بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

قـصة حيـاة مسلـم .


قـصة حيـاة مسلـم .

د . عصمت سيف الدولة .

 146 ـ حينما يدور الحديث المرسل عما جاء به الإسلام من شرائع يلتفت المتدحثون إلى نماذج العقوبات التي وردت في القرآن جزاء على خرق قواعد الحدود . يلفت إليها أن بعضها ، مثل الجلد والرجم وقطع اليد ، لم تعد اليوم من بين العقوبات التي تفرضها القوانين الوضعية . لسنا نريد أن نخوض في هذا الآن لأنه يطول ، ثم يتوقف على أية نظرية تقوم مشروعية الجزاء ، وهي . نظريات متعددة . يكفي أن ننبه إلى أن نظرية الجزاء في الإسلام لا تقوم على أساس الانتقام قال تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) { البقرة : 179 } ( الاحتفاظ للجرم بجزاء شخصي في الآخرة ، واستبدال الدية بالعقوبة والتوبة ، والعفو ) بل هي ، مثل كل أحكام الإسلام ، قائمة على ما يحقق مصالح البشر ، أو حماية المصالح كما يقال في فقه القانون الجزائي ، وذلك بالزجر الكافي والمناسب اجتماعياً للمحافظة على قوة الإلزام في القواعد الآمرة أو الناهية وهي " الحدود " أي الفوارق بين الحلال والحرام ، وإن كان قد جرى إطلاق كلمة الحدود مجازاً على العقوبات . وإذا كان " لا اجتهاد في الحدود " فليس لأحد أن يبيح ما هو محرم فإن تقدير الجزاء الكافي والمناسب على خرق الحدود قابل للاجتهاد ، وفيما يؤكد نفاذ القواعد ويحمي المصالح في كل الظروف المتغيرة . من هنا فليس دقيقاً فيما نرى ، أن يقال إن عمر بن الخطاب قد عطل حدّ السرقة عام المجاعة . فما كان له أو لغيره أن يبيح ما حرّم الله . ولكنه رأى في ظروف معينّة أن جزاء قطع اليد لا يؤدي غايته في الزّجر وحماية المال . ويدخل في هذا كل ما اجتهد الأئمة في اشتراطه للمسؤولية عن الجرائم فهي شروط متعلقة بإيقاع الجزاء وليس بشرعية الفعل . هذا يكفي الآن حتى لا يغيب عن الانتباه أن الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام ليست مقصورة على الجرائم والمجرمين بل هي تنظيم لعلاقات الناس وهم يمارسون حياتهم العادية السوية ، فتربط بينهم وتحيلهم إلى مجتمع إسلامي  . 

لنأخذ مثلا من حياة مسلم سويّ :

147 ـ  كان صاحبنا يتبع ما يهديه إليه "عقله ومصلحته وهواه وشهوته " ثم شهد بألاّ إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فأصبح  مسلما : له على المسلمين حقوق المسلم وعليه للمسلمين واجبات المسلم . إنه منذئذ لا يستطيع أن يتبع ما يهديه إليه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " وإنما عليه أن يتبع " الشرائع والقواعد والآداب " التي جاء بها الإسلام . فإن لم يفعل ردّه المسلمون إلى ما يتفق مع الإسلام وأوقعوا به الجزاء الذي يردع غيره . 

كيف ؟ 

هداه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " إلى أن " يعاشر " امرأة معينة وارتضت هي معاشرته على هدى عقلها ومصلحتها وهواها وشهوتها . لو تركا لما اهتديا إليه لتعاشرا . فيقول الإسلام لهما : لا . تعاشرا زواجاً وليس سفاحاً . ( محصنين غير مسافحين ) { النساء : 24 } . فيقبلان الزواج . ولكن قبل أن يشرعا فيه يقدم لهما الإسلام قائمة بنساء موصوفات ليرى صاحبنا ما إذا كانت المرأة التي اختارها من بينهن أم لا . فإن كانت من بينهن فلا زواج ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، إنه كان فاحشة ومقتاً ، وساء سبيلاً . حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ، إن الله كان غفوراً رحيماً . والمحصنات من النساء ) { النساء : 22 - 24  .ولقد يتحقق صاحبنا من أن المرأة التي اختارها وارتضته زوجاً ليست من بين قائمة المحرّمات ، لأنه هو نفسه كان قد تزوجها هي نفسها من قبل وطلّقها ثلاث طلقات . وقد هداه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " إلى أن يتزوجها مرة  أخرى وقبلت هي . الإسلام يقول : لا . ( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ) { البقرة : 230 } . فلا يتزوجها صاحبنا بصرف النظر عن عقله ومصلحته وهواه وشهوته  .

ولقد يضيق صاحبنا بالانتظار فيختار امرأة أخرى وترتضيه هي زوجاً بعد أن يعرف من أمرها أنها كانت إلى عهد قريب زوجاً لغيره . فيتعجل الزواج فيقول له الإسلام  لا . لا تتعجل . إن كانت مطلقة فعليك أن تتأكد أولاً من أنها غير حامل من زوجها السابق ، ثم تتأكد ثانياً من أنه انقضت على طلاقها ثلاثة أشهر وتعدّ الأيام عدّاً ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) { البقرة : 228 }  فتأخذ صاحبنا الفرحة إذ أن من اختارها لم تكن مطلقة وإنما توفّي عنها زوجها منذ أربعة أشهر ويهم بالزواج قيقول له الإسلام : لا . ليس قبل عشرة أيام أخر . ( والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ) { البقرة : 234  .

وينتظر صاحبنا عشرة أيام لا تنقص يوماً واحداً . ثم قد يهم بها وتهم به ، فيقول لهما الإسلام : ليس قبل العقد ، لأن الزواج ليس فعلاً بل هو عقد وميثاق غليظ . ( وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ) { النساء : 21} . وقد يسر لصاحبنا " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " بتساؤل : وما الفرق ؟ إن الفرق الآن أنّ العقد لا ينعقد إلاّ برضاكما ، نحن راضيان . لا . لا بدّ من أن يشهر العقد ليعلم الناس أنكما راضيان . ثم إن عليك أن تدفع لها مهراً . ( وآتوهن أجورهن بالمعروف ) { النساء : 25 } . كم ؟ . . لا يهم . إنه رمز الالتزام وليس ثمن بضاعة تشترى ثم إن العقد يلزمك أنت بالنفقة ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) { النساء : 34 } من مالك أنت ، وليس من مالها هي . ( فلا تأخذوا منه شيئاً ) النساء : 20 } . إلا إذا رضيت هي . ( فإن طبن لكم عن شيء منه فكلوه هنيئاً مريئاً ) { النساء : 4 } ثم انه قد تكون بينكما شروط غير ممنوعة . مثل ...؟  مثل أن تحتفظ هي لنفسها بحقّ  فسخ الزواج . أما الفروق الأخرى فستعرفها في مستقبل حياتكما الزوجية إن شاء الله  .

وينعقد العقد ويفرح العروسان ويشهران زواجهما بأن يدعوا الأهل والأصحاب إلى وليمة عامرة بكل طعام وشراب اهتديا إلى أنه يسر المدعوين " عقلاً ومصلحة وهوى وشهوة " فلا يتركهما الإسلام إلى ما اهتديا  . إذ يراهما يكادان يسرفان إنفاقاً فيأمرهما بعدم التبذير . ( إن المبذّرين كانوا إخوان الشياطين ) { الإسراء :27 } أو يكادان يقتران فينّبههما الإسلام إلى أن منع التبذير لا يعني إباحة التقتير : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) { الفرقان : 67 } ؛ ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) { الإسراء : 29 } .  فيهتديان ويولمان  .

ويراجع الإسلام قائمة الطعام والشراب خشية أن يكون " العقل والمصلحة والهوى والشهوة " قد دسّت في الشراب خمراً ( أو مخدّرات ) ( يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) { المائدة : 90 } أو دسّت في الطعام مما حرّم على المسلمين ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ){ المائدة : 3  . 

148 ـ وتجري الحياة بالزوجين على قاعدة المساواة بينهما . ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) { البقرة : 228 } . والتعاون على ما فيه حفظ المودة والرحمة بينهما ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) { الروم : 21 } . ( هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن ) { البقرة : 187 } ، بدون عدوان ، ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) { المائدة : 2 } . ويترك لهما بعد ذلك أن يدبّرا حياتهما معاً على ما يرضيهما بدون شذوذ عما تجري به أفضل التقاليد في مجتمعهم ( وعاشروهن بالمعروف ) { النساء : 19 } . ويحذّر صاحبنا خاصة من نزوات " هواه وشهوته " . ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) { النساء : 19 } . فإن اختلفا حتى كادا يفترقان فعلى أهلهما التدخل لإنهاء الخلاف صلحاً : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ، إن الله كان عليماً خبيراً ) { النساء : 35 } ؛ ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً ، والصلح خير ) { النساء : 128 } . ويحذر الإسلام الزوجة خاصة من أن تبالغ فيما تحمّل زوجها من نفقات نزقاً أو تظاهراً بثراء غير متحقق ، إذ ليس عليه إلا ( رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، لا تكلف نفس إلا وسعها ) { البقرة : 233 } . ثم يأمرهما معاً بألا يصلا فيما ينفقانه إلى حد التبذير : ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، وكان الشيطان لربه كفوراً ) { الإسراء : 27 } . وفي هذه الحدود ( لينفق ذو سعة من سعته ) { الطلاق : 7  }  

149 ـ  فإذا لم يستطيعا بعد كل هذا أن يعيشا معاً فلا إكراه في الزواج كما لا إكراه في الدين . ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) { البقرة : 229 } . ويأمر الإسلام بالثقة في صدق أسباب الافتراق إذا كانت الزوجة هي التي أرادته فيكون الفراق بائناً . ولكنه يحتاط ضد نزوات هوى الرجل فيأمر بأن ( الطلاق مرتان  )  { البقرة : 229 } فإذا أعاد إليه مرة ثالثة ( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ) { البقرة : 230 } . وللزوجة دائماً حق إنهاء العلاقة الزوجية بالخلع ، أو إذا احتفظت به في العقد ، أو إذا كان استمرار الزواج يسبب لها ضرراً ( فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ) { البقرة :  231}  .

150 ـ  ولكن صاحبنا لا ينفصل عن زوجته لأنه لا يتبع مجرد ما هداه إليه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " حينما يتعارض مع الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام منظمة للزواج وفيما بين الزوجين ، بل يستمر وينجب بنين وبنات يتأدبون بآداب الإسلام التي قرنت بين الإيمان بالله وعدم الشرك به وبين الإحسان بالوالدين . ( لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ) { البقرة : 83 } . ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) { النساء : 36 } . ( قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) { الأنعام : 151 } . ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ، اما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربيّاني صغيراً ) { الإسراء  : 23 ، 24 } . ولكن في حدود الإيمان بالله : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسناً . وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) { العنكبوت : 8  }   .

ولقد تشبّ لصاحبنا ابنة ويجيء إليه من يخطبها ، فتقبل ، ولكنه حين يتشاور مع زوجته يتفقان على إرجاء الزواج . فيقول هو حتى تكمل تعليمها ، وتقول هي : ولتبقى تساعدني في المنزل في غير أوقات الدراسة . ويتّبعان ما هداهما إليه عقلهما ومصلحتهما ، وتغيب عنهما نواميس الحياة التي يحجبها الحياء ، فيردّهما الإسلام إلى ما غاب عنهما . ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً ) { النور : 33 } فيفهم الزوجان ما أراد الله أن ينبّه إليه . فيأذن الوالد وينعقد العقد ويبدأ تكوين أسرة جديدة طبقاً لذات الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام وحكمت حياة أسرة صاحبنا . 

151 ـ غير انه ما تكاد الأسرة الجديدة تتكون حتى ينهدم ركن أسرة سابقة . فقد يجيء الخبر بوفاة والد صاحبنا ويحزن صاحبنا هو وأقاربه ثم يجتمعون ليروا ماذا يفعلون بما ترك المتوفي من مال . ويكادون يقتسمونه على ما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم وأهواؤهم ، ويدّعي كل واحد بأنه قد أبرّ المتوفي أكثر من غيره ، أو أن المتوفي كان يبرّه أكثر من الآخرين ، ويحتج بعضهم بأنهم أشد حاجة إلى المال من غيرهم ، ويتساءل أحد الحاضرين عما يكون من أمر الصغير اليتيم ابن المتوفي . ويكادون يتنازعون . فلا يتركهم الإسلام لعقولهم ومصالحهم وأهوائهم بل يقول لهم : أولاً : لا يرث أحدكم شيئاً قبل أن يستوفي غير الوارثين حقوقهم . إذ لا ميراث إلا ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) { النساء : 12 }  ثانياً : أما بعد ذلك فدعكم الآن من عقولكم ومصالحكم وأهوائكم التي لا تتفق أبداً ، واقتسموا المال الموروث طبقاً لما يلي : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كنّ نساءّ فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ، فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، من بعد وصية يوصي بها أو دين ، آباؤكم وأبناؤكم ، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله ، إن الله كان عليماً حكيماً ) { النساء : 11 } . ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد ، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ، من بعد وصية يوصين بها او دين ، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ، وإن كان رجل يورث كلالة ، أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ، من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار ، وصية من الله ، والله عليم حليم ) { النساء : 12 } . ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، إن امروء هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ، وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذّكر مثل حظ الأنثيين ، يبين الله لكم أن تضلوا ، والله بكل شيء عليم ) { النساء : 176 }  فيأخذ كل صاحب حق حقه . ويمر ذلك الحدث بسلام دون أن يكون سبباً في الخلاف أو الفرقة او النزاع بين الأقرباء . فحتى الذين لا يصيبون من مال المتوفي شيئاً لا يتهمون من يصيبون منه بأن قد ظلموهم . ذلك لأن تلك شرائع الإسلام لا يضعها أحد منهم طبقاً لما يهديه إليه " عقله ومصلحته وهواه " ولا يفرضها على غيره . ولو يتركون لعقولهم ومصالحهم وأهوائهم  يتّهم بعضهم بعضاً . ولو يستبدلون بهذا النظام نظاماً موضوعاً يضعه الأقوى ويفرضه على الآخرين ، قد يبدلّون فيه من حين إلى حين تبعاً لتقلّب مصالحهم وأهوائهم وقوتهم  .

152 ـ  ثم ان الأقرباء الذين لا يصيبون من التركة ميراثاً لا يحرمون منها إن كانوا محتاجين ، لا هم ولا أولئك الذين لا يخفى عليهم ما راب في ثروة صاحبنا من بعد الميراث بحكم الجيرة . فصاحبنا مسلم وقد أمر بما أمر به المسلمون .  ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ) { النساء : 36 ، 37 } . ذلك لأن في مال المسلم القادر حقاً لمن حرم منه وسأله ، حتى لو لم يكن من ذوي القربي ( وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) { الذاريات : 19 } . على أي حال فإن ذوي القربى الذين لا يصيبون شيئاً من التركة ميراثاً ويحضرون قسمتها فيما بين الورثة يصيبون منها ما يرضيهم قلّ أو كثر ، نفاذاً للشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام . ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر ، نصيباً مفروضاً . وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفا ً) { النساء : 7 : 8   .} ويخرج كل هذا من نصيب صاحبنا . 

153 ـ أما نصيب أخيه القاصر اليتيم الذي وضع تحت وصايته فقد حرمت عليه الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام المساس به قلّ أو كثر . بل عليه أن يديره لحساب  صاحبه أحسن ما تكون الإدارة وأن يرده إليه حينما يبلغ الرشد كاملاً غير منقوص . ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ، وأوفوا بالعهد ، إن العهد كان مسؤولاً ) { الإسراء : 34 } ، بعد أن يقدم إليه حساباً عن كيف تسلّم المال ، وكيف أداره وكيف تطور زيادة أو نقصاً بين يديه وما إذا كان قد اقتطع منه اجر إدارة أم لا . ذلك لأن شرائع وقواعد وآداب الإسلام لا تكافئ مدير مال اليتيم بأجر إلا أن يكون فقيراً . ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ، ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيباً ) { النساء : 6 } . 

154 ـ  ذلك ما يكون من أمر صاحبنا في علاقاته بزوجه وبنيه وأقاربه وما يتداول فيما بينهم من مال ، مهراً أو ميراثاً أو وصية أو إحسانا ، أي علاقاته بأفراد أسرته والأقربين منه قرابة عصب أو قرابة رحم أو قرابة جيرة  .

أما العلاقة مع الآخرين ، مع الناس ، فهي علاقة عقود ( اتفاقات إرادية بين الراشدين بدون إكراه أو غش )  . ما هو محل أو موضوع أو مضمون تلك العقود ؟ يختلف الأمر في الزمان والمكان ، فلا نستطيع أن نتابع علاقات صاحبنا مع غيره إلا أن نعرف في أيّ مجتمع يعيش وفي أيّ زمان كان مجتمعه . ولما كانت الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام غير مقصورة على مجتمع معين أو زمان معين فإنها لم تأت مفصلة الأحكام ، ولكنها  - مع ذلك - لم تترك الناس لما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم واهواؤهم وشهواتهم ، بل فرضت قواعد من النظام العام يكون على صاحبنا أن يلتزمها أيّان كان  .

 فمصدر الرزق هو الطبيعة : الأرض والسماء والبحار والأنهار والأنعام . . . الخ ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ) { البقرة : 29 } . ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) { لقمان : 20 } . ( يأيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ) { البقرة : 168 } . ( ولقد مكّناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) { الأعراف : 10 } . . . الخ  .  

أما سبب الرزق فهو وحده العمل . ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) { النجم : 39 } . ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) { التوبة : 105 } . ولقد حرم الإسلام ثلاثة أنواع من الكسب تأتي جميعاً بدون أن يخالطها عمل . الأول الربا : ( أحل الله البيع وحرّم الربا ) { البقرة : 275 } . والثاني المقامرة . ( يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيكان فاجتنبوه ) { المائدة : 90 } والثالث المال غير المستحق بصرف النظر عن سبب عدم استحقاقه . ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) { البقرة : 188 } . أما الميراث فهو فائض تراكم عمل المتوفي بعد وفاته يؤول إلى من كان يعلم أنه آيل إليهم فكان - على وجه - يعمل لهم  . على صاحبنا بعد ذلك أن يرتزق بعمله ما يشاء . عمله الحالي ، أو الناتج المتراكم من عمله السابق ، وأن يتملكه . ولما لم يكن صاحبنا ولا غيره بقادر على أن ينتج وحده كل ما يحتاج الى استهلاكه ، فإنه يتبادل الخدمات والمنتجات مع غيره من العاملين والمنتجين . وكل تبادل عقد . وكل وعد بالتبادل عقد . وكل تبرع عقد . وكل فسخ للعقد هو عقد . وكل وفاء بعقد هو عقد . وهكذا يكتشف صاحبنا أن حياته كلها بكل ما فيها من علاقات مع الآخرين هي سلسلة لا نهائية من العقود المتجددة أبداً وأنها ليست إلا حلقة من سلسلة العلاقات الاجتماعية التي تشد الناس بعضهم إلى بعض حتى تحيلهم مجتمعاً بعد أن كانوا أفراداً ، وتقيد - في الوقت ذاته - بعضهم لحساب بعض ، فتحيا علاقاتهم نظاماً بعد أن كانت أهواء . وتجعل حياة كل واحد منهم متوقفة على حياة الآخرين ، فتحول دون " الفردية " التي تريد أن تخلي بين الفرد وبين ما يهديه إليه " عقله ومصلحته وأهواؤه ونزواته " .

يتذكر صاحبنا كلّ هذا كلّما قضم لقمة من خبز حصل عليه وفاء بعقد ؛ من تاجر أعد له مكاناً للبيع وفاء بعقد ؛ حمله إليه حامل وفاء بعقد ؛ وطحنه طحّان وفاءً بعقد ؛ في مطحنة يعمل فيها كل عامل وفاء بعقد ، ويديرها مدير وفاء بعقد ، ويحصّل أجور الطحن فيها صرّاف بعقد ، ويحمل الحب اليها ناقل وفاء بعقد ، تسلمه ممن حصده وفاء بعقد ، بعد أن كان رواه راو وفاء بعقد ، وزرعه زارع وفاء بعقد ، وحرسه حارس وفاء بعقد ، في أرض استغلها وفاء بعقد ، ليحصل من وراء ذلك على مال يوفي منه عقد شراء لقمة من خبز يقضمها .  وما كان للأول أو للأخير أن يقضم لقمة من خبز حين يجوع ، أو يشرب شربة ماء حين يعطش ، أو يلبس ، أو يسكن ، أو يطبب أو يداوي ، أو يعلّم أو يتعلّم ، أو يخترع أو يصنع ، أو يستهلك ، أو حتى ينام آمناً ، لو لم يكن مئات الألوف من الناس الذين لا يعرفهم كافة قد أوفوا بعقود قد عقدوها . فتكتفي الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام بأن تأمر بالمحافظة على سلامة هذه السلسلة اللانهائية من العلاقات الاجتماعية التي تنظم الأفراد فتحيلهم مجتمعا منظماً فتأمر المؤمنين جميعا أمراً : ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) { المائدة :1  .

وتزيد فتأمر بما يحول دون إعاقة الوفاء من نسيان أو مماطلة أو جشع فتأمر بالكتابة في الديون المؤجلة : ( إذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه ) { البقرة : 282 } . وتأمر بالرهن الحيازي في المنقول لضمان الوفاء في حالة غياب المدين ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة ) { البقرة : 283 } وتأمر بأن يكون البيع مشهودا : ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) { البقرة : 282 . } .

155 ـ  نكتفي بما تقدم من حياة مسلم ، تجري هادئة بدون أن يتعرض للعقوبات الجزائية . ولو شئنا لتتبعنا حتى يقضي توجهه مجموعة كثيفة من الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام . ولكن هذا يطول . ولقد رأينا كيف أن كل ما ضربناه مثلاً من الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام قد جاءت في صيغ آمرة أو ناهية أو مكملة . نعني بالمكملة ما تنظم أمراً إذا وقع بإرادة صاحبه ، ولكنها تترك أمر وقوعه أو عدم وقوعه لاختيار المسلمين . كما رأينا أن كل الشرائع والقواعد والآداب واردة على علاقة اجتماعية ، ثنائية أو جماعية ، وبالتالي فإن أمر التزامها أو إهدارها ليس متروكا لاختيار أحد أطرافها ، فرداً كان أو جماعة على ما تهديهم  إليه " عقولهم ومصالحهم وأهوائهم ونزعاتهم " . كلا . ان يلتزموها يستوفهم شركاؤهم فيها إلى التزامها ولو قتالاً . فتـنــبــثق " السلطة العامة " كضرورة اجتماعية لحراسة النظام وفرض نفاذ قواعده ولو بالإكراه . من هنا تعرف أن التكليف الصريح بإقامة سلطة عامة تزيّد غير بليغ ما دام الأمر قد جاء بأسبابها الموضوعية .

اما كيف تقوم هذه السلطة العامة ، فيتوقف جوابه على ماهية كل مجتمع وظروف الناس فيه المختلفة مكاناً ، المتطورة زماناً . فيكتفي الإسلام بما هو صالح للمحافظة على قاعدة المساواة بين الناس في أي مجتمع ، في أي مكان ، وفي أي زمان : الشورى: ( وأمرهم شورى بينهم ) { الشورى : 38 } . والعدل ( واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) { النساء : 58 } . وكلاهما " نظام " ، لهذا جاء التكليف به خطاباً للجماعة .  فالشورى نظام إجرائي لاتخاذ متعددين متساويين قرارت موحّدة . فهي غير مقصورة على تبادل العلم بمشكلة مشتركة ، ولا على تبادل المعرفة بحلولها المحتملة وأساليب تحقيقها ، ولكن هي في النهاية تعيين القرار الذي يرى كل مشارك أنه الحل الصحيح للمشكلة المعروضة وذلك " بالإشارة " به على الآخرين . والأمر بالشورى قطعي الدلالة على تحريم الاستبداد من ناحية ، ووجوب الشورى من ناحية أخرى ، في كل أمر ، أيا كان مضمونه ، يخص جماعة ، أيا كان عددهم . فيصبح إسناده إليهم فهو " أمرهم " جميعا وليس أمر أحد غيرهم  .

أما القرار الذي تسفر عنه الشورى فهو ملزم لكافة الشركاء في الأمر، للأسباب التي تحدثنا عنها من قبل ( فقرة 77 ) . فإن كان القرار مما لا ينهض به كل أصحابه ، دخل اختيار من يتولى القيام على تنفيذه في نطاق الشورى ، فإن اختاروه ، ثم قبل ، أصبح وليّ ذاك الأمر تفويضاً من أصحابه ملزماً بقرارهم وذلك من ناحيتين :

  الأولى ، أن مصدر شرعية ولايته تفويض محدد المضمون بالقرار ذاته ، فإن خالفه فقد شرعية الولاية  .

 الثانية ، ان مخالفة ما أسفرت عنه الشورى رجوع الى الاستبداد المحرّم أصلاً . فإن التزم حدود التفويض ، وما دام ملتزماً ، وجبت طاعته : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) {  النساء : 59 } . إذن هي طاعة الجماعة ، وإلا كان للجماعة أن تخلعه . أما كيف ؟ ومتى ؟ وأين ؟ ولماذا يتشاورون ؟ فمتروك لهم ، يلتمسون أصلح أسبابه في زمانهم ومكانهم مع جواز التفويض السابق والإجازة اللاحقة ، وفي هذا يكون أمرهم شورى بينهم أيضاً . إن الالتفات الى جواز التفويض السابق والإجازة اللاحقة يسهل فهم كيف كانت الشورى تتم على درجتين أو أكثر في الأمور المشتركة بين التجمعات القبلية إلى أن تصل إلى متحدث باسم القبيلة ، وكيف كانت تتم بين عدد محدود في مرحلتها الأخيرة وكيف كانت الثقة في القائد ، والمبادرة الى تنفيذ رأيه تفويضاً سابقاً أو إجازة لاحقة  . والعدل نظام إجرائي لبيان وجه الحق بين المختلفين فيه طبقا للقواعد المنظّمة لعلاقات الناس قبل الاختلاف وذلك بما يسمى الحكم " القضاء " ، ثم تنفيذ الأثر الذي ترتبه تلك القواعد في محلّه ولو بالإكراه . ويدهي أن كل هذا ، شورى وعدلا ، يجري ويدور في الحياة الدنيا . فالناس لا يتشاورون إلا في أمور الحياة . والناس لا يحكمون بين الناس إلا في الحياة . فكلاهما ، الشورى والعدل ، نظام للحياة الدنيا . ثم إنهما محددان بقواعد النظام العام الإسلامي ، فإن اختلف الناس فيما إذا كانا ، شكلاً أو موضوعاً - يتفقان أو لا يتفقان - وقواعد النظام الإسلامي كان فرضاً عليهم أجمعين أن يرجعوا إلى تلك القواعد في القرآن فثمة حكم الله : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)  {الشورى : 10} والناس لا يختلفون في شيء إلا في الحياة الدنيا  . 
( من كتاب عن العروبة والاسلام ) .                          


                                            ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق