بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

حوار فكري شامل مع د. عصمت سيف الدولة / رياض الصيداوي .


حوار فكري شامل مع  د. عصمت سيف الدولة .

رياض الصيداوي .

*  الصيغة الناصرية في المنهج والنظرية والأسلوب ليست مهمة فرد .

* اجتهاداتي الفكرية لم تكن أبداً " نظرية " .

* لا يمكن للدولة أن تكون إقليمية وديمقراطية في نفس الوقت.

* ميشال عفلق صالح ما بين القومية والإسلام .

* عندما تطاول بعض الأصوليين على العروبة مارست هواية الكتابة .  

* دعوت رموز الإسلاميين إلى التصحيح أو المناظرة .



مع المفكر الكبير الدكتور عصمت سيف الدولة في قرية البلاح  في شهر أغسطس1991 .


في الساعة الحادية عشرة صباحاً كنت أبحث عن شاليه الدكتور عصمت سيف الدولة في قرية "البلاح" الساحلية الجميلة الهادئة والملتحمة بالبحر، حتى وجدته . وكان في استقبالنا أنا ومرافقي الصحفي المصري ، وعلى عكس ما عرف عنه من جدية ، فقد كان بشوشاً هادئاً .. ومنذ اللحظات الأولى ، وقبل أن ننهي شرب قهوتنا الأولى ، دخلنا في حوار متشعب طويل ، هو مزيج من الجدل والنقاش والاختلاف حيناً والاتفاق أحياناً ..
قبل أن نسجل أو نكتب شيئاً ، انطلق الدكتور في حديث طويل عن ذكرياته مع معمر القذافي ومع ليبيا في بداية الثورة ، وعن ذكرياته مع وزير الداخلية المصري السابق ، المرحوم شعراوي جمعة ، وعن علاقاته بالعراق والعراقيين وبحزب البعث والخصومة بين سوريا والعراق ..
كان حديثاً طويلاً متشعباً ، غلبت عليه نزعة الماضي وأحداث أصبحت في عداد التاريخ .. حتى وصلنا موضوع الحوار ، وقدمت مجموعة من الأسئلة بلغت حوالي الثمانية عشر سؤالاً ، تخص أغلبها المسألة الناصرية . ولقد رفض الدكتور الإجابة على حوالي خمسة عشر سؤال منها ، وشرح أسباب رفضه في مقدمة الحديث الذي أدلى به ، وحتى تتضح المسألة أكثر ، وتبرز كل جوانب هذا الحوار ـ الجدل ـ كان لا بد أن نقدم بعض نماذج من هذه الأسئلة التي لم يجب عنها ، وقبل ذلك لا بد من التنويه بكرم الدكتور وحسن استقباله وضيافته .. وهذه بعض الأسئلة :
* تعتبر أن منهج جمال عبد الناصر هو منهج التجربة ـ الخطأ ـ فالتصحيح ، ولم يكن له منهجاً علمياً ، في حين أن الأسلوب الذي اتخذه عبد الناصر كان علمياً ، وأهم سماته : إنشاء المؤسسات ومراكز الأبحاث والاستعانة بأهم الخبراء والأدمغة ، واستخدامه التخطيط .. ولقد أنجزت أطروحات في هذا المجال بينت كيف كان عبد الناصر يتخذ القرار السياسي ، إضافة إلى أن مسألة الخطأ هي ظاهرة إنسانية وليست منهجاً مختاراً . ولقد اكتشفت منهج جدل الإنسان سنة 1965، ورغم ذلك لم ينتبه له عبد الناصر ، فلو اطلع عليه مثلاً هل كان يمكن أن يتفادى هزيمة  1967 ؟  
* الأحزاب الناصرية في الوطن العربي لم تأخذ بنظرية الثورة العربية ، رغم قولك أن منَ لم يتبعها منطلقاً وأسلوباً وغاية ، ليس بالناصري ، حتى لو جاءني بورقة موقعة من عبد الناصر نفسه ؟
* الشباب القومي آخرون . عليه كثرة النظريات والمناهج ، فالدكتور عصمت سيف الدولة يطرح " نظرية الثورة العربية " والدكتور نديم البيطار يطرح " النظرية الوحدوية العلمية الجامعة " والدكتور عبد الله الريماوي يطرح "الحركية الحياتية.." وكتاب ومفكرون آخرون .. فأين الصحيح في كل هذه الاختزالات الشخصية ؟  
* "النظرية" تأتي كتطور طبيعي للفكر ، بينما نظرية الثورة العربية جاءت بطلب من قيادات سياسية عربية ، أفلا ترى نوعاً من رد الفعل أكثر من الفعل المباشر ؟

وهذه إجابات الدكتور:

أشكر الأخ رياض الصيداوي على زيارته واهتمامه بأن ينقل عني إجابات على 18 سؤالاً . وأريد أن أعتذر عن عدم الإجابة على كثير منها لأسباب مختلفة .  
فمثلاً السؤال الأول عن المنهج ، لا يصلح حديث عابر للإجابة عليه ، إضافة إلى أن الإجابة الوافية مطروحة في كتبي ، وبشكل خاص ، في الصيغة النهائية للمنهج كما جاء في كتاب " نظرية الثورة العربية " .
وكمثل ثان الأسئلة المتصلة بوقائع تاريخية خاصة مثل : السؤال الخاص بكيف جاءت فكرة النظرية ، ومع من دار الحوار، حيث لا أعتقد أن هذا له أهمية . بالإضافة إلى أني تعرضت إليه في آخر ما كتبت "حديث عن الناصريين وإليهم". وأخيراً وأهم الأسئلة التي اعتذر عن الإجابة عليها هو ما يتعلق بالناصرية والناصريين .
وأرجو أن يؤجل الشباب العربي الناصري محاولة الإجابة على هذه الأسئلة إجابة نهائية إلى أن يتوحدوا فيتحولوا من ناصريين إلى قوة ناصرية منظمة تجيب على كل الأسئلة الخاصة بالتراث الفكري ، والاجتهادات الفكرية اجتهادات العلاقة مع الناصريين ، عندئذ ستكون إجابة القوى الناصرية الموحدة هي الجواب الصحيح الملزم للناصريين المميز لهم عن القوى الأخرى أو الأفراد الآخرين حتى لو ادعوا أنهم ناصريون . ذلك لأنني لاحظت من خبرتي واتصالاتي الواسعة بالشباب الناصري ، أن التركيز على المضامين أو الصيغ الفكرية للناصريين بقصد الوصول إلى تحديد لها ، كان من أسباب الخلاف بينهم وما يزال ، ولا يوجد ناصري شاب ممن قابلتهم ، وهم كثيرون ، لم يسمع قولي بأن الصيغة الناصرية في المنهج والنظرية والأسلوب ليست مهمة فرد ولا مجموعة أفراد ، ولكنها مهمة التنظيم الناصري الموحد ، لهذا فإن إجاباتي على هذه الأسئلة قد تعمق خلافات موجودة . وأعتقد أن لا أحد من المفكرين ولا أحد من الناصريين قادر على ذلك . ومع أن أحداً لم يسأل الفلاحين والعمال والفقراء والمقهورين عن ما هي الناصرية فكراً ، فإن الناصرية التي ينتمي إليها هؤلاء الذين أسميهم جماهير عبد الناصر هي الناصرية الحقيقية ولا ينقصهم إلا مؤسسة تجمع كل أولئك الذين عرفوا عبد الناصر وآمنوا بالناصرية وما يزالون يتطلعون إليها نتيجة مكاسب عينية ، وليس نتيجة حوارات فكرية ، أقول جميعهم في مؤسسة منظمة يعبرون فيها عن إجاباتهم عن السؤال ما هي الناصرية ؟ ليتولى المثقفون في الحزب صياغتها ، إذن هي الناصرية في الواقع وليست في أذهان المثقفين . ولعل الناصريين يركزون على الوحدة التنظيمية ولو من أجل اكتشاف الناصرية في أذهان جماهير عبد الناصر. وأنا واثق تماماً أنه عندما يحدث هذا سأكون أول من يتبنى نظرية الناصريين ، ومنهجها أيضاً وأسلوبها وغايتها ، والاعتراف بأنها هي فعلاً الناصرية ، وبصرف النظر عما اجتهدت في أن أصوغه في كتب وكتابات قبل ذلك ، وذلك لأنه الواقع بالنسبة لاجتهاداتي الفكرية أيضاً لم تكن أبداً نظرية بل كانت محاولة لصياغة ما أعتقد أنه آلام وآمال الشعب العربي وكذلك يجب على كل من يزعم أنه قومي أن يتلقى من الشعب العربي ، لا من الدول ولا من مفكريها ولا من جامعاتها ولا حتى من مثقفيها الذين يحاولون صياغة أفكارهم بعيداً عن الناس ومعاناتهم الحقيقية ، وإذا كان لا بد من مزيد التحديد ، ولأدلل على أن  الاجتهادات الفكرية من الناصريين كثيراً ما تكون هروباً من متاعب إكمال حوار عبد الناصر .. وإنني لم أكف أبداً عن اقتراح أن يبدأ الناصريون وحدتهم التنظيمية على أساس وثيقة جيدة الصياغة عميقة المضمون متقدمة فكرياً ، وضعها عبد الناصر شخصياً ، وأعني الميثاق ، وأن يكمل التنظيم من خلال الممارسة ما قد يكون في الميثاق من قصور .
والميثاق لم يغط مرحلتين تاريخيتين خطرتين لم يتوقعهما ، أولهما : مرحلة هزيمة 1967 وثانيهما مرحلة الردة الساداتية . وما زلت أتمنى التوحد الناصري بدءاً من الميثاق ، وتولي التنظيم بنفسه ما كان عبد الناصر قد وعد بتغييبه حسبما جاء في الميثاق للتطبيق .
وقد يكون من الإنصاف ، وليس من التباهي أن أقول أنه عندما اتفق أقطاب الناصريين معي بعد وفاة عبد الناصر أن أصيغ مشروعاً وأن أضع ثلاثة خطوط تحت مشروع وثيقة فكرية للبدء في تأسيس الحركة العربية الواحدة في أوائل سنة 1971 . وكان الميثاق خاصة في أبوابه الفكرية الأولى هو النواة التي استنبت لها جذوراً سميتها المنهج، وأصولاً سميتها المنطلقات وفروعاً سميتها الأسلوب وثماراً أسميتها الغايات .
ويستطيع آخرون على سبيل القطع أن ينموا الميثاق ويستنبتوا منه غير ما استنبت . ولا تثريب ولا خطأ في هذا ما دام الميثاق قد أدى وظيفته التي كان يريدها ناصر ، وهي أن تتوحد عليه القوى الناصرية .  
أما الأسئلة التي من الممكن أن أجيب عليها فهي :  
* هل يحتاج القوميون إلى نظرية في المعرفة لتوحيد الوطن العربي؟

**
 نظرية المعرفة أو المنهج لازمة لوحدة المعرفة بمعنى أنه عندما تكون ثمة نظرية أياً كان موضوعها يعتنقها آخرون ، سيواجهون دائماً بسؤال : كيف عرفتم أن هذه النظرية صحيحة ، عندئذ يصبح المنهج لازماً للإجابة على هذا السؤال . وهذا ينطبق على كل النظريات وكل الأفكار، والبديل عنه نظرية المعرفة . وهو يأخذ عدة أشكال مثل : التجربة ، الخطأ ، البراغماتية ، الحدسية .. ولكن منهج المعرفة أكثر إحكاماً من التوحيد النظري ، ولا ننسى أيضاً أن له مخاطره ، فقد يتوحد الناس على نظريات محكمة قائمة على منهج محكم الصياغة ثم يضعون الحياة طولاً وعرضاً تطبيقاً لنظريتهم وإذا بهم يكتشفون في فترة النهاية حقيقة أن كل شيء انهار، ثم يتساءلون هل الخطأ منهم أم الخطأ من النظرية أم الخطأ من المنهج ؟
والجواب أن الملتزمين بنظرية يطبقونها لا ينسب إليهم خطأ ، فيكون الخطأ في النظرية ، فإن كانت نظرية قائمة على خطأ منهجي فلا بد أن يكون الخطأ في المنهج والمثل التاريخي الصارخ على هذا هو ما حدث للماركسية في أوروبا الشرقية ، فالنظرية الماركسية نظرية محكمة وقد طبقوها 70 عاماً ثم اكتشفوا أنها فشلت في التطبيق في موضوع الديمقراطية ، وموضوع القومية ، فانهار البناء كله ، ومرد ذلك إلى أن منهج المعرفة الماركسي الذي هو المادية الجدلية لا يعترف للإنسان بأنه قائد التطور في نطاق تأثيره وتأثره بالواقع المادي ، فلم تلتفت النظرية ولا التطبيق لدور ما هو إنساني في التطور إلى الاشتراكية فتجاهلوا حرية الإنسان ، وما يتبعها من ديمقراطية ، وأنكروا واستنكروا الانتماء الإنساني إلى مجموعة من البشر التي هي القومية ، إلى أن تبينوا أن البناء الاشتراكي والصناعي والثقافي والأدبي غير مكتمل الأسس ينقصه الإنسان ، ولما جاءت أول فرصة ليواجه الإنسان المنهج الذي تجاهل وجوده ، انهار المعسكر الاشتراكي ، وطبيعي أنه كان يمكن ألا ينهار لو أن هناك قوى معادية أصلاً للاشتراكية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية لتقطع على الدول الاشتراكية الطريق إلى مسألة تصحيح المنهج ثم النظرية ثم النظام وتصل إلى منهج جدل إنساني ، نظرية قومية في إطار التوحيد ونظرية اشتراكية . وهذه أحد مخاطر المنهج أردنا أن ننبه إليها حتى لا نتصور أنه مجرد فهم تصوغه عقول فوق المكاتب . لكن حتى هذا المنهج ، وهو تأصيل النظرية ، يمكن استخلاصه حتى لو لم يكن مصاغاً من النظرية الناتجة عن مجرد التجربة والخطأ والتصحيح ، ومن هنا استطعت بدون تردد أن أجد العلاقة بين منهج جدل الإنسان وكل ما هو إيجابي في الممارسة الناصرية خطأ وتصحيحاً .
كل هذا لا علاقة مباشرة له بوحدة الوطن العربي ، وحدة الوطن العربي غاية، الغاية طبقاً لمنهج جدل الإنسان لا تأتي تلقائياً ، بل يحققها البشر . فالمنهج وضع لنا التنظيم القومي أسلوباً وحيداً لتحقيق الوحدة العربية ، وعندما توصلنا في فترة من الفترات إلى نوع من الوحدة الجزئية نتيجة التجربة والخطأ بدا كما لو كانت أن الوحدة قد تحققت بدون منهج . ولكن توقف الوحدة عند القطرين مصر وسوريا ، وعدم قبول وحدة العراق ثم ما بعدها من أقطار، بما قيل حينئذ أن التوحيد المتسرع مع العراق خطأ ، قد أثبت أن المنهج الإنساني الذي يعترف بالقومية كانتماء فيحدد الوحدة كهدف لا يقبل التصالح مع الإقليمية المعادية للقومية .
وهكذا نرى أن منهج المعرفة أيضاً ضروري بالرغم من وحدة النظرية في تحديد الأسلوب الأمثل لتحقيق الغايات .
* في مسألة الأسلوب ، رصدنا ظهور أحزاب ناصرية في الوطن العربي ، ساهمت سياسياً في العمل والتفاعل مع التعددية وهامش الديمقراطية المتاح في أوطانها ، فكيف تقيم هذه الأحزاب ومشاركاتها ؟
 ** مع إصراري على عدم التعرض الآن على الأقل للسمات الناصرية للأفكار والحركات ، لا يمكن أن أتجاهل الإشارة إلى التناقض الذي تضمنه السؤال .
فتعدد الأحزاب الناصرية في الوطن العربي يعني في نظري أنه إما أن يكون من بينها حزب ناصري قومي واحد ، أو ألا تكون كلها ناصرية ، لأن التعدد ينفي الوحدة على المستوى النظري بصرف النظر عن المستوى المنهجي والأحزاب المتعددة في الوطن العربي حتى ولو كانت وحدوية لا يمكن أن تكون قومية . القومية لا تقسم الأمة إلى وحدات اجتماعية مستقلة بعضها عن بعض ، تمثلها قوى مستقلة بعضها عن بعض . وعندما يكون هذا التعدد والاستقلال تابعاً للتقسيم الإقليمي للوطن العربي ، فإنها لا تكون غير قومية فقط، بل تكون إقليمية ، أن يجسد كل حزب فيها إقليما يمثل شعبه ويطمح إلى حكمه وإن نجح يتحول هو ذاته إلى دولة إقليمية كما حدث لحزب البعث في سوريا والعراق واليمن الجنوبي وفي أي مكان . وستكون وظيفة أي حزب في هذا الوقت أو من ضمن وظائفه ، الوظائف التي قام بها "البعث" العراقي والسوري ، والتي انتهت إلى عداء إقليمي لا يقيم وزناً لانتماء الشعب في القطرين وإنما يتنازعون على الحكم فيه .
وطبيعي أن ليس هناك في الوطن العربي الآن حزب ناصري قومي يستطيع وحده ، وليس أحد غيره، أن ينكر ادعاء أي حزب آخر أنه ناصري . ولكن عندما يقوم هذا الحزب يستطيع أن يجرد 99.99% من الأحزاب التي تقول أنها ناصرية من هذا الادعاء ، إذ يكون هو مرجع الاعتراف بمن هو الناصري وغير الناصري .
أما عما جاء في السؤال حول مشاركتهم في لعبة الديمقراطية فلا أستطيع أن أحكم على سلوك كل واحد منهم لأني غير محيط بنشاط هذه الأحزاب . ولكني أقول قد ينطبق عليهم تعميم تقييمي وهو أن ما يجري في الوطن العربي الآن ليس لعبة ديمقراطية وإنما هو لعب بالديمقراطية . فالقومي المنتمي أصلاً إلى الجماهير، وليس إلى الدول ، المتسلح بالنظرية القومية ، ومنهج جدل الإنسان لا يمكن أن يتجاهل الجدل الاجتماعي الذي هو وحدة قانون التطور، والذي يسمونه الديمقراطية .
فالديمقراطية لازمة كضرورة قومية لتطور الأمة العربية من التجزئة إلى الوحدة ، ومن الاستعمار إلى التحرر، ومن فوضى الاقتصاد الذي يسمونه رأسمالية إلى الاشتراكية . ولكن لا نفهم الديمقراطية في الوطن العربي في محاولة تسخير الناس في تبرير اغتصاب الأرض العربية والاحتلال ، ولو أخذت صيغة ما يقبله الفلسطينيون نقبله نحن ، ولو أخذت صيغ أممية أخرى ، إذن تنحصر قضية الديمقراطية قومياً كالآتي :  
أولاً ، لا ديمقراطية بالنسبة للإنسان العربي دون أن تقود خطاه إلى عمل قومي ، والتي نسميها دائماً التنظيم القومي ، إن أهمية الديمقراطية طبقاً لمنهج المعرفة القومي جدل الإنسان وتطبيقه . أعني الجدل الاجتماعي تحتم ، أقول تحتم ، لأن لا بديل عما سأقول أن ينشأ التنظيم القومي ديمقراطيا . تنشئه القاعدة الجماهيرية وتنظمه داخلياً وتختار قيادته وتفصلها وأن يبقى دائماً ديمقراطياً في الداخل وأن يكون دوره بالنسبة للشعب العربي في كل قطر ، الدفاع عن حرية الشعب العربي وديمقراطيته في مواجهة الدولة الإقليمية المستبدة . ولا أقول استبداد الدولة الإقليمية إن كل دولة إقليمية من حيث هي سجن كبير أو صغير لجزء من الأمة العربية تفصله عن بقية الشعب وتمارس عليه التحكم مرجعها بمرجع استبدادي ويصبح من العبث توقع أن تكون دولة إقليمية وديمقراطية في نفس الوقت.
تواجد التنظيمات القطرية ـ القومية ألا يدفع في هذه المرحلة بالعمل القومي إيجاباً ؟
** هذا السؤال يواجهه كل الشباب القومي في الوطن العربي ، كيف يكونوا منتظمين في قطر ومطهرين من الإقليمية وغير متناقضين .
وأنا أعرف على مدى 30 سنة الماضية مجموعات شباب في بعض الأقطار نشأت متطلعة إلى أن تلتحق بالتنظيم القومي ، حتى طال الوقت ولم تجد التنظيم ، فمارست العمل السياسي قطرياً فتحولت إلى مجموعات قطرية ولا أقول إقليمية، والإجابة على هذا السؤال تطول وإن كانت رؤية فردية أياً كانت الدراسات التي وراءها . أريد أن أقول باختصار أن ما توصلت إليه حلاً يتلخص في التنظيم القومي الديمقراطي الذي ينشأ من القاعدة لا بد أن يمر بمرحلتين تاريخيتين .
المرحلة الأولى تتم بالتجهيز والإعداد لتأسيسه . وفي هذه المرحلة لا يملك الشباب العربي في كل قطر إلا أن يعدّوا أنفسهم فكرياً ، نضالياً ، تنظيمياً في حدود القطر الذي هم فيه ولهذا شروط تبقى على سماتهم القومية ولا تخرج بهم إلى المصير الإقليمي وهي :
أن لا يكون التنظيم مغلقاً دون أي عربي يقيم في كل قطر . فكل تنظيم مهما قيل أنه قومي ، تقوم عضويته على تصور إقليمي ، إذا كانت عضويته غير مباحة للعرب الذي يتواجدون في قطره بصرف النظر أنه مشروع قومي ينمو ليصبح قومياً .  
أما المستوى الفكري فهو ألا يقبل الاهتزاز أو الشك أو التردد في الموقف القومي من مشكلات الحياة في القطر، مهمة الحزب القطري أنه يدرب نفسه على كراهية وعداء كل ما هو إقليمي .. فمهمته الكبرى هي تسهيل عملية الوحدة عندما يأتي أوانها، وعليهم إذابته . أما الشرط الثالث الخاص بالتنظيم فهو أن يكون على علاقة منظمة بالقوى القومية التي تنشط في نطاق المرحلة التاريخية الأولى ، مرحلة الإعداد حتى تنطبق هذه المرحلة في أكثر من قطر معاً ، إنما بمثابة الإعداد تحت الالتزام وخاتم مرحلتها هو اللقاء في مؤتمر تأسيسي للتنظيم القومي تمثل فيه القوى التي مرت بهذه المرحلة ، ولكن ليس بالضرورة أن يكونوا ممثلين من جميع الأقطار، لأن التمثيل القطري هو تمثيل إقليمي، فلا يقبل المؤتمر التأسيسي صياغة نهائية للفكر القومي على ضوء كل ما طرح وكل ما هو مطروح . ثم أهم من هذا أن يبدع ويبتكر الأطر الداخلية للتنظيم التي تحقق ثلاثة أمور:
ـ الأول : أن تبقي قواعد التنظيم القومي فوق قيادة التنظيم ، ولهذا من الممكن أن تكون القيادة محدودة في فترة زمنية وهذه هي الديمقراطية الداخلية .
ـ الثاني : الرجوع إلى القواعد في تطبيق الأفكار والتزامهم باستراتيجية لقيادة التنظيم ، مع ترك النشاط التكتيكي في الأقطار لكل قطر.
ـ الثالث : وهذا قد يبدو شكلياً ولكن منتهى الضرورة أن يطبق هذا داخل الأقطار نفسها ، يمكن أن يقوم فرع للتنظيم في كل محافظة في كل قطر. ولكن لا يجوز أن يكون حزباً موحداً في كل قطر، فمثلاً فرع الحزب في سوريا يشمل اللاذقية ولبنان ، فرع آخر يشمل الصحراء الغربية وبنغازي حتى لا نترك لأي فرع فرصة التمرد عليه للاستيلاء على السلطة في قطر إقليميا من قبل .
إذا استطاع الشباب القومي أن يتحمل الصعوبات والمعاناة وقوة إلزام أنفسهم لكل هذا ، فسيكون لدينا تنظيم قومي . أما إذا لم يستطيعوا فإن الشعب العربي لا يكون مؤهلاً موضوعياً لموضوع الوحدة فينتظم في قطره ، فتفقده الحركة القومية كما فقدت الكثير من الشباب القومي .
* هناك صراع فكري جذري بين التيار الأصولي الديني من جهة والتيار القومي العربي من جهة أخرى ، وأكثر النقاط في هذا الصراع هي مسألة العروبة والإسلام، ولقد كان لك في هذا الموضوع كتاب حمل عنوان "عن العروبة والإسلام" فكيف تقارب أبعاد هذا الصراع ؟
** هناك صراع فكري ، وفي بعض الأوقات نشيط بين التيار القومي والتيار الإسلامي في الوطن العربي ، أسبابه الفكرية أن التيار الإسلامي وريث لمن يسمون الأصوليين ، وهي مرحلة لم تنته في القرن الماضي .
فمنذ الرسالة إلى سقوط وحدة الدولة العثمانية ، كانت الأصولية على المستوى السياسي تمثل وحدة الأمة العربية لا في الدين فقط ، وإنما في الدولة ، والغاية السياسية للتيار الإسلامي هي وحدة الأمة الإسلامية التي تشمل كل الدول الإسلامية. ثم نشأ الفكر القومي ، متأثراً بالطغيان التركي. واستئثار حركة الاتحاد والترقي بالدولة العثمانية التي كانت مشتركة بين شعوب كثيرة .. لقد حولتها الحركة إلى دولة الأتراك . وبدأت في ممارسة القهر الاستعماري . فكان رد الفعل نشوء حركة قومية عربية .
.. إن العلاقة بين القومية والإسلام من التيار الإسلامي في التدليل على التناقض والصدام بين المفهومين ، وعجز القومي قبل حزب البعث على أن يجد علاقة بين القومية والإسلام ، فلما جاء "البعث" خاصة مع ميشال عفلق صالح ما بين القومية والإسلام واتخذ من رسول الإسلام رمزاً للإشادة بهذه العلاقة ، وكان هذا موقفاً فكرياً ناقصاً لأنه ذو طابع شخصي ، إعجاب أشخاص بالرسول وصحبه وهم أشخاص .. وبقيت هذه المسألة الصغيرة ، فينفذ منها التيار الإسلامي للطعن في موقف القومية من الإسلام ، وقد اقتضى غلق هذه الثغرة مجهوداً دراسياً استمر أكثر من ربع قرن .. وأزعم ـ ومن حقي أن أزعم ـ أنني أول من التفت إلى هذه القضية ، وأراد أن يحدد موقفاً فيها لا بخصوص إنشاء لقاء بين الإسلام والقومية ، إذ لم يكن ثمة تناقض بينهما ، ولم أكن مستعداً لتفضيل القومية على الإسلام بحكم أنني مسلم ، ولكن الحل جاء في سياق دراسة الأمة ، فقد كانت كل الأسئلة ، ما هي مواصفات الأمة ومميزاتها ، وكانت الإشكالية قد طرحت سؤالاً ، لماذا تكونت الأمة ، وكان الماركسيون يقولون بسبب النظام البرجوازي . وقد تذكر كتابي الأول كان معركة مع الفكر الماركسي ، فالتفتت إلى خطورة وجدية السؤال الذي طرحه لينين وأيد صحة مقولة ستالين حول أن السوق الاقتصادي الموحد يشكل الأمة ، ورفض هذه الفكرة لسبب بسيط هو أن الوحدة البرجوازية تمت في كل أمة على حدة بما يعني أن وجود الأمة سابق .
لقد طرحت هذا السؤال (كيف توحدت الأمة) على نفسي بالنسبة للأمة العربية ، فبدأنا سنين طويلة في دراسة الجنس السامي ثم العربي وأصل تطوره إلى أن انتهينا إلى الهجرة إلى المدينة ، وأصبحت لنا وجهة نظر في لماذا تتطور المجتمعات من الأسر إلى العشائر إلى الشعوب إلى الأمم .. إن جوهر التطور يتم من أجل حياة أفضل ولو من خلال الصراع.. وتطبيق هذا على الأمة العربية يؤدي بنا إلى أنه قبل الهجرة ، كان العرب في شمال الجزيرة أو جنوبها ، مجتمعات قبلية ، حتى جاءت الرسالة الإسلامية ووحدت بين المسلمين فكرياً وانتماءاً إلى الدين ، ولكنها في مرحلتها الأولى المكية ، لم تدخل عنصر الوطن الواحد كعامل انتماء للمسلمين لدرجة أن الرسول طلب من المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ، ثم جاءت الهجرة ، فما أن ذهب المسلمون إلى المدينة حتى وضعوا بينهم وبين اليهود والنصارى دستوراً يحكم المدينة اسمه "الصحيفة" ومن المدينة انطلق الفتح العربي في جميع الأقطار، وأصبحت دار الإسلام أي دخلت الأرض المشتركة عنصراً في الإسلام بالتفاعل ما بين البشر في نظام مشترك (الإسلام) مع أرض محددة ..
فنشأت الحضارة العربية مصاغة طبقاً للصفة الإسلامية ، عندئذ اكتملت الأمة العربية تكويناً من بشر معينين وأرض محددة ، تفاعلاً بينهما .. وبعد عشرين سنة من كتابة هذا الكلام لم أكف ولم أتوقف عندما تطاول بعض الأصوليين على العروبة ، فمارست هواية الكتابة ، وهواية الكتابة عندي هي الإسهام بالكلمة في معركة قائمة ، وليس قبل ذلك ، فأخرجت كتابي "عن العروبة والإسلام" وطرحت فيه ما سبق أن كتب وهاجمت فيه من يتخذون من الإسلام حجة لتأييد معاداتهم للقومية ، وحاورتهم على أسس إسلامية وتجرأت ، فقلت أن الأمة العربية ، هي أمة الإسلام ، لأنها لم تكن أمة قبل الإسلام . وهاجمت العلمانية ، لأن العلمانية حركة فكرية غريبة ، وأن أصولها واردة في الإنجيل ، لأنها وزعت السلطة بين رجال الدين والدولة .. ولقد ووجه هذا الكتاب بالتعتيم الذي أحيط به ، مع أنني قبل أن أقدمه للمطبعة ، أرسلت ستين نسخة إلى رموز التيار الإسلامي في مصر، ودعوت من يريد التصحيح أو المناظرة ، فنشرته . وكما هي العادة، لم أتتبع ما أنشره ، وأستطيع أن أقول أنه منذ سنة 1952، وهذا الكتاب يصحح بهدوء الأفكار الأصولية فيما يتعلق بموقفها من القومية .. وأعتقد أنه في العقد القادم   ستتغير وجهة النظر الإسلامية في هذه المسألة ، أو سيستوعبون أن توحيد الأمة العربية خطوة أولى وسابقة على توحيد الأمة الإسلامية ..
البلاج ـ الاسكندرية ـ يوليو ـ (جويلية) 1991.
رحم الله الدكتور عصمت سيف الدولة .

                       ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق