للعدوان . بل أنهم قد يجدون حدثاً ما ، وإذا لم يجدوه اختلقوه ، لإيهام الناس بان ثمة اعتداء على أمتهم ، ليدفعوا الناس الى مجازر الحروب العدوانية التي لا علاقة لها بالقومية .
آية هذا أننا بقدر ما نجد في التاريخ من حروب عدوانية باسم القومية ، نجد حروباً تحررية باسم القومية أيضاً . وفي الحرب ” الاوروبية ” الثانية كانت النازية تغزو بولندا باسم القومية الالمانية . وكانت بولندا تدافع عن وجودها باسم القومية البولندية . وانهزمت فرنسا في حربها القومية ضد العدوان النازي . وانتصر الاتحاد السوفيتي في حربه ” القومية الكبرى ” ضد النازية . فأيهم كان اصدق قولاً في ” القومية ” ؟ … فهل تصدق ادانة القومية بما تجني أيدي المستغلين ، مصاصي دماء الشعوب ، شعوبهم والشعوب الأخرى ؟ اننا قبل أن ندين أية حرب ينبغي أن نعرف لماذا ، ولمصلحة من يخوض كل طرف حربه . بصرف النظر عن التضليل الدعائي الذي هو واحد من مصلحة الحروب .
انما المسألة هي ان الوحدة القومية تعبيء كل امكانيات الأمة . فهي خطوة قومية . ثم يتوقف ما بعد هذا على القوى التي تستعمل تلك الامكانيات المتاحة . عندما تكون القوى ” قومية ” لا يمكن أن تستعملها إلا في خدمة تطور الأمة ذاتها معرفة منها بأنها امكانيات خاصة ومشتركة . ومن هنا يصر القوميون ، أول ما يصرون ، على ضرورة الوحدة السياسية لكل أمة ، ليحولوا بذلك دون اسئثار أي قوى ، ولو كانت قطاعاً عريضاً من الشعب نفسه ، بمصادر الثروة في ذلك الجزء من الوطن الذي يعيش فيه . انهم يرفضون هذا الاستئثار ويفرضون الوحدة السياسية لتشمل كل الشعب وكل الوطن تأكيداً لوحدة الأمة ووحدة مصيرها . ولا خلاف هنا في نوع هذه الحركة وأهدافها . فكل حركة ” وحدوية ” على أساس وحدة الوجود القومي ، بشراً وأرضاً ومصيراً ، هي حركة قومية . وهي حركة قومية بهذا المعنى وفي هذه الحدود فقط . ومرجع التحفظ ما عرفناه من قبل من أن المجتمعات لم تدخل كلها مرحلة التكوين القومي دفعة واحدة في وقت واحد . كما أن مسيرة التكوين القومي لم تكن واحدة بالنسبة الى كل الأمم . وقد أدى هذا الى ان بعض الحركات القومية قد صاحبت حركة التحرر البرجوازي من القهر الاقطاعي في أوروبا . وتولى البرجوازيون قيادتها إلى أن تحققت الوحدة القومية . والقى هذا شبهة كثيفة على الحركات القومية ظناً بأن كل حركة قومية هي حركة برجوازية . ونحن لا نريد أن نناقش هنا ما إذا كانت الحركة البرجوازية قبل القرن التاسع عشر ـ في أوروبا ـ تقدمية ام رجعية . إنما الذي نريد أن نطرحه هو السؤال الآتي : في أية مرحلة وإلى أي مدى كانت تلك الحركات التي أقامت الدول القومية الموحدة ثم تجاوزتها الى الاستغلال الرأسمالي ، الى أي مدى وفي أية مرحلة كانت قومية ؟ لا شك في أنها كانت حركات قومية في مرحلة ما قبل الوحدة والى أن تمت الوحدة . فقد كانت تلتزم الرابطة القومية التي تنفي التجزئة ، ولكنها بمجرد أن حققت الوحدة انقسمت قوى متصارعة : الرأسماليون من ناحية يريدون مصالحهم الخاصة ، وهو موقف مناقض لوحدة المصير القومي ، والشعب من ناحية يريد ان يحقق من التقدم ما تتيحه له الرابطة القومية ، وذلك موقف قومي . ثم لما ان تجاوز الرأسماليون استغلال شعوبهم ذاتها واتخذوا من الحروب العدوانية سبيلاً الى قهر الشعوب الأخرى واستغلالها ، كانوا أبعد ما كانوا عن القومية . القومية كما نعرفها ونفهمها . وحتى كما فهمها الليبراليون (الرأسماليون) لم يكن تجاوز الوحدة القومية الى الاستغلال والاستعمار حركة قومية . إذ ان المفهوم الليبرالي للقومية يوقف حركتها عند الوحدة القومية ولا يرى انها ـ بعد هذا ـ ذات مضامين تتصل بمستقبل التطور بعد تحقيق الوحدة ( فقرة 6 ) ولكن الخلط جاء من التقييم الماركسي للقومية بمفهومها الليبرالي إذ اعتبر أن ذلك المفهوم السلبي للقومية هو المفهوم الصحيح فاعتبر ان كل حركة قومية هي حركة ليبرالية أو بورجوازية (فقرة11) .
26 ـ القومية والاسلام :
الاسلام دين مشترك بين كثير من الأمم والشعوب والجماعات الانسانية . وهكذا يقع تحديد العلاقة بين القومية والاسلام في نطاق علاقة الأمة بالمجتمعات الانسانية خارجها . وكثيراً ما طرحت الرابطة الاسلامية كبديل عن القومية . وهو خطأ جسيم راجع إلى قصور مضاعف في المعرفة الصحيحة بالاسلام وبالقومية كليهما .
فالاسلام دين ولكنه متفرد بمميزات خاصة مثله في هذا كمثل أي دين آخر . وقد عرفنا أن كل أمة معينة تنفرد بمميزات خاصة مثلها كمثل أية أمة أخرى . فالبحث في ” الرابطة الاسلامية ” وعلاقتها بالقومية على ضوء نظرية مجردة في الدين إطلاقاً أو في الأمم إطلاقاً أول خطأ يقع فيه الباحثون ، لأنه يتجاهل خصائص كل دين وخصائص كل أمة . وقد أدى هذا إلى خطأ أكثر جسامة ذلك هو تجاهل العلاقة التاريخية ” الخاصة ” بين الاسلام والأمة العربية . وهي علاقة لا مثيل لها – فيما نعرف من تاريخ الأديان والأمم – بين أي دين وأية أمة .
في الأصل كان ” الدين ” عنصراً من عناصر التكوينات الاجتماعية المختلفة التي كانت وحدة ” الأصل ” محور تكوينها ” الأسر والعشائر والقبائل ” . وانقلب الأجداد الذين ماتوا إلى آلهة يعبدهم نسلهم من الأحياء ، ويتميزون بهم عن ذوي ” الأجداد ـ الآلهة ” الأخرى . ثم استقر “ الإله ” رمزاً مميزاً لكل قبيلة . فكان لكل قبيلة ” الهها ” الخاص ، تختاره طبقاً لظروفها الخاصة وتعبده طبقاً لتقاليدها الخاصة ، وتلتمس منه العون في تحقيق مصيرها الخاص . وإن تعددت مشكلاتها لم يكن ثمة ما يمنع أن تكون لكل قبيلة أو مجتمع صغير مجموعة كبيرة من الآلهة يختص كل منها باسداء العون لعباده في واحدة من تلك المشكلات : الحب ، الحرب ، الزرع ، الملاحة .. الخ .
ولكنها حتى وهي مجموعة ” خاصة ” كانت تقوم بالوظيفة المشتركة للآلهة في المجتمعات القبلية وما دونها : رمز يجسد الوجود الاجتماعي المستقل لكل جماعة ويميزها عن غيرها . وكل هذا لايزال قائماً في المجتمعات البدائية والقبلية المعاصرة … ثم جاء الاسلام متميزاً قبل كل شيء بالتوحيد . ( لا إله إلا الله لاشريك له . لم يلد ولم يولد ) . وكان هذا رفضاً اسلامياً قاطعاً لقيام الدين مميزاً للمجتمعات الانسانية بعضها عن بعض لأنه رفض قاطع لاختصاص كل جماعة من الناس بدين خاص يميزهم عن غيرهم . ولم يكن ” التوحيد ” ليكتمل إلا إذا قدّم الاسلام ذاته إلى كل الجماعات الانسانية كبديل مشترك ، ووحيد عن اديانها المتعددة . إن الدين عند الله الاسلام . وهكذا جاء الاسلام – كما هو – خطاباً للناس كافة . لكل البشر في كل زمان وفي كل مكان . نقول الاسلام ” كما هو ” احتكاماً للاسلام ذاته . وحكمه في هذا ملزم للمسلمين الذين يقفون من القومية موقفاً مضاداً باسم الاسلام . ومضمون الحكم أن الاسلام في جوهره دين ” وحدة انسانية ” ومما يتنافى مع جوهره هذا أن يكون ديناً “خاصاً ” بجماعة أو جماعات انسانية دون البشر أجمعين .
وليس للمسلم أن يكون له إله كإله بني إسرائيل . ومن هنا ندرك كم هو جسيم ذلك الخطأ الذي يقع فيه بعض المسلمين عندما يدعون إلى ” مجتمع إسلامي ” مقصور على المسلمين ومحدد لعلاقتهم بغيرهم من المجتمعات . وينسون أن مثل هذه الرابطة ان كانت قد تجمع بين المجتمعات المسلمة فإنها ـ في الوقت ذاته ـ تعزل الاسلام عن باقي البشر وتحيله الى دين “خاص ” ببعض الناس وهو للناس كافة . ان هذا ” الاستئثار ” بالاسلام مميزاً لبعض المجتمعات الانسانية ليس من الاسلام في شيء بل هو يتنافى ـ قطعاً ـ مع طبيعة الاسلام كدين لكل بني الانسان بدون تمييز والذين يقدّمون الاسلام بديلاً عن ” القومية ” ينزلون بالاسلام من مكانه فوق الأمم جميعاً ليحصروه في أمة أو في بعض الأمم ، وهو رابطة انسانية ولا يمكن أن يكون أقل من رابطة إنسانية ، وبالتالي لا يقع على مستوى واحد من القومية فيكون بديلاً عنها أو تكون بديلة عنه ، بل هو يجاوزها إلى المجتمع الانساني كله الذي يشمل كل الأمم والشعوب والجماعات .
غير أن الاسلام لم يكن ديناً فحسب ، بل كان ثورة اجتماعية ذات مضامين حضارية . وتلك هي إحدى خصائصه المميزة . وهي هي التي أنشأت بينه وبين الأمة العربية علاقة تاريخية متميزة. ذلك ان الاسلام كثورة اجتماعية قد لعب دوراً أساسياً في تكوين الأمة العربية .
ففي خلال أحقاب طويلة من الهجرة والصراع سابقة على ثورة الاسلام كانت قد استقرت مجتمعات قبلية متجاورة في رقعة من الأرض التي يحصرها من الشمال البحر الأبيض المتوسط وجبال طوروس ، ومن الشرق إيران والخليج العربي ، ومن الجنوب المحيط الهندي فهضبة الحبشة فالصحراء الأفريقية الكبرى ، ومن الغرب المحيط الأطلسي . وكانت تلك المجتمعات القبلية متميزة بعضها بما ورثته عن العهد القبلي أي بالأصل الخاص واللغة الخاصة وبتراث خاص من الثقافة والعقائد والتقاليد والطور الحضاري . وعندما استقرت كل منها في مكانها اصبحت شعوباً ودخلت كل منها منفردة ـ مرحلة التكوين القومي . ولو طال بها الاستقرار لتطورت أمماً متميزة . غير أن الاستقرار لم يطل بأية جماعة منها حتى تكوّن أمة . ولم يطل بها جميعاً حتى تتكون أمماً متجاورة . فقد اجتاحتها موجات متعاقبة كاسحة من الغزو الخارجي إما من وسط آسيا أو من وسط أفريقيا أو من أوروبا . كما أن موجات الهجرة الداخلية ـ السلمية والمقاتلة ـ لم تنقطع عابرة بها ومستقرة فيها وكانت فترات الغزو تعطل نموّها وتعوق تكونها القومي بما تسببه من انقطاع في اختصاص كل شعب بأرض معينة ، وما ان ينحسر الغزاة ، أو يستقروا ، لينشط التكوين القومي حتى تدهمها كلها أو بعضها ، موجة غازية أخرى . واستمر هذا الوضع : فترات من الاستقرار فالاضطراب فالغزو بالاحتلال ، تحبس نمو تلك الشعوب والجماعات عن اكتمال الوجود القومي حتى ظهر الاسلام ثورة : فكرية واجتماعية معاً .
وعندما ظهر الاسلام لم تكن أية جماعة من تلك الجماعات قد تكونت أمة ، وإن كان أغلبها في طور التكوين . فقد كانت السيطرة الفارسية والاغريقية والرومانية قد عطلت نمو كل الجماعات التي تقيم في النصف الشمالي من تلك المنطقة الجغرافية ، التي لم تكن ، تحت السيطرة ، أكثر من مجتمعات من العبيد لا يختصون بأرضهم دون سادتهم ولا يتفاعلون معها أو فيما بينهم تفاعلاً حراً . وكانت الجماعات الأخرى في قلب الجزيرة العربية أو مشارف صحراء أفريقيا ما تزال في مرحلة قبلية متخلفة . وقد بدأ المسلمون بناء تاريخهم من أكثر البقاع تحرراً من السيطرة الأجنبية أي أكثرها قابلية للتطور والنمو . وقد وفر الاسلام للمجتمعات القبلية المستقرة في وسط الجزيرة العربية ، رابطة اجتماعية مشتركة تجاوزت بها التمييز القبلي ودخلت بها طور التكوين القومي . وجمعت مشكلة نشر الدعوة الاسلامية تلك القبائل في نواة قومية اندفعت غازية ما جاورها من قبائل وأقاليم وأمم . وعندما توقف المد الاسلامي كان قد ضم إليه مجتمعات مختلفة في درجة تكوينها الاجتماعي . كانت منها أمم أدركها الاسلام وهي مكتملة التكوين مثل فارس . وكانت من بينها جماعات ومجتمعات وشعوب ماتزال في طور التكوين لم تستو أمماً . وقد كان أثر الاسلام بالنسبة الى كل من تلك المجتمعات مختلفاً .
فالأمم التي أدركها الاسلام وقد اكتمل وجودها القومي كان الاسلام بالنسبة إليها إضافة إلى حضارتها القومية ولكنه لم يلغ وجودها القومي فظلت أمماً مسلمة . أما المجتمعات التي أدركها الإسلام وهي في الطور القبلي أو وهي شعوب في طور التكوين القومي لم تصبح أمماً بعد ، فقد أكمل الاسلام تكوينها أمة واحدة . أزال الحواجز فيما بينها ووفر لها الأمن الكافي لتتفاعل وتلتحم فتصبح شعباً واحداً ، وقدم لها اللغة الواحدة فتجاوزت العزلة التي تسبق وحدة اللغة ، وحصرها في نظام اجتماعي واحد فوّحد في اسلوب حياتها ، ثم رفع عنها العبودية فالتقت على أرضها المشتركة تتفاعل معها تفاعلاً حراً . وهكذا صنعت في ظله تاريخها الواحد .. فأصبحت بهذا كله أمة عربية واحدة .
بهذا تميزت الأمة العربية عن الأمم الأخرى المسلمة . تميزت باللغة العربية ( لغة القرآن ) عن الأمة الفارسية والأمة التركية والأمة الأفغانية .. الخ حتى عندما كانت دولة الاسلام تشملها جميعاً . وتميزت بوحدة الأرض التي امتدت إلى حدود فارس وحدود تركيا وحدود اسبانيا وحصرتها الصحراء والبحار من الجهات الأخرى حتى عندما كانت تلك الأرض ومعها فارس وتركيا واسبانيا والصحراء ذاتها أجزاء من دولة المسلمين . وصنعت من أرضها ، وبلغتها ، أنماطاً من الفكر والمذاهب ، والتقاليد والحضارة كانت ” تراثاً ” عربياً خالصاً حتى عندما كان الاسلام يطبع حضارتها وحضارات أمم أخرى بطابع اسلامي متميز . ولن نلبث أن نرى أثر هذا عندما تتفكك الدولة الاسلامية فيسفر العالم الاسلامي عن تلك الأمم التي دخلها الاسلام وهي أمم مكتملة التكوين فإذا بها هي هي كما كانت أمماً متميزة بلغتها الخاصة وحضارتها القومية الخاصة وإن كان الاسلام قد أضاف إليها ( الحروف العربية في لغة فارس وتركيا مثلاً ) . ولكنه يسفر عن تلك الجماعات والمجتمعات والشعوب العربية ، التي كان لكل منها لغة خاصة وثقافة خاصة عندما دخلها الاسلام لأول مرة ، فإذا بها شعب واحد يعيش على أرض خاصة ومشتركة ولغة واحدة وثقافة واحدة ، إذا بها قد اكتملت في خلال القرون التي قضتها معاً في ظل الاسلام أمة عربية واحدة .
تلك هي العلاقة التاريخية ” الخاصة ” بين الاسلام والأمة العربية . وهي علاقة جدلية ، انتهت إلى خلق جديد . فكانت الأمة العربية ثمرة تفاعل الاسلام مع تلك الشعوب والمجتمعات والجماعات ، وتفاعلها فيما بينها في ظل الاسلام وحمايته ، تفاعلاً انتهى إلى أن تكون شعباً عربياً واحداً بدلاً من شعوب متفرقة ، ووطناً عربياً واحداً بدلاً من أقاليم متعددة . واستمدت اسمها من تلك النواة التي بدأ بها التكوين القومي في الجزيرة العربية ، وحملت راية الاسلام إلى باقي الوطن العربي ، وقادت حركة التفاعل الخلاق الذي انتهى إلى أن نكون كما نحن أمة عربية . وما كان هذا ليحدث لولا إلتقاء أمرين في مرحلة تاريخية واحدة : الاسلام كثورة حضارية قادرة على التطوير والخلق ، والشعوب التي لم تكتمل أمماً فهي قابلة لأن تتطور وتخلق من جديد . ولم يكن أي الأمرين بمفرده بقادر على ان يخلق ” الأمة العربية ” وهكذا أسهم الاسلام في تكوين الأمة العربية . ولكن عندما تكونت كانت وجوداً ذا خصائص متميزة عن العناصر التي التحمت معها فكونتها . فهي ” أمة عربية ” وليست جماعة مسلمة من ناحية . وهي أمة عربية وليست امتداداً نامياً لأي شعب من الشعوب التي كانت من قبل ولا حتى لتلك النواة التي بدأت بها مرحلة التكوين القومي منذ ثلاثة عشر قرناً في قلب الجزيرة العربية .
يتضح من هذا أنه لايمكن الاحتجاج بالاسلام لانكار الوجود القومي العربي ، أو الاستناد إليه في موقف مضاد للقومية العربية إلا إذا انكرنا على الاسلام مضمونه الثوري الحضاري الذي اسهم في تكوين الأمة العربية . ومن ناحية أخرى لايمكن اسناد الوجود القومي العربي إلى الاسلام وحده لأن الأمة العربية كانت ثمرة تفاعل حضاري اسهمت فيه كل الشعوب والجماعات السابقة على دخول الاسلام ، وفي ظله ، بكل من فيها من مسلمين وغير مسلمين .
27 ـ القومية والأممية :
الأممية مقولة ماركسية تعني وحدة الطبقة العاملة على المستوى العالمي بصرف النظر عن الانتماءات القومية للعاملين . فهي علاقة تتجاوز القومية . وقد طرحت ” الاممية ” كثيراً من مواقف مضادة للقومية . واثار ذلك رد فعل قومي رافض ومنكر للأممية . ونحن هنا لا نحاكم الموقفين ولكن نعرض العلاقة بين القومية والأممية كما يحددها الوجود القومي الذي عرفناه من قبل .
الأممية بمعنى ” وحدة الطبقة العاملة بصرف النظر عن الانتماءات القومية للعاملين ” تتضمن أمرين متميزين . الأول ” وحدة الطبقة العاملة ” في مواجهة القوى الامبريالية التي هي عدو مشترك لكل العاملين في كل الأمم . وهذه مبررة ” قومياً ” . لأن الوجود القومي ـ كما عرفنا ـ وان كان وجوداًً خاصاً إلا أنه غير منعزل عن المجتمعات الانسانية الأخرى . والقومية لا تعني العزلة . بل تعني بحكم قانون في الكل الشامل للطبيعة والانسان : كل شيء متاثر بغيره مؤثر فيه ” إن ثمة مصالح مشتركة بين كل الأمم والشعوب . ضربنا لها مثلاً السلام العالمي من قبل ، ونضرب لها مثلاً الان اسقاط الامبريالية وسحق الامبرياليين . وهي مصلحة مشتركة بين كل الشعوب في العالم لأن الامبريالية ذاتها ” قوة عالمية ” مضادة لكل شعوب العالم . فهي تشكل واقعاً علمياً مناقضاً لإرادة التحرر في كل الشعوب . وبذلك تطرح مشكلة عالمية لا يمكن فهمها إلا في نطاق الواقع العالمي ولا يمكن حلها حلاً صحيحاً إلا على المستوى العالمي ايضاً . وهذا ما نعرفه من ” جدل الانسان ” . ومن هنا فإن المصير المشترك ” للطبقات العاملة ” في معركة الشعوب ضد الامبريالية تحتم عليها ان تتحالف ضد القوى الامبريالية المتحالفة ، بدون ان يكون في هذا ما ينفي أن كل طبقة عاملة من كل امة هي طبقة عاملة قومية . وبهذا يتحدد معنى ” وحدة ” الطبقة العاملة بأنه ” وحدة ” نضال الطبقات العاملة في كل الأمم والشعوب ضد الامبريالية العالمية عدوة الأمم والشعوب جميعاً .
الأمر الثاني الذي يقول : ” بصرف النظر عن الانتماءات القومية للعمال ” يحتاج الى مزيد من التحديد عن طريق التفرقة بين مفاهيم مختلطة فيه . فهو مبرر ” قومياً ” عندما يكون معناه ان الانتماءات القومية للطبقات العاملة ليست حائلاً ، ولا يجوز ان تكون حائلاً ، دون تحالفها في المعركة المشتركة ضد الامبريالية . أي عندما لا يتضمن نفياً للوجود القومي أو الانتماءات القومية ولكن تأكيداً لكون القومية غير منافية ” للأممية ” بهذا المعنى . ولكنه يصبح مرفوضاً ” قومياً ” إذا قصد به عدم الاعتداد بالقومية او تجاهلها او انكارها . أي عندما تكون ” الأممية ” مطروحة من موقف ، غير مضاد للامبريالية ، وإنما مضاد للقومية . وهي بهذا المعنى مرفوضة قومياً لا لأننا قوميون متعصبون للقومية ، او متعصبون ضد ” الأممية ” ، ولكن لأن ” الأممية ” بهذا المعنى هي علاقة ” مثالية ” فاشلة . إذ أن الاعتراف بالوجود القومي وبالروابط القومية ” كواقع موضوعي ” ، ثم تجاهله عن طريق صياغة علاقات نضالية قفزاً من فوقه مثالية عقيمة ، مثالية لأنها غير موضوعية ، وعقيمة لأنها غير قابلة للتحقق في الواقع .
وهكذا نرى ، من الموقف القومي ، أن القول بأن للطبقات العاملة في كل الأمم مصلحة مشتركة في اسقاط وتصفية الامبريالية العالمية ، وفي السلام العالمي وفي التقدم الانساني قول صحيح . ولكن الزعم بأن للطبقات العاملة في كل الأمم مصلحة ” واحدة ” اطلاقاً غير صحيح . ومرجع الخطأ فيه الى تجاهل البعد التاريخي للتطور في كل مجتمع على حدة . ذلك لأنه وإن كان العاملون في كل المجتمعات يكافحون ضد الطبقات المستغلة بقصد استرداد مصادر الانتاج وأدواته من ايديهم وتحويلها الى ملكية اجتماعية يكون لكل عامل فيها نصيب متكافيء من عمله ، إلا أن العاملين في كل مجتمع يكافحون في واقع مختلف . مختلف المضمون ومختلف في مستوى التطور وقد يكون متناقضاً . وراء هذا حقيقة موضوعية لا يمكن تجاهلها . هي أنه بحكم النمو غير المتكافيء لتطور المجتمعات ، تبدأ كل طبقة عاملة مسيرتها الى الاشتراكية من واقعها الاجتماعي . فهي وإن وحدتها الغايات النهائية البعيدة ليست موحدة في مرحلة تاريخية معينة . أي انه في مرحلة تاريخية معينة ، يختلف البعد التاريخي النضالي العمالي في كل مجتمع ، فيحول دون أن يكون العمال ” طبقة واحدة ” عالمية وان كان لا يحول دون ان تتحالف الطبقات العاملة في المعارك التي تدور على القدر المشترك من المضامين التي تناضل من أجلها . بل أنه قد يؤدي الى تناقضات بين بعض المصالح الخاصة بطبقتين عاملتين أو اكثر . وهي تناقضات موضوعية لا يجدي في حلها حتى مجرد الرغبة في حلها لأنها محكومة بقانون التطور ذاته الذي يحتم أن يناضل الناس دائماً من أجل مزيد من التقدم وليس من أجل العودة الى الماضي لتصحيح ما وقع فيه من اخطاء .
ولا نريد أن نعود الى الصراعات التاريخية السابقة ، ولا ان نضرب مثلاً من موقف الصراع بين بعض الدول التي تحكم باسم الطبقة العاملة حالياً . ولكنا نضرب مثلاً إحدى المشكلات المعاصرة التي تتجاوز في تأثيرها الاطار القومي فهي على وجه ” أممية ” أو قريبة من ” الأممية ” وذلك للتدليل من ” الواقع الملموس ” على أن القومية ليست هي العقبة في سبيل ” وحدة ” الطبقة العاملة عالمياً . هذه المشكلة هي ذلك الصدع العميق الذي يقسم المجموعة الانسانية الى قسمين ، يقول خبراء الأمم المتحدة بأن مدى الفرقة بينهما يتسع باضطراد مروع . القسمان هما المجتمعات المتقدمة من ناحية والمجتمعات المتخلفة من ناحية اخرى ، ولنلاحظ منذ البداية ان في داخل كل قسم منهما خلافات وصراعات وتناقضات ، كما ان كل قسم منهما يشمل مجتمعات اشتراكية ومجتمعات رأسمالية . ولكن الصدع المتنامي الذي يقسمهما هو صدع في درجة التقدم ومعدل سرعة تطوره . والأصل التاريخي للمشكلة هو أن مصادر الثروة وقوى الانتاج وأدواته في المجتمعات المتقدمة أو أغلبها ، هي ثروات مغتصبة بالسيطرة الاستعمارية من شعوب القسم الآخر . ان هذا ليس مجرد اتهام ولكن بياناً للتأثير المتبادل بين الأمم والشعوب . فما هو فائض ونام هناك كان نتيجة نقص وتخلف هنا . ومصادر الانتاج وأدواته والثروات التي تكافح الطبقات العاملة في المجتمعات المتقدمة لاستردادها من الرأسماليين وتمليكها ملكية اجتماعية للعاملين هناك ، هي ، أو أغلبها ، مصادر انتاج وأدوات وثروات مسلوبة أصلاً من العاملين هنا . ولو كانت ” الطبقة العاملة ” واحدة حقاً لكان عليها ان تستردها في المجتمعات المتقدمة لتعيد توزيعها على العاملين في المجتمعات المتخلفة التي سلبها منهم الرأسماليون . أي لكان على المجتمعات الاشتراكية التي تحكمها أحزاب تقود الطبقة العاملة ان تصب كل انتاجها ، ولفترة تاريخية طويلة ، في وعاء التقدم الناقص في المجتمعات المتخلفة حتى يستوون معاً في التقدم ثم يواصلون طريقهم الى المستقبل ، ولكن هذا غير واقع ولا يمكن ان يقع لأن هذا الحل ” المثالي ” للمشكلة يقتضي ان تعود المجتمعات المتقدمة الى الوراء ، ولفترة تاريخية طويلة ، او تتوقف لفترة تاريخية طويلة عن التقدم الى أن يدركها الآخرون . وهو حل ” مثالي ” لأن القانون العلمي الذي يحكم حركة المجتمعات يحتم ان تكون حركتها متجهة دائماً الى الأمام ، الى مزيد من التقدم . وكذلك يفعل العمال في كل مجتمع سواء كان متقدماً أو متخلفاً ، مع بقاء الصدع كما هو . ويبدو هذا واضحاً مع ملاحظة ان المستوى المعيشي ( المصالح ) التي يناضل العمال في بعض المجتمعات المتقدمة لأنه أقل مما يستحقون ، هو ذاته يتجاوز بمراحل أحلام العاملين في كثير من المجتمعات المتخلفة . تلك هي المشكلة التي يحاول القوميون حلها بالوحدة القومية وحشد كل الامكانيات ومضاعفة الجهد لزيادة معدل التنمية عن المستوى العالمي حتى تعوض الزيادة فترات التخلف . وتحاول الأمم المتحدة حلها عن طريق البنك الدولي . وتحاول بعض الأمم حلها عن طريق ” اختصار البشر ” بالحد من النسل فالحد من الاستهلاك ، فزيادة المدخرات ، فزيادة معدل سرعة النمو .. الخ . وهي التي أفزعت ” جيفارا ” فثار ثورته الانسانية العميقة منذ بضع سنين ضد ما اسماه استغلال الدول المتقدمة للمجتمعات المتخلفة . وكانت ثورته موجهة اصلاً الى الاشتراكيين الذين يبيعون الى المناضلين من أجل الاشتراكية في الدول المتخلفة أدوات الانتاج واسباب التقدم العلمي ، وحتى ضروريات الحياة ” بالاسعار التي يحددها قانون المنافسة في سوق التجارة الدولية . وقد كان ” جيفارا ” في ثورته ” أممياً ” حقاً . ولكنه كان في الوقت ذاته ” مثالياً ” . لأنه يفترض فرضاً غير واقعي هو ان المجتمعات الاشتراكية قد استوت تقدماً فتوحدت المصالح بينها لمجرد انها ذات مصلحة واحدة في المعركة ضد الامبريالية التي كان هو أحد أبطالها . أو انه افترض ان مجرد تولي السلطة باسم الطبقة العاملة في أمتين كالصين وبولندا مثلاً ، يلغي الواقع القومي فيهما ويحيل العاملين في الصين وبولندا ” طبقة واحدة ” . وكل هذا غير صحيح . وهذا يعني ، فيما يهمنا هنا ، أن كون ” الأمة ” تكويناً تاريخياً ـ وهو ليس محل خلاف ـ يجعل مصلحةة العمال في كل مجتمع محددة تاريخياً بمشكلات التقدم كما تطرحها ظروفف المجتمع الذي ينتمون اليه . وهذا يحول دون الادعاء بوحدة المصلحة بين العمال جميعاً في جميع انحاء الأرض الى درجة تجعل من مجرد الانتماء الى ” العمل ” بديلاً عن الانتماء الى ” الأمة ” . أي يحول دون ان تكون في العالم كله ـ في وقت واحد ـ طبقة عاملة ” أممية ” بصرف النظر عن الانتماءات القومية للعاملين من كل امة . وهو يحتم في الوقت ذاته ان تكون كل طبقة عاملة في مجتمع قومي ( امة ) طبقة قومية ، لا تحول قوميتها دون التحالف مع الطبقات العاملة القومية الأخرى ضد عدوها المشترك ، لتحقيق القدر المشترك ، من مصالحها القومية . وهكذا نرى انه انطلاقاً من ان القومية هي الرابطة الموضوعية المحددة تاريخياً بالوجود القومي ، يخوض العاملون التقدميون في كل امة معاركهم القومية ضد الاستغلال الرأسمالي ويشاركون العاملين في الأمم الأخرى معركتهم المشتركة ضد الامبريالية بدون ان يفقدوا هويتهم القومية .
ولا بد أن نشير هنا الى ان المحك الذي يمكن أن تختبر عليه الدعوة ” الأممية ” لمعرفة ما إذا كان تعبيراً عن موقف مضاد للامبريالية أو غطاء لموقف مضاد للقومية ، هو الموقف من الوحدة القومية . إذ عندما تكون الأمة موحدة سياسياً لا يكون ” للأممية ” إلا ذلك المفهوم المبرر قومياً وهو التحالف بين الطبقات العاملة ضد الامبريالية . بل إن معارضة ” الأممية ” هنا باسم القومية لا تكون الا تستراً وراء القومية لمهادنة الامبريالية وتمكينها من احكام قبضتها على الشعوب المقهورة . فهو موقف رجعي عميل يختفي وراء القومية . ولكن عندما تكون الأمة مجزأة سياسياً ، وبفعل الامبريالية ذاتها كما هو الحال في الأمة العربية ، فإن دعوة ” الأممية ” تتعرض لاختبار دقيق يكشف عن المواقف الحقيقية لدعاتها . فهي إن كانت دعوة الى وحدة الطبقة العالمية ، عالمياً ، ضد الامبريالية ، لا بد من ان تكون متضمنة من باب أولى وحدة الطبقة العاملة العربية ، أي لابد من ان تكون دعوة وحدوية رافضة للتجزئة . وتكون بهذا منسجمة مع منطلقاتها على وجه لايثير أية شبهة في أنها تعبير عن موقف تقدمي مضاد للامبريالية . أما عندما تكون دعوة الى وحدة الطبقة العاملة عالمياً ، مع قبول تجزئة الطبقة العاملة في الوطن العربي ، فإنها تكون متناقضة مع منطلقاتها على وجه يكشف عن حقيقة الموقف الذي تعبر عنه ، فإذا هو موقف رجعي يتستر بالأممية كشعار ضد الامبريالية ليحول دون وحدة الطبقة العاملة العربية خدمة للامبريالية التي فرضت التجزئة في الوطن العربي . وهكذا يجب قبل الدخول في أي حوار مع أي ” أممي “حول الأممية والطبقية والصراع الطبقي … الخ ، أن يحدد ذاك ” الأممي ” موقفه من الوحدة العربية ، من خلال اجابته عن السؤال : هل هناك طبقة عاملة واحدة في الوطن العربي أم طبقات عاملة متعددة بتعدد الدول فيه ؟ وعن السؤال : إذا كانت هناك طبقة عاملة واحدة فما هو الموقف من التجزئة ، مقبولة أم مرفوضة ؟…وبدون هذا التحديد لا يمكن ان يكون أي حوار حول ” الأممية ” و” القومية ”أكثر من مغالطة .
الى هنا استعملنا تعبير ” الطبقة ” بمفهومها الماركسي : جماعة من الناس تجمعهم مصلحة واحدة محددة بموقعهم من علاقات الانتاج . كما استعملنا تعبير ” الطبقة العاملة ” بذات المفهوم . كل هذا لنبين ـ بأكبر قدر من الوضوح ـ الموقف القومي من ” الأممية ” وهي نظرية ماركسية . وقد يبدو منه أن النظرية القومية لا تصحح ” الأممية ” إلا من حيث علاقة قوى التقدم الاجتماعي في كل مجتمع بقواه التقدمية في المجتمعات الأخرى . ولكن هذا غير صحيح . انه جزء مما تصححه في نظرية الطبقات والصراع الطبقي . الجزء الخاص بالعلاقات الخارجية ما بين قوى التقدم الاجتماعي في المجتمعات المتخلفة . ولا بأس في أن نشير ، ونشيد أيضاً ، بأنه تصحيح يتفق مع اتجاه كثير من الماركسيين ” في الممارسة ” خاصة بعد سقوط الستالينية . وهذا وحده دليل من الممارسة على صحة النظرية القومية . ولعله أن يكون ” مشجعاً ” على قبول كل ما تصححه . ذلك لأن هذا التصحيح الجزئي قائم على تصحيح أكثر عمقاً وشمولاً ينصب على نظرية الصراع الطبقي ويتناول كافة عناصرها . ما هي الطبقة ؟ .. ما هو مناط ” الانتماء الطبقي ” ؟ … ما هو ” الصراع الطبقي ” ؟ … ما هو دوره في حركة التطور الاجتماعي ؟ . ما هي غايته ؟ …
28 ـ الأمة والطبقة :
هنا نلتقي على أول البعد الثاني للوجود القومي الذي يحدد العلاقة بين الأمة وبين الجماعات الانسانية الداخلة فيها . واهم تلك الجماعات بالنسبة الى ” نظرية تغيير الواقع ” هم اولئك الذين تجمعهم رابطة واحدة تحدد موقفهم من عملية التغيير ذاتها ، والذين يطلق عليهم حينئذ ، وعادة ، لفظ ” طبقة ” ، والعلاقة بين الأمة والطبقة ما تزال في كثير من الدراسات غامضة وغير محددة ، على وجه سمح للذين يرون في ” الصراع الطبقي ” محركاً للتطور أن يدينوا القومية أو ان يقفوا منها موقفاً سلبياً . ومرجع هذا الى ما فهموه ، أو ما أرادوا فهمه ، من حديث للقوميين ـ دائماً ـ عن الأمة الواحدة ، والقومية الواحدة ، والمصير الواحد ، كما لو كان كل الناس في كل أمة قوة واحدة متماسكة لا يناضلون حيث يناضلون الا في سبيل هدف واحد . وهو فهم خاطيء للأمة وللقومية .
هنا نلتقي على أول البعد الثاني للوجود القومي الذي يحدد العلاقة بين الأمة وبين الجماعات الانسانية الداخلة فيها . واهم تلك الجماعات بالنسبة الى ” نظرية تغيير الواقع ” هم اولئك الذين تجمعهم رابطة واحدة تحدد موقفهم من عملية التغيير ذاتها ، والذين يطلق عليهم حينئذ ، وعادة ، لفظ ” طبقة ” ، والعلاقة بين الأمة والطبقة ما تزال في كثير من الدراسات غامضة وغير محددة ، على وجه سمح للذين يرون في ” الصراع الطبقي ” محركاً للتطور أن يدينوا القومية أو ان يقفوا منها موقفاً سلبياً . ومرجع هذا الى ما فهموه ، أو ما أرادوا فهمه ، من حديث للقوميين ـ دائماً ـ عن الأمة الواحدة ، والقومية الواحدة ، والمصير الواحد ، كما لو كان كل الناس في كل أمة قوة واحدة متماسكة لا يناضلون حيث يناضلون الا في سبيل هدف واحد . وهو فهم خاطيء للأمة وللقومية .
ولنبدأ من البداية حتى لا يخطيء أحد في فهم ما نريد أن نقول .
اذا كنا نقول ان الامم قد تكونت خلال ” بحث ” الناس عن حياة أفضل ، فليس معنى هذا ان الناس قد ” اتفقوا ” في كل مرحلة تاريخية سابقة على ما هي الحياة الافضل ، وما هي الطريق اليها . بل انهم ما اهتدوا اليها الا خلال ” الصراع ” المرير فيما بينهم حول ما هي الحياة الافضل وكيف تتحقق في كل مرحلة تاريخية على حدة . هذا ” الصراع ” واحداثه ، من أول المحاولات الفكرية والمذهبية الى آخر الحروب الداخلية والثورات ، هي بعض تاريخ تكوين كل أمة . ولهذا نقول ان كل أمة هي جماعة من البشر تكونت نتيجة تطور تاريخي ، أي خلال مرحلة تاريخية قضاها الناس وهم يبحثون عن حياة أفضل . ولا شك في أن الصراع القبلي كان على أشده ، قبل الدخول في مرحلة التكوين القومي . داخل كل مجتمع قبلي بين الأسر والعشائر وفيما بين المجتمعات القبلية المختلفة كل يحاول أن يفرض سيطرته على مقدرات وامكانيات القبائل الأخرى وان يسخرها فيما ” يرى هو ” انه في صالحه أو في صالح قبيلته . حتى القوى البشرية من القبائل المغلوبة سخرت عبيداً للسادة من القبائل الغالبة . ولم ينقطع هذا الصراع حتى عندما استقرت الجماعات القبلية على الأرض متجاورة . بل استمر حقبة تاريخية طويلة تشكل القدر الأكبر من تاريخ تكوين كل امة ، غير ان استقرار المجتمعات القبلية متجاورة على الأرض وضعها جميعاً في مواجهة طرف ثالث ويظهر من حين الى حين ويفرض بظهوره الهدنة والتحالف بين المتصارعين . ذلك هو العدو المشترك في شكل قبائل أخرى أو شعب آخر . وهكذا كانت المجتمعات القبلية المستقرة متجاورة تتفاعل وتتطور من خلال ” صراعها الجدلي ” ضد الظروف الطبيعية لانتزاع امكانيات الحياة من الأرض ، ثم من خلال ” صراعها الاجتماعي ” ضد بعضها البعض طلباً لمزيد من امكانيات الحياة ، أو دفاعاً عن الامكانيات المتاحة ، وأخيراً صراعها معاً ضد الغزاة والمغتصبين من الجماعات التي تحاول أن تسلبها جميعاً امكانيات الحياة من البشر والطبيعة . ومن خلال هذا التفاعل عن طريق ” الصراع ” المشترك لحماية موارد الحياة على رقعة من الأرض تتسع وتتقلص وتتحدد رويداً رويداً ، كانت المصالح المشتركة تنمو وتتراكم . كل هذا والصراع الداخلي ضد الطبيعة وفيما بين الجماعات ذاتها مستمر ، يهدأ عندما يظهر الخطر المشترك ويبرز الى الأمام عند غيابه . ويصل الأمر بعد تراكم المصالح المشتركة ( الى منجزات الحلول الصحيحة للمشكلات المشتركة ) الى أن يصبح الصراع الاجتماعي الداخلي ، مع الابقاء على كل ما هو مشترك بعيداً عن الصراع ، هو الحل ” الأفضل ” ( الصحيح ) الذي يتفق مع التطور الاجتماعي كما يتعلمه من الممارسة جميع المتصارعين . أي يصبح الصراع الداخلي دائراً حول ما هي الحياة الأفضل ، وما هي الطريق اليها ، في إطار الوجود المشترك وحدود امكانياته بدلاً من كيفية الخروج من هذا الوجود المشترك ، لما يسببه هذا الخروج من اضرار بالمصالح المشتركة . وبينما يستمر الصراع الداخلي على وجه لا يخفي ميراثه القبلي تكون الأمة قد بدأت في التكوين . ويدل على هذا عادة مواجهة العدو الخارجي لا بحلف قبلي ، ولكن بقوة موحدة ، دفاعاً عن ” الأرض المشتركة ” . ويتعلم الناس من النصر الذي تحققه وحدتهم القومية ان الوحدة القومية قد حلت لهم مشكلة مشتركة ، هي عجز كل جماعة ، منفردة ، عن ان توفر الأمن والحماية لمصادر حياتها . ولما كانت الامكانيات القومية ، البشرية والمادية ، أكثر بكثير من الامكانيات القبلية ، فإن كل أطراف الصراع الداخلي ـ الذي ما يزال مستمراً ـ يحاولون السيطرة عليها جميعاً لاستخدامها في تحقيق ” الحياة الأفضل ” … ” الأفضل ” في هذا الطور للشعب كله . ويكون هذا عنوان الصراع الاجتماعي . فباسم كل الشعب ، أو لمصلحة الشعب كله ، يزعم كل طرف في الصراع الاجتماعي أنه يناضل من أجل حياة أفضل ، ضد من يسميهم حينئذ ” أعداء الشعب ” . وبصرف النظر عن صدق هذا الطرف أو ذاك فيما يدعيه باسم الشعب ، فإن تقديم المصالح المحركة للصراع على انها مصالح الشعب كله يكون بذاته دليلاً صادقاً على أن الوجود المشترك بما يتضمنه من مصالح مشتركة يفرض ذاته على الجميع وان الأمة في طريقها الى ان تكتمل تكويناً ، مع أن الصراع ما يزال قائماً وسيظل قائماً الى حين . وفي تاريخ الأمة العربية مرحلة كاملة كان الصراع الداخلي قائماً فيها بين قوى تستهدف كل منها ” الخلافة ” (الدولة أداة السيطرة على الامكانيات المشتركة ) وتدعي كل منها انها أحق من غيرها بها (لأنها أصح مذهباً) وان كانت كل منها تحمل معها تراثها القبلي فيما تدعيه من وحدة الأصل ( الامويون ، العباسيون ، الفاطميون … الخ ) وما هي إلا الشكل البدائي لما خلفه بعد ذلك من حركات وأحزاب سياسية .
على أي حال ، فإن ” الأمة ” التي ما تكونت الا خلال الصراع بين القوى التي أصبحت اجزاء منها ، وضد القوى الخارجية التي كانت تهدد تطورها المشترك ، لم تكن نهاية وحلاً الا لمشكلة الصراع حول الوجود القومي ذاته والحفاظ عليه . ومن هنا تعبر بذاتها عن قيمتها التقدمية كاضافة الى حركة التطور التي أصابت تكوين المجتمعات . وهذا حل يتفرغ الناس بعده ، بكل ما تتيحه الأمة من امكانيات متفرقة ، للتطور الاجتماعي داخل الأمة ذاتها ، وللصراع الاجتماعي أيضاً داخل الأمة ذاتها أي في الاطار القومي لتصفية القوى التي تعوق التطور . وتلك هي أولى علاقة الأمة بالصراع الاجتماعي داخلها وقواه . حيث لا يبلغ الصراع الاجتماعي الذي توافرت اسبابه الاجتماعية ، أقصى مداه ، ولا يحقق كل فعالياته الا بعد أن تحل قواه مشكلة ” الوجود القومي ” لتتفرغ للتطور الاجتماعي ومشكلاته . هنا تكون الوحدةة القومية مقدمة لتنشيط الصراع الذي توافرت اسبابه وليست قيداً عليه . ومنن هنا ندرك ان حديث البعض عن القومية ، او باسم الوحدة القومية ” لتحريم ” الصراع الاجتماعي ومحاولة الغاء قواه حديث يعبر عن موقف محافظ ورجعي يختفي وراء القومية . حتى في اوقات الخطر الذي يتهدد الأمة كلها ، وفي معارك التحرير ضد العدو المشترك ، قد يؤجل الصراع الاجتماعي ولكن لا تزول أسبابه ، وقد تتحالف القوى ولكن لا تلغى .
الصراع الاجتماعي حقيقة لا تنكر متى قامت اسبابها في المجتمع القومي ولسنا نرى في الحديث عن الأمة الواحدة ، والقومية الواحدة ، والمصير الواحد ، ما يعني وحدة كل ” القوى ” وتجاهل الصراع الاجتماعي . ولكنا نرى فيه ادراكاً جديداً لقوى الصراع الاجتماعي ومضمونه كما يحددهما الوجود القومي . ادراكاً جديداً يمكن تسميته ” بالنظرية القومية في الصراع الاجتماعي ” . وهي جديرة فيما نعتقد بأن تنهي مرة واحدة والى الأبد كل غموض حول علاقة القومية بالطبقة أو علاقة التقدم القومي بالصراع الاجتماعي .
وتقوم هذه النظرية على ذات المنهج الذي عرفنا به الوجود القومي (جدل الانسان) كما عرفنا منه أن الصراع بين المتناقضات يثور في الانسان نفسه فيكون وعيه المشكلة شرطاً سابقاً لوعيه الحل ( المصلحة ) . وعليه فإن الذي يحدد موقف كل واحد من الصراع الاجتماعي هو ” وعي الانسان على مصلحته ” أن تكون له مصلحة يعرفها ويعرف أين مكانها من حركة التطور الاجتماعي فيأخذ الموقف الذي يتفق مع مصلحته . ومن هنا فأنا نرفض أن تكون المصلحة كما هي محددة موضوعيا بالواقع الاجتماعي بدون وعي كافية لانتماء صاحبها الى احدى قوى الصراع الاجتماعي . ان مصلحته الموضوعية ترشحه لهذا الانتماء ، ولكن الانتماء النضالي موقف ذاتي ، يتطلب أن يعي صاحبه على علاقة موقفه بمصلحته . وباللغة الأخرى نرى ان " الوعي الطبقي " شرط اساسي للانتماء الطبقي .
هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى فقد عرفنا من قبل أن وحدة الوجود القومي تعني أن ثمة وحدة موضوعية بين كل المشكلات الاجتماعية التي يطرحها الواقع القومي ، في زمان معين ، تحتم أن يكون لكل من تلك المشكلات حل واحد صحيح محدد موضوعيا بصرف النظر عن مدى صحة معرفة الناس به ، وان كان لا يتحقق الا بوعي الناس عليه وتحقيقه في الواقع " بالعمل " ، ذلك هو الحل الذي يتفق مع تقدم الأمة ككل ، والذي عبرنا عنه " بوحدة المصير" ، اذن فللمشكلات الاجتماعية في الأمة حلول موضوعية يحددها الوجود القومي ذاته بما يتفق مع التقدم القومي . والصراع الاجتماعي حول المشكلات الاجتماعية لا يعني أن تلك الحلول غير معروفة أو غير قابلة للمعرفة ، بل يعني تماما أن الصراع يدور بين قوى تزعم كل منها أنها تستهدف الحل الموضوعي الصحيح . وقد يكون كلهم خاطئين ، ولكن الذي لا يمكن أن يكون أبدا هو أن يكونوا كلهم على حق فيما يزعمون . اذ عندما يكون موقف أحد الأطراف متفقا مع الحل الصحيح لمشكلات التقدم ، لا بد من أن يكون الطرف الآخر ، أو الأطراف الأخرى ، في موقف أو مواقف مضادة ومعرفة التقدم . ان هذا يبرر تصفية المواقف المعوقة (الرجعية) عن طريق الصراع ضدها ، أي يبرر ويفرض الصراع الاجتماعي لازالة وتصفية المواقف التي تقوم عقبة في سبيل التقدم . وهو يرفض ـ في الوقت ذاته ـ المواقف المنافقة التي تفترض أن يكون كل أطراف الصراع الاجتماعي على حق في وقت واحد ، وتبحث عن حلول وسطية ملفقة تجمع بين المواقف المتضادة . ان النفاق ، أو التلفيق ، في الصراع الاجتماعي لا يخدم الا القوى الرجعية ما دام طريق التقدم محددا موضوعيا . لأنه يمد في حياة العقبات القائمة في سبيل التقدم ويبقي على المشكلات معلقة بدون حل صحيح ، ويشكك القوى التقدمية في سلامة موقفها ، فيوهن من قوتها ، ثم يفشل في النهاية لأن ما هو صحيح موضوعيا لن يلبث أن يفرض ذاته بحكم حتمية التطور فينفجر الصراع من جديد .
ما هي خصائص هذا الحل الموضوعي الصحيح ؟
نعرف منها ـ حتى الآن ـ انه الحل الذي يتفق مع وحدة المصير القومي ـ وهكذا يتحدد اطار الصراع الاجتماعي . فأيا كان محتواه ( الذي يتغير من مرحلة الى مرحلة ) لا بد أن يكون في اطار الوجود القومي .
ثم نستمر .
لما كانت المجتمعات تتطور من خلال حل المشكلات التي يطرحها الواقع (محصلة الماضي) لاشباع حاجاتها (في المستقبل) ، فان الحل الموضوعي الصحيح لا بد من أن يكون ـ في أي وقت ـ متفقا مع احتياجات المستقبل ، أي لا بد من أن يكون " تقدميا " . وهكذا نعرف أنه " قومي تقدمي " .
غير أن مضمون التقدمية يختلف من وقت الى آخر متابعا في ذلك الحدين المكاني والزماني لحركة التطور التي لا تتوقف أبدا . فلا يمكن أن نعرف ما هو الحل " القومي التقدمي " ما هو مضمونه ، الا منسوبا الى مجتمع معين في وقت معين . ونحن نعرف ـ في هذه المرحلة التاريخية ـ أن التحرر هو الحل التقدمي للاستعمار . والديمقراطية هي الحل التقدمي للاستبداد . والاشتراكية هي الحل التقدمي للاستغلال . نعرف هذا من واقع أمتنا العربية . ولكن ليس معنى هذا أن كل مجتمع معاصر يطرح مشكلات لها ذات الحلول . فثمة المجتمعات المتحررة حيث لا توجد مشكلة الاستعمار . وثمة المجتمعات الديمقراطية حيث لا توجد مشكلة الاستبداد . وثمة الأمم الموحدة حيث لا توجد مشكلة التجزئة . وثمة المجتمعات الصناعية حيث لا توجد مشكلة التخلف . وثمة المجتمعات الاشتراكية حيث لا توجد مشكلة الاستغلال . وحتى في نطاق أمتنا العربية لن تظل المشكلات هي هي دائما . فبالتحرر تحل مشكلة الاستعمار وتبقى مشكلتا التتجزئة والاستعلال قائمتين . وبالوحدة تحل مشكلة التجزئة ويتفرغ الناس لحل مشكلة بناء الحياة الاشتراكية .. الخ . اذن فمضمون الصراع الاجتماعي (المصلحة التي يدور عليها الصراع ، أو الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية التي يثيرها تناقض الماضي والمستقبل حيث يلتقيان) يختلف من مجتمع الى مجتمع ، ومن وقت الى وقت في المجتمع الواحد تبعا لنوع المشكلات التي يطرحها الواقع ولكنه يبقى دائما مضمونا قوميا تقدميا .
فما هي قوى الصراع الاجتماعي ؟
هناك أولا الذين يعون الحل التقدمي ويلتزمونه ويناضلون من أجله . وأولئك هم التقدميون . وهناك ثانيا . الذين يعون تناقض " مصالحهم الخاصة " مع الحل التقدمي فيدافعون عنها ، ابقاء على الواقع ضد التطور ، اولئك هم الرجعيون . وفيما بينهما ومن حولهما تتذبذب فئات من الناس لهم مصلحة في الابقاء على الواقع فهم مع الرجعية ، ويتطلعون الى المزيد عن طريق تغيير الواقع ، " فيستغلون " القوى التقدمية ويحالفونها وهم يخفون نواياهم في الغدر بها والوقوف ضد أن تصل حركتها الى نهايتها ـ اولئك هم الانتهازيون . ثم هناك ، أخيرا ـ قطاع عريض من الناس لا يعون مصالحهم " كما هي محددة موضوعيا بالواقع الاجتماعي " أين تقع ، أولا يقدرون على النضال ( بمؤثر يضعف مقدرتهم ) ، فيقفون خارج الصراع الاجتماعي ولا يسهمون فيه . ولا بد أن ننتبه انتباها خاصا ، ومركزا ، الى هذا القسم العريض من الناس الذي يبلغ في الأمم المتخلفة بوجه خاص حد الأغلبية العددية من كل مجتمع ، انهم طاقة بشرية هائلة في المجتمعات المتخلفة ومع ذلك فهي طاقة غير فعالة في الصراع الاجتماعي لأنها لا تعرف الحلول الصحيحة لمشكلاتها الاجتماعية كثمرة من ثمار التخلف ذاته . ومصلحتها واقعة موضوعيا ـ سواء عرفت أم لم تعرف ـ في الحل القومي التقدمي . فهي بحكم مصلحتها " الاحتياطي البشري " للقوى التقدمية في صراعها الاجتماعي من أجل التقدم . ومن هنا نرى أنه وان كان الصراع الاجتماعي ، في الامم المتخلفة خاصة ، يقوم بين القوى الرجعية التي تدافع عن مصالحها الخاصة وبين القوى القومية التقدمية ، فان هذا لا يعني أن القوى القومية التقدمية تناضل من أجل مصالحها الخاصة ، مثلها مثل الرجعيين . ذلك لأن القوى القومية التقدمية تناضل من أجل تحقيق الحل الموضوعي المحدد قوميا لمشكلات التقدم الاجتماعي . وهو حل صحيح بالنسبة الى كل الناس حتى لو لم يعرفوا هذا . فهي لا تستهدف من نضالها مصالح خاصة بمعزل عن مصلحة الأمة كلها ، ولا تسلك اليه طريقا خاصا بمعزل عن جماهير الشعب كله ، لأنها بحكم أنها قومية تقدمية تسعى وتلتزم وتناضل منطلقة من مسلمة أولى أن وحدة الوجود القومي دليل لا ينقض على وحدة المصير القومي . فهي بنضالها تحقق مصالح كل الجماهير بما فيهم ذلك القطاع العريض من الناس ـ في الأمم المتخلفة خاصة ـ الذين لا يعون ولا يلتزمون ولا يناضلون ، بل مصالح حتى أولئك الذين يدفعهم الجهل ، أو الخوف ، أو الضعف ، الى الصفوف الرجعية فينحازون الى ذات القوى التي هم ضحاياها . وهكذا يمثل القوميون التقدميون في كل أمة كل الجماهير في صراعهم ضد الرجعية من أجل التقدم حتى ولو جهلتهم الجماهير ، وحتى لو أنكرتهم الى حين .
ان هذا يؤدي الى نتيجة لازمة . هي أن الصراع الاجتماعي لتصفية المواقف الرجعية ، لرفع العقبات من طريق التقدم ، لامكان تفرغ التقدميين لبناء حياة أفضل ( تحقيق الحل التقدمي ) ، لازم ومفروض ولا بد منه ولا يجوز ـ قوميا ـ التهاون فيه أو التخلي عنه . ولكنه مع ذلك غير لازم موضوعيا للتقدم ، وانما تحتمه القوى الرجعية ، وتفرضه على التقدميين ، بمواقفها ، ومصالحها ، المعوقة للتقدم . قد يبدو أن في هذا تناقضا ، ولكن مزيدا من التأمل يرفع هذا التناقض الظاهر . ولنضرب لهذا مثلا : الحرب . ان الحرب ضارة بكل أطرافها ، معوقة لتقدم الشعوب ، غير لازمة موضوعيا للتقدم الانساني ، بل السلام هو اللازم . ومع هذا فان الامبريالية والاستعمار وأعوانهما يقفون عقبة " مسلحة " في طريق السلام . فتصبح الحرب وسيلة " لازمة " لشق الطريق الى السلام ، أي للقضاء على الحرب ذاتها عن طريق تصفية قواها ، لتبدأ الشعوب ، في ظل السلام اعادة البناء والتقدم . ولا أحد ينكر أن الحرب التي دارت وانتهت قد عوقت التقدم ، بقدر ما استنفذت من جهد ووقت في تصفية القوى التي فرضتها . ان كان هذا واضحا فان أمر الصراع الاجتماعي يصبح واضحا . ففي الصراع الاجتماعي لا يستوي الطرفان في موقفهما من التقدم الاجتماعي الذي هو الهدف الأساسي للقوى القومية التقدمية أن تصفي الرجعية لشق طريقها الى التقدم بدون صراع ، أي للقضاء على الصراع الاجتماعي ذاته ، بدون انكار لما يسببه الصراع الاجتماعي من تعويق للتقدم بقدر ما يستفنفذه من جهد ووقت القوى القومية التقدمية في تصفية القوى الرجعية . وبدون انكار لحتمية الصراع الاجتماعي ضد كل القوى التي تقف في سبيل التطور . فالصراع الاجتماعي مفروض على التقدميين . الرجعيون هم الذين يفرضونه بما يضعونه في طريق التقدميين من عقبات ومن هنا يصبح فرضا على التقدميين أن يخوضوه بكل قواهم ، وألا يقبلوا فيه مساومة ، بقصد تصفية الصراع الاجتماعي ذاته عن طريق تصفية أسبابه وقواه معا ، للتفرغ بعد هذا لبناء الحياة الأفضل للجماهير . نرجو أن يكون هذا واضحا .
فكيف تتحدد قوى الصراع ؟
تتحدد بمواقفها النضالية . المصلحة لا تكفي . المصلحة والوعي عليها لا يكفيان . وأقل من هذا كفاية ما يدل عليه ذلك التعبير المبتكر عن " المنابع الطبقية " أو " الأصول الطبقية " ، الذي يحاول أن يجعل الموقف من الصراع الاجتماعي منضبطا " بالميراث " لتبرير مواقف بعض المثقفين الذين تخذلهم " النظرية الطبقية " فلا تبرر مواقفهم التقدمية على أساس مواقعهم الحالية من علاقات الانتاج فيعود بهم التعبير المبتكر الى أصولهم الكادحة ، ليقدم من انتماء الآباء " طبقيا " تبريرا لمواقف الأبناء " تقدميا " ومع أن شقاء الآباء لا ينسى ، وقد يكون مصدرا للمعرفة بالمشكلات الاجتماعية ، الا أنه لا يكفي لتحديد موقف الأبناء من الصراع الاجتماعي . وانما تتحد قوى الصراع الاجتماعي بالنضال الواعي بالمصلحة التي يدور عليها الصراع ، لأن المصلحة وحدها بدون وعي عليها لا تحول دون الانحياز الى القوى الرجعية . والمصلحة والوعي بها بدون نضال تؤدي الى موقف سلبي من الصراع وقواه . أما " المنبع الطبقي " فكما يكون محركا لاتخاذ موقف تقدمي يصحح به الأبناء مسيرة مجتمعهم قد يكون محركا لمحاولة تعويض الفقر الموروث بالاختلاس ، أو تعويض مذلة القهر السابق بالاستبداد في الناس . يتوقف الأمر على التزام الحل الصحيح لمشكلة الفقر والقهر كما هو محدد موضوعيا بالواقع الاجتماعي ذاته . وبهذا يكون النضال ( دخول ساحة الصراع الاجتماعي ) الواعي بالمصلحة التي يدور عليها الصراع هو وحده مناط " الانتماء " الى قوى الصراع الاجتماعي .
لم يبق الا اضافة : هي أن أغلب المجتمعات في العالم ـ ومنها أمتنا العربية ـ ما تزال تعيش مرحلة تاريخية تفرض الصراع الاجتماعي لأن القوى الرجعية ما تزال قائمة فيها لم تصف بعد . تساندها الرجعية في كل المجتمعات وينتهي به الصراع الاجتماعي ليتفرغ البشر لبناء حياة أفضل . أما متى يأتي فذلك متوقف على صلابة القوى التقدمية ورفضها أية مهادنة أو تأجيل للصراع الاجتماعي ، وحسم معركته لصالحها بكل قوة ممكنة .
ان هذا كله يمكن إعادة صياغته باللغة " الطبقية " بشرط أن نختار ذلك لأنموذج من المجتمعات الذي عرفه ماركس واستقى من دراسته " نظرية الطبقات " : مجتمع رأسمالي صناعي متقدم . فالاشتراكية هنا هي الحل الصحيح المحدد موضوعيا لمشكلة الاستغلال الر أسمالي . والراسماليون هم " الطبقة " الرجعية التي تدافع عن مصالحها الخاصة ضد التقدم . والعمال هم " الطبقة " التقدمية التي تستهدف تحقيق الحل الصحيح المحدد موضوعيا . والبرجوازية الصغيرة هي الجماعات المترددة بين الطبقتين . والفلاحون ، والعاطلون ، هم الاحتياطي البشري للطبقة العاملة . والصراع الطبقي لازم لتصفية الصراع الطبقي ذاته عن طريق تصفية الرجعية وإقامة النظام الاشتراكي . ولهذا لا يجوز تأجيل الصراع الطبقي أو مهادنة الرجعية أو قبول الحلول الوسطى وذلك لاختصار فترة المعاناة .
اذن فكأن ما اسميناه " الصراع الاجتماعي " ... ليس الا تسمية أخرى " للصراع الطبقي " فلماذا لا نسميه باسمه ، حتى لا نضيف الى موضوع غامض أصلا ، مزيدا من الغموض .
ليس الأمر على هذا الوجه من البساطة . وعندما نعرف ماهية " الصراع الاجتماعي " ليسمه من يشاء بما يريد من اسماء ، فالعبرة بمضمون الكلمات التي نستعملها . المهم أن نعني بالكلمات مضمونها فلا ينقلب الأمر الى مجرد كلمات . ما هي حقيقة الأمر اذن ؟
لنلاحظ ، أولا ، ما الذي يمكن أن نفهمه من تعبير " الصراع الطبقي " ؟ . انه تعريف للصراع من حيث نوع قواه . القوى المتصارعة طبقات . انها ليست جيوشا والا أسميناه " الصراع العسكري " أو " الحرب " . وكما أننا لا نفهم الحرب ( الصراع العسكري ) من حيث مضمونها ، وأهدافها ، وبالتالي لا نستطيع أن نحدد منها موقفا بمجرد معرفتنا أنها صراع مسلح بين جيوش ، كذلك لا يمكن فهم " الصراع الطبقي " من حيث مضمونه وأهدافه ولا نستطيع أن نحدد منه موقفا بمجرد معرفة أنه صراع بين طبقات بدلا من الجيوش . وانما نفهمه عندما تكون لكلمة " الطبقة " مفهوم اجتماعي يحدد قواها وغاية صراعها . وبينما نعرف كثيرا من الحديث المرسل عن الطبقات والصراع الطبقي يصل في اتساع دلالته الى حد اعتبار مجرد التفاوت في الدخل ، أو الثقافة ، مقياسا طبقيا ، لا نعرف للطبقة مفهوما اجتماعيا يحدد قواها وغاية صراعها الا المفهوم الماركسي . ويمكننا ـ على هذا ـ أن نقول أن استعمالنا لتعبير " الصراع الاجتماعي " ، يتضمن احتراما للفكر الماركسي ذاته . ولو شئنا لأسميناه " صراعا طبقيا " بدون أن يفطن حتى كثير من الماركسيين أنفسهم الى مضمونه المتميز . اننا نرى أن " للطبقة " و " للصراع الطبقي " دلالة ماركسية خاصة وخالصة . فلا ينبغي لنا أن نخفي وراءها فكرنا القومي . ان هذه " الاستعارة " لن تؤدي الى شيء سوى تشويه النظرية القومية وتشويه الماركسية معا . ومهما تكن كلمتا " الطبقة " و " الصراع الطبقي " متداولتين ، ومقبولتين من أعرض المشاركين والمهتمين بالصراع الاجتماعي ، فلا ينبغي أن يكون ذلك اغراء بالانتهازية الفكرية ، نختلس بها التعبيرات المتداولة بين الناس ليتداول الناس افكارنا . وذلك لأن ثمة فروقا دقيقة ، ولكنها حاسمة ، بين " نظرية الصراع الاجتماعي " ، كما تحددها النظرية القومية ، وبين " نظرية الصراع الطبقي " كما هي محددة ماركسيا . وهي فروق لا يمكن " قوميا " تجاهلها وان كانت " الممارسة " الماركسية قد تجاوزتها .
أول تلك الفروق ينصب على الانتماء الطبقي . فالانتماء " الطبقي " يتحدد ماركسيا ( طبقا للمادية الجدلية ) بموقع صاحبه من علاقات انتاج الحياة المادية . سواء وعى عليها أم لا ، وعلى هذا يتحدثون عن " الطبقة العاملة " ويُدخلون فيها كل العاملين بأجر على أدوات الانتاج الصناعي . وعن " الطبقة البورجوازية " ويُدخلون فيها كل المالكين لأدوات انتاج . وعن طبقة " البورجوازية الصغيرة " ويُدخلون فيها كل الذين يملكون ملكيات خاصة لا يعمل فيها أحد ويعملون هم عند آخرين ولكن ليس على ادوات الانتاج الصناعي . ولما كان الفلاحون لا موقع لهم في علاقات الانتاج الصناعي ، وانما يعملون في حقل آخر فهم " طبقة " متميزة عن " الطبقة العاملة " .. الخ .
ونحن نرى طبقا لمنهجنا الانساني ( جدل الانسان ) أن موقف كل انسان من الصراع الاجتماعي لا يتحدد بمصلحته فقط ، ولكن بالمصلحة ( الحالة أو المتوقعة ) والوعي عليها والنضال من أجلها معا . فلو أخذنا " المضمون الاشتراكي " مثلا للصراع الاجتماعي لكانت القوى الاشتراكية هي كل القوى التي لها مصلحة في الغاء الاستغلال وتعي تلك المصلحة وتناضل من أجلها سواء كانوا من العاملين على أدوات الانتاج الصناعي ، أو من الفلاحين ، أو من المثقفين أو من الجنود ، أو حتى من العاطلين والعجزة والنساء والطلبة .. أي حتى اولئك الذين لا يعملون . لا نفرق فيما بينهم تبعا لمهنة كل منهم ما داموا جميعا قوة نضالية واحدة ضد الاستغلال . ولخرج من القوى الاشتراكية كل الذين خرجوا على الاشتراكية وانحازوا الى الرجعية ولو كانوا من العاملين . ان الممارسة تثبت صحة هذا وتؤكده . فالطلبة يلعبون دورا رئيسيا في الصراع الاجتماعي ( وعي على مصلحة متوقعة ) . والمثقفون الثوريون ( الذين يعرفون ويلتزمون قوانين التطور الاجتماعي ) هم قادة كل الثورات التقدمية ، حتى التي كانت أغلبية ثوارها من العاملين ، من أول ماركس وانجلز ولينين .. الى ماوتسي تونغ وكاسترو وجيفارا .. وكل " المتصدين " للقيادة في الوطن العربي ، قيادة الطبقة العاملة من المثقفين الذين لم يعملوا قط في المصانع . والفلاحون في الصين أنجزوا الثورة الاشتراكية التي أنجزها العمال في الاتحاد السوفياتي ... الخ وهكذا .
الصراع الاجتماعي ـ هنا ـ " اشمل " من الصراع الطبقي .
والفرق الثاني ، يرجع الى وحدة الوجود القومي ذاته . " فالطبقة " بمفهومها الماركسي لا تتضمن بعدا اجتماعيا قوميا . و" الصراع الطبقي " لا يختلف مفهومه في أي مجتمع سياسي ولو كان قائما على تجزئة أمة كما هو الحال في الوطن العربي .
فنحن عندما نتحدث مثلا عن القوى الاشتراكية في الصراع الاجتماعي ، نعني بها القوى الاشتراكية العربية . ونعني بالصراع الاجتماعي من أجل الاشتراكية صراع القوى الاشتراكية العربية ضد الرجعية العربية ، بدون قبول للتجزئة ، ولا تجزئة للقوى ، ولا تجزئة للصراع ، ولا تجزئة ساحاته . لأننا لا نرى أن التجزئة الطارئة على الوجود ، القوى القادرة على أن تحول الشعب الواحد الى شعوب متعددة ، فتقسم القوى القومية الى قوى متعددة وتحيل المصير الواحد الى مصائر متفرقة وهو فشل محض . وعلى هذا لا نفهم الصراع الاجتماعي الا في " اطاره القومي " .
نظرية الصراع الاجتماعي هنا " أشمل " في ساحته من نظرية الصراع الطبقي .
والفرق الثالث ، يرجع الى وحدة المصير القومي . فالطبقة بمفهومها الماركسي تناضل من أجل مصالحها " الطبقية الخاصة " ونحن لا نرى أن التقدميين يناضلون من أجل مصالحهم الخاصة . فهم لا يستوون ـ في نظرنا ـ مع الرجعيين . ذلك لأن المضمون التقدمي للصراع الاجتماعي محدد موضوعيا بالواقع الاجتماعي ذاته . ومهما تكن مصالح الناس متنوعة ، ومختلفة ، ومتفاوتة طبقا لقسمة العمل بينهم وللجهد الذي يبذله كل واحد في موقعه ، فان مصالحهم متفقة في الحل التقدمي لمجتمعهم حتى لو كان بعض الناس لا يعملون . وهكذا يدور الصراع الاجتماعي حول مصالح الشعب كله من ناحية ومصالح الرجعيين من ناحية . ويبدو هذا أكثر ما يكون وضوحا في النضال الذي يقوم به العمال من أجل الاشتراكية . فالعمال لا يستهدفون من نضالهم ضد الرأسماليين إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ، ملكية الرأسماليين لها ، لتصبح بعد هذا ملكية خاصة بالعمال ، بل لتصبح ملكية اجتماعية لكل الشعب ، فهم يستهدفون الغاء " نظام اجتماعي " يوفر للرأسماليين امكانية استغلالهم واستغلال كل قوى الشعب المادية والبشرية ، واقامة " نظام اجتماعي " أكثر تقدما يوفر الحياة الأفضل لهم ولكل أفراد الشعب حتى من غير العاملين . بل ان غايتهم النهائية الغاء الصراع الاجتماعي ليعيش " الناس جميعا " بدون صراع . ولو أخذ نضال العمال من أجل الاشتراكية بمفهومه الطبقي لتوقف النضال من أجل الاشتراكية في الوطن العربي على وجود أو حجم القوى العاملة في الانتاج الصناعي وهي معدومة في بعض الأقطار العربية ، ولانعزل النضال من أجل الاشتراكية من قوة الفلاحين وهم الأكثرية الساحقة ، ولوُجد المثقفون الثوريون وأغلبهم من أصول " فلاحية " (حتى اذا أخذنا بالمنابع الطبقية) ، انهم يقودون أو يتصدون لحركة نضالية ليسوا هم اصحابها ولا قادتها ، ولكان على كل الطلبة العرب أن يكفوا عن نضالهم من أجل الاشتراكية حتى يعرفوا ـ بعد التخرج ـ أين سيكون موقع كل منهم في علاقات الانتاج . أي ـ باختصار ـ لكان علينا اما أن نكف عن النضال من أجل التطور الاشتراكي الى ان يقوم في الوطن العربي طور رأسمالي يتولى تصنيعه وإفراز " بروليتاريا " عربية ، ومن المسلم أن هذا غير لازم . واما أن نخوض معركة الصراع من أجل الاشتراكية بكل القوى التي تمثل الاشتراكية الحل الصحيح لمشكلاتها الاجتماعية ، وهي في الوطن العربي قوى من الفلاحين والمثقفين والحرفيين والطلبة والنساء والبدو والجنود ... وهو لازم ، بحكم الانطلاق من واقع اجتماعي متخلف .
النظرية القومية في الصراع الاجتماعي تفسر وتبرر لماذا لا يجوز الكف عن التطور الاشتراكي في انتظار " البروليتاريا " العربية ولماذا يلزم أن نخوض بقواه المتاحة . اما نظرية " الصراع الطبقي " فلا تبرر الا اسهام العمال الصناعيين ( البروليتاريا ) حيث وجدوا ـ في الصراع الاجتماعي من أجل الاشتراكية.
هنا نرى نظرية الصراع الاجتماعي " أشمل " قوى من نظرية الصراع الطبقي .
والفرق الرابع ، هو تقييم الصراع ذاته على ضوء حركة التطور الاجتماعي . النظرية القومية في الصراع الاجتماعي ترى أن الصراع الاجتماعي غير لازم موضوعيا لحركة التطور الاجتماعي بل هو معوق لها . وان مصدر لزومه هو حتمية ازاحة كل عقبة تقوم في سبيل التطور وتعوقه ، وليس حتمية قيام عقبات عائقة في سبيله . أما نظرية الصراع الطبقي فترد حتميته الى انه قانون أو أحد قوانين ـ التطور الاجتماعي ، ويترتب على هذا أن غاية " الصراع الاجتماعي " هي تصفية العقبات التي تقيمها القوى الرجعية في سبيل التطور الاجتماعي ، بينما غاية " الصراع الطبقي " هو تطوير المجتمع . انه فارق بالغ الدقة . وقد يكون من المفيد ـ لايضاحه ـ أن نضرب مثلا لآثاره في حركة القوى التقدمية .
طرح الفكر العربي شعار " تذويب الفوارق بين الطبقات " للدلالة على اسلوب يحول دون اسلوب الصراع الطبقي . هذا الشعار يكون مفرغا من أي معنى لو حاولنا فهمه على ضوء نظرية الصراع الطبقي . أو قد يكون معناه منع الصراع الطبقي في سبيل وعد غير قابل للتحقيق بتذويب الفروق من الطبقات . وهو ـ على اي حال ـ لا يتفق مع شعار " تعميق التناقضات الطبقية " . ومرجع هذا الفراغ من المعنى أو المعنى " الرجعي " أن الصراع الطبقي ليس الا انعكاسا للمتناقضات الكامنة في اسلوب الانتاج . وحيث توجد تلك المتناقضات يحتم أن تحدد مواقف الناس على وجه يعكسها ويتسق معها . لأن كل انسان يتحدد موقفه من الصراع الطبقي على اساس موقعه من علاقات الانتاج . ويجب ابراز هذه التناقضات حتى ينفجر الصراع الطبقي الذي هو وحده أداة حل التناقضات في اسلوب الانتاج . وطبقا لكل هذا لا يكون شعار " تذويب الفوارق بين الطبقات " الا هدفا غير علمي " غايته الحقيقية أن " يخدر " الطبقة العاملة . أما طبقا لنظرية الصراع الاجتماعي فان غاية الصراع هي تجريد القوى الرجعية من المقدرة الاقتصادية أو السياسية ...الخ على اعاقة حركة التطور . ومن هنا يتوقف الصراع الاجتماعي على موقف الرجعية ـ ان قاومت أصبح الصراع الاجتماعي لازما وهي المسؤولة عما قد يصاحبه من عنف . وان استسلمت ـ ولا نقول قبلت ـ بدون مقاومة ، فلا مبرر للصراع الاجتماعي وتتفرغ كل القوى التقدمية لحل مشكلات التطور الاجتماعي . هل يمكن أن تستسلم ؟ ... نعم بطرق شتى . منها ضعف القوى الرجعية ( الرأسمالية خاصة ) في الدول النامية ، حيث تفقد بالنصر في معركة التحرر المصدر الاستعماري لقوتها . ومنها الوعي على حتمية التطور الاجتماعي وعدم جدوى مقاومته . مثل الأول كثير في الوطن العربي ، والمثقفون الاشتراكيون أمثلة حية للثاني . ما الذي تفعله القوى التقدمية في أي من حالات استسلام أو عدم مقاومة القوى التي ترشحها ظروفها الاجتماعية للصراع الاجتماعي ضد القوى التقدمية ولكن لا تقاوم ، بل قد يزيد بعض المنتمين اليها فينحازون الى حركة التطور التقدمي ؟ . " تذويب الفروق بين الطبقات " . عدم الاكتفاء بالاستسلام أو حتى التحيز للقوى التقدمية ، بل العودة بهم الى مستوى المشاركة في المجتمع . انه الاجراء السلمي الذي يتفق مع حركة التطور الاجتماعي عندما لا تثير القوى الرجعية صراعا اجتماعيا تفرضه على القوى التقدمية . ومن هنا نرى أن شعار " تذويب الفروق بين الطبقات " وان كان مناقضا تماما لشعار " تعميق التناقضات الطبقية " الا أنه لا يناقض " حتمية الصراع الاجتماعي " ، وليس مفرغا من أي مضمون ، وليس شعارا رجعيا ... انه شعار تصحيح الوضع الاجتماعي اذا لم توجد مقاومة . أيا كان سبب عدم المقاومة . وفي مواجهته عندما يتحقق شرطه ، يبدو شعار " تعميق التناقضات الطبقية " افتعالا للصراع الاجتماعي بدون مبرر تقدمي لأن التقدميين يهمهم ـ قبل كل شيء توظيف كل قوتهم في تطوير مجتمعاتهم ، ولا يقتطعون من تلك القوة ما يستعملونه في الصراع الاجتماعي الا عندما يفرض عليهم وبقدر ما يحققون فيه النصر من أجل التقدم .
هنا نرى نظرية الصراع الاجتماعي " أشمل" أسلوبا من نظرية الصراع الطبقي.
هذي فروق أربعة ، دقيقة ، تقضي الأمانة الفكرية ألا نحاول تجاهلها مجاراة ، أو مباراة ، للتعبيرات الدارجة عن " الطبقة " و " الصراع الطبقي " . واذا كانت تلك الفروق تحول دون أن تكون " النظرية القومية في الصراع الاجتماعي " مطابقة " للنظرية الماركسية في " الصراع الطبقي " فان نقاط الالتقاء بينهما كثيرة . فهما تتفقان في حتمية الصراع متى قامت أسبابه . وانه يدور دائما حول مصالح متناقضة . وأنه يقوم بين التقدميين والرجعيين . وأنه متى قام لا يجوز التردد فيه أو المساومة عليه أو الهرب منه ...
أما الفوارق بينهما فتأتي من أن " النظرية القومية في الصراع الاجتماعي " أشمل من نظرية الصراع الطبقي . فهي تفسر وتبرر كل ما هو صحيح في نظرية الصراع الطبقي ولكنها تتجاوزها الى تفسير وتبرير ما لا تستطيع هذه أن تفسره أو تبرره . انها تصحح قصورها . ومصدر هذا ـ كما لا بد أن نعرف ـ هو ذات الفارق في شمول وصحة المنهج .
وفي ما يلي مثل " عربي " للصراع نعرف من النظرية القومية في الصراع الاجتماعي كل شيء عنه ولا تعرف نظرية الصراع الطبقي عنه شيئا . انه الصراع بين القوى القومية والقوى الاقليمية حول وحدة المصير العربي ذاته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق