عصمت سيف الدولة .. الفارس الأخير
.
طلال سلمان .
السفير
بتاريخ 1 – 4 – 1989
كأنه في مكتبه القديم منذ بدء الزمان ، وكأنه
باق فيه حتى نهاية الزمان ، لا يشهد له أو عليه ولا يؤرخ له ، وانما يحرض الانسان
أن "يكون هو السيد : يغير أكثر مما يتغير ، يفعل أكثر مما تكون علة الفعل أو
نتاجه" .
الوجه طيب ، وادع السمرة ، كوجه أبيك ، جدك ،
عمك ، خالك ، والشيب تاج أبيض يجلل السحنة المتشحة بحزن عتيق تزيد من قتامتها نظارتان
معتمتان ..
لكن العينين البراقتين ترسلان عبر القتامة التماعة
الذكاء التي سرعان ما يكبحها ذلك الدهاء الموروث المتلفّع بالحذر ، فتكون النكتة
أو القفشة أو التورية المتفجرة ضحكا هي المخرج السليم الذي يعيدك الى سياق الحديث الأصلي
..
حزب في كل بلد ..
فحيثما كنا نذهب ، أواخر الستينات مع بداية
السبعينات ، كان عصمت سيف الدولة يخرج علينا شاهرا صمود فكره القومي وسيف الدعوة
الى التجديد من داخل العقيدة لا من خارجها .
ولأنه صلب كالغرانيت فلقد كان ، ومازال ،
يثير عواصف النقاش والجدل حيثما حل . بل كان مجرد ذكره أو الاستشهاد ببعض طروحاته
يكفي لإثارة معركة حتى بين "رفاق الصف الواحد" بل لا سيما بينهم .
فعصمت سيف الدولة المهذب جدا ، والأصولي الى
اقصى حد في "قانونيته" ، لا يتقن فن المجاملة ، متى اتصل الأمر بالموقف
السياسي ، بل هو يرفض المجاملة وينقلب الى "مدع عام" يطارد
"المتهمين" بالخروج على الخط حتى يستسلموا فيتوبوا ، فاذا ما اصروا
المكابرة فلسوف يهربون من فضاضة هذا "الناصري" المتشدد أكثر بكثير من
جمال عبد الناصر .
ولقد حارت الأنظمة ، لا سيما تلك التي نسبت
نفسها الى الثورة التقدمية ، في كيفية التعامل مع هذا "القومي الشارد"
لا يستوقفه اغراء ولا يهزه ترغيب ويستفزه الترهيب فيكمل فيه ملامح الفارس الأخير ،
الذي لا يفقد نبله حتى وهو يتجرع الهزيمة ، ولا يكسر سيفه اذا ما حاصره العدو ،
بحجة الحفاظ على شرف السلاح ، فالسلاح موجود ليحمي به شرفه هو ، وشرف السلاح من يد
حامله وليس العكس .
في زمن البؤس والردة ، صار المناضلون
"متهمين" ، وصار الفدائيون والثوار "قتلة" ، وعزّ إيجاد المُدافع
والمحامي باسم القانون ومن داخل مضمونه الذي لا يمكن أن يكون معاديا للوطن والشعب
والأمة ، فتفرغ عصمت سيف الدولة لهذه المهمة الثقيلة .
وبوعي المناضل وفهم القانوني العريق وبإيمانه
العميق بمصر وثقته بالقضاء فيها ، تمكن عصمت سيف الدولة من أن يحوّل "القضايا"
التي قبلها الى محاكمات لهذه الحقبة من تاريخ مصر وسائر العرب ..
رفع التهمة عن هؤلاء الذين يُحتجزون في قفص
الطعن بوطنيتهم ، ورماها على من يجب أن يتحمل وزرها من الحكام المقصّرين أو الطغاة
أو المفرّطين بترابهم الوطني وبتاريخهم القومي .
اليوم ، وفي مكتبه العتيق ذي الأثاث الكثيف ،
وحيث يتركك ليدخل فيُعدّ لك قهوة بيده ، يمضي عصمت سيف الدولة الساعات الطوال
مراجعا ، دارسا ، مفكرا ، مسجلا للملاحظات والاستشهادات والاسانيد ، تمهيدا لكتابة
"مرافعة العمر" وربما "مرافعة العصر" دفاعا عن أولئك الفتية
الأغرار المنتسبين الى "ثورة مصر" ، والجاري نظر قضيتهم أمام محكمة
استئنافية لخطورة جرائمهم ! ..
"اريد أن أختم تاريخي بهذه المرافعة
التي أظن أنها ستكون بحجم كتاب ، انني متفرغ لها ، لا اقبل اية دعوى ، ولا أفعل
أو اقرأ شيئا الا ما يتصل بها من قريب أو بعيد ..
... لقد سئمت من الجدل البيزنطي الذي يلبس
أحيانا لبوس النقاش العقائدي . الموضوع بسيط في نظري : حق هذه الأمة في الوجود ،
وحق مصر في الكرامة ، وحق المواطن المصري في الدفاع عن ارضه وعن انتمائه القومي .
... هل انتهت الحرب فعلا بين العدو الإسرائيلي وبيننا ؟ .. لقد جاءنا
محاربا ، وكان في كل مرة يشن علينا الحرب ..
فهل نحاسب المصري اذا ما رد عنه العدوان ،
اذا ما دافع عن شرف بلاده ؟ هل أطلق هؤلاء الشبان النار على بعض الإسرائيليين وبعض
رجال المخابرات الامريكية من داخل حالة الحرب المعلنة والمستمرة ضد مصر أم من
خارجها ؟
هل لنا الحق بمحاسبتهم على تصديهم أم تراهم
هم أصحاب الحق في محاسبتنا على قعودنا واستسلامنا الذليل ؟ ! " .
عصمت سيف الدولة يقرع ناقوس النضال للأجيال التي
لم تعرف من تاريخ النضال الا القلة .. وفي حين ينصرف القدامى من الميدان متسارعين
، أو يتخفون أو يختفون ، ينادي عصمت سيف الدولة للعودة اليه ..
ليس "دون كيشوت" هو . انه الفارس
الأخير ، لكنه يثق بقدرة الامة على استيلاد جيل النصر .
وأهمية تنظيم "ثورة مصر" بالنسبة
اليه انه قد لا يكون التعبير السليم عن قرب قدوم هذا الجيل ، لكنه اعلان بالرصاص
للرفض ، والرفض أول خطوة على طريق التغيير .. على طريق النصر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق