بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

نظرية الثورة العربية : المنطلقات


نظرية الثورة العربية : المنطلقات



 المنطلقات

" كل مذهبين مختلفين اما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، واما أن يكونا جميعا كاذبين ، واما أن يكونا جميعا يؤديان الى معنى واحد وهو الحقيقة ، فاذا تحقق في البحث وأنعم في النظر ، ظهر الاتفاق ، وانتهى الخلاف " .
                                                     ابن الهيثم . 

20 ـ الوجود القومي :

إن أية محاولة ” لتغيير الواقع ” على ضوء التسليم بأن الانسان هو العامل الاساسي في عملية التغيير تفرض علينا أن نبدأ بتحديد واقعنا البشري من خلال الاجابة عن السؤال : من نحن ؟ .. نحن مجتمع من البشر. إذن . فماا هو مجتمعنا ؟. وعندما نعرف من نحن وماهو مجتمعنا لن تكون عمليةة التغيير تجريداً . لن تكون هناك مشكلات بل مشكلاتنا ، ولن تكون هناك قوى بل قوانا ، ولن تكون هناك معركة بل معركتنا ، ولن يكون هناك اعداء بل أعداؤنا ، ولن تكون هناك حرية بل حريتنا … الخ . كل شيء سيكون أكثر وضوحاً وتحديداً لأنه منسوب الى مجتمع واضح ومحدد .
فما هو مجتمعنا الذي ننتمي اليه .
أسهل الاجابات وأقربها الى الذهن هي : أن مجتمعنا محدد ” بالدولة ” التي نحن رعاياها . فلكل دولة شعب معين ، ووطن معين ، وواقع اجتماعيي واقتصادي معين ، ومشكلات معينة … الخ . ذلك هو ” الأمر الواقع ” . وليس من المنكور أن ” الأمر الواقع ” هو بداية الطريق لأية ممارسة . وأن تجاهل الأمر الواقع أو القفز من فوقه الى غيره ” مثالية ” تهدر الطاقات ولا تغير من الواقع شيئاً . ولكن ” الدولة ” واقع سياسي في مجتمع . والمفروض انها تمثل وتجسد الواقع الاجتماعي الموضوعي . وهو فرض قد يكون صادقاً او قد لايكون تبعاً لظروف قيام الدولة في كل مجتمع . أي أن صدق التجسيد السياسي للمجتمع في دولة ما متوقف على مدى مطابقة الشكل الياسي للمضمون الاجتماعي . وهذا يعني أن الدولة لا تحدد المجتمع على هوى الذين أقاموها ليحكموا بها ، ولكن المجتمع هو الذي يحدد الدولة على ما تقتضيه حقيقة وجوده الموضوعي . وعندما تكون الدولة متفقة مع الوجود الموضوعي للمجتمع تصبح تجسيداً سياسياً صحيحاً لهذا الوجود . أما إذا لم تكن متفقة معه فإنها تكون قائمة على غير أساس سوى القهر ويجب ان تزول . وهنا فقط يفرض الأمر الواقع ذاته على مسيرة التغيير وأسلوبه . لأن إقامة الدولة الحقيقية لابد أن يبدأ من الدولة المصطنعة ذاتها : بتحطيمها .
فالأمر الواقع حجة ملزمة في ” ممارسة ” التغيير ، ولكنه ليس حجة ملزمة في ” النظرية ” . لأن نظرية تغيير الواقع تعني تحديد الواقع من اجل تغييره ، وليس احترام الواقع والابقاء عليه. ومن هنا نعرف لماذا لا نقبل الاحتلال وهو أمر واقع ، ولا اسرائيل وهي أمر واقع ، والاستبداد وهو أمر واقع ، ولا التخلف وهو أمر واقع .. الخ . لأننا نعرف أن ” كل شيء في تغير مستمر ” وان مهمتنا على وجه التحديد هي تغيير الأمر الواقع إلى ما هو أفضل ، ونظرية تغيير الواقع هي التي تحدد لنا ما الأمر الذي نغيره من الأمور الواقعة وإلى أين يكون التغيير . إذن فكون ” الدولة ” أمراً واقعاً يحدد لنا مجتمعنا لا يعني بالضرورة انها التحديد الصحيح للمجتمع الذي ننتمي اليه . إنما نكون كذلك عندما تكون تجسيداً للحقيقة الموضوعية للمجتمع ، ويكون علينا ان نبحث عن تلك الحقيقة الموضوعية لنرى بعد هذا ما إذا كانت الدولة تتفق مع تلك الحقيقة أو لا تتفق .
فكيف يمكن أن نكتشف الحقيقة من أمر مجتمعنا الذي ننتمي إليه ؟
بمعرفة كيف تتكون المجتمعات البشرية .
وخلاصة ما نراه في هذا ، طبقاً وتطبيقاً ” لجدل الانسان ” انه إذا اجتمع اثنان وتطورا معاً ، خلال الزمان ، فإن هذا يعني أن ثمة مشكلة ، أو مشكلات ، مشتركة بينهما لا تحل إلا بارتباطهما ، وتطورهما ، معاً . وهما يحلان تلك المشكلة أو المشكلات عن طريق تبادل المعرفة فيعرف كل واحد منهما ما هي المشكلة المشتركة وكيف نشأت . وتبادل الفكر بينهما فيعرف كل واحد منهما وجهة نظر الآخر في كيفية حل المشكلة . وتبادل العمل ، أي مساهمة كل واحد منهما بجهده في حل المشكلة المشتركة وإشباع حاجتهما المشتركة والاضافة الى الإثنين ، خلال الزمان ؛ تمد أبعاد المجتمع الصغير ، أو الجماعة ، على مستويات ثلاثة : إمتداد أفقي حيث يتعدد الناس وحيث يحمل كل فرد حاجته معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الافراد. وإمتداد رأسي يبدأ بالحاجة الفردية إلى الحاجة الجماعية أو المشتركة . وإتجاه إلى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية وجماعية جديدة تضاف إلى ما كان موجوداً وتكسب كل مشكلة اولويتها في الحل بقدر ما تكون حادة ومشتركة … وهكذا .
وقد تكون الرابطة الأولى التي جمعت بين اثنين هي الاجتماع على حل مشكلة ” حفظ النوع ” التي يؤدي حلها إلى أن يضاف إلى الاثنين ثالث فتوجد الاسرة ثم العائلة ثم السلالة … الخ . تلك وحدة الاسرة تظل واقعاً مشتركاً بين الناس تميزهم عن غيرهم حتى يتجاوز التعدد ـ في الزمان ـ ما يميز الناس بأصلهم الواحد فتتوه الانساب المشتركة في الكثرة . غير ان مجرد اجتماع اثنين ، ولو على مشكلة حفظ النوع ، ينشيء مشكلة مشتركة جديدة على كل منهما ، أي انها وليدة التناقض بين اجتماعهما في مشكلة واحدة وانفصالهما ـ كل منفرد بذاته ـ في الوقت نفسه ، مضمونها كيف يفكرانن ويتبادلان الرأي ويسهمان في حل مشكلتهما الأولى . وقد حلت تلك المشكلةة الجديدة بأول إضافة رائعة ابتكرها الانسان ونعني بها اللغة . فعن طريق اللغة أمكن الوصول ـ بين المتعددين ـ إلى وحدة الادراك والفكر والعمل لمواجهة المشكلات المشتركة . وباللغة وجد التطور الاجتماعي أول أدواته فانطلقت كل أسرة تواجه ـ مجتمعة ـ ظروفها المشتركة وتحقق مستقبلها المشترك . ثم يستمر النمو بالتعدد ، وتتعدد المشكلات ، وتتنوع في مضامينها ، بحيث تتجاوز في اتساعها ، وفي مضمونها ، رابطة الدم التي تصبح عاجزة عن ان تجمع جهد كل الأسر ، والعشائر ، لحل المشكلات المشتركة فيما بينها ولتحقيق مصالحها المشتركة ، فتتكون المجتمعات القبلية حلاً لمشكلات مشتركة بين أفراد كل قبيلة ، وتكون القبيلة بذلك طوراً جديداً ، نامياً ، يتجاوز بمقدرته المشتركة مقدرة الأسر فيه على حل المشكلات المشتركة .
فقد أتى على الانسان حين من الدهر ، استنفذه في الصراع ضد الظروف الطبيعية للحصول على ما يحفظ حياته من ناتج الأرض والصيد . وكان شكل صراعه متابعة ثمار الطبيعة المتاحة تلقائياً الى حيث هي ، والبقاء المؤقت على الأرض حيث يحدها ، إلى ان تنضب فيهجرها الى مكان آخر من الأرض . كانت الهجرة تغييراً للظروف المادية ( الطبيعية ) بالانتقال من مكان الى آخر . وبالهجرة ، وخلالها ، إلتقاء بجماعات أخرى تسعى وراء الغاية ذاتها . فيلتقيان على مصدر انتاج واحد فيقتتلان عليه . وبغلبة أحدهما يدخل مرحلة من التطور بدأت بحل مشكلة التزاحم فيستقر على الأرض ويبدأ في مواجهة المشكلات الجديدة التي تطرحها ظروفه الجديدة . فيبتكر في الأرض التي استقر عليها ما يحل مشكلات جمع نتاجها وتخزينه وتوزيعه وحراسته من فؤوس ومنازل وحراب ونبال … الخ . وإذ يكون هذا هو الطريق الوحيد لحفظ الحياة وإشباع حاجاتها المتجددة ، يصبح جهد الأسر والعائلات قاصراً عنها فيكون الحل الحتمي أن تتجمع الأسر والسلالات والعشائر ـ تدريجياً ومن خلال مواجهة المشكلات ذاتها ـ لتكون قبائل . أي لتكون بكثرتها ومقدرتها أقدر على حل مشكلات الظروف المشتركة . ويطرح تعدد الأسر والعشائر في المجتمع القبلي مشكلات جديدة تحلها القبيلة بما تضيفه من نظم وتقاليد وعادات تضبط سلوك الجميع ويحتكمون اليها فلا يتفرقون . وقد يتحقق لهم جميعاً نصر مشترك ضد عدو مشترك فيمجدون انتصار ” قبيلتهم ” على الطبيعة وعلى الأعداء شعراً وغناء وألحاناً … إلى أن ينضب رزق الأرض ، أو يغلبوا على أمرهم ، فتبدأ مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة والأعداء بهجرة جديدة يصاحبها قتال جديد … الخ .
وهكذا كانت المجتمعات القبلية وحدات متماسكة داخلياً ، مهاجرة ، مقاتلة دائماً .
ذلك هو الطور القبلي من المجتمعات : داخل المجموعة الانسانية الواحدة ، ينفرد كل جماعة وحدة قبلية متميزة عن القبائل الأخرى بأصلها الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها وثقافتها القبلية . ولا تميزها عن غيرها ” الأرض ” التي تعيش فيها ، لتبادل المواقع من الأرض كراً وفراً خلال الصراع القبلي .
وقد انتهى الطور القبلي أو كاد أن ينتهي . فخلال احقاب طويلة من الهجرة المقاتلة ، أهتدت بعض الجماعات والقبائل الى الأرض الخصيبة وأودية الانهار فاستأثرت بها خلال مشكلة ندرة الرزق التي كانت تعالجها بالهجرة من مكان إلى مكان . ولم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبيعة تلقائياً ، بل ” استقرت ” على الأرض وابتكرت الزراعة وأدواتها . حينئذ افترق تاريخ الشعوب والمجتمعات ولم يعد من الممكن الحديث عن ” التاريخ الانساني ” أو ” تاريخ البشرية ” بل لابد من تتبع كل جماعة على حدة لنعرف تاريخها الخاص على ضوء ظروفها الخاصة .
فالجماعات القبلية التي استقرت على أرض معينة خاصة بها دخلت مرحلة تكوين جديدة هي مرحلة تكوين الأمم ، التكوين القومي ، لتتميز بهذا الاستقرار على أرض خاصة عن الطور الذي سبقها . الطور القبلي . غير أن هذا لا يعني أنها قد أصبحت أمماً فنحن لا نقول أن أية جماعة من الناس لها لغة مشتركة وتقيم في منطقة معينة من الأرض قد أصبحت أمة بل ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل . فالأمة تدخل مرحلة التكوين باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الأرض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكوين وتتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها . وقد تكون أول مشكلة واجهتها الجماعات المستقرة هي المحافظة على هذا الاستقرار . أي حماية الأرض المشتركة . ذلك لآن القبائل لم تستقر كلها في وقت واحد . بل بينما استقر بعضها ودخل مرحلة التكوين القومي ظلت الجماعات القبلية الأخرى مهاجرة مقاتلة معاً . تغزو أطراف الأرض التي استقر عليها الأولون فتقيم فيها مختلطة بسكانها الاصليين مبتدئين معاً مرحلة من الحياة المشتركة المستقرة لن تلبث أن تكوّن منهم أمة واحدة . أو محاولة غزوها فمنحسرة عن حدودها . وقد يثير الغزاة حروباً مضادة تخرج فيها الجيوش لمطاردة المغيرين والقضاؤ عليهم وضم مراكز تجمعهم الى الأرض الخاصة فتمتد حدودها ليشملها جميعاً الاستقرار مقدمة لتكوين أمة وقد استمرت فترات الغزو القبلي وحروب المطاردة فترات طويلة من التاريخ عوّقت تطور الجماعات المستقرة الى أن تكون أمماً مكتملة . وان كانت قد أسهمت ـ من ناحية أخرى ـ في ان يتجاوز المستقرون على الأرض الخاصة المشتركة ، رواسب الطور القبلي فيلتحموا معاً خلال العمل المشترك لحماية الأرض المشتركة في مواجهة العدو المشترك . وعندما تثبت حدود الأرض مؤذنة بانتهاء الصراع حول الاختصاص بها تكون الحدود ذاتها حدوداً لما يليها من ارض خاصة بجماعات مستقرة أخرى .
الى هنا تكون قد توافرت للجماعة المستقرة على ارض معينة ( الامة في دور التكوين ) وحدة اللغة ووحدة الأرض المشتركة . غير أن هذا لا يميزها عن غيرها من الجماعات المستقرة التي لها بالضرورة لغتها وأرضها . انما تكتمل خصائص الأمة من تكوينها القومي المنطلق فمن استقرار الشعوب على أرض خاصة فتفاعل الناس مع الناس مع الطبيعة ينتج حصيلة مادية ( انتاج زراعي ، انتاج صناعي ، أدوات انتاج ، مبان … الخ ) وتفاعل الناس في المجتمع ينتج حصيلة اجتماعية من الأفكار والمذاهب والنظم والقيم والتقاليد والفنون … الخ . والنظر الى هذه الحصيلة من تفاعل الانسان مع الطبيعة ومع غيره في المجتمع نظراً الى ما يسمى ” الحضارة ” . فإذا اضيف الى هذا ـ في دور التكوين القومي ـ ان الطبيعة محددة بأرض معينةة متميزة عن غيرها ” وليست ممتازة ” وان الناس قد تحددوا بشعب معينن متميز عن غيره ( وليس ممتازاً ) كان مؤدى هذا التحديد أن حصيلة تفاعل الناس مع أرضهم الخاصة وفيما بينهم ستكون متميزة في مضمونها المادي والثقافي عن غيرها ، أي تكون متميزة ” حضارياً ” . وتكون بذلك قد اكتملت ” أمة   .
وعندما تكتمل الأمم وجوداً قد تظل فلولاً من الجماعات القبلية محاصرة او محصورة على أطراف الأرض الوعرة فيما بين الأمم . أو متخلفة في أماكن متفرقة داخل الأمة . وقد تحاول من حين الى آخر أن تكمل مسيرتها التاريخية مستقلة وان تدخل هي ايضاً مرحلة التكوين القومي خاصة بها ، وهذا لا يكون إلا بأن تقتطع لنفسها جزءاً من الأرض تختص به . ولكن الأمر لا يكون قد حسم تاريخياً باختصاص الأمة التي سبقت تكويناً بالأرض المعينة المشتركة حتى اقصى اطرافها بصرف النظر عمن قد يكون مقيماً على أرضها ، وفي كنفها ، من أفراد ، أو أسر ، او عشائر لا ينتمون اليها او من يكون متخلفاً من ابنائها لأن التكوين القومي الجديد هنا لن يكون إلا على حساب تكوين قومي اكتمل تاريخياً .

21  ـ وحدة الوجود القومي :

يقولون في تعريف الأمة : ” انها جماعة من البشر تكونت تاريخياً لها لغة مشتركة وأرض مشتركة … الخ ” . فلماذا ـ اذن ـ نسرد كل هذا لنصل الى ما يقولون ؟ لأن هناك اقوالاً أخرى في ” الأمة ” غير صحيحة وان كانت متداولة في الفكر العربي . ونعني بها تلك الآراء التي لا تدخل ” الأرض المشتركة ” عنصراً في التكوين القومي . وهو خطأ كبير . اذ أن اية نظرية في ” الأمة ” لا تسلم بأن ” الأرض المشتركة ” عنصر لازم لأية جماعة بشرية لتكون امة هي نظرية فاشلة في التعريف بالأمة . ذلك لأن كافة العناصر الأخرى مثل وحدة اللغة التي ترتكز عليها النظرية الألمانية ، أو وحدة الحياة الاقتصادية التي يرتكز عليها الفكر الماركسي ، أو وحدة الثقافة التي تشيد بها الكتابات العربية ، أو حتى وحدة الارادة التي تركز عليها النظرية الفرنسية . الخ ، كل هذه عناصر ممكن ان تتوافر ن وان تجتمع ، لجماعات بشرية لا ترقى الى مستوى ” الأمة ” كالمجتمعات القبلية مثلاً . ان هذه نقطة هامة لا نعتقد ان الأدب القومي قد منحها كل العناية التي تستحقها ، مع انها ـ كما سنرى ـ من العناصر الجوهرية في نظرية القومية .
على أي حال لقد عرفنا من حديثنا عن كيف يتكون الوجود القومي ، وكيف تكتمل الأمة تكويناً ، ان المميز الاساسي للأمة عن الجماعات الانسانية السابقة عليها هو عنصر الأرض الخاصة المشتركة . الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية الاخرى ، المشتركة فيما بين الناس فيها . ومن هنا تكون الأمة تكويناً واحداً من الناس ( الشعب ) والأرض ( الوطن ) معاً . فنحن عندما نقول ـ مثلاً ـ اننا امة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل ( الأمة ) الذي يتضمن الجزء ( الوطن ) . فالشعب العربي ( الناس ) والوطن العربي ( الأرض ) يكونان معاً الأمة العربية التي ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التي تقيم عليها الى امة ، أو من أرض لا تخص شعباً بعينه الى امة ، الاعندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجوداً واحداً هو الأمة العربية .
وإذا كان لابد من تعريف فإن الأمة : مجتمع ذو حضارة متميزة ، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة ، تكوّن نتيجة تطوّر تاريخي مشترك . أما كل ما تعلمناه من مميزات الأمة كاللغة او الثقافة او الدين … فتلك عناصر التكوين الحضاري وهي تختلف من أمة الى أمة تبعاً لظروف التطوّر التاريخي الذي كوّنها . اما عن المصالح الاقتصادية المشتركة فهي متوافرة في كل مجتمع حتى لو لم يكن أمة . واما الحالة النفسية المشتركة ، والولاء المشترك … الخ فتلك معبرات في الأفراد عن انتمائهم الى امة قائمة . وتختلف من فرد الى فرد في الأمة الواحدة تبعاً لوعيه علاقته بمجتمعه القومي . ولكن الوجود القومي لا يتوقف عليها . وقد قلنا ان الأمة مجتمع تكوّن نتيجة ” تطور ” تاريخي مشترك لأن القول بأنها تكوّن تاريخي لا يكفي للدلالة على انها طور من المجتمعات أكثر تقدماً من الأطوار السابقة عليه .
ولا بأس في ان ننبه ـ هنا ـ الى أن معرفة أو تعريف ” الأمة ” ليست مباراة في المقدرة على الصياغة ، بل هي ضرورة لازمة لمعرفة الظاهرة الاجتماعية التي سيكون كل الحديث ـ بعد هذا ـ دائراً حول تطورها . ولقد نعرف من كثير مما كتب عن الأمة في الأدب العربي ” تساهلاً ” في معرفة الأمة والتعريف بها . فإذا بالانطلاق منها الى قضايا المستقبل يصل بهم الى مآزق غير سهلة . ونضرب لهذا ثلاثة امثلة حية : المثل الأول ” التساهل ” في عنصر الأرض الخاصة والمشتركة والتركيز على الوحدة الثقافية أو الروحية وهي النظرية في الأمة التي قامت عليها الحركة الصهيونية . والمثل الثاني ” التساهل ” في عنصر التطور التاريخي والتركيز على وحدة الارادة وهي النظرية التي ادت وتؤدي بكثير من المثقفين العرب الى الخطأ في فهم مشكلة الاقليات القومية . والمثل الثالث هو الاختلاف في الرأي حول تقييم الحركة القومية الراجع الى الاستعمالات المتباينة لكلمة ” أمة ” . ويغذي هذا الاختلاف ان اللغات ذات الأصل اللاتيني تتضمن ، وتستعمل ، مفردات لغوية لا تتفق مع المفردات العربية المستعملة في الأدب القومي . أهمها ما يترجم عادة الى كلمة ” قوميات ” . انهم ـ هناك ـ يقصدون بها ما يمكن أن تدل عليه كلمة : ” أمم ” او ” اقليات قومية ” . ونحن نعرف اللبس الذي أدت اليه الترجمة ـ الخاطئة أو المتعمدة ـ  لما كتب في الأدب الماركسي عن ” المسألة القومية ” فإذا بها تصبح ” المسالة الوطنية ” . وقد عرفنا من قبل ما يؤدي اليه هذا اللبس من خلط بين ” حركات التحرر الوطني ” و ” الحركات القومية ” ( فقرة 11 )  .
أياً ما كان الأمر فإن فيما سبق بياناً للأمة كما نفهمها . وبذلك المفهوم سنستعملها فيما يلي من حديث .

22 ـ وحدة المصير القومي :

والآن نعيد السؤال :
ما هو مجتمعنا الذي ننتمي اليه ؟ ما هي حقيقته الموضوعية كتكوين تاريخي . هل نحن ما زلنا مجموعات من القبائل ، أم أننا مجموعة من الأمم ، أم اننا ننتمي الى امة عربية واحدة ؟
والاجابة هنا تكاد تكون جاهزة . نحن امة عربية واحدة . والأمة العربية هي مجتمعنا الذي ننتمي اليه . وهي إجابة غير منكورة من كل الذين يعنينا أن نقيم معهم حوار بناء حول المستقبل العربي ونظريته . وقد اكتشف كثيرون حقيقة الوجود القومي العربي من شعورهم بالانتماء الى هذه الأمة العربية التي تتجاوز مجتمعاتهم السياسية بشراً وأرضاً ، أي من خلال ما يسمونه ” الحالة النفسية المشتركة ” التي تعبر بذاتها عن اكتمال التكوين الاجتماعي الذي تعكسه . واكتشفه آخرون عن طريق البحث العلمي في تاريخ الأمة العربية . واكتشفه غيرهم عن طريق الممارسة حيث تعاملها شعوب الأمم الأخرى على أساس أنهم ” عرب ” ينتمون الى امة عربية . بل ان كثيرين قد اكتشفوا انتماءهم القومي الى الأمة العربية من خلال صدمة النكبة سنة 1948 ، وصدمة النكسة سنة 1967 . المهم انه قد اصبح مسلماً بأننا ننتمي الى امة عربية مكتملة التكوين ، وهذا يعفينا من جهد لا مبرر له لإثباته . فنحن مقبولون ” كأمة ” وهذا يكفي . يكفي لنقول اننا امة عربية . وبعد ؟
هذا هو السؤال الدقيق . ان مجرد القول بأننا امة عربية واحدة قد لا يعني شيئاً عند الكثيرين . ونحن نعرف أن كثرة من الناس يسلمون معنا باننا أمة عربية ثم لا يرون ان لهذا اثراً في مخططات النضال من اجل المستقبل . ومعنى هذا ان ثمة فجوة في الحوار لا بد من ان تملأ لنلتقي . خاصة ونحن نتحدث عن الوجود القومي في إطار نظرية النضال من اجل المستقبل .
لا يمكن فهم العلاقة بين الوجود القومي ووحدة مصيره إلا إذا عرفنا ” لماذا ” تكونت الأمم ؟ لماذا كنا امة عربية مثلاً ؟ هل كان ذلك مصادفة تاريخية ، أو تم اعتباطاً لا أحد يدري لماذا ؟ إنه سؤال لم يكن لنا حظ التعرف على أية اجابة عليه في اية دراسة أخرى . مع انه سؤال حاسم.
” في الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل . ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل . إضافة فيها من الماضي ومن المستقبل ولكن تتجاوزهما الى خلق جديد ” . هذا هو قانون التطور الجدلي كما عرفناه من ” جدل الانسان ” وترجمته الاجتماعية هي : ان المجتمعات تتطور من خلال العمل المشترك ( الجماعي ) لحل التناقض بين الواقع ( حصيلة الماضي ) والمستقبل ( كما تعبر عنه حاجاتها ) أو بتعبير أسهل : ان المجتمعات تتطور خلال حل المشكلات التي يطرحها واقعها مستهدفة دائماً اشباع حاجاتها المادية والثقافية المتزايدة ابداً .
إذا نظرنا على ضوء هذا الى تطور المجتمعات ” نجد ان التكوين القبلي كان حصيلة نمو واضافة تحققت خلال حل مشكلات الطور الذي سبقه . فهو اكثر منه تقدماً ، وأكثر منه شمولاً ، فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف اليه ما يحدده كما يحدد الكل الجزء . فالمجتمع القبلي لم يلغ الاسرة فيه ، بل ظلت أسراً وبطوناً وأفخاذاً يقوم الدم فيها رابطة بين ذوي الدم الواحد في حدود مشكلاتهم العائلية ، تضاف اليها الرابطة القبلية الواحدة فيما يتجاوز حدود الاسرة الى القبيلة . اضافة كانت حلاً لمشكلة تحققت بها للافراد حتى من الاسرة الواحدة حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها من مقدرة على التحرر . اللغة الواحدة بقيت كما كانت وسيلة للمعرفة ولتبادل الرأي ولكنها أصبحت أكثر غنى بما أضاف الناس اليها في المجتمع القبلي من معارف وآراء جديدة طورتها فتجاوزت لغة الأسر والبطون والعشائر التي بقيت لهجات تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل فكسب به كل فرد من أية أسرة حريات أكثر مما كانت له وهو محصور في امكانيات بني دمه … ( كذلك ) التكوين القومي للمجتمعات ( كان ) حصيلة نمو وإضافة تحققت خلال الحل الجدلي لمشكلات الطور الاجتماعي الذي سبق القوميات فهو أكثر منه تقدماُ ، أي فيه من الحريات للانسان أكثر مما كان . وهو اكثر منه شمولاً فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف اليه ويحدده كما يحدد الكل الجزء . فكما ان المجتمع القبلي لم يلغ الاسرة بل ظلت اسراً وبطوناً وافخاذاً . يقوم الدم فيها رابطة مميزة بين ذوي الدم الواحد ، بقيت الاسر في الأمة الواحدة واضيفت اليها الروابط المحلية والاقليمية فيما يتجاوز التمييز العائلي ، تمييزاً للخلف المستقر للجماعات القبلية ، قرى ومدناً ومناطق واقاليم ، ثم اضيفت اليها الرابطة القومية إضافة كانت حلاً لمشكلات الاسر والاقاليم ذاتها ، وتحققت بها للافراد من الأسر ومن الاقاليم حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها او الروابط المحلية وحدها . اللغة الواحدة بقيت كما كانت من قبل وسيلة مشتركة لتبادل المعرفة وتبادل الرأي ، واصبحت اكثر غنى بما اضاف اليها الناس في المجتمع القومي من معارف وآراء جديدة طورتها فتجاوزت لغة الاسر والاقاليم التي بقيت لهجاتها تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق إضافة في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل ، فكسب به كل فرد من اية اسرة ، ومن اية اقليم ، علماً وثقافة وحريات اكثر مما كان له وهو محصور في امكانيات بني دمه او عشيرته أو اقليمه . والاضافة لا تلغي المضاف اليه ولكن تكمله فتغنيه … الخ .
وهكذا جاء كخلاصة لدراسة طويلة في ” اسس الاشتراكية العربية ” باللغة المنتقاة على ما تفرضه الدراسة هناك . ونقوله هنا باللغة البسيطة التي تناسب الحوار المفتوح : اننا لم نكن أمة عربية اعتباطاً ، بل تكونا أمة عربية من خلال بحث الناس عن حياة افضل ، فإذا كنا قد بلغنا من خلال تلك المعاناة التاريخية الى الطور القومي ، أي ما دمنا أمة عربية واحدة ، فإن هذا يعني ان تاريخنا ، الذي قد نعرف كل احداثه وقد لا نعرفها ، قد استنفذ خلال بحث اجدادنا عن حياة افضل كل امكانيات العشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معاً لتكون أمة عربية واحدة . وانها عندما اكتملت تكويناً كانت بذلك دليلاً موضوعياً غير قابل للنقض على أن ثمة ” وحدة موضوعية ” قد نعرفها ، وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها . وانها ، بهذا المعنى ، مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق المصير القومي . قد يحاول من يشاء ان يحل مشكلاته الخاصة بإمكانياته القاصرة ، ثم يقنع بما يصيب ، ولكنه لا يلبث أن يتبين ، في المدى القصير او الطويل ، ان الحل الصحيح المتكافيء مع الامكانيات القومية ، المتسق مع التقدم القومي ، قد أخطأه عندما اختار ان يفلت بمصيره الخاص في الوحدة الموضوعية للمشكلات التي تشكل حلولها المصير القومي الواحد .
ذلك هو ما تعنيه ” وحدة المصير القومي ” .
انه ذات التعبير في مجتمع قومي عن البدهية التي عرفناها من قوانين التطور الاجتماعي ( فقرة 18 ) : ” ما دام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً … فلو استطعنا أن نحصر كل ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع ان يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف تحل . أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هي محددة موضوعياً . مؤدى هذا ان كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها الاحل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها أكثر من حل خاطيء ، قاصر أو متجاوز أو مناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها ، ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا أن يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي واحد ”  . 

23 ـ وحدة الدولة القومية :

 لا يتفق فقهاء علم القانون على تعريف واحد للدولة ، ولكنهم يتفقون على العناصر التي يجب ان تتوافر لأي مجتمع ليكون دولة ، فيقولون انها ثلاثة : (1) شعب و(2) أرض و(3) سلطة شاملة الشعب والأرض جميعاً مستقلة عن أية سلطة أخرى . ويضيف بعضهم ” الاعتراف ” كعنصر رابع وان كان هذا محل خلاف كبير يدور حول ما إذا كان الاعتراف لازماً لتوحيد الدولة أم للاقرار بوجودها أم للامرين معاً . وفقهاء علم القانون ، في كل هذا ، ” يصفون ” الدولة ” النموذج ” ، ولكنهم لا يهتمون بكيفية قيام الدولة ” الواقعية ” . فيكفيهم أن تقوم في الواقع بعناصرها النموذجية لتكون عندهم دولة ، ثم يبدأون ، بعد هذا ، في شرح دلالات عناصرها والاثار القانونية ( الحقوقية ) المترتبة عليها غير ان اكثر جهد فقهاء علم القانون كان وما يزال منصباً على شرح دلالة وىثار ذلك العنصر الثالث : ” السلطة ” أو ” السيادة ” كما يقال في كثير من كتب القانون حيث تتداول الكلمتان كما لو كانتا ذاتي مدلول واحد . وفي هذا يدور الحوار الخصيب حول ما يسمى ” بالمشكلة الدستورية ” . ماهي السيادة ؟ أو ماهي السلطة ؟ وما مصدرها ؟ . ومن صاحب الحق في ممارستها ؟ .. وما هي حدودها … الخ . وما يزال ما يقولونه في هذا غير منته الى اتفاق . ذلك لأنهم يعالجون موضوعاً ذا جذور تاريخية موغلة في القدم كانت السلطة فيها اسبق الى المعرفة من السيادة . وكان مصدرها ما يسمى ” بالتفويض الالهي ” . حيث يمثل الملك إرادة الله في الأرض ولا يكون مسؤولاً إلا أمامه في السماء . وقد انتهى هذا المفهوم بنهاية القرن الثامن عشر حيث أصبح الشعب مصدر السلطة . وفيه دخل تعبير ” السيادة ” لغة القانون . فالشعب مصدر السلطات لأن الشعب ، وليس الملك ، هو السيد . ولكن الشعب السيد لا يمارس سيادته فما هي العلاقة بينه وبين من يمارسها ؟ أو ما هي العلاقة بين السيادة والسلطة ؟ وفي هذا كلام كثير . ووراءه كل هذا النظريات التي شاعت في أوروبا قبل القرن الثامن عشر وابدعها فلاسفة الليبرالية من امثال روسو و منتسكيو الذين كانوا يبذرون أفكارهم للتمهيد للثورة ضد الاقطاع . ولسنا ندخل ساحة الحوار مع هؤلاء أو مع فقهاء علم القانون . انما نحاول هنا أن نترجم نظريتنا القومية الى لغة القانون .

 يمكننا منذ البداية أن نفرق بين السيادة والسلطة . فالسيادة أشمل من السلطة إذ السلطة هي ” ممارسة ” السيادة . أو ان حق السيادة هو مصدرر حق السلطة . وهما في علاقة قريبة من علاقة حق الملكية بحق الانتفاع ، إذ الأول يتضمن الأخير وهو مصدره . ويترتب على هذا ـ أولاً ـ أن من يملكك حق السيادة يملك حق السلطة ، ولكن ليس من اللازم أن يكون مالك حقق السلطة مالكاً لحق السيادة . ويقوم هذا عندما يمارس صاحب حق السيادة حقه في السلطة لا بنفسه ولكن بمن يختاره ليمثله وينوب عنه في ممارسته . ويترتب عليه ـ ثانياً ـ أن من يمارس السلطة نيابة عن صاحب حق السيادةة يظل تابعاً لمن أنابه فكما يختاره له ان يحاسبه وان يعزله وان يعين غيره .. وعندما يسلب منه هذا الحق يكون قد فقد سيادته . فإذا طبقنا هذا على المجتمعات نجد أن الشعب هو صاحب حق السيادة بما يتضمنه من سلطة . أما محل الحق فهو الأرض . ومن هنا يكون للسيادة مفهوم ذو حدين : سيادة الشعب على ارضه دون الشعوب والجماعات الأخرى ( الاختصاص بالأرض ) . وسيادة كل الشعب على ارضه ( المشاركة فيها ) . ولما كان الشعب مكوناً من أفراد عديدين فإنه يمارس سيادته في حديها من خلال أفراد يمثلونه وينوبون عنه ويكونون مسؤولين أمامه . أولئك الذين يطلق عليهم لفظ الحكومة . هنا تبقى السيادة للشعب وتمارس الحكومة السلطة نيابة عنه ثم تتوزع وظائف السلطة على اجهزة متخصصة في التشريع او القضاء … ويصاغ كل هذا في عديد من القواعد الملزمة لكل واحد من الشعب أياً كان موقعه . وبمجموع تلك القواعد يتحول المجتمع الى مؤسسة منظمة . منظمة بمعنى أن علاقة الناس فيها بالأرض وعلاقاتهم فيما بينهم وعلاقتهم بمن ينوبون عنهم في ممارسة السلطة تكون محددة بقواعد ملزمة لهم جميعاً ولكل واحد منهم . ونلتقي هنا بكلمة الشرعية . أي اتفاق السلوك الفردي أو الجماعي مع قواعد ذلك النظام القانوني . ويصبح غير مشروع كل سلوك لا يتفق معها . تلك القواعد التي تضبط سلوك الناس في مجتمع منظم هي ما يسمى ” بالقوانين ” التي تطلق عليها بدورها اسماء شتى من أول الدستور ( القانون الاساسي ) الى آخر الأوامر الادارية . المهم انه أياً كان اسم القاعدة الملزمة فهي جزء من نظام قانوني ( حقوقي ) غايته أن يضبط سلوك الناس في المجتمع على قاعدتين تمثل كل منهما حداً من حدي السيادة ، الأولى اختصاص الشعب بالأرض دون غيره . والثانية مشاركة الشعب في أرضه . وعندما يقوم هذا النظام في أي مجتمع يتحول المجتمع الى منظمة قانونية ( حقوقية ) من البشر والأرض ، أو كما يقال من الشعب والوطن ، أي يتحول الى ” دولة ” بعناصرها التي يعرفها فقهاء علم القانون ، الشعب والأرض والسلطة ( السيادة ) .

ثم يأتي الاعتراف صادراً من دولة اخرى ويكون من آثاره التزام الدولة المعترفة بالآثار الملزمة للقواعد التي تشكل بمجموعها المنظمة القانونية ( الدولة ) المعترف بها .

ولقد عرفنا من قبل كيف يتحدد عنصرا البشر والأرض في المجتمع القومي خلال التطور التاريخي . وكيف أن الأمة هي تكوين اجتماعي من شعب معين وأرض معينة خاصة بها ومشتركة فيما بينه . ويضيف هذا الى مفهوم السيادة مضموناً جديداً هو المشاركة التاريخية فيها بين الاجيال المتعاقبة من الشعب . وننتهي الى عدم شرعية تنازل الشعب ، أي جيل من الشعب ، عن السيادة على الأرض . وان شرعية الدولة ذاتها منوطة باتفاق نطاقها البشري والاقليمي مع التكوين التاريخي للمجتمع .

بناء على هذا كله نستطيع ان نقول اننا عندما نكون في مواجهة امة فإن وحدة الوجود القومي تحتم وحدة الدولة فيها . بمعنى ان الدولة القومية التي تشمل الشعب والوطن كما هما يحددان تاريخياً هي وحدها التي تجسد سيادة الشعب على وطنه القومي ومشاركته التاريخية فيه . وهي لابد ان تكون شاملة البشر والأرض جميعاً لتكون دولة قومية مكتملة السيادة . إذ عندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الشعب يكون هذا الجزء قد حرم من ممارسة سيادته على وطنه . وعندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الوطن يكون الشعب قد حرم من ممارسة سيادته على ذلك الجزء من الوطن .

غير ان هذا ليس كل شيء .

فقد عرفنا أن وحدة المصير القومي تعني أن ” ثمة وحدة موضوعية ” ، قد نعرفها وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها . وانها ، بهذا المعنى ، مشكلات قومية لا يمكن أن نجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق المصير القومي ( فقرة 23 ) . ومؤدى هذا ان وحدة الدولة القومية شرط لازم لإمكان معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية في المجتمع القومي ، وحلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذ تلك الحلول في الواقع . ان هذا لا يعني أن الناس في الدولة القومية سيعرفون تماماً حقيقة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة أو انهم سيحلونها فعلاً إنما يعني أن كل هذا يكون متاحاً لهم في الدولة القومية أما الباقي فيكون متوقفاً على مقدرتهم على الانتفاع به .

ونلاحظ هنا ملحوظة دقيقة .

إذا كانت ممارسة حل المشكلات الاجتماعية في مجتمع قومي تتم في غير نطاق الدولة القومية ، فإننا لا نستطيع ان نعرف ـ من مجرد الممارسة ـ حقيقة مشكلة غياب الدولة القومية . لأن الدولة القومية هي الشرط الأول لمعرفة حقيقة المشكلات التي يطرحها الواقع الاجتماعي القومي بما فيها مشكلة الدولة ومناسبتها لآداء وظيفتها . نريد أن نقول أنه مهما عرفنا من المشكلات الاجتماعية في مجتمعنا القومي وحلولها والامكانيات المتاحة لحلها ، فإن غياب الدولة القومية يعني بذاته اننا نواجه مشكلة ” نقص ” المعرفة بالمشكلات وحلولها ، و ”نقص ” الامكانيات المتاحة لحلها . ان هذا النقص في المعرفة لا يمكن ان يعوض إلا علمياً وعقائدياً . أما النقص في الامكانيات فلا يعوض إلا بالدولة القومية ذاتها . لهذا فإننا نلاحظ أن الذين يتصدون لحل المشكلات الاجتماعية في غيبة الدولة القومية ، بدون وعي قومي ، لا يعرفون من الممارسة ضرورة الدولة القومية في المجتمع القومي إلا بقدر ما يفشلون وفي المجالات التي يفشلون فيها وفي وقت الفشل . ومن هنا لا يتذكرون الوحدة إلا عندما يفشلون ولا يطلبونها إلا في مجالات فشلهم ولا يقبلونها إلا بقدر ما تكون ” نافعة ” كتعويض لهذا الفشل . نافعة في إكمال معرفتهم بالمشكلات أو إكمال معرفتهم بحلولها أو إكمال امكانيات حلها . فهي مرتبطة عندهم بالمنفعة كما يلمسونها ، وإنما يلمسونها ، وعندما يلمسونها في الممارسة . وهو طريق تجريبي للمعرفة طويل وباهظ الثمن ولكنه يؤدي ، في النهاية ، الى ذات المنطلق العقائدي الصحيح . إذ لما كانت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية في الواقع الاجتماعي القومي محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ( المجتمع القومي ) ذاته فإن الممارسة في غيبة الدولة القومية ستعلم أصحابها كيف يقبلون الحل الصحيح لمشكلاتهم : الوحدة . هذا لاشك فيه طال الزمان او قصر . كل ما في الأمر أنهم لن يتعلموا إلا بعد أن يبذلوا جهوداً مهدرة في محاولات التطور الفاشلة . وهذا هو الفارق بين المعرفة العلمية لقوانين التطور الاجتماعي والتزامها وبين الجهل بها أو تجاهلها وممارسة التطور الاجتماعي بالتجربة والخطأ . الفارق بين حركة التطوير الاجتماعي العقائدية وبين حركة التطور الاجتماعي التجريبية .

وعندما نكون عقائديين ، وعندما نكون علميين ، ونعرف أن واقعنا الاجتماعي هو ” أمة ” نطلب الوحدة السياسية ( الدولة القومية ) حتى نوفر لأنفسنا اول شروط المقدرة على التطور ولا نطلبها لحل إحدى مشكلات التطور . نطلب دولة الوحدة لمجتمعنا القومي لنستطيع ان نتطور ” فيها ” ولا نطلبها لنطور ” بها ” واقعنا الاقليمي مثلاً . الأول موقف قومي سينتصر حتماً والآخر موقف انتهازي سينكشف حتماً فينهزم.

فما القومية ؟

24  ـ القومية :

قلنا أن الاضافة الى الاثنين ـ خلال الزمان ـ تمد أبعاد المجتمع الصغير ، أو الجماعة ، على مستويات ثلاثة : امتداد افقي حيث يتعدد الناس ويحمل كل فرد حاجته معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الافراد . وامتداد رأسي يبدأ بالحاجة الفردية الى الحاجة الجماعية أو المشتركة . واتجاه الى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية وجماعية جديدة تضاف الى ما كان موجوداً وهكذا عندما يكتمل التكوين القومي ونكون في مواجهة ” أمة ” تكون لكل أمة أبعاد ثلاثة . البعد الأول يحددها من حيث علاقتها بالجماعات الانسانية الخارجة عنها . والبعد الثاني يحددها من حيث علاقتها بالجماعات الانسانية الداخلة فيها . والبعد الثالث يحددها من حيث مسيرتها كأمة . هذا بالاضافة الى حدها الرابع ( الحد الزماني ) الذي هو الواقع الاجتماعي للأمة في وقت معين .

من مجموع هذه الابعاد التي تصل الأمة بغيرها ، كما يحددها ويتحدد بها الوجود القومي نعرف أن ” القومية ” وصف للعلاقة التي تجمع الناس في مجتمعهم القومي والموقف القومي هو الذي يتحدد متفقاً مع علاقات المجتمع القومي بغيره . والحركة القومية هي التي تستهدف تطوير المجتمع القومي في حدود التزامها تلك العلاقات . أما المجتمع القومي فهو الأمة نفسها .

اننا ـ هنا نلتقي بأولى مميزات ” نظرية تغيير الواقع القومي ” . انها أولاً وقبل كل شيء نظرية قومية . بمعنى أنها بيان لمنطلقات وغايات وأساليب تطوير مجتمع حقيقته التاريخية ـ كما هي ـ  أنه ” أمة ” .

فهي تبدأ من الوجود القومي الى مصيره القومي وتتعامل معه في حركته ” كما هو ” . إذن ، نحن لن نختر القومية نظرية لتغيير واقعنا العربي تعصباً مرضياً بل قبولاً علمياً للتعامل مع واقعنا الاجتماعي ” كما هو ” . وقد عرفنا من نظرية تطور المجتمعات ( فقرة 18 ) ( المنهج ) ، التي هي واحدة بالنسبة الى كل المجتمعات ، إن التعامل مع الواقع الاجتماعي ” كما هو ” هو أول مفاتيح النجاح في حل مشكلات التطور الاجتماعي في أي مجتمع . فإذا كنا نرفض أية نظرية ” لا قومية ” مهما كانت وعودها مغرية فلأننا نعرف أنها نظرية فاشلة في تحقيق ما تعد به في واقعنا العربي المحدد موضوعياً بأنه واقع قومي . وأنها إن تكن نظرية محدودة ومقصورة على تطوير الواقع الجزئي في مجاله ( مجال اقتصادي أو اجتماعي ، أو سياسي .. الخ ) أو في مكانه ( تطوير الواقع في مكان ما من الوطن العربي ) فإنها ستكون فاشلة ايضاً ما لم تكن متسقة كجزء مع النظرية القومية لتطور الأمة العربية . حتى لو لم يكن فشلها إلا في عجزها عن أن تحقق في واقعها الجزئي ما يمكن موضوعياً تحقيقه طبقاً للنظرية القومية .

ولنبدأ بالبعد الأول للوجود القومي .

25 ـ القومية والانسانية :

” في الكل الشامل للطبيعة والانسان : كل شيء مؤثر في غيره متأثر به ” هذا هو القانون . وتطبيقه على الوجود القومي وحركته يؤدي الى معرفة أن كون ” الأمة ” مجتمعاً من بني البشر ذا خصائص متميزة لا يعني أنه ليس جزءاً من وجود وحركة المجتمع الانساني كله . ومن هنا لا تعني ” القومية ” الانعزال عن القضايا التي تمس المجموعة الانسانية ككل أو أية مجموعة انسانية منها . بل تعني ، من ناحية ، المشاركة فيها بقدر ما تؤثر في الوجود القومي وحركته . وتعني ، من ناحية أخرى ، ان الحركة القومية منضبطة بحدود القضايا التي تمس المجموعة الانسانية ككل أو أية مجموعة انسانية أخرى . على اساس أنها مؤثرة فيها حتماً . أن مشكلة السلام العالمي ، في عصر الاسلحة النووية ، تقدم لنا مثلاً حياً لهذا التأثير المتبادل بين الوجود القومي والوجود الانساني . ولكنه ليس المثل الوحيد . في حدود هذا يظل الوجود القومي مجرد وجود خاص . فهو إضافة الى ، وليس انتقاصاً من ، وجود الجماعات الانسانية الأخرى . وهكذا تكون ” القومية ” علاقة قبول واحترام للوجود الخاص لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية .

غير أنه يبدو أن ” الممارسة ” التاريخية لا تؤيد هذا . فإن ” القومية ” متهمة بأنها كانت وما تزال علاقة عدوانية . ويضربون لهذا مثلاً ، أمثلة عديدة في الواقع ، من تاريخ العدوان الاستعماري المستمر على الشعوب ، ومن الحرب ” الاوروبية ” الثانية التي شنتها النازية والفاشية . ويقولون أن كل هذا كان ، وما يزال ، أثراً من آثار القومية . والواقع أنه ليس من الغريب ـ كما سنرى ـ أن يكون كثير من المعتدين الاستعماريين ، والنازيين ، والفاشيين قد شنوا حروبهم العدوانية باسم القومية . ولكن الغريب حقاً أن يصدق بعض الذين يدعون المعرفة العلمية ما يقوله المعتدون . إن أقل مقدرة من المعرفة العلمية بالاستعمار وبالنازية وبالفاشية ، وغيرها من الحركات العدوانية ، يكشف عن حقيقة القوى الكامنة وراء الحروب العدوانية ، وبواعثها ، وأغراضها . انهم الرأسماليون الذين يستغلون ، أول ما يستغلون ، الشعوب من اممهم ذاتها ، ثم يستعملونها وقوداً للحروب التوسعية بقصد اغتصاب ما لدى الشعوب الأخرى من ثروات وقوى لاستهلاكها أو لتصنيعها ثم اعادتها الى ذات الشعوب المقهورة لا ستهلاكها في مقابل الاثمان التي يفرضها الغاصبون . كل هذا بقصد تحقيق مزيد من ” الربح ” للرأسماليين . لا جشعاً منهم ، كما يقال عادة ، ولكن لأن تلك هي طبيعة النظم الاستغلالية حيث لا يستطيع أحد إلا أن يكون سارقاً أو مسروقاً بحكم قانون المنافسة المخرب . والمستغلون الذين كانوا قد أخضعوا شعوبهم قبل أن يتطلعوا الى الشعوب الأخرى ، وأبقوها على الجهالة قسراً ، وسموا عقولها بما يملكون من مقدرة اقتصادية في الاعلام والتوجيه ، ما كانوا ، ولا يمكن أن يكونوا ، صادقين معها فيطلبوا منها أن تبعث بأبنائها الى مجازر الحروب ” فيما وراء البحار ” أو ” فيما وراء الحدود ” للبحث عن مصادر جديدة للثروة والربح . ثروتهم الخاصة وأرباحهم الخاصة . فلا يجدون ما يسترون به جرائمهم ، ويدفعون به الشبهة عن مطامعهم ، إلا أكثر الروابط الانسانية بعداً عن العدوان : القومية . وهم لا يتورعون عن استغلالها متى كانت أكثر ملائمة لاخفاء الأسباب الحقيقية للعدوان . بل أنهم قد يجدون حدثاً ما ، وإذا لم يجدوه اختلقوه ، لإيهام الناس بان ثمة اعتداء على أمتهم ، ليدفعوا الناس الى مجازر الحروب العدوانية التي لا علاقة لها بالقومية .

آية هذا أننا بقدر ما نجد في التاريخ من حروب عدوانية باسم القومية ، نجد حروباً تحررية باسم القومية أيضاً . وفي الحرب ” الاوروبية ” الثانية كانت النازية تغزو بولندا باسم القومية الالمانية . وكانت بولندا تدافع عن وجودها باسم القومية البولندية . وانهزمت فرنسا في حربها القومية ضد العدوان النازي . وانتصر الاتحاد السوفيتي في حربه ” القومية الكبرى ” ضد النازية . فأيهم كان اصدق قولاً في ” القومية ” ؟ … فهل تصدق ادانة القومية بما تجني أيدي المستغلين ، مصاصي دماء الشعوب ، شعوبهم والشعوب الأخرى ؟ اننا قبل أن ندين أية حرب ينبغي أن نعرف لماذا ، ولمصلحة من يخوض كل طرف حربه . بصرف النظر عن التضليل الدعائي الذي هو واحد من مصلحة الحروب .

انما المسألة هي ان الوحدة القومية تعبيء كل امكانيات الأمة . فهي خطوة قومية . ثم يتوقف ما بعد هذا على القوى التي تستعمل تلك الامكانيات المتاحة . عندما تكون القوى ” قومية ” لا يمكن أن تستعملها إلا في خدمة تطور الأمة ذاتها معرفة منها بأنها امكانيات خاصة ومشتركة . ومن هنا يصر القوميون ، أول ما يصرون ، على ضرورة الوحدة السياسية لكل أمة ، ليحولوا بذلك دون اسئثار أي قوى ، ولو كانت قطاعاً عريضاً من الشعب نفسه ، بمصادر الثروة في ذلك الجزء من الوطن الذي يعيش فيه انهم يرفضون هذا الاستئثار ويفرضون الوحدة السياسية لتشمل كل الشعب وكل الوطن تأكيداً لوحدة الأمة ووحدة مصيرها . ولا خلاف هنا في نوع هذه الحركة وأهدافها . فكل حركة ” وحدوية ” على أساس وحدة الوجود القومي ، بشراً وأرضاً ومصيراً ، هي حركة قومية . وهي حركة قومية بهذا المعنى وفي هذه الحدود فقط . ومرجع التحفظ ما عرفناه من قبل من أن المجتمعات لم تدخل كلها مرحلة التكوين القومي دفعة واحدة في وقت واحد . كما أن مسيرة التكوين القومي لم تكن واحدة بالنسبة الى كل الأمم . وقد أدى هذا الى ان بعض الحركات القومية قد صاحبت حركة التحرر البرجوازي من القهر الاقطاعي في أوروبا . وتولى البرجوازيون قيادتها إلى أن تحققت الوحدة القومية . والقى هذا شبهة كثيفة على الحركات القومية ظناً بأن كل حركة قومية هي حركة برجوازية . ونحن لا نريد أن نناقش هنا ما إذا كانت الحركة البرجوازية قبل القرن التاسع عشر ـ في أوروبا ـ تقدمية ام رجعية . إنما الذي نريد أن نطرحه هو السؤال الآتي : في أية مرحلة وإلى أي مدى كانت تلك الحركات التي أقامت الدول القومية الموحدة ثم تجاوزتها الى الاستغلال الرأسمالي ، الى أي مدى وفي أية مرحلة كانت قومية ؟ لا شك في أنها كانت حركات قومية في مرحلة ما قبل الوحدة والى أن تمت الوحدة . فقد كانت تلتزم الرابطة القومية التي تنفي التجزئة ، ولكنها بمجرد أن حققت الوحدة انقسمت قوى متصارعة : الرأسماليون من ناحية يريدون مصالحهم الخاصة ، وهو موقف مناقض لوحدة المصير القومي ، والشعب من ناحية يريد ان يحقق من التقدم ما تتيحه له الرابطة القومية ، وذلك موقف قومي . ثم لما ان تجاوز الرأسماليون استغلال شعوبهم ذاتها واتخذوا من الحروب العدوانية سبيلاً الى قهر الشعوب الأخرى واستغلالها ، كانوا أبعد ما كانوا عن القومية . القومية كما نعرفها ونفهمها . وحتى كما فهمها الليبراليون (الرأسماليون) لم يكن تجاوز الوحدة القومية الى الاستغلال والاستعمار حركة قومية . إذ ان المفهوم الليبرالي للقومية يوقف حركتها عند الوحدة القومية ولا يرى انها ـ بعد هذا ـ ذات مضامين تتصل بمستقبل التطور بعد تحقيق الوحدة ( فقرة 6 ) ولكن الخلط جاء من التقييم الماركسي للقومية بمفهومها الليبرالي إذ اعتبر أن ذلك المفهوم السلبي للقومية هو المفهوم الصحيح فاعتبر ان كل حركة قومية هي حركة ليبرالية أو بورجوازية (فقرة11.

26  ـ القومية والاسلام :

الاسلام دين مشترك بين كثير من الأمم والشعوب والجماعات الانسانية . وهكذا يقع تحديد العلاقة بين القومية والاسلام في نطاق علاقة الأمة بالمجتمعات الانسانية خارجها . وكثيراً ما طرحت الرابطة الاسلامية كبديل عن القومية . وهو خطأ جسيم راجع إلى قصور مضاعف في المعرفة الصحيحة بالاسلام وبالقومية كليهما .

فالاسلام دين ولكنه متفرد بمميزات خاصة مثله في هذا كمثل أي دين آخر . وقد عرفنا أن كل أمة معينة تنفرد بمميزات خاصة مثلها كمثل أية أمة أخرى . فالبحث في ” الرابطة الاسلامية ” وعلاقتها بالقومية على ضوء نظرية مجردة في الدين إطلاقاً أو في الأمم إطلاقاً أول خطأ يقع فيه الباحثون ، لأنه يتجاهل خصائص كل دين وخصائص كل أمة . وقد أدى هذا إلى خطأ أكثر جسامة ذلك هو تجاهل العلاقة التاريخية ” الخاصة ” بين الاسلام والأمة العربية . وهي علاقة لا مثيل لها – فيما نعرف من تاريخ الأديان والأمم – بين أي دين وأية أمة .

في الأصل كان ” الدين ” عنصراً من عناصر التكوينات الاجتماعية المختلفة التي كانت وحدة   ” الأصل ” محور تكوينها ” الأسر والعشائر والقبائل ” . وانقلب الأجداد الذين ماتوا إلى آلهة يعبدهم نسلهم من الأحياء ، ويتميزون بهم عن ذوي ” الأجداد ـ الآلهة ” الأخرى . ثم استقر “ الإله ” رمزاً مميزاً لكل قبيلة . فكان لكل قبيلة ” الهها ” الخاص ، تختاره طبقاً لظروفها الخاصة وتعبده طبقاً لتقاليدها الخاصة ، وتلتمس منه العون في تحقيق مصيرها الخاص . وإن تعددت مشكلاتها لم يكن ثمة ما يمنع أن تكون لكل قبيلة أو مجتمع صغير مجموعة كبيرة من الآلهة يختص كل منها باسداء العون لعباده في واحدة من تلك المشكلات : الحب ، الحرب ، الزرع ، الملاحة .. الخ .

ولكنها حتى وهي مجموعة ” خاصة ” كانت تقوم بالوظيفة المشتركة للآلهة في المجتمعات القبلية وما دونها : رمز يجسد الوجود الاجتماعي المستقل لكل جماعة ويميزها عن غيرها . وكل هذا لايزال قائماً في المجتمعات البدائية والقبلية المعاصرة … ثم جاء الاسلام متميزاً قبل كل شيء بالتوحيد . ( لا إله إلا الله  لاشريك له  .  لم يلد ولم يولد ) . وكان هذا رفضاً اسلامياً قاطعاً لقيام الدين مميزاً للمجتمعات الانسانية بعضها عن بعض لأنه رفض قاطع لاختصاص كل جماعة من الناس بدين خاص يميزهم عن غيرهم . ولم يكن ” التوحيد ” ليكتمل إلا إذا قدّم الاسلام ذاته إلى كل الجماعات الانسانية كبديل مشترك ، ووحيد عن اديانها المتعددة . إن الدين عند الله الاسلام . وهكذا جاء الاسلام – كما هو – خطاباً للناس كافة . لكل البشر في كل زمان وفي كل مكان . نقول الاسلام ” كما هو ” احتكاماً للاسلام ذاته . وحكمه في هذا ملزم للمسلمين الذين يقفون من القومية موقفاً مضاداً باسم الاسلام . ومضمون الحكم أن الاسلام في جوهره دين ” وحدة انسانية ” ومما يتنافى مع جوهره هذا أن يكون ديناً “خاصاً ” بجماعة أو جماعات انسانية دون البشر أجمعين .

وليس للمسلم أن يكون له إله كإله بني إسرائيل . ومن هنا ندرك كم هو جسيم ذلك الخطأ الذي يقع فيه بعض المسلمين عندما يدعون إلى ” مجتمع إسلامي ” مقصور على المسلمين ومحدد لعلاقتهم بغيرهم من المجتمعات . وينسون أن مثل هذه الرابطة ان كانت قد تجمع بين المجتمعات المسلمة فإنها ـ في الوقت ذاته ـ تعزل الاسلام عن باقي البشر وتحيله الى دين “خاص ” ببعض الناس وهو للناس كافة . ان هذا ” الاستئثار ” بالاسلام مميزاً لبعض المجتمعات الانسانية ليس من الاسلام في شيء بل هو يتنافى ـ قطعاً ـ مع طبيعة الاسلام كدين لكل بني الانسان بدون تمييز والذين يقدّمون الاسلام بديلاً عن ” القومية ” ينزلون بالاسلام من مكانه فوق الأمم جميعاً ليحصروه في أمة أو في بعض الأمم ، وهو رابطة انسانية ولا يمكن أن يكون أقل من رابطة إنسانية ، وبالتالي لا يقع على مستوى واحد من القومية فيكون بديلاً عنها أو تكون بديلة عنه ، بل هو يجاوزها إلى المجتمع الانساني كله الذي يشمل كل الأمم والشعوب والجماعات .

غير أن الاسلام لم يكن ديناً فحسب ، بل كان ثورة اجتماعية ذات مضامين حضارية . وتلك هي إحدى خصائصه المميزة . وهي هي التي أنشأت بينه وبين الأمة العربية علاقة تاريخية متميزة. ذلك ان الاسلام كثورة اجتماعية قد لعب دوراً أساسياً في تكوين الأمة العربية .

ففي خلال أحقاب طويلة من الهجرة والصراع سابقة على ثورة الاسلام كانت قد استقرت مجتمعات قبلية متجاورة في رقعة من الأرض التي يحصرها من الشمال البحر الأبيض المتوسط وجبال طوروس ، ومن الشرق إيران والخليج العربي ، ومن الجنوب المحيط الهندي فهضبة الحبشة فالصحراء الأفريقية الكبرى ، ومن الغرب المحيط الأطلسي . وكانت تلك المجتمعات القبلية متميزة بعضها بما ورثته عن العهد القبلي أي بالأصل الخاص واللغة الخاصة وبتراث خاص من الثقافة والعقائد والتقاليد والطور الحضاري . وعندما استقرت كل منها في مكانها اصبحت شعوباً ودخلت كل منها منفردة ـ مرحلة التكوين القومي . ولو طال بها الاستقرار لتطورت أمماً متميزة . غير أن الاستقرار لم يطل بأية جماعة منها حتى تكوّن أمة . ولم يطل بها جميعاً حتى تتكون أمماً متجاورة . فقد اجتاحتها موجات متعاقبة كاسحة من الغزو الخارجي إما من وسط آسيا أو من وسط أفريقيا أو من أوروبا . كما أن موجات الهجرة الداخلية ـ السلمية والمقاتلة ـ لم تنقطع عابرة بها ومستقرة فيها وكانت فترات الغزو تعطل نموّها وتعوق تكونها القومي بما تسببه من انقطاع في اختصاص كل شعب بأرض معينة ، وما ان ينحسر الغزاة ، أو يستقروا ، لينشط التكوين القومي حتى تدهمها كلها أو بعضها ، موجة غازية أخرى . واستمر هذا الوضع : فترات من الاستقرار فالاضطراب فالغزو بالاحتلال ، تحبس نمو تلك الشعوب والجماعات عن اكتمال الوجود القومي حتى ظهر الاسلام ثورة : فكرية واجتماعية معاً .

وعندما ظهر الاسلام لم تكن أية جماعة من تلك الجماعات قد تكونت أمة ، وإن كان أغلبها في طور التكوين . فقد كانت السيطرة الفارسية والاغريقية والرومانية قد عطلت نمو كل الجماعات التي تقيم في النصف الشمالي من تلك المنطقة الجغرافية ، التي لم تكن ، تحت السيطرة ، أكثر من مجتمعات من العبيد لا يختصون بأرضهم دون سادتهم ولا يتفاعلون معها أو فيما بينهم تفاعلاً حراً . وكانت الجماعات الأخرى في قلب الجزيرة العربية أو مشارف صحراء أفريقيا ما تزال في مرحلة قبلية متخلفة . وقد بدأ المسلمون بناء تاريخهم من أكثر البقاع تحرراً من السيطرة الأجنبية أي أكثرها قابلية للتطور والنمو . وقد وفر الاسلام للمجتمعات القبلية المستقرة في وسط الجزيرة العربية ، رابطة اجتماعية مشتركة تجاوزت بها التمييز القبلي ودخلت بها طور التكوين القومي . وجمعت مشكلة نشر الدعوة الاسلامية تلك القبائل في نواة قومية اندفعت غازية ما جاورها من قبائل وأقاليم وأمم . وعندما توقف المد الاسلامي كان قد ضم إليه مجتمعات مختلفة في درجة تكوينها الاجتماعي . كانت منها أمم أدركها الاسلام وهي مكتملة التكوين مثل فارس . وكانت من بينها جماعات ومجتمعات وشعوب ماتزال في طور التكوين لم تستو أمماً . وقد كان أثر الاسلام بالنسبة الى كل من تلك المجتمعات مختلفاً .

فالأمم التي أدركها الاسلام وقد اكتمل وجودها القومي كان الاسلام بالنسبة إليها إضافة إلى حضارتها القومية ولكنه لم يلغ وجودها القومي فظلت أمماً مسلمة . أما المجتمعات التي أدركها الإسلام وهي في الطور القبلي أو وهي شعوب في طور التكوين القومي لم تصبح أمماً بعد ، فقد أكمل الاسلام تكوينها أمة واحدة . أزال الحواجز فيما بينها ووفر لها الأمن الكافي لتتفاعل وتلتحم فتصبح شعباً واحداً ، وقدم لها اللغة الواحدة فتجاوزت العزلة التي تسبق وحدة اللغة ، وحصرها في نظام اجتماعي واحد فوّحد في اسلوب حياتها ، ثم رفع عنها العبودية فالتقت على أرضها المشتركة تتفاعل معها تفاعلاً حراً . وهكذا صنعت في ظله تاريخها الواحد .. فأصبحت بهذا كله أمة عربية واحدة .

بهذا تميزت الأمة العربية عن الأمم الأخرى المسلمة . تميزت باللغة العربية ( لغة القرآن ) عن الأمة الفارسية والأمة التركية والأمة الأفغانية .. الخ حتى عندما كانت دولة الاسلام تشملها جميعاً . وتميزت بوحدة الأرض التي امتدت إلى حدود فارس وحدود تركيا وحدود اسبانيا وحصرتها الصحراء والبحار من الجهات الأخرى حتى عندما كانت تلك الأرض ومعها فارس وتركيا واسبانيا والصحراء ذاتها أجزاء من دولة المسلمين . وصنعت من أرضها ، وبلغتها ، أنماطاً من الفكر والمذاهب ، والتقاليد والحضارة كانت ” تراثاً ” عربياً خالصاً حتى عندما كان الاسلام يطبع حضارتها وحضارات أمم أخرى بطابع اسلامي متميز . ولن نلبث أن نرى أثر هذا عندما تتفكك الدولة الاسلامية فيسفر العالم الاسلامي عن تلك الأمم التي دخلها الاسلام وهي أمم مكتملة التكوين فإذا بها هي هي كما كانت أمماً متميزة بلغتها الخاصة وحضارتها القومية الخاصة وإن كان الاسلام قد أضاف إليها ( الحروف العربية في لغة فارس وتركيا مثلاً ) . ولكنه يسفر عن تلك الجماعات والمجتمعات والشعوب العربية ، التي كان لكل منها لغة خاصة وثقافة خاصة عندما دخلها الاسلام لأول مرة ، فإذا بها شعب واحد يعيش على أرض خاصة ومشتركة ولغة واحدة وثقافة واحدة ، إذا بها قد اكتملت في خلال القرون التي قضتها معاً في ظل الاسلام أمة عربية واحدة .

تلك هي العلاقة التاريخية ” الخاصة ” بين الاسلام والأمة العربية . وهي علاقة جدلية ، انتهت إلى خلق جديد . فكانت الأمة العربية ثمرة تفاعل الاسلام مع تلك الشعوب والمجتمعات والجماعات ، وتفاعلها فيما بينها في ظل الاسلام وحمايته ، تفاعلاً انتهى إلى أن تكون شعباً عربياً واحداً بدلاً من شعوب متفرقة ، ووطناً عربياً واحداً بدلاً من أقاليم متعددة . واستمدت اسمها من تلك النواة التي بدأ بها التكوين القومي في الجزيرة العربية ، وحملت راية الاسلام إلى باقي الوطن العربي ، وقادت حركة التفاعل الخلاق الذي انتهى إلى أن نكون كما نحن أمة عربية . وما كان هذا ليحدث لولا إلتقاء أمرين في مرحلة تاريخية واحدة : الاسلام كثورة حضارية قادرة على التطوير والخلق ، والشعوب التي لم تكتمل أمماً فهي قابلة لأن تتطور وتخلق من جديد . ولم يكن أي الأمرين بمفرده بقادر على ان يخلق ” الأمة العربية ” وهكذا أسهم الاسلام في تكوين الأمة العربية . ولكن عندما تكونت كانت وجوداً ذا خصائص متميزة عن العناصر التي التحمت معها فكونتها . فهي ” أمة عربية ” وليست جماعة مسلمة من ناحية . وهي أمة عربية وليست امتداداً نامياً لأي شعب من الشعوب التي كانت من قبل ولا حتى لتلك النواة التي بدأت بها مرحلة التكوين القومي منذ ثلاثة عشر قرناً في قلب الجزيرة العربية .

يتضح من هذا أنه لايمكن الاحتجاج بالاسلام لانكار الوجود القومي العربي ، أو الاستناد إليه في موقف مضاد للقومية العربية إلا إذا انكرنا على الاسلام مضمونه الثوري الحضاري الذي اسهم في تكوين الأمة العربية . ومن ناحية أخرى لايمكن اسناد الوجود القومي العربي إلى الاسلام وحده لأن الأمة العربية كانت ثمرة تفاعل حضاري اسهمت فيه كل الشعوب والجماعات السابقة على دخول الاسلام ، وفي ظله ، بكل من فيها من مسلمين وغير مسلمين .

27 ـ القومية والأممية :

الأممية مقولة ماركسية تعني وحدة الطبقة العاملة على المستوى العالمي بصرف النظر عن الانتماءات القومية للعاملين . فهي علاقة تتجاوز القومية . وقد طرحت ” الاممية ” كثيراً من مواقف مضادة للقومية . واثار ذلك رد فعل قومي رافض ومنكر للأممية . ونحن هنا لا نحاكم الموقفين ولكن نعرض العلاقة بين القومية والأممية كما يحددها الوجود القومي الذي عرفناه من قبل .
الأممية بمعنى ” وحدة الطبقة العاملة بصرف النظر عن الانتماءات القومية للعاملين ” تتضمن أمرين متميزين . الأول ” وحدة الطبقة العاملة ” في مواجهة القوى الامبريالية التي هي عدو مشترك لكل العاملين في كل الأمم .  وهذه مبررة ” قومياً ” . لأن الوجود القومي ـ كما عرفنا ـ وان كان وجوداًً خاصاً إلا أنه غير منعزل عن المجتمعات الانسانية الأخرى . والقومية لا تعني العزلة . بل تعني بحكم قانون في الكل الشامل للطبيعة والانسان : كل شيء متاثر بغيره مؤثر فيه ” إن ثمة مصالح مشتركة بين كل الأمم والشعوب . ضربنا لها مثلاً السلام العالمي من قبل ، ونضرب لها مثلاً الان اسقاط الامبريالية وسحق الامبرياليين . وهي مصلحة مشتركة بين كل الشعوب في العالم لأن الامبريالية ذاتها ” قوة عالمية ” مضادة لكل شعوب العالم . فهي تشكل واقعاً علمياً مناقضاً لإرادة التحرر في كل الشعوب . وبذلك تطرح مشكلة عالمية لا يمكن فهمها إلا في نطاق الواقع العالمي ولا يمكن حلها حلاً صحيحاً إلا على المستوى العالمي ايضاً . وهذا ما نعرفه من ” جدل الانسان ” . ومن هنا فإن المصير المشترك ” للطبقات العاملة ” في معركة الشعوب ضد الامبريالية تحتم عليها ان تتحالف ضد القوى الامبريالية المتحالفة ، بدون ان يكون في هذا ما ينفي أن كل طبقة عاملة من كل امة هي طبقة عاملة قومية . وبهذا يتحدد معنى ” وحدة ” الطبقة العاملة بأنه ” وحدة ” نضال الطبقات العاملة في كل الأمم والشعوب ضد الامبريالية العالمية عدوة الأمم والشعوب جميعاً .
الأمر الثاني الذي يقول : ” بصرف النظر عن الانتماءات القومية للعمال ” يحتاج الى مزيد من التحديد عن طريق التفرقة بين مفاهيم مختلطة فيه فهو مبرر ” قومياً ” عندما يكون معناه ان الانتماءات القومية للطبقات العاملة ليست حائلاً ، ولا يجوز ان تكون حائلاً ، دون تحالفها في المعركة المشتركة ضد الامبريالية . أي عندما لا يتضمن نفياً للوجود القومي أو الانتماءات القومية ولكن تأكيداً لكون القومية غير منافية ” للأممية ” بهذا المعنى . ولكنه يصبح مرفوضاً ” قومياً ” إذا قصد به عدم الاعتداد بالقومية او تجاهلها او انكارها . أي عندما تكون ” الأممية ” مطروحة من موقف ، غير مضاد للامبريالية ، وإنما مضاد للقومية . وهي بهذا المعنى مرفوضة قومياً لا لأننا قوميون متعصبون للقومية ، او متعصبون ضد ” الأممية ” ، ولكن لأن ” الأممية ” بهذا المعنى هي علاقة ” مثالية ” فاشلة . إذ أن الاعتراف بالوجود القومي وبالروابط القومية ” كواقع موضوعي ” ، ثم تجاهله عن طريق صياغة علاقات نضالية قفزاً من فوقه مثالية عقيمة ، مثالية لأنها غير موضوعية ، وعقيمة لأنها غير قابلة للتحقق في الواقع .
وهكذا نرى ، من الموقف القومي ، أن القول بأن للطبقات العاملة في كل الأمم مصلحة مشتركة في اسقاط وتصفية الامبريالية العالمية ، وفي السلام العالمي وفي التقدم الانساني قول صحيح . ولكن الزعم بأن للطبقات العاملة في كل الأمم مصلحة ” واحدة ” اطلاقاً غير صحيح . ومرجع الخطأ فيه الى تجاهل البعد التاريخي للتطور في كل مجتمع على حدة . ذلك لأنه وإن كان العاملون في كل المجتمعات يكافحون ضد الطبقات المستغلة بقصد استرداد مصادر الانتاج وأدواته من ايديهم وتحويلها الى ملكية اجتماعية يكون لكل عامل فيها نصيب متكافيء من عمله ، إلا أن العاملين في كل مجتمع يكافحون في واقع مختلف . مختلف المضمون ومختلف في مستوى التطور وقد يكون متناقضاً . وراء هذا حقيقة موضوعية لا يمكن تجاهلها . هي أنه بحكم النمو غير المتكافيء لتطور المجتمعات ، تبدأ كل طبقة عاملة مسيرتها الى الاشتراكية من واقعها الاجتماعي  . فهي وإن وحدتها الغايات النهائية البعيدة ليست موحدة في مرحلة تاريخية معينة . أي انه في مرحلة تاريخية معينة ، يختلف البعد التاريخي النضالي العمالي في كل مجتمع ، فيحول دون أن يكون العمال ” طبقة واحدة ” عالمية وان كان لا يحول دون ان تتحالف الطبقات العاملة في المعارك التي تدور على القدر المشترك من المضامين التي تناضل من أجلها . بل أنه قد يؤدي الى تناقضات بين بعض المصالح الخاصة بطبقتين عاملتين أو اكثر . وهي تناقضات موضوعية لا يجدي في حلها حتى مجرد الرغبة في حلها لأنها محكومة بقانون التطور ذاته الذي يحتم أن يناضل الناس دائماً من أجل مزيد من التقدم وليس من أجل العودة الى الماضي لتصحيح ما وقع فيه من اخطاء .
ولا نريد أن نعود الى الصراعات التاريخية السابقة ، ولا ان نضرب مثلاً من موقف الصراع بين بعض الدول التي تحكم باسم الطبقة العاملة حالياً ولكنا نضرب مثلاً إحدى المشكلات المعاصرة التي تتجاوز في تأثيرها الاطار القومي فهي على وجه ” أممية ” أو قريبة من ” الأممية ” وذلك للتدليل من ” الواقع الملموس ” على أن القومية ليست هي العقبة في سبيل ” وحدة ” الطبقة العاملة عالمياً . هذه المشكلة هي ذلك الصدع العميق الذي يقسم المجموعة الانسانية الى قسمين ، يقول خبراء الأمم المتحدة بأن مدى الفرقة بينهما يتسع باضطراد مروع . القسمان هما المجتمعات المتقدمة من ناحية والمجتمعات المتخلفة من ناحية اخرى ، ولنلاحظ منذ البداية ان في داخل كل قسم منهما خلافات وصراعات وتناقضات ، كما ان كل قسم منهما يشمل مجتمعات اشتراكية ومجتمعات رأسمالية . ولكن الصدع المتنامي الذي يقسمهما هو صدع في درجة التقدم ومعدل سرعة تطوره . والأصل التاريخي للمشكلة هو أن مصادر الثروة وقوى الانتاج وأدواته في المجتمعات المتقدمة أو أغلبها ، هي ثروات مغتصبة بالسيطرة الاستعمارية من شعوب القسم الآخر . ان هذا ليس مجرد اتهام ولكن بياناً للتأثير المتبادل بين الأمم والشعوب . فما هو فائض ونام هناك كان نتيجة نقص وتخلف هنا . ومصادر الانتاج وأدواته والثروات التي تكافح الطبقات العاملة في المجتمعات المتقدمة لاستردادها من الرأسماليين وتمليكها ملكية اجتماعية للعاملين هناك ، هي ، أو أغلبها ، مصادر انتاج وأدوات وثروات مسلوبة أصلاً من العاملين هنا . ولو كانت ” الطبقة العاملة ” واحدة حقاً لكان عليها ان تستردها في المجتمعات المتقدمة لتعيد توزيعها على العاملين في المجتمعات المتخلفة التي سلبها منهم الرأسماليون . أي لكان على المجتمعات الاشتراكية التي تحكمها أحزاب تقود الطبقة العاملة ان تصب كل انتاجها ، ولفترة تاريخية طويلة ، في وعاء التقدم الناقص في المجتمعات المتخلفة حتى يستوون معاً في التقدم ثم يواصلون طريقهم الى المستقبل ، ولكن هذا غير واقع ولا يمكن ان يقع لأن هذا الحل ” المثالي ” للمشكلة يقتضي ان تعود المجتمعات المتقدمة الى الوراء ، ولفترة تاريخية طويلة ، او تتوقف لفترة تاريخية طويلة عن التقدم الى أن يدركها الآخرون . وهو حل ” مثالي ” لأن القانون العلمي الذي يحكم حركة المجتمعات يحتم ان تكون حركتها متجهة دائماً الى الأمام ، الى مزيد من التقدم . وكذلك يفعل العمال في كل مجتمع سواء كان متقدماً أو متخلفاً ، مع بقاء الصدع كما هو . ويبدو هذا واضحاً مع ملاحظة ان المستوى المعيشي ( المصالح ) التي يناضل العمال في بعض المجتمعات المتقدمة لأنه أقل مما يستحقون ، هو ذاته يتجاوز بمراحل أحلام العاملين في كثير من المجتمعات المتخلفة . تلك هي المشكلة التي يحاول القوميون حلها بالوحدة القومية وحشد كل الامكانيات ومضاعفة الجهد لزيادة معدل التنمية عن المستوى العالمي حتى تعوض الزيادة فترات التخلف . وتحاول الأمم المتحدة حلها عن طريق البنك الدولي . وتحاول بعض الأمم حلها عن طريق ” اختصار البشر ” بالحد من النسل فالحد من الاستهلاك ، فزيادة المدخرات ، فزيادة معدل سرعة النمو .. الخ . وهي التي أفزعت ” جيفارا ” فثار ثورته الانسانية العميقة منذ بضع سنين ضد ما اسماه استغلال الدول المتقدمة للمجتمعات المتخلفة . وكانت ثورته موجهة اصلاً الى الاشتراكيين الذين يبيعون الى المناضلين من أجل الاشتراكية في الدول المتخلفة أدوات الانتاج واسباب التقدم العلمي ، وحتى ضروريات الحياة ” بالاسعار التي يحددها قانون المنافسة في سوق التجارة الدولية . وقد كان ” جيفارا ” في ثورته ” أممياً ” حقاً . ولكنه كان في الوقت ذاته ” مثالياً ” . لأنه يفترض فرضاً غير واقعي هو ان المجتمعات الاشتراكية قد استوت تقدماً فتوحدت المصالح بينها لمجرد انها ذات مصلحة واحدة في المعركة ضد الامبريالية التي كان هو أحد أبطالها . أو انه افترض ان مجرد تولي السلطة باسم الطبقة العاملة في أمتين كالصين وبولندا مثلاً ، يلغي الواقع القومي فيهما ويحيل العاملين في الصين وبولندا ” طبقة واحدة ” . وكل هذا غير صحيح . وهذا يعني ، فيما يهمنا هنا ، أن كون ” الأمة ” تكويناً تاريخياً ـ وهو ليس محل خلاف ـ يجعل مصلحةة العمال في كل مجتمع محددة تاريخياً بمشكلات التقدم كما تطرحها ظروفف المجتمع الذي ينتمون اليه . وهذا يحول دون الادعاء بوحدة المصلحة بين العمال جميعاً في جميع انحاء الأرض الى درجة تجعل من مجرد الانتماء الى ” العمل ” بديلاً عن الانتماء الى ” الأمة ” . أي يحول دون ان تكون في العالم كله ـ في وقت واحد ـ طبقة عاملة ” أممية ” بصرف النظر عن الانتماءات القومية للعاملين من كل امة . وهو يحتم في الوقت ذاته ان تكون كل طبقة عاملة في مجتمع قومي ( امة ) طبقة قومية ، لا تحول قوميتها دون التحالف مع الطبقات العاملة القومية الأخرى ضد عدوها المشترك ، لتحقيق القدر المشترك ، من مصالحها القومية . وهكذا نرى انه انطلاقاً من ان القومية هي الرابطة الموضوعية المحددة تاريخياً بالوجود القومي ، يخوض العاملون التقدميون في كل امة معاركهم القومية ضد الاستغلال الرأسمالي ويشاركون العاملين في الأمم الأخرى معركتهم المشتركة ضد الامبريالية بدون ان يفقدوا هويتهم القومية .
ولا بد أن نشير هنا الى ان المحك الذي يمكن أن تختبر عليه الدعوة ” الأممية ” لمعرفة ما إذا كان تعبيراً عن موقف مضاد للامبريالية أو غطاء لموقف مضاد للقومية ، هو الموقف من الوحدة القومية . إذ عندما تكون الأمة موحدة سياسياً لا يكون ” للأممية ” إلا ذلك المفهوم المبرر قومياً وهو التحالف بين الطبقات العاملة ضد الامبريالية . بل إن معارضة ” الأممية ” هنا باسم القومية لا تكون الا تستراً وراء القومية لمهادنة الامبريالية وتمكينها من احكام قبضتها على الشعوب المقهورة . فهو موقف رجعي عميل يختفي وراء القومية . ولكن عندما تكون الأمة مجزأة سياسياً ، وبفعل الامبريالية ذاتها كما هو الحال في الأمة العربية ، فإن دعوة ” الأممية ” تتعرض لاختبار دقيق يكشف عن المواقف الحقيقية لدعاتها . فهي إن كانت دعوة الى وحدة الطبقة العالمية ، عالمياً ، ضد الامبريالية ، لا بد من ان تكون متضمنة من باب أولى وحدة الطبقة العاملة العربية ، أي لابد من ان تكون دعوة وحدوية رافضة للتجزئة . وتكون بهذا منسجمة مع منطلقاتها على وجه لايثير أية شبهة في أنها تعبير عن موقف تقدمي مضاد للامبريالية . أما عندما تكون دعوة الى وحدة الطبقة العاملة عالمياً ، مع قبول تجزئة الطبقة العاملة في الوطن العربي ، فإنها تكون متناقضة مع منطلقاتها على وجه يكشف عن حقيقة الموقف الذي تعبر عنه ، فإذا هو موقف رجعي يتستر بالأممية كشعار ضد الامبريالية ليحول دون وحدة الطبقة العاملة العربية خدمة للامبريالية التي فرضت التجزئة في الوطن العربي . وهكذا يجب قبل الدخول في أي حوار مع أي ” أممي “حول الأممية والطبقية والصراع الطبقي … الخ ، أن يحدد ذاك ” الأممي ” موقفه من الوحدة العربية ، من خلال اجابته عن السؤال : هل هناك طبقة عاملة واحدة في الوطن العربي أم طبقات عاملة متعددة بتعدد الدول فيه ؟ وعن السؤال : إذا كانت هناك طبقة عاملة واحدة فما هو الموقف من التجزئة ، مقبولة أم مرفوضة ؟وبدون هذا التحديد لا يمكن ان يكون أي حوار حول ” الأممية ” و” القومية أكثر من مغالطة .
الى هنا استعملنا تعبير ” الطبقة ” بمفهومها الماركسي : جماعة من الناس تجمعهم مصلحة واحدة محددة بموقعهم من علاقات الانتاج . كما استعملنا تعبير ” الطبقة العاملة ” بذات المفهوم . كل هذا لنبين ـ بأكبر قدر من الوضوح ـ الموقف القومي من ” الأممية ” وهي نظرية ماركسية . وقد يبدو منه أن النظرية القومية لا تصحح ” الأممية ” إلا من حيث علاقة قوى التقدم الاجتماعي في كل مجتمع بقواه التقدمية في المجتمعات الأخرى . ولكن هذا غير صحيح . انه جزء مما تصححه في نظرية الطبقات والصراع الطبقي . الجزء الخاص بالعلاقات الخارجية ما بين قوى التقدم الاجتماعي في المجتمعات المتخلفة . ولا بأس في أن نشير ، ونشيد أيضاً ، بأنه تصحيح يتفق مع اتجاه كثير من الماركسيين ” في الممارسة ” خاصة بعد سقوط الستالينية . وهذا وحده دليل من الممارسة على صحة النظرية القومية . ولعله أن يكون ” مشجعاً ” على قبول كل ما تصححه . ذلك لأن هذا التصحيح الجزئي قائم على تصحيح أكثر عمقاً وشمولاً ينصب على نظرية الصراع الطبقي ويتناول كافة عناصرها . ما هي الطبقة ؟ .. ما هو مناط ” الانتماء الطبقي ” ؟ … ما هو ” الصراع الطبقي ” ؟ … ما هو دوره في حركة التطور الاجتماعي ؟ . ما هي غايته ؟ 

28  ـ الأمة والطبقة :

هنا نلتقي على أول البعد الثاني للوجود القومي الذي يحدد العلاقة بين الأمة وبين الجماعات الانسانية الداخلة فيها . واهم تلك الجماعات بالنسبة الى ” نظرية تغيير الواقع ” هم اولئك الذين تجمعهم رابطة واحدة تحدد موقفهم من عملية التغيير ذاتها ، والذين يطلق عليهم حينئذ ، وعادة ، لفظ ” طبقة ” ، والعلاقة بين الأمة والطبقة ما تزال في كثير من الدراسات غامضة وغير محددة ، على وجه سمح للذين يرون في ” الصراع الطبقي ” محركاً للتطور أن يدينوا القومية أو ان يقفوا منها موقفاً سلبياً . ومرجع هذا الى ما فهموه ، أو ما أرادوا فهمه ، من حديث للقوميين ـ  دائماً ـ عن الأمة الواحدة ، والقومية الواحدة ، والمصير الواحد ، كما لو كان كل الناس في كل أمة قوة واحدة متماسكة لا يناضلون حيث يناضلون الا في سبيل هدف واحد . وهو فهم خاطيء للأمة وللقومية .
ولنبدأ من البداية حتى لا يخطيء أحد في فهم ما نريد أن نقول .
اذا كنا نقول ان الامم قد تكونت خلال ” بحث ” الناس عن حياة أفضل ، فليس معنى هذا ان الناس قد ” اتفقوا ” في كل مرحلة تاريخية سابقة على ما هي الحياة الافضل ، وما هي الطريق اليها . بل انهم ما اهتدوا اليها الا خلال ” الصراع ” المرير فيما بينهم حول ما هي الحياة الافضل وكيف تتحقق في كل مرحلة تاريخية على حدة . هذا ” الصراع ” واحداثه ، من أول المحاولات الفكرية والمذهبية الى آخر الحروب الداخلية والثورات ، هي بعض تاريخ تكوين كل أمة . ولهذا نقول ان كل أمة هي جماعة من البشر تكونت نتيجة تطور تاريخي ، أي خلال مرحلة تاريخية قضاها الناس وهم يبحثون عن حياة أفضل . ولا شك في أن الصراع القبلي كان على أشده ، قبل الدخول في مرحلة التكوين القومي . داخل كل مجتمع قبلي بين الأسر والعشائر وفيما بين المجتمعات القبلية المختلفة كل يحاول أن يفرض سيطرته على مقدرات وامكانيات القبائل الأخرى وان يسخرها فيما ” يرى هو ” انه في صالحه أو في صالح قبيلته . حتى القوى البشرية من القبائل المغلوبة سخرت عبيداً للسادة من القبائل الغالبة . ولم ينقطع هذا الصراع حتى عندما استقرت الجماعات القبلية على الأرض متجاورة . بل استمر حقبة تاريخية طويلة تشكل القدر الأكبر من تاريخ تكوين كل امة ، غير ان استقرار المجتمعات القبلية متجاورة على الأرض وضعها جميعاً في مواجهة طرف ثالث ويظهر من حين الى حين ويفرض بظهوره الهدنة والتحالف بين المتصارعين . ذلك هو العدو المشترك في شكل قبائل أخرى أو شعب آخر . وهكذا كانت المجتمعات القبلية المستقرة متجاورة تتفاعل وتتطور من خلال ” صراعها الجدلي ” ضد الظروف الطبيعية لانتزاع امكانيات الحياة من الأرض ، ثم من خلال ” صراعها الاجتماعي ” ضد بعضها البعض طلباً لمزيد من امكانيات الحياة ، أو دفاعاً عن الامكانيات المتاحة ، وأخيراً صراعها معاً ضد الغزاة والمغتصبين من الجماعات التي تحاول أن تسلبها جميعاً امكانيات الحياة من البشر والطبيعة . ومن خلال هذا التفاعل عن طريق ” الصراع ” المشترك لحماية موارد الحياة على رقعة من الأرض تتسع وتتقلص وتتحدد رويداً رويداً ، كانت المصالح المشتركة تنمو وتتراكم . كل هذا والصراع الداخلي ضد الطبيعة وفيما بين الجماعات ذاتها مستمر ، يهدأ عندما يظهر الخطر المشترك ويبرز الى الأمام عند غيابه . ويصل الأمر بعد تراكم المصالح المشتركة ( الى منجزات الحلول الصحيحة للمشكلات المشتركة ) الى أن يصبح الصراع الاجتماعي الداخلي ، مع الابقاء على كل ما هو مشترك بعيداً عن الصراع ، هو الحل ” الأفضل ” ( الصحيح ) الذي يتفق مع التطور الاجتماعي كما يتعلمه من الممارسة جميع المتصارعين . أي يصبح الصراع الداخلي دائراً حول ما هي الحياة الأفضل ، وما هي الطريق اليها ، في إطار الوجود المشترك وحدود امكانياته بدلاً من كيفية الخروج من هذا الوجود المشترك ، لما يسببه هذا الخروج من اضرار بالمصالح المشتركة . وبينما يستمر الصراع الداخلي على وجه لا يخفي ميراثه القبلي تكون الأمة قد بدأت في التكوين . ويدل على هذا عادة مواجهة العدو الخارجي لا بحلف قبلي ، ولكن بقوة موحدة ، دفاعاً عن ” الأرض المشتركة ” . ويتعلم الناس من النصر الذي تحققه وحدتهم القومية ان الوحدة القومية قد حلت لهم مشكلة مشتركة ، هي عجز كل جماعة ، منفردة ، عن ان توفر الأمن والحماية لمصادر حياتها . ولما كانت الامكانيات القومية ، البشرية والمادية ، أكثر بكثير من الامكانيات القبلية ، فإن كل أطراف الصراع الداخلي ـ الذي ما يزال مستمراً ـ يحاولون السيطرة عليها جميعاً لاستخدامها في تحقيق ” الحياة الأفضل ” … ” الأفضل ” في هذا الطور للشعب كله . ويكون هذا عنوان الصراع الاجتماعي . فباسم كل الشعب ، أو لمصلحة الشعب كله ، يزعم كل طرف في الصراع الاجتماعي أنه يناضل من أجل حياة أفضل ، ضد من يسميهم حينئذ ” أعداء الشعب ” . وبصرف النظر عن صدق هذا الطرف أو ذاك فيما يدعيه باسم الشعب ، فإن تقديم المصالح المحركة للصراع على انها مصالح الشعب كله يكون بذاته دليلاً صادقاً على أن الوجود المشترك بما يتضمنه من مصالح مشتركة يفرض ذاته على الجميع وان الأمة في طريقها الى ان تكتمل تكويناً ، مع أن الصراع ما يزال قائماً وسيظل قائماً الى حين . وفي تاريخ الأمة العربية مرحلة كاملة كان الصراع الداخلي قائماً فيها بين قوى تستهدف كل منها ” الخلافة ” (الدولة أداة السيطرة على الامكانيات المشتركة ) وتدعي كل منها انها أحق من غيرها بها (لأنها أصح مذهباً) وان كانت كل منها تحمل معها تراثها القبلي فيما تدعيه من وحدة الأصل ( الامويون ، العباسيون ، الفاطميون … الخ ) وما هي إلا الشكل البدائي لما خلفه بعد ذلك من حركات وأحزاب سياسية .
على أي حال ، فإن ” الأمة ” التي ما تكونت الا خلال الصراع بين القوى التي أصبحت اجزاء منها ، وضد القوى الخارجية التي كانت تهدد تطورها المشترك ، لم تكن نهاية وحلاً الا لمشكلة الصراع حول الوجود القومي ذاته والحفاظ عليه . ومن هنا تعبر بذاتها عن قيمتها التقدمية كاضافة الى حركة التطور التي أصابت تكوين المجتمعات . وهذا حل يتفرغ الناس بعده ، بكل ما تتيحه الأمة من امكانيات متفرقة ، للتطور الاجتماعي داخل الأمة ذاتها ، وللصراع الاجتماعي أيضاً داخل الأمة ذاتها أي في الاطار القومي لتصفية القوى التي تعوق التطور . وتلك هي أولى علاقة الأمة بالصراع الاجتماعي داخلها وقواه . حيث لا يبلغ الصراع الاجتماعي الذي توافرت اسبابه الاجتماعية ، أقصى مداه ، ولا يحقق كل فعالياته الا بعد أن تحل قواه مشكلة ” الوجود القومي ” لتتفرغ للتطور الاجتماعي ومشكلاته . هنا تكون الوحدةة القومية مقدمة لتنشيط الصراع الذي توافرت اسبابه وليست قيداً عليه . ومنن هنا ندرك ان حديث البعض عن القومية ، او باسم الوحدة القومية ” لتحريم ” الصراع الاجتماعي ومحاولة الغاء قواه حديث يعبر عن موقف محافظ ورجعي يختفي وراء القومية . حتى في اوقات الخطر الذي يتهدد الأمة كلها ، وفي معارك التحرير ضد العدو المشترك ، قد يؤجل الصراع الاجتماعي ولكن لا تزول أسبابه ، وقد تتحالف القوى ولكن لا تلغى .
الصراع الاجتماعي حقيقة لا تنكر متى قامت اسبابها في المجتمع القومي ولسنا نرى في الحديث عن الأمة الواحدة ، والقومية الواحدة ، والمصير الواحد ، ما يعني وحدة كل ” القوى ” وتجاهل الصراع الاجتماعي . ولكنا نرى فيه ادراكاً جديداً لقوى الصراع الاجتماعي ومضمونه كما يحددهما الوجود القومي . ادراكاً جديداً يمكن تسميته ” بالنظرية القومية في الصراع الاجتماعي ” . وهي جديرة فيما نعتقد بأن تنهي مرة واحدة والى الأبد كل غموض حول علاقة القومية بالطبقة أو علاقة التقدم القومي بالصراع الاجتماعي .
وتقوم هذه النظرية على ذات المنهج الذي عرفنا به الوجود القومي (جدل الانسان) كما عرفنا منه أن الصراع بين المتناقضات يثور في الانسان نفسه فيكون وعيه المشكلة شرطاً سابقاً لوعيه الحل ( المصلحة ) . وعليه فإن الذي يحدد موقف كل واحد من الصراع الاجتماعي هو ” وعي الانسان على مصلحته ” أن تكون له مصلحة يعرفها ويعرف أين مكانها من حركة التطور الاجتماعي فيأخذ الموقف الذي يتفق مع مصلحته . ومن هنا فأنا نرفض أن تكون المصلحة كما هي محددة موضوعيا بالواقع الاجتماعي بدون وعي كافية لانتماء صاحبها الى احدى قوى الصراع الاجتماعي . ان مصلحته الموضوعية ترشحه لهذا الانتماء ، ولكن الانتماء النضالي موقف ذاتي ، يتطلب أن يعي صاحبه على علاقة موقفه بمصلحته . وباللغة الأخرى نرى ان " الوعي الطبقي " شرط اساسي للانتماء الطبقي .
هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى فقد عرفنا من قبل أن وحدة الوجود القومي تعني أن ثمة وحدة موضوعية بين كل المشكلات الاجتماعية التي يطرحها الواقع القومي ، في زمان معين ، تحتم أن يكون لكل من تلك المشكلات حل واحد صحيح محدد موضوعيا بصرف النظر عن مدى صحة معرفة الناس به ، وان كان لا يتحقق الا بوعي الناس عليه وتحقيقه في الواقع " بالعمل " ، ذلك هو الحل الذي يتفق مع تقدم الأمة ككل ، والذي عبرنا عنه " بوحدة المصير" ، اذن فللمشكلات الاجتماعية في الأمة حلول موضوعية يحددها الوجود القومي ذاته بما يتفق مع التقدم القومي . والصراع الاجتماعي حول المشكلات الاجتماعية لا يعني أن تلك الحلول غير معروفة أو غير قابلة للمعرفة ، بل يعني تماما أن الصراع يدور بين قوى تزعم كل منها أنها تستهدف الحل الموضوعي الصحيح . وقد يكون كلهم خاطئين ، ولكن الذي لا يمكن أن يكون أبدا هو أن يكونوا كلهم على حق فيما يزعمون . اذ عندما يكون موقف أحد الأطراف متفقا مع الحل الصحيح لمشكلات التقدم ، لا بد من أن يكون الطرف الآخر ، أو الأطراف الأخرى ، في موقف أو مواقف مضادة ومعرفة التقدم . ان هذا يبرر تصفية المواقف المعوقة (الرجعية) عن طريق الصراع ضدها ، أي يبرر ويفرض الصراع الاجتماعي لازالة وتصفية المواقف التي تقوم عقبة في سبيل التقدم . وهو يرفض ـ في الوقت ذاته ـ المواقف المنافقة التي تفترض أن يكون كل أطراف الصراع الاجتماعي على حق في وقت واحد ، وتبحث عن حلول وسطية ملفقة تجمع بين المواقف المتضادة . ان النفاق ، أو التلفيق ، في الصراع الاجتماعي لا يخدم الا القوى الرجعية ما دام طريق التقدم محددا موضوعيا . لأنه يمد في حياة العقبات القائمة في سبيل التقدم ويبقي على المشكلات معلقة بدون حل صحيح ، ويشكك القوى التقدمية في سلامة موقفها ، فيوهن من قوتها ، ثم يفشل في النهاية لأن ما هو صحيح موضوعيا لن يلبث أن يفرض ذاته بحكم حتمية التطور فينفجر الصراع من جديد .
ما هي خصائص هذا الحل الموضوعي الصحيح ؟
نعرف منها ـ حتى الآن ـ انه الحل الذي يتفق مع وحدة المصير القومي ـ وهكذا يتحدد اطار الصراع الاجتماعي . فأيا كان محتواه ( الذي يتغير من مرحلة الى مرحلة ) لا بد أن يكون في اطار الوجود القومي .
ثم نستمر .
لما كانت المجتمعات تتطور من خلال حل المشكلات التي يطرحها الواقع (محصلة الماضي) لاشباع حاجاتها (في المستقبل) ، فان الحل الموضوعي الصحيح لا بد من أن يكون ـ في أي وقت ـ متفقا مع احتياجات المستقبل ، أي لا بد من أن يكون " تقدميا " . وهكذا نعرف أنه " قومي تقدمي " .  
غير أن مضمون التقدمية يختلف من وقت الى آخر متابعا في ذلك الحدين المكاني والزماني لحركة التطور التي لا تتوقف أبدا . فلا يمكن أن نعرف ما هو الحل " القومي التقدمي " ما هو مضمونه ، الا منسوبا الى مجتمع معين في وقت معين . ونحن نعرف ـ في هذه المرحلة التاريخية ـ أن التحرر هو الحل التقدمي للاستعمار . والديمقراطية هي الحل التقدمي للاستبداد . والاشتراكية هي الحل التقدمي للاستغلال . نعرف هذا من واقع أمتنا العربية . ولكن ليس معنى هذا أن كل مجتمع معاصر يطرح مشكلات لها ذات الحلول . فثمة المجتمعات المتحررة حيث لا توجد مشكلة الاستعمار . وثمة المجتمعات الديمقراطية حيث لا توجد مشكلة الاستبداد . وثمة الأمم الموحدة حيث لا توجد مشكلة التجزئة . وثمة المجتمعات الصناعية حيث لا توجد مشكلة التخلف . وثمة المجتمعات الاشتراكية حيث لا توجد مشكلة الاستغلال . وحتى في نطاق أمتنا العربية لن تظل المشكلات هي هي دائما .  فبالتحرر تحل مشكلة الاستعمار وتبقى مشكلتا التتجزئة والاستعلال قائمتين . وبالوحدة تحل مشكلة التجزئة ويتفرغ الناس لحل مشكلة بناء الحياة الاشتراكية .. الخ . اذن فمضمون الصراع الاجتماعي (المصلحة التي يدور عليها الصراع ، أو الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية التي يثيرها تناقض الماضي والمستقبل حيث يلتقيان) يختلف من مجتمع الى مجتمع ، ومن وقت الى وقت في المجتمع الواحد تبعا لنوع المشكلات التي يطرحها الواقع ولكنه يبقى دائما مضمونا قوميا تقدميا .
فما هي قوى الصراع الاجتماعي ؟
هناك أولا الذين يعون الحل التقدمي ويلتزمونه ويناضلون من أجله . وأولئك هم التقدميون . وهناك ثانيا . الذين يعون تناقض " مصالحهم الخاصة " مع الحل التقدمي فيدافعون عنها ، ابقاء على الواقع ضد التطور ، اولئك هم الرجعيون . وفيما بينهما ومن حولهما تتذبذب فئات من الناس لهم مصلحة في الابقاء على الواقع فهم مع الرجعية ، ويتطلعون الى المزيد عن طريق تغيير الواقع ، " فيستغلون " القوى التقدمية ويحالفونها وهم يخفون نواياهم في الغدر بها والوقوف ضد أن تصل حركتها الى نهايتها ـ اولئك هم الانتهازيون . ثم هناك ، أخيرا ـ قطاع عريض من الناس لا يعون مصالحهم " كما هي محددة موضوعيا بالواقع الاجتماعي " أين تقع ، أولا يقدرون على النضال ( بمؤثر يضعف مقدرتهم ) ، فيقفون خارج الصراع الاجتماعي ولا يسهمون فيه . ولا بد أن ننتبه انتباها خاصا ، ومركزا ، الى هذا القسم العريض من الناس الذي يبلغ في الأمم المتخلفة بوجه خاص حد الأغلبية العددية من كل مجتمع ، انهم طاقة بشرية هائلة في المجتمعات المتخلفة ومع ذلك فهي طاقة غير فعالة في الصراع الاجتماعي لأنها لا تعرف الحلول الصحيحة لمشكلاتها الاجتماعية كثمرة من ثمار التخلف ذاته . ومصلحتها واقعة موضوعيا ـ سواء عرفت أم لم تعرف ـ في الحل القومي التقدمي . فهي بحكم مصلحتها " الاحتياطي البشري " للقوى التقدمية في صراعها الاجتماعي من أجل التقدم . ومن هنا نرى أنه وان كان الصراع الاجتماعي ، في الامم المتخلفة خاصة ، يقوم بين القوى الرجعية التي تدافع عن مصالحها الخاصة وبين القوى القومية التقدمية ، فان هذا لا يعني أن القوى القومية التقدمية تناضل من أجل مصالحها الخاصة ، مثلها مثل الرجعيين . ذلك لأن القوى القومية التقدمية تناضل من أجل تحقيق الحل الموضوعي المحدد قوميا لمشكلات التقدم الاجتماعي . وهو حل صحيح بالنسبة الى كل الناس حتى لو لم يعرفوا هذا . فهي لا تستهدف من نضالها مصالح خاصة بمعزل عن مصلحة الأمة كلها ، ولا تسلك اليه طريقا خاصا بمعزل عن جماهير الشعب كله ، لأنها بحكم أنها قومية تقدمية تسعى وتلتزم وتناضل منطلقة من مسلمة أولى أن وحدة الوجود القومي دليل لا ينقض على وحدة المصير القومي . فهي بنضالها تحقق مصالح كل الجماهير بما فيهم ذلك القطاع العريض من الناس ـ في الأمم المتخلفة خاصة ـ الذين لا يعون ولا يلتزمون ولا يناضلون ، بل مصالح حتى أولئك الذين يدفعهم الجهل ، أو الخوف ، أو الضعف ، الى الصفوف الرجعية فينحازون الى ذات القوى التي هم ضحاياها . وهكذا يمثل القوميون التقدميون في كل أمة كل الجماهير في صراعهم ضد الرجعية من أجل التقدم حتى ولو جهلتهم الجماهير ، وحتى لو أنكرتهم الى حين .
ان هذا يؤدي الى نتيجة لازمة . هي أن الصراع الاجتماعي لتصفية المواقف الرجعية ، لرفع العقبات من طريق التقدم ، لامكان تفرغ التقدميين لبناء حياة أفضل ( تحقيق الحل التقدمي ) ، لازم ومفروض ولا بد منه ولا يجوز ـ قوميا ـ التهاون فيه أو التخلي عنه . ولكنه مع ذلك غير لازم موضوعيا للتقدم ، وانما تحتمه القوى الرجعية ، وتفرضه على التقدميين ، بمواقفها ، ومصالحها ، المعوقة للتقدم . قد يبدو أن في هذا تناقضا ، ولكن مزيدا من التأمل يرفع هذا التناقض الظاهر . ولنضرب لهذا مثلا : الحرب . ان الحرب ضارة بكل أطرافها ، معوقة لتقدم الشعوب ، غير لازمة موضوعيا للتقدم الانساني ، بل السلام هو اللازم . ومع هذا فان الامبريالية والاستعمار وأعوانهما يقفون عقبة " مسلحة " في طريق السلام . فتصبح الحرب وسيلة " لازمة " لشق الطريق الى السلام ، أي للقضاء على الحرب ذاتها عن طريق تصفية قواها ، لتبدأ الشعوب ، في ظل السلام اعادة البناء والتقدم . ولا أحد ينكر أن الحرب التي دارت وانتهت قد عوقت التقدم ، بقدر ما استنفذت من جهد ووقت في تصفية القوى التي فرضتها . ان كان هذا واضحا فان أمر الصراع الاجتماعي يصبح واضحا . ففي الصراع الاجتماعي لا يستوي الطرفان في موقفهما من التقدم الاجتماعي الذي هو الهدف الأساسي للقوى القومية التقدمية أن تصفي الرجعية لشق طريقها الى التقدم بدون صراع ، أي للقضاء على الصراع الاجتماعي ذاته ، بدون انكار لما يسببه الصراع الاجتماعي من تعويق للتقدم بقدر ما يستفنفذه من جهد ووقت القوى القومية التقدمية في تصفية القوى الرجعية . وبدون انكار لحتمية الصراع الاجتماعي ضد كل القوى التي تقف في سبيل التطور . فالصراع الاجتماعي مفروض على التقدميين . الرجعيون هم الذين يفرضونه بما يضعونه في طريق التقدميين من عقبات ومن هنا يصبح فرضا على التقدميين أن يخوضوه بكل قواهم ، وألا يقبلوا فيه مساومة ، بقصد تصفية الصراع الاجتماعي ذاته عن طريق تصفية أسبابه وقواه معا ، للتفرغ بعد هذا لبناء الحياة الأفضل للجماهير . نرجو أن يكون هذا واضحا .
فكيف تتحدد قوى الصراع ؟
تتحدد بمواقفها النضالية . المصلحة لا تكفي . المصلحة والوعي عليها لا يكفيان . وأقل من هذا كفاية ما يدل عليه ذلك التعبير المبتكر عن " المنابع الطبقية " أو " الأصول الطبقية " ، الذي يحاول أن يجعل الموقف من الصراع الاجتماعي منضبطا " بالميراث " لتبرير مواقف بعض المثقفين الذين تخذلهم " النظرية الطبقية " فلا تبرر مواقفهم التقدمية على أساس مواقعهم الحالية من علاقات الانتاج فيعود بهم التعبير المبتكر الى أصولهم الكادحة ، ليقدم من انتماء الآباء " طبقيا " تبريرا لمواقف الأبناء " تقدميا " ومع أن شقاء الآباء لا ينسى ، وقد يكون مصدرا للمعرفة بالمشكلات الاجتماعية ، الا أنه لا يكفي لتحديد موقف الأبناء من الصراع الاجتماعي . وانما تتحد قوى الصراع الاجتماعي بالنضال الواعي بالمصلحة التي يدور عليها الصراع ، لأن المصلحة وحدها بدون وعي عليها لا تحول دون الانحياز الى القوى الرجعية . والمصلحة والوعي بها بدون نضال تؤدي الى موقف سلبي من الصراع وقواه . أما " المنبع الطبقي " فكما يكون محركا لاتخاذ موقف تقدمي يصحح به الأبناء مسيرة مجتمعهم قد يكون محركا لمحاولة تعويض الفقر الموروث بالاختلاس ، أو تعويض مذلة القهر السابق بالاستبداد في الناس . يتوقف الأمر على التزام الحل الصحيح لمشكلة الفقر والقهر كما هو محدد موضوعيا بالواقع الاجتماعي ذاته . وبهذا يكون النضال ( دخول ساحة الصراع الاجتماعي ) الواعي بالمصلحة التي يدور عليها الصراع هو وحده مناط " الانتماء " الى قوى الصراع الاجتماعي .
لم يبق الا اضافة : هي أن أغلب المجتمعات في العالم ـ ومنها أمتنا العربية ـ ما تزال تعيش مرحلة تاريخية تفرض الصراع الاجتماعي لأن القوى الرجعية ما تزال قائمة فيها لم تصف بعد . تساندها الرجعية في كل المجتمعات وينتهي به الصراع الاجتماعي ليتفرغ البشر لبناء حياة أفضل . أما متى يأتي فذلك متوقف على صلابة القوى التقدمية ورفضها أية مهادنة أو تأجيل للصراع الاجتماعي ، وحسم معركته لصالحها بكل قوة ممكنة .
ان هذا كله يمكن إعادة صياغته باللغة " الطبقية " بشرط أن نختار ذلك لأنموذج من المجتمعات الذي عرفه ماركس واستقى من دراسته " نظرية الطبقات " : مجتمع رأسمالي صناعي متقدم . فالاشتراكية هنا هي الحل الصحيح المحدد موضوعيا لمشكلة الاستغلال الر أسمالي . والراسماليون هم " الطبقة " الرجعية التي تدافع عن مصالحها الخاصة ضد التقدم . والعمال هم " الطبقة " التقدمية التي تستهدف تحقيق الحل الصحيح المحدد موضوعيا . والبرجوازية الصغيرة هي الجماعات المترددة بين الطبقتين . والفلاحون ، والعاطلون ، هم الاحتياطي البشري للطبقة العاملة . والصراع الطبقي لازم لتصفية الصراع الطبقي ذاته عن طريق تصفية الرجعية وإقامة النظام الاشتراكي . ولهذا لا يجوز تأجيل الصراع الطبقي أو مهادنة الرجعية أو قبول الحلول الوسطى وذلك لاختصار فترة المعاناة .
اذن فكأن ما اسميناه " الصراع الاجتماعي " ... ليس الا تسمية أخرى " للصراع الطبقي " فلماذا لا نسميه باسمه ، حتى لا نضيف الى موضوع غامض أصلا ، مزيدا من الغموض .
ليس الأمر على هذا الوجه من البساطة . وعندما نعرف ماهية " الصراع الاجتماعي " ليسمه من يشاء بما يريد من اسماء ، فالعبرة بمضمون الكلمات التي نستعملها . المهم أن نعني بالكلمات مضمونها فلا ينقلب الأمر الى مجرد كلمات . ما هي حقيقة الأمر اذن ؟
لنلاحظ ، أولا ، ما الذي يمكن أن نفهمه من تعبير " الصراع الطبقي " ؟ . انه تعريف للصراع من حيث نوع قواه . القوى المتصارعة طبقات . انها ليست جيوشا والا أسميناه " الصراع العسكري " أو " الحرب " . وكما أننا لا نفهم الحرب ( الصراع العسكري ) من حيث مضمونها ، وأهدافها ، وبالتالي لا نستطيع أن نحدد منها موقفا بمجرد معرفتنا أنها صراع مسلح بين جيوش ، كذلك لا يمكن فهم " الصراع الطبقي " من حيث مضمونه وأهدافه ولا نستطيع أن نحدد منه موقفا بمجرد معرفة أنه صراع بين طبقات بدلا من الجيوش . وانما نفهمه عندما تكون لكلمة " الطبقة " مفهوم اجتماعي يحدد قواها وغاية صراعها . وبينما نعرف كثيرا من الحديث المرسل عن الطبقات والصراع الطبقي يصل في اتساع دلالته الى حد اعتبار مجرد التفاوت في الدخل ، أو الثقافة ، مقياسا طبقيا ، لا نعرف للطبقة مفهوما اجتماعيا يحدد قواها وغاية صراعها الا المفهوم الماركسي . ويمكننا ـ على هذا ـ أن نقول أن استعمالنا لتعبير " الصراع الاجتماعي " ، يتضمن احتراما للفكر الماركسي ذاته . ولو شئنا لأسميناه " صراعا طبقيا " بدون أن يفطن حتى كثير من الماركسيين أنفسهم الى مضمونه المتميز . اننا نرى أن " للطبقة " و " للصراع الطبقي " دلالة ماركسية خاصة وخالصة . فلا ينبغي لنا أن نخفي وراءها فكرنا القومي . ان هذه " الاستعارة " لن تؤدي الى شيء سوى تشويه النظرية القومية وتشويه الماركسية معا . ومهما تكن كلمتا " الطبقة " و " الصراع الطبقي " متداولتين ، ومقبولتين من أعرض المشاركين والمهتمين بالصراع الاجتماعي ، فلا ينبغي أن يكون ذلك اغراء بالانتهازية الفكرية ، نختلس بها التعبيرات المتداولة بين الناس ليتداول الناس افكارنا . وذلك لأن ثمة فروقا دقيقة ، ولكنها حاسمة ، بين " نظرية الصراع الاجتماعي " ، كما تحددها النظرية القومية ، وبين " نظرية الصراع الطبقي " كما هي محددة ماركسيا . وهي فروق لا يمكن " قوميا " تجاهلها وان كانت " الممارسة " الماركسية قد تجاوزتها .
 أول تلك الفروق ينصب على الانتماء الطبقي . فالانتماء " الطبقي " يتحدد ماركسيا ( طبقا للمادية الجدلية ) بموقع صاحبه من علاقات انتاج الحياة المادية . سواء وعى عليها أم لا ، وعلى هذا يتحدثون عن " الطبقة العاملة " ويُدخلون فيها كل العاملين بأجر على أدوات الانتاج الصناعي . وعن " الطبقة البورجوازية " ويُدخلون فيها كل المالكين لأدوات انتاج . وعن طبقة " البورجوازية الصغيرة " ويُدخلون فيها كل الذين يملكون ملكيات خاصة لا يعمل فيها أحد ويعملون هم عند آخرين ولكن ليس على ادوات الانتاج الصناعي . ولما كان الفلاحون لا موقع لهم في علاقات الانتاج الصناعي ، وانما يعملون في حقل آخر فهم " طبقة " متميزة عن " الطبقة العاملة " .. الخ .
ونحن نرى طبقا لمنهجنا الانساني ( جدل الانسان ) أن موقف كل انسان من الصراع الاجتماعي لا يتحدد بمصلحته فقط ، ولكن بالمصلحة ( الحالة أو المتوقعة ) والوعي عليها والنضال من أجلها معا . فلو أخذنا " المضمون الاشتراكي " مثلا للصراع الاجتماعي لكانت القوى الاشتراكية هي كل القوى التي لها مصلحة في الغاء الاستغلال وتعي تلك المصلحة وتناضل من أجلها سواء كانوا من العاملين على أدوات الانتاج الصناعي ، أو من الفلاحين ، أو من المثقفين أو من الجنود ، أو حتى من العاطلين والعجزة والنساء والطلبة .. أي حتى اولئك الذين لا يعملون . لا نفرق فيما بينهم تبعا لمهنة كل منهم ما داموا جميعا قوة نضالية واحدة ضد الاستغلال . ولخرج من القوى الاشتراكية كل الذين خرجوا على الاشتراكية وانحازوا الى الرجعية ولو كانوا من العاملين . ان الممارسة تثبت صحة هذا وتؤكده . فالطلبة يلعبون دورا رئيسيا في الصراع الاجتماعي ( وعي على مصلحة متوقعة ) . والمثقفون الثوريون ( الذين يعرفون ويلتزمون قوانين التطور الاجتماعي ) هم قادة كل الثورات التقدمية ، حتى التي كانت أغلبية ثوارها من العاملين ، من أول ماركس وانجلز ولينين .. الى ماوتسي تونغ وكاسترو وجيفارا .. وكل " المتصدين " للقيادة في الوطن العربي ، قيادة الطبقة العاملة من المثقفين الذين لم يعملوا قط في المصانع . والفلاحون في الصين أنجزوا الثورة الاشتراكية التي أنجزها العمال في الاتحاد السوفياتي ... الخ وهكذا .
الصراع الاجتماعي ـ هنا ـ " اشمل " من الصراع الطبقي .
والفرق الثاني ، يرجع الى وحدة الوجود القومي ذاته . " فالطبقة " بمفهومها الماركسي لا تتضمن بعدا اجتماعيا قوميا . و" الصراع الطبقي " لا يختلف مفهومه في أي مجتمع سياسي ولو كان قائما على تجزئة أمة كما هو الحال في الوطن العربي .
فنحن عندما نتحدث مثلا عن القوى الاشتراكية في الصراع الاجتماعي ، نعني بها القوى الاشتراكية العربية . ونعني بالصراع الاجتماعي من أجل الاشتراكية صراع القوى الاشتراكية العربية ضد الرجعية العربية ، بدون قبول للتجزئة ، ولا تجزئة للقوى ، ولا تجزئة للصراع ، ولا تجزئة ساحاته . لأننا لا نرى أن التجزئة الطارئة على الوجود ،  القوى القادرة على أن تحول الشعب الواحد الى شعوب متعددة ، فتقسم القوى القومية الى قوى متعددة وتحيل المصير الواحد الى مصائر متفرقة وهو فشل محض . وعلى هذا لا نفهم الصراع الاجتماعي الا في " اطاره القومي " .
نظرية الصراع الاجتماعي هنا " أشمل " في ساحته من نظرية الصراع الطبقي .
والفرق الثالث ، يرجع الى وحدة المصير القومي . فالطبقة بمفهومها الماركسي تناضل من أجل مصالحها " الطبقية الخاصة " ونحن لا نرى أن التقدميين يناضلون من أجل مصالحهم الخاصة . فهم لا يستوون ـ في نظرنا ـ مع الرجعيين . ذلك لأن المضمون التقدمي للصراع الاجتماعي محدد موضوعيا بالواقع الاجتماعي ذاته . ومهما تكن مصالح الناس متنوعة ، ومختلفة ، ومتفاوتة طبقا لقسمة العمل بينهم وللجهد الذي يبذله كل واحد في موقعه ، فان مصالحهم متفقة في الحل التقدمي لمجتمعهم حتى لو كان بعض الناس لا يعملون . وهكذا يدور الصراع الاجتماعي حول مصالح الشعب كله من ناحية ومصالح الرجعيين من ناحية . ويبدو هذا أكثر ما يكون وضوحا في النضال الذي يقوم به العمال من أجل الاشتراكية . فالعمال لا يستهدفون من نضالهم ضد الرأسماليين إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ، ملكية الرأسماليين لها ، لتصبح بعد هذا ملكية خاصة بالعمال ، بل لتصبح ملكية اجتماعية لكل الشعب ، فهم يستهدفون الغاء " نظام اجتماعي " يوفر للرأسماليين امكانية استغلالهم واستغلال كل قوى الشعب المادية والبشرية ، واقامة " نظام اجتماعي " أكثر تقدما يوفر الحياة الأفضل لهم ولكل أفراد الشعب حتى من غير العاملين . بل ان غايتهم النهائية الغاء الصراع الاجتماعي ليعيش " الناس جميعا " بدون صراع . ولو أخذ نضال العمال من أجل الاشتراكية بمفهومه الطبقي لتوقف النضال من أجل الاشتراكية في الوطن العربي على وجود أو حجم القوى العاملة في الانتاج الصناعي وهي معدومة في بعض الأقطار العربية ، ولانعزل النضال من أجل الاشتراكية من قوة الفلاحين وهم الأكثرية الساحقة ، ولوُجد المثقفون الثوريون وأغلبهم من أصول " فلاحية " (حتى اذا أخذنا بالمنابع الطبقية) ، انهم يقودون أو يتصدون لحركة نضالية ليسوا هم اصحابها ولا قادتها ، ولكان على كل الطلبة العرب أن يكفوا عن نضالهم من أجل الاشتراكية حتى يعرفوا ـ بعد التخرج ـ أين سيكون موقع كل منهم في علاقات الانتاج . أي ـ باختصار ـ لكان علينا اما أن نكف عن النضال من أجل التطور الاشتراكي الى ان يقوم في الوطن العربي طور رأسمالي يتولى تصنيعه وإفراز " بروليتاريا " عربية ، ومن المسلم أن هذا غير لازم . واما أن نخوض معركة الصراع من أجل الاشتراكية بكل القوى التي تمثل الاشتراكية الحل الصحيح لمشكلاتها الاجتماعية ، وهي في الوطن العربي قوى من الفلاحين والمثقفين والحرفيين والطلبة والنساء والبدو والجنود ... وهو لازم ، بحكم الانطلاق من واقع اجتماعي متخلف .
النظرية القومية في الصراع الاجتماعي تفسر وتبرر لماذا لا يجوز الكف عن التطور الاشتراكي في انتظار " البروليتاريا " العربية ولماذا يلزم أن نخوض بقواه المتاحة . اما نظرية " الصراع الطبقي " فلا تبرر الا اسهام العمال الصناعيين ( البروليتاريا ) حيث وجدوا ـ في الصراع الاجتماعي من أجل الاشتراكية.
هنا نرى نظرية الصراع الاجتماعي " أشمل " قوى من نظرية الصراع الطبقي .
والفرق الرابع ، هو تقييم الصراع ذاته على ضوء حركة التطور الاجتماعي . النظرية القومية في الصراع الاجتماعي ترى أن الصراع الاجتماعي غير لازم موضوعيا لحركة التطور الاجتماعي بل هو معوق لها . وان مصدر لزومه هو حتمية ازاحة كل عقبة تقوم في سبيل التطور وتعوقه ، وليس حتمية قيام عقبات عائقة في سبيله . أما نظرية الصراع الطبقي فترد حتميته الى انه قانون أو أحد قوانين ـ التطور الاجتماعي ، ويترتب على هذا أن غاية " الصراع الاجتماعي " هي تصفية العقبات التي تقيمها القوى الرجعية في سبيل التطور الاجتماعي ، بينما غاية " الصراع الطبقي " هو تطوير المجتمع . انه فارق بالغ الدقة . وقد يكون من المفيد ـ لايضاحه ـ أن نضرب مثلا لآثاره في حركة القوى التقدمية .
طرح الفكر العربي شعار " تذويب الفوارق بين الطبقات " للدلالة على اسلوب يحول دون اسلوب الصراع الطبقي . هذا الشعار يكون مفرغا من أي معنى لو حاولنا فهمه على ضوء نظرية الصراع الطبقي . أو قد يكون معناه منع الصراع الطبقي في سبيل وعد غير قابل للتحقيق بتذويب الفروق من الطبقات . وهو ـ على اي حال ـ لا يتفق مع شعار " تعميق التناقضات الطبقية " . ومرجع هذا الفراغ من المعنى أو المعنى " الرجعي " أن الصراع الطبقي ليس الا انعكاسا للمتناقضات الكامنة في اسلوب الانتاج . وحيث توجد تلك المتناقضات يحتم أن تحدد مواقف الناس على وجه يعكسها ويتسق معها . لأن كل انسان يتحدد موقفه من الصراع الطبقي على اساس موقعه من علاقات الانتاج . ويجب ابراز هذه التناقضات حتى ينفجر الصراع الطبقي الذي هو وحده أداة حل التناقضات في اسلوب الانتاج . وطبقا لكل هذا لا يكون شعار " تذويب الفوارق بين الطبقات " الا هدفا غير علمي " غايته الحقيقية أن " يخدر " الطبقة العاملة . أما طبقا لنظرية الصراع الاجتماعي فان غاية الصراع هي تجريد القوى الرجعية من المقدرة الاقتصادية أو السياسية ...الخ على اعاقة حركة التطور . ومن هنا يتوقف الصراع الاجتماعي على موقف الرجعية ـ ان قاومت أصبح الصراع الاجتماعي لازما وهي المسؤولة عما قد يصاحبه من عنف . وان استسلمت ـ ولا نقول قبلت ـ بدون مقاومة ، فلا مبرر للصراع الاجتماعي وتتفرغ كل القوى التقدمية لحل مشكلات التطور الاجتماعي . هل يمكن أن تستسلم ؟ ... نعم بطرق شتى . منها ضعف القوى الرجعية ( الرأسمالية خاصة ) في الدول النامية ، حيث تفقد بالنصر في معركة التحرر المصدر الاستعماري لقوتها . ومنها الوعي على حتمية التطور الاجتماعي وعدم جدوى مقاومته . مثل الأول كثير في الوطن العربي ، والمثقفون الاشتراكيون أمثلة حية للثاني . ما الذي تفعله القوى التقدمية في أي من حالات استسلام أو عدم مقاومة القوى التي ترشحها ظروفها الاجتماعية للصراع الاجتماعي ضد القوى التقدمية ولكن لا تقاوم ، بل قد يزيد بعض المنتمين اليها فينحازون الى حركة التطور التقدمي  ؟ . " تذويب الفروق بين الطبقات " . عدم الاكتفاء بالاستسلام أو حتى التحيز للقوى التقدمية ، بل العودة بهم الى مستوى المشاركة في المجتمع . انه الاجراء السلمي الذي يتفق مع حركة التطور الاجتماعي عندما لا تثير القوى الرجعية صراعا اجتماعيا تفرضه على القوى التقدمية . ومن هنا نرى أن شعار " تذويب الفروق بين الطبقات " وان كان مناقضا تماما لشعار " تعميق التناقضات الطبقية " الا أنه لا يناقض " حتمية الصراع الاجتماعي " ، وليس مفرغا من أي مضمون ، وليس شعارا رجعيا ... انه شعار تصحيح الوضع الاجتماعي اذا لم توجد مقاومة . أيا كان سبب عدم المقاومة . وفي مواجهته عندما يتحقق شرطه ، يبدو شعار " تعميق التناقضات الطبقية " افتعالا للصراع الاجتماعي بدون مبرر تقدمي لأن التقدميين يهمهم ـ قبل كل شيء توظيف كل قوتهم في تطوير مجتمعاتهم ، ولا يقتطعون من تلك القوة ما يستعملونه في الصراع الاجتماعي الا عندما يفرض عليهم وبقدر ما يحققون فيه النصر من أجل التقدم .
هنا نرى نظرية الصراع الاجتماعي " أشمل" أسلوبا من نظرية الصراع الطبقي.
هذي فروق أربعة ، دقيقة ، تقضي الأمانة الفكرية ألا نحاول تجاهلها مجاراة ، أو مباراة ، للتعبيرات الدارجة عن " الطبقة " و " الصراع الطبقي " . واذا كانت تلك الفروق تحول دون أن تكون " النظرية القومية في الصراع الاجتماعي " مطابقة " للنظرية الماركسية في " الصراع الطبقي " فان نقاط الالتقاء بينهما كثيرة . فهما تتفقان في حتمية الصراع متى قامت أسبابه . وانه يدور دائما حول مصالح متناقضة . وأنه يقوم بين التقدميين والرجعيين . وأنه متى قام لا يجوز التردد فيه أو المساومة عليه أو الهرب منه ...
أما الفوارق بينهما فتأتي من أن " النظرية القومية في الصراع الاجتماعي " أشمل من نظرية الصراع الطبقي . فهي تفسر وتبرر كل ما هو صحيح في نظرية الصراع الطبقي ولكنها تتجاوزها الى تفسير وتبرير ما لا تستطيع هذه أن تفسره أو تبرره . انها تصحح قصورها . ومصدر هذا ـ كما لا بد أن نعرف ـ هو ذات الفارق في شمول وصحة المنهج .  
وفي ما يلي مثل " عربي " للصراع نعرف من النظرية القومية في الصراع الاجتماعي كل شيء عنه ولا تعرف نظرية الصراع الطبقي عنه شيئا . انه الصراع بين القوى القومية والقوى الاقليمية حول وحدة المصير العربي ذاته .

30  ـ القومية والاقليمية :

الأصل في الاقليم أنه تعبير عن مكان وقد ينطوي مفهوم الاقليم على بعض التمييز الطبوغرافي أو الجغرافي . ولكنه على أي حال لا يتضمن في ذاته مفهوماً اجتماعياً او سياسياً خاصاً . بل لعل استعمال كلمة ” اقليم ” للدلالة على مكان أن يتضمن نفياً لاختصاص الاقليم الذي نعنيه بأي مميز من التكوين الاجتماعي او السياسي لمن يعيشون عليه ، وإلا لأسميناه ” أمة ” أو” دولة ” ولكل منهما اقليم أو أكثر . لهذا فإن الدلالة المباشرة لكلمة ” اقليم ” انه غير قائم بذاته اجتماعياً أو سياسياً . في حدود هذه الدلالة لا يكون من المنكور أن كثيراً من الاوطان في العالم ، ومن بينها الوطن العربي ، تضم اكثر من اقليم ، وان بعض الاقاليم تتميز عن البعض الآخر طوبوغرافياً ، وجغرافياً ، بما تتضمنه من مصادر الثروة . كما لا ينكر أحد أن ذلك التمايز ، أو التنوع ، قد يقتضي نوعاً في اساليب الادارة والانتاج لتنظيم العمل في الاقاليم على افضل ما تتطلبه طبيعة الأرض فيه . هذا أمر مسلم به في كل الدول التي يشمل وطنها اكثر من اقليم . ولم يكن هذا ـ قط ـ مشكلة اجتماعية أو سياسية . وعلى هذا فإن وحدة الوجود القومي لا تلغي ولا تنفي تعدد الاقاليم في الوطن القومي .

غير أن للاقليم ، في الوطن العربي ن دلالة خاصة . فعندما نتحدث عن الاقاليم من الوطن العربي نعني تلك الاجزاء من الوطن الواحد التي خطط الاستعمار حدودها وأقام عليها ” دولاً ” فأصبحت تضم جماعات بشرية متميزة بانتمائها السياسي الى دولة ” اقليمية ” . فالأقايم من الأمة العربية هي الدول في أجزائها . وبعض تلك الدول لا تقوم حتى على الاقاليم بالمعنى الاصيل . إذ ان أهواء المستعمرين لم تكن تتفق دائماً مع الطبيعة . فجاءت الحدود خطوطاً هندسية رسمت على الخرائط فوق مكاتب المستعمرين . وبهذا يفقد ” الاقليم ” من الوطن العربي دلالته الاصلية ” كمحل إقامة ” . ولكنه بهذا أيضاً كسب دلالة جديدة هي أن ” الاقاليم ” تكوين اجتماعي ( مجتمع ) قائم بذاته مستقل بمصيره . ولما كان الاستقلال علاقة ذات طرفين او اكثر ( استقلال بالذات عن الغير ) ، فإن دلالة الاقليم تتجاوز ” إقليم ” لتصبح علاقة بين الاقاليم مضمونها : ” ان كل دولة عربية هي تكوين اجتماعي قائم بذاته مستقل بمصيره ” . أي تصبح ” اقليمية ” ، هذا المضمون هو الجوهر المميز للاقليمية . وهو جدير بكل انتباه دقيق . ففي ظل التجزئة يقيم الناس ويحيون الحياة ويحاولون صنع التقدم في الاقاليم بحكم الحصر الذي تفرضه عليهم الدولة . وليست مجرد اقامة الناس في الاقاليم ومحاولاتهم تطوير المجتمع الاقليمي بما يستطيعون موقفاً اقليمياً . ففي ظل الوحدة أو في ظل التجزئة سيفعلون الشيء ذاته . إنما يصبح هذا الموقف اقليمياً عندما ينطوي على قبول لتجزئة الأمة العربية الى دول  . إنه عندئذ ليس موقفاً من علاقة كل شعب في دولة عربية بإقليم دولته . ليس موقفاً وطنياً . بل هو موقف من علاقة التجزئة بالأمة العربية . فهو موقف مضاد للوحدة ومدافع عن الوجود المستقل ” لكل ” الدول العربية . ليس موقفاً مقصوراً على الحفاظ على استقلال دولة صاحبه ، بل متعدياً حدود دولته لحماية استقلال الدول العربية الأخرى ضد الوحدة . وبهذا المعنى تكون الاقليمية رابطة تضم كل ” الاقليميين ” الذين يقبلون التجزئة ، حتى الذين لا ينتمون الى دولة قائمة ، أو حتى الذين يرفضون حدود دولهم القائمة ، وتضعهم جميعاً في مواجهة الشعب العربي في موقف مضاد لوحدته القومية ، بصرف النظر عن مبررات موقفهم .

إذ لما كانت ” الاقليمية ” قائمة على أساس استقلال كل إقليم بذاته ومصيره ، فإن الاقليميين لا يتفقون في تبرير موقفهم الموحد ضد الوحدة القومية . فلا يجمعهم إلا رفض الوحدة العربية . فهم قوة واحدة في مواجهة القوى القومية ، ولكنهم ـ فيما يتجاوزون هذا ـ مختلفون فكراً وحركة اختلافاً قد يصل الى حد الصراع العنيف . فمنهم ” الشعوبيون ” الذين يقبلون دولتهم الاقليمية لأنها تجسّد ـ فيما يقولون ـ الشعب العريق الذي كان موجوداً هنا منذ آلاف السنين وما يزال فيهم . أولئك الذين يريدون ان يلغوا ثلاثة عشر قرناً أو اكثر من التاريخ ليعودوا الى الشعوب العريقة ، البائدة ، ويعتبرون ان الشعب العربي ما يزال منذ ثلاثة عشر قرناً او اكثر مغتصباً لما كان اجدادهم يملكون . ومن الاقليميين من يبررون موقفهم بما هو اكثر رجعية وانحطاطاً فيقبلون دولهم او يرفضونها تبعاً لما اذا كانت تجسد او لا تجسد روابطهم العشائرية أو القبلية البائدة . ومنهم عملاء الاستعمار الذين يحرسون تركته ويفتشون في كل يوم عن حجة لتبرير الاقليمية . ومنهم الرأسماليون الذين يتبعون مصالحهم التي تمت على أساس التجزئة فهم يقبلون دولهم المريحة ولا يقبلون الوحدة إلا في الحدود وإلى المدى التي تكون فيها صفقة رابحة . ومنهم ذلك البعض من ” الاشتراكيين ” الذين تجمدوا على رفض القومية وأعماهم التعصب الفكري عن ان يروا في التجزئة آثار صنعة الامبريالية التي يزعمون انهم ابطال النضال ضدها . واخيراً فمن الاقليميين من يبررون موقفهم بأن الوحدة القومية غير مبررة ، إما لأنهم ينكرون الوجود القومي للأمة العربية ، وإما لأنهم لا يرون علاقة بين الوجود القومي الذي لا ينكرونه وبين الوحدة السياسية .

وكلهم سواء في موقفهم ضد الوحدة .

ونحن لا نستطيع هنا ، ولا يهمنا في الواقع ، أن نحاور كل فئة من الاقليميين فيما تسوقه من مبررات لموقفهم الاقليمي ، إلا الذين لا ينكرون وجودنا القومي كامة عربية ثم لا يفطنون الى ان ” وحدة ” الوجود القومي تتناقض مع ” تجزئته ” وان القومية نقيض الاقليمية . الأولى تحتم الوحدة السياسية ، والثانية تقوم على التعدد . ومن الحوار سيعرف كل اقليمي آخر موقعه . أي ان ما يهمنا هنا هو بيان التناقض بين القومية والاقليمية كما يحدده الوجود القومي .

لقد عرفنا أن الوجود القومي تكوين تاريخي اسهمت فيه كل الجماعات والمجتمعات والشعوب التي دخلت معاً مرحلة التكوين القومي وانتهت الى ان تكون امة واحدة . لا تناقض إذن بين الوجود القومي وبين الوجود المستقبل السابق على التكوين القومي . انهما طوران متتاليان تاريخياً وغير مجتمعين معاً في تاريخ واحد فيتناقضان . فالقومية لغة ، وتاريخاً ، وتراثاً ، وثقافة ، لا تناقض ولا تلغي ولا تنفي ، ما كان لتلك الجماعات والمجتمعات والشعوب من لغات وتاريخ وتراث وثقافة ، بل ان القومية القائمة على أن ” الانسان هو العامل الاساسي في التطور ” وان الأمة هي نتيجة تطور تاريخي تقدمي لا يمكن أن تقف موقفاً سلبياً من التاريخ القديم لأولئك البشر الذي أصبحوا ـ خلال المعاناة المشتركة ـ المجتمع القومي الذي تعبر عنه ، ولا ان تتجاهل ما حمله أولئك البشر من تراث وهم يصنعون معاً التراث القومي .

وعرفنا ان وحدة الوجود القومي تعني اختصاص الشعب بالوطن . ولما كان الشعب امتداداً من البشر على أرض الوطن ، فإن وحدة الوجود القومي لا تناقض ولا تلغي ، ولاتنفي ، ولا تحول دون إقامة جزء من الشعب على جزء من الوطن . فتلك هي الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي بما يعنيه هذا من حق الاقامة والاستقرار والأمن والدفاع عن الأرض … الخ . بل أن القومية لا تعني حتى الوقوف موقفاً سلبياً من أي اعتداء يهدد حق أي جزء من الشعب في الاقامة على ارض أي اقليم من الوطن العربي . بالعكس انها تعني تماماً مسؤولية كل الشعب العريق في الحفاظ على أي جزء من الوطن العربي . إنما يصطنع التناقض عندما تنقلب الوطنية من اختصاص بالأرض في مواجهة العدوان الخارجي ، إلى استئثار بجزء من الأرض في مواجهة باقي الشعب . وهو تناقض مصطنع لأن وحدة الوجود القومي ( الأمة ) لا تعني فقط أن الوطن أرض خاصة بالشعب بل تعني أيضاً أنه أرض مشتركة . ولما كانت الأمة تكويناً تاريخياً فإن اشتراك الشعب بالوطن هي مشاركة تاريخية . تحول ـ أولاـ دون الشعب وان ” يتصرف ” في وطنه أو في جزء منه ، في أية مرحلة تاريخية معينة لأن الوطن شراكة ” تاريخية ” بين الاجيال المتعاقبة . وتحول ـ  ثانياً ـ دون أي جزء من الشعب وأن ” يتصرف ” في الاقليم الذي يعيش عليه أو في جزء منه بالتنازل عنه للغير او تمكين الغير من الاستيلاء عليه ( علاقة خارجية ) وتحول ـ ثانياً ـ دون أي جزء من الشعب وان يستأثر بالاقامة على أي اقليم عن بقية الشعب ( علاقة داخلية ) . ومن هنا فإن القومية لا تعني حرمان أي بلد من الاقامة حيث يقيم من الوطن العربي ولكن تعني تماماً أن كل عربي ان يبقى ويقيم ، أو ينتقل فيقيم ، في أي مكان من الوطن العربي ، بدون قيود أو سدود . هذا حقه القومي . ولما كانت ” الاقليمية ” تعني استئثار كل جزء من الشعب العربي بالوطن الاقليمي فإنها تسلب الناس في كل اقليم على حدة حقهم القومي في أن يغادروه ، وتمنع الناس خارج كل اقليم من حقهم القومي في أن يقيموا فيه . وهكذا تهدر الاقليمية حق الشعب العربي في وطنه داخل كل اقليم وخارجه معاً .

وعرفنا أن وحدة الوجود القومي تحتم وحدة المصير القومي بحكم العلاقة الموضوعية بين كل المشكلات التي يطرحها الواقع القومي ، وتحول دون ان تجد حلها الصحيح المتكافيء مع الامكانيات القومية إلا في إطار قومي ، بقوى قومية ، وامكانيات قومية ، فالقومية هنا لا تعني ان هناك مشكلات قومية ومشكلات غير قومية ، بل تعني ان كل المشكلات هي مشكلات قومية ولو كانت متغايرة المضامين في الاقاليم كأثر من آثار البيئة ، أو كأثر من آثار التجزئة ذاتها . فهي لا تنفي وحدة مصير أي اقليم ، ولكنها تنفي استقلاله بمصيره عن مصير أمته . ولما كان الحل الصحيح المحدد موضوعياً لكل المشكلات هو الحل ” القومي التقدمي ” فإن الاقليمية تحد من مقدرة أي اقليم على ان يحقق منفرداً الحل التقدمي الصحيح لمشكلاته . فتعوق تقدمه . وتجزيء الامكانيات القومية فتضعف مقدرتها المتكاملة فلا يصل أي اقليم الى الحل التقدمي الصحيح فتعوق تقدم الاقاليم جميعاً . قد يحاول الاقليميون أن يحلوا مشكلاتهم بامكانياتهم الاقليمية القاصرة ثم يقنعون . ولكنهم لن يلبثوا أن يتبينوا ـ من الممارسة ـ وفي المدى القصير أو الطويل ، أن الحل الصحيح المتكافيء مع امكانيات امتهم العربية قد أخطأهم عندما اختاروا الاقليمية . ان هذا يعني ان الاقليمية ليست عاجزة تماماً عن أن تحقق قدراً محدوداً من التقدم بما تملك من قوة وامكانيات . ولكنه يعني تماماً أن ما تحققه أقل بكثير مما كان يتحقق للشعب العربي فيها من تقدم في ظل الوحدة .

ومن ناحية اخرى ، فما دام الحل التقدمي الصحيح محدداً موضوعياً بوحدة المصير القومي ، فإن الافلات منه مستحيل . إن الطبيعة القومية للمشكلات في أي اقليم تحول دون ان تحل تلك المشكلات نهائياً في معزل عن باقي المشكلات القومية في الاقاليم الاخرى … قد يحاول الاقليميون أن يحلوا مشكلاتهم بمعزل عن الاطار القومي ، ولكنهم لن يلبثوا أن يتبينوا ـ من الممارسة ـ وفي المدى القصير أو الطويل ، أن المشكلات القومية تفرض عليهم المشاركة في حلها ، والخروج من العزلة ، من اجل حل المشكلات في أي اقليم . ان هذا لا يعني ان الاقليمية العربية ليست قادرة تماماً على الاستقلال مؤقتاً عن بعضها البعض ، ولكن يعني تماماً انها فاشلة حتماً في الافلات بمصيرها القومي .

لهذا قلنا دائماً ونقول ، ان القومية تقدمية والاقليمية رجعية . ان الوحدة مقدرة على التقدم والتعدد يساوي الفشل . نحن نعرف هذا معرفة علمية . عرفناه منذ ان عرفنا ان المجتمعات تتطور عن طريق النمو والاضافة خلال حل المشكلات التي تواجهها . وان التطور جدلي صاعد ابداً ولا يعود الى الوراء . وان مجرد الوجود القومي دليل لا ينقض على ان التاريخ قد استنفذ كل مقدرة الاقليم على التقدم منفردة وما دمنا نستند الى المعرفة العلمية فلسنا في حاجة الى تتبع ادعاءات الاقليميين بما ينجزونه من تقدم في ظل الاقليمية .

31 ـ المؤسسات الاقليمية :

قلنا أن الاقليمية رابطة تضم كل الاقليميين وتضعهم جميعاً في مواجهة الشعب العربي في موقف مضاد لوحدته اليومية ، ويجسد الاقليميون موقفهم هذا في مجالات واشكال عديدة من اول كتابة التاريخ العربي مجزأ كما لو كان كل اقليم ذا تاريخ خاص الى آخر محاولات الصعود باللهجات المحلية الى مستوى اللغة العربية . وفيما بين هذا وذاك يجسدون الاقليمية فكراً ، وأدباً ، وفناً ، وسلوكاً ، ثم في نظم ومنظمات سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى رياضية .

ولسنا نريد أن نحصي كل ما يعبر به الاقليميون عن موقفهم المضاد للوحدة القومية ، ولا كل اشكال التجسيد الاقليمي ، ولكنا نختار شكلين من المؤسسات الاقليمية هما الدولة ، والحزب . وقد اخترناهما لأن كلاً منهما مؤسسة جماهيرية تضم قطاعاً من الشعب العربي فهي مجتمع محدود منظم كوحدة متميزة عن الأفراد الذين ينتمون اليه ، تستهدف غايات محددة تحت قيادة واحدة وتضبط حركة الافراد فيه نظم داخلية تلزمهم بقرارات القيادة وتردع المتمردين عليه . وعلى هذا تكون الدول والاحزاب في الوطن العربي ” مجتمعات ”  داخل المجتمع العربي تقع دراستها في نطاق البحث عن العلاقة بين الوجود القومي والوحدات الاجتماعية داخله . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن كلاً من الدولة والحزب مؤسسة نشيطة وكثيراً ما يتجاوز نشاطها حدود الاقليم الذي تجسده فيثير هذا قدراً كبيراً من الغموض يحيط بطبيعتها الاقليمية خاصة اذا كان نشاطها ” الخارجي ” متصلاً بالقضايا القومية أو يدور تحت شعاراتها .

أما عن الدولة الاقليمية فهي التجسيد السياسي الكامل للتجزئة . فالدولة الاقليمية تقوم في جزء من الأمة العربية وتفصله عنها وتجسد استقلاله وتحميه . وفي ذات الوقت تعترف بالدول الاقليمية الأخرى وتقبل استقلالها وتحترمه . وتتعامل الدول الاقليمية فيما بينها تعاملاً قائماً على أساس القبول المشترك للتجزئة . والمثال الحي لهذا التعامل هو مؤسسة ” جامعة الدول العربية ” حيث يلتقي ممثلوا الدول الاقليمية لمحاولة حل المشكلات المشتركة بين دولهم حلاً يوفق بين المصالح الاقليمية في اطار الالتزام باحترام استقلال الدول الأعضاء وعدم التدخل في شؤونها الداخلية . أي في ظل الالتزام باحترام تجزئة الأمة العربية . ثم إن الدولة الاقليمية من أشخاص القانون الدولي العام فهي ملتزمة بأحكامه في حركتها الخارجية وتعاملها مع الدول الأخرى . وهي من اشخاص القانون الداخلي فهي ملتزمة بأحكامه في حركتها الداخلية وتعاملها مع رعاياها . في حدود الالتزامات الدولية تعجز عن تمثيل الأمة العربية ولا يمكنها أن تمثل إلا الجزء الذي تقوم فيه . وفي حدود الالتزامات الداخلية تعجز عن حماية او تطوير المصالح القومية ولا يمكنها إلا أن تحمي وتطور مصالحها الاقليمية . وقد تكون الدولة الاقليمية متحررة من السيطرة الاجنبية ، وقد تحاول أن تكون دولة اشتراكية . وتحقق في هذا وذاك ما تحقق وما يكفي عادة لادعاء التحررية والتقدمية ، ولكنها محدودة المقدرة بامكانياتها الاقليمية فهي تحول دون الشعب العربي فيها وامكانيات امته خارجها فتحبسه في اقليم ، وتحول دون الشعب العربي خارجها وامكانياته الخاصة فتغتصب منه اقليماً . وفي الحالتين تضعف مقدرة الشعب العربي داخلها ، وخارجها ، على التقدم المتكافيء مع الامكانيات القومية ، فهي معوقة وفاشلة ولو حاولت أن تكون تقدمية .

وهكذا يكون التقييم القومي للدولة الاقليمية أنها مؤسسة : رجعية وفاشلة . وهذا يصح بالنسبة الى جميع الدول الاقليمية بدون استثناء .

ومع هذا ينبغي أن نفطن الى اننا عندما نتحدث عن الدولة الاقليمية نتحدث عن مؤسسة سياسية ذات مضامين فكرية واقتصادية وثقافية خاصة . وهي ذاتها شخص اعتباري ( معنوي ) متميز عن الاشخاص الطبيعيين الذين يعملون في اجهزته . وكل الدول الاقليمية على هذا الوجه مؤسسات رجعية وفاشلة . ولكن هذا لا يعني انها تستوي في الرجعية والفشل . إن مقارنة الدول الاقليمية فيما بينها شيء آخر . إنها تختلف مساحة وعدداً وثروات ونظماً وحكاماً وقادة . وفي هذا لا تستوي دولة مع أخرى . ولا يعنينا هنا أن نصوغ جدولاً مقارناً للدول الاقليمية ، إنما الذي يعنينا أن نعرف هل يمكن ان تكون الاقليمية مؤسسة قومية ام لا .

عندما تكون الاقليمية في قبضة قوى اقليمية ، تبدو الاقليمية منسجمة مع ذاتها ودولتها . وتنكشف طبيعة الرجعية الفاشلة . فالدولة الاقليمية يحكمها الاقليميون . تنكر وحدة الوجود القومي جهاراً ، وترفض وحدة الوطن العربي علناً ، وتتحالف بدون خفاء مع الاستعمار ، وتدافع عن موقفها بفكر تنسجم اقليميته مع رجعيته . غير أن الأمر ليس على هذا الوجه في كل الدول الاقليمية . بل الغالب فيها أن تعترف بالوجود القومي ، وان ترفع شعارات الوحدة . ومنها دول تساهم ايجابياً في القضايا القومية ، وتسخر قواها لمعركة التحرر العربي ، وتقف موقفاً معادياً من الاستعمار والصهيونية ، وتدعو الى الوحدة ، وتنجز قدر طاقتها على الطريق الى الاشتراكية . باختصار هناك دول تتصرف كما لو كانت قد ألغت طبيعتها الاقليمية وانقلبت الى دول قومية . وهي بهذا تثير أكبر قدر من البلبلة الفكرية ، وتشكك في صحة النظرية القومية ، وتقدم نفسها الى الجماهير بديلاً عن دولة الوحدة ، فتلهيهم عن معرفة الطريق الصحيح الى دولتهم القومية .

ان هناك من يتهمون الدول الاقليمية فيما تفعل أو فيما تعلن باسم القومية ، أو تحت شعاراتها ، ويقدمون لهذا أدلة من واقع واحدة أو أكثر من الدول الاقليمية على خيانة الحاكمين أو تآمرهم أو انتهازيتهم . ونحن هنا لا نحاكم الاشخاص ولكن نقيم مؤسسة . ونأخذ الدول الاقليمية على ما تقتضي طبيعتها حتى لو صدق الحاكمون فيها فيما يعلنون . ونذهب في هذا الى الحد الذي يقطع السبيل على أي احتجاج فتأخذ الدولة الاقليمية تحت قيادة القوميين التقدميين لنرى ما إذا كانت قد فقدت بهذا طبيعتها كمؤسسة رجعية وفاشلة .

وكمقدمة لهذا نحب أن نفرق بين ما نسميه السياسة العربية والسياسة القومية . وهي تفرقة دقيقة ولكنها لازمة . فقد عرفنا من قبل أن ” الأمة العربية وجود موضوعي ” وأن وحدة المصير القومي تعني أن ثمة علاقة موضوعية بين كل المشكلات التي يطرحها الواقع القومي وإنها بذلك لا تحل الحل السليم المتكافيء مع المقدرة القومية إلا في إطار المصير القومي الواحد . وقلنا أن هذا كله لا يتوقف على معرفة الناس به ، فسواء عرفوه أم لم يعرفوه ، هو قائم في الواقع الموضوعي . وذلك هو جوهر النظرية القومية التي نهتدي بها في كل ما نقول وما نقيّم . مؤدى هذا أن الأمة العربية كوجود موضوعي تفرض ذاتها على الاقليميين في الوطن العربي ، أرادوا هذا أم لم يريدوه . فإذا بكل دولة اقليمية تجد نفسها ، بعد محاولات الهرب من المشكلات القومية ، وتجاهل الوحدة الموضوعية بين تلك المشكلات ، وانكار السمة القومية حتى لمشكلاتها الخاصة ، تجد نفسها مضطرة إلى أن تشارك في معارك المصير العربي . أي يجرها ويجبرها الفشل في محاولة الافلات بمصيرها الخاص على دخول المعارك الدائرة حول المصير القومي الواحد . من هنا نجد أن لكل دولة اقليمية في الوطن العربي ” سياسة عربية ” . أي مجموعة من الاهداف والمخططات والقوى تشارك بها في الصراع القائم حول القضايا القومية . ومع أن لكل دولة معاصرة ” سياسة خارجية ” تشكل واحداً من أهم مجالات نشاطها ، إلا أن ” السياسة العربية ” للدول الاقليمية تختلف عن سياستها الخارجية في الوطن العربي ، من حيث الاهداف والمخططات والقوى . ” فالسياسة الخارجية ” للدول الاقليمية في الوطن العربي هي ذلك النشاط الذي تقوم به كل دولة في علاقاتها بالدول الأخرى من أول التمثيل السياسي والتبادل التجاري إلى آخر التهاني المتبادلة في المناسبات ” الوطنية ” ، وتتولاه عادة وزارة الخارجية . أما ” السياسة العربية ” فهي ذلك النشاط الذي تقوم به كل دولة في الوطن العربي مشاركة في القضايا التي تطرحها الأمة العربية ككل . وهي تدخل فيه بكل اجهزتها الدعائية أو السياسية أو العسكرية تبعاً لنوع الصراع وعلاقته المباشرة بكل دولةاقليمية على حدة . ويتميز بأنه نشاط مفروض على الدول الاقليمية تقوم به مكرهة لأنها غير قادرة على الوقوف من القضايا القومية موقفاً سلبياً بحكم الوحدة الموضوعية للمشكلات القومية . ونعرف هذا من انها لا تعد له من قبل . ولا تشارك فيه مبادرة ، بل تجد نفسها مشاركة فيه بعد أن تكون ” قوى أخرى ” قد فجرت الصراع ، فهي تقف منه دائماً موقفاً دفاعياً . ومع أن كل الدول الاقليمية ترفع على ” سياستها العربية ” شعارات قومية وتتخذ منها ذريعة للادعاء بأنها دول قومية إلا أن الطبيعة الاقليمية لتلك السياسة لا تلبث أن تفضح هذا الادعاء . مثال هذا ذاك الشعار المتفق عليه بين الدول الاقليمية تعبيراً عن موقفها ” القومي ” من قضية تحرير فلسطين والذي يقول : ” ان مسؤولية تحرير فلسطين تقع على عاتق شعب فلسطين ” . انه يعبر تعبيراً واضحاً عن الاقليمية المكرهة على المشاركة في معركة تحرير فلسطين الباحثة عن طريق للخروج منها في الوقت ذاته اذ عندما تستقر المسئولية على عاتق شعب فلسطين تكون الدول الاقليمية قد القت عن عاتقها مسئولية التحرير . على أي حال فاننا نستطيع ان نتعرف بسهولة على عنصر ” الاضطرار ” في السياسة العربية لكل دولة اقليمية من خلال معرفة الاهداف والمخططات والقوى التي تشارك بها في الصراع القائم حول القضايا القومية . فسنجد انها دائماً أهداف دفاعية تحاول بها الدولة الاقليمية حماية الوجود الاقليمية من مخاطر النضال القومي . وانها مخططات قائمة على تجنيب الدولة الاقليمية أكبر قدر من اعباء الصراع ومسئولياته ولو بتوزيعها على باقي الدول الاقليمية . وانها قوى تابعة للدولة الاقليمية حتى لو كانت من غير رعاياها . ومن هنا يكون الخط الاساسي ” للسياسة العربية ” معالجة القضايا القومية على وجه يسمح للدولة الاقليمية بأن تتراجع الى المواقف التي تتفق مع طبيعتها .

اذن فليس كل نشاط عربي نشاطاً قومياً . وليست كل سياسة عربية سياسة قومية . ولا تتحول الدولة الاقليمية الى مؤسسة قومية لمجرد انها تشارك في القضايا القومية دعائياً أو سياسياً أو حتى عسكرياً . وعندما نتسلح بالنظرية القومية في مواجهة هذه المشاركة وتقييمها ، لا نخدع فيها فلا نتوقع منها أكثر مما يتفق مع طبيعة الدول الاقليمية . ولا نتكل عليها فنتوقع من الدول الاقليمية ـ في أي وقت ـ أن تنكص وتتراجع . ويصح هذا بالنسبة الى كل الدول الاقليمية بدون استثناء .

ثم نأتي إلى نموذج الدولة الاقليمية تحت حكم القوميين .

ان التناقض الواضح في تركيب هذه المؤسسة يجسد التناقض الأصيل بين القومية والاقليمية . فمع أن وحدة الوجود القومي تعني وحدة الشعب والوطن إلا أن التجزئة تغطي كل الوطن العربي وتقسم كل الشعب العربي ، فهما أجزاء مقسمة بدون فائض بين الدول الاقليمية والغزاة والمستعمرين . ليس في الوطن العربي أرض للقوميين . ولا يملك الشعب العربي دولة على أرضه . ومن هنا فإن القوميين التقدميين ، ومعهم جماهير الشعب العربي ، يمارسون نشاطهم في ظل التجزئة وفي قلب الدولة الاقليمية ذاتها . وليس القوميون التقدميون خاملين أو ضعفاء ، بل أنهم أكثر قوة من غيرهم لأنهم يمثلون الحقيقة الموضوعية للأمة العربية . ويهتدون في كل مشكلة الى الحل الصحيح ، الذي لن يلبث أن يفرض ذاته بعد أن تستنفذ الاقليمية محاولاتها الفاشلة . ومن هنا فإنهم قادرون على ان يكسبوا ثقة الجماهير في الدول الاقليمية ، وان يصبحوا فيها من قادتها وقد حدث ويحدث ، أن يصل بعضهم الى مراكز القيادة في الدولة الاقليمية . وحدث ويحدث أن وعى القادة الاقليميون أنفسهم من الممارسة الفاشلة للحكم في الدولة الاقليمية على حقيقة الوجود القومي وصحة النظرية القومية ، فأصبحوا ـ وهم في مراكز السلطة ـ قوميين . وفي الحالتين تكون امام مؤسسة اقليمية تحت قيادة قومية . هنا يثور الصراع الذي لم يرد في كتب الفقه الدستوري أو فقه كتب الصراع الطبقي . قيادة قومية لا تؤمن بالدولة الاقليمية تصبح هي نفسها صاحبة السلطة في الدولة الاقليمية . قيادة لا تؤمن بشرعية التجزئة ومع هذا تحتكم الى الشرعية الاقليمية في تعاملها الدولي . قيادة تؤمن بوحدة الشعب العربي ومع هذا تعامل أبناء هذا الشعب معاملة الاغراب الوافدين . قيادة تؤمن بوحدة الوطن العربي ومع هذا تستقل بجزء منه وتقبل استقلال الآخرين . قيادة تؤمن بان التقدم لا يقوم على أساس التجزئة ومع هذا تحاول حل المعادلة الصعبة في الاقليم وهي تعلم إنها لا تحل إلا في ظل الوحدة . والصراع دائم بين القومية والاقليمية في رأس الدولة . وقد سحق هذا الصراع المرير بعض الحكام الذين ركبوا موجة المد القومي ثم وقعوا في شرك الحكم الاقليمي . فإذا بهم من خلال تراكم وتبرير تصرفاتهم اليومية من أول تفتيش الحدود الى آخر وعود التقدم الاشتراكي ، يجدون أنفسهم وقد أصبحوا اقليميين . وتلك هزيمة يعرفونها من أنفسهم ويجترون مرارتها ، ثم يحاول بعضهم ـ أقلهم أمانة أو أكثرهم شعوراً بالذنب ـ أن يعوض هزيمته أما بالمزايدات التقدمية أو بالمزايدات القومية . يطلبون المتعذر حتى يبرروا قبول المواقع . ويحاولون عن طريق الضجيج بالقومية . إخفاء سوآتهم الاقليمية . ومنهم من صمد للصراع ولم يهزم . هنا قد تستطيع القيادة ان تدفع بالدولة الى المعارك القومية برغم الاقليمية فيوافق الاقليميون علناً ، وينتقدون سراً ، ويبحثون خفية عن مخرج غير متهم من متاعب النضال القومي . ان كانت معارك من أجل الوحدة اصطنعوا الحكمة واستأجلوا الأمر حتى تأتي وحدة مدروسة . هم دارسوها . وإن تمت افرغوها من مضمونها القومي وحولوها الى دولة اقليمية ثم تركوها للانفصال والانفصاليين وإن كانت معارك تحررية كان أفضل مخرج غير متهم هو ” العجز ” عن مواجهة تفوق القوى المعادية . فبينما تكون القيادة القومية مشغولة بالتعبئة السياسية للمعارك ، داعية الى القتال من أجل تصفية الاستعمار وتحرير الوطن العربي . يكون الاقليميون في أجهزة الدولة الاقليمية عاكفين على قتل الكلمات الملتهبة وتحويلها الى الفاظ ميتة . ويحولون بكل طريقة دون ان يعدوا اعداداً فعلياً للمعارك التي بدأت نظرياً . ولهم في هذا حيل واعذار لا حصر لها . ثم ان لهم العذر الاصيل : أمن الدولة ، اقتصاد الدولة ، مالية الدولة ، علاقة الدولة بالدول ، كرامة الدولة ، أكل الدولة ، شرب الدولة … الخ . فيكتشف القادة كم هي عاجزة وفاشلة تلك الدولة . فإن اصروا على الصمود ، وتطلعت الجماهير الى محاسبة الاقليميين على عجز دولتهم أنكر الاقليميون عجزهم وأضافوا الفشل الى تفوق القوى المعادية . لا تفوقها مرحلياً . ولكن تفوقها ” حضارياً ” على وجه يقتضي أجيالاً لادراكه ، وتفوقها ” علمياً ” على وجه لا تمكن مباراته ، وتفوقها ” أمريكياً ” على وجه تستحيل مناطحته . وهكذا تخرج الاقليمية بريئة لأن العدو هو المتهم . وهكذا يكتشف القادة أن الدولة الاقليمية ليست عاجزة فحسب بل ميئوساً منها أيضاً ، فيتراجعون .

ان هذا يعني أن ما يتحقق في اتجاه قومي عن طريق الدولة الاقليمية تحت قيادة القوميين يعبر عن مرحلة انتصار مؤقتة للقومية ضد الاقليمية في قلب الدولة . ولكن انحسار هذا الاتجاه من حين الى آخر يدل على أن الصراع لم يحسم بعد ـ وهو لا يحسم في النهاية إلا لمصلحة الاقليمية لأن قابلية الدولة الاقليمية للاستجابة لمتطلبات النضال القومي محدودة بطبيعتها الاقليمية … لا محل اذن للتساؤل عما إذا كانت الدولة الاقليمية تحت قيادة القوميين قادرة على أن تتحول الى مؤسسة قومية . ان صحت النظرية القومية ـ وهي صحيحة ـ فإن هذا التحول مستحيل . ولكن ثمة محلاً للتساؤل : الى متى يستطيع القوميون أن يحتفظوا بقوميتهم وبحكم الدولة الاقليمية معاً ؟ .. إن هذا يتوقف على صلابة كل منهم على حدة . ولكن النهاية لا شك فيها ، فعاجلاً أو آجلاً ، أرادوا أم لم يريدوا ، اما أن تلفظهم الدولة الاقليمية واما ان تهضمهم الاقليمية ودولتها . ومن هنا يتحدد المخرج الوحيد من المأزق : تحطيم الدولة الاقليمية وغقامة الدولة القومية . دولة الوحدة النواة .

اما ما الذي يستطيع أن يفعله القوميون للاسهام في تصفية الاقليمية وهم في مواقع القيادة من دولتها ، فذلك ما سنعرفه عند حديثنا عن الاسلوب .

بقيت المؤسسة الاقليمية الأخرى : الحزب .

والحزب مؤسسة جماهيرية داخل المجتمع العربي ، ولكن بدون دولة ، وإن كان هدفه الثابت دائماً هو الاستيلاء على السلطة في الدولة لتحقيق ما يمثله من مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية .

عندما تكون هذه المؤسسة اقليمية : اقليمية الغاية ، اقليمية التركيب ، اقليمية المضامين ، اقليمية القوى ، اقليمية القيادة ، تكون منسجمة مع ذاتها ولا يثير تقييمها قومياً أية صعوبة فهي نموذج مثالي للفشل . لأن أقصى نجاح لأي حزب اقليمي هو أن يستولي على السلطة في دولته الاقليمية التي هي ذاتها مؤسسة فاشلة . فإن فشل في الاستيلاء على السلطة فهو اكثر فشلاً من الحاكمين أصحاب الدولة الاقليمية . ومن هنا فإن المؤسسات الحزبية الاقليمية لا تحتاج الى تقييم خاص . إذ لو أخذنا بأقصى ما تطمح إليه لكانت دولاً اقليمية ينطبق عليها كل ما قلناه عن الدولة الاقليمية كمؤسسة رجعية و فاشلة .

ولكن هذه المؤسسة ، أو المؤسسات الاقليمية ، تصبح مضللة الى أقصى درجة عندما تدعي القومية ، أو تقدم نفسها الى الجماهير العربية على إنها مؤسسة ، أو مؤسسات قومية . ان مقدرتها التخريبية هنا تفوق حتى مقدرة الدولة الاقليمية . لأنها ، على خلاف الدولة الاقليمية ، غير مقيدة بأرض أو حدود او نظم أو قوانين دولية او داخلية . فهي قادرة على أن تنتحل ما تشاء من سمات أو أن تغير سماتها من حين الى آخر تبعاً للظروف . ولأن الدولة الاقليمية ـ على أي حال ـ ذات طبيعة مضادة للقومية لا تخفى على الكثيرين ولا تخطيء ، الجماهير العربية معرفتها ولو من الممارسة اليومية . أما المؤسسة الحزبية الاقليمية التي تزعم إنها مؤسسة قومية فإنها قادرة على خداع الجماهير بما ترفعه من شعارات وما تنشره من كتابات وما تروجه من أفكار ، وما تدعيه من مواقف ، مستغلة في كل هذا إنها ليست دولة اقليمية . ويصبح من المهم ـ بالغ الأهمية ـ إكتشاف حقيقتها كمؤسسة ، أما مصدر الأهمية فسنعرفه عندما نصل في هذا الحديث الى تحديد ” اسلوب ” تغيير الواقع العربي . يكفي هنا أن نشير الى مصدر مقدرة تلك المؤسسات على التضليل .

فلنسترجع تلك الحقائق التي نعرفها ولا ننتبه كثيراً الى دلالتها : الشعب العربي ، الجماهير العربية ، هي ذاتها شعوب وجماهير الاقاليم . الوطن العربي ، الوطن القومي ، هو ذاته المجزأ بين الدول الاقليمية . الامكانيات القومية هي ذاتها المقسمة الى امكانيات اقليمية . كل معركة تحرر في اقليم هي جزء من معركة التحرر القومي . كل خطوة تقدمية في اقليم هي خطوء الى التقدم العربي . كل منا قومي الانتماء اقليمي الهوية . في هذا الواقع لا يوجد شعب قومي مفرز كما لا توجد أرض قومية خالص . ولا يوجد شخص قومي متحرر تماماً من هويته الاقليمية بما تتضمنه تلك الهوية من قيود وحدود لا تتفق مع انتمائه القومي . في هذا الواقع العربي تختلط القومية بالاقليمية اختلاطاً يفرض على الاقليميين أن يخوضوا معارك قومية ويسمح للمؤسسات الاقليمية بأن تمد نشاطها الى خارج اقليمها ويسمح للفكر الاقليمي بأن يندس في الفكر القومي أو أن يرفع شعاراته .

فكيف يمكن ، مع هذا الاختلاط ، أن نعرف ما إذا كانت مؤسسة جماهيرية ما ( حزب ) مؤسسة قومية أم لا ؟

لنستبعد أولاً المقاييس الذاتية . ان رفض أو قبول مؤسسة حزبية كتنظيم قومي على أساس الخبرة الذاتية بأحد ، أو بعض ، العاملين في اجهزتها أو المنتمين اليها موقف غير موضوعي وغير علمي . لا يكشف من طبيعة المؤسسة بقدر ما يكشف من طبيعة صاحبه . فكما أن وجود القوميين التقدميين في جهاز الدولة الاقليمية أو حتى في قيادتها لا يغير من طبيعتها شيئاً ، كذلك لا يغير شيئاً من طبيعة المؤسسة الحزبية القومية أن يوجد في اجهزتها أو حتى في قيادتها بعض الاقليميين . نحن نقيّم ” مؤسسة ” ولا نحاكم الافراد فيها . والمؤسسة الحزبية ، اقليمية كانت أو قومية ، ستلفظ أو تهضم في النهاية الذين أخطأوا الاختيار فانتموا الى غير مؤسستهم .

ولنستبعد ثانياً المقاييس الدعائية . ان مجرد صياغة وثائق أو مواثيق مليئة بالحديث عن القومية وعن الوحدة ، واعلانها ، أو حتى الالتقاء عليها والالتزام بها لا يعني أن الذين كتبوها واعلنوها أو التقوا عليها والتزموا بها ، قد أصبحوا بهذا وحده مؤسسة حزبية قومية . انهم ـ على أحسن الفروض ـ جماعة من القوميين التقدميين يريدون أن يتحولوا الى حزب قومي . فهم ” مشروع ” مؤسسة حزبية قومية لن يصبحوا تلك المؤسسة إلا عندما يستكملون خصائص التنظيم القومي.

هذا مع التسليم بأن الالتزام العقائدي بتحقيق دولة الوحدة هو أول خصائص التنظيم القومي ، فبه يجسد التنظيم مصير أمته .

ولنستبعد ثالثاً المقاييس الحركية . ان مجرد مد التنظيم الى خارج حدود الاقليم لا يعني أن التنظيم قد أصبح بهذا وحده مؤسسة حزبية قومية . فقد عرفنا أن الوجود القومي يفرض على الاقليميين المشاركة في القضايا القومية خارج حدودهم الاقليمية بقوة منظمة ومسخرة لخدمة ” سياستهم العربية ” . وليس من المستبعد أن تأخذ تلك القوة التابعة للاقليميين شكل التنظيم الجماهيري وان تمتد إلى أكثر من اقليم في الوطن العربي وتدعي بهذا انها قوة قومية . بل ان هذا غطاء جيد للنشاط الاقليمي في ظل الالتزام المتبادل باحترام استقلال الدول الاقليمية . إذن فبمجرد الامتداد التنظيمي خارج الاقليم لا يكفي ليكون المنظمون مؤسسة حزبية قومية . انهم ـ على أحسن الفروض ـ جماعة من القوميين التقدميين يريدون ان يتحولوا إلى حزب قومي من خلال استقطاب الجماهير العربية خارج الحدود الاقليمية فهم ” مشروع ” مؤسسة حزبية قومية لن يصبحوا تلك المؤسسة إلا عندما يستكملون خصائص التنظيم القومي .

هذا مع التسليم بأن رفض تجزئة الشعب العربي وقبول الانتماء من أي مكان في الوطن العربي من أهم خصائص التنظيم القومي . فيه يجسد التنظيم وحدة الشعب العربي . بدون حاجة إلى ان يكون قد امتد فعلاً فشمل كل الاقاليم .

اذن ، فتجسيد المصير القومي في التزام عقائدي بتحقيق دولة الوحدة لازم لتكون المؤسسة الحزبية تنظيماً قومياً ، ولكنه لا يكفي للتمييز بينها وبين المؤسسة الحزبية الاقليمية التي قد تدعيه وتجسيد وحدة الشعب العربي في التنظيم على مستوى الوطن العربي كله لازم لتكون المؤسسة الحزبية تنظيماً قومياً ، ولكن لا يكفي للتمييز بينها وبين المؤسسة الحزبية الاقليمية التي قد تحاوله 

ماذا بقي ؟

بقي تجسيد الوجود القومي ذاته ، تجسيد الأمة العربية في الحقيقة الداخلية للحزب ذاته . فإن كان الحزب هو الأمة العربية ” مبلورة ” فهو حزب قومي وان لم تمتد قواعده الى اكثر من اقليم. وان كان الحزب هو الدولة الاقليمية ” مصغرة ” فهو حزب اقليمي وان امتدت قواعده الى كل الاقاليم . ونعرف هذا عادة من تركيبه الداخلي . فحيث تمتد الفروع ، وتشكل القيادات ، متبعة في هذا التمثيل الاقليمي على طريقة ” جامعة الدول العربية ” تقوم شبهة قوية على اننا في مواجهة جماعات اقليمية ملتقية في مؤسسة مشتركة ذات شكل قومي . نقول شبهة قوية ، ولا نجزم بالاقليمية ، لأنه من الممكن ان يحتج بأن ذلك مبرر بضرورات ” عملية ” وان الشكل هو الاقليمي اما المضمون فما يزال قومياً . وهو احتجاج ان صح كان مقبولاً ، لأن العبرة ليست بالشكل ولكن بالمضمون . ونكون في حاجة ـ حتى نجزم ـ الى معرفة العلاقات التي تحكم هذا التركيب الداخلي . علاقة الحزب ( الأمة العربية مبلورة ) ممثلاً في قيادته القومية بأحد فروعه ( الاقليمية مصغرة ) ممثلاً في قيادته الفرعية . فإن كان الحزب هو القائد فذاك الحزب القومي ينشط في الاقاليم من خلال فروعه وان كان الفرع هو القائد فذاك الحزب الاقليمي ينشط خارج الاقليم تحت غطاء قومي .

هذا هو المقياس الموضوعي الذي تسلحنا به النظرية القومية ويصح به كشف الحقيقة القومية أو الاقليمية لأية مؤسسة حزبية ذات قواعد تمثلها قيادات وتحكمها علاقات تنظيمية . ولكنه لا يصح تكون أمام تجمع جماهيري لا تمثل قيادته قواعده ، ولا تحكمه علاقات تنظيمية تكون بها القيادة قائدة فعلاً ، وتكون بها القواعد ملتزمة فعلاً ، ويحتكم الناس اليها . ويملكون بها المقدرة على ردع المتمردين عليها . لا يصح لسبب بسيط ، اننا في هذه الحالة لا نكون أمام مؤسسة حزبية . لا قومية ولا اقليمية .

ولأنه مقياس موضوعي لحقيقة المؤسسة الحزبية فإنه غير قابل للتأثر بالمواقف الفردية فلا ينال من صحته أن تتهم القيادات بالضعف أو تتهم الفروع بالانحراف ، فستبقى المؤسسة الحزبية ذاتها مسؤولة عن قياداتها الضعيفة أو فروعها المنحرفة . كما لا ينال من صحته اتهام ” قوى ” خارجية بتخريب الحزب داخلياً ، فستبقى المؤسسة الحزبية ذاتها مسؤولة عن قابليتها للتخريب التي مكنت منها المخربين . واخيراً لا ينال من صحته اتهام الظروف التاريخية لنشأة المؤسسة الحزبية التي ادت إلى أن تكون فروعها أو أحد فروعها أقوى من قيادتها ، فستبقى المؤسسة الحزبية حاملة في ذاتها خطأ تاريخياً . والذي يحدث عادة ان ينشق الحزب عن فرعه أو ينشق الفرع عن حزبه . لا يهم . المهم اننا نكون أمام حزبين ولو أدعى كل منهما انه الحزب الأصيل. ويمكن عندئذ إعادة تقيييم كل منهما على حدة ، لنعرف ايهما المؤسسة القومية . ومع ان الانشقاقات أمور عادية في المؤسسات الحزبية ، وهي دليل على مقدرة الحزب على أن يلفظ الذين أخطأوا الاختيار عندما انتموا اليه ، إلا أنه يبقى ان نعرف من الذي لفظ . وذلك بتقييم كل لافظ وملفوظ على حدة . فإن كان انشقاقاً انفرطت به جماعة اقليمية اجتمعت يوماً ، أو دهراً ، في مؤسسة مشتركة ذات شكل قومي ، فإن البقايا مؤسسات اقليمية ولو عاد كل منهما فاصطنع لنفسه قيادة قومية . وإن كان انشقاقاً بين قوميين واقليميين ، فالاقليميون اقليميون ، أما القوميون فهم إما مؤسسة حزبية قومية ، أو هم مشروع جديد لمؤسسة حزبية قومية .

32 ـ الأمة والاقليات :

في هذه الفقرة من الحديث نتناول أهم العلاقات بين الوجود القومي والجماعات البشرية داخله ، وهي علاقة الأمة بالاقليات . وفي تحديد هذه العلاقة تمر النظريات التي قيلت في الأمة ، وفي القومية ، وفي الوحدة … الخ باختبار دقيق تتميز به النظريات الصحيحة من النظريات الخاطئة ، وتفرز به الافكار الاصيلة من الانتهازية الفكرية . ذلك اننا عندما نلتزم عقائدياً بنظرية قومية نكون ملزمين بأن نتخذ موقفاً ” قومياً ” موحداً من كل المشكلات التي تتصدى لها . وهذا يحول ـ من ناحية ـ دون أن نتنازل عن مواقفنا القومية مهما تكن الصعوبات المرحلية التي تواجهنا ويحول ـ من ناحية أخرى ـ دون ان ننكر على الآخرين مواقفهم القومية . أي يحول دون أن تكون لنا نظرية قومية نلتزمها في قضايا أمتنا ، ونظرية او نظريات اخرى في القومية نستغلها في تبرير مواقفنا غير العقائدية من الأمم والجماعات البشرية الأخرى 

وينطبق هذا ، أول ما ينطبق ، على ادق مشكلة تطرحها الاقليات ونعني بها مشكلة ” الاقليات القومية ” وإن لم تكن هذه المشكلة – كما سنرى – هي المشكلة الوحيدة . ومشكلة ” الاقليات القومية ” لم تحظ من الفكر العربي بالدراسة التي تتناسب مع خطورتها ، بالرغم من انها مطروحة في الوطن العربي كمشكلة خطيرة . ويكون من المهم أن نجتهد في الاحاطة بالضوابط الفكرية لها احاطة وافية ولو اقتضى هذا أن يطول الحديث فيها . وأول ما ينبغي ان نعرفه هو مضمون مشكلة ” الاقليات القومية ” . ما هي حقيقة المشكلة التي كثيراً ما تثير الصراع وما هو الموضوع الذي يدور عليه الصراع بصرف النظر عن ادعاءات اطرافه ؟

الأصل أن الوجود القومي يطرح مشكلة علاقة الأمة بالدولة . وفي هذا تختلف النظريات . فلا تثور مشكلة ” الاقليات القومية ” أصلاً في أية نظرية تنكر الوجود القومي ، أو لاترى أن ثمة علاقة بين الوجود القومي والوحدة السياسية . أما النظريات التي تتضمن ان هناك علاقة ايجابية بين الوجود القومي والوحدة السياسية تقتضي أن تكون لكل أمة دولتها القومية ، فإنها تثير وتواجه مشكلة ” الاقليات القومية ” مستويين : أولهما المستوى الخارجي أي حق الدولة القومية في أن تضم اليها ما يقع خارج حدودها من الأمة التي تجسدها . وثانيهما المستوى الداخلي أي حق ما تضمه الدولة القومية من امم أخرى في ان يستقل عنها ويلحق بدولته القومية . وإذا كان الحديث على المستوى الأول ( الخارجي ) يدور عادة حول ” الوحدة القومية ” بينما يدور الحديث على المستوى الثاني (الداخلي) عادة حول ” الاقليات القومية ” إلا أن جوهر المسألة واحد ، حق الاستقلال القومي . وكل هذا يفترض أن هناك أمماً تتنازع فيما بينها على وجود ، أو حدود ، الدولة القومية . وتحتج كل منها بقوميتها . لتكون لكل امة دولتها . وهكذا نعرف من المشكلة ما لا يجوز أبداً ان ننساه أو نتجاهله : إن مشكلة ” الاقليات القومية ” هي في جوهرها مشكلة تحرر قومي .

انها ـ اذن ـ ليست مشكلة ” انسانية ” تحلها المساواة بين البشر . وليست مشكلة حكم فتحلها الحكومة الديموقراطية . وليست مشكلة تخلف اجتماعي فيحلها التعليم والتنمية . وليست مشكلة استغلال اقتصادي فتحلها الاشتراكية . ولكنها مشكلة تحرر أو حرية . إن هذا لا يمنع أن يكون المحرك لها ، عامل ، أو عدة عوامل ، إنسانية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية . بالعكس . إنها لابد أن تثور ابتداء من واحد من تلك المضامين الحية لأن الحرية ذاتها ليست مفرغة من مضامينها الانسانية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية . ولكنها متى ثارت حول ما يسمى حينئذ ” الحقوق القومية ” تكون أمام مشكلة تحرر قومي لن تحلها التنازلات الجزئية أو المكاسب المرحلية ، بل تحلها فقط ، ونهائياً ، عندما تستقل كل أمة بدولتها القومية لا دون هذا ولا أبعد منه .

لهذا فإن الحل القومي التقدمي لمشكلة ” الاقليات القومية ” لا يحتمل التردد أو المماطلة : على كل دولة قومية أن تلتزم حدود الوطن القومي وان تتخلى عما تضمه من الأمم الأخرى . لأن ” الدولة لا تحدد المجتمع على هوى الذين أقاموها ليحكموا بها ولكن المجتمع هو الذي يحدد الدولة على ما تقتضيه حقيقة وجوده الموضوعي . وعندما تكون الدولة متفقة مع الوجود الموضوعي للمجتمع تصبح تجسيداً سياسياً صحيحاً لهذا الوجود . أما إذا لم تكن متفقة معه فإنها تكون قائمة على غير اساس سوى القهر ويجب أن تزول . ” هكذا قلنا من قبل ونحن نطبق النظرية القومية التي نهتدي بها في هذا الحديث وهكذا نقول هنا تطبيقاً لذات النظرية . وعلى كل صاحب ، أو أصحاب نظرية في الأمة ، وفي القومية ، وفي الوحدة … الخ أن يقبلوا ما تلزمهم به نظريتهم . فالنظريات التي تأخذ بوحدة الأصل في تكوين الأمة تكون ملزمة بأن تعتبر أية جماعة من البشر ذات أصل واحد متميز أمة متميزة وأن تعترف لها بحق الاستقلال بدولتها القومية . والنظريات التي تأخذ بوحدة الدين في تكوين الأمة تكون ملزمة بأن تعتبر أية جماعة من البشر ذات دين خاص متميز أمة متميزة وان تعترف لها بحق الاستقلال بدولتها القومية . وعندما تكون النظرية قائمة على وحدة اللغة كمميز للأمة تكون ملزمة بأن تعتبر أية جماعة من البشر لها لغة خاصة متميزة أمة متميزة وأن تعترف لها بحق الاستقلال بدولتها القومية . وأخيراً ، وليس آخراً ، إذا كانت الارادة المشتركة في الاستقلال بدولة مميزاً كافياً للوجود القومي فلا بد من الاعتراف لأية جماعة من البشر تريد الاستقلال بدولة بأنها أمة متميزة لها حق الاستقلال بدولتها القومية … وهكذا .

المهم أن نقف من الواقع موقفاً عقائدياً ثابتاً ، ولا نصطنع العقائد لمواقفنا المتغيرة . حتى لو كنا نأخذ بنظرية لا تعرف للأمة مميزاً أساسياً تهتدي به ، وتجمع بين مميزات عدة ، فما علينا إلا ان نحدد تلك المميزات ثم نقيس واقع الجماعات البشرية عليها ، ونعترف لمن تجتمع لهم بانهم أمة ومن حقهم أن يستقلوا بدولتهم القومية . ذلك لأن الاستقلال في دولة قومية هو الموضوع الذي يدور عليه الصراع في مشكلة ” الاقليات القومية ”، بصرف النظر عن ادعاءات اطرافه . والمماطلة في قبول الحل القومي التقدمي يعني أن ثمة موقفاً انتهازياً يريد ان يفرض سيطرته باسم القومية.

هنا نترك كل صاحب ، أو اصحاب نظرية في القومية ليحددوا موقفهم ونعود نحن الى تحديد موقفنا على هدى النظرية القومية التي اخترناها.

عرفنا أن الوجود القومي ( الأمة ) حقيقة موضوعية لا تتوقف وجوداً و عدماً معرفتنا لها . فنحن ان عرفناها نكون قد اكتشفناها . وإن لم نعرفها فهي قائمة وإن كنا نجهلها . والتزاماً بهذا لا يصح أن ننكر على أية ” أقلية قومية ” وجودها لمجرد أننا لا نرغب في هذا الوجود أو لأننا نجهله . بل علينا ان ندرس الواقع الاجتماعي والتاريخي لأية أقلية حتى نكتشف حقيقتها الموضوعية ، ونعاملها أو نتعامل معها على هذا الاساس . ومن ناحية أخرى لا يصح ان نقبل مزاعم كل جماعة من الناس تدعي انها ”  أقلية قومية ” لمجرد انها تريد أن تكون كذلك أو لأن لها في الوجود القومي نظرية خاطئة أو ملفقة على الوجه الذي تريد . وإذا كنا نرفض أن نكون انتهازيين نصطنع لأنفسنا نظريات في القومية تبرر مواقفنا غير العقائدية من الأمم والجماعات البشرية الأخرى ، فإنا نرفض أيضاً ان نكون انهزاميين أمام الذين يصطنعون لأنفسهم نظريات في القومية لتبرير مواقفهم الانفصالية ، إن الانتهازية الفكرية ليست دائماً حالة مرضية بل كثيراً ما تكون موقفاً معداً بعناية لخدمة أغراض أبعد ما تكون عن المجال الفكري . وهي وإن كانت مخربة دائماً إلا انها تصبح بالغة الخطورة عندما تطرح في ساحات الصراع بين الناس والأمم . فلا ينبغي لنا أن نخدع في التبريرات النظرية فإن سلاح النظريات من أمضى اسلحة التخريب التي تسلطها القوى المعادية لحريات الشعوب ، لتبرر لعملائها أدوارهم الخائنة ثم لتحضر الشعوب فكرياً للهزيمة وقبول العبودية . وفي المرحلة التاريخية المعاصرة حيث كثيراً ما تغير القوى الاستعمارية والرجعية من اساليبها ، وتستغني بالتخريب الخفي عن البطش الظاهر ، أصبح السلاح الفكري أداة أساسية في خدمة الأهداف العدوانية وفي دفع العدوان أيضاً . لهذا فغن الحكم على الاجتهادات الفكرية حكماً مجرداً عن القوى التي تطرحها ، والظروف التي تطرح فيها ، فخ يمكن أن تختلط فيه الخيانة بالعقيدة ، فتصبح خيانة ” عقائدية ” أو عقيدة ” خائنة ” . وهذا يصح تماماً بالنسبة الى مشكلة ” الاقليات القومية ” والمبررات التي تثيرها أو تستند اليها . ويمكن معرفته من خلال اكتشاف العلاقة بين تحركات القوى المعادية وتحرك الاقليات بدعوى الحصول على ” حقوق قومية ” تدعيها العلاقة في التخطيط أو التوقيت أو القوى … الخ . وعندما نرى أن حركة اقلية ما متسقة في تخطيطها ، أو توقيتها ، أو قواها مع تحركات القوى المعادية فنحن أمام دليل ” أول ” على أننا لسنا في مواجهة ” أقلية قومية ” مقهورة تبحث عن الحرية بل أمام جماعة من العملاء يتحركون لخدمة مصالح القوى المعادية تحت ستار نظريات في القومية أعدها لهم سادتهم لستر خيانتهم . ولا يؤثر في هذا أن يكونوا واعين دورهم أو غير واعين فإن النوايا لا تغير من الواقع الموضوعي شيئاً . نقول أمام دليل ” أول ” لأنه ليس الدليل النهائي . إنه يكفي للحذر ولكنه لا يكفي لتحديد موقف . ذلك لأننا لا يمكن أن نذهب مذهباً آخر في الانتهازية فنستغل تحركات القوى المعادية لنفرض على الناس القهر ونتهم كل حركة تحررية أو تقدمية بأنها من صنع الاستعمار أو أداته ، ونرفض كل نظرية لا تعجبنا زاعمين لأنها من أعداء القوى المعادية واصطناعها ، ونوزع تهم الخيانة بلا حساب . اننا بهذا لا نخدم الا القوى المعادية نفسها التي قد تكون ما تحركت اذ تحركت فعلاً الا لتثير فينا رد فعل يدفع بنا الى المواقع التي تتفق ـ في النهاية ـ مع اغراضها ولا مخرج من هذا كله الا بالبحث العلمي الموضوعي لاكتشاف الحقيقة الاجتماعية والتاريخية للذين يقولون عن أنفسهم أنهم ” أقلية قومية ” ، ويتحركون تحت اعلام المطالبة ” بحقوقهم القومية ” . لا بد من المعرفة العلمية قبل أن نلتزم أو نتهم . ثم نعاملهم أو نتعامل معهم ـ بعد هذا ـ طبقاً للنظرية القومية التي نلتزمها ” نحن ” لا طبقاً للنظرية التي يدعون ” هم ” التزامها ، حتى لا تكون لنا أبداً نظريتان في موقف واحد .

هذه نقطة أولى وأساسية .

وقد عرفنا من قبل كيف : ” ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل . فالأمة تدخل مرحلة التكوين القومي باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الأرض عن الطور القبلي ” و التزاماً بهذا يجب أن يستهدف البحث العلمي في مشكلة الاقليات وواقعها الاجتماعي والتاريخي معرفة الطور الذي وصل اليه أطراف المشكلة ، لنعرف ما إذا كنا في مواجهة أقلية ، أو اقليات قومية أم لا ، ونستطيع أن نأخذ من المشكلة الموقف العقائدي السليم ونجد لها الحل التقدمي الصحيح . وطبقاً لما يسفر عنه البحث نكون أمام واحدة من المشكلات الاربع الآتية ، التي كثيراً ما تختلط بمشكلة ” الاقليات القومية ” في حين ان مشكلة ” الاقلية القومية ” ليست إلا واحدة منها ، تختلف عن باقيها مضموناً وحلاً .

أولاً ـ مشكلة التمييز العنصري :

والعنصرية التقاء على إحدى المميزات القبلية أو الموروثة عن الطور القبلي ، مثل وحدة الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو التقاليد . وتثور مشكلة التمييز العنصري عندما تكون الظروف التاريخية لقيام الدولة قد جمعت فيها مجموعة من القبائل حيث : ” داخل المجموعة الانسانسة الواحدة تتفرد كل جماعة وحدة قبلية متميزة عن القبائل الأخرى بأصلها الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها وثقافتها ”   ( أكثر دول أفريقيا الوسطى ) . أن تكون الظروف التاريخية لقيام الدولة قد جمعت فيها جماعات شبه قبلية مهاجرة من مجتمعات اخرى ( دول ـ أمريكا ـ استراليا ـ جنوب افريقيا ) أو مجتمعات متجاورة لم يكتمل التكوين القومي لأي منها فتصبح امة ( الهند وقت الاستقلال ) والمميز لمثل هذه الدولة أن اياً من الجماعات التي تضمها ليست جزءاً من أمة خارج حدودها ، وليست امة مكتملة في الوقت ذاته ، بل هي جماعات مستقرة على أرض واحدة في ظل دولة واحدة ، وتكون الدولة فيها ممثل الاستقرار على الأرض المشتركة . أي أنها جميعاً ” أمم ” في طور التكوين . ويدور الصراع الاجتماعي فيها بين قوى تحمل تراثها القبلي بقصد الاستيلاء على السلطة في الدولة ( أداة تحقيق المصالح المادية والثقافية ) احتجاجاً بالتفوق في الجنس أو الأصل أو الدين أو اللغة أو الثقافة ، في مواجهة قوى تحمل تراثها القبلي أيضاً وترغب في المشاركة في سلطة الدولة انكاراً للتفوق العنصري . ويشتد الصراع كلما كانت الفروق الحضارية بين الجماعات أكثر عمقاً . وتجنح الاقلية الى الانفصال إذا كانت ترى قواها وقوتها قادرة على فرضه من خلال الثورة أو الحرب الأهلية . وقد تنجح في ظروف مواتية فتنفصل مكونة دولتها المستقلة ( باكستان ) وقد تفشل فيتولى الغالبون فرض سيطرة الدولة على الجميع ( الولايات المتحدة قديماً ـ  ونيجريا حديثاً ) . وتتوقف نهاية الصراع العنصري على موقف الدولة منه . فلا ينتهي بدون انفصال إلا في ظل أكبر قدر من المساواة بين الناس جميعاً بصرف النظر عن مميزاتهم العنصرية ، واكبر قدر من حرية التفاعل الذي تتطور به الجماعات مختلفة الأصول واللغات والأديان والتقاليد فتستكمل تكوينها القومي فتصبح امة واحدة ذات حضارة مشتركة بالاضافة الى الأرض المشتركة .

ان هذا النموذج العنصري من مشكلة الاقليات من صنع القوى الاستعمارية التي فرضت سيطرتها احقاباً طويلة على الشعوب المختلفة فحبست نموها ، إن لم تكن قد ابادتها ، فلما ان تحررت اخيراً وجدت نفسها في ذات الطور القبلي الذي داهمها الاستعمار منذ قرون وهي عليه ، فكان عليها أن تكمل ـ متأخرة ـ مسيرتها الحضارية في ظل الدولة التي كان الاستعمار أيضاً هو الذي خطط حدودها يوم أن كانت الأرض قسمة بين القوى الاستعمارية . على أي حال فإننا هنا لسنا في مواجهة مشكلة ” اقليات قومية ” بل نحن في مواجهة تمييز عنصري قائمة على التفرقة بين البشر في الانسانية ، فهي في جوهرها مشكلة انسانية ، تحل عن طريق المساواة في دولة الديموقراطية .

ثانياً ـ مشكلة التعدد القومي :

تثور مشكلة التعدد القومي عندما تشترك عدة أمم في دولة واحدة تمثلها جميعاً وتمثل كل منها على حدة ، بدون سيطرة من امة على أخرى ، أي بدون ان تكون الدولة المشتركة أداة قهر تفرض بها إحدى الأمم سيطرتها على الأمم الأخرى التي تجمعها الدولة . وقد كان هذا النموذج من الدول سائداً في مرحلة تاريخية طويلة كانت وظيفة الدولة فيها مقصورة على المحافظة على الأمن الخارجي ( عصر الامبراطوريات ) وكان رئيس الدولة المشتركة بمثابة قائد عام للجيوش الامبراطورية . غير أن للدولة المشتركة التي تضم امماً متعددة نماذج معاصرة ونماذج متوقعة ايضاً .

فمن نماذج الدولة المشتركة في عصر الامبراطوريات دولة الخلافة في القدر الأكبر من تاريخها . فالخليفة كان ينتمي الى عشيرته ويسمى باسمها ، ثم يحكم باسم الاسلام الذي لم يكن من صنعه ، أمماً وشعوباً وقبائل كثيرة . ولم يكن حق قيادة الجند أو جباية الضرائب او تولي الوزارة او الولاية أو القضاء مقيداً بأي انتماء قومي أو شعوبي أو اقليمي . كان ذلك حقاً لكل قادر عليه كما يقدره الخليفة أو القائد العام لكل الناس من كل الأمم والشعوب والقبائل . ومن هنا كانت الخلافة ” دولة ” المسلمين كلهم ، ودولة كل امة أو شعب على حدة ، كانت دولة واحدة مشتركة بمعنى انه لم تكن اية أمة أو شعب يرى أن في الخلافة ما يمس وحدته القومية أو يحول دون استكمال وجوده القومي . وينطبق هذا على الخلافة العثمانية ذاتها . فقد كان الخليفة ” عثمانياً ” نسبة الى عشيرته ولم يكن في هذا يفترق عن الخليفة الأموي أو العباسي أو الفاطمي … الخ . لم يكن ” تركياً ” ينتمي الى أمة ، أو يمثلها ، أو يفرض سيطرتها على ما يحكم من أمم وشعوب وقبائل لسبب بسيط هو أن الأمة التركية لم تكن قد اكتملت تكويناً . وإذا كان الدارج فيما يكتب عن تاريخ الخلافة العثمانية رد التخلف الاجتماعي الى ما يقال له ” الاستعمار العثماني أو التركي ” فإن هذا لا يصدق إلا في مرحلة لاحقة لبداية القرن العشرين . أما قبل ذلك فلم يكن في تركيا نظام رأسمالي غايته الاستيلاء على الموارد المادية في انحاء الامبراطورية لتصنيعها واعادة تصديرها بضائع للمستهلكين ليحقق من وراء ذلك ربحاً . وهي العلامة المميزة للاستعمار . أما عن التخلف الاجتماعي فقد كان سمة عامة لحركة التطور في دولة الخلافة العثمانية وكانت القائل الطورانية التي تقيم حيث مركز الخلافة أكثر تخلفاً من كثير من المجتمعات الأخرى التي تضمها دولة الخلافة . وقد كانت طبيعة الدولة تتغير رويداً رويداً مع نمو التكوين القومي للمة التركية عن طريق استئثار الاتراك تدريجياً بوظائف الدولة وما يعكسه هذا من اختلاف تدريجي في موقف دولة الخلافة المشتركة من رعاياها . فلما ان اكتملت الأمة التركية تكويناً بدأت حركتها القومية تحاول من خلال منظمات عدة أهمها ” جمعية الاتحاد والترقي ” الاستيلاء على الدولة متحالفة في هذا مع القوى الاستعمارية الأوروبية التي كانت تستهدف فض الدولة المشتركة تمهيداً للاستيلاء على اجزائها غير التركية . وعندما استولت الحركة القومية التركية على ” الدولة ” فعلياً في ظل المرحلة الأخيرة من الخلافة وقبل الغاء الخلافة رسمياً زالت الصفة المشتركة للدولة وأصبحت دولة تركية يستخدمها الاتراك في فرض سيطرتهم على ما تبقى فيها من أمم وشعوب بعد أن كان الاستعمار الغربي قد اقتطع منها اجزاء عديدة . وبذلك فقدت الأمم الأخرى دولتها وبدأت حركتها القومية ضد السيطرة التركية الاستعمارية . ومثالها الحركة القومية العربية.

ومن نماذج  الدولة المشتركة المعاصرة ، اتحاد الجمهوريات السوفيتية . ففي أواخر الحرب الأوروبية الأولى كانت روسيا القيصرية تفرض سيطرتها على أمم وشعوب كثيرة تمتد من بولندا الى ساحل المحيط الباسفيكي . وكانت الدولة دولة الأمة الروسية . وبعد ثورة اكتوبر 1917 واجه لينين مشكلة تعدد الأمم ( القوميات ) في الدولة فاعترف لها من حيث المبدأ بحق الانفصال . ثم تولى ستالين صنع هذا الانفصال بالقوة إلى أن تحولت دولة روسيا إلى دولة سوفيتية مشتركة بين كل الأمم والشعوب في الاتحاد السوفيتي . وهذا اصبح الاتحاد في دولة هو صيغة الدولة المشتركة بين قوميات عدة ويتوقف بقاء الدولة المشتركة أو انقضاؤها بالانفصال على مدى احتفاظ الدولة بصفتها المشتركة أي تمثيلها لكل الأمم والشعوب وتمثيلها لكل امة وشعب في الوقت ذاته . وتقدم الاشتراكية هنا أكبر ضمانات بقاء الدولة المشتركة حيث الاشتراكية تعني ـ أو المفروض ان يتحقق بها ـ الغاء الاستغلال والقهر على مستوى الافراد وعلى مستوى الأمم .

ومن نماذج الدولة المشتركة المتوقعة ما يبنونه ـ الآن ـ جزءاً جزءاً في أوروبا الغربية ابتداء من السوق الأوروبية المشتركة . فليس من المستبعد أن تتكون دولة اتحاد أوروبا الغربية ، وربما الشرقية ، من خلال تراكم المصالح المشتركة بين الأمم المرشحة لها والمعالجة المشتركة لتلك المصالح . وبعكس ما يبدو ظاهرياً يرشح الواقع اتحاد دول أوروبا الشرقية للانجاز قبل اتحاد دول أوروبا الغربية . فمنذ سقوط الستالينية بدأ في شرقي أوروبا اتجاه اشتراكي إلى احترام الاستقلال القومي للأمم في العلاقات الخارجية والثقة بالاسلوب الديموقراطي في العلاقات الداخلية . وعندما يستقر احترام الانسان في ذاته وفي مجتمعه التاريخي تصبح الاشتراكية أهم عوامل الالتقاء البناء بين الأمم والمجتمعات وتقدم من ذاتها ضماناً ضد التسلط والاستغلال فتفتح امام تطور الأمم طريقاً ممهداً للتعاون ثم التقارب ثم المشاركة . بعكس هذا نرى أن سيادة النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية ، والسيطرة الامريكية عليها ستحولان في النهاية دون ان تصل الى الاتحاد في دولة مشتركة ، إلا أن تصفى السيطرة الامريكية التي تخرب علاقاتها من الخارج ، وتصفى المنافسة الرأسمالية التي تخرب علاقاتها في الداخل . أي إلى أن تتحرر شعوب أوروبا الغربية .

تلك ثلاثة نماذج من الدول المشتركة في مراحل تاريخية مشتركة تسمح بأن تلاحظ سماتها الاساسية التي هي شروط صلاحيتها ايضاً . أولى تلك السمات المصلحة المشتركة . فهي تقوم عندما توجد مصلحة مشتركة بين عدد من الأمم والشعوب تكفي وتستلزم في ظروف تاريخية معينة اقامة دولة مشتركة فيما بينها تكون وظيفتها الحفاظ على تلك المصلحة المشتركة لا تتعداها . السمة الثانية الشمول . فهي تضم كل الأمم والشعوب المتحدة في الدول المشتركة بدون ان تترك خارجها اجزاء منها وبدون ان تضم اليها اجزاء من أمم أو شعوب اخرى . فإن تركت أو ضمت فتلك مشكلة اخرى سنعرفها فيما بعد لا تؤثر في طبيعة الدولة المشتركة . السمة الثالثة وحدة الدولة . أي ان الدولة المشتركة تعتبر دولة كل الأمم والشعوب في مواجهة القوى الخارجية كما هي دولة كل امة وكل شعب على حدة في علاقتها الداخلية . بمعنى أن كل أمة او شعب فيها يجد فيها دولته فإن افتقدها فهي ليست دولة مشتركة . وتنتظم تلك السمات عادة مواثيق ودساتير تعاهدية تنظم علاقة كل امة وشعب بالدولة المشتركة وعلاقة الأمم والشعوب داخلها .

المهم اننا في ظل الدولة المشتركة قد نواجه بعض المشكلات الدستورية ولكنا لانكون في مواجهة مشكلة اقلية او اقليات قومية .

ثالثاً ـ مشكلة التخلف القومي :

هذه هي المشكلة الأكثر اختلاطاً بمشكلة ” الأقليات القومية ” . ولكي نميز بينها تمييزاً صحيحاً ينبغي ان نتذكر ذلك السؤال الذي طرحناه من قبل ونحن بصدد الحديث عن وحدة المصير القومي : لماذا تكونت الأمم ؟ (فقرة 23) ثم نعيد هنا ذكر بعض الاجابة عنه . فقد قلنا : “  ان التكوين القومي للمجتمعات كان حصيلة نمو واضافة تحققت خلال الحل الجدلي لمشكلات الطور الاجتماعي الذي سبق القوميات فهو أكثر منه تقدماً ، أي فيه من الحريات أكثر مما كان ، وهو أكثر شمولاً فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف اليه ويحدده كما يحدد الكل الجزء . فكما أن المجتمع القبلي لم يلغ الأسرة فيه بل ظلت أسراً وبطوناً وأفخاذاً يقوم الدم فيها رابطة مميزة بين ذوي الدم الواحد ، بقيت الأسر في الأمة الواحدة واضيفت اليها الروابط المحلية والاقليمية فيما يتجاوز التمييز العائلي تمييزاً للخلف المستقر للجماعات القبلية قرى ومدناً ومناطق وأقليم ، ثم اضيفت اليها الرابطة القومية اضافة كانت حلاً لمشكلات السر والاقاليم ذاتها ، تحققت بها للافراد مع الأسر والاقاليم حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها او الروابط المحلية وحدها . اللغة الواحدة بقيت كما كانت من قبل وسيلة مشتركة لتبادل المعرفة وتبادل الرأي واصبحت أكثر غنى بما أضاف اليها الناس في المجتمع القومي من معارف وآراء جديدة طورتها فتجاوزت لغة الأسر والاقاليم التي بقيت لهجات تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق اضافة في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل ، فكسب به كل فرد من أية أسرة ومن اي اقليم علماً وثقافة وحريات أكثر مما كانت له وهو محصور في امكانيات بني دمه أو عشيرته أو قبيلته ، والاضافة لا تلغي المضاف اليه ولكن تكمله وتغنيه … الخ . ” ثم انتهينا الى القول : اننا لم نكن أمة عربية اعتباطاً بل تكوّنا أمة واحدة من خلال بحث الناس عن حياة أفضل ، فإذا كنا قد بلغنا من خلال تلك المعاناة التاريخية الطور القومي ، أي ما دمنا أمة عربية واحدة فإن هذا يعني ان تاريخنا الذي قد نعرف كل احداثه وقد لا نعرفها كلها قد استنفذ خلال بحث اجدادنا عن حياة افضل كل امكانيات العشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معاً لتكون أمة عربية واحدة .

وفي تاريخ كل أمة يكون الوجود القومي دليلاً تاريخياً لا ينقض على صحة هذه المقولة ، غير أن التاريخ القومي قد يصادف في مسيرته التقدمية عقبات أو نكسات تقيمها أمامه أو تفرضها عليه القوى المعادية لمصيره القومي التقدمي ، وذلك بالسيطرة الظاهرة أو الخفية العسكرية او الثقافية أو الاقتصادية ، على وجه يسخّر امكانيات الأمة وقواها لخدمة القوى المسيطرة بدلاً من أن تكون مسخرّة للتقدم القومي . وعندما تفقد الأمة حريتها تسلب امكانياتها لتحقيق تقدم الغاصبين من ناحية وتشمل مقدرتها على تحقيق مصيرها التقدمي من ناحية أخرى . فتتخلف كأمة تتخلف في اللغة القومية ، وفي الثقافة القومية ، وفي الاقتصاد القومي ، وفي الفنون القومية ، وفي الحضارة القومية … الخ . كل ما هو قومي يصبح متخلفاً حتى لو قدم الغاصبون الى الشعب المستعبد انماطاً أخرى من التقدم لتكون بدائل حائلة دون الثورة القومية التحررية أو عقبة في سبيلها عن طريق امتصاص الضغط الثوري في الأمة المقهورة . وكثيراً ما يقدمون لغتهم ، وثقافتهم ، واقتصادهم ، وفنونهم وحضارتهم … لدعم سيطرتهم أولاً ولإلهاء الناس عما فقدوه ثانياً . حينئذ ـ أي خلال فترات التخلف ـ يحتاج الناس في الأمة المقهورة الى مقدرة فذة في الوعي لمجرد معرفة حقيقة المشكلات التي يعانونها والطريق الى حلها . ولما كان التخلف قد بدأ بأن سلب الغاصبون امكانيات الأمة على التقدم بالاستيلاء على موارها وقواها القومية ، ثم سلبها المقدرة على استردادها بإلغاء دولتها القومية فإن مفتاح المستقبل المتجاوز لمرحلة التخلف يكون بالتحرر والوحدة القومية . وتعرف القوى المسيطرة ، المستغلة ، هذا فينصب تخريبها اول ما ينصب على الوعي القومي . ويكون ذلك بأساليب عدة ، أخطرها سحق الوجود القومي في وعي الناس عن طريق تفريغ القومية من أي مضمون تقدمي . أي بطرح القومية كرابطة عاجزة عن تقديم الحلول التقدمية للمشكلات التي يعانيها الناس فعلاً . وتلعب الافكار ومناهج التعليم والنشاط الاعلامي والنظريات ذلك الدور المخرب الذي تحدثنا عنه من قبل . وتصبح الأمة خرافة أو وجوداً سلبياً ، وتصبح القومية غير واقعية ، أو غيرعلمية ، أو رجعية ، أو عدوانية … وكل ما يخطر على بال الذين يريدون ان يحولوا بين الأمة وبين معرفة الطريق الصحيح الى الحرية . وكلما خربوا تخلفت الأمة فسهلت عملية التخريب فزادت تخلفاً فازدادوا تخريباً … وهكذا في حلقة جهنمية تجسدها الآن ـ في الوطن العربي تلك المقولة الشيطانية ”  لكي ننتصر على اعدائنا لابد اولاً من ان نتجاوزهم حضارياً ونحن لا نستطيع ان نتجاوزهم حضارياً إلا أن انتصرنا عليهم أولاً … ” ويبدو المستقبل القومي ، أو استرداد الأمة للمقدرة على تحقيق مصيرها التقدمي ميؤوساً منه ، وتبدو القومية رابطة غير ذات فائدة ، ويبدو الحديث عن المصير القومي التقدمي تهويمات مثالية لا علاقة لها بالواقع ومشكلاته ، ويبدو القوميون التقدميون أكثر الناس عبثاً وتكون الأمة حينئذ قد وصلت الى أحط درجات التخلف ، لا لأنها سلبت امكانيات التقدم فحسب ، ولا لأنها غير قادرة على ان تتقدم بما هو متاح فقط ، بل لأنها تكون قد فقدت حتى معرفة حاجتها الى الخلاص . وذلك أقصى ما يريد السادة ان يصل اليه المستعبدون .

ولكن الأمم ، ذلك الوجود الموضوعي الذي كونه التاريخ ، لا يلغيها التخريب ، ولا تعود قبائل وشعوب مرة اخرى بحكم قانون التطور الجدلي الصاعد دائماً ، ولكنها قد يتعثر تطورها فإذا بها متخلفة في السباق الحضاري بين الأمم . وفي أشد مراحل التخلف ظلاماً يتوهج الوعي القومي في بؤر محدودة ، يعوض بوضوحه الصارم انتشاره المحدود ، ويعبر عن مناعة الأمة ضد الموت ، وإصرار التطور على إكمال مسيرته التقدمية . في ظلمة الجهل الكثيفة ومن بين انقاض التخريب الفكري ، تظل القومية قادرة على أن تضيء الطريق الى المستقبل فنعرف على هديها مشكلات التخلف ذاتها ، فإذا هي مشكلات واضحة تتطلب حلولاً لا تقل عنها وضوحاً ، ومنها مشكلة الاقليات .

فالمسألة ـ  ببساطة ـ انه عندما يحول التخلف القومي الذي فرضته القوى المعادية دون ان تبرر الأمة وجودها كطور ارتقت اليه الجماعات والقبائل والشعوب من خلال البحث عن حياة أفضل ، أي عندما يحول التخلف القومي دون أن تقدم القومية مضمونها التقدمي للناس ، يبدأ الناس الذين تحركهم دائماً الرغبة في التقدم بالبحث عنه من خلال علاقات اخرى . علاقات أوسع ( الانسانية ـ الأممية ) أو علاقات أضيق ( العشائرية ـ القبلية ـ الشعوبية ) . وفي نطاق البحث عن حياة أفضل عن طريق الروابط الضيقة تطرح المشكلات التي تختلط بمشكلة الاقليات القومية ذلك لأن محاولات الارتداد الى الروابط الأدنى من القومية تبرز خصائصها القبلية والشعوبية الأولى حتى يلتقي الناس عليها . فيعود الناس الى البحث عن الاصول العرفية القديمة أو الاجناس البشرية المنقرضة متخذين من الاسماء التاريخية أدلة على وحدة العرق أو من اللون دليلاً على وحدة الجنس . أو يعودون الى ما تبقى من اللهجات واللغات القديمة فيحاولون احياءها كتابة ولو بحروف مستعارة من اللغة القومية متخذين من تلك اللهجات واللغات الميتة ادلة على وحدة التاريخ . وعندما يفتقدون الجنس أو العرق أو اللغة أي عندما يكون انتماؤهم القومي نقياً بدون شائبة بدائية . يعودون الى المذاهب الدينية البالية محاولين أن يتخذوا من خرافات ” الطائفية ” رابطة اجتماعية . باختصار يحاول الناس العودة الى الروابط ” العنصرية ” المتخلفة لأنهم في مراحل التخلف القومي ، يفتقدون الحل القومي التقدمي القادر على انقاذهم من مواقعهم المتردية . وتصبح الاقليات أقليات عشائرية أو قبلية أو طائفية أو شعوبية . يبحث كل منها عن طريق الى التقدم من خلال الرابطة العنصرية المتاحة في غيبة التقدم القومي . يبررها ، ويغذيها ، ويحالفها ، البحث عن طريق الى التقدم من خلال الروابط الانسانية والأممية غير المتاحة ولو في غيبة التقدم القومي . فكلها افرازات مراحل التخلف القومي . وكلها تبحث عن الطريق الى التقدم وإن أخطاته . ان هذا مهم . مهم ان نفهم انها جماعات تبحث عن طريق الى التقدم الاجتماعي حتى لاتخطيء معرفة حل المشكلة . إذ ليس حل المشكلة على اي وجه مواجهة العصبية العنصرية بالتعصب القومي الذي يكتفي بإدائه التحركات العشائرية أو القبلية أو الطائفية أو الشعوبية ويستنفذ جهده في محاولة اتهام الناس بالخيانة ثم يستكين الى الواقع القومي المتخلف الذي أفرخ محاولات الارتداد العنصري . انها محاولات رجعية وفاشلة . نعم . ولكن هذا تشخيص للمرض وليس علاجاً . إنما العلاج ، أو حل المشكلة في إعادة المضمون التقدمي للقومية ذلك لأنه اذا كانت تلك الجماعات من العشائر والقبائل والطوائف والشعوب قد تجاوزت خلال المعاناة التاريخية المشتركة أطوارها البدائية الأولى واصبحت امة واحدة من خلال البحث عن حياة افضل فإن السبيل الوحيد للحفاظ على هذا التجاوز الموضوعي في وعي الناس أن تبقى الحركة القومية تقدمية أبداً ، وهكذا نرى ، طبقاً للنظرية القومية التي نهتدي بها ، أن القوميين التقدميين في كل امة هم المسؤولون أولاً عن ردة الاقليات الى روابطها العتيقة بقدر ما يعجزون عن حل مشكلة التحرر ومسؤولون اخيراً عن تصفية هذه الردة بقدر ما يحققون من تقدم . وقبل ان يوفوا هم بمسؤولياتهم لا يحق لهم أن يتهموا المرتدين بالخيانة . أما إذا واجهوا العصبية العرقية للأقلية المرتدة باستعلاء العنصر الغالب واضطهدوا الأقلية ، أو واجهوا العصبية اللغوية بالتعصب للغة القومية فحرّموا لغة الاقلية ، أو واجهوا العصبية القبلية بالتعصب الحضاري فطاردوا القبائل ، أو واجهوا العصبية الطائفية بالتعصب الديني فكفروها … فلا هم قوميون ولا هم تقدميون . لأنهم بهذا وحده يبررون مواقف الاقليات المرتدة ، ويشاركونها في الرجعية ، ويسهلون لأعداء امتهم مهمة التخريب المسلطة عليها .

ومع هذا فإن إحدى الأقليات ، أو بعضها ، قد يصل في مردته الى حد المطالبة بالاستقلال بجزء من الوطن القومي بدعوى إنها ” أقلية قومية ” وليست مجرد افراز لمرحلة التخلف القومي . فكيف يمكن التمييز بين الاقليات العنصرية المرتدة في مرحلة التخلف القومي ، وبين الاقليات القومية ؟ … لا يكفي هنا الاحتجاج بالمميزات السابقة على التكوين القومي : الأصل أو اللغة أو الثقافة أو التقاليد . فيبقى الاحتجاج بالأرض الخاصة والمشتركة . وقد عرفنا من قبل أن أية نظرية في الأمة لا تسلم بأن الأرض الخاصة والمشتركة ( خاصة بالجماعة البشرية دون غيرها ومشتركة فيما بينها ) عنصر لازم لأية جماعة بشرية لتكون أمة نظرية فاشلة في التعريف بالأمة . وهكذا يكون على أية اقلية مرتدة تطرح نفسها على انها أقلية قومية أن تثبت هي ، أو يكون علينا نحن ان نتحقق من انها جزء من تكوين قومي خارج الحدود كان في فترة تاريخية سابقة على تخطيط الحدود السياسية قد اختص دون غيره بالأرض التي يقيم فيها . لا يكفي ان تكون جماعات أقامت فيها فكل البشر يقيمون على الأرض ، والاحتجاج بالاقامة عودة الى مشكلة الاقليمية . إنما يجب ان تكون قد اختصت بتلك الأرض دون غيرها من الشعوب الأخرى وعلى وجه خاص دون ذلك الشعب الذي تريد ان تقتطع من دولته الأرض التي تدعي إنها ارضها الخاصة والمشتركة ، بما يعنيه هذا من ان الشعب قبل دولته لم يكن قادراً على ان يقيم في أرضها بغير اذن منها وذلك واقع اجتماعي وتاريخي يمكن دائماً التحقق منه . فإن لم يكن الأمر كذلك فإن تلك الاقلية جزء من الأمة التي تحاول أن تنفصل عنها ولو كانت ما تزال محتفظة ببعض خصائصها القبلية الأولى . أي انها وإن لم تكن إفرازاً لمرحلة تخلف قومي طارئة إلا أنها جزء متخلف من الأمة . انها جزء من الشعب رغم تخلفها وشريكة شركة تاريخية في الوطن القومي كله . ووجود جماعات متخلفة في أية أمة ـ بحكم البيئة الجغرافية عادة ـ لا يعني انها لا تنتمي اليها . فقد عرفنا انه : ” عندما تكتمل الأمة وجوداً قد تظل فلولاً من الجماعات القبلية محاصرة أو محصورة على أطراف الأرض الوعرة أو متخلفة في اماكن متفرقة داخل الوطن القومي ، وقد تحاول من حين الى آخر أن تكمل مسيرتها التاريخية مستقلة وان تبدأ منفردة بدخول مرحلة تكوين قومي خاص بها ، وهذا لا يكون إلا بأن تقتطع لنفسها جزءاً من الأرض تختص به . ولكن الأمر يكون قد حسم تاريخياً باختصاص الأمة التي سبقت تكويناً بالأرض المعنية المشتركة ، كل جزء منها ، وحتى اقصى اطرافها بغض النظر عمن يكون مقيماً على أرضها وفي كنفها من أفراد أو اسر أو عشائر لا ينتمون اليها أو من يكون متخلفاً من ابنائها لأن التكوين القومي الجديد لن يكون هنا إلا على حساب تكوين قومي اكتمل تاريخياً .

ثم يبقى الاحتكام الى البناء الحضاري الذي اكتملت به ، وخلاله ، الأمة تكويناً . فلن نفتقد في الحضارات القومية العريقة أن نجد لاسلاف الاقليات المتخلفة أدواراً خلاقة في بناء الأمة التي يدفعهم التخلف الى محاولة التخلي عنها وهي امتهم .

على أي حال فإن حل مشكلة تلك الاقليات المتخلفة من الأمة هو ذاته الحل القومي التقدمي . فقد عرفنا أن الأمم لم تتكون اعتباطاً ولكن من خلال بحث الناس عن حياة أفضل ، وعندما تقدم الأمة لكل ابنائها الحياة الأفضل ، أي عندما تكون القومية تقدمية ، تكتشف حتى الاقليات المتخلفة عبث المحاولات التي تقوم بها لتصنع من نفسها أمة متخلية عن امتها . وان كان وجود تلك الاقليات يكشف من ناحية اخرى عن خلل في مسيرة التقدم القومي أدى الى ان تسبق الأمة حضارياً بعض ابنائها ويكون على الأمة أن تصحح مسيرتها بمزيد من العطاء القومي للأقليات المتخلفة حتى تستوي مسيرتها القومية .

رابعاً ـ مشكلة الاقليات القومية :

أخيراَ نصل الى المشكلة الأصيلة بعد ان عرفنا ما يختلط بها من مشكلات مشابهة . ونعرف الآن إنها تقوم عندما تفرض الحدود السياسية على الأمم فلا تتفق مع وجودها الموضوعي وتؤدي الى ان يقتطع جزء من أمة ويضم الى دولة اخرى . وقد اصطنع الاستعمار الاوروبي أكبر مجموعة من هذه الدول خاصة بعد الحرب العالمية الأولى . والموقف القومي من هذه المشكلة ـ كما عرفنا ـ لا يحتمل التردد أو المماطلة . فعلى كل دولة أن تتخلى عن الاقلية القومية فيها لتلحق بدولتها القومية . وعلى الحركة القومية في كل أمة أن تمد ثورتها الى كل الوطن القومي ولو كان جزء منه قد اقتطع وألحق بدولة مغتصبة او مصطنعة . ذلك لآن مشكلة الاقليات القومية هي في جوهرها مشكلة تحرر ولا تمكن ـ قومياً ـ المساومة على الحرية .

وهكذا نعرف المشكلات على هدى النظرية القومية التقدمية . وعلى هذا تتحدد المواقف من المشكلات وحلولها . وتكون كل مشكلة متسقة مع حلها وعندما يغيب الوعي العقائدي ، ونخطيء في معرفة المشكلات المطروحة لن تزيدها الحلول الخاطئة الاتعقيداً . ومن أخطر الاخطاء في مشكلة الاقليات ان نأخذ بما يدعيه أو يتصوره أطراف المشكلة فنسمي كل اقلية قومية ونعترف بأن مطالبها ( المنصبة على امكانيات التقدم عادة ) هي حقوق قومية اننا بذلك نمهد لتمزيق الأمة . ولا يقل عن هذا خطراً أن نخطيء في التعرف على الاقليات القومية الحقيقية فنفرض عليها البقاء بسلطة الدولة . اننا بذلك نخون التزامنا القومي العقائدي ونتخذ من القومية غطاء لاستعباد الشعوب وطال الزمان أو قصر سيدفع كل خاطيء ثمن خطيئته .

فهل في الوطن العربي أقليات قومية ؟

ان هذا السؤال يتصل بالواقع التاريخي والاجتماعي يمكن معرفة الاجابة عليه بالبحث العلمي . ونحن نعرف أن في الوطن العربي أقليات عنصرية : عشائرية وقبلية وطائفية وشعوبية ، هي افرازات مرحلة التخلف التي تمر بها الأمة العربية منذ وقت غير قصير . ونعرف ان في الوطن العربي أقليات متخلفة من القبائل فوق قمم الجبال ومن البدو في اعماق الصحراء ومن الفلاحين في الريف العربي . وكلها حصيلة عدم استواء المسيرة القومية . ونعرف ان علاج كل هذا متوقف على العطاء القومي التقدمي . ثم اننا نعرف ان ليست كل التحركات العشائرية أو القبلية أو الطائفية أو الشعوبية بريئة من العلاقة بتحركات القوى المعادية لمصير أمتنا . وتكاد بعض تلك التحركات أن تكون في توقيتها وتخطيطها وقواها ، تحت القيادة المباشرة لأعدائنا . نعرف كل هذا ومن يبحث يعرفه ويعرف أكثر منه .

ولكن الذي نعرفه حقاً هو أن في الوطن العربي أقليات قومية . ان للأمة العربية أقليات قومية اقتطعها منها الذين فرضوا عليها الحدود السياسية . لنا أقلية قومية في عربستان أضيفت الى ايران . ولنا اقلية قومية في الاسكندرون أضيفت الى تركيا . ولنا أقلية قومية في اريتريا أضيفت الى الحبشة . ولكن ليس في داخل الحدود السياسية القائمة في الوطن العربي أقلية قومية واحدة مقتطعة من امة خارج تلك الحدود . ولم يكن من الممكن تاريخياً أن يكون الأمر على غير هذا ، فإن الأمة العربية لم تكن هي المعتدية التي فرضت حدودها على الأمم المجاورة فاقتطعت منها اجزاء ضمتها الى دولتها القومية . وكيف يمكن أن يحدث هذا وليس للأمة العربية دولة قومية ؟ … بل رسمت كل تلك الحدود وفرضت على الأمة العربية المعتدى عليها ، فلم يكن من المعقول أن يضيف اليها المعتدون شيئاً من خارجها ومع هذا فتكاد القوى المعادية والجماعات العشائرية والقبلية والطائفية والشعوبية المرتدة أن تمزق الأمة العربية وتعود بها عشرات القرون الى الوراء . وهذا مفهوم تماماً فلقد كدنا أن نصل كأمة الى اقصى درجات التخلف القومي .

ولكن الغريب أننا بدلاً من أن يستفزنا هذا الواقع المتردي فنحشد قوانا لإعلاء القومية وإعادة المضمون التقدمي اليها كحل وحيد لمشكلة الاقليات ينبري أكثر الناس ادعاء للعلم وللقومية وللعقائدية ليبرروا الهروب من المشكلة و” يفلسفوا ” الهزيمة فيعترفوا للاقليات المتخلفة بأنها أقليات قومية واهمين بأن ذلك الاعتراف هو نهاية المطاف و ” الحل الأبدي ” للمشكلة . ان اكتشاف الموقف العقائدي الصحيح ولو من خلال تجربة الفشل لا عيب فيه إلا أنه جاء متأخراً ، ولكن عندما يكون الموقف ” العقائدي ” ” تبريراً ” ” عقائدياً ” للفشل يكون الأمر مختلفاً تماماً . انها الانهزامية . الثمن الذي يدفعه عادة كل الذين يتصدون لمشكلات القومية مغامرة بدون نظرية صحيحة في القومية .

ثم أين هي الاقليات التي يقال لها ” قومية ” في الوطن العربي ؟

قبائل الكرد في شمال العراق ؟ قبائل البربر في المغرب ؟ قبائل الزنوج في جنوب السودان ؟

اننا لا نستطيع أن نقدم ـ هنا ـ تلك الدراسة العلمية التي قلنا أن لا بد منها لمعرفة الواقع التاريخي والاجتماعي للاقليات . ومع هذا فقد نستطيع أن نشير الى بعض مصادر الخطأ في دراسة تلك الاقليات .

أول مصادر الخطأ هو ” الاسم ” فعندما لا نعرف متى وكيف ولماذا اطلقت الاسماء نكون معرضين للوهم المباشر الذي يوحي به ” الاسم ” فنظن أن تعدد الاسماء يعني تعدد وتوازي المجتمعات التي تطلق للدلالة عليها . وفي هذا الوهم تبدو كلمات ” كردي ” و ” بربري ” و ”  نوبي ” و  زنجي ” و ” مصري ” الخ . كما لو كانت مقابلة ومتميزة عن كلمة ” عربي ” . بل سبدو كما لو كانت كلمة ” عربي ” ذاتها قد احتفظت بدلالتها الأولى ” بدوي ” . وكل هذه أوهام لغوية ناتجة من اننا ما نزال نستعمل كلمات قديمة بدون انتباه الى تطور دلالاتها فتختلط علينا الدلالات . مثال هذا ان كلمة “عرب ” ذاتها لم ترد في التاريخ إلا في نقوش للملك الآشوري ” نبوبولاصر ” يسجل فيها انتصاراته على ملك دمشق الأرامي في عام 854 قبل الميلاد وهي كلمة سامية ( أرابي ) تعني البادية أو سكان البادية . ولم يكن لها أية دلالة اثنولوجية ، خاصة فقد كان كل من الآشوريين والآراميين قبائل سامية . وكلمة ” كرد ” لم يستطع أحد حتى الآن أن يقطع علمياً في أصل دلالتها . وكلمة ” بربر ” تطلق على عديد من القبائل تمتد اقامتها من واحة سيوة الى ساحل المحيط الاطلسي لم يكن بينهما شيء مشترك سوى أنها تتحدث لهجة واحدة ” البربرية قريبة بدورها من لغة مصر القديمة . والفينيقيون هم تجار الصبغة الحمراء في مدينة صور كما أسماهم الاغريق أخذاً بكلمة ” فوانكس ” الاغريقية وتعني ” أحمر ” . ولم تكن تدل على أية خصائص اجتماعية . والفينيقيون هم بعض الكنعانيين أي الشرقيين . ومصر الآشورية ، ومصرين في الآرامية ، ومصرايم في العبرية تعني ” الحد ” ولا تعني شعباً بعينه . فالمصريون هم الذين يسكنون مصر تمييزاً جغرافياً للساكنين و ” ليبي ” كانت التسمية التي اطلقها الاغريق على سكان شمال أفريقيا جميعاً . وفرعون هو البيت الكبير ، ثم هو الملك منذ الاسرة الثامنة عشرة . ولم يكن يعني حتى مصري . فملوك الهكسوس الوافدون من ليبيا كانوا فراعنة . وملوك الاسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين الوافدون من ليبيا كانوا فراعنة أما فراعنة الأسرة الخامسة والعشرين فقد كانوا من النوبة . وهكذا . ان ” الفرعونية ” نظام للحكم يساوي الملكية . ونسل الفراعنة يعني الامراء أولاد الملوك . أما الشعب الذي كان يسكن مصر في ظل الفراعنة فلم يكن شعباً فرعونياً إلا بمعنى انه طبقاً للنظام الفرعوني كان مملوكاً ملكية خاصة للملك الفرعون . فإن أردنا أن نعرف أصله العرقي فهو من القبائل السامية التي كانت تملأ الأرض التي نسميها اليوم الوطن العربي .

إذاً فإن كنا ما نزال نحمل أسماء الكرد أو الليبيين أو البربر أو السودانيين أو المصريين … فإن هذا لا يعني إننا لسنا “عرباً ” لأن العروبة انتماء الى تكوين اجتماعي لاحق زمانياً واكثر تطوراً اجتماعياً فهو لا ينقض ما قبله بل يتلوه ولا ينفي عناصر تكوينه الأولى بل يتجاوزها . تماماً كما أن كوننا ” عرباً ” لايعني إننا ” بدو ” أخذاً بدلالة اللفظ القديم لأن العروبة تجاوز حضاري للبداوة . فلا يقولن احد أنني لست عربياً لأنني كردي أو بربري أو مصري أو فينيقي أو ليبي . لأن هذي لا تؤذي تلك في الزمان او في الطور الاجتماعي فلا تناقضها ولا تنفيها .

فإذا تحررنا من أوهام ” الأسماء ” بقي أن نتحرر من وهم الأصول العرقية القديمة . ان كان الاجداد القدامى للأكراد من القبائل الميدية التي تنتمي الى الجنس الآري ، وكان الزنزج حاميين ، وكان الساميون قد ملأوا الأرض العربية خلال هجرات تاريخية طويلة فإن كل هذا قد زال واختلطت الاجناس . ان كرد الجنوب ليسوا من جنس كرد الشمال . وبينما اختلط البربر بالفينيقيين الساميين الوافدين من شمال الجزيرة العربية فلم يعودوا ساميين ولا حاميين فإن قبائل العبابدة والبشارية والهداندوة وبني عامر الذين ملأوا الأرض من أسوان الى جنوب السودان ( شرق النيل ) هم ساميون حاميون أو هم لا ساميون ولا حاميون . وتنتشر في طرابلس قبائل بيض الوجوه شقر الشعر زرق العيون وفي صعيد مصر قرى كاملة من امثالهم . وإلى فلسطين جاء الفلسطينيون ( المقاتلون بالحديد ) من جزيرة كريت وجزر بحر إيجة . وإلى المغرب جاءت قبائل الوندال الأوروبية . وغزا الزنوج اليمن قبل أن تبدأ موجة الهجرات من اليمن إلى أفريقيا مرة أخرى . ويكاد يحفظ سكان مصر أنسابهم الى قبائل قريش وجهينة والازد وحمير ولخك وبني سليم وبني هلال وخزام وكتامة وزويلة والبربر … الخ ، بعضها وفدت من أقصى الشرق وبعضها جاءت من اقصى الغرب . وخلال الحروب الصليبية كان أغلب الحاكمين في الوطن العربي والكثرة من جيوشهم من أصول كردية فهل عادوا مرة أخرى الى شمال العراق أم ذابت الملايين من نسلهم في أمتهم العربية ؟ وخلال قرون طويلة من الغزو المغولي والفارسي والاغريقي والروماني والصليبي والأوروبي الحديث التقت كل الاجناس على هذه الأرض فهل عادوا مرة اخرى أم إنهم يعيشون فينا نحن العرب ؟ بل إن في الوطن العربي بضعة ملايين يستطيع كل منهم أن يثبت أن جده الرابع وربما الثالث كان شركسياً أو أرمنياً أو تركياً او أوروبياً او مملوكاً لا يعرف أحد من أين جاء ، ومع هذا فكل هؤلاء “عرب ” بمعنى انهم ينتمون الى الأمة العربية وإن لم يكونوا بدواً في أي يوم ولم يعرف أجدادهم الجزيرة العربية أبداً . فكما لا يستطيع أي عربي أن يقول أنني عربي لأنني سامي ، كذلك لا يستطيع أحد ان يقول إنني لست عربياً لأنني آري أو مغولي أو حامي . تلك كانت العناصر المتمايزة الأولى التي انصهرت فأصبحت أمة عربية . وعندما تكتمل الأمة تكويناً ، فتصبح مجتمعاً قومياً يذوب فيه كل وافد إليه مقيم فيه إلى أن يصبح جزءاً منه .

ثم يأتي وهم ” اللهجات ” . إن اللغة المشتركة للأمة العربية هي اللغة العربية . فهي لغتها القومية . واللغة العربية هي أحدث فروع اللغات السامية الأولى ذات الأصول اللغوية الواحدة . والتي هي لغات كل المجتمعات والجماعات القبلية التي كانت تملأ الأرض العربية قبل التكوين القومي . ولقد كانت حداثة اللغة العربية ، أي كونها تمثل آخر مراحل التطور في اللغات السامية هي التي أهلتها لتكون اللغة القومية المشتركة ، فلم يجد احد من أصحاب اللغات ذات الأصول السامية صعوبة كبيرة في أن يقبل اللغة العربية لغة له هذا بالاضافة إلى أنه بالفتح الاسلامية أصبحت اللغة العربية هي لغة الحياة ولا نقول لغة العبادة . ومع هذا فإن اللغة المشتركة لا تعني اختفاء اللهجات الموروثة من عهود ما قبل التكوين القومي . فإذا كانت القبائل الكردية تتحدث لهجة ( أكثر من واحدة في الواقع ) ، وكانت اللهجة البربرية ما تزال باقية في جماعات قبلية كبيرة تستمد اسمها القبلي من لهجتها فإن هذا غير مقصور عليهم . فما يزال النوبيون يتحدثون لهجة ” تبداوي ” أو ” بداويت ” وهي لهجة قديمة . وقد ظلت أجيال من الشعب العربي في الجزائر تتحدث الفرنسية . ومع هذا فلا يصح الاحتجاج باللهجات المتبقية من الطور القبلي ليقال أن كل هؤلاء ليسوا عرباً . ذلك لأن إستعمال اللهجات او حتى اللغات القبلية لا ينفي الاشتراك في معرفة وفهم وإستعمال اللغة القومية . وهل كان الايوبيون من القبائل الكردية يحكمون مصر بوساطة مترجمين ؟ … وكيف حمل البربر اللغة العربية الى الاندلس ؟ . وما هي اللغة المشتركة لسكان جنوب السودان حيث يكاد يكون لكل قبيلة ولكل عشيرة لهجة خاصة ؟ 

وعندما تتوافر اللغة القومية المشتركة في الأرض المشتركة تكون الحصيلة ثقافة مشتركة وقيم مشتركة . إذ اللغة والأرض هما مصدرا البناء الحضاري . وكما لا يصح الاحتجاج على اللغة القومية المشتركة باللهجات القبلية أو ما تبقى منها ، لا يحتج على التكوين القومي الحضاري بالتقاليد المحلية . يكفي ان نعرف أن لكل قرية في الوطن العربي تقاليد محلية خاصة . ولكل اقليم تقاليد خاصة ولكل منطقة جغرافية تقاليد خاصة . لا في الأمة العربية وحدها ولكن في كل الأمم . وليس في هذا ما يناقض الوجود القومي وحضارته المشتركة . لديهم إذن أن تكون للقبائل الكردية تقاليد من نتائج البيئة الجبلية الوعرة التي تعيش فيها . أو أن تكون للبدو تقاليد تتفق مع متطلبات الحياة في الصحراء القاحلة . أو أن تكون للمدن الكبرى تقاليد مستعارة من أوربا . أو أن تكون لسكان جنوب السودان تقاليد من نتاج المناخ الحار الذي لا يطيق الكساء .

ثم يأتي أكثر أسباب الخطأ انحطاطاً : اللون .

ان اللون ليس أكثر من الاستجابة الفيزيولوجية لمتطلبات المناخ ثم ينتقل بالوراثة . فهو عملية مادية يخضع لها كل البشر ولا تقوم مميزاً اجتماعياً أو حضارياً بين البشر ، ولكنه ليس الاستجابة الوحيدة . فنوع الشعر ، ومحيط الجمجمة ، وطول العظام … الخ ، كل هذه نتائج ملاءمة بين التكوين الفسيولوجي للانسان وبيئته الجغرافية وليس لها أي مدلول يتجاوز هذا . وإذا كان علماء الاجناس قد قسموا الناس الى جماعات ، أو أجناس ، حسب ألوانهم أو تركيب عظامهم ، فإن ذلك لا يتضمن أية قسمة اجتماعية أو مصيرية . وعندما يقال أن سكان جنوب السودان ” زنوج ” لا يدل هذا القول إلا على انه تتوافر فيهم الخصائص الفسيولوجية التي تأثرت بالبيئة الجغرافية لوسط افريقيا . ولا يعني على أي وجه أنهم امة تكونت تاريخياً لتكون سوداء أو بسبب أنها سوداء . أن السود في جميع انحاء العالم يكافحون ضد ” التفرقة العنصرية ” استناداً الى مقولة علمية هي ان الناس لا يتميزون فيما بينهم بألوانهم . وان ليس لكلمة الأسود او الزنجي أي مدلول حضاري أو اجتماعي . فما الذي يفعله الذين يحتجون على الأمة العربية بألوانهم وينكرون انتماءهم القومي لأنهم زنوج . انهم لا يفعلون شيئاً سوى تأكيد ” التفرقة العنصرية ” التي فرضها المستعمرون . انهم يحتجون بما علمهم سادتهم ويتخذون من ألوانهم مميزاً يفرقهم عن الآخرين . فهل هم يطلبون الحرية أم انهم ينفذون إرادة المستعمرين ؟ .. ثم اولئك الذين يستعلون عليهم بألوانهم الأقل سواداً أو البيضاء هل يفعلون شيئاً سوى استفزازهم ليتمردوا  مساهمين بذلك مساهمة غبية في تأكيد ” التفرقة العنصرية ” بقبولهم اللون مميزاً للمجتمعات . لو صح أن الألوان تميز الأمم فعبثاً نجد في الأرض أمة عربية . ولن نعرف من الألوان المختلطة المتعددة المتفاوتة التي نصادفها في كل مكان من الوطن العربي إلى أي أمة في الأرض ينتمي كل واحد من هؤلاء . ولكان علينا أن نحسب كل أشقر في الوطن العربي منتمياً إلى أمة أوروبية . فلماذا يكون الشقر من سكان الشام عرباً ولا يكون السود من سكان السودان وجنوبه عرباً ؟ وما هو إذن اللون العربي ؟

على أي حال ، أن انتقاء بعض المميزات القبلية ( العرقية او اللغوية أو الفسيولوجية ) للاحتجاج بها على الوجود القومي خطأ متسرع . انما يجب ” أن ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل ” وهكذا يكون الاحتكام في شأن الأقليات إلى قاعدة علمية صارمة : هل تنتمي أية أقلية في الوطن العربي إلى أمة خارج الحدود السياسية القائمة في الوطن العربي ؟ إن كانت تنتمي فتلك أقلية قومية ويكون أول واجبات الحركة القومية العربية ان تحررها فترفع عنها الولاء السياسي المفروض عليها لتستقل وتلحق بالأمة التي تنتمي اليها ودولتها القومية . إن الحركة القومية العربية إذ تفعل هذا لا تحرر الاقلية القومية ولكن تحرر نفسها أيضاً من سلبيات القهر والتسلط العربية وبالمقابل ، عندما لا تكون لأية أقلية في الوطن العربي أمة هي جزء مقتطع منها فإنها أقلية متخلفة ينبغي أن ييسر لها من امكانيات التقدم ما يعوض تخلفها ، ولكنها ـ على أي حال ـ جزء من الأمة العربية لا تملك من أن تقتطع من الوطن القومي جزءاً لتقيم عليه دولة ولا يملك أحد حق منحها ما تريد .

ثم أن لدينا مقياساً لا يخطيء في التعرف على ما وراء ادعاء أية أقلية بأنها أقلية قومية . انه موقفها من الوحدة العربية . ذلك لأن أية أقلية تزعم أنها قومية وتتحرك من اجل أن تكون لها دولتها القومية لابد أن تسلم بمبدأ ” دولة قومية واحدة لكل أمة ” . ويكون عليها أن تحدد موقفها من التجزئة العربية وهدف الوحدة على الوجه الذي يتفق مع هذا المبدأ ليكون اتساق مواقفها من الحركات القومية دليلاً على صدق اعتقادها صحة ما تزعم لنفسها . عندئذ ستجد نفسها ملزمة بالتعامل مع دولة الوحدة العربية ، الدولة القومية للأمة العربية ، ويكون عليها أن تسهم ايجابياً في إلغاء التجزئة إلى أن توجد تلك الدولة التي لا يصح ـ قومياً ـ أن يكون لأحد غيرها صلاحية الاعتراف باستقلال ما قد يكون على أرضها من أقليات قومية . لا يصح ـ قومياً ـ لأن أي قومي حقاً لا يمكن أن يقبل الاعتراف بشرعية الدولة الاقليمية ، ولا يمكن أن يعول على ما قد تصدره من بيانات أو تعقده من اتفاقات أو تبرمه من معاهدات تنصب على مدى سيادة الشعب العربي على وطنه . ولا شك في أن دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية لن تتردد لحظة في تحرير أية أقلية اثبتت من خلال نضالها ضد التجزئة انها قومية الوعي والحركة فعلاً . ولكن الأمر يختلف تماماً عندما نرى أقلية تزعم القومية وتدعي لها حقاً في مبدأ ” دولة قومية واحدة لكل أمة ” تخون منذ البداية ما تدعيه فتعادي الحركة العربية التقدمي ، وتتآمر مع اعدائها ، وتقف ضد الوحدة العربية ، وتتحالف مع الاقليميين ، وتحتج بالتجزئة وتدعمها ، وتزيد فتحاول أن تكسب بيانات أو اتفاقات أو معاهدات من دولة اقليمية ، هي تعلم ـ لو كانت قومية حقاً ـ انها دولة غير مشروعة فلا تملك ان تعطي ما لا تملكه .

وأخيراً :

فقد تجاوزنا في هذه الفقرة من الحديث عن أقليات أخرى توجد أو قد لا توجد في الوطن القومي بعضها عن طريق الهجرة الفردية وبعضها عن طريق الغزو . الأولى تنظمها القوانين الداخلية تنظيماً يتضمن عادة إباحة الاقامة بشروط خاصة ثم منح المواطنة للمقيمين بعد فترة من الزمان يثبتون فيها ولاءهم لمجتمعهم الجديد ويكون هذا تمهيداً لاندماجهم في الأمة التي لجأوا إليها . أما الثانية فهي عدوان استيطاني نعرف الموقف القومي منه عند حديثنا عن الحرية .

32   ـ القومية والفردية :

هنا نصل إلى آخر العلاقات التي تهمنا بين الوجود القومي ( الأمة ) والناس داخله . ولقد قلنا من قبل ( فقرة 18    أن المجتمع ليس كائناً مستقلاً عن الناس فيه ( فهو ) لا يحيل الانسان شيئاً جامداً ولا يحول الناس الى قطيع من الحيوان ( ولكن ) عندما يتعدد الناس في واقع معين واحد يصبح هذا العدد بما يتضمنه من مشاركة جزءاً من الواقع الذي يواجهه كل إنسان . يصبح واقعاً اجتماعياً . لا بمعزل عن أي إنسان فيه ولكن بالنسبة إلى كل إنسان فيه ” . مؤدى هذا أن الأمة لا تنفي الفرد بل تقوم منه مقام الكل من الجزء ، توجد وتتطور به وله . ليس في القومية ـ إذن ـ ما ينقض احترام ذاتية الانسان والاعتداد بمواهبه المتفردة واستهداف تقدمه الخاص . بالعكس . إن الانطلاق من الوجود القومي الىالمصير القومي على أساس أن الانسان هو العامل الاساسي في حركة التطور الاجتماعي وعلى هدى ” جدل الانسان ” كقانون لحركة التطور يعني ان كل فرد في الأمة ذو قيمة متساوية بالنسبة الى وجودها وإلى مقدرتها على التطور بالرغم من تفاوت الأفراد في المقدرة على الاسهام في حركة التطور . وبالتالي تحتم القومية الحفاظ على سلامة الافراد في الأمة ، كل الأفراد ، وتنمية مقدرتهم على التطور ، وخاصة المتخلفين منهم ، وتأمين حياة آمنة وحرة تقدمية بالنسبة إلى كل منتم إليها حتى الذين لا يعون انتماءهم إليها ، أو ينكرونه ، أو حتى الذين يناهضون حركتها التقدمية ، التزاماً بوحدة المصير القومي المحددة موضوعياً بالوجود القومي ذاته . وهكذا بينما تدين القومية الانحراف عن المواقف التي تحددها لا تتخلى عن مسؤوليتها عن تقديم المنحرفين وردهم الى علاقتها السوية وتبذل في هذا كل الجهد اللازم لتحصين أبنائها ضد الانحراف 

وتمثل ” الفردية ” نموذجاً للانحراف عن القومية . إنها موقف ذاتي رافض للعلاقة الموضوعية بين الأمة والمنتمين اليها . إنها رفض سلبي او إيجابي للوجود القومي وعلاقاته وحركته لا عن طريق استبداله بمجتمع يتجاوزه ( الانسانية ـ الاممية ـ الاسلامية ) او يقصر دونه ( الشعوبية ـ الاقليمية ـ الطائفية ـ القبلية .. الخ ) بل عن طريق محاولة صاحبه الانسلاخ من امته والتعامل معها من خارج نطاق الانتماء اليها . يعترف ” الفردي ” بالامة ، أو بالمجتمع ، ولكنه يرفض التعامل معه على اساس انه مجتمعه او يتعامل معه من موقف الغربة عنه واضعاً ذاته في مواجهته مجتمعه .

وقد تصل الفردية السلبية إلى أن تكون ” حالة ” مرضية لا يتردد الاطباء في النصح بعزل صاحبها في المصحات المتخصصة وعلاجه من رفضه الاستجابة إلى واقعه الاجتماعي عن طريق العزلة أو الانطواء الذي قد يؤدي به الجنون . وقد تصل الفردية الايجابية إلى أن تكون ” حالة ” اجرامية لا يتردد القضاء في الحكم بحبس صاحبها في السجون أو حتى إعدامه عندما يصل رفضه لمجتمعه إلى حد تحدي وجوده او حركة تطوره ايجابياً بالخيانة او العنف او الاختلاس أو الغش . وفي الحالتين تكون ” الفردية ” تمرداً رافضاً علاقة الانتماء الى المجتمع . غير ان المرض والاجرام ليسا الموقفين الوحيدين المعبرين عن الانحراف الفردي . بل لعلهما أن يكونا اهون المواقف الفردية ضرراً بالمجتمع وحركة تطوره . ذلك لأن الفردية قد تتجسد في مواقف ايجابية لا يحرمها القانون الوضعي فلا تعتبر جرائم ولا ينقصها الذكاء فلا تثير انتباه الاطباء وإن كان يمكن اكتشافها بسهولة من السلوك العادي لصاحبها في المجالات الاجتماعية في الحديث عن المجتمع ومشكلاته وحركته كما لو كان المتحدث غريباً عنه ، في اسقاط الفرد ذاته على المجتمع فلا يرى فيه الا مشكلاته الخاصة ، في فرض نفسه على المجتمع فيضع رأيه الخاص في التطور الاجتماعي شرطاً اولياً على المجتمع ان يقبله قبل أن ” يتفضل ” هو فيشارك في حل مشكلات تطوره ، في التشبث بالقيادة ولو في شلة عاطلة من المقدرة ، في التوقف او الانعزال أو التمرد على العمل الجماعي ما لم يخضع الناس لإرادته في الدعوة الى التضحية ولا يضحي ، في طلب الالتزام ولا يلتزم ، في البحث الدائم عن ” براءته ” عن طريق اتهام الآخرين … الخ . في كل هذه الحالات ، وفي مثلها ، نكون أمام حالة ” فردية ” ترى في المجتمع موضوعاً تمارس فيه إرادة صاحبها ، ان استطاع استغله ايجابياً وغن لم يستطع جنح الى السلبية . وهنا تكون السلبية إحدى العلاقات المميزة للفردية .

والفردية وباء في المجتمعات المتخلفة خاصة بين المثقفين . ويرجع هذا إلى أسباب عدة . منها ان برامج التربية والتعليم والثقافة والاعلام في المجتمعات المتخلفة كانت لفترة طويلة من وضع القوى الاستعمارية لخدمة غاياتها . ومن غاياتها إضعاف العلاقة الاجتماعية التي تربط الناس بمجتمعاتهم في مصير واحد حتى لا تؤدي هذه الرابطة إلى وعي الناس التزامهم بتحرير مجتمعاتهم . ومنها احتضان القوى الاستعمارية للعناصر المتفوقة من المتعلمين وإتاحة فرصة إكمال ثقافتهم في معاهدها وجامعاتها عن طريق البعثات . هناك يقدم مجتمع المحتلين كنموذج للمجتمع اللائق بحياة الانسان المستحق للولاء ، وتدس في الاذهان مثل عليا غريبة على مجتمع المبعوث ، فيعود الى مجتمعه غريباً عليه ان لم يخنه فينحاز الى محتليه يظل متعاملاً معه من موقع الغربة عنه . ومنها أن المتعلمين ممتازون بما يعلون عن الكثرة الغالبة في مجتمعاتهم المتخلفة . ويؤدي هذا ” بكثير ” منهم الى الاستعلاء على الناس والعزلة عن الجماهير ومحاولة استغلالها عن طريق فرض وصايتهم على الذين لم تتح لهم الفرصة التي اتيحت لهم ليتعلموا ما تعلموا . فحيث تكون الحاجة ماسة الى من يقرأون ويكتبون في مجتمع من الأميين يكون اولى بالامتياز أن يكون للمتعلمين . ومنها ميراث الممارسة الليبرالية . ذلك المذهب ” الفردي ” الذي يتجاوز تمجيد الانسان الى اطلاق الفرد من التزاماته المترتبة على انتمائه الى مجتمعه فيتحول المجتمع فيه الى ساحة صراع فردي لا إنساني ، وتكون الفردية فيه قيمة لا يخجل منها صاحبها بل يفخر بها بقدر ما يكون لها من ضحايا من أفراد الآخرين … الخ . الى كل هذا يضاف سبب آخر ” للفردية ” في الوطن العربي المتخلف هو ان المثقفين في الوطن العربي هم اكثر الناس علماً بأن التقدم لا يمكن أن يقوم على أساس التجزئة ، ومن هنا يعلمون علم اليقين أن وعود التقدم الاجتماعي في مجتمعاتهم الاقليمية وعود كاذبة في النهاية . فهم يرفضون فيما بين أنفسهم الانتماء الى دولهم الاقليمية لأنهم يعلافون انها فاشلة . وبينما يحتفظ بعضهم بولائه لانتمائه القومي يرى البعض الآخر ان تلك المجتمعات الاقليمية المحدودة أكثر قابلية للاستغلال . غن مقاعد السلطة فيها ، أو مقاعد خدمة السلطة ، أقرب بكثير منها في دولة الوحدة . فيدعون الولاء الاقليمي لستر رغباتهم الفردية في استغلال مجتمعاتهم ، أي في التقدم الفردي على حساب الجماهير فيها . أو فلنقل خوفاً على مواقعهم الممتازة في مجتمعاتهم الاقليمية من ان تضيع في غمار النضال من اجل الوحدة أو في زحمة الكفاءات في دولة الوحدة .

إمتداد الحياة أجيالاً في ظل هذا الثالوث المخرب : التجزئة والتخلف والليبرالية ” نمّى ” الفردية بين صفوف المتعلمين والمثقفين من أبناء الأمة العربية . وذلك واحد من أخطر عوامل التخلف فيها لأنها تفتك بمقدرة أكثر الناس معرفة بمشكلات التطور الاجتماعي وحلولها الصحيحة على العمل ” الجماعي ” وهو ـ كما سنعرف فيما بعد ـ الاسلوب الوحيد لتحقيق التقدم في أي مجتمع . هذا في الوقت الذي نجد فيه جماهير الشعب العربي ، الجماهير العادية ، تكاد تكون مطهرة من الفردية . في حياتهم اليومية يعيشون في ظل تقاليد اجتماعية يعتزون بالانتماء اليها ويلتزمونها في أفراحهم وفي احزانهم . وفي المجالات السياسية يتحركون بالملايين حتى بدون تنظيم حركة جماعية يسخر بعض المتعلمين منها فيسمونها ” عفوية ” . ومن هنا نعرف كيف أن ازمة العمل الجماعي في الوطن العربي قائمة في صفوف تلك القلة التي ترشح نفسها لقيادة حركة التطور فيه وان كانت تدفع ثمنها الباهظ الجماهير العربية التي لم تخربها الفردية .

على أي حال فإن الموقف من ” الفردية ” لا لبس فيه ولا غموض . فعندما تبدأ المسيرة المتردية عن القومية منحطة الى الشعوبية ، الى الاقليمية ، الى الطائفية ، الى العنصرية القبلية … ثم تصل الى ” الفردية ” تكون قد وصلت الى قاع المنحدر . وعليه ، فطبقاً للنظرية القومية التي نتحدث عنها ونطبقها تعتبر ” الفردية ” اقصى درجات الانحطاط والطرف النهائي للردة ، ولا يمكن ان يكون “ الفردي ” قومياً مهما بلغت مقدرته على ادعاء الولاء للأمة العربية . وعندما لا يكون قومياً نعرف انه فاشل مهما بلغت فصاحته في الحيث عن مخططات المستقبل . وفي كل حالة فهو رجعي لأنه لا يعرف الأمة العربية ، ولا يعترف بالقومية ، إلا لأنه يريد أن يمارس فيها إرادته ، ويحقق على حسابها تقدمه الفردي .

33 ـ مصير الأمة :

ما الذي سيكون من مصير ذلك المجتمع الذي بلغ طور ” الأمة ” ومتى ؟ … لو كنا ليبراليين لقلنا أن الأمة خالدة خلود الطبيعة ذاتها لأنها المجتمع الطبيعي . ولكن جدل الانسان الذي علمنا ان ننظر الى المجتمعات خلال تطورها النامي من الماضي الى المستقبل ، فعرفنا منه أن الأمة” طور من المجتمعات لم يكن موجوداً منذ البداية بل جاء نتيجة لتطور تاريخي أصاب المجتمعات الشعوبية والقبلية التي سبقته ، نعرف منه ايضاً ان الأمة ( المجتمع القومي ) لن يكون آخر طور في نمو المجتمعات ، وان مصير الأمم إلى أن تذوب في تكوينات اجتماعية اوسع منها . اما متى يحدث هذا فنستطيع من الآن ان نعلقه على شرطه ولكنا لا نستطيع ان نحدد له تاريخاً . فقد عرفنا ان حركة التطور الاجتماعي تتجه بحكم قوانينها الحتمية الى الحرية ومزيد من الحرية وعرفنا أن الحرية تحررنا من الحاجة . وقلنا ان الأمم لم تتكون اعتباطاً ولكن تكونت من خلال بحث الناس عن حياة أفضل ، فهي المجتمع الذي يتيح للناس أفضل فرص الحياة . أفضل بالنسبة الى فرص الحياة في المجتمعات الشعوبية او القبلية السابقة على التكوين القومي . ومن هنا نستطيع ان نقول أن الأمم ستبقى إلى أن تستنفذ كل امكانياتها في تحقيق أفضل حياة يمكن ان يقدمها المجتمع القومي للمنتمين اليه . وتزول عندما تصبح قيداً على حركة التطور الاجتماعي الى مزيد من الحياة الافضل . وهي لن تزول إلا نامية في تكوين اجتماعي اوسع أرضاً واعرض بشراً واكثر مقدرة على التقدم . اما متى ؟ فذلك يتوقف على تطور المجتمعات على المستوى الانساني . وإن كان عدم اتساق النمو الاجتماعي والتقدم في المجتمعات الانسانية المعاصرة ، وتواجد مجتمعات ما تزال في الطور القبلي بينما تحاول بعض الأمم تجاوز وجودها القومي الى علاقات اجتماعية مشتركة مع أمم أخرى ولو كانت في مجالات محدودة يحملنا على استبعاد أن يكون النمو من الأمة الى المجتمع الانساني خطوة واحدة . ونرجح أنه عندما تستنفذ الأمم كل امكانياتها على التقدم ويصبح المزيد من التقدم الاجتماعي متوقفاً على اشتراك أمتين أو أكثر في بناء مستقبل تقدمي مشترك ستنتقل الانسانية الى وحدات اجتماعية تتجاوز الوجود القومي دون ان تصبح انسانية ، أي دون وحدة المجتمع الانساني كله .

وطبقاَ لما نعرفه من الواقع الاجتماعي المعاصر في الأمة العربية والمجتمعات المتخلفة ، والمعدل غير المتساوي في حركة التطور الاجتماعي بينها من ناحية وبين المجتمعات المتقدمة من ناحية أخرى ، نعتقد ان تجاوز الطور القومي يقع خارج امكانيات التوقع في الزمان بمنى اننا لا نستطيع من الآن أن نعرف متى تتجاوز المجتمعات الطور القومي الى تكوينات اجتماعية اخرى ، وإن كنا نستطيع ان نقول أنه قياساً على ما استنفذته المجتمعات القبلية لتصبح امماً ومع ادراك لزيادة معدل التطور الحضاري في هذا العصر فإن بين البشرية وبين تجاوز الطور القومي بضعة آلاف من السنين تخرج ذلك الطور الاجتماعي المقبل من نطاق الموضوع الذي يشغلنا وهوـ وحتى نتذكر ـ تطوير واقعنا العربي ويكفي ان نكون على يقين من خطأ فكرة “الخلود” الاجتماعي ، فلا امتنا ولا اية امة أخرى خالدة . وعندما نسمع او نقرأ حديثاً عن “الخلود” الذي ينسب تمجيداً فارغاً لأمتنا العربية لا ينبغي أن تغرينا الكلمة الكبيرة عما يكمن وراءها من جهل بقوانين التطور الاجتماعي ، او عن الذهنية الليبرالية التي تعبر عنها . وقد عرفنا من قبل كيف اننا عندما نجهل قوانين التطور الاجتماعي لا نستطيع ان نطور مجتمعنا ، وعندما نكون ليبراليين تكون القومية عندنا انتماء سلبياً مقطوع الصلة بحركة التطور القومي .

إن الحديث عن الخلود القومي حديث عن الفشل ، والفشل لا يمكن ان يكون قومياً . 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق