دكتور عصمت سيف الدولة .
رأسماليون وطنيون .. ورأسمالية خائنة .
القضية والكتاب .
لأنني أكتب في الاقتصاد فأنني لا أحب المبالغة .. قد ألجأ الى التبسيط وصولا الى قارئ عادي لصحيفة .. ولكنني لا ألجأ للتضخيم أو التهويل ، فذلك نقيض المناقشة الاقتصادية الصحيحة .
وعندما قرأت هذا الكتاب استوقفني المقال الأول " جبهة القطاع العام " ... ثم استوقفني عنوان المقال الثاني : " رأسماليون وطنيون .. ورأسمالية خائنة .. " وتساءلت هل يدخل في ذلك شيء من الأدب السياسي .. والمبالغة النظرية ؟.. ثم قرأت ما جاء تحت العنوان ، فاكتشفت أنني قد أخطأت مرتين ..
خطأ أول . أنني لم أقدر بالضبط نوع المادة المطروحة فهي ليست حديثا في الاقتصاد . ولكنها حديث في السياسة وشؤون الوطن .. دون اهمال أو تهوين من الجانب الاقتصادي . انها توليفة " مستحبة " ولازمة عند اتخاذ القرار أو عند محاولة لفهم شامل .
أما الخطأ الثاني ـ فهو أن الريبة قد أخذتني لحظة وأنا أقرأ عنوان المقال الأول وعنوان المقال الثاني ..
فالدكتور عصمت سيف الدولة استطاع بالفعل أن يسمو بقضية القطاع العام من مجرد قضية اقتصادية فنية . أو قضية تهم العمال بالدرجة الأولى .. الى قضية وطن ، ومصير أمة . وبذلك استحق عليها القول " جبهة القطاع العام " . كذلك وبنفس المهارة .. تناول قضية الرأسمالية في الوطن العربي .. كحل وهمي وخائن لكل الأماني العربية .. وقدم الدليل على ذلك ، ولم يظلم الرأسماليين فقال : هناك رأسمالي وطني .. ولكن .. ليست هناك رأسمالية وطنية .. فهي بالضرورة وبالمصلحة مضادة لأماني الأمة في التحرر والوحدة والتقدم .
كتب الدكتور عصمت سيف الدولة مقاله الأول : " جبهة القطاع العام " في أبريل 1974 .. وقرأته في فبراير 1978 ، وأحسست أنني أمام مناقشة جادة لأحداث تجري اليوم ، براعة من الكاتب .. أم ايقاع بطئ للأحداث في مصر ؟..
كل من الجانبين قائم ، لكن الأهم ، وهو ما يثبته الكتاب أيضا أن ضخامة القضية هي السر وراء ذلك ... أنهم لا يستطيعون تصفية القطاع العام .. حتى لو أرادوا ذلك ، ولا يستطيعون الاستغناء عن جبهة القطاع العام في التقدم والتنمية حتى لو كانت العواطف والعقول تميل الى وجهة أخرى ..
لقد بدأ الأمر عام 1974 بالدعوة الى الانفتاح كمرادف لتنشيط القطاع الخاص والأجنبي .. على حساب دور القطاع العام .. وتبلور ذلك في فلسفة واضحة واتفاق صريح من البنك الدولي وصندوق النقد والمجموعة الاستشارية التي انعقدت في باريس . حدث ذلك في الشهور الأخيرة ، وخرجت الدعوة " لبيع بعض أسهم القطاع العام .. معاونة له وتعزيزا لموقفه المالي " !
وبين التاريخين ( 1974 ـ 1978 ) خرجت كل الحجج والحملات لإضعاف دور القطاع العام .. أو لتقويضه ان أمكن وراح صحفيون وكتاب يبشرون بالدور المنتظر للقطاع الخاص والأجنبي .. وراح آخرون يدينون الثورة لأنها سمحت للقطاع العام بأن يدخل كل المجالات .. وانتقد مسؤولون القطاع العام من نفس الزاوية . وهل يمكن أن يبيع القطاع العام السمك .. ويربي الدجاج والماشية ؟ !.. قالوا ذلك ، ومضت الدولة تزيد من مشروعات الدواجن .. ومن محلات بيع السمك .. !!
تحدثوا أيضا عن ضرورة أن يقتصر جهد القطاع العام على المرافق الأساسية أو ما يسميه رجال الاقتصاد بالبنية الأساسية .. وأن يترك النشاط كله بعد ذلك ، في الإنتاج والخدمات للقطاع الخاص .. لأنه مشغول بالتجارة والمضاربة والتهريب .. وأسعفهم القطاع العام فاستمر مستحوذا على أكبر نسبة من مشروعات التنمية .. !
وهكذا تستمر المسافة " بين الرغبة والثورة " .. انهم راغبون في تحول جذري .. ولكنهم غير قادرين عليه .. !
ومع ذلك ، فالحملات مستمرة ... ومن هنا ، تأتي أهمية هذه الصفحات ، انها صفحات غير متشنجة ، عملية ومقبولة لدى الأغلبية الساحقة . القطاع العام والقطاع الخاص .. كلاهما يوجد ولكن القيادة للأول .. لأنه ملك الشعب ، وله وظيفته الاجتماعية ..
الاستثمار المصري والاستثمار الأجنبي ، لا باس من ذلك ، ولكن .. في أي اتجاه يأتي الأجانب .. للمضاربة وزيادة الأسعار ونزع الأرباح أم للبناء ؟ .. وبأي أولويات يبنون .. وفي ظل أي قيادة : قيادة القطاع العام وتدعيما لها .. أم قيادة الوسطاء وعلى حساب القطاع العام ؟.. تلك هي القضية .
يقولون : هناك سلبيات للقطاع العام .. يخلطون الأوراق ، يصورون بعض الإجراءات كالحراسات كلازمة من لوازم القطاع العام .. رغم أنه لا علاقة بين الاثنين .
ويقول الكاتب : " نعم هناك سلبيات " .. ولكنه يفرق بين " نقد اشتراكي " مهمته الارتفاع بالبناء ، و" نقد رأسمالي " مهمته تقويض البناء . ويقول أن واجبنا أن نزيد النقد بهدف الإصلاح .. أن نعريه .. وأن نكشفه ، فالحل الرأسمالي لا يقدم لشعب مصر مستوى أفضل للمعيشة أو ذخيرة أكبر لخوض معركة من أجل التحرير والحرية .. يحاور الكاتب الطرف الآخر ، المهاجم للقطاع العام . يناقش " دعوى الربح " كفصيل أول وأخير للحكم على كفاءة القطاع العام . يناقش قضية التكلفة الاقتصادية والتكلفة الاجتماعية لكل من المشروع العام والمشروع الخاص .. يقدم نظرة جديدة لقضية الأجور والعمالة .. فتضخم عدد العاملين بالقطاع العام " ليس مشكلة زيادة في حجم العمالة .. لكنها مشكلة نقص في فرص العمل " . والأجور ليست عبئا على التكلفة بل هي جزء مقدم من عائد الإنتاج .. لمستحقيه " .
وبنفس المنطق الهادئ والمتكامل . منطق الأغلبية في مواجهة الأقلية المستفيدة ، يطرح د.عصمت سيف الدولة قضية الرأسمالية الوطنية في مصر والوطن العربي . وكما قال في المقال الأول أن القطاع العام ضرورة .. قال في المقال الثاني " والرأسمالية أمر غير ممكن " .. ولن تحقق الأماني الوطنية : سياسيا ، أو اجتماعيا ، أو اقتصاديا ..
أثبت الكاتب أن الرأسمالية لا تملك نظريا غير بديلين : أن تعمل متنافسة مع الرأسمالية العالمية .. أو تعمل متحالفة مع تلك الرأسمالية . والبديل الأول لم تعد قادرة عليه في أي بلد من " العالم الثالث " ، والبديل الثاني يعني التخلي عن الوطنية .
فراس المال لا وطن له ، والربح هو البوصلة ، والمصلحة الذاتية هي الأساس !!..
يعمل الرأسماليون متحالفين مع الأقوى ممن تتناقض مصالحهم مع التقدم العربي .. وممن يفيد التحالف معهم في مزيد من الأرباح .. وفي نفس الوقت يكرس الرأسماليون العرب دعوى التجزئة لأنها قد تعني ربحا أكثر .
وفي الحالتين .. فان الربح هو المستهدف . وفي الحالتين يكون ذلك على حساب أماني الشعب وتقدمه الاقتصادي والاجتماعي .
وأخيرا ..
فهذا كتاب ضروري ، وسيبقى كذلك لفترة طويلة ، ميزته : المنطق المتكامل .. والبحث الشامل . لقد دافع كثيرون عن القطاع العام .. وهاجم كثيرون الرأسمالية العربية .. ولكن ، قليل من صاغ ذلك بشكل إجمالي ليعطي وجهة نظر مكتملة وواضحة .. ووجهة نظر اشتراكية .. أمام وجهة نظر رأسمالية ..
وقد تكون هذه الميزة ، ميزة الكاتب ـ لا الكتاب فحسب ـ لأنه بجوار كونه مفكرا وكاتبا سياسيا ومهتما بشؤون الوطن والأمة .. فهو من رجال المحاماة والقانون .. وقد كانت قضية د.عصمت سيف الدولة هذه المرة : " القطاع العام " .. و" القطاع الخاص " .. في مصر والوطن العربي " .
هل يكسب القضية .. عند القارئ ؟
أعتقد ذلك ...
محمد المراغي .
جبهة القطاع العام .
1ـ معركة 6 أكتوبر 1973 :
في 6 أكتوبر 1973 صدر الأمر إلى القوات العربية في جبهة قناة السويس وجبهة المرتفعات السورية المحتلة بالهجوم على العدو الصهيوني وبدأت الجولة العسكرية الرابعة من الصراع الطويل الذي بدأ منذ ربع قرن من أجل تحرير فلسطين واسترداد الأرض المغتصبة . ولم يبدأ القتال إلا بعد أن استنفد الرئيس أنور السادات ـ كما أعلن في مواقف عدة ـ كل الأساليب والوسائل الدبلوماسية الممكنة للحد من تحيز الولايات المتحدة الأمريكية للصهاينة المعتدين وتأييدها الشامل ( من رغيف العيش الى المدفع ) لمقدرة المعتدين على البقاء في الأرض المحتلة . وإفشالها كل المحاولات الدولية لتحرير الأرض سلميا .
وفي ست ساعات كانت القوات العربية في الجبهة الجنوبية قد عبرت القناة ودمرت خط بارليف الحصين وطاردت القوات الصهيونية شرقا وكبدتها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات وقضت نهائيا على أكذوبة جيش إسرائيل الذي لا يقهر . وقبل أن تمضى ثلاثة أيام من بدء المعركة كانت القوات العربية في الجبهة الشمالية قد اجتاحت المرتفعات المحتلة وصبت نيرانها على المستعمرات الصهيونية القائمة على أرض فلسطين ذاتها . وبدأ كما لو كانت معركة التحرير التي انتظرها الشعب العربي طويلا قد بدأت وأنها لن تتوقف دون غايتها . وكانت غايتها المعلنة تحرير الأرض شبرا شبرا مهما تكن التضحيات تحت شعار المرحلة : ” ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة “ .
غير أن الأمور لم تجر على هذا الوجه . ففي 22 أكتوبر 1973 اتفقت الولايات المتحدة الأمريكية واتحاد الجمهوريات السوفيتية ووافقت مصر على إيقاف إطلاق النار والبدء فورا في تنفيذ قرار مجلس الأمن الصادر في نوفمبر 1967 . وبرر رئيس جمهورية مصر العربية قبوله إيقاف إطلاق النار بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد دخلت الحرب بكل ثقل معداتها الى جانب الصهاينة وأنه لم يكن في حسابه لقوى المعركة قد توقع أن يحارب أمريكا . وأنه قد تلقى من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي معا ضمانا بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 . وهكذا انتهت الجولة العسكرية الرابعة وعاد الصراع الى ساحات الدبلوماسية ومازال ينتظر جولاته المرتقبة في مؤتمر جنيف … ولكنها ليست عودة الى ذات الصراع الدبلوماسي كما كان معروفا من قبل ، إذ يقال أن الولايات المتحدة الأمريكية قد غيرت موقفها تماما .. فهي الآن غير منحازة ضد الحق العربي بل هي ضامنة له عاملة بجدية على تحقيقه .. وبالرغم من أن هذا الذي يقال قد يكون موضع خلاف فأن الذين يؤكدون صحته ويقيمون حسابات المستقبل على أساسه يطلبون من الشعب أن يحافظ على وحدته الوطنية ويكف عن التشكيك ويثق في قيادة 6 أكتوبر .. وهو طلب مدعوم بقانون الوحدة الوطنية الذي صدر في أغسطس 1973 في دورة طارئة لمجلس الشعب . والقانون في جملة نصوصه يعاقب كل من يحاول مناهضة السياسة المعلنة للدولة أو ينال من الوحدة الوطنية لقوى الشعب العاملة ، وقوى الشعب العاملة تشمل ـ كما هو معروف ـ العمال والفلاحين والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية ، وما يزال الشعب ينتظر نهاية الجولة الدبلوماسية أو بداية الجولة العسكرية الخامسة .
في هذا المناخ القلق المعبأ بأقوى الاحتمالات أثرا على المصير القومي . والذي ما يزال عبقا برائحة الدماء الذكية لآلاف الشهداء ، بدأت فئة من الناس ـ فور إيقاف إطلاق النار ـ في شن حملة شعواء ضد القطاع العام وكل المنجزات التقدمية التي تمت في العشرين سنة الماضية ، وفي هذا الحديث نريد أن نقيم هذه الحملة ونضعها موضعها الصحيح من الصراع الدائر حول المصير القومي ، وقد اخترنا الحملة ضد القطاع العام دون غيره من الموضوعات الأخرى ، لأننا نعتقد أن الذين يهاجمون القطاع العام يلعبون لعبة خطرة قد تتجاوز آثارها الحدود الضيقة التي يقف عندها نظرهم القصير ، وأنهم إذ يختارون هذا الوقت بالذات للهجوم على القطاع العام يكشفون عن حقيقة مفزعة قد تتجاوز القضايا الاقتصادية وتتناول تناولا مباشرا قضية التحرير ذاتها ، أي أن اللعبة الخطرة لا تدور حول مصير القطاع العام بل تدور حول مصير الوطن ذاته . لهذا اخترنا له عنوانا ” جبهة القطاع العام ” . ولنبدأ بمعرفة القطاع العام .
2 ـ القطاع العام :
المفهوم المباشر للقطاع العام أنه مجموعة من المؤسسات المالية والصناعية والزراعية والتجارية تملكها الدولة . إنه ممتلكات الدولة في حقل النشاط الاقتصادي ، هذا المفهوم المباشر ليس هو كل ما يعنيه القطاع العام . إنما يكمله الدور الذي تقوم به تلك المؤسسات المملوكة للدولة في عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي . التأميم في حد ذاته ، أو ملكية الدولة لمصادر الإنتاج أو أدواته ووسائل توزيعه لا يعني شيئا خاصا بعيدا عن الوظيفة الاقتصادية التي تباشرها الدولة من خلال المؤسسات الاقتصادية المملوكة لها . وتتوقف هذه الوظيفة بدورها ، لا على النوايا الذاتية أو الشعارات المرفوعة بل على نوع القوانين الموضوعية التي تحكم حركة البيئة الاقتصادية في مجتمع معين . وفي هذا تفترق النظم الاقتصادية .
ففي النظام الرأسمالي يكون القانون الأساسي للنشاط الاقتصادي كله هو المنافسة الحرة بقصد الحصول على الربح . وفيه تتولى المنافسة الحرة في السوق توزيع قوى الإنتاج من رؤوس أموال سائلة وثابتة وقوة عمل على تلك النشاطات الاقتصادية التي تدر أكبر قدر من الربح . وتدار المشروعات الاقتصادية داخليا ( تقسيم رأس المال الى ثابت واحتياطي ، وحجم العمالة ، ونوعها ، وتقسيم العمل ، وساعاته ، ومستوى الأجور … الخ ) على الوجه الذي يؤدي الى أكبر قدر من الربح . والربح هو الفرق بين سعر تكلفة الإنتاج في وحدة اقتصادية معينة وبين سعر بيع المنتجات في زمن معين .
في هذا النظام لا يتجه النشاط الاقتصادي ولا يمكن أن يتجه إلى إشباع الحاجات المادية والثقافية المتزايدة للشعب ككل إلا بصفة تبعية أي بشرط أن يكون أولا وقبل كل شئ ” مربحا ” . وهذا هو مبرر القول بأن رأس المال لا وطن له . بمعنى أن باعث الربح هو الذي يحركه ويحدده نطاق ومدى حركته أما البواعث الوطنية ، أي التي تهم المجتمع ككل ، فإنها تخرج عن نطاق اهتماماته إلا إذا كانت الوطنية مربحة . ولا يتردد الرأسمالي لحظة واحدة في تصفية أي مشروع اقتصادي غير مربح ولو كان ينتج الخبز نفسه . كما أن المنتجات (السلع والخدمات) لا يتوقف إنتاجها كما ونوعا على كم ونوع الاحتياجات الاجتماعية لسواد الشعب ، بل على حجم ونوع الطلب . والطلب ـ في السوق ـ ليس مجرد تعبير عن حاجة اقتصادية بل هو حاجة اقتصادية مقترنة برغبة في الشراء والمقدرة على دفع الثمن . ولما كان السعر ـ في السوق الحر ـ يتأثر الى حد كبير بالطلب فان النشاط الرأسمالي يتجه في تحديد إنتاجه كما ونوعا الى إشباع احتياجات القطاعات الأكثر مقدرة على الشراء فيستثمر قدرا كبيرا من إمكانياته ، في إنتاج السلع الكمالية والترفيهية والتنافر الاستهلاكي المظهري في أوساط القطاعات الغنية . هذا بينما تبقى القطاعات محدودة المقدرة على الشراء خارج نطاق اهتماماته الرئيسية . ولكنه لا يستطيع أن يقاوم إغراء المضاربة على الاحتياجات الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها حتى من أكثر الناس فقرا كالمواد الغذائية والأقمشة الرخيصة والمشروبات الشعبية . إنه ينتج منها ما يكفي اعتمادا على استقرار الطلب ولكنه يفرض لها ما يريد من أسعار اعتمادا على أن الطلب عليها يكاد يكون معدوم المرونة أي لا يمكن الاستغناء عنها . وهو هنا يضارب على رغبة الناس في البقاء أحياء ليربح من ورائها .
ولا يرجع كل هذا الى جشع الرأسماليين أو قسوتهم أو عدم وطنيتهم فكثير من الرأسماليين يضربون خارج نشاطهم الاقتصادي أمثلة رائعة في الكرم والرحمة والوطنية . ولكنه يرجع الى النظام الرأسمالي ذاته . بمعنى أن باعث الحصول على الربح عن طريق منافسة الآخرين ، لا يسمح لأي رأسمالي إلا أن ينسى الكرم والرحمة والإنسانية والوطنية إلا إذا جاءت عرضا بمناسبة عقد صفقة رابحة . من هنا نجد أنه في كل المجتمعات الرأسمالية توجد أوجه نشاط حيوية بمعنى أنها لازمة لزوم الحياة للمجتمع ككل ومع ذلك يقال إنها ” غير اقتصادية ” بمعنى أنها غير مربحة ، كالمواصلات والطرق والمواني والإنارة والمدارس والجامعات والمستشفيات ودور الحضانة والنوادي الرياضية والحدائق العامة والثروات الكامنة في بطن الأرض أو في البحار والأنهار … الخ . كل هذه وأن كانت حيوية إلا أنها غير مربحة فلا تثير اهتمام الرأسماليين ويتركونها للدولة . ويسمونها ممتلكات عامة . وهو أول نوع من ملكية الدولة نلتقي به في النظام الرأسمالي . ولكنه ليس النوع الوحيد .. ففي كثير من الدول الرأسمالية ( مثل فرنسا ) تمتلك الدولة مشروعات اقتصادية تديرها بقصد الحصول على ربح أيضا حتى لو كانت مشروعات احتكارية إذ أنها في الحالتين ـ المنافسة والاحتكار ـ تترك للسوق مهمة تحديد نوع الإنتاج وكميته والى حد كبير أسعاره . وقريب من هذا ما كانت تفعله الدولة عندنا بطرح تأجير الأراضي الزراعية المملوكة لها في سوق المزايدة . إنها رأسمالية الدولة حيث تكون الدولة ذاتها مضاربا في السوق على احتياجات الشعب بقصد الحصول على ربح .
وهكذا نجد أنه في كل نظام رأسمالي يوجد نوعان من الملكية : ملكية فردية وملكية عامة ولكنها نوعان متوازيان أو متنافسان ويخضعان في حركتهما الاقتصادية لقانون أساس واحد هو المنافسة الحرة في السوق بقصد الحصول على ربح ولا يقال لما تملكه الدولة في هذا النظام قطاعا عاما حتى لو أسميت ـ كما تسمى عادة ـ ممتلكات عامة .
3 ـ أما فى النظام الاشتراكي فإن البنية الاقتصادية كلها تخضع في حركتها لقانون أساسي آخر هو قانون ” التخطيط الشامل من أجل إشباع الاحتياجات المادية والثقافية المتزايدة للشعب كله ” فتوزيع الاستثمارات المتاحة على مصادر الإنتاج وترتيب أولوياته وحجمه ونوعه وأسعاره وحجم العمالة ونوعها وتقسيم العمل وساعاته والأجور .. الخ . كل هذا يكون مقررا اقتصاديا ومقررا بقانون ملزم يسمى الخطة الاقتصادية قبل أن تبدأ عملية الإنتاج فالتوزيع فالاستهلاك . أما مضمون الخطة ومراحل تنفيذها وأهدافها المتتالية فتتوقف على الإمكانيات المتاحة والمتوقعة للموارد الاقتصادية والاحتياجات الشعبية في كل مجتمع على حدة . وفي هذا تختلف المجتمعات ولو كانت كلها اشتراكية . ويختلف مضمون التخطيط من مرحلة الى مرحلة في المجتمع الاشتراكي الواحد .
هذا هو النظام الاشتراكي ، وهو يحتاج الى إيضاح ..
نحن نعرف أن الاشتراكية كنظام اقتصادي ، أو النظام الاشتراكي كما نفضل أن نسميه ، أي نظام توظيف الموارد المادية والبشرية المتاحة في مجتمع معين لتحقيق غاية معينة طبقا لخطة اقتصادية شاملة لم يكن معروفا في الدراسات الماركسية إلى ما بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 ، كان ماركس وانجلز ومن بعدهما الى لينين يعرفون معرفة علمية أن الفاعلية التلقائية للنظام الرأسمالي كما هو ستؤدي الى القضاء على المنافسة الحرة فيه وتحوله الى نظام احتكاري للتحكم فيه قلة تملك أدوات الإنتاج ملكية خاصة . في أغلبية الشعب الذين لا يملكون إلا قوة عملهم ليبيعوها بالسعر الذي يحدده مالكو أدوات الإنتاج ، وأن ذلك سيؤدي ـ في حينه ـ الى ثورة تقوم بها البروليتاريا ، غايتها إلغاء الملكية الخاصة . وعلى هذا الأساس توقع ماركس قيام ثورة البروليتاريا في المجتمعات التي تنضج رأسماليا وبعد أن تنضج وليس قبل هذا . وهو توقع صحيح تماما فيما لو تركت القوانين الرأسمالية لفاعليتها التلقائية . ولم يكن ماركس وانجلز ومن بعدهما الى لينين قادرين بحكم التزامهم في التوقع منهج المادية الجدلية ، على توقع تدخل مؤثر غير أدوات الإنتاج يفرض إرادته ويحول دون أن يصل النظام الرأسمالي الى نهايته المأساوية ، الى أن فطن لينين الى مقدرة الإنسان فأنجز الثورة الاشتراكية قبل نضج الرأسمالية في روسيا القيصرية . ولم يكن الاعتراف بمقدرة الإنسان على قيادة حركة التطور إلا مفتاحا لباب التخطيط الاقتصادي .
المهم أن ماركس ومن بعده الى لينين لم يقولوا شيئا يذكر عن النظام الاقتصادي الذي يتلو ثورة البروليتاريا وإلغاء حكم الملكية الخاصة . وبالتالي نستطيع أن نقول أنه ليس في التراث الماركسي كله السابق على ثورة سنة 1917 نظرية اشتراكية ، نعني نظرية إقامة نظام اشتراكي . ولا يرث الماركسيون من تلك المرحلة الا مقولات فلسفية منهجية فيقال لهم ” ماركسيين “. يقول أوسكارلانج الاقتصادي الماركسي ،” إن مؤسسي الاشتراكية العلمية ماركس وانجلز كرسا جهودهما لتحليل الاقتصاد الرأسمالي . أما فيما يتعلق بالاقتصاد الاشتراكي فقد اقتصرت مساهمتهما على إيراد بعض الملاحظات العامة ورفضا من حيث المبدأ الدخول في التفاصيل وذلك خشية القيام بعمل غير علمي والانحراف وراء الخيال ( أبحاث في التخطيط والاقتصاد الاشتراكي ) .. وينقل عن الماركسية روزا لوكسمبورج قولها : ” أن الاقتصاد السياسي ينتهي دوره في اللحظة التي يزول فيها اقتصاد الرأسمالية الذي تسوده الفوضى “. ويضيف ” أنها كانت تظن أن علاقات الإنتاج في ظل الاشتراكية تكون من الوضوح والبساطة بحيث لاتكون هناك حاجة الى علم خاص للاقتصاد السياسي “. كانت الاشتراكية الى ما قبل التجربة السوفيتية تعني ـ إذن ـ إلغاء الملكية الخاصة ، وبالرغم من أن كثير من الماركسيين ما يزالون ـ حتى يومنا هذا ـ معلقين على شماعة ” إلغاء الملكية الخاصة ” ، فإن تجربة الاشتراكيين لم تقف عند حدود الكلمات السلبية .
بعد الثورة كان على الاشتراكيين أن يقيموا ” نظاما اقتصاديا اشتراكيا “. أي أن يحولوا الاشتراكية الكلمة الى نظام اشتراكي للحياة . وقد بدأت التجربة متعثرة وجزئية وأسفرت بعد سنين طويلة من المعاناة الفكرية والتطبيقية عن نظام يسيطر فيه الإنسان ( المجتمع المنظم ) على قوانينه الاقتصادية ويستخدمها بنجاح في تحقيق إرادته وتطوير الحياة المادية على الوجه الذي يتفق مع تلك الإرادة . وسيلته في هذا التخطيط الاقتصادي الشامل . لهذا قلنا أن الاعتراف للإنسان بدور القيادة لحركة التطور كان مفتاح أبواب التخطيط . وهكذا ولد النظام الاشتراكي طفلا في سنة 1924 ثم نما واكتمل ويدخل الآن مباراة التنمية والتقدم بثبات ونجاح لا يترك مجالا للشك في أنه أفضل نظام وأرشده لتوظيف الموارد لإشباع الحاجيات المادية والثقافية المتزايدة للشعب كله في أي مجتمع . وتحت تأثير نجاحه يتراجع النظام الرأسمالي وتتدخل الدولة لسد ثغرات المضاربة وترقيع البناء الاقتصادي وإنقاذه من الأزمات الى حد تعطيل الأسواق الرأسمالية من حين الى حين ( قفل البورصات ) .
وهكذا ، عندما نتحدث ، الآن ، عن النظام الاشتراكي في سياق الدفاع عن القطاع العام وكمقدمة لهذا الدفاع نرجو ألا يحتج علينا بالمقولات الماركسية الفلسفية والمنهجية التقليدية إذ لا علاقة لها بالنظام الاشتراكي . كما نرجو ألا يحتج علينا بعثرات التجارب الاشتراكية الأولى فنحن غير مسئولين عنها ولا نأخذ بها إنما نأخذ بمحصلة تجارب ومعاناة الاشتراكيين في العالم كله وخاصة في الاتحاد السوفيتي ، الاتحاد السوفيتي الذي كان أكثر منا تخلفا بمراحل منذ نصف قرن فأصبح ـ كما يسميه أعداء النظام الاشتراكي ذاته ـ إحدى القوتين الأعظم . كما نرجو أن يتنحى الماركسيون التقليديون قليلا ليتركوا للنظام الاشتراكي وحده مهمة الدفاع عن القطاع العام . إذ أن الهجوم الشرس الذي يشنه الرجعيون على قطاعنا العام أخطر وأكثر جدية من استعراض عضلات المثقفين في كلمات كبيرة . إنها ليست معركة كلمات تهم جماعة المثقفين بل هي معركة حياة أو موت تهم الشعب كله .
النظام الاشتراكي ، إذن ، أو الاشتراكية العلمية إذا سمح لنا باستعمال هذا التعبير ، ليست مجرد إلغاء الملكية الخاصة لبعض أو حتى لكل أدوات الإنتاج بل هي ” التغلب على تلقائية التطور الاجتماعي بإقامة نظام من علاقات الإنتاج تؤدي فيه القوانين الاقتصادية عملها بطريقة يقصدها الإنسان ” و “الشرط الأساسي للتحكم في أسلوب سير النظام الاجتماعي هو تقرير الملكية العامة لوسائل الإنتاج الرئيسية مما يؤثر في البواعث الاقتصادية بحيث يكون رد الفعل من جانب الشعب إزاءها متمشيا مع إرادة الشعب المنظم ” (أوسكار لانج ـ الاقتصاد السياسي ) . ولا يكفى لهذا التحكم مجرد ” ملكية الدولة لبعض وسائل الإنتاج ، بل لا بد أن تكون ” وسائل الإنتاج والمبادلة الأساسية بيد المجتمع لا بيد الأفراد ” لكي يستطيع المجتمع ممثلا في دولته الديمقراطية أن يتحكم في النشاط الاقتصادي ويوجهه طبقا للخطة الاقتصادية الشاملة . إذ ” أني ألح في إبراز التعارض الجوهري الذي يرتكز عليه التمييز بين اقتصاد مخطط واقتصاد غير مخطط ألا وهو التعارض بين مجتمع اشتراكي ومجتمع رأسمالي “( شارل بتلهايم ـ التخطيط والتنمية ) .
مؤدى هذا أن ملكية الدولة في النظام الاشتراكي ليست عبئا خاسرا اقتصاديا ولا مشروعات مضاربة في السوق بقصد الربح ، ولا عداء ميتافيزيقيا للملكية الخاصة . بل هي أداة المجتمع في التأثير في النشاط الاقتصادي بحيث يتجه الى الغاية المحددة في الخطة الاقتصادية الشاملة التي عرفنا أنها إشباع الاحتياجات الشعبية المادية والثقافية ، وعندما توجد هذه الملكية العامة كما ونوعا بحيث تكون قادرة على تأدية وظيفتها ـ وهي تختلف كما ونوعا باختلاف درجة تطور ونمو البيئة الاقتصادية في كل مجتمع على حدة ـ لا يضير النظام الاشتراكي أن تتواجد بجوار الملكية العامة ملكيات خاصة . لقد أصبح هذا مسلما به في الاقتصاد الاشتراكي وفي كل الدول الاشتراكية ، لهذا لا يقول أحد اليوم بإلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ” الأساسية ” . لا أحد يماري في هذا . ففي كل الدول الاشتراكية ملكيات فردية وملكيات تعاونية ، والملكيات التعاونية هي ملكيات فردية . بل أن في بعض الدول الاشتراكية ملكيات رأسمالية تتميز بقوة خاصة في ألمانيا الديمقراطية . وتلعب الملكية الرأسمالية دورا هاما في الصين الشعبية .. الخ أكثر من هذا فإن تطور علم الاقتصاد الاشتراكي قد انتهى الى إمكان “توظيف ” المنافسة الحرة ذاتها في سوق محدودة من أجل خدمة الخطة الاقتصادية الأمر الجوهري هو أن يكون المرجع في القرار الاقتصادي في القطاع العام والقطاع الخاص كليهما الى الخطة الاقتصادية التي يقوم القطاع العام بدور قيادة تنفيذها .
نقول القطاع العام والقطاع الخاص ولم نقل ملكية الدولة أو ملكية الأفراد ، لأن هنا في النظام الاشتراكي يكمن مفهوم القطاع العام . إنه قطاع عام في دائرة اقتصادية واحدة تحكم حركتها خطة اقتصادية واحدة ينتمي إليها القطاع الخاص ولكنه يخضع لذات الخطة ويتولى الشعب ممثلا في دولته الديمقراطية التحكم في حركة الدائرة الاقتصادية ، أي تنفيذ الخطة ، من خلال ملكيته للقطاع العام . وهو ما يعني ـ اقتصاديا ـ سيطرة الشعب بواسطة القطاع العام على القطاع الخاص وتوظيفه في خدمة الخطة الاقتصادية الشاملة ، القطاع العام ـ إذن ـ ليس نفيا للقطاع الخاص كما أن القطاع الخاص ليس نفيا للقطاع العام ، في النظام الاشتراكي ، مادام القطاع الخاص تابعا ـ اقتصاديا ـ للقطاع العام .
4 ـ هنا نصل إلى أولى النتائج التي تهمنا في هذا الحديث ونعني بها فهم وتقييم النقد الذي يوجه الى القطاع العام ، فقد عرفنا أن القطاع العام هو ركن أساسي من أركان النظام الاشتراكي ذلك النظام الذي يحدد علاقته بالقطاع الخاص ، ويضع القطاع الخاص موضع التبعية الاقتصادية للقطاع العام الموكولة إليه مهمة وضع التخطيط الاقتصادي الشامل موضع التنفيذ ، فالموقف من القطاع العام هو في حقيقته موقف من النظام الاشتراكي ذاته ولا يمكن إلا أن يكون موقفا من النظام الاشتراكي ذاته لأنه لا معنى للقطاع العام إلا في النظام الاشتراكي . لا يعني هذا تحريم نقد القطاع العام أو حتى تحريم الدعوة الى تنمية وتنشيط القطاع الخاص . أبدا .
إن أول مسئوليات الاشتراكيين هي نقد القطاع العام لتقويمه لا نقده لنقضه . وقد يرون تنمية وتنشيط القطاع الخاص في ظل تبعيته للقطاع العام أي تبعا لاحتياجات القطاع العام في القيام بدوره القيادي . إنما تتحدد المواقف الحقيقية من النظام الاشتراكي لمن ينتقدون القطاع العام تبعا لموقفهم من ” علاقة ” القطاع العام بالقطاع الخاص على وجه التحديد .
كل نقد للقطاع العام يكشف أوجه قصوره عن أداء دوره القائد ويستهدف تنشيط قيادته للنشاط الاقتصادي وإحكام فاعليته في توجيه القطاع الخاص وتوظيفه ، وتنمية كفاءته الإنتاجية هو نقد بناء من أجل الاشتراكية .
وكل نقد للقطاع العام يستهدف تصفيته أو حصر دوره في النشاط الاقتصادي أو حتى إطلاق المنافسة بينه وبين القطاع الخاص والاحتكام في كفاءته الإنتاجية الى المعايير الرأسمالية هو نقد هدام من أجل الرأسمالية .
هذا موقف مبدئي قبل الدخول في التفاصيل ، وقد يردد الطرفان ، الاشتراكيون وأعداء الاشتراكية ، ذات الأخطاء المنسوبة الى القطاع العام وبالتالي تصبح مسلمة من الجميع ولكنهم لا يكونون ـ مع هذا ـ في موقف واحد من القطاع العام . طرف ينقد ليبني وطرف ينقد ليهدم . ويكون من الجوهري بالنسبة لأي اشتراكي أن يكشف من خلال نقد القطاع العام موقف صاحبه من الاشتراكية ليتخذ منه موقفا مناسبا . فهو إما معه أو ضده . لا يعني هذا أن يفتش الاشتراكيون في نوايا البشر خاصة وأن الكذب والنفاق والمخادعة ليست رذائل في عرف الرأسماليين بل هي شطارة وفهلوة وتكتيك . كيف يمكن ـ إذن ـ اكتشاف المواقف الصحيحة وفرز القوى التي تنقد القطاع العام مناهضة للنظام الاشتراكي من القوى التي تنقد القطاع العام تدعيما للنظام الاشتراكي ؟.. باستعراض أوجه النقد وأوجه العلاج . وفيما يلي ننقد ونعالج ونرد من موقف الدفاع عن النظام الاشتراكي .
5 ـ سلبيات مراحل التحول :
لا يتم التحول الاقتصادي أو الاجتماعي فجأة أو بقرارات شاملة وحاسمة ولو كانت قرارات ثورية . إذ أنه في ظل نظام اقتصادي معين تنمو وتستقر أنواع كثيفة من العلاقات القانونية والاجتماعية والثقافية والأدبية والتقاليد والأعراف ـ وبينما يمكن بقرارات تغيير علاقات الإنتاج ( إلغاء الملكية او تقييدها ) فورا يستحيل بقرارات فورية تغيير أدوات الإنتاج الموروثة من ناحية ، والعلاقات الاجتماعية والثقافية والأدبية … الخ ، التي كانت سائدة في ظل النظام الاقتصادي القديم .
هكذا تبدأ فترة التحول الى النظام الاشتراكي ومعها متاعبها .. أدوات الإنتاج عتيقة أو مخصصة للإنتاج الاستهلاكي ، وعلاقات اجتماعية وثقافية .. الخ استقرت على أسس رأسمالية ، ويكون على مرحلة التحول أن تطور أدوات الإنتاج وتغيرها نوعيا وتضيف اليها ما يتلائم مع مهمات الاقتصاد الاشتراكي وهي مهمة تستغرق وقتا غير قصير . كما يكون على مرحلة التحول أن تطور العلاقات الاجتماعية بما يتفق مع العلاقات الاقتصادية الجديدة وهي مهمة تستغرق وقتا أطول لاتصالها بحياة الناس وما تلقاه من مقاومة الذين استقرت حياتهم على أسس العلاقات القديمة . ولا بد من أن يتم كل هذا حتى يمكن القول بأن المجتمع قد انتقل من الطور الرأسمالي الى الطور الاشتراكي ، ويمكن تتبع سلبيات مرحلة التحول كما تتجسد فى القطاع العام على الوجه الاتي :
أولا : المنافسة بين القطاعين :
يبدأ التحول الى الاشتراكية بتغيير ثوري لعلاقات الإنتاج كما قلنا ، ويسفر هذا التغيير عن وضع خطة اقتصادية لتوظيف الموارد الاقتصادية وما يستلزمه هذا من تملك الدولة لوسائل الإنتاج الأساسية ، غير أنه في بداية فترة التحول لا تكون الخطة شاملة ولا يكون التأميم كاملا ويرجع هذا الى أسباب عدة أهمها التعامل مع الواقع الموضوعي بقدر ما يطيق وتجنب مخاطر القفز من مجتمع متخلف الى مجتمع متقدم قبل أن تتوافر للمجتمع الجديد دعامة البشرية والمادية . المهم أنه بالتأميم يزداد القطاع العام ولكنه لا يكون منفردا بل يواجه قطاعا خاصا نشيطا . ويبقى ـ طوال فترة التحول ـ قطاعات متوازيان ومتوازنان وبالتالي متنافسان . والمفروض أن تتضمن الخطة الاقتصادية حلولا متتابعة لمشكلة هذا الازدواج تنتهي بالسيطرة الكاملة للقطاع العام على القطاع الخاص ليستقر النظام الاشتراكي بدون متاعب . غير أنه الى أن يتحقق هذا الفرض يعاني القطاع العام من منافسة القطاع الخاص .. ولو ترك الأمر بينهما بدون دعم للقطاع العام فإنه يكون مقضيا عليه بالموت إذ أن المنافسة بين القطاع العام والقطاع الخاص لا تعني الا تصفية القطاع العام وبالتالي ردة الى الرأسمالية ، ذلك لان المنافسة مضاربة ، والقطاع العام بحكم طبيعته الاقتصادية والتزامه بتحقيق نتائج محددة فى أوقات محددة وارتباطه بالتخطيط لا يستطيع وليس مباحا له أن يضارب بينما المضاربة هي قانون القطاع الخاص . وفي سوق المنافسة الحرة حيث الغلبة معقودة لمن يتقن أكثر قوانين المضاربة تكون غاية القطاع الخاص اخراج القطاع العام من السوق أي تصفيته أو إفلاسه . وتدور أغلب مضاربات القطاع الخاص على الأجور ، أن الأجور في القطاع العام محددة ولكنها مستقرة هذا بينما الأجور في القطاع الخاص غير محددة وإن كانت غير مستقرة وتتم المضاربة على الأجور من ناحيتين :
الناحية الأولى : أن يجرد القطاع الخاص القطاع العام من أكفأ العناصر المنتجة فيه عن طريق تشغيلهم في مقابل أجور مرتفعة . ويتحول القطاع العام الذي يتلقي وحده كافة الخريجين والعاملين الجدد الى مجرد قطاع للتدريب . ما ان تبدو فيه الكفاءات وتنضج حتى تتسلل منه الى حيث الأجور المرتفعة المعروضة من القطاع الخاص بدو أن يلتفت المتسللون الى أنها أجور مؤقتة ( مضاربة ) قد تكون معروضة من أجل إتمام صفقة واحدة ، أو لفترة محدودة ، وفي كل الحالات تنتهي بالفصل فجأة وبدون أية ضمانات . وتدخل سوق المضاربة على الأجور في القطاع العام حتى المؤسسات الرأسمالية الأجنبية ، فيتلقي القطاع العام خريجين جدد يوفدهم في بعثات فلا يعودون بعد أن انفق على تعليمهم ، جريا وراء الأجور المرتفعة المعروضة عليهم ، ثم يتوالى تسلل العناصر التي تعب القطاع العام والدولة في إعدادها الى القطاع الخاص في الداخل أو الهجرة الى الخارج لأن سوق العمل ما تزال ـ في مرحلة التحول ـ مفتوحة للمضاربة على أجور العاملين .
الناحية الثانية : إغراء العاملين في القطاع العام بالاستفادة من استقرار الأجور في القطاع العام وارتفاعها في القطاع الخاص بأن تكون لهم علاقة عمل بالقطاعين في الوقت ذاته . ولما كان هذا الازدواج غير مشروع فإنه يتم باتفاقات غير مشروعة يعقدها القطاع الخاص خفية مع مديري القطاع العام وكبار العاملين فيه يدفع لهم بمقتضاها مبالغ طائلة في سبيل تسهيل نمو النشاط الخاص على حساب القطاع العام ( رشوة ـ عمولات ـ اختلاس مواد خام ـ مخالفة المواصفات ـ تأخر في التوريد ـ التواء مع العملاء ـ إباحة الأسرار .. الخ ) تهدف كلها الى اتجاه المستهلكين الى القطاع الخاص بدلا من القطاع العام ، لأن سوق البضائع والخدمات ما تزال ـ في مرحلة التحول ـ مفتوحة للمضاربة على المنتجات .
تؤدي هذه المضاربة الى كل تلك الظواهر المنحرفة التي يرددونها منسوبة الى القطاع العام تحت عنوان ” فساد القطاع العام ” ويقدمون له أمثلة عديدة من العجز والبطء واللامبالاة والاختلاس والرشوة وهجرة الكفاءات .. ويقدمون علاجا لهذا الفساد تصفية القطاع العام . يريدون أن يوهموا الناس أن القطاع العام بحكم طبيعته نظام فاسد يغري الأمناء بالانحراف وينفر الأكفاء من أبناء هذا البلد فيهاجرون هجرة داخلية أو خارجية .
الوقائع صحيحة بل نزيد عليها أنه إذ يستشري الفساد في القمة يكون صغار الموظفين والعاملين في القطاع العام معذورين إذا فتر حماسهم للعمل أو جنحوا الى اللامبالاة أو كفروا بالقطاع العام أو حتى بالاشتراكية ذاتها ماداموا يرون ويلمسون في الممارسة أن القطاع الاشتراكي يضع نفسه ، بالرغم منن كل ما يقال من كلام جميل في الوثائق الفكرية ، في خدمة الرأسماليين ولتنمية نشاطهم المستغل . وهكذا ينتقل الفساد من القمة الى القاعدة ، فما الحل ؟.
ليس الحل تصفية القطاع العام كله أو تصفية جزء منه ، وليس الحل المواعظ المنبرية عن الأخلاق والاستقامة . ولكن الحل ذو شقين :
الشق الأول : اختصار فترة التحول الى الاشتراكية بتوسيع نطاق القطاع العام وإحكام قبضته على القطاع الخاص وفرض سيطرته الشاملة عليه لتصل بأسرع ما يمكن الى النظام الاشتراكي الذي ينهي الى الأبد السلبيات الناتجة عن عدم اكتماله ومنافسة القطاع الخاص للقطاع العام ونحن فى الطريق إليه .
الشق الثاني : تحويل الفساد في القطاع العام الى شئ مستحيل أو خاسر ، وذلك بإخراج القطاع الخاص نهائيا وحسما من المجالات الاقتصادية الموكولة الى القطاع العام بحيث يصبح ، فعليا وقانونيا ـ مستحيلا ـ أن تنتقل قوة العمل أو الاستثمارات أو الأدوات أو البضائع أو الخدمات من القطاع العام الى القطاع الخاص أو العكس . بحيث يكون للقطاع الخاص مجالات محدودة ومحددة على سبيل الحصر ، مقصورة عليه وحده في الإنتاج أو التوزيع أو الاستهلاك . باختصار إلغاء كل إمكانيات المنافسة الظاهرة أو الخفية بين نشاط القطاع العام ونشاط القطاع الخاص حتى يصبح مستحيلا على القطاع الخاص أن يسرق من القطاع الخاص الكفاءات البشرية والمواد الخام والآلات والبضائع والزبائن فيستحيل وجود من يسرقون له أو يتآمرون معه من بين العاملين في القطاع العام .
أما التشهير بالقطاع العام من أجل تصفيته فهو موقف متناقض ومنافق وغير علمي وغير واقعي بالإضافة الى أنه موقف مناهض للاشتراكية .
أما أنه متناقض فلأنه يأتي من جانب القطاع الخاص وأنصاره أولئك الذين يجنون أرباحهم من الفساد الذي أحدثوه فى القطاع العام ليربحوا . إن تطهير القطاع العام من الفساد يعني أنهم لن يجدوا من يرشونه أو يساعدهم على اختلاس مواده أو بضائعه أو زبائنه ، تطهيره يعني خرابهم والواقع أنهم يشهرون به لا رغبة في تقويمه بل رغبة في تقويضه ليشتروه . كما يفعل تجار الماشية في أسواق الريف يكتشفون عيوبها ويبرزون عيوبا أخرى تمهيدا للشراء بأبخس الأثمان . وهو موقف منافق لأنهم يغلفون نقدهم بالحرص على مصلحة الشعب أو حتى بالحرص على ” الاشتراكية السليمة ” كما يسمونها فى حين أنهم لا يستهدفون ولا يمكن أن يستهدفوا إلا أرباحهم الخاصة ولو على حساب الشعب وضد أي مفهوم للاشتراكية . وهو موقف غير علمي لآنهم يتجاهلون فى إبرازهم للسلبيات الموجودة في القطاع العام الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها ومارس فيها نشاطه والمتاعب التي تخلفها تلك الظروف أمام القطاع العام في مرحلة التحول الى الاشتراكية . وهو موقف غير واقعي لأن تصفية القطاع العام مستحيلة . وسنعرف فيما بعد لماذا هي مستحيلة . أما أنه موقف مناهض للنظام الاشتراكي فهو يحتاج الى بيان ، إذ لا وجود للنظام الاشتراكي إلا بوجود قطاع عام ذي سيطرة شاملة وكاملة على كل النشاط الاقتصادي في المجتمع . وكل مناهضة للقطاع العام هي مناهضة للنظام الاشتراكي .
ثانيا : اختلاط الإجراءات الاقتصادية :
قلنا أن مرحلة التحول الى الاشتراكية تبدأ بتغيير علاقات الإنتاج بينما تبقى العلاقات الاجتماعية والثقافية والتقاليد .. الخ . بدون تغيير الى حين . وهذا يعني أن يواجه التحول الى الاشتراكية منذ مولده مقاومة من الذين ارتبطت مصالحهم بالأوضاع الاقتصادية السائدة من قبل ، وهم يستعملون في مقاومتهم كل الأسلحة المتاحة لهم ومنها القوة الاقتصادية . ويقتضي هذا شل مقدرتهم الاقتصادية على المقاومة تمهيدا لإعادة صياغة العلاقات الاقتصادية الجديدة . من هنا تختلط في بداية فترة التحول عدة إجراءات كلها اقتصادية وإن كانت مختلفة الغاية والصلة بالنظام الاشتراكي ، ونضرب لهذا مثلين :
الأول : الإصلاح الزراعي :
والإصلاح الزراعي يعنى تحديد حد أقصى للملكية الزراعية وتوزيع الفائض على المعدمين من العاملين فى الزراعة وبالتالي زيادة عدد ملاك الأراضي الزراعية . هذا النوع من الإجراءات الاقتصادية ليس وثيق الصلة بالنظام الاشتراكي ، فالنظام الاشتراكي لا يقبل ملكية الأرض . أعني ملكية الرقبة التي تعطي صاحبه الحق في المضاربة في السوق العقارية ( بيع ورهن ) ، وتقتصر الملكية على حق الانتفاع فقط بحيث تكون المحصلة النهائية هي أن يمتلك المنفعة بالأرض ( زراعتها ) من ينتفع بها فعلا ( يزرعها ) ، أما الإصلاح الزراعي الذي يوزع الأأرض ملكية خالصة ( رقبة وانتفاعا ) على المزارعين بعد أن يكون قد حدد ملكية الآخرين فإنه يستهدف ، ويؤدي بنجاح ، الى شل المقدرة الاقتصادية والاجتماعية لكبار ملاك الأراضي على قهر الفلاحين أو السيطرة على الدولة ذاتها . أنه تحرير للبشر من القهر الواقع عليهم وليس تنظيما للعلاقات الاقتصادية بين البشر المتحررين ، فهو يسبق التحول الاشتراكي ولكنه ليس داخلا في النظام الاشتراكي ذاته . إنما يخضع النظام الاشتراكي ـ يعد أن يقوم ـ لقوانينه الاقتصادية ( التخطيط ) الذي قد يوسف أو يضيق من ملكية الانتفاع بالأرض أو يقيم نظاما للانتفاع التعاوني بين المزارعين ، ولكنه في كل الحالات لا يسمح بأن تكون الأرض سلعة تباع وتشترى وترهن لحساب أحد ولا حتى من يزرعونها .
ولما كان الإصلاح الزراعي إجراءا اقتصاديا تحرريا فإن تقييمه على أساس العائد المقارن للإنتاج تقييم خاطئ ، هذا لا يعني أن عائد الأرض في ظل الإصلاح الزراعي أقل منه في ظل الإقطاع ، ولكن يعني أن تنمية العائد ليست مقصورة من الإصلاح بقدر ما هو مقصود تحرير الفلاحين من سيطرة كبار الملاك ، وشل مقدرة كبار الملاك على السيطرة على الدولة . على أى حال ، فإن الإصلاح الزراعي من إجراءات فترات التحول الى الاشتراكية وهو ليس من النظام الاشتراكي فى شئ فيخطئ من يضيف سلبياته الى ما يردده من نقد للقطاع العام وتدخل الدولة وإن كان غاية نقده هي ذاتها غاية نقد القطاع العام . مناهضة النظام الاشتراكي .
الثانى : الحراسات :
الحراسات هي رفع أيدي الملاك عن إدارة أملاكهم الموضوعة تحت الحراسة وإيكال إدارتها لمن تنتدبهم الدولة على أن تبقى الملكية للملاك أنفسهم ويحتفظ لهم بالعائد منها في حسابات خاصة ، وهو نظام لا يمت بصلة الى النظام الاشتراكي . فكل الدول تفرض الحراسات على أملاك أعدائها في أوقات الحروب بصرف النظر عن نظمها الاجتماعية . النظام الاشتراكي لا يعرف إلا تأميم الممتلكات اللازمة لتنفيذ الخطة الاقتصادية وهو ما يعني توظيف تلك الممتلكات بعد تأميمها لحساب الشعب وتحويل عائدها الى خدمات مثلها مثل أى مورد آخر . ولكن الأموال الخاضعة للحراسة تبقى بعيدة عن الخطة الاقتصادية ولا يعود على الشعب شئ من عائدها ، كما لا يعود على أصحابها ، فتكون النتيجة أن يستفيد منها القائمون على الحراسة ، ومع ذلك فهي إجراء قد تستلزمه فترة التحول الى الاشتراكية لشل مقدرة المالكين على مناهضة هذا التحول بتجريدهم من إمكانياتهم الاقتصادية .
وهي تؤدي هذه الغاية بنجاح وأن كان نجاحا غير حاسم ، إذ أن بقاء الأموال تحت الحراسة وما يعنيه هذا من أنها ما تزال مملوكة لأصحابها يمد من أملهم في استعادتها وبالتالي يبقى عليهم في مواقف المناهضة المتربصة بالنظام الاشتراكي . ولو حسم الأمر وصودرت منذ البداية لانتهى الموقف ولاءم أصحابها بين موقفهم والأوضاع الجديدة . على أى حال فإن الأموال التي تخضع للحراسة لا تخضع لها لاعتبارات اقتصادية وبالتالي فان تقييمها على أساسا عائدها الاقتصادي قبل أن توضع هو تقييم خاطئ . وفي أغلب الحالات إن لم يكن فى كنها تؤدي الحراسة الى تصفية الأموال الموضوعة تحتها ، أو سرقتها ، أو تخريبها لأن الحراس الذين حلوا محل الملاك في إدارتها ، في الوقت الذي يديرونها فيه بعيدا عن القطاع العام ورقابة الدولة ، يجدون أنفسهم ملاكا جددا لما لا يستحقونه الى أمد لا يعرفون نهايته ، فيكون همهم الأساسي الإثراء منها . ولقد صدر فى سنة 1964 القانون رقم 150 الذي صفى الحراسات تصفية صحيحة وتقدمية بأن قضى بملكية الدولة لكل الأموال الموضوعة تحت الحراسة فانضمت الى القطاع العام وأصبحت جزءا منه تحمل آثار تخريب الفترة السابقة وتمد الذين يشهرون بالقطاع العام بوقائع جديدة يحتجون بها لتصفيته . والواقع أن القطاع العام هو الذي يعانى مما فعله الحراس ولا ذنب له فيما فعلوه . على أي حال فإن الحراسات ليست من النظام الاشتراكي في شيء فيخطئ من يضيف سلبياتها الى ما يردده من نقد القطاع العام وتدخل الدولة وإن كانت غاية نقده هي ذاتها غاية نقد القطاع العام ، مناهضة النظام الاشتراكي .
6 ـ سلبيات التخلف :
عرفنا أن لمرحلة التحول الى الاشتراكية سلبيات بأخذها المناهضون للنظام الاشتراكي حجة للتشهير بالقطاع العام بقصد تصفيته . وأن علاج تلك السلبيات يكون بعكس ما يقولون تماما : توسيع نطاق القطاع العام ودعمه وإحكام قبضته على القطاع الخاص وتأكيد سيطرته على كل وسائل الإنتاج .
ولكن مرحلة التحول ليست هي المصدر الوحيد للسلبيات بل أن الظروف التاريخية التى يبدأ فيها التحول في مجتمع معين قد تحمل القطاع العام عبئا جديدا من سلبيات لا يد له فيها وذلك عندما يبدأ التحول الاشتراكي في مجتمع متخلف بشريا أو اقتصاديا ، وتقدم مصر نموذجا لسلبيات منسوبة الى القطاع العام والنظام الاشتراكي في حين أن أسبابها تمتد الى ما قبل 1952، الى ذات المجتمع الرأسمالي الذي يشهر أصحابه بالقطاع العام .
أولا : التخلف البشري :
قبل سنة 1952 كان النظام كله دستوريا وقانونيا واقتصاديا وفكريا وثقافية وإعلاميا مناهضا للاشتراكية . كانت الاشتراكية محرمة تحريما قاطعا . وبعد سنة 1952 ، والى أن بدأ التحول الاشتراكي ، كانت الثورة تحاول بكل وسيلة ممكنة أن تنجز أهداف التنمية بموارد وعلاقات رأسمالية . ولم يبدأ التحول الاشتراكي إلا بعد أن فشلت فشلا ذريعا كل أوهام التنمية الرأسمالية . وكان من نتيجة هذه المراحل التاريخية المتتابعة أن بدأ التحول الاشتراكي بدون أن تكون قد توافرت فى المجتمع كوادر اشتراكية ( اقتصاديون ومهندسون وعلماء وعمال .. الخ ) . كان لدينا تخلف بشري مريع فيمن يستطيعون أن يعرفوا ما هو النظام الاشتراكي وكيف يبنوه ـ فلما أن ولد القطاع العام تولي قيادته الرأسماليون البيروقراطيون أو الموثوق فيهم حتى لو كانوا غير موثوقي الكفاءة . بل تولى قيادته بعض من أعدى أعداء الاشتراكية ، فكانت النتيجة أن أصبحت قيادة القطاع العام عبئا على فاعليته لعدم إيمان القائمين عليه بجدوى هذه الفاعلية . وكانت عونا عليه للقطاع الخاص لانتماء القائمين عليه وعيا ومصلحة للقطاع الخاص ، وأداروه إدارة رأسمالية لأنهم لا يعرفون من الإدارة إلا شكلها الرأسمالي . إنهم أولئك المديرون الذين يزيفون الميزانيات في القطاع العام لتظهر في حساباتهم أرباح صورية ويراوغون في حقوق العاملين حتى يكفروا بعلاقات العمل الجديدة فلا يبالون بالعمل ويتسببون بهذا في إشاعة الاضطراب في المؤسسات التي يديرونها ، لأنهم لا يعرفون مقياسا للنجاح الاقتصادي إلا المقياس الرأسمالي : الربح ، وهم أنفسهم الذين ينقدون القطاع العام لأنه يزيف الميزانيات ، وينقدونه لأنه لا يحقق أرباحا رأسمالية ، ويدعون الى تصفيته أو بيعه للقطاع الخاص ، وليس العلاج ما يقولون ، ولكن العلاج هو تطهير القطاع العام من الإدارة الرأسمالية وتولي الجيل الجديد إدارة القطاع العام . إنهم قد يخطئون كما يخطئ غيرهم ولكنهم لن يخربوا القطاع العام ، وفي كل الحالات سيكون القطاع العام بين أيديهم قطاعا اشتراكيا يدار اشتراكيا لقيادة التحول الى النظام الاشتراكي ، أما أن توكل إدارة القطاع العام الى أعداء الاشتراكية فهو لا يعني أكثر من تسليم أموال الشعب لأعداء الشعب . ولعل هذا العلاج أن يكون أكثر أوجه العلاج حسما في تطهير القطاع العام من كل سلبياته . إذ لا اشتراكية بدون اشتراكيين ، وقد آن الأوان لتصحيح الأخطاء التاريخية .
ثانيا : التخلف الاقتصادي :
لا يعني بالتخلف الاقتصادي ما يعنيه الرأسماليون من أن مجتمعنا لا يقدم للشعب كل ما تتمتع به الشعوب الأوروبية عامة ، والأمريكية خاصة ، ولا نعني انخفاض مستوى المعيشة في مجتمعنا عنه في تلك المجتمعات . ذلك التخلف الذي يريدون تجاوزه بأن يقيموا من القاهرة مدينة لناطحات السحاب وأن يدخلوا مع أمريكا مسابقة الرفاهية ، هذه أوهام غير علمية فنحن لسنا في سباق مع دول بنت رخاءها على حساب الشعوب التي استعمرتها ، إنما التخلف الذي نعنيه هو التخلف بمعناه الاقتصادي : عدم استثمار كل الموارد المادية والبشرية المتاحة على الوجه الذي تؤدي به غلتها الحدية . وهي ذات المهمة الموكولة الى القطاع العام والموزعة على مراحل التخطيط الاقتصادي . والقطاع العام هنا يبدأ من بنية اقتصادية بالغة التخلف . وبالتالي فإنه لا يستطيع أن ينهض بالتنمية الاقتصادية الا بقدر ما هو متوفر له من قدرة على التأثير في النشاط الاقتصادي كافة ، وكفاءته في هذا التأثير ، وكلاهما لا يتفقان مع المهام الجسيمة الموكولة إليه . فلا هو بالاتساع الذي يستطيع أن يمتد الى كافة الموارد المادية والبشرية المتاحة . ولا هو بالكفاءة ـ نتيجة السلبيات السابق ذكرها ـ التي تتطلبها تلك المهام ، وعندئذ يشهرون به فيقولون أنه فاشل . ولا يقولون على أي وجه هو فاشل وأن كانوا يقدمون ـ بإلحاح ـ تصفيته علاجا لهذا الفشل .
ففي حدود الظروف الموضوعية التي صاحبت قيام القطاع العام وأثرت في مقدرته على التنمية الاقتصادية لا يمكن أن ينسب الفشل إليه . بل أنه ضرب مثلا فذا للنجاح في كل محاولات التنمية الاقتصادية فى كل البلاد النامية والمتخلفة . وأشادت به تقارير هيئة الأمم أكثر من مرة ، تؤيد هذا جداول المقارنة بين الناتج القومي قبل 1961 وبعدها ومعدلات النمو تؤيد أن القطاع العام هو الذي دفع بضائع آجلة أو بضاعة عاجلة عشرة آلاف مليون جنيها لبناء القوات المسلحة بعد 1967 وقبلها ، ودفع أربعمائة مليون جنيها تكلفة السد العالي . ودفع كل الملايين التي أصلحت الأرض البور . ومدت شبكات الكهرباء وأقامت المصانع الجديدة وتقيم مجمع الحديد والصلب . وهو الذي واجه الخدمات المتزايدة في المدن وكان يفتح مدرسة شهريا في القرى وضاعف عدد الجامعات وتحمل تكلفة التعليم فخلق تلك الثروة البشرية من العلماء والفنيين التي هي أعظم الثروات جميعا ، وهو الذي حول سبعة ملايين من العاطلين في المزارع الى عمال ينتجون على أرقى أدوات الإنتاج .. هو الذي زود الشعب بكل ما هو ضروري له من أول الإبرة الى الصاروخ . هذا بينما حول القطاع الخاص أمواله الى عمارات وسيارات وحول شوارع القاهرة إلى متاجر أمريكية وحول ضواحيها الى كباريهات . القطاع العام يزود الشعب بالخبز ويتحمل فروق أسعاره والقطاع الخاص يزود المترفين بالملابس الداخلية والسجائر الأمريكية والشيكولاته ، القطاع العام يشق القنوات ويقيم المطارات ويبنى السدود ويدفع مليون جنيها يوميا لنقل الصواريخ قرب الجبهة وينقل الخضرة الى الصحراء بينما يحتمي القطاع الخاص بمعقله في شارع ألشواربي .
القطاع العام هو الذي تحمل أعباء معركتين ضاريتين خسر أحدهما سنة 1967 وكسب الأخرى سنة 1973 .
ولا يقال أنها القروض الأجنبية التي بلغت أي رقم وليس عائد القطاع العام . إنها إذن مزية . فإن الذين أقرضوا الدولة ويقرضونها ـ من أول البنك الدولي الى الاتحاد السوفيتي ـ لا يقرضونها تبرعا ولا يبعثرون أموالهم ولكنهم يدرسون واقعها الاقتصادي ومدى سلامته واحتمالات نموه وضمانات سداد القروض وفوائدها فإن اطمأنوا على أموالهم أقرضوا وإلا فلا . ولم تكن الدولة تملك شيئا يضمكن متانة موقفها الاقتصادي غير القطاع العام . ذلك القطاع الذي لم يهتز أو يضعف حتى عندما فقدت الدولة قناة السويس وبترول ومعادن سيناء .
ومع ذلك فإنا ـ نحن الاشتراكيين ـ لم نكف ولن نكف عن القول بأن القطاع العام فاشل أو مهدد بالفشل ، فاشل من وجهة نظرنا لأنه لا يوفي بكل ما تحتاجه التنمية في بلادنا المتخلفة . ونعرف لماذا هو فاشل أو مهدد بالفشل . لأن أعباء التنمية الموكولة إليه في مجتمعنا المتخلف أكبر كثيرا من طاقته الاقتصادية وإمكانياته الفنية والبشرية . ومن هنا نعرف العلاج ، إنه توسيع نطاق القطاع العام ودعمه ماليا وفنيا وبشريا وإحكام قبضته على النشاط الاقتصادي أى تنمية إمكانياته الى الحد الذي يتكافأ مع الأعباء الموكولة إليه .
7 ـ نقد مرفوض :
على الوجه السابق لا يجهل الاشتراكيون ولا يتجاهلون السلبيات المنسوبة الى القطاع العام . ولكنهم يردونها إلى أسبابها الموضوعية التي ترجع كلها الى الظروف التاريخية التي صاحبت مولد القطاع العام ونشاطه فمكنت منه القطاع الخاص ينافسه فيفسده أو يسرقه . وأمامنا أدلة حية على السرقة ، فمنذ عشر سنوات والقطاع العام وحده هو الذي ينتج الثروات في هذا البلد . والقطاع الخاص هارب أو متهرب أو متوقف أو مخرب . ومع ذلك فما أن تعلن شركة إنتاج السيارات عن سيارات من طراز جديد حتى تتلقي الملايين عربونا لسيارات لن يستلمها أصحابها إلا بعد سنين . وما إن يعلن أحد عن بناء عمارة للتمليك حتى يقبض مئات الألوف لمساكن يبلغ ثمن السكن الواحد منها ( الشقة ) ثلاثين ألف جنيها ، يدفعها أناس ساكنون فعلا فى أماكن أخرى . وفي ذات الفترة أنشئ من الملاهي عشرة أضعاف ما أنشئ في تاريخ مصر كلها . وتحولت القاهرة كما كان يريدها رمز القطاع الخاص الخديوي إسماعيل الى قطعة من أوروبا . من أين جاء كل هؤلاء بتلك الأموال ؟.. من أين كل هذا الترف والسفاهة الاستهلاكية ؟.. لقد كانت الأموال عندهم ولم يظهروها إلا في السنين الأخيرة فمن أين كانت عندهم؟.. لقد كانوا يربحون من وراء القطاع العام ويسرقونه ويمتصون دماءه . أولئك هم الذين يتحدثون الآن عن الفقر في ظل القطاع العام ويبشرون بالرخاء بعد تصفيته ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
ماذا يقولون أيضا ؟ يقولون :
أولا : أن القطاع العام قد ضم إليه وحدات اقتصادية غير مربحة .
ثانيا : أن القطاع العام يدار إدارة غير رشيدة اقتصاديا .
وفي هذين ، أي في أكثر أوجه النقد الذي يوجهه الرأسماليون الى القطاع العام جدية ، يقف الاشتراكيون بحزم رافضين النقد جملة وتفصيلا ورافضين ما يقدمه الرأسماليون من علاج لما ينقدون للأسباب التالية :
أولا ـ وحدات اقتصادية غير مربحة :
يختار المناهضون للنظام الاشتراكي وحدات اقتصادية محدودة مما يتبع القطاع العام . ويقولون أن نشاطها لا يسفر عن ربح بل يسفر عن خسائر تتحملها الخزانة العامة فهي عبء على الدولة ويقترحون بيعها أو تصفيتها . وينزلق بعض المدافعين عن القطاع العام فيحاولون إرجاع خسائر تلك الوحدات الى ظروف خاصة صاحبت إنشائها أو أثرت في نشاطها الاقتصادي ويقترحون حلولا بديلة لتتحول من وحدات خاسرة الى وحدات مربحة . وهو منزلق خطير ذلك لأنه قائم على أساس تقييم القطاع العام تقييما رأسماليا مقاس النجاح فيه هو الربح . وهو تقييم خاطئ يرفضه الاشتراكيون بحزم ولا ينزلقون الى مجرد مناقشة أسباب الخسائر والأرباح . ذلك لأنهم لا يفهمون القطاع العام ولا يقيمونه إلا في نطاق علاقته بالنظام الاشتراكي ، وقد قلنا من قبل أنه إذا كانت المنافسة بقصد الحصول على الربح هي قانون الاقتصاد الرأسمالي فإن التخطيط الاقتصادي الشامل هو قانون الاقتصاد الاشتراكي ، إذن فمن حيث المبدأ لا يجوز تقييم كل وحدة اقتصادية من وحدات القطاع العام على حدة تبعا لما اذا كانت رابحة أو خاسرة رأسماليا ، إنما تقيم كل وحدة على أساس أدائها أو عدم أدائها للدور الاقتصادي المحدد لها فى الخطة الاقتصادية . إن الربح مقياس للنجاح الاقتصادي في كل مؤسسة على حدة فى النظام الرأسمالي أما فى النظام الاشتراكي حيث تتكامل الوحدات الاقتصادية للوصول الى غاية محددة في الخطة فليس من اللازم أن تكون كل وحدة اقتصادية ـ على حدة ـ مربحة . أي أن يكون إجمالي ثمن الإنتاج في كل وحدة اقتصادية على حدة أكبر من إجمالي سعر التكلفة . في النظام الاشتراكي يؤخذ الاقتصاد القومي ككل ويكفي أن تقوم كل وحدة اقتصادية فيه بما هو معهود إليها به من نشاط حتى لو كان غير مربح بالمفهوم الرأسمالي مادامت الخطة الاقتصادية ككل مربحة بما تضيف الى الدخل القومي من ثروات جديدة . وقد عرفنا من قبل مدى الأعباء التي أوفى بها القطاع العام وبالتالي فلا وجه للتشكيك في أنه ـ ككل ـ قطاع رابح اقتصاديا ، وهذا يكفى الاشتراكيين ويرضيهم . أما أن يتصور الرأسماليون أن القطاع العام قطاع رأسمالي ، فيقيمون نشاطه على أسس رأسمالية ، ويقيسون به نجاح وحداته التي لا تحقق أرباحا فيجب أن تصفى أو تباع فإنهم إما أن يكونوا جهلة وهذا غير محتمل وإما أن يكونوا قد وضعوا أعينهم على تلك الوحدات الاقتصادية التي يقولون أنها خاسرة ، ليشتروها لأنفسهم ، وهو الأكثر احتمالا ، وفي الاحتمالين يرفض الاشتراكيون مجرد مناقشة القطاع العام وحده كأنه مؤسسات رأسمالية .
ثانيا : إدارة غير رشيدة :
على ذات الأسس الرأسمالية يتهم الرأسماليون القطاع العام بأن إدارته غير رشيدة . ويتخذون دليلا على هذا انعدام الأرباح في بعض الوحدات أو قلتها في وحدات أخرى . ولما كان الربح هو الفرق بين ثمن البيع وثمن التكلفة فإنهم يرجعون عدم الرشد في القطاع العام الى ارتفاع أسعار التكلفة ، ويركزون بوجه خاص على تضخم حجم العمالة فى مؤسسات القطاع العام . العمالة أكثر من اللازم فالأجور أكثر من اللازم فسعر التكلفة أكثر من اللازم فالأرباح أقل من اللازم وهو عنوان انعدام الترشيد الاقتصادي في إدارة القطاع العام . هذا هو منطق الذين ينقدون القطاع العام ، وهو نقد يرفضه الاشتراكيون ليس بحزم فقط ولكن بغضب أيضا لأنه يثير اشمئزازهم .
في النظام الرأسمالي حيث تكون المنافسة حرة في السوق بين السلع البديلة والمتشابهة لا يكون الرأسماليون قادرين دائما على تحقيق مزيد من الأرباح عن طريق رفع الأسعار فيتجهون الى خفض أسعار التكلفة ومن أهم عناصرها الأجور . وهم يصلون الى خفض الأجور من طرق عدة ، إما خفض الأجر النقدي أو زيادة ساعات العمل ، أو تقليل حجم العمالة ، أو تشغيل الأطفال والنساء بأجور مخفضة . وقد كانوا دائما يفعلون هذا . وعندما تكون الدولة قد حددت ساعات العمل والمستويات الدنيا من الأجور وفرضت قيودا على تشغيل الأطفال والنساء ، فلا يبقى للمشروع الرأسمالي ( القطاع الخاص ) باب لخفض الأجور الا بخفض عدد العاملين الى الحد الأدنى . ويعتبرون هذا قمة الترشيد الاقتصادي في الإدارة ، لأنه يؤدي ـ فعلا ـ الى أمرين عزيزين على كل رأسمالي . أولهما استنزاف آخر قطرة من قوة العامل وثانيهما تحقيق مزيد من الأرباح . وعلى هذا الأساس يرجعون خسائر ، وفشل ، ومبرر تصفية ، كثير من الوحدات الاقتصادية التابعة للقطاع العام الى تضاعف حجم العمالة فيها وزيادة الأجور عن النسبة المقبولة في الإدارة الرأسمالية الرشيدة ، ويقفون عند هذا الحد . أعنى لا يقولون كيف تؤدى تصفية أو بيع أو ترشيد الإدارة في الوحدات المزدحمة بالعاملين الى خفض الأجور . لا يقولون لأنهم يعرفون أن علاجهم الرأسمالي لن يكون الا بطرد نسبة كبيرة من العاملين الى أرصفة البطالة . وقفل فرص العمل أمام كل الخريجين الجدد من معاهد التعليم ، إنهم لا يقولون هذا ـ اليوم ـ ولكنه النتيجة الحتمية لما يقولون ، ولو استطاعوا لقالوه ، ولو ترك لهم الحبل على الغارب لتجاوزوا القول الى الفعل وأحالوا ملايين العاملين الى عاطلين ، وهو ما يرفضه الاشتراكيون بحزم وغضب لأنه يثير اشمئزازهم .
ذلك لأن القطاع العام أداة التطور الاقتصادي الاشتراكي . والاقتصاد الاشتراكي لا يستهدف الربح بل يستهدف إشباع احتياجات الشعب المادية والثقافية المتزايدة أبدا . الإنسان هو غاية النشاط الاقتصادي في النظام الاشتراكي . من هنا فهو لا ينظر ولا يمكن أن ينظر الى قوة العمل على أنها سلعة مطروحة للبيع في سوق النخاسة الذي يقيمه الرأسماليون لمن لا يملكون إلا قوة عملهم . العمال فى النظام الاشتراكي ليس مجرد منتجين بل هم منتجون لمات يستحقونه لأنهم أنتجوه . إن عائد النشاط الاقتصادي من حقهم . بعضه يأخذونه أجورا ، وبعضه يأخذونه خدمات ، وبعضه ينمون به اقتصادهم وكل عائد إليهم عن طريق ذات الخطة الاقتصادية التي أقامت مؤسسات الإنتاج . على ضوء هذا لا تكون الأجور المدفوعة للعاملين عبئا على تكلفة الإنتاج يحد من حجم الأرباح ، ولا تقاس بهذا المقياس ، بل هى جزء مقدم من عائد الإنتاج ذاته يتقاضاه كأجور أصحاب الحق في عائد الإنتاج ، والربح كله ، ويقاس من حيث الكم لا بعدد النقود التي تمثله بل بالمقدرة الشرائية لهذه النقود بحيث تبقى الأجور ويجب أن تبقى ، في كل الحالات ، بعيدا عن أي حديث عن تكلفة الإنتاج والأرباح ، كافية ليعيش العامل عيشة كريمة ومريحة . ومهما ارتفعت الجور فإن العاملين لا يأخذون الا من أنفسهم . وتكون أحد أهداف القطاع العام هو تشغيل كل قادر على العمل وتحضير فرص عمل جديدة لكل قادم جديد وإلا فان صلته بالنظام الاشتراكي تكون قد انقطعت في أهم حلقاتها . هل يعني هذا أن حجم العمالة في بعض وحدات القطاع العام ليس أكثر مما يلزم اقتصاديا ؟.. أو أن على القطاع العام أن يتحول الى مكاتب يجلس فيها من لا ينتجون ، وخزائن تدفع الأجور لمن لا يعملون ؟..
لا . إن المشكلة قائمة ، وحجم العمالة في القطاع العام يتضخم تضخما مضطردا فيضاعف من حدة المشكلة . ولكن الخلاف كله يدور حول ماهية المشكلة ، إنها ليبست مشكلة زيادة في حجم العمالة والأجور بل هي مشكلة نقص في فرص العمل . ومن هذه الزاوية ينظر الاشتراكيون الى المشكلة ويحلونها . إن زيادة العاملين فى الوحدات الاقتصادية ينطوي على بطالة خفية أي أن ثمة قوة عمل غير منتجة إلا جزئيا وهو تبديد ” جزئي ” لأثمن عناصر الإنتاج : قوة العمل ، وحل هذه المشكلة لا يكون بالتبديد ” الكلي ” لقوة العمل بفصل العاملين أو تجميد القطاع العام عند الحد الذي وصل إليه وترك الخريجين الجدد من معاهد التعليم يتسكعون على أبواب القطاع الخاص يبيعون عقولهم وسواعدهم لمن يستطيع أن يدفع الثمن ويساومون على إنسانيتهم ويتنافسون فيما بينهم هروبا من البطالة لتنخفض ” أسعارهم ” الى الحد الذي يرضي الرأسماليين . لا ، إن هذا لن يكون إنما يكون الحل بالتوسع في القطاع العام ، بمزيد من المؤسسات الصناعية والتجارية والزراعية لتظل فرص العمل دائما أكثر من قوة العمل المتاحة . ولن يكون هذا ممكنا إلا بدعم القطاع العام وتنشيطه وامتداده الى مجالات من النشاط الاقتصادي ما تزال مغلقة دونه ، عند ئذ يجد كل قادر على العمل أفضل الفرص المتفقة مع كفاءته . وبينما يزداد حجم العمالة ، وتزداد الأجور، ويزيد الإنتاج ، تقل البطالة الخفية ، فتقل تكلفة الإنتاج .
وهكذا نرى بوضوح أن تضخم حجم العمالة في القطاع العام الى الحد الذي يمتص فيه الأجور قدرا متزايدا من العائد الاقتصادي يرجع الى تعويق أو إيقاف خطط التوسع فى نشاط القطاع العام أي أن مرجعه في الحقيقة الى التردد في حسم التحول الاشتراكي أو المناهضة الخفية للنظام الاشتراكي . أما إرجاع المشكلة الى أن العمال يتقاضون أكثر مما يستحقون ، وأن حلها تصفية القطاع العام أو بيعه أو فصل العاملين فيه أو قفل بابه أمام الخريجين الجدد فهو نقد مرفوض أصلا .
8 ـ علاج مرفوض :
بعد أن عدد الرأسماليون كل أوجه النقد التي عرضناها يقترحون علاجا شاملا هو ما يسمونه الانفتاح الاقتصادي ، ” والانفتاح الاقتصادي ” قد أثبت أنه علاج سحري فعلا . فأولا يعرف أحد ما هو ككل الأشياء المسحورة . وثانيا أن مجرد ترديد اسمه قد أثر تأثيرا سحريا في الأسعار فرفعها أضعافا فى بضعة أشهر ، فما هو الانفتاح الاقتصادي وماذا وراء الانفتاح الاقتصادي؟ وما علاقته بالقطاع العام والنظام الاشتراكي ؟.
النظام الاشتراكي ـ كما قلنا ـ هو نظام توظيف الموارد المادية والبشرية في مجتمع معين لتحقيق غاية اقتصادية معينة طبقا لخطة اقتصادية واحدة وشاملة ، تحصر الموارد البشرية والمادية المتاحة في المجتمع ، ثم تتحدد لتوظيفها غاية مرحلية ثم توظف توظيفا هادفا الى تحقيق الغاية المرحلية ويسمى كل هذا خطة اقتصادية ، ولابد لنجاح الخطة ، أى خطة ، من أمرين : الأول عرفناه وهو تملك الدولة لأدوات الإنتاج الأساسية حتى تستطيع من خلالها التأثير فى النشاط الاقتصادي بحيث يتجه اتجاها متفقا مع الغاية المحددة للخطة وهو دور يقوم به القطاع العام . الثاني توزيع الموارد المادية والبشرية المتاحة على مراحل التنمية . وهذا يقتضي تقرير أولويات في الإنتاج والاستهلاك بما يعنيه هذا من تقرير تأجيل بعض أوجه الإنتاج وبالتالي بعض أوجه الاستهلاك الى مراحل مقبلة ، بما يعنيه هذا أيضا من اختفاء بعض السلع الاستهلاكية في بعض مراحل التنمية وما يصاحب هذا الاختفاء من شعور شعبي بالحرمان .
كيف تتقرر هذه الأولويات ؟ :
بعضها يتقرر اقتصاديا بحيث يكون من الجهل بالقوانين الاقتصادية الأحجام عن تقريره ، فألف باء التنمية الاقتصادية هي التركيز على السلع الإنتاجية ثم السلع الوسيطة ثم السلع الاستهلاكية ، فعندما نرى مثلا دولة القاهرة متخمة بالسيارات قبل أن يتم فيها إنتاج الحديد والصلب نستطيع أن نعرف واحدا من أسباب فشل القطاع العام في تنفيذ الخطة الاقتصادية . لقد خضعت الخطة الاقتصادية لضغط القطاع الخاص الاستهلاكي فقفزت الى السيارات قبل أن تملك حتى مصانع قطع الغيار ، على أي حال فإن الفشل هو جزاء الذين يتجاهلون أو يجهلون قوانين الاقتصاد الاشتراكي . ثم تقرر الأولويات من ناحية ثانية على أساس الاحتياجات العامة ، أي طبقا لاحتياجات الشعب ككل . وهو ما يعنى أن إنتاج أو تداول كثير من السلع التي لا يحتاج إليها الا قطاع محدود من الناس يجب أن يؤجل الى أن تشبع الاحتياجات الشعبية الأكثر أهمية . ويؤدي هذا الى شعور قوى لدى القلة المترفة بالحرمان مما اعتادوا استهلاكه ولكن الاشتراكيين لا يخضعون لنزوات القلة ، لأن الاشتراكية في جوهرها نظام الديمقراطية في الاقتصاد .
وعلى القطاع أن يضمن تحقيق هذين الأمرين : تملك أدوات الإنتاج الأساسية وتنفيذ الخطة الاقتصادية حسب أولوياتها . وفي الحالتين أو من أجل الأمرين كليهما لابد أن يكون ” المال ” أو ما يسمى الاستثمارات المتاحة ملكا للقطاع العام ملكية خالصة لا شريك له فيها ولا منافس . يؤثر به تأثيرا لاشك في فاعليته فى نشاط القطاع الخاص فهو الذي يقرضه وهو الذي يشاركه وهو الذي يمده بالمواد الخام وهو الذي يشتري منتجاته ، ثم تنفذ ” بالمال ” الخطة الاقتصادية عن طريق توزيع الاستثمارات المتاحة على أوجه النشاط الاقتصادي طبقا للأولويات المقررة فى الخطة وبذلك يحول دون أن تتجه الاستثمارات الى مجالات طفيلية أو مضاربة أو متجاوزة مراحل التخطيط الاقتصادي . من هنا فلا محل حتى للحديث عن الاشتراكية في أي مجتمع لا تملك الدولة فيه كافة البنوك ومؤسسات الادخار والتأمين . إنها حجر الزاوية في القطاع العام والنظام الاشتراكي . وعلى قدر حجم الاستثمارات المتاحة للقطاع العام يستطيع أن ينجز مهام التحول الاشتراكي . وتكاد تكون مشكلة الاستثمارات اعتي العقبات التي تواجه خطط التحول الاشتراكي في المجتمعات النامية ، فالدولة لا تملك أصلا فائضا اقتصاديا توجهه للاستثمار . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن الاستثمارات التي كانت متاحة قبل التحول الاشتراكي عبارة عن رؤوس أموال فردية والرأسماليون لا يقبلون حتى إقراض الدولة . فكيف تحل المشكلة في الدول النامية ؟.. أى كيف تحصل على رؤوس الأموال اللازمة للتنمية الاقتصادية ؟
بالانفتاح الاقتصادي ..
أي بجذب أكبر قدر من رؤوس الأموال الأجنبية لتمويل مشروعات التنمية. الى هنا لا يكون ثمة خلاف حول ضرورة الانفتاح الاقتصادي على العالم كله لتوفير الأموال اللازمة للتنمية . وكل دول العالم على هذا الوجه منفتحة اقتصاديا . والواقع أنه يستحيل على أية دولة أن تغلق على نفسها حدودها مكتفية بما يقال له ” المقدرة الذاتية “. وقد بلغت استحالة الانغلاق الاقتصادي والاكتفاء الذاتي حدا فرض على الاتحاد السوفيتي أن ينفتح اقتصاديا على الولايات المتحدة الأمريكية أو أن تنفتح الولايات المتحدة الأمريكية على الاتحاد السوفيتي . لا يهم ، وهو المثل الذي يحب دعاة الانفتاح الاقتصادي أن يضربوه دليلا على صحة دعواهم .
ولكن الخلاف الجذري الذي يفرز الرأسماليين من الاشتراكيين يأتى بعد هذا . الى أين تذهب رؤوس الأموال القادمة ؟ من يقبضها ؟.. من يستثمرها ؟ في أي مجال تستثمر ؟. باختصار هل تقدم رؤوس الأموال الى الدولة لتضعها في أوجه النشاط التي تحلو لمقدميها بقصد الحصول على ربح لابد من أن يعاد تصديره لأن رؤوس الأموال لا تأتى هنا لتلعب بل لتكسب ؟ هل تأتي رؤوس الأموال لتنمية الاقتصاد القومي مقابل عائد معروف أو تأتى رؤوس الأموال لتضارب على الاقتصاد القومي فتنزح منه الأرباح ؟ هل تأتى الأموال من أجل هذا الشعب أم تأتى لتستغل هذا الشعب ؟.. الإجابة على كل هذه الأسئلة متوقفة على ما إذا كانت رؤوس الأموال مطلوبة لدعم القطاع العام أم لمنافسته .
هذا هو جوهر الأمر من الانفتاح الاقتصادي الذي يرفع الرأسماليون شعاره وليتقون حول جوهره . ذلك لأن الانغلاق الاقتصادي مستحيل . وحتى لو كان ممكنا فلم تكن مصر العربية في أي يوم من الأيام منغلقة اقتصاديا . بل أنها استطاعت أن تجني ثمار تضحياتها في قيادة معارك التحرر العربي لتصبح منفتحة على كل العالم . أعنى أن الثقل السياسي الذي كسبته مصر العربية نتيجة قيادتها لمعارك التحرر العربي فرض على القوى في العالم أن تفتح لنفسها أبوابا على القاهرة وأن تفتح أبوابها للقاهرة إذا أرادت أن تتعامل ولو مع إحدى القبائل التائهة في صحراء الجزيرة العربية . والدليل على هذا حجم القروض والمعونات التي قدمت الى مصر العربية فمكنتها بالرغم من بنيتها الاقتصادية المتخلفة أصلا ، وبالرغم من أعباء المعارك ذاتها ، أن تقيم كل مشروعات التصنيع الطموحة وأن تبني السدود والصناعات الثقيلة في ذات الوقت الذي تحتفظ به بأقل أسعار لتكلفة الحياة في العالم ، وتعيد بناء قواتها المسلحة في فترة خيالية القصر .
والقروض ـ أيها السادة ـ هي رؤوس الأموال الأجنبية التي لا تضارب بقصد الحصول علي ربح ، ولكن تكتفي بعائد ثابت هو الفائدة . والقروض ـ أيها السادة ـ هي رؤوس الأموال الأجنبية التي تتحول بمجرد الحصول عليها الى استثمارات تودع في أماكنها حسب أولويات الخطة الاقتصادية . إنها ستدفع الى أصحابها مرة أخرى ، وإلى أن تدفع يتحمل الاقتصاد القومي عبء فوائدها . ولكن هذا هو الأمر بالنسبة لكل رؤوس الأموال الأجنبية . إنها أيضا أن تأتى لتنشط رأسماليا لابد من أن تحصل على ربح غير محدود تصدره ثم لابد لها من أن تعود لأصحابها إن قلت فرص الربح أو أتيحت لها فرص ربح أكبر فى أى مكان آخر من الأرض . ومع ذلك فليس من المهم أن تكون رؤوس الأموال الأجنبية فى شكل قروض ذات فوائد محددة ، فهي مقبولة حتى لو جاءت فى شكل رؤوس أموال تقيم مشروعات اقتصادية وتحصل على الربح الذي تريده . المهم أن يكون ذلك في حدود الخطة الاقتصادية وتحت إشراف وقيادة القطاع العام هو الذي يختار لها المشروع وهو الذي يراقب ويؤمن أداءها لدورها المحدد لها في الخطة وفى حدود علاقات العمل المقررة في الخطة أيضا ـ في هذه الحالة تستوي كل رؤوس الأموال الأجنبية سواء كانت قروضا أو استثمارات رأسمالية .
في هذه الحدود مرحبا بالانفتاح الاقتصادي وبرؤوس الأموال الأجنبية .
وليس هذا هو الانفتاح الاقتصادي المرفوعة شعاراته من موقف ناقد للقطاع العام مناهض للنظام الاشتراكي ، أن الانفتاح الاقتصادي الذي يرفع البعض شعاراته يعنى فتح الحدود وإزالة السدود أمام رؤوس الأموال الأجنبية لتأتي فتختار مشروعاتها لتحصل على أسرع الأرباح وأوفرها بصرف النظر عما إذا كانت تلك المشروعات لازمة للتنمية الاقتصادية أم غير لازمة . ثم تأمين رؤوس الأموال تلك ضد الخسائر
وذلك باستثناء مشروعاتها من أعباء الضرائب لمدة معينة وإعفائها من علاقات العمل المقررة بل واستثنائها حتى من نفاذ بعض مواد الدستور الذي ينص على جواز مصادرة الأموال الخاصة إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة ؟..
بلى ، ولكنهم يريدون أن يكون ذلك مقصورا على الوطنيين لا الأجانب . ويخضع المواطنون لكل إجراء يقتضيه أمن الدولة أما رؤوس الأموال الأجنبية فتريد أن تكون حرة حتى من قيود أمن الدولة . باختصار أن الانفتاح الاقتصادي المرفوعة شعاراته يعني ببساطة إتاحة الاقتصاد القومي لمضاربة الرأسماليين الأجانب وإباحة الشعب لاستغلال الرأسماليين والدليل على هذا أن قائمة كاملة من المشروعات الاقتصادية والتوسعات معروضة وما تزال معروضة على رؤوس الأموال الأجنبية ولا أحد يقدم ولا أحد يقبل . والدليل الآخر أنه منذ سنة 1961 ومصر العربية تكاد تكون محاصرة اقتصاديا من الرأسمالية العالمية ، ومن قبل اضطرت الى القتال لمجرد إقامة مشروع السد العالي ، ومن بعد ذلك دخلت حروبا أخرى أرهقتها ، وهي تقترض بدون أن تفكر رؤوس الأموال الأجنبية في أن تسهم في التنمية الاقتصادية . ” حتى الأخوة العرب ” كما يسمونهم ، ظلوا دهرا يودعون أموالهم الطائلة في البنوك الأجنبية ، ويراقبون معاناة هذا الشعب وهو يحاول أن يتجاوز بالتنمية حدود الفقر ، ويسخرون من التخطيط والاشتراكية ، ويبشرون بخراب مصر الاقتصادي ، ولم يتذكروا أن مصر العربية فى حاجة الى استثمارات أجنبية إلا عندما ظنوا أن الفرصة قد واتتهم ليفرضوا شروطهم على هذا الشعب ، أن يصبوا فيه الأموال لينزحوا منه الربح . ولهذا فهم لا يفكرون الا في قطاع المباني والملاهي والسياحة وسيارات الأجرة .. الخ . لأنهم مضاربون ، أما إسهام فى التنمية الاقتصادية فلا يهم الرأسماليين في شئ . إنهم لا يريدون ولا يمكن أن يريدوا ، إلا أن يصبوا أموالهم الغزيرة فى سوق الاستهلاك المحلى لترتفع الأسعار ليبيعوا سلعهم الاستهلاكية بأثمان خيالية . ليحققوا أرباحا غير متاحة الا في مصر ، أما أن تلك الاستثمارات غير المخططة ستخلق حالة تضخم نقدي مروعة وسترفع الأسعار رفعا جنونيا وأن الشعب هو الذي سيكتوي بنار تلك الأسعار، فكل هذا لا يخطر على بال الرأسماليين وأن خطر على بالهم فإنهم لا يبالون لأن الرأسماليين لا يريدون ولا يمكن أن يريدوا الا تحقيق أكبر قدر من الأرباح .
الدليل الأخير أن شكل الانفتاح الاقتصادي الذي يريدونه هو إباحة استيراد وتصدير الأموال والبضائع والخدمات للأفراد أى تحطيم السد العظيم الذي يحمى التحول الاشتراكي والتنمية الاقتصادية ليغرق المجتمع في طوفان فائض الإنتاج الأجنبي ولتسحق الصناعات الوطنية الناشئة ولتحدث كوارث أكثر من هذا خطورة . كيف ؟..
المسألة في منتهى البساطة ولا تحتاج الى تخصص في علم الاقتصاد لإدراكها . فعندما تبدأ عملية التنمية الاقتصادية عن طريق التخطيط الاقتصادي فتحصى الموارد المالية والبشرية المتاحة وتوزع الأولويات على أوجه الإنتاج طبقا لاحتياجات الشعب ، يكون أحد الشروط الأساسية لإنجاح الخطة إبعاد الاقتصاد القومي عن مجالات المضاربة أي بإلغاء المنافسة الحرة في السوق . وفي فترات التحول الى الاشتراكية حيث لا تحتمل البنية الاقتصادية الإلغاء الكامل للسوق لضعف القطاع الاشتراكي الناشئ ، يكون من اللازم لزوما حيويا عزل السوق الوطني عن السوق العالمي وذلك بأن تتولى الدولة من خلال القطاع العام احتكار التجارة الخارجية . وفي ظل احتكار التجارة الخارجية يستطيع القطاع العام أن يتحكم في النشاط الاقتصادي في الداخل وذلك بالتحكم في نوع وحجم السلع والخدمات المستوردة والمصدرة بحيث تخضع جميعها نوعا وكما لاحتياجات الخطة الاقتصادية . ومن ناحية أخرى فإن احتكار التجارة الخارجية يحمي رؤوس الأموال الوطنية من مخاطر الوقوع في شباك التبعية للرأسمالية الأجنبية عندما ينفرد الرأسماليون الأجانب العتاة بالتعامل مع الرأسماليين الوطنيين من وراء ظهر الدولة . لهذا فإن فتح أبواب التجارة الخارجية لا يعني الا فتح الحدود لغزو المضاربين الأجانب أو لخيانة المضاربين الوطنيين بأن يلتحم اقتصاد متخلف برأسمالية نامية فيكون لقمة سائغة لها . قد تنميه ولكن لحسابها وعندما يحاول الإفلات تفلسه فينهار دفعة واحدة . في مثل هذا النوع من الانفتاح الاقتصادي يكون مجرد ذكر اسم الاشتراكية عبئا مضللا . فالنظام الاشتراكي لا يسمح ولا يمكن أن يسمح بتسليم الاقتصاد القومي للمضاربين فى السوق الرأسمالية الدولية ، وعندما يسمح بهذا يكون قد انتحر كنظام اشتراكي .
لهذا ، فإننا عندما نرى أن الانفتاح الاقتصادي المرفوعة شعاراته ، لا يترجم غاياته الى مؤسسات اقتصادية منتجة أو مساهمة في خطط التنمية أو حتى في شكل قروض بل يركز بقوة على ” حرية ” تداول النقد والبضائع والعمل في الخارج ، أي بحرية الاستيراد والتصدير لا نخطئ اكتشاف الخطر الداهم على الاقتصاد القومي والتحول الاشتراكي والقطاع العام من هذا الانفتاح الاقتصادي . ويكون من حقنا أن ننبه بقوة كل الذين تمثل الاشتراكية بالنسبة لهم أملا ، وكل الذين يمثل القطاع العام بالنسبة لهم حياة كريمة وحتى كل الذين يريدون للرأسمالية الوطنية الا تغرق في خضم السوق الدولية الى أن الانفتاح الاقتصادي لن يحمل إليكم الا الخراب الاقتصادي .
9 ـ دعوة مستحيلة :
قلنا من قبل أن الدعوة الى تصفية القطاع العام مستحيلة التنفيذ . ولعله أصبح واضحا الآن أن تلك الدعوة لا تعنى فقط العاملين بالقطاع العام ، بل تعني كل الاشتراكيين وكل الذين استفادوا من المكاسب الاشتراكية بل وكل الوطنيين فإذا ظهر في جوف الظلام نفر ظنوا ـ كأهل الكهف ـ أن كل ما تم من تطور اقتصادي وتحول اشتراكي قابل للهدم لمجرد إنهم يرغبون في هذا حقا أو انتقاما أو رغبة في الاستغلال فإنهم واهمون . إن ملايين العمال والفلاحين والمثقفين الاشتراكيين والمواطنين لن يسمحوا لهم بهذا . لن يسمح ملايين الفلاحين بأن تنتزع منهم الأرض لتعود الى نفر يقال أنهم كانوا قد ظلموا . أن ملايين العمال الذين ارتبطت حياتهم بالقطاع العام ووجدوا فيه مصدرا كريما للرزق ، وتأمينا للعجز والشيخوخة وعلاجا مجانيا وأدوية مجانية أن يقبلوا العودة الى البطالة لمجرد أن جماعة من الرأسماليين يريدون أن يحققوا لأنفسهم أرباحا على حساب الشعب . لن يقبل ملايين التلاميذ والطلاب وأسرهم الذين بدأوا إعداد مستقبلهم على أساس أن في القطاع العام فرصا للعمل تنتظر الخريجين كل عام إلغاء فرص حياتهم المقبلة لمجرد أن جماعة من الرأسماليين يريدون أن يحققوا لأنفسهم أرباحا على حساب الشعب . لن يقبل المثقفون الاشتراكيون أن يروا التحول الاشتراكي يضرب ويصفى . لن يقبل الوطنيون عامة بأن يوضع مستقبل مصر العربية تحت رحمة الرأسمالية العالمية التي مازالت منذ عشرين عاما تشن على مصر الحرب وتحاصرها اقتصاديا وتقاتلها بجنود إسرائيل وتحاول بكل وسيلة أن تخترق السد العظيم الذي يحول دون إغراق مصر بفائض إنتاجها ، هذا السد الذي يحاولون فتحه لها تحت شعار الانفتاح الاقتصادي .
ما الذي سيفعله كل هؤلاء دفاعا عن القطاع العام والتحول الاشتراكي والاستقلال الوطني ؟..
لا أحد يعلم تماما . إنما على كل واحد أن يعلم علم اليقين أن الذين يريدون تصفية القطاع العام وإلغاء المكاسب الاشتراكية بل وإيقاف التحول الاشتراكي يلعبون بالنار لعبة خطرة فسيكتوون هم بلهيبها . وقبل أن يفوت الأوان نوجه إليهم سؤالا واحدا .
10 ـ تحالف أم صراع ؟ :
إن ما يدور الآن حول القطاع العام يستقطب الناس فكرا وغدا يستقطبهم حركة . ولو استمر فان القوى ستفرز ويعرف كل واحد رفيقه ، وتقف القوى التقدمية وجها لوجه أمام القوى الرجعية . وهذه ـ في كل المجتمعات ـ مقدمة للصراع الاجتماعي الذي أن بدأ يوما فلا أحد يعرف كيف ستكون نهايته . وقد يكون الصراع الاجتماعي لازما لتصفية القوى الرجعية غير أن التقدميين يعرفون أنه عندما يكون الوطن ذاته في خطر فإن عليهم أن يؤجلوا صراعاتهم الداخلية الى أن يتحقق النصر في معارك التحرير . من أجل هذا قبلوا صيغة تحالف قوى الشعب العاملة ، ومن أجل هذا كان العمال والفلاحون هم وحدهم الذين لم يطالبوا بامتيازات نقدية أو عينيه طوال فترة الصراع الوطني الملتهب الذي خلفته هزيمة 1967 . غير أن التحالف التزام ذو أطراف متعددة ، فإذا كان التقدميون يرون الإبقاء على التحالف وتجنب الصراع الاجتماعي الى أن يتحقق النصر في معركة التحرير ، فإنهم لا يستطيعون الوفاء بالتزامهم الوطني هذا إلا اذا التزمه أطراف التحالف الآخرون ولا يبقى للتحالف الا بقبول كل أطرافه ، أما إذا رأت طائفة من الرأسماليين انتهاز فرصة ولاء التقدميين لوطنهم والتزامهم حدود ما يقتضيه الصراع ضد الحلف الصهيوني الأمريكي ليختلسوا مكاسب لاحق لهم فيها فإن هذا سيفجر الصراع الاجتماعي حتما ، وستقع مسئوليته على الذين يحاولون الآن تفجيره .
أم أنهم يحاولون تفجيره فعلا ليدير الشعب ظهره لمعركته المستمرة ضد الصهيونية ليدافع عن أسباب حياته في الداخل . إن كان الأمر كذلك فإن الدعوة المضادة للقطاع العام تأخذ أبعادا تتجاوز مضامينها الاقتصادية . ستكون انحيازا للقوى المعادية من ناحيتين الأولى نقل المعارك من جبهة سيناء الى جبهة القطاع العام ، والانفتاح على الرأسمالية لتمكينها من هزيمة الشعب على أرضه فى مجالات حياته . وإذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا يثير بعض الناس معارك لا يمكن أن تثار الا إذا كانت معركة التحرير قد انتهت ؟ ألا يثير هذا الموقف الاعتقاد بأنهم في قرارة أنفسهم قد أنهوها أو اعتبروها منتهية . وعلى أي أساس أقاموا حساباتهم فانتهوا الى أن المعركة قد انتهت ؟.. لماذا ترتفع الآن أصوات فوق صوت المعركة ؟.. هل انتهت المعركة ؟..
لا لم تنته ، ولكن الحرب قد انتقلت الى جبهة القطاع العام ، وهو في مكان القلب من الغايات التي يريد الصهاينة والأمريكيون الإمبرياليون تصفيتها بالحروب التي يشنونها علينا منذ أن بدأ التحول الاشتراكي ، على هذا الأساس يعرف كل واحد أين موقعه ومن حلفاؤه ومن أعداؤه ويبين بأكبر قدر من الوضوح أن ليس الصهاينة وحدهم هم أعداء هذه الأمة .
رأسماليون وطنيون .. ورأسمالية خائنة ..
إننا لا نقدم بهذا الحديث صكا بالبراءة من الخيانة الى كل الرأسماليين العرب كما أننا لا نقدم به دليل إدانة ، إنما نسميهم ” وطنيون ” لنتجنب الحديث فيما لا يقدم ولا يؤخر في العلاقة الموضوعية بين واقع أمتنا العربية ومصيرها التقدمي وبين النظام الرأسمالي وقواه وخيانته ، نريد بهذه التسمية أن نقول لكل الرأسماليين في الوطن العربي ، أن نواياكم التي قد تكون حسنة ، وبواعثكم التي قد تكون شريفة ، وأخلاقكم التي قد تكون نبيلة ، وولائكم الذي قد لا يكون محل شك وكل ما هو ذاتي فيكم ـ أيها الأخوة العرب ـ لا يهم هذه الأمة ولا يؤثر في مصيرها وإنما الذي يهمها ويؤثر في مصيرها هو ذلك النظام ذو القوانين الموضوعية الذي يهدّد الأمة بسلب مصيرها التقدّمي ونعني به النظام الرأسمالي ، أن أحدا لا يهمه أن يتهمكم بالخيانة ، ولا يتمني أحد أن تكونوا متهمين بخيانة وطنكم ، وقد يكون من بينكم وطنيون حتى النخاع ، وبرغم هذا ، فإن الرأسمالية خائنة ، ولعلكم أنتم أيها الأخوة العرب ـ أن تكونوا أول ضحاياها من حيث أنكم واقعون في مصيدتها الأخطبوطية .
بعد هذا يكوي خطابنا الى جماهير أمتنا العربية التي يهمّنا أن تعلم علم اليقين أن ” الرأسمالية ” خائنة لمصيرها التقدمي ، خائنة في قضية التحرر ، خائنة في قضية الوحدة ، خائنة في قضية التقدم الاجتماعي ماديا وثقافيا ، خائنة للوطنية ذاتها . ونعني بكلمة خائنة أن ” الرأسمالية ” مضادة ومناقضة لتحرّر أمتنا العربية ووحدتها القومية وتقدّمها الاجتماعي وللوطنية ذاتها ، أو بمعني أكثر وضوحا وقطعا . أن امتنا العربية لن تنتصر في معارك تحرّرها ووحدتها وتقدمها وفي أية معركة وطنية ، لا عن طريق الرأسمالية ، ولا بالتحالف مع الرأسمالية ، ولا حتى بمهادنة الرأسمالية ، ونعني بالرأسمالية على وجه التحديد الرأسمالية العربية المسماة وطنية .
لماذا ؟
أولا : في معارك التحرر :
إن أمتنا العربية أمة متخلفة أو نامية . ونعني بالتخلف أو النمو مدلوله الاقتصادي العلمي ، وليس التخلف النسبي ، أي تخلفنا عن أمم غيرنا . نعني به تخلف الأمة عن توظيف واستثمار الموارد المادية والبشرية المتاحة فيها فعلا في سبيل إشباع الحاجات المادية أو الثقافية للشعب العربي . تخلف ما هو كائن عما هو ممكن ، وهذا يعنى ـ اقتصاديا ـ أن لدى الأمة العربية فائضا خاما من الموارد والبشر متاحا ولكنه غير مستثمر ، هذا الفائض الخام غير المستثمر هو بالذات الذي يطمع في وطننا الدول الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية . ليس بين الشعب العربي وبين شعوب الدول الرأسمالية وشعب الولايات المتحدة الأمريكية قائدة المعسكر الرأسمالي أي تناقض أو عداء من حيث هم بشر . فلكل منا رقعة معروفة من الأرض يستطيع أن يعيش فيها كما يشاء وأن ينتج فيها ما يشاء بدون عدوان أو عداء . ولكن سبب البلاء هو أن تلك الشعوب تعيش في نظام اسمه ” النظام الرأسمالي ” ، والنظام الرأسمالي لا يربط بين الإنتاج كما أو نوعا وبين احتياجات تلك الشعوب ، بل يربط بين الإنتاج كما ونوعا وبين الربح . هذا هو قانونه الموضوعي الذي لا علاقة له بالنوايا والأخلاق ، فحيث الربح يتجه رأس المال . والى حيث يتاح ربح أكبر يغادر رأس المال مواقعه الأولى . ويتحقق الربح والربح الأكبر بزيادة الطلب ( كثرة المستهلكين للسلع المنتجة ) وبخفض سعر التكلفة ( الحصول على المواد الخام بأسعار مخفضة ) . ثم تبقى عناصر أخرى لا يهمنا الحديث عنها الآن إذ هي عناصر منشطة لحركة الربح وليست محركة له . ما يهمنا هو أن هذين العنصرين اللازمين للربح ومزيد من الربح متوافران بدون استثمار في وطننا العربي . عندنا مائة وخمسون مليونا من البشر يمثلون طاقة استهلاكية فائقة كفيلة إذا ضمت الى سوق الاستهلاك الرأسمالي أن تنمي أرباح الرأسماليين الأمريكيين وغيرهم . وعندنا موارد ( خيالية ) غير مستثمرة أيضا ، كفيلة إذا ضمت الى الإنتاج الرأسمالي أن تنمي أرباح الرأسماليين الأمريكيين وغيرهم .
والرأسماليون قد يكونون وطنيين حتى في أمريكا ولكنهم لا يستطيعون الا أن يتبعوا خط قانون نظامهم : البحث عن مزيد من الأرباح . باختصار ، لا يستطيعون إلا أن يستولوا ـ بالطرق المناسبة وبكل الطرق الممكنة ـ على تملك أمتنا من موارد مادية وبشرية .
لقد هددتنا الولايات المتحدة الأمريكية أخيرا بالغزو للاستيلاء عنوة على منابع النفط . وأراد الرئيس الأمريكي وبعض وزرائه تخفيف لهجة التهديد فقالوا أنه لن يتم إلا إذا وصلت الولايات المتحدة الى درجة ” الاختناق ” . وقد يبدو للبعض أن استعمال هذا التعبير ينقل الأزمة من المستوى الاقتصادي الى المستوى الإنساني وكأن أمريكا لن تحاربنا إلا دفاعا عن النفس ضد محاولة عربية لقتل الشعب الأمريكي جوعا . وهذا غير صحيح ، إن ” الاختناق ” الذي يشير إليه الرئيس الأمريكي ووزراؤه هو اختناق ” نظامهم الرأسمالي ” . والنظام الرأسمالي يختنق فعلا إذا لم يحقق أرباحا ومزيد من الأرباح . فعلينا ـ إذن ـ أن نضع موارد أمتنا تحت تصرف الرأسماليين الأمريكيين ليحققوا أرباحا وإلا فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستغزو وطننا العربي . إننا نرى أن هذا التهديد على أكبر قدر من الجدية لأن النظام الرأسمالي في أمريكا سيختنق فعلا ، غدا أو بعد غد ، لأسباب لا صلة لها بالنفط العربي . ولكن هذا ليس موضوع الحديث ، موضوع الحديث هو أن الذي يهددنا ويحاربنا ، الذي أنشأ إسرائيل ، ودعمها ، وأمدها بالأسلحة ، ليس واحدا أو آخر من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية ، وليس مجلس الشيوخ الأمريكي ( الكونجرس ) أو وزارة الدفاع ( البنتاجون ) أو المخابرات المركزية . وليس ـ من باب أولى ـ الشعب الأمريكي ، بل هو على وجه التحديد ” النظام الرأسمالي ” فى أمريكا . هذا هو عدونا . وليس كل الذين ذكرناهم من أول الرئيس الأمريكي الى آخر عميل أمريكي في وطننا العربي إلا خدما وأدوات لهذا النظام ” العدو ” الذي يبحث عن أسباب الربح في أرضنا العربية حتى لا يختنق ويهددنا بالغزو العنيف .
غير أن النظام الرأسمالي لم يعد يستعمل العنف دائما وإن كان لا يتردد في استعماله إذا لزمه ذلك ، لأن تجربة النظام الرأسمالي مع الحروب ( غير المحددة ) في 1914 أو 1939 قد أثبتت له أن ” سعر التكلفة ” الحرب غال . ويقف المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي المتطور “ذريا ” والصين الشعبية الصديقة المجيدة للشعب العربي عامل توازن يحول دون الحرب غير المحدودة . فلم يبق أما النظام الرأسمالي طريق الى الاستيلاء والربح الا الحروب غير المحددة ( المحسوبة بدايتها وساحتها ونهايتها ) أو التهديد بها ، وإما بفرض التبعية الاقتصادية على المجتمعات التي تريد الرأسمالية أن تغتصب مواردها لتربح .
كيف تتم هذه التبعية ؟
الآن ، ليس بالاستيلاء على الموارد الاقتصادية أو السوق الوطنية عنوة ، فإن ثمن ” الحراسة ” غال كما قلنا ، ولكن التبعية تتم بإلحاق الموارد الاقتصادية والسوق الوطني في المجتمع التابع بموارد سوق الدولة الرأسمالية المتبوعة . بمعني آخر توسيع دائرة النشاط الرأسمالي ، إنتاجا ومبادلة واستهلاكا ، فى الدولة المتبوعة ليشمل المجتمع التابع . ويتحقق هذا التوسيع أو الامتداد أو الاحتواء أو الإلحاق أو أي تعبير يدل على إخضاع المجتمعين ، التابع والمتبوع ، لقانون اقتصادي واحد ، بطرق ” فنية ” مختلفة ومتكاملة . منها ـ مثلا ـ إقامة مؤسسات اقتصادية أو مالية أو خدمات ” مستقلة ” أو مشتركة تنشئها الرأسمالية المتبوعة في المجتمعات التابعة بشروط تسهل لها نزح الأرباح الى الدول المتبوعة . وقد كان هذا هو النموذج التقليدي . غير أن ثمة نموذجا حديثا يجرب الآن لأول مرة على نطاق واسع في الوطن العربي ، إنه إفساح المجال وتشجيع المؤسسات المالية والاقتصادية في المجتمعات التابعة لتنتقل الى الدولة الرأسمالية المتبوعة وتنشط هناك مستقلة أو عن طريق المشاركة في النشاط المالي والاقتصادي ، وكل من الطريقين يؤدي الى نتيجة واحدة : التبعية ، ذلك لأن المهم هو أن تتشابك خيوط النشاط المالي والاقتصادي وتنفتح قنوات تتسرب منها النشاطات من والى أحد المجتمعين بحيث تصبح البنية الاقتصادية الأضعف نسبيا ( المتخلفة ) تابعة في نموها للبنية الاقتصادية الأقوى ( المتقدمة ) . ولما كان كل هذا لايتم عنوة فإنه يحتاج فى إتمامه الى ” إرادة وطنية ” ، قد تكون حسنة النية بل فى الغالب أن تكون حسنة النية إذ أن ” الفخ ” أوضح من أن يقع فيه غير ” الطيبين حسنى النية ” وتجد ” الإرادة الوطنية ” في المجتمعات المتخلفة مبررات مادية من ندرة بعض السلع الاستهلاكية المترفة ومبررات فكرية في إدارة اسطوانة الليبرالية المهترئة عن الحرية .. حرية التملك والسمسرة والمضاربة والتهريب والاستغلال . وعندما يتم كل هذا لا يهم الرأسمالية تحت أي شعار تم ، ولا يضيرها أن ترفع على منشآتها الإعلام ” الوطنية ” المزوقة ولا الاحتفال بأعياد الاستقلال الوطني ، مادام الوطن وكل ما فيه من موارد وكل من فيه من بشر قد أصبح جزءا تابعا ” لآلة ” صنع الأرباح الرأسمالية . كما لا يهمها أبدا أن يمتد الرخاء الرأسمالي الاستهلاكي الى المجتمعات المتخلفة ، بالعكس ، إنه علامة استيلائها على السوق أيضا .
عندما يتم هذا يصبح أي حديث عن التحرر ، والإرادة الوطنية ، والاستقلال .. كلاما فارغا ، ذلك لأن أي حاكم ناضج و ” رجل دولة ” رزين ، يحاول أن يمارس إرادته الوطنية المستقلة على وجه لا يتفق مع هذه التبعية المالية والاقتصادية ، سيجد أن نفاذ الإرادة الوطنية ، فى التحليل الأخير ، يعني إعادة توظيف الموارد المالية أو البشرية على وجه لا يتفق مع مصالح الرأسمالية المسيطرة . فيجد نفسه أما خيار رهيب : إما قطع علاقة التبعية التي نمت وإعادة البناء الاقتصادي من جديد وهي ثورة كاملة لابد لها من هدم كل ما قام من أطر اقتصادية رأسمالية وما يتبع هذا من أزمة انتقال الى اقتصاد جديد ، وإما أن يخضع ويركع ويقبل أن تستثمر دولته ماديا وبشريا ، لحساب قوة أجنبية .
كل هذا تفعله وتحاول إنجازه الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها قائدة المعسكر الرأسمالي ، في وطننا العربي ، وهو موضوع الصراع القائم بين أمتنا وبين تلك الدولة الرأسمالية الباغية . وهو جوهر قضية ” التحرر العربي “ .
فأين موقع ، وموقف ، الرأسمالية العربية من هذه المعركة ؟..
إنها من حيث هي رأسمالية لابد لها من أن تخضع لقانونها : الربح ، لا تستطيع أن تفعل غير هذا وإن حاولت أفلست .. وهذا يعني أنها ـ من حيث المبدأ ـ لا تستطيع أن تدخل قضايا التحرر الوطني وتكاليف معاركها في حساباتها . فلا يبقى أمامها الا واحد من اثنين : إما أن تنافس الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة بقصد استئثارها هي ـ أي الرأسمالية العربية ـ بالسوق القومي إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا وإما أن تتعاون مع الرأسمالية العالمية وتقبل مشاركتها في السوق القومي .
أما عن منافسة الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، فقد كان ذلك هو ” الموقف الوطني ” ” للرأسمالية منذ قرون ، يوم أن كانت الرأسمالية ناشئة تقود ثورة التقدم بعد سقوط الإقطاع ، وتنافس بعضها على مسرح الاستعمار العالمي ، أما الآن حيث تحول النظام الرأسمالي الى نظام عالمي إمبريالي فإن ” الرأسمالية ” الناشئة في المجتمعات المتخلفة اقتصاديا المتحررة حديثا لا تستطيع أن تنافس الإمبريالية ولو حاولت لسحقت ، أعني أفلست بالمفهوم الرأسمالي . فلا يبقى أمامها الا التعاون والمشاركة والاستفادة من الخبرة .. الخ ، لكي تعيش ، أي لا يبقى لها إلا أن تكون هي الطرف الممثل ” للإرادة الوطنية ” الذي تحتاج إليه الرأسمالية العالمية لتستولي على الموارد المالية والبشرية في أمتنا ، عن طريق المؤسسات المالية والاقتصادية المستقلة أو المشتركة وتشجيع الرأسمال العربي على الانتقال والمشاركة في النشاطات الاقتصادية في الدول الرأسمالية ، أعني أنه لا يبقى لها ، لمجرد أن تعيش كرأسمالية ، إلا أن تكون ” وسيط ” الدول الرأسمالية في محاولتها السيطرة على أمتنا عن طريق التبعية . وهذه هي الخيانة التي لا تجد فيها النوايا الحسنة أو البواعث الشريفة أو الأخلاق النبيلة .
إن كان ثمة أي أخ عربي رأسمالي يشك في هذا ، أو يزعم أنه ينشط رأسماليا ويتعاون رأسماليا ويستثمر أمواله في الخارج رأسماليا ، ويقيم المؤسسات الرأسمالية في وطنه ، لأن ذلك هو الطريق ـ مثلا ـ لتوفير القوة الذاتية لتحرير الأرض المحتلة فإنا نتحداه أن يعرف مع من يتعامل رأسماليا على وجه التحديد ، ستذكر أسماء لا حصر لها من الشركات المنتجة للبضائع المدنية أو للأسلحة ولكن السؤال المهم هو : من هم أصحاب هذه الشركات ، إنه لن يستطيع أن يجيب لسبب بسيط هو أن أي عربي يتعامل مع أية مؤسسة رأسمالية ” لا يجرؤ ” على محاولة معرفة أصحابها الحقيقيين (المساهمين ) لأن مثل هذا السؤال لا يتفق مع التقاليد الماسونية للنظام الرأسمالي ، إنه سر المهنة الذي لا يجوز إفشاؤه خاصة لعربي . ذلك لأن العربي سيكتشف ، لو علم السر ، أنه من وراء واجهات مشاركة الدولة ، والشركات المركبة ، والترستات ، والكارتلات ، والأسماء التجارية المبتكرة يتعامل مع إسرائيل ، وأن أسراره هو التي يكتمها حتى عن مواطنيه ، بحجة الوطنية ، متجمعة في أيدي أعداء وطنه .
لا حيلة في ” خيانة الرأسمالية ” ولا علاج لها إلا تصفيتها من الأرض العربية وإقامة حاجز حديدي دون نمو النظام الرأسمالي في وطننا أو امتداد النظام الرأسمالي الى وطننا ، ثم مشاركة كل القوى التي تريد أن تنجو من مخاطر هذا النظام المدمر معركتها الإنسانية من أجل تصفيته في العالم كله .
إن مصدر الأوهام ” الوطنية ” التي تروج لها الرأسمالية العربية ، أن الأخوة العرب الرأسماليين يتجاهلون أنهم قد تعلموا اللعبة متأخرين ، بضعة قرون .
ثانيا : معركة الوحدة :
خيانة الرأسمالية العربية للوحدة خيانة مركبة . إذ أن النظام الرأسمالي يناقض ويعادي الوحدة العربية على مستويات ثلاثة : فهو حارس التجزئة ، وهو معوق للوحدة ، وهو حليف أعدائها .
إما أنه حارس التجزئة ، فلأن الرأسمالية العربية نشأت ، ونمت ، تاريخيا في ظل التجزئة العربية كامتداد تابع للدول الرأسمالية التي احتلت الوطن العربي وجزأته دولا . ومن هنا كانت التجزئة وما تزال ، هي الأرضية الأساسية التي حكمت وما تزال تحكم النشاط العربي الرأسمالي . ففي “حسابات ” كل رأسمالي عربي يعتبر ” إقليمة ” هو أساس نشاطه من حيث حجم الموارد وحجم السوق ونوع المنتجات واحتمالات الربح ، وأما أي إقليم عربي آخر فهو سوق ” أجنبي ” يدخل في حسابات التوسع بعد استنفاذ طاقة السوق الإقليمي . ولما كانت الرأسمالية العربية ناشئة وضعيفة ، و “بدائية ” فان طموحها الاقتصادي يظل مقصورا على السوق الإقليمي . وعلى هذا الأساس تتحدد أطر النشاط الرأسمالي في كل إقليم . من هنا يعتبر استقرار الوضع الإقليمي عاملا أساسيا في نجاح المشروع الرأسمالي العربي ، ويصبح الإبقاء على التجزئة ، وتجنب مخاطر الوحدة ، شرطا لاستقرار المشروع واطراد نمو أرباحه على ذات الأسس التى قام عليها . وتقوم الدولة الإقليمية حارسا لهذا الاستقرار ضد أية ” هزة ” قد تحدثها خطوة وحدوية ، ولا بأس بعد هذا فى أن يحاول الرأسمالي العربي “الإقليمي ” البحث عن الأرباح في الدول العربية الأخرى . وقد يعقد اتفاقيات تعاون أو مشاركة اقتصادية ، ولكن بشرط الا يتطور هذا الى أي نوع من الوحدة حتى الوحدة الاقتصادية . نقول حتى الوحدة الاقتصادية بين الدول العربية الرأسمالية ، حيث لا وجود للحجة التي يتشدق بها الانفصاليون يتهمون بها الاشتراكية بأنها حائل دون الوحدة . بالعكس ، ستبقى الدول والدويلات الرأسمالية آخر معاقل الإقليمية حتى لو توحد باقي الوطن العربي ، لأن الرأسمالية العربية التي تنشأ وتنمو على أساس حسابات إقليمية ، والتي تعتمد المنافسة فيما بينها قانونا للنمو ، والتي تبحث دائما عن الأرباح لن تقبل هدم بنائها الإقليمي ولو من أجل رأسمالية عربية أخرى ، وعندما تتاح لها أرباح أكثر عن طريق التعامل أو المشاركة مع الرأسمالية الأجنبية حتى لو كانت إسرائيلية خفية أو مستترة ، لن تتردد لحظة ، فى أن تختار ـ ولو خفية ـ طريق قانونها الحديدي : الربح ومزيد من الربح ، وستجد عندئذ أن دولتها الإقليمية القائمة على التجزئة ، واستقلالها بنفسها ، واستقلالا لها عن غيرها ، وحصانتها ضد التدخل في شئونها الداخلية .. ستجد كل هذا درعا يحمي نشاطها ” الخارجي ” ولو كان خائنا .
أما أنها معوقة للوحدة فلأنها ـ في حماية دولها الإقليمية ـ تملك المقدرة الاقتصادية التي تستثمرها في الترويج للفكر الإقليمي وتغذية النفسية الانفصالية لتثبيت أساسها : التجزئة في مواجهة جماهير فقيرة ، مطحونة ، واقعة ـ من ناحية ـ في قبضة القهر الاقتصادي من حيث أنها تستمد رزقها اليومي من النشاط الرأسمالي ، ولا تملك ـ من ناحية أخرى ـ فائضا اقتصاديا تستطيع أن تخوض به معركة متكافئة ضد إذاعة وتلفزيون وصحف ومجلات وندوات وحفلات ورشاوي .. القوى الإقليمية التي تمولها الرأسمالية العربية ، فهي تنمي وتثبت الانتماء الإقليمي بقدر ما تضعف وتشوه الانتماء القومي ، فتعوق نمو الحركة الجماهيرية الوحدوية .
هذا على المستوى الفكري ..
أما على مستوى الممارسة فمنذ أوائل الستينات أصبحت الوحدة العربية التي تناضل من أجلها القوى القومية التقدمية هي الوحدة الاشتراكية ، وانقضى الى غير رجعة المفهوم الليبرالي الذي نشأت في ظله وكانت تتبناه الحركة القومية العربية . لا وحدة بدون اشتراكية . هذا المنعطف التاريخي في حركة الوحدة العربية عزل الرأسمالية العربية عن القوى الوحدوية من ناحية وعمق عداء الرأسمالية العربية للوحدة من ناحية أخرى . إذ أصبح واضحا أن الوحدة العربية لا تعني مجرد إلغاء التجزئة وإقامة دولة واحدة ، بل تعني أيضا تصفية الرأسمالية العربية في دولة الوحدة . وترتب على هذا أن مجرد نشوء أو بقاء نمو النظام الرأسمالي في أي قطر عربي هو بحد ذاته حائل دون الوحدة ومعوق لحركتها . وتعرف الرأسمالية العربية هذا الموقف معرفة اليقين وتتصرف على أساسه منذ تجربتها الأولى عام 1958 وخيانتها سنة 1961 . ومن هنا لم تعد الإقليمية مجرد أساس مادي يحدد نشوء واستقرار نمو الرأسمالية العربية ، بل أصبحت سلاح دفاع ضد المد الوحدوي تستخدمه الرأسمالية العربية لضرب وتصفية أية محاولة وحدوية ، وتخون قضية امتنا العربية حفاظا على أرباحها .
أما أن الرأسمالية العربية حليفة لأعداء الوحدة العربية ، التي تعرف الآن أنها وحدة عربية اشتراكية ، فلأن الرأسمالية العربية ـ على مستوى الصراع العالمي ـ حليفة للمعسكر الرأسمالي بحكم الالتقاء على عداء النظام الاشتراكي ، بينما الجماهير العربية وطلائعها من القوى القومية التقدمية حلفاء للقوى الاشتراكية بحكم الالتقاء على عداء النظام الرأسمالي . في نطاق هذه المعركة العالمية تواجه الأمة العربية فى معركة فلسطين ومعارك تحررها من التبعية ، عدوا محددا هو الولايات المتحدة الأمريكية . وفي هذه المعركة تتحالف ، وتتعاون ، و ” تخدم ” الرأسمالية العربية عدونا ، ولا تستطيع أن تفعل غير هذا ، بحكم ما ذكرناه من أنها أما أن تخون أو تفلس . ولما كانت الرأسمالية لا تختار الإفلاس أبدا ، وإلا لما كانت رأسمالية ، فأنها تخون في معركة التحرر ، والتحرر شرط مسبق للوحدة . فالرأسمالية العربية إذ تخون التحرر تخون الوحدة . يضاف الى هذا ، أن ذلك الحليف ، من حيث هو دولة كبرى رأسمالية يتوقف بقاؤها على إبقاء العالم مجزءا متخلفا لتسهل السيطرة عليه ، يعادى هدف الوحدة العربية الاشتراكية عداء مصيريا . أن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف يقينا أن دولة الوحدة العربية التي تضم 150 مليونا من البشر وموارد خيالية ، وتستند الى حضارة عريقة ، وتبنى مستقبلها على أساس أرقى ما وصلت إليه التجربة الاشتراكية الإنسانية ، ستكون “حفار ” قبر النظام الرأسمالي عامة ، والولايات المتحدة الأمريكية “الرأسمالية ” خاصة ، ذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست الا القائد ” الجديد ” لمعركة النظام الرأسمالي ضد الوحدة العربية التي بدأت باحتلال الوطن العربي ثم تجزئته وما تزال مستمرة . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنه فى ظل الواقع العالمي الحالي ، يخوض النظام الرأسمالي وقيادته الأمريكية معركته المصيرية الحاسمة على الأرض العربية ، وأنه ـ عندما ينهزم ـ وتقوم دولة الوحدة الاشتراكية سيكون قيامها فاتحة عصر جديد يدفن فيه النظام الرأسمالي وقيادته .
ذلك هو الحليف الذي اختارته الرأسمالية العربية ، ولا تستطيع الا أن تختاره حليفا ، فتخون وحدة أمتها ، بصرف النظر عن النوايا والبواعث والأخلاق .
ثالثا : التقدم الاجتماعي والثقافي :
تزعم الرأسمالية العربية أنها هي وحدها ، القادرة على حل مشكلة التخلف في الوطن العربي .
فهي تملك رؤوس الأموال ، وهي تملك الخبرة وهي تملك كفاءة انتقاء المشروعات وإدارتها ” بدون قيود روتينية ” أو ” بدون بيروقراطية ” ، وهي إذ تبحث عن الربح لابد لها من أن تنجح اقتصاديا في إدارة مشروعاتها ، وأنها تملك في هذا الربح الحافز ” الخاص ” الذي يدفعها على العمل الجاد والمثمر ، وهو حافز لا يتوافر إلا إذا كان النشاط محررا من كل القيود وأخصها القيود على الملكية . ثم ـ هكذا تضيف الرأسمالية العربية الى مزاعمها ـ أنها إذ تفعل كل هذا ولو بدافع الربح ، إنما تحقق ـ حتى ولو بدون قصد التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمع كله ، فهي تحول المواد الخام الى مواد مصنوعة ، وهي تمنح القادرين على العمل فرصا للعمل وكسب الأجور ، وهي تقدم لهم الخدمات الطبية والثقافية التي ترفع مستواهم الضحى والثقافي ، إنها هي ـ باختصار ـ التي تحقق التقدم الاجتماعي والثقافي حتى لو كان ذلك يأتي تلقائيا كتابع لابد منه للبحث عن الأرباح . ويضربون ألف مثل للفارق بين المجتمعات الرأسمالية والمجتمعات غير الرأسمالية . الفارق في الرخاء .
لا شك أن الرأسمالية ” شاطرة ” وقادرة على النشاط الاقتصادي بكل فروعه ، من أول الإنتاج الى التوزيع ، إلى تحديد الأسعار ، الى التخزين ، الى التحكم في السوق ، الى المضاربة الى التهرب من الضرائب .. الخ . وأنه إذا ترك المصير الاجتماعي للرأسمالية فإنها ستفعل كل شئ ماعدا الكسل والتواكل والخضوع للروتين .. وأنها ستحقق ” تقدما ” اقتصاديا واجتماعية وثقافيا .
المشكلة كلها ليست هنا .
المشكلة كامنة في السؤال الأتي : من الذي سيستفيد من هذا التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ؟.. لمصلحة من تنشط الرأسمالية العربية ؟ هذا هو السؤال الذي ينساه أو يتناساه دعاة الرأسمالية العربية . أن الرأسمالية العربية ، من حيث هي ليبرالية ، لا بد لها من أن تسلم بأن مقياس التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لا يمكن أن يكون ” العائد “على ” الأقلية ” بل العائد على ” الأغلبية ” ، آمنا وسلمنا . فلننتقل بعد هذا الى مجتمعنا العربي المتخلف . الأغلبية من الشعب العربي تعيش تحت مستوى خط الفقر . على المستوى الاقتصادي تتبدد طاقاتها في البطالة الصريحة أو المقنعة ، ويكاد متوسط دخل هذه الأغلبية أن يكون أقل متوسط في العالم وعلى المستوى الاجتماعي تفتقد المساكن اللائقة بالإنسان ، وتفتقد الملابس اللازمة لمجرد الحفاظ على الحياة من تقلبات الطقس . وتفتقد الرعاية الصحية وتفتقد الأدوية وتفتقد المياه الصالحة للشرب ، والنور الصالح للرؤية ، والمواصلات الصالحة للانتقال ، والأمن ضد العجز والشيخوخة ، ضد المرض ، ضد اليتم ، وعلى المستوى الثقافي ما تزال تعيش ـ تلك الأغلبية ـ في ظلام الأمية ، هى ـ تلك الأغلبية ـ لأنها عاطلة أو فقيرة تكاد تقف مقدراتها الشرائية في سوق الاستهلاك عند مستوى “الضروريات” وبالتالي فإن طاقتها كقوة شرائية لا توفر للرأسمالية العربية شرط ” زيادة الطلب ومرونته ” اللازمة للتنمية الرأسمالية كما ونوعا الا في أدنى مستوى الإنتاج . إن هذا يعنى اقتصاديا أن الرأسمالية العربية ، إذ تنتج لتربح ، لابد لها من أن تستند الى طلب استهلاكي نام ومرن وأي شريحة من البشر يدخلون السوق وهم يملكون مقدما مقدرة شرائية نامية ومتطورة ، إنه إذن سوق الأقلية ” الغنية ” الذي سيحكم الإنتاج والتنمية الرأسمالية ، من حيث نوع المنتجات وكميتها .
من هنا فإن ” الأغلبية ” العربية الفقيرة ستخرج من حسابات النشاط الاقتصادي الرأسمالي ، كقوة شرائية تحقق ربحا يقل عما تحققه القوة الشرائية للأقلية ، وبالتالي تخرج احتياجاتها من مجال النشاط الاقتصادي للرأسمالية . ستقيم الرأسمالية العربية ناطحات السحاب ، وستستورد الأثاث الفاخر من إيطاليا ، وأدوات الموائد من فرنسا ، وستغرق شوارع المدن العربية بالسيارات الفارهة وتخصص ضواحيها للملاهي العامرة “بالأجساد” البيضاء المستوردة وستبيع الثلاجات والسخانات والسجاد “الإيراني” والأغذية المحفوظة وتفتح المطاعم على نمط “المكسيم” وسترهق أعصاب الشعب العربي الفقير برؤية أجمل الملابس والمجوهرات في “فاترينات” محلاتنا الراقية ، وستملأ الصحف إعلانات وتملأ الليالي حفلات ، وستفتح البنوك تضارب على النقود وتفتح البورصات تضارب على المدخرات ، وتفتح محلات بيع البضائع بأسعارها مضاربة على احتياجات البشر.. وستنتج الأفلام وتصدر مجلات والصحف وتؤلف الكتب مضاربة على غرائز المراهقين والعجائز.. كل ما ستفعله الرأسمالية العربية ، لأن كل هذا مربح . ولكن كل هذا يمثل ” التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لـلأقلية .
أما الذي لن تفعله الرأسمالية العربية ـ أبدا ـ فهي أن تنتج “للأغلبية” احتياجاتها من مساكن وملابس ومستشفيات وأدوية وتأمينات ومواصلات ومدارس وكتب ومجلات وأفلام ..” بسعر” يتفق مع مقدرتها الشرائية أي بدون ” مضاربة” على احتياجاتها الإنسانية . والرأسماليون العرب لن يفعلوا هذا ، لا لأنهم متهمون في نواياهم أو بواعثهم أو أخلاقهم ، بل لان الرأسمالية مرتبطة بالربح ، ومزيد من الربح ، ولا يمكن الا أن ترتبط به إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا ، فهي ـ في مجتمعنا العربي المتخلف ـ لا يمكن الا أن تكون نظاما من اجل “الأقلية” فتخون ـ رغم انفها ـ التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي “للأغلبية” .
أعني تخون التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للشعب إذ ان الأغلبية ـ حتى في منطق الرأسمالية الليبرالية ـ هي الشعب عندما تتناقض مصالحها مع مصالح الأقلية .
كل هذا بدون ان نطرح آية مقولة اشتراكية ، لاننا نريد ـ على وجه التحديد تبديد أوهام التقدم الرأسمالي في أمتنا العربية ، حتى مع افتراض حسن النية ، حتى بعيدا عن أي احتجاج بما يقدمه الحل الاشتراكي كبديل للرأسمالية. نهدم أولا أوهاما في رؤوس بعض العرب قبل أن نبني فيها معرفة الحل الصحيح لمشكلات التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في وطننا العربي . غير أن هذا لا يمنع أن نشير الى أوهام الرأسمالية العربية في حل مشكلة البطالة الظاهرة أو المقنعة .
إن الرأسمالية العربية إذ تنمو لابد لها من أن تكون فى حاجة نامية الى أيد عاملة ، وبالتالي فان التنمية الرأسمالية تستطيع أن تقدم فرص عمل لأولئك المنتمين الى ” الأغلبية ” ومع فرص العمل أجور وخدمات وتقدم اجتماعي وثقافي قدر احتياجات الرأسمالية لقوة العمل .. ولكن الذي تنساه الرأسمالية العربية أو تتناساه أنها قناة عمل مفتوحة الطرفين ، يدخل منها العمل كما يخرج منها ، وكما تمنح فرصا لعمل العاطلين تقذف بمن استهلكتهم من البشر الى احتياطي العاطلين . وكلما نمت الرأسمالية اتسعت قناتها وتدفقت قوة العامل من البطالة الى عمل الى بطالة . المأساة أن أولئك الذين ستقذف بهم الرأسمالية الى البطالة هم الذين قد رفعت مستوى معيشتهم قليلا وعلمتهم تقاليد الحياة فى المدن ووضعتهم على أول طريق الطموح الإنساني ثم … ألقت بهم على الأرصفة . لماذا تفعل الرأسمالية العربية هذا ؟.. لأنها رأسمالية قانونها الربح ، ولأن قوة العمل فى النظام الرأسمالي سلعة مطروحة في سوق العمل ، ولأن قانون المنافسة هو الذي يحكم ويحدد “سعر” هذه السلعة ولأن ـ وهذا مهم ـ عرض العمل في الوطن العربي أضعاف الطلب عليه ، فلابد لسعر ” البشر ” في الرأسمالية العربية من أن يتدني .
يقال أن هذا لم يصدق في المجتمعات الرأسمالية النامية ، فنقول ـ إن صح هذا ـ فلأنها رأسمالية نامية ومتقدمة قادرة على أن تدخل مسابقة الحياة بين عرض العمل وفرص العمل الجديدة وتزودها المستعمرات الظاهرة والخفية بفائض من الأرباح تستطيع أن ترشى به العاملين أو تحقق لهم مستوى معيشيا لائقا بالإنسان ، أما الرأسمالية العربية فلا هي نامية ولا هي متقدمة ولا تملك من أسباب الربح الا ما يقدمه لها مجتمعها المتخلف ، فلا تملك فائضا عن حاجتها المترفة لتعود فتضعه في وعاء الفقر السائد . ويقال أن الحكومات تستطيع أن ” تتدخل ” لحماية قوة العمل بالتشريعات ، فنقول أن التدخل الوحيد الذي يعالج مشكلة كون ” العمل سلعة ” هو إخراج العمل من السوق فلا يكون محل عرض أو طلب ، يلزم أن يضمن المجتمع عملا لكل قادر على العمل ، بدون أن يطلبه ، وألا يفصل عامل لأي سبب وإن كان من الممكن أن ينقل الى عمل آخر ، هذا هو التدخل الوحيد الذي يضمن الا يكون ” البشر ” سلعا تباع وتشترى وينافس بعضها بعضا على فرص العمل المحدودة ، ويفسحون المجال لمضاربة الرأسماليين عليها كما يفعل النخاسون في سوق الرقيق . هل تقبل الرأسمالية العربية هذا التدخل ؟ إذن فهي ليست رأسمالية . إنها تقبل تصفية ذاتها كنظام ، لأن مجرد التدخل لإخراج ” البشر ” من السوق الرأسمالي يقتضى التدخل لتحديد ” عرض العمل ” أى فرص العمل المتاحة والممكنة نوعا وكما ، وهذا يقتضى التدخل في تحديد مجالات الإنتاج وأساليبها نوعا وكما ، وهو يقتضى بدوره أن يكون القرار الاقتصادي في كل مؤسسة من حق الدولة وليس حق صاحبها ، وهذا قد يعني تأميم تلك المؤسسات أي تصفية النظام الرأسمالي .
البديل الوحيد هو أن تستولي الرأسمالية العربية على الدولة ذاتها ، عندئذ لن تتدخل الدولة لحماية أحد ، بل ستتدخل فى كل مكان ، وزمان ، ومجال ، يحقق لصاحبه السيادة الرأسمالية العربية مزيدا من الأرباح ، وتحميها بما تملك من قوة الردع قوانين ومحاكم وسجون .
إذن ، فعلى أي وجه نظرنا الى آمال ” التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ” في الوطن العربي عن طريق الرأسمالية العربية ، نتبين أنها أوهام ، قد تكون مصحوبة بنوايا حسنة أو بواعث شريفة أو أخلاق نبيلة ، ولكن تبقى أوهاما ، ولا يخون قضية تقدم الجماهير العربية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، أعني لا يناقضها ، شئ أكثر من الأوهام خاصة عندما تتسرب الى رؤوسها ذاتها .
رابعا : الرأسمالية نقيض الوطنية :
على أساس علمي برجماتي ذرائعي نفعي واقعي ـ أو ما تشاؤون تسميته ـ ناقشنا فيما سبق استحالة الوفاق أو التلفيق أو التوفيق بين الرأسمالية والوطنية في المجتمع العربي في هذا العصر لنقنع الجماهير العربية أولا ، ونقنع الرأسماليين العرب ثانيا ، أن المسألة ليست مسألة نوايا وبواعث وأخلاق وولاء .. بل أنها حقائق موضوعية باردة هى التي تضع الرأسمالية العربية موضع الخيانة ، أعنى التناقض ، مع المصير التقدمي لأمتنا العربية .
وهي حقائق ليست من صنع العرب ولا اختيارهم سواء كانوا رأسماليين أو غير رأسماليين . بل هي حقائق هذا العصر ، عصر ” أممية ” القوى الرأسمالية وقدرتها الباطشة في مواجهة ضعف الرأسمالية العربية ونشأتها الحديثة ، عصر تقدم الدول الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة أمتنا المتخلفة اقتصاديا المجزأة سياسيا المحتلة بعض أراضيها . عصر تنافس البشر وصراعهم في الدول المتقدمة على مستويات الرخاء المتراكم بينما يتنافس البشر في أمتنا العربية هربا من الموت جوعا .. الى آخره . كل هذا وضع الرأسمالية كنظام موضع التناقض ، أعنى الخيانة ، من كل ما هو تقدمي في الوطن العربي فهي تناقض التحرر ، وتناقض الوحدة ، وتناقض التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لجماهير أمتنا العربية .
غير أن كل هذه الحقائق العينية الملموسة لا يمكن أن تكون بدون تفسير نظري علمي . بل أن النظرة أو النظرية التي لا تستطيع أن تفسرها لا تستحق أن يقال لها عليه ، لأن الممارسة كما يقولون ، هى محك الصحة النظرية .
فلماذا يناقض النظام الرأسمالي التقدم العربي ؟..
من أين يجئ التناقض بين الرأسمالية وبين الوطنية فى أمتنا العربية ؟..
لو بدأنا الجواب من تحليل مفهوم الرأسمالية لقيل إنما نحللها على وجه يؤدى الى إدانتها فهي مصادرة على المطلوب. لنبدأ الجواب إذن من حيث يستطيع أن يفهم حتى أكثر الرأسماليين غباء ، من الوطنية ، وهى بداية توفر لنا لجاجة وفظاظة تحدى الاشتراكية بالوطنية تحت الشعار السخيف الذي يشترك في صياغته كل من الرأسماليين والماركسيين . الأولون يقولون نحن وطنيون فلا نريد أفكارا مستوردة . والآخرون يصكون على الوجه الآخر من ذات العملة الزائفة أن ليس الا اشتراكية علمية واحدة هي الاشتراكية الماركسية التي هي في جوهرها ” أممية “ .
لنترك كل هذا جانبا ، ونبدأ من الاعتراف بأننا ـ كلنا ـ وطنيون ، لا شرقيون ولا غربيون ، ولا نستورد أفكارا أو نظما بل نتمسك بواقعنا وما ينبثق من احتياجاته أفكارا ونظما . مع ملاحظة أن النظام الرأسمالي ليس ابتكارا عربيا بل هو مستورد من جحافل الغزاة ، ومجرد أن لنا تراثا يحكم على المال السائل بالعقم الإنتاجي ويحرم الربا يعنى أننا قد استوردنا أشد النظم عداوة لتراثنا .
على أي حال ، فإن مدخلنا الى الجواب هو الوطنية .
والوطن كما لا يستطيع أحد أن ينكر هو تلك الرقعة الجغرافية التي تخص شعبنا تاريخيا . والوطنية هي هذا الاختصاص لشعبنا بوطننا دون أي شعب آخر ، والتحرر الوطني هو تأمين هذا الاختصاص بحيث يكون الوطن لشعبنا وليس لأي شعب غيره . والوحدة الوطنية هي الا يستأثر أي جزء من شعبنا بجزء من وطننا ويحرم منه الباقي ” الوطنيين ” . وكلنا على هذا الوجه وطنيون . ولكن بما أن الوطن واحد ونحن متعددون ، فإن الوطنية تعنى اشتراكنا جميعا ، وكل واحد منا فى الوطن ، لكل منا حق متساو فيه ، حق شائع في كل ذرة منه . ومن ثم يقول حتى الليبراليون أن لكل مواطن حقا مقدسا في الإقامة في وطنه فلا يطرد منه لأي سبب كان ، وهذا حق ، ولكن الإقامة لا تمثل وحدها ما يترتب على المشاركة فى الوطن من حقوق لأن الوطن ، ذلك الرقعة الجغرافية من أرض ونبات وجماد ومناخ هو ” مخزن ” الحياة ، أو كما يقال في الاقتصاد ” مصادر الإنتاج المتاحة ” . وطبقا لمضمون ” المشاركة في الوطنية ” نكون كلنا شركاء في ملكية هذه المصادر ويكون استئثار فرد أو مجموعة من الأفراد بها أو ببعضها مناقضا للوطنية ، مصادر الإنتاج هذه لابد ـ لكي نعيش كلنا فى وطننا ـ أن تتحول الى منتجات بالوسائل المناسبة لكل منها ، ويكون استئثار فرد أو مجموعة من الأفراد بتحويلها الى منتجات مناقضا للوطنية ، ثم أن تلك المصادر التي تحولت الى منتجات ، ونحن شركاء فيها منذ البداية بحكم رابطة ” الوطنية ” تجد ترجمتها الفعلية فى أن تكون تلك المنتجات من حيث الكيف والكم ، مخصصة للاستهلاك المشترك . المشترك بمعنى أن تكون أولوية الإنتاج للحاجيات المشتركة المادية والثقافية ، التى تلزم كل فرد، والمشترك بمعنى عرضها للتداول ، وأسعارها ، وعائدها يكون للمنفعة العامة فى شكل خدمات مادية وثقافية ، ثم ـ أخيرا ـ أن الوطنية من حيث هى مشاركة تعنى أن لكل فرد حقا ” وطنيا ” في أن يعمل فتكون البطالة مناقضة للوطنية ، وتكون السلبية مناقضا للوطنية . ويكون التغريب إجراما مناقضا للوطنية . فإذا كان ما هو مشترك بحكم الوطنية لا تكفي عناصره المتاحة التي ذكرناها إلا لتحقيق مستوى معينا من المعيشة ، يستحق منه كل واحد حسب الجهد الذي أضافه من عنده ( العمل ) للوطن ، فإن محاولة الاستيلاء على “بعض الوطن ” أرضا أو مصادر إنتاج أو عمل ، بدون عمل هو خيانة ـ أعنى مناقضة للوطنية .
والنظام الرأسمالي ، ليس أكثر من مباراة بين البشر يستولى فيها كل قادر على ما يستطيع من ” الوطن ” مناقضا للوطنية إذ هي مشاركة بين الناس في وطنهم المشترك . لهذا قلنا ونقول أنه لا يجدي التوفيق أو التلفيق بين الرأسمالية والوطنية فهما متناقضان ، وأن الرأسماليين العرب قد يكونون “وطنيين ” على مستوى نواياهم وبواعثهم وأخلاقهم وولاءهم .. وكل ما هو ذاتي فيهم ، ولكن الرأسمالية ـ برغم كل هذا ـ ستبقى خائنة .
دفاع عن الدستور
تدرس الحكومة الآن صيغة مبتكرة لبيع شركات القطاع العام وذلك عن طريق تحويل قيمتها إلى ” أسهم ” وبيع تلك الأسهم لمن يستطيع أن يشتري .
إن هذا البيع فكرة قديمة نشأت مع بدء الالتجاء الى الاقتصاد الحر الذي سمى ” الانفتاح ” ، كان يحول دون إتمامها أن شركات القطاع العام مملوكة للمؤسسات العامة وبالتالي فهي غير قابلة للبيع بذاتها لأن أموال المؤسسات العامة غير قابلة للبيع ، فرأى من رأى أنه لابد من خطوة أولى يقتل فيها المالك فتبدو شركات القطاع العام وكأنها أموال خاصة مما يجوز بيعه ، وهكذا ألغيت المؤسسات العامة تمهيدا لبيع شركاتها .
يمكن الاعتراض على هذا الأجراء لأسباب عدة .
أهمها على وجه الإطلاق هو الأضرار الجسيمة التي تحيق بالاقتصاد الوطني نتيجة بيع القطاع العام مرة واحدة أو تدريجيا الى القطاع الخاص . أن التخطيط حينئذ سيكون مستحيلا وستتحول قوة إنتاج الشركات المباعة عن غايتها الأصلية وهى التنمية من أجل الرخاء الشعبي ، الى المضاربة في السوق الحر جريا وراء أعلى ربح على حساب احتياجات المستهلك ذي القدرة المحدودة على الشراء . هذا بالإضافة الى التغير النوعي في علاقات العمل وتحويل العمل ذاته الى سلعة تباع وتشترى ويخضع سعرها ( الأجر ) لسوق المضاربة . وما يترتب على هذا من آثار اجتماعية فادحة تمس استقرار حياة العاملين . وهى أضرار لن يعوضها أن يقال للعاملين أن لكم أولوية شراء أسهم شركاتكم في وقت يعرف فيه القائلون ما يعانيه العاملون من أزمة طاحنة تلتهم فيه الأسعار المتزايدة كل أجورهم ولا تترك لهم فائضا ليشتروا به ، بدل ضرورات الحياة الصعبة ، أسهما فى الشركات .
ومنذ أن بدأت فكرة بيع القطاع العام مع ما سمى ” الانفتاح ” كان لنا شرف الدفاع عن القطاع العام تحت عنوان ” جبهة القطاع العام ” .. وفى دفاعنا نبهنا الى العلاقة العضوية بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية .. بالانفتاح على السوق الرأسمالي الإمبريالي الذي تقوده أمريكا سيحتم فتح السوق الداخلي لهذه الرأسمالية ذاتها وقواها ، ويجد قطاع كبير ومؤثر من المصريين أنفسهم مضطرين بالرغم من كل نواياهم الحسنة الى أن يتبنوا ، في شأن القضية الوطنية ، الخط الأمريكي للتسوية أو أن يعولوا عليه ، ومن أجل إبراز هذا المعنى الأخير قدمنا دفاعنا تحت عنوان ” رأسماليون وطنيون ورأسمالية خائنة “..
وهكذا كان دفاعنا عن التقدم في مصر العربية متضمنا الدفاع عن أرض الوطن وأموال الشعب والعاملين وحتى الرأسماليين الوطنيين .. من كل رؤية أردنا أن نوجه أنظار المسئولين الى مخاطر بيع القطاع العام أو مخاطر الانفتاح الاقتصادي على الرأسمالية .
ولكن يبدو أن كل تلك الاعتراضات الحيوية لم تعد تجد آذانا صاغية بالرغم من عشرات الوعود العلنية بأن أحدا لن يمس القطاع العام وبالرغم من الشهادات المعلنة للدور العظيم الذي قام به القطاع العام في تمكين مصر من إعادة بناء قواته المسلحة وتزويدها بكل ما كانت في حاجة إليه لتحقيق نصر أكتوبر 1973 .
فما العمل ؟..
لندافع إذن عن القطاع العام من خلال دفاعنا عن الدستور والشرعية وسيادة القانون .. لعل الذين بأيديهم الحكم أن يستمعوا ، لأن الذين بأيديهم الحكم ببيع شركات القطاع العام لا يكفون ـ الى حد المبالغة ـ عن الحديث عن الدستور والشرعية وسيادة القانون ودولة المؤسسات .. الخ .
من هذا المنطق نريد أن نقول لهم أنكم بحكم الدستور والشرعية وسيادة القانون لا تملكون بيع شركات القطاع العام وأنكم تعرضون أموال الشعب ، ومدخرات الذين سيشترونها للضياع ، لأنكم تبيعون ما لا تملكون التصرف فيه …
إن الدستور ينص في المادة 30 على أن ” الملكية العامة هى ملكية الشعب وتتأكد بالدعم المستمر للقطاع العام ” ويحدد وظيفة القطاع العام في ذات المادة فيقول :” ويقود القطاع العام التقدم فى جميع المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية ” ويضيف فى المادة 33 قول : ” للملكية العامة حرمة . وحمايتها ودعمها واجب على كل مواطن طبقا للقانون باعتبارها سندا لقوة الوطن وأساسا للنظام الاشتراكي ومصدرا لرفاهية الشعب “…
شركات القطاع العام ، إذن ، أموال عامة ومخصصة لمنفعة عامة بحكم الدستور . وعلى هذا الوجه يلزم الدستور المواطنين بحمايتها ويلزم الحكومة بدعمها ويفرض القانون الجنائي عقوبة جسيمة تصل الى الأشغال الشاقة المؤبدة على المساس بها ..
فإذا انتقلنا من الدستور وقانون العقوبات الى القانون المدني نجد أنه يحرم بيعها بنص صريح ، تقول المادة 87 :” تعتبر أموالا عامة العقارات والمنقولات التي للدولة أو للأشخاص الاعتبارية العامة والتي تكون مخصصة لمنفعة عامة بالفعل أو بمقتضى قانون أو مرسوم “. وتضيف : ”هذه الأموال لا يجوز التصرف فيها أو الحجز عليها أو تملكها بالتقادم “ .
وهكذا يتضح بجلاء قاطع أنه لا يجوز التصرف ( البيع ) فى شركات القطاع العام .
هذا هو حكم الدستور والقانون فهل نحتكم الى القضاء ؟
إن المستشار الأستاذ بدوى حمودة رئيس المحكمة العليا التي ستقضى في الأمر لو احتكمنا إليها سبق أن نشر مقالا فى مجلة مجلس الدولة (السنة الثانية) قال فيه أن شركات القطاع العام أجهزة من أجهزة الدولة الإدارية وهى لذلك من أشخاص القانون العام بل وتعتبر مؤسسات عامة وأنها مكلفة بخدمة عامة وأموالها أموال عامة . كما سبق أن حكمت المحكمة الإدارية لرئاسة الجمهورية ( 28/12/1964 ) بأن شركات القطاع العام هي أدوات عامة ولو كانت تمارس نشاطا تجاريا أو صناعيا أو زراعيا .
فإذا كان لا يهمكم الاقتصاد الوطني ولا حياة العاملين فلماذا تعرضون أموال القطاع الخاص للضياع في صفقة بيع باطلة .. ذلك القطاع الخاص العزيز الذي لا ندري ما الذي يغريه بشراء أسهم شركات يقال أنها خاسرة ؟..
آسف .. لقد انكشف الغطاء ، ونشرت الصحف يوم 2/2/1978 أنه روعي في الشركات المعروضة للبيع أن تكون من الشركات الرابحة .. لهذا رأينا عرض ” الملف ” كله على الرأي العام ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق