المقاومة من وجهة نظر قومية .
د.عصمت سيف الدولة .
لماذا
كانت الدراسات القومية في الوطن العربي التي تدور حول فكرة الوجود القومي وعلاقته
بالتقدم الاشتراكي غير كافية لإقناع باقي الاشتراكيين ؟ هل لعجز هذه الدراسات عن
الإقناع أم لأن باقي الاشتراكيين لا يريدون أن يقتنعوا ربما لان لهم ارتباطات غير قومية
؟
جواب (7) :
الواقع
أننا نرى أن موقف الاشتراكيين غير مبرر علميا . غير مبرر علميا ان نلتزم بالنضال
الاشتراكي في "الأقاليم" أو " في العالم أجمع " ، ونقفز فوق
الوجود القومي مع التسليم بأنه موجود ، اذ لا أحد من
الاشتراكيین ینکر الوجود القومي ( الأمم ) ، وقد ذكرنا أسبابا
عدة
لهذا الموقف منها الجمود العقائدي ، ومنها الرجعية العربية التي ترفع شعارات
القومية . ولسنا نريد أن نقول أن الارتباطات غير القومية سبب يضاف لأننا لا نريد
أن نتهم أحدا بالخيانة بدون ان تكون الأدلة الحاسمة على هذه التهمة متاحة . وإنما نضيف
ما قد يكون سببا مؤثرا وهو أن أغلب القيادات الاشتراكية في الوطن العربي من
المثقفين الذين يجزعون من متاعب النضال القومي فيهربون منه إما الى الإقليمية ومتاعب
النضال فيها محدودة ، أو الي الأممية ومتاعب النضال فيها صورية . ولكنا نعتقد أن
الفشل الإقليمي سيكون المدرسة التي تعلمهم - بعد أن يدفعوا ثمن الفشل - أنهم لا يستطيعون
الإفلات من انتمائهم القومي ، وأنهم لا يختارون المتاعب على هواهم ، فلا بد لهم من
ان يقبلوا مواجهة متاعب النضال التقدمي كما تطرحها الظروف الموضوعية . والظروف
الموضوعية في الوطن العربي تطرح متاعب ذات سمات وأبعاد وعلاقات قومية أمام كل االاشتراکین
سواء آرادوا هذا أم لم يريدوه . ان هذا هو حكم التاريخ الذي صاغنا أمة عربية واحدة
.
لماذا تكونت الأمم :
سؤال (8) :
ان
سؤالي ذو شقين :
الشق
الأول : لقد كانت المجتمعات القبلية في صراع دائم فیما بينها وكانت لكل قبيلة أهداف
مختلفة ومتناقضة وربما كان تكوين الأمم نتيجة سيطرة مجموعة من القبائل على مجموعة
أخرى أو غزو أحد لشعوب أخرى ، فكيف يمكن القول إطلاقا بأن الوجود القومي كان حلا
تقدميا بالنسبة الى جميع المجتمعات التي نكون منها بدون تفرقة بين المجتمعات المسيطرة
والمجتمعات المقهورة ؟
الشق
الثاني : ان الحديث عن الوجود القومي أو الأمة ككل ، وتقدمها ، فيه تجاهل لدور
الصراع الطبقي كحقيقة محركة للتقدم . والصراع الطبقي يفترض انقساما طبقيا يستحيل
معه الحديث عن المجتمع ككل .
جواب (8) :
عن الشق الأول :
ان الوقائع صحيحة أو غير مستبعدة . ففي المجتمعات السابقة على الطور القومي كان
الصراع على اشده ، وكان كل مجتمع يحاول أن يفرض سيطرته على المجتمعات الأخرى .
ويمكن ان نستنتج ان المجتمعات الأخرى كانت في أغلب الحالات تقاوم السيطرة المفروضة
عليها . ونقول اختصارا للجواب أن كل ذلك هو ما نسميه الأحداث التاريخية التي تكونت
الأمم خلالها . ثم نظيف هذه النقاط المتتابعة . بصرف النظر عن تقديرنا نحن للأهداف
التي كانت تحرك الصراع القبلي لا بد أن كل قبيلة كانت تستهدف من الصراع ، هجوما أو
دفاعا ، حياة أفضل لها ، أي انه كان صراعا اجتماعيا غايته تقدمية من وجهة نظر كل
أطرافه ، انتهى بسيطرة مجمةعة من القبائل أو شعب من الشعوب على باقي المجموعات أو
الشعوب الأخرى ، وكان ذلك حلا تقدميا بالنسبة للقوى المسيطرة ، وهو وهو ما لا يمكن
زعمه بالنسبة للقوى المغلوبة التي لا شك انها كانت ترفض القهر ولو خفية وتحاول
الثورة عليه واستئناف الصراع . وقد استطاع كثير من المجتمعات القبلية أن يثور
ويصبح غالبا بعد أن كان مغلوبا . واستغرق ذاك الصراع حقبة تاريخية طويلة سبقت
التكوين القومي وأسهمت فيه . خلال تلك الحقبة التاريخية الطويلة كان يوجد دائما
طرف ثالث يظهر من حين الى حين ويفرض الهدنة والتحالف بين المتصارعين . ذلك هو
العدو المشترك في شكل قبائل أخرى أو شعب آخر . المهم أن ندرك انه خلال الصراع كان
التفاعل الاجتماعي بين الجماعات المتصارعة لا يتوقف وكانت تنمو بين الجماعات
المتصارعة في رقعة جغرافية تتسع وتتقلص وتتحدد رويدا خصائص ومصالح مشتركة تميزها
عن مجموعات أخرى . كل هذا كل هذا والصراع الذي اصبح داخليا يبرز الى الأمام كلما
غاب الخطر الخارجي . ويصل الأمر بعد تراكم الخصائص والمصالح المشتركة الى أن يصبح
الصراع داخل الوحدة هو الحل التقدمي الذي يتفق مع أهداف جميع المتصارعين . أي يصبح
هدف الصراع دائرا حول كيفية التعايش في اطار وجود مشترك بدلا من كيفية الخروج من
هذا الوجود المشترك . وبينما يستمر الصراع على وجه لا يخفي ميراثه القبلي تكون
الأمة قد بدأت في التكوين ، ويدل على هذا اعادة ارجاء الصراع الداخلي في مواجهة
العدو الخارجي الذي يعتبر عندئذ عدوا قوميا ، تواجهه الأمة التي في طور التكوين
بقوى موحدة وقيادة موحدة . وتتعلم من النصر الذي تحققه أن وحدتها القومية كانت حلا
لمشكلة الأمن التي يعجز عنها كل جزء منفرد ا . وفي ظل هذا الأمن يقدم لها الوجود
القومي أفضل الامكانيات لتحقيق الحياة الأفضل اجتماعيا ، وتقدم لها الأرض المشتركة
المادة الموحدة التي تشكل منها حياتها . كل هذا مع استمرار الصراع الاجتماعي ، ليس
بين القبائل في هذا الطور ، ولكن بين القوى ذات الأهداف الاجتماعية المختلفة
المتناقضة ، وان كانت كل منها تعتبر ان اهدافها تمثل الحياة الافضل بالنسبة الى
الامة ككل ..
من هذا ندرك
الحقيقة الكامنة وراء التكوين القومي وهي عجز المجتمعات السابقة عليه عن حل
مشكلاتها منفردة بصرف النظر عن اسباب هذا العجز التي لا بد أن تختلف من جماعة الى
جماعة . ان مجرد كون التكوين القومي يتضمن مقدرة فرضت ذاتها كبديل عن هذا العجز
يعني انها طور أكثر تقدمية من الطور السابق عليها .
الشق الثاني :
لعل الاجابة عن الشق الأول أن تكون قد أوضحت أن الوجود القومي لا ينفي الصراع
الاجتماعي داخل الأمة . هذا الصراع الاجتماعي حقيقة غير منكورة وهو ما يسمى أيضا
بالصراع الطبقي . ولسنا نرى أن في الحديث عن الأمة ككل ، وتقدم الأمة ككل تجاهلا
للصراع الطبقي . لأننا ننطلق في موضوع الصراع الاجتماعي أو الصراع الطبقي من مسلمة
أولى نستطيع أن نصوغها كما يلي : ان الوحدة الموضوعية والتأثسر المتبادل للمشكلات
في اي مجتمع تعني أن الحل التقدمي لهذه المشكلات جميعا ، في زمان محدد ، في مجتمع
محدد ، حل واحد محدد موضوعيا بصرف النظر عن مدى صحة معرفة الناس به . وينقسم الناس عادة قسمين كبيرين في موقفهم من
هذا الحل الموضوعي . قسم يتبنى ويناضل من أجل تحقيق هذا الحل التقدمي الذي يكون قد
عرفه من خلال ادراكه الصخيخ للمشكلات الاجتماعية وتأثيرها المتبادل وحلولها
العلمية .. اولئك هم التقدميون ، الذين وان كانوا قسما من المجتمع الا أنهم يمثلون
مصلحة المجتمع ككل . أما كيف أدركوا ادراكا صحيحا المشكلات الاجتماعية وتأثيرها
المتبادل وحلولها العلمية فذلك أمر قد تختلف الطرق اليه من أول البحث العلمي الى
آخر تجربة الحياة وممارستها . وان كانت تجربة الحياة وممارستها تكون المدخل العريض
لهذه المعرفة حيث يعي الذين يعانون مشكلات الحياة ضرورة التغيير الاجتماعي حتى تحل
مشكلاتهم ، ويكون ذلك حافزا لهم على البحث عن حلول تقدمية لمشكلاتهم ، ذلك البحث
الذي يكتمل لهم من خلاله عنصر المعرفة بمصالحهم المشتركة في التقدم وضرورة النضال
الاجتماعي من أجل تحقيقه . في مواجهة هذه القوى التقدمية التي تتحول بالتحامها في
نضال منظم الى طبقة تقوم القوى الرجعية التي تلتحم لحماية مواقعها لتكون طبقة أيضا
. والرجعية قسم من المجتمع ينتمي اليه الرجعيون تحت تأثير عوامل عدة . منها الرغبة
في الاستغلال ، أي استغلال قوى المجتمع الذي ينتمون اليه لمصلحتهم الخاصة . ومن
هنا لا يمكن أن يقال عن هذه الشريحة المستغلة من الرجعيين انها تمثل المجتمع ككل لأنها
لا تستهدف تقدم المجتمع ككل ، بل انها مع معرفتها بأن مصالحها الخاصة مناقضة للحل
التقدمي الذي يجسد مصلحة المجتمع ككل ، تختار مصالحها الخاصة وتقف موقفا عدائيا من
المجتمع . غير أن هناك شريحة أخرى تقف موقفا رجعيا ، ضد الحل التقدمي لانها تجهل
حقيقة المشكلات الاجتماعية أو تأثيرها المتبادل أو حلولها العلمية ، فلا تتبنى
الحل التقدمي ولا تناضل من اجله وقد تعوقه أو تقف ضده استجابة لتصوراتها الخاطئة .
موضوعيا هي رجعية بصرف النظر عن حقيقة مصالحها التي تجهل علاقتها بالتطور التقدمي
وموقفها لا يمثل مصلحة المجتمع ككل بل يمثل مصلحتها هي ذاتها كما تتصورها تصورا
خاطئا .
وبين التقدميين
والرجعيين ، يستمر الصراع الاجتماعي في شكل قوى منظمة تحاول كل منها أن تحقق
أهدافها ، أي يستمر الصراع الطبقي . ومهما تكن أسباب الرجعية فانه لا يمكن الا أن
تكون الأهداف التقدمية مجسدة لمصلحة المجتمع ككل في المجتمع المعين والمرحلة
التاريحية المحددة التي يدور فيها الصراع . وهي أهداف كسبت سمتها التقدمية من
استجابتها للواقع الاجتماعي ككل وليس من هوى اصحابها . وهذا هو الذي يؤمن النصر
للتقدميين في نهاية المطاف بالرغم من ضراوة الرجعية ، ومن هنا ثقة التقدميين
بالنصر . لكل هذا فانا اذا كنا نستطيع بحق الحديث عن نشاط الرجعية من أجل مصالحها
الطبقية ، فان لا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن نضال التقدميين الذين يمثلون ـ من
حيث هم تقدميون ـ مصلحة المجتمع ككل ، حتى المصلحة الحقيقية للقوى السلبية ، أو
لتلك القوى التي لا تعرف كيف تحدد موقفها من الصراع الطبقي تحديدا سليما فتنحاز
الى الرجعية جريا وراء مكاسب مؤقتة ، أو تحت تأثيرات ميتافيزقية بالرغم من أن
مصلحتها الحقيقية في الحل التقدمي الذي تجهله أو تعوقه أو تعاديه .
سؤال(9) :
ان تفسير "
الأممية " بأنها انتماء الى مجتمع انساني واحد متوقع بعد آلاف السنين تفسير
غير صحيح ومخالف لمفهوم الأممية التي تعني وحدة الطبقة العاملة في الوقت الحالي
وفي المستقبل في مواجهة الامبريالية العالمية . فالى اي حد تكون " الاممية
" بهذا المفهوم الصحيح متفقة أو مناقضة للدعوة القومية ؟
جواب(9) :
صحيح أن "
الاممية " تعني وحدة الطبقة العاملة في الوقت الحاضر وفي المستقبل في مواجهة
الامبريالية العالمية . ولكن هذه مواجهة ذات غاية تتجاوز القضاء على الامبريالية
الى اقامة مجتمع انساني موحد . وعلى هذا فان تحليل الموقف الاممي يسفر عن معطيات
ثلاثة : الأول أنه تحالف بين الطبقات العاملة ضد الامبريالية العالمية المتحالفة .
وهذا الموقف مبرر بالدفاع عن النفس لان محركه الخطر المشترك الذي يجسده العدوان
الامبريالي ، وهو مقبول بدون حاجة الى مبررات فكرية أو فلسفية أخرى . والمعطى
الثاني أنه تطلع الى بناء مجتمع انساني موحد ، وهذه غاية تبعد عن عصرنا آلاف
السنين ، ومع أنها أمنية انسانية جميلة الا انها لا تصلح محورا للالتقاء أو
الالتزام النضالي الذي يستهدف تغيير الواقع الى ما هو أفضل منه وأكثر تقدما بما
بعنيه ذلك من التحام بالواقع ذاته حتى يمكن تغييره . المعطى الثالث الذي لم يشر
اليه السؤال مع أنه موضوع الحديث أن الاممية مطروحة كموقف مناقض للقومية ، مع أن
الوجود القومي واقع معترف به ، والرابطة القومية حقيقة تشد الناس ولا يمكن تجاهلها
. والأممية هنا " مثالية " من حيث انها تتجاهل الواقع الموضوعي وتحاول
أن تصوغ علاقات نضالية تقفز من فوقه ، ولا شك في أن الزعم بأن مصالح الطبقة
العاملة في العالم كله واحدة زعم غير صحيح . انه يفترض المساواة بين الأمم من حيث
التحرر والتقدم الاقتصادي . وهذه فرضية غير صحيحة . ان العاملين في كل الامم
يكافحون ضد الطبقات المستغلة بقصد استرداد مصادر الانتاج وأدواته من ايديهم
وتحويلها الى ملكية اجتماعية يكون لكل عامل فيها نصيب متكافئ مع ما يعمل . ولكن
وراء هذا حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها ، هي مصادر الانتاج وكل الثروات التي يراد
اعادة توزيعها توزيعا عادلا في بعض الامم المتقدمة هي في الاصل ثروة مغتصبة
بالاستعمار من أمم أخرى . ان هذا هو المبرر الرئيسي لما نلاحظه من أن المستوى
المعيشي الذي يثور العمال في احدى الدول لانه اقل مما يستحقون ، هو ذاته يتجاوز
بمراحل أحلام العاملين في أمم أخرى . تلك هي
الحقيقة التي افزعت " جيفارا " فثار ثورته العميقة ضد استغلال
" المجتمعات المتقدمة " للمجتمعات المتخلفة بدون تفرقة بين اشتراكيين
وغير اشتراكيين . ان هذا يعني فيما يهمنا أن التراث التاريخي الذي جعل مصلحة
العاملين في كل أمة محددة بمشكلات التقدم كما تطرحها ظروف الامة التي ينتمون اليها
وليس بالمستوى العالمي لمعيشة العاملين ، يحول دون الادعاء بوحدة المصلحة بين
العمال في جميع أنحاء الأرض الى درجة تجعل من الانتماء الى " العمل "
بديلا عن الانتماء الى الامة . غير أن هذا ذاته لا يعني أن ليس للعاملين في كل
الأمم مصلحة مشتركة كتلك التي أشرنا اليها وهي اسقاط الامبريالية العالمية
المتحالفة . ان تلك مصلحة تفرض عليهم ان يتحالفوا ضد عدوهم المشترك . كما أن
للعاملين في بعض الأمم مصالح مشتركة قد لا تكون عالمية ، كمصلحة العالملين في
المجتمعات المستعمرة في ان تتحرر مجتمعاتهم . وهكذا نرى أنه انطلاقا من أن القومية
هي الرابطة الاصل ، يخوض العاملون التقدميون في كل امة معاركهم الداخلية ضد
الاستغلال ، ويشاركون مع العاملين في أمم أخرى معاركهم ضد العدو الامبريالي
المشترك دون أن يفقد أي منهم هويته القومية .
النظرة القومية
:
سؤال (10) :
أ ـ اذا كانت الاقليمية رجعية فاشلة كما سمعنا فكيف يمكن
تفسير الانجازات التحررية التي حققتها الدول العربية المتحررة بالرغم من أنها
اقليمية ؟
ب ـ وما الرأي في فشل دولة الوحدة التي قامت سنة 1958 حتى
في المحافظة على وجودها ؟
جواب (10) :
أ
ـ عن التحرر :
ان القاعدة التي ذكرناها هي أن فشل الاقليمية لا يعني أن كل
دولة اقليمية عاجزة تماما عن أن تحقق نجاحات محدودة بما تستطيع ولكن يعني تماما أن
ما تحققه اقل بكثير مما كان يتحقق للشعب فيها في ظل دولة الوحدة الاشتراكية
والديمقراطية حيث يكون مدى التقدم ومعدله متكافئين لا مع مقدرتها الذاتية ولكن مع
الامكانيات العربية المتاحة وهي بالغة الوفرة .
ومع ذلك فلننظر الى المنجزات التي حققتها بعض الدول العربية
وعلى المستوى الذي يختاره الاقليميون عادة للجعجعة ، وهو مستوى التحرر ، الذي
يظنزن أن قد وصلوا اليه في ظل الاقليمية بجلاء الجيوش المحتلة . انا نخطئ خطأ
ساذجا اذا اعتقدنا أن جلاء الجيوش الأجنبية أو اجلاءها يعني التحرر تلقائيا . ان
عصر الاستعمار بالبطش الظاهر ينحسر عالميا ، وتسحب الدول الاستعمارية قواتها من
مناطق عديدة لمجرد توفير نفقاتها . وهي لا تفعل هذا متخلية عن مصالحها ولكن حافظة
لتلك المصالح بأساليب أخرى اقل تكلفة واستفزازا من الجيوش المقاتلة . ولا شك في أن
بعض الدول العربية قد استفادت من ذلك التحول التاريخي فجلت عنها الجيوش ، وأتاحت
لها الفرصة لرفع اعلام الاستقلال ودق طبوله والحصول على مقعد مريح في هيئة الأمم المتحدة
. غير أن التجربة لم تلبث أن أثبتت لنا أن الاستعمار الجديد ، الخفي ، الاقتصادي
والثقافي ، ليس اقل ضراوة وتخريبا من الاستعمار المسلح السافر . ذلك لان التحرر من
الاستعمار ليس منتهى غايات الشعوب بل هو بدايتها . فبرفع السيطرة الاجنبية عن
الوطن وامكانياته المادية والبشرية ، يبدأ المستقلون في تحمل مسؤولية بناء الحياة
التقدمية الافضل التي هي المعادل الحقيقي لتضحيات معارك التحرير . ولن يتحقق لهم
هذا الا بأمور ثلاثة : أولها ـ الأمن ، أي حشد كل الامكانيات والجهود والقوى
وتخطيط استخدامها من أجل بناء حياة افضل للجماهير التي قاست طويلا في ظل الاحتلال الاجنبي
، بدون خوف من عودة السيطرة الأجنبية ، أو بدون حاجة الى اقتطاع نسبة عالية من
الامكانيات المحدودة لرد ، أو ردع ، محاولات احتلال أخرى . ولا نريد أن نشير الى
أمثلة متعددة بل يكفي أن نقول أن أكثر الدول العربية جدية في رغبة التقدم
الاقتصادي لم تترك سنة واحدة متصلة بدون تهديدات ، أو اغارات ، أو حصار، أو حرب ،
وان قدرا متفوقا من طاقاتها كان وما يزال مسخرا من اجل دفع أو رد محالولات
الاعتداء على استقلالها بالرغم من أنها كسبت معركة الجلاء .
معركة التحرر اذن لم تنته لان الامن الكافي للتفرغ لبناء
الحياة الحرة لم يتحقق . وانها لمأساة حقا ان تكون حياة الجماهير تضحيات متصلة بلا
نهاية معروفة ، تضحي من أجل الاستقلال ثم تستمر في التضحية في معارك الحفاظ على
الاستقلال بدون انقطاع يسمح لها بأن تجني ثمار هذا الاستقلال . ان هذا الأمن
اللازم لبناء الحياة غير قابل للتحقق الا في داخل الوحدة العربية القادرة على
تصفية العدوان مرة واحدة والى الأبد ، وفرض احترام حريتها على كل مغامر ، وتجنيب
احتياطي للدفاع يكفي للردع ولا يؤثر على المقدرة على الانتاج ، ثم التفرغ بالقدر
الأكبر من امكانياتها لعملية بناء الحياة الأفضل . أي أن الاقليمية التي قد تستطيع
ان تكسب معركة جلاء الجيوش الاجنبية عن ارضها تجد نفسها فاشلة في وضع حد نهائي
لمحاولات العدوان وتوفير الأمن اللازم لتفرغها لبناء الحياة . فهي ـ في جملة قصيرة
ـ عاجزة عن النصر النهائي في معركة التحرر .
الأمر الثاني ـ الذي لا يتم النصر في معركة التحرر بدونة هو
هزيمة وتصفية الاستعمار الجديد . وجوهر الاستعمار الجديد هو التبعية الاقتصادية
للدول المسيطرة . ان الدول العربية تنتمي الى العالم الثالث . فهي دول متخلفة
اقتصاديا أو نامية . وهي في حاجة ملحة الى أن تضاعف مقدرتها الانتاجية بمعدل من
السرعة يعوض سنوات التخلف . وفي هذا تحتاج ـ
بالاضافة الى الجدية في العمل ـ الى أكبر قدر من معدات وخبرات الدول المتقدمة . وهي
اما ان تكون قادرة علي دفع ثمنها الاحتكاري الفادح لكي تحصل عليها بدون شروط أو
تبعية ، واما ان تدفع من ثمنها ما تستطيع ثم توفي باقي الثمن قبولا لشروط صريحة أو
ضمنية ، معلنة أو خفية ، تضعها موضع التابع للدولة البائعة المعدات الشارية الحرية
. وتلك هي النافذة التي يعود منها الاستعمار الجديد بعد أن كانت جيوش الاستعمار
القديم قد غادرت من أبواب الموانئ . ولقد وقعت بعض البلاد العربية ـ الخالية من الجيوش الأجنبية ـ في
براثن الاستعمار الجديد ، وباعت الاستقلال الذي دفعت ثمنه من دماء الشهداء
بالارتباطات المالية والاقتصادية التي فرضتها عليها الدول الاستعمارية . فهل تحررت
أم خانت الحرية ؟ لم تتحرر ولم تخن بل فشلت في تحقيق النصر النهائي في معركة
التحرر . ولن تستطيع ان تحققه الا في ظل دولة الوحدة ، القادرة بمواردها الوفيرة
على أن تشتري من المعدات والخبرات ما تحتاجه للتقدم الاقتصادي ، بثمنه الفادح ،
بدون أن تبيع حريتها . وعندما نرى مستوى الحياة في كثير من البلاد العربية التي
جلت عنها الجيوش الأجنبية مترديا ، أو متوقفا ، أو يحبو مثقلا بالديون والالتزامات
الخارجية ، فيجب أن ندرك أن الإقليمية التي قد تتقدم حبوا ، فاشلة في التقدم وثبا
، لأن التقدم وثبا لا يتحقق لها الا بالإمكانيات العربية التي ترفع عنها أثقالها ،
ثم تكفي ، وأكثر ، للتنمية الاقتصادية في الوطن العربي كله ، بعيدا عن شرك
الاستعمار الجديد الذي يحتفي وراء الأموال ، والمعدات ، والخبرات ، والمعونات .
الأمر
الثالث ـ الذي لا يكتمل النصر في معركة التحرر الا به هو أن تشعر الجماهير التي
أذلها الاستعمار سنين طويلة بأن قيودها قد تحطمت يوم أن استقلت ، وأنها تعيش في
بلادها المتحررة حياة حرة لا ذل فيها ولا خوف ولا قهر ولا استبداد . فهل تحطمت
قيود الجماهير العربية بعد الجلاء ورفع أعلام الاستقلال ودق طبوله ؟ ان الرجعية لا
تزال تفرض عليها القهر الاقتصادي وتذلها قبل أن تسمح لها بالحصول على لقمة العيش
التي تحفظ الحياة من الموت . وتقبض على الناس من أمعائهم حتى يركعوا لها أو يسجدوا
أو يموتوا جوعا . والجماهير العربية تتفرج على نظم العبودية والإقطاع في القرن
العشرين ، ويحتمي الظالمون من غضبها ، وثورتها ، وراء حق الدول المستقلة في ألا
يتدخل أحد في شؤونها الداخلية ، والتزام الدول " المستقلة " بالا تتدخل
في شؤون غيرها . ثم ما بين وعود الحرية والرخاء والتقدم تبذل للجماهير العربية
برعونة غير معقولة ، وبين عجز الدول الإقليمية فعليا عن تقديم إمكانيات تحقيق
الوعود المبذولة ، انزلقت بعض الحكومات العربية الى الدكتاتورية المستبدة تفرض بها
على الجماهير الصمت والصبر والمذلة لتغطي فشلها الذي لا مفر منه ما دامت تعد بما
هي غير قادرة على تحقيقه في ظل الإقليمية . فهل كسبت الجماهير النصر النهائي في
معركة التحرر ؟ انها لن تكسبه الا في دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية التي ان
تعد فهي قادرة على الوفاء بوعدها فهي لا تخشى الجماهير وفي غير حاجة الى أن تفرض
عليها الصمت والصبر والمذلة .
ثم
، أخي ، أليس من المغالطة أن نتحدث عن الانجازات التحررية في ظل الاحتلال الصهيوني
؟
ب ـ عن وحدة 1958 :
بقي
الجانب الاستفزازي من السؤال الذي يقول : " ما الرأي في فشل دولة الوحدة التي
قامت سنة 1958 حتى في المحافظة على وجودها " . ومصدر الاستفزاز فيه انه يوحي
بأن الوحدة التي قامت بين سورية ومصر سنة 1958 قد فشلت في كل مجال " حتى " في
المحافظة على وجودها . ولسنا نريد أن نستجيب للاستفزاز فنعدد مكاسب الشعب العربي
في ظل ثلاث سنوات من الوحدة . بل نتجاوزه الى الجانب البنّاء من السؤال وهو الخاص
بالفشل في الحفاظ على وجود دولة الوحدة . ذلك لأن وحدة 1958 لن ينصفها كثير من
أصدقائها وكل أعدائها .
لقد
قامت دولة الوحدة سنة 1958 بين مصر وسورية تجسيدا لرغبة شعبية عربية عارمة لا شك
فيها . ثم وقع الانفصال سنة 1961 بدعم وتأييد وتخطيط القوى الاستعمارية والصهيونية
. ولم يعد هذا محل شك أيضا خاصة بعد أن
انكشفت كثير من المخططات العدوانية التي مهدت لحرب 1967 . ولم يعد أعداؤنا أنفسهم
ينكرون أنهم بدأوا الإعداد للحرب والتدريب على خطتها منذ أن قامت الوحدة ، وأن
الانفصال كان الخطوة الأولى في تنفيذ تلك المخططات . وهذا بشطريه يدل على أن
الوحدة كانت خطوة تقدمية مستجيبة لآمال الجماهير العربية من ناحية ومضادة للمصالح
الأمريكية والصهيونية من ناحية أخرى . أي أنها بمقياس تحرري تقدمي كانت خطوة الى
الأمام . وأن الانفصال كان ردة رجعية . ان هذا لا ينفي أنه اذا كانت الجماهير
العربية قد انتصرت في سنة 1958 فقامت دولة الوحدة ، فان هذه الجماهير ذاتها قد
انهزمت في سنة 1961 ففقدت الوحدة الوليدة .
كل هذا صحيح ، إنما الخطأ الجسيم ان
كان هذا بحسن نية ، أو التخريب المجرم ان كان متعمدا ، هو القول بأنه ما دامت
الجماهير العربية قد انهزمت في سنة 1961 فان وحدتها سنة 1958 كانت خاطئة : ان هذا
حكم ببراءة القوى الامبريالية والصهيونية والانفصالية العميلة من جريمة التآمر
والعدوان على الأمة العربية . وهي دعوة انهزامية الى التنازل عن أهدافنا حتى لا
ننهزم . وقياسا عليه يصبح قول الانهزاميين والخونة من أنه ما دمنا قد انهزمنا ثلاث
مرات من إسرائيل فان رفضنا الوجود الإسرائيلي خاطئ . لقد تردّت مجموعات من أكثر
المثقفين العرب ادعاء للعلمية وللتقدمية ، بل وللقومية أيضا ، في هذا الخطأ الجسيم
يوم أن راحت بعد الانفصال تحاكم وتدين وحدة 1958 بدلا من إدانة الامبريالية
والصهيونية . ان هذا الموقف الخاطئ خطأ جسيم قابل للتكرار في كل جولة لا ننتصر
فيها من معاركنا الطويلة ، ولن تكون جولات معاركنا انتصارا وان كان حتما علينا أن
ننتصر في النهاية .
في إطار هذا الإدراك لمعركة 1958 ،
التي حققت فيها الأمة العربية أروع انتصار في تاريخها المعاصر ، ومنيت فيها أيضا
بأفدح هزيمة ، لا ننكر بأن وقوع الانفصال واستمراره دليل غير قابل للنقض على أن
القوى التي تصدت لحمل مسؤولية الدفاع عن وجود دولة الوحدة قد فشلت في الوفاء
بمسؤوليتها . ولقد قيلت عشرات التبريرات لذلك الفشل منها ما وصل الى حد المهاترات
الرخيصة . ونحن لا نعيدها ولا نرد عليها . انما نقصر الحديث على ثلاثة أسباب
أساسية نعتقد أنها مجتمعة قد كانت وراء الفشل في الحفاظ على دولة الوحدة من حيث
أنها سهلت للقوى المعادية انجاز غايتها المجرمة :
الأول : ان وحدة سنة 1958 قامت واستمرت حتى انقضت وحدة "
انفصالية " ، أي معدة وجاهزة للانفصال . فقد تمت وحدة الرئاسة ، ووحدة
الحكومة ، ووحدة مجلس الأمة ، أي تناولت الوحدة الإطار السياسي ، ثم بقي الإقليمان
منفصلين جماهيريا ( في كل منها تنظيم سياسي مستقل ، وتنظيمات نقابية ومهنية مستقلة
) واقتصاديا ( لكل منها مصادر إنتاج مستقلة ، وخطة اقتصادية مستقلة ، وذمة مالية
مستقلة ، ونقد مستقل ، وميزان تجاري مستقل وميزان مدفوعات مستقل ، ومخصصات للخدمات
مستقلة ، وجهاز إداري مستقل ) وعسكريا ( لكل منها جيش مستقل من أبنائه خاصة )
...الخ . لقد قيل قبيل الوحدة وأثناءها ، وبعد الانفصال ، أن القوى الوحدوية قد
استعجلت الأمور وقفزت الى طموح غير واقعي لأنها اختارت الوحدة . وان الاتحاد كان
افضل من الوحدة . قال هذا نفس أولائك الذين عرفنا من قبل أنهم أكثر الناس ادعاء
للعلمية وللتقدمية وللقومية أيضا . وفي العراق أريقت الدماء في معارك بين أنصار
" الوحدة " ودعاة " الاتحاد " ، وكانت " وحدة "
1958 نموذج القياس في اذهان الطرفين . وقد تجاهل دعاة الاتحاد ، الرافضون لوحدة
1958 بحجة انها التحام كامل لا تطيقه الظروف الإقليمية ، أن وحدة 1958 لم تكن
" وحدة " ولا كانت " اتحاد " . كانت شيئا يشبه ـ وان كان أقل
التحاما ـ الاتحاد الكونفدرالي . كانت اشتراكا في حكومة مختلطة بين دولتين
مستقلتين جماهيريا واقتصاديا وماليا وتجاريا وعسكريا . ولم يكن ذلك الوضع قابلا
للحياة طويلا فإما وحدة حقيقية وإما انفصال . وبينما قنعت القوى المسؤولة عن
الحفاظ عن الوحدة بالخطوة الشكلية التي تحققت ولم تنشط في تصفية آثار التجزئة وملء
الإطار السياسي الموحد بمحتوى اقتصادي واجتماعي وعسكري واحد ، نشطت القوى
الامبريالية والصهيونية وعملاؤها الانفصاليون للقضاء على الوحدة وهي في اضعف
أشكالها . وهكذا لم يتطلب انفصال إقليم من دولة أكثر من بيان في الإذاعة ، وهو ما
لا مثيل له في التاريخ ز ولم يواجه الانفصاليون اية متاعب ، من اي نوع ، فبمجرد إعلان
الانفصال وجدوا بين أيديهم دولة مجهزة معدة للانفصال .
لماذا ؟ لأن الإقليمية
الخائفة على مصالحها الخاصة ، الداعية الى الوحدة كطريق الى مكاسب جديدة تضاف الى
مكاسبها في أقاليمها ، أذعنت لوحدة الإطار السياسي ولكنها حالت دون الالتحام
الجماهيري والاقتصادي والعسكري حتى لا تفقد مواقعها القيادية أو مصالحها السياسية
أو سيطرتها العسكرية . فهل فشلت دولة الوحدة أم خربتها الإقليمية ؟
الثاني : أن
وحدة 1958 لم تكن تجسد آمال الجماهير العربية ، وتشكل خطوة تقدمية لمجرد أنها وحدة
بين مصر وسورية ، بل لأنها دولة الوحدة النواة ، التي قامت على أنقاض دولتي مصر
وسورية . ودولة الوحدة " النواة " لا تتميز بعدد الأقاليم التي تقوم
عليها ، ولكن بأنها قاعدة الثوريين العرب ومنطلقهم الى تصفية الإقليمية وإقامة
دولة الوحدة العربية الشاملة . وهي لا تكون كذلك الا برفض التجزئة وعدم التردد ،
أو التوقف عن استرداد مزيد من الأرض العربية الى أن تنمو الدولة النواة وتصبح دولة
الوحدة . فان توقفت وارتضت حدودها الجديدة فقد انقلبت الى دولة إقليمية وان كانت
قائمة على رقعة أوسع من ذي قبل من الوطن العربي ، وان كانت تضم قطرين أو أكثر ـ
وقد توقفت وحدة 1958 عند حدود الإقليمين ، أو نقول تجمدت ، فتحولت الى دولة إقليمية
كبيرة . ولما كانت الإقليمية فاشلة ولو تجسدت في دولة كبيرة فقد فشلت في الحفاظ
على وجودها .
من الذي فشل
؟ ليس دولة الوحدة العربية النواة التي هتفت لها الجماهير العربية سنة 1958 ، بل
الدولة الإقليمية التي كانت قائمة على إقليمي سورية ومصر سنة 1961 . أما لماذا
فشلت ، أي لماذا انقلبت دولة إقليمية فلأن القوى الإقليمية الخائفة على مصالحها
الخاصة ، التي تدعو الى الوحدة من منطلق إقليمي باعتبار أن قد تحمل إليها الوحدة
مجالات أكثر اتساعا للاستغلال كانت حريصة في تجربتها الوحدوية الأولى على أن تنتظر
حتى تستوثق مما اذا كانت التجربة قد حققت لها مكاسب تغري بمزيد من الوحدة ،أو لم
تحقق.
الثالث : هو
أن وحدة 1958 قامت بتأييد عارم لا شك فيه من جانب الجماهير العربية في كافة أنحاء
الوطن العربي ولكن في غيبة التنظيم القومي
الثوري الذي يضع طلائع تلك الجماهير ، ويقودها ، فيحقق الوحدة بقوتها على وجه يجسد
قوميتها شكلا ومضمونا ، ويبقي على الوحدة نواة لدولة الوحدة الاشتراكية
الديمقراطية التي يستهدفها ، ويدافع عن الوحدة حتى الموت كما يدافع الثوار عن
قواعدهم .
ان هذا السبب
أولى بانتباه الشباب العربي لأنه كامن وراء السببين الأولين وان كان أكثر منهما
شمولا . أما أنه كامن وراء السببين الأولين فذلك لأن وجدود التنظيم القومي الثوري
كان كفيلا بسحق الإقليمية التي أبقت وحدة 1958 معدة للانفصال حتى انفصلت وحولت
دولة الوحدة النواة الى دولة إقليمية ففشلت . أما أنه أكثر منهما شمولا فذلك لأنه
كامن وراء كل الهزائم التي أصابت الأمة العربية حتى هزيمة 1967 ، وسيكون كامنا
وراء أية هزيمة تصيب الأمة العربية حتى في ساحة " المقاومة " . الى أن
يقوم التنظيم القومي الثوري ويتولى مسؤولية قيادة الجماهير العربية ضد أعدائها ،
في كل الساحات ، على الطريق الى دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية .
لا شك في هذا
أبدا .
ومن هنا ندرك أنه حتى لو لم تكن المقاومة الا أفضل المداخل المتاحة لبناء التنظيم القومي ، وحتى لو لم يستطع أبطال المقاومة الا أن يساهموا ، ويسهلوا ، مولد التنظيم القومي ، فقد حققت المقاومة وحقق أبطال المقاومة الشيء الجوهري الذي تفتقده أمتهم العربية ، ووضعوا قدمها على أول طريق النصر ، وانعطفوا بالتاريخ العربي انعطافة جديدة ظافرة لا شك في أنها ستؤثر تأثيرا عميقا في اتجاه التاريخ البشري المعاصر .
حقيقة الموقف :
سؤال (11) :
تقول أن الغزو الصهيوني قد وقع بتأييد
من الامبريالية العالمية وعلى راسها الولايات المتحدة الأمريكية ، افليس أكثر
مطابقة للحقيقة أن نقول أن هناك غوزا امبرياليا للوطن العربي يستعمل الصهاينة أداة
له في تحقيق أغراضه على اساس أن اسرائيل ليست الا أداة تابعة وقاعدة للامبريالية .
اني أرى أن هذا التحديد يساعدنا على فهم عدونا الاساسي في معركة تحرير فلسطين .
جواب (11) :
ان اسرائيل ، والحركة الصهيونية ،
حليفة للامبريالية العالمية وليست أداة لها . ان كلا منهما ذو استقلال فكري
وتنظيمي وحركي ، ولكل منهما استراتيجيته الخاصة . الحركة الصهيوينة حركة عنصرية
رجعية نشأت في وسط أوروبا ، ثم تحالفت مع مع الاستعمار البريطاني ، ثم نقلت تحالفها
الى الولايات المتحدة الأمريكية ، تبعا لانتقال مركز القوة الدولي ، بقصد تحقيق
غايتها الخاصة وهي اقامة دولة يهودية من الفرات الى النيل . فهي حركة غزو استيطاني
يستهدف ارضا محددة . أما الامبريالية العالمية فهي تحالف راسمالي تقوده الولايات
المتحدة الامريكية حاليا غايته فرض سيطرته المالية والاقتصادية على امكانيات
العالم ونهب ثروات الامم ، أو تسخيرها لما يتفق مع تحقيق مزيد من الرخاء والقوة في
الدول الراسمالية . وبالرغم من الأختلاف في مضمون العدوان ، ومدى شمول
الاستراتيجية العدوانية ، في كل من الحركة الصهيوينة والامبريالية العالمية ، الا
انهما حليفتان متفقتان فيما يتعلق بالوطن العربي على وجه التحديد . الامبريالية
العالمية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية تستهدف ابقاء العالم العربي في حالة
تخلف وتبعية اقتصادية فتحول بكل قوة دون وحدته . ويحقق لها هذا ويضمنه عزل المشرق
العربي عن المغرب العربي بكيان غير عربي . والصهيونية تستهدف اقامة الدولة
اليهودية في ذات المكان الذي يعزل المشرق العربي عن المغرب العربي ويجعل وحدته
أكثر صعوبة . فمع اختلاف المبررات أصبح الوجود الاسرائيلي في قلب الوطن العربي
يحقق لكل من العدوين غايته فتحالفا . والامبريالية العالمية بقيادة الولايات
المتحدة الأمريكية تستهدف استنزاف الامكانيات العربية في حروب دفاعية والاعداد
العسكري لها وهو اقتطاع من قواها المنتجة لتبقى متخلفة ، بينما تدبر الصهيونية منذ
عشرات السنين الحروب العدوانية ضد الأمة العربية لتستولي على الارض التي تريد أن
تقيم عليها الدولة اليهودية . فمع اختلاف المبررات أصبح العدوان الاسرائيلي
المتجدد على الامة العربية يحقق لكل من العدوين غايته فتحالفا . والتحالف يعني
التعاون وتبادل الخدمات في اطار الأهداف المشتركة . ان هذا قد يبدو غير قيمة عملية
ما دمنا نواجه الامبريالية والصهيوينة معا . ولكنا نعتقد انه ذو قيم عملية خطيرة .
أولها أن الاعتقاد بأن الصهيوينة أداة للامبريالية قد يؤدي الى الاعتقاد الخاطئ
بان مساومة الولايات المتحدة الأمريكية سيؤدي الى ان تسحب قاعدتها الصهيونية من
فلسطين وتكف عنا أداتها اسرائيل . وهو وهم عشنا فيه ردحا من الزمان يوم أن كنا
نفاوض انقلترا لتكف عنا الحركة الصهيوينة ظنا بانها أداتها . ثم ان هذا
الاعتقاد قد يؤدي الى طغطية الاغتصاب الصهيوني للأرض العربية لو انقطعت صلة
اسرائيل الدولة بالولايات المتحدة عن طريق تولي الاتجاهات التي يقال لها يسارية
سلطة الحكم في اسرائيل . وهز وهم يداعب خيال كثير ممن يسمون انفسهم تقدميين في
الوطن العربي أو خارج الوطن العربي . ومهما تكن ضآلة فرصة تولي بعض العناصر من
أدعياء التقدمية في اسرائيل للحكم ن فان موقفنا يجب أن يكون محددا من الآن بأننا
لا نقبل اقتطاع جزء من وطننا العربي ولو سكنته الملائكة . ان رفضنا للوجود
الاسرائيلي قائم على حقنا في فلسطين ولا يتأثر حقنا هذا بنوع النظام الاجتماعي في
مجتمع الغاصبين ولا بسياساتهم الداخلية اوالدولية . ثاني أوجه الخطورة في تجاهل
الاستقلال داخل التحالف الامبريالي الصهيوني أن الاعتقاد المضاد بأن الامبريالية أداة
مسخرة للصهيونية يخفي عنا الدور الايجابي ، ذي الغايات البعيدة ، للعدوان
الامبريالي الذي يتم ـ مرحليا ـ في اطار
تحالفها مع الصهيوينة . وهذا وهم ضيق الأفق . ان معاركنا ضد الامبريالية بقيادة
الولايات المتحدة الامريكية ستستمر وستكون أكثر ضراورة عندما نواجهها مباشرة بعد
ان نكون قد صفينا الوجود الاسرائيلي في فلسطين.
لهذا ، فنحن أمام عدوين متحالفين ، ولسنا امام عدو واحد
يتخذ من الآخر مجرد أداة له غير ذات أغراض عدوانية خاصة .
سؤال (12) :
ما المقصود على
وجه التحديد من القول بأن
الغزو الصهيوني موجه الى الوطن العربي بدلا من
القول بأنه موجه ضد الدول العربية عامة ، أو بمعنى اصح ضد الدول العربية التقدمية
.
جواب (12) :
المقصود
الكشف عن حقيقة هي أن الغزو الصهيوني موجه الى
الوطن العربي
وليس الى الدول العربية أو أي دولة عربية بالذات . اذ الواقع انه
عندما رسم الصهاينة حدود الأرض التي يريدون غزوها والاستيطان فيها وإقامة الدولة
اليهودية عليها لم تكن هناك أي دولة عربية فقد كان كل الوطن العربي كله تحت
السيطرة التركية . ثم انه لما ان خطط الاستعمار الغربي حدود الدول العربية القائمة
حاليا ، لم تغير الصهيونية مخططاتها مراعاة لأية دولة ناشئة . أما عن استهدافها
الدول العربية المسماة تقدمية فانه غير صحيح أيضا . فان الصهيونية غزت الأرض
العربية في ضل الاحتلال البريطاني ، وتوسعت سنة 1948 بينما كانت الدول العربية
تابعة للاستعمار تحكمها الرجعية ، واستولت على خليج العقبة سنة 1956 في معركة مع
مصر المتحررة التي لم تتحول اشتراكيا ، ثم أضافت أرضا جديدة سنة 1967 مقتطعة من
ثلاث دول مختلفة من حيث نظام الحكم أو النظام الاجتماعي . ذلك هو المخطط الصهيوني
التوسعي .
وهذا لا ينفي أنه عندما وجهت
الصهيونية ضربتها الأولى الى الأمة العربية كانت الضربة غزوا لبعض أرض فلسطين ،
وأنها كلما توسعت أصابت ضرباتها دولة أو أكثر من الدول العربية .، لأن الواقع
الفعلي ان الوطن العربي الذي تحاول الصهيونية الاستيلاء على جزء منه مقسم بين
الدول العربية . كما لا ينفي أيضا أن الصهيونية عندما تؤقت وتحتار معاركها
التوسعية المرحلية تستهدف أمرين معا . الأمر الأول الاستيلاء على مزيد من الأرض .
الأمر الثاني ضرب أية قوة أو أي اتجاه نام قوميا أو تقدميا قبل أن تكتمل له
المقدرة على حماية نفسه ضد مراحل التوسع المقبلة أو قبل أن تكتمل له المقدرة على
توجيه ضربة مضادة . ولا شك في أن الاتجاهات التقدمية القومية في بعض البلاد
العربية تمثل خطرا مقبلا على مخطط التوسع الصهيوني . كما لا شك في أن دخول
الجماهير العربية غير المنتمية سياسيا الى اية دولة عربية يمثل اتجاها بالغ الخطورة
على الوجود الإسرائيلي ذاته . ومن هنا كانت الضربات الإسرائيلية توجه الى هذه
القوى النامية لـامين مقدرة إسرائيل على مزيد من التوسع . ويمكننا أن نضيف الى هذا
عاملا لا شك في أهميته ، وهو انه انطلاقا من معرفة الحركة الصهيونية أنها كانت
دائما ، وما تزال ، وستظل عاجزة عن تحقيق أغراضها منفردة وبقوتها الذاتية ، فان
إستراتيجيتها قائمة على أساس التحالف المستمر مع مركز القوة العالمية الذي كان
ألمانيا الإمبراطورية فتحالفت معها ، ثم انجلترا فتحالفت معها ، ثم الولايات
المتحدة الأمريكية فتحالفت معها . والتحالف يتضمن تبادل الخدمات والمساعدات . ومنذ
سنة 1952 كانت مصر عدوا صلبا للاستعمار الأمريكي ، لأنها لم تقبل عودة النفوذ
الأمريكي الى الشرق العربي بديلا عن النفوذ البريطاني الذي ساعدت أمريكا على
هزيمته في سنة 1956 لتحل محله . وقد حاولت الولايات المتحدة أن تحل محل بريطانيا
بكل الطرق ، من أول المساعدات الاقتصادية الى آخر الحصار الاقتصادي . وعندما تحققت
الوحدة بين مصر وسورية 1958 تأكدت الولايات المتحدة الأمريكية بأن طريقها الى
المشرق العربي لا يمكن أن يقوم الا على أنقاض الاتجاه القومي الذي يدفع الدول
العربية الى غاية تبدو حتمية هي قيام الوحدة الشاملة . حينئذ بدأ التخطيط الأمريكي
لضرب هذا الاتجاه وتصفيته ، واتخذ التخطيط هدفا له عزل الجمهورية العربية المتحدة
عن العالم العربي وعن قضاياه . فكان الانفصال خطوة أولى ، ثم التهديدات المستمرة للإقليم
الشمالي ، ثم تحرك القوات من الإقليم الجنوبي تعبيرا عن موقف التأييد لسلامة الإقليم
الشمالي ، واذا بها تواجه خططا هجومية جاهزة منذ زمن بعيد لتصفية قواتها العسكرية
بمجرد استدراجها الى الحدود . ثم وقعت المعركة التي استهدفت الصهيونية من رائها
أرضا جديدة كجزء من خطتها التوسعية ، واستهدفت الولايات المتحدة الأمريكية من
ورائها تصفية انفتاح مصر على العالم العربي . وان كنت تشك في هذا فلعلك سمعت أن
الولايات المتحدة الأمريكية قد عرضت ن ولم تسحب عرضها ، بأن تعيد سيناء الى
الجمهورية العربية المتحدة في نظير أمر واحد هو أن تنفض الجمهورية العربية المتحدة
من القضايا العربية .
إذن فالغزو الصهيوني يستهدف أصلا
الوطن العربي ، بدون توقف على وجود أو عدم وجود الدول العربية ، أو على حدودها ،
ونظم الحكم فيها ، أو ما اذا كانت تقدمية أو رجعية . أما شق الطريق الى هذا الهدف فيصطدم
بالدول القائمة على الأرض التي يستهدفها الغزو سواء كانت رجعية أو تقدمية . أما
المعارك فتدور ضد القوى التي تعترض الطريق أو قد تقطعه في المستقبل . أما استهداف
الجمهورية العربية المتحدة بالذات فلأن عزل مصر عن الوطن العربي يمثل هزيمة ساحقة
للحركة القومية . وعندما تهزم الحركة القومية يصبح الوطن العربي بما فيه مصر ،
لقمة سائغة للامبرياليين الأمريكيين .
سؤال (13) :
الا تكشف الإجابة عن السؤال السابق حقيقة الخطأ الذي تكرر في المحاضرة وهو الحديث عن
الدول العربية كما لو كانت متساوية في الموقف القومي ، أو الموقف التقدمي ، أو
الموقف من فلسطين ، بحجة أنها مادامت كلها إقليمية فكلها فاشلة ، هل يصح بالنسبة
للجمهورية العربية المتحدة مثلا ما يصح بالنسبة لتونس ؟
جواب (13) :
أرجو أن يكون
واضحا أننا عندما نتحدث عن الدول ، أو الدولة ، نتحدث عن مؤسسة سياسية ذات مضامين
فكرية واقتصادية وسياسية خاصة . وهي ذاتها شخص اعتباري (معنوي) خاص متميز عن
الأشخاص الذين يعملون في أجهزته . هذه الدول ، المؤسسة ، شخص من أشخاص الفانون
الدولي ملتزمة به في حركتها الخارجية في مواجهة الدول الأخرى . وهذه الدولة ،
المؤسسة ، شخص من اشخاص القانون الداخلي ملتزمة به في حركتها الداخلية في مواجهة
الشعب الذي تضمه . وهذه الدولة ، المؤسسة ، محدودة المقدرة بامكانياتها الخاصة .
انها ساحة النشاط الاجتماعي وهي في الوقت نفسه حدود هذا النشاط .
ونحن عندما
نقيّم الدول على حقيقتها كدول ، ولكن من وجهة نظر قومية ، أي على ضوء المقارنة بين
ما نستطيع ان نقدمه الى الشعب العربي فيها من امكانيات التقدم ، وبين ما يمكن أن
يحصل عليه هذا الشعب نفسه من امكانيات في ظل دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ،
نقول أنها فاشلة لأنها اقليمية . وهذا يصح بالنسبة الى جميع الدول العربية .
أما مقارنة
الدول العربية فيما بينها فشيء آخر . انها تختلف مساحة وعددا وثروات وامكانيات
ونظاما وحكاما وقادة . وفي هذا لا تستوي دولة مع دولة أخرى . ولا يعنينا الآن أن
نصوغ جدلا مقارنا لحركة التقدم في الدول العربية . انما الذي يعنينا تماما أن نفسر
ذلك الاختلاف بين الدول العربية في مواقفها من القضايا القومية . قد يبدو عسيرا
على الفهم ان نقول مثلا عن الجمهورية العربية المتحدة أنها دولة اقليمية ، في ذات
الوقت الذي نقول فيه أن اتجاهها القومي حقيقة تزعج الاستعمار الى درجة التحالف مع
الصهيوينة لتصفية هذا الاتجاه بالقوة المسلحة . ان انفتاح مصر على أمتها العربية
كان في ذاته نصرا قوميا فكيف تحقق في ظل الاقليمية ؟ ودعم ثورات التحرر في الجزائر
وفي اليمن وفي كل مكان من الوطن العربي ، حركة قومية ، ولا نقول مجرد موقف ، فكيف
تمت في ظل الاقليمية ؟ واذا كانت الانتصارات القومية قابلة للتحقق في ظل الدولة
الاقليمية ، ومن خلالها ، فلماذا نتهم الاقليمية بالفشل ؟
أسئلة مكررة
ومبررة .
ومع هذا لننظر
معا الى البدهيات . والبدهيات الأولى القوى القومية التقدمية التي تجسد الحركة
القومية تعيش وتمارس نشاطها الفكري والسياسي في ظل تجزئة وطنها العربي الى دول
اقليمية متعددة . وبحكم القيود الاقليمية على التحامها وشمول نشاطها الوطن العربي
كله ، يتجه هذا النشاط الى تحقيق أكبر قدر من التقدم تسمح به الامكانيات الاقليمة
مع محاولة كسر القيود الاقليمية الممثلة في الدولة ودشتورها وحدودها وقانونها
وحكامها وسجونها للالتحام بالقوى القومية التقدمية الأخرى التي تعمل نفس الشيء في
دول عربية أخرى .
ثم يأتي الموقف
من سلطة الحكم في قبضة قوى اقليمية ، تبدو الاقليمية منسجمة مع ذاتها ودولتها ن
وهنا ينكشف دورها الفاشل الرجعي العميل ونكون أمام نموذج " تونس تحت حكم
بورقيبة " . هناك الدولة الاقليمية التي يحكمها الاقليميون حيث تسحق القوى
القومية التقدمية بقسوة وحشية ، وحيث تتآمر الدولة علنا مع الاستعمار ومع
الصهيونية أيضا ، وتبرر تآمرها بفكر تنسجم اقليميته مع رجعيته . ولكن الأمر ليس
على هذا الوجه في كل الدول العربية ، اذ القوى القومية التقدمية ليست قوى سلبية أو
ضعيفة . بل حدث ويحدث أن يتولى قادة ـ لا شك في اتجاههم القومي التقدمي ـ مسؤولية الحكم في الدولة الاقليمية ، وهنا يقوم
الصراع الذي لم يرد في كتب الفقه الدستوري ، أو فقه كتاب الصراع الاجتماعي . قيادة
لا تؤمن بالدولة الاقليمية ، تصبح هي ذاتها صاحبة الدولة الاقليمية ، قيادة لا
تؤمن بشرعية التجزئة ، ومع هذا تحتكم الى الشرعية الاقليمية في تعاملها الدولي .
قيادة تؤمن بوحدة الأمة العربية ومع هذا تجد نفسها مضطرة الى معاملة أبناء الأمة
معاملة الوافدين الأغراب . قيادة تؤمن بوحدة الامكانيات العربية ، ومع ذلك تجد
نفسها مضطرة الى الدخول في سباق المنافسة بين دول التجزئة . قيادة تؤمن بأن التقدم
لا يقوم على اساس التجزئة ، ومع ذلك تحاول حل المعادلة الصعبة في الاقليم بينما
المعادلة لا تحل الا في ظل الوحدة . والصراع دائم بين الاتجاه القومي وقيود
الاقليمية التي تشده الى الوراء : قيود الدستور والقانون والالتزامات الدولية .
ووراء هذا صراع اجتماعي لا يتوقف بين القوى القومية التقدمية التي تقف وراء
الاتجاه القومي الذي تمثله القيادة وبين القوى الاقليمية ذات المصالح التي تجسدها
الدولة . وقد سحق هذا الصراع المرير بعض الحكام الذين وقعوا في شرك الحكم الاقليمي
، فاذا بهم من خلال تراكم وتبرير تصرفاتهم اليومية ، من أول تفتيش الحدود الى وعود
العدالة الاجتماعية ، يجدون انفسهم وقد اصبحوا اقليميين تحت شعار التقدمية . ومنهم
من أراد أن يغطي هزيمته التي يشعر بها شعورا قويا فاتجه الى مزايدات قومية ، أو
تقدمية ، هو أول من يعلم أنها غير قابلة للتحقق . ومنهم من صمد للصراع الذي لم
يحسم بعد . هنا تستطيع القيادة القومية أن تدفع بالدولة الى معارك التحرر بجرأة
وحسم برغم الاقليمية ، لأن المجاهرة بالرغبة في الانسحاب من معارك التحرر يكشف
ارتباط الاقليمية بالاستعمار ، فهي توافق علنا وتنقد سرا وتبحث عن مخرج غير متهم
من متاعب التحرر العربي . ولكن عندما تطرح قضية الوحدة لا تقبل الاقليمية أن تلغى
دولتها فهي تقبل التعاون والتحالف والوقوف في صف واحد ... الخ ولكنها لا تقبل
الوحدة . ولما قامت الوحدة نتيجة لعلاقة قامت بين القواعد والقيادة متخطية الدولة
، كانت الاقليمية بالمرصاد فلم تترك فرصة واحدة لاضعاف الوحدة واعدادها للانفصال .
ان هذا يعني ان
ما يتحقق في اتجاه قومي عن طريق الدول العربية انما يعبر عن مرحلة انتصار للقيادة
القومية التقدمية في صراعها ضد دولتها الاقليمية ، ولكن انحسار هذا الاتجاه من حين
الى آخر يدل على أن الصراع لم يحسم ، وهو لا يحسم ما دامت الدولة الاقليمية قائمة
، لأن قابلية الدولة الاقليمية للاستجابة لمتطلبات النضال القومي محدود ، ومن هنا
فهي أداة فاشلة في النهاية . فكيف يمكن الخروج من هذا المأزق أي كيف يمكن أن تحكم
القوى القومية التقدمية دولة عربية بدون أن تتحول هي الى قيادة اقليمية ؟ بالتنظيم
القومي الثوري ، الذي يرشح لها حكامها وتبقى قيادته بعيدة عن سجن الاقليمية ،
قادرة على أن تواصل نضالها القومي الى أن تكسب ارضا جديدة فتقيم دولة الوحدة
النواة .
ألم نقل أن
التنظيم القومي الثوري هو الأداة الوحيدة الصالحة لحل مشكلات القوى القومية ؟
سؤال (14) :
أ ـ كيف يمكن القول إطلاقا بأن الدول
العربية كانت وما تزال وستظل ، منفردة أو متحالفة ، غير قادرة على تحرير فلسطين
لأن تحرير فلسطين يقع خارج إطار أهدافها في حين أنه يمكن لقوة قومية تقدمية في
مكان السلطة أن تستهدف تحرير فلسطين وأن تسخر قوى الدولة ذاتها لهذا التحرير .
ب ـ ثم أليست إسرائيل دولة قائمة على
أصغر الأقاليم العربية فلماذا انتصرت ؟
جواب (14) :
أما عن مقدرة الدول العربية على تحرير
فلسطين فقد قلنا أنها عاجزة ما دامت " إقليمية " لان الإقليمية هي مصدر
الفشل ، وما دامت الدولة إقليمية فان أية قوة قومية تتولى السلطة لن تجد من بين
أهداف دولتها مسؤولية تحرير أرض تعتبرها الدولة الإقليمية أرضا أجنبية . فالقوة
القومية التي تتولى السلطة في أية دولة عربية لن تستطيع أن تدخل في أهداف دولتها
تحرير فلسطين إلا إذا رفضت التجزئة العربية واعتبرت انها دولة قومية . وهذا يعني
ان ترفض وجود دولتها الإقليمية ذاتها وتحيلها الى دولة وحدة نواة . والدولة تتحول
الى دولة وحدة نواة عندما تصبح قاعدة الثوريين العرب ومنطلقهم الى تحرير الأرض
العربية في كل مكان وإسقاط الإقليمية في أي مكان أيضا . فان استطاعت القوة القومية
التي تتحدث عنها ان تفعل هذا قد سحقت دولتها الإقليمية قبل ان تستطيع ان تخطو خطوة
واحدة خارج حدودها .
ب ـ أما عن إسرائيل فهي ليست دولة على
إقليم يمكن مقارنته بأية دولة عربية . ان إسرائيل هي القوة الضاربة التابعة لتنظيم
صهيوني عالمي . هو الذي خطط لها ، وهو
الذي يموّلها ويكسب لها الحلفاء والمؤيدين في العالم أجمع ، وتتحرك تحت قيادته
لكسب مزيد من الأرض تستوعب اليهود جميعا . والأرض المحتلة ليست إقليما لدولة إسرائيل
بل هي رأس الجسر ، أو القاعدة ، التي احتلتها الصهيونية لتحشد عليها قوتها الضاربة
من أجل مزيد من التوسع . وهكذا نرى أنه عندما نقول أن على المقاومة أن تتحول الى
قوة ضاربة لتنظيم جماهيري ثوري ، فإننا لا نبتكر أسلوبا جديدا لقتال الصهيونية إنما
ندعو الى الأسلوب المتكافئ مع أساليب الأعداء . وعندما تتكافأ الأساليب يكون النصر
حليف الأوفر إمكانيات ، وأكثر تحملا لمرارة الصراع ، وأعدل غاية .
سؤال (15) :
ما معنى ان المقاومة كأسلوب قتال
جماهيري هي مدخل تاريخي لبناء التنظيم القومي . هل يعني هذا أنه لا يوجد أي مدخل
غيره ؟..
جوابه (15) :
نعني بالمدخل التاريخي انه أفضل الإمكانيات المتاحة
في مرحلة تاريخية محددة .
ولا
شك أن دخول الجماهير العربية ساحة القتال المسلح ضد الغزو الصهيوني يقدم أفضل الإمكانيات
المتاحة لبناء تنظيم قومي ثوري في الوقت الحالي . ليس معنى هذا أنه لا يوجد أي
مدخل غيره ، أو ان مصير الأمة العربية متوقف على ما يراه نفر من أبنائها ولو كانوا
من أبطال المقاومة . ولكن معناه أن أبطال المقاومة من جهة ، والقوى القومية
التقدمية من جهة أخرى أمام فرصة تاريخية يتحملون جميعا مسؤولية إدارتها ، وعندئذ
ستبحث الجماهير العربية عن مدخل آخر ، الأصعب ، فذاك حوار لا يدور الا بين الذين
يعنون ما يقولون ، أي الذين لا يبحثون عن المدخل من قبيل الفضول ، ولكن لأنهم لا
يقبلون الحياة نفسها الا في داخل التنظيم القومي ، أولئك يعرفون ما يجب عليهم أن
يفعلوه ليجسدوا ولاءهم لجماهير أمتهم بالرغم من كل العقبات والصعوبات .
دعوة الى القوى العربية
التقدمية :
سؤال (16) :
ما هو مفهوم التقدمية ؟
جواب (16) :
أين ومتى .
ان التقدمية موقف ايجابي قائم على أسس
خمسة :
الأول : الوعي بأن كل شيء في الوجود
متحرك متغير أبدا .
الثاني : الوعي بأن كل شيء متغير
متحرك يتقدم من الماضي الى المستقبل وينمو من خلال الإضافة نموا جدليا .
الثالث : الوعي بأن مضمون التقدمية
يختلف من زمان الى زمان في المجتمع الواحد .
الرابع : الوعي بأن مضمون التقدمية
يختلف من مجتمع الى مجتمع في الزمان الواحد .
الخامس : ان التقدمية على هذا الأساس
هي التبني الايجابي للحلول الصحيحة للمشكلات التي يطرحها مجتمع معين في مرحلة
تاريخية معينة .
فان أردت أن تطبق هذا على المرحلة
التي تمر بها الأمة العربية ، فان المشكلات الرئيسية التي تطرحها الظروف العربية
هي الاحتلال والتجزئة والتخلف والاستغلال . وان حلولها الصحيحة هي الحرية والوحدة
والاشتراكية . وعلى هذا يكون مفهوم التقدمية بالنسبة إلينا هو التبني الايجابي
للحرية والوحدة والاشتراكية ، معا .
سؤال (17) :
اذا كنا لا نعرف كثيرا عن حقيقة المنظمات في الساحة فكيف
عرفنا انها بكل منظماتها لم تتبلور بعد ـ نهائيا ـ لا فكرا ولا تنظيما فهي قابلة
للتطوير والتطور . اننا نعرف أن أقدم المنظمات في الساحة ذات اتجاهات مبلورة منذ
نشأتها ولم تتغير ، كما أن بعض المنظمات قد انشقت على اساس عقائدي مما يدل على
أنها متبلورة .
جواب (17) :
اننا نعرف ما
تقول ومع هذا فانا لا نعرف كثيرا عن حقيقة المنظمات في الساحة . ربما لأن ضراوة
المعركة التي تخوضها المقاومة ضد الصهيوينة والامبريالية وعملائها تحول دون اباحة
كثير من اسرار المنظمات . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فانا لا نستطيع أن نعول
على كل ما يقال عن المقاومة لأننا لا نستبعد تدخل القوى المعادية ، بطريق أو بآخر
، فيما يعلن . ومن بين ما نعرفه أن بعض الشباب العربي قد حددوا مواقفهم النهائية
من منظمة أو أكثر على اساس انها قد تبلورت نهائيا على ما يعرفونه عنها معرفة
ممارسة . ونعرف أن قياددات بعض المنظمات تتصرف كما لو كانت قد وصلت الى صيغتها
النهائية . ثم نعرف معرفة اليقين أن هذا غير صحيح وأن المقاومة بكل منظماتها لم
تتبلور بعد ـ نهائيا ـ لا فكرا ولا تنظيما . ذلك لأننا نعرف بأن العبرة في المواقف
النهائية لا بما يظنه الناس بأنفسهم أو بغيرهم ، ولكن بملاءمة تلك المواقف للظروف
الموضوعية . أي أن طبيعة المعركة ضد الغزو الصهيوني هي التي ستكون العامل الرئيسي
في بلورة المقاومة فكرا وتنظيما . ولما كنا نعرف أن المعركة ضد الغزو الصهيوني
معركة قومية تقدمية فانا على يقين من كل المنظمات ـ بدون استثناء ـ ستكون مضطرة
الى تطوير نفسها في اتجاه طبيعة المعركة . ان هذا يمكن أن يتم عن طريق المعرفة
العلمية ومن الآن ، ولكن تجاهله لا يعني أنه لن يتم ، فخلال المعركة الطويلة
وتراكم الخبرات والمعاناة اليومية للتناقضات ، والخيار الملزم بين النصر أو
الهزيمة ، سيخرج من الساحة كل الذين لا يلائمون طبيعتها ولا تبقى في الساحة الا
المقاومة القومية التقدمية .
سؤال (18) :
لماذا لا ترى أن
الاتجاه المرتبط ببعض الدول العربية سيخرج من المعركة بمجرد انقضاء مرحلة ازالة
آثار العدوان أي بخروج الدول العربية المرتبطة بها من المعركة بعد استرداد ما ضاع
من اقاليمها في يونيو 1967 ، ولا تقدر احتمال بقاء هذه المنظمات في الساحة ، وما
الذي يمنع من استمرار دعم الدول العربية للمقاومة حتى بعد ازالة آثار العدوان ؟
جواب (18) :
لأنه عندما تخرج الدول العربية من
المعركة تكون ملزمة في مواجهة المجتمع الدولي بأن تكف القوى التابعة لها عن
الاستمرار في القتال . فإذا لم تفعل فهي في حرب تتجاوز حدودها أيا كانت صورة القوى
التابعة لها ، نظامية أو منظمة . ولما كانت الدول العربية تخوض المعركة الآن ـ كما
تعلن ـ في سبيل إزالة آثار العدوان وفي حدوده ، فإنها كدولة ستكف القوى التابعة
لها عن القتال فور إزالة آثار العدوان . وتجد المنظمات التابعة لها حينئذ أن عليها
أن تطيع التعليمات الصادرة من القيادة الحقيقية . ومع هذا لنفترض أن المنظمات
التابعة لم تطع وتمردت على قياداتها . انها حينئذ ستجد نفسها بدون قواعد ولا أموال
ولا مزيد من الأسلحة وستحاول أن تحصل على ما تريد من الجماهير وليس من الدولة ،
فتكتشف أنها لم تكن يوما مرتبطة بجماهير منظمة قادرة على تعويضها ايجابيا عن
رابطتها بالدولة التي خذلتها ، أي ستفتقد التنظيم القوي القادر على أن يمدها
بعناصر المقدرة على الاستمرار ، من كل الأقطار بدون توقف على موقف الدولة في أي
قطر على حدة . ومع هذا لنذهب الى أكثر من هذا ونفترض أن بعض الدول العربية ستخرج
من المعركة " علنا " ولكن ستظل تدعم المقاومة سرا . ان هذا لن يغير من
الوضع الدولي شيئا فلا أسرار بعيدة عن معرفة أجهزة الدول المعنية بمراقبة جدية
خروج الدول العربية من المعركة بعد إزالة آثار العدوان ، ثم ان الدعم السري قابل
للانقطاع عندما ينكشف . فلا تبقى إذن وسيلة لتأمين استمرار دعم المقاومة بدون تدخل
من الدولة أو بدون أن تكون مسؤولة دوليا عن هذا الدعم الا أن تتولاه جماهير منظمة
غير مرتبطة بأية دولة . ذلك هو التنظيم القومي الثوري الذي لا تسأل الدول العربية
عن نشاطه لأنه ينشط بعيدا عن أية تبعية لها ، بل ينشط بالرغم منها اذا اقتضى دعم
المقاومة ذلك .
سؤال (19) :
هل هناك تناقض بين مسؤولية شعب فلسطين
عن تحرير فلسطين ، وبين مسؤولية القوى القومية التقدمية عن تحرير فلسطين .
جواب (19) :
لا تناقض أبدا الى
أن تتحرر فلسطين . ولا خلاف أيضا اذا كان المقصود هو أن شعب فلسطين مسؤول عن تحرير
فلسطين كجزء من مسؤولية القوى القومية التقدمية عن تحرير فلسطين . ولكن الخلاف
يقوم اذا كان المقصود ان شعب فلسطين زحده ـ دون القوى القومية التقدمية ـ مشؤول عن
تحرير فلسطين لأنه وحده صاحب الحق في فلسطين ، فهي وطنه . ان في هذا عزلا للجماهير
العربية عن معركة تحرير فلسطين ، أو تمهيدا لعزلها . وهو ما لا تقبله الجماهير
العربية . أما كيف يمكن التفرقة بين الشعار بمفهومه الأول والشعار بمفهومه الثاني
، فمن خلال ما تمثله المنظمات ذاتها . فالمنظمة القومية ستكون مفتوحة للجماهير
العربية ، بما فيهم العرب من فلسطين بل قد تكون غالبية قواها من عرب فلسطين . لا
سيء يمنع من هذا . وهكذا يتحقق الشعار بمفهومه الثاني وبدون خلاف . أما اذا كان الشعار
مجسدا في منظمات مقصورة على العرب من فلسطين قيادة وكوادر وقواعد ، فكرا
واستراتيجيا وحركة ، فان سمتها الاقليميمة تحول دون امكانية اي تأويل قومي للشعار
. وقد قلنا منذ البداية الا تناقض الى أن تتحرر فلسطين ، ونضيف هنا أن هذا التناقض
لا يقوم حتى مع وجود الخلاف . لأن التناقض مولد للصراع ، والخلاف تمييز لا يقتضي
الصراع . ومن وجهة نظر قومية نرى أن التحالف ، وليس الصراع بين الاقليمية
الفلسطينية وبين القوى القومية واجب قومي الى أن يتحقق النصر على العدو المشترك وتتحرر فلسطين لنرى بعد هذا لمن تكون الأرض التي تحررت .
سؤال (20) :
ان الجماهير
العربية كلها ـ وكما هو ثابت ـ تؤيد وتدعم المقاومة بدون وجود للتنظيم القومي
فلماذا التركيز على ضرورة هذا التنظيم القومي كشرط لانتصار المقاومة .
جواب (20) :
لأن
المفروض ، بعد الهزائم التي لحقت بنا ، أن نحاول النظر الى أبعد من أنوفنا . ان
الجماهير العربية كلها ـ وكما هو ثابت ـ تؤيد وتدعم المقاومة لأن المقاومة مباحة
ولأن تأييد الجماهير العربية لها مباح . مباح مؤقتا لأن الدول العربية في حاجة الى
المقاومة . وسيظل مباحا طالما هي في حاجة إليها . ونحن ننظر الى ما أبعد من هذا .
عندما تصبح المقاومة غير مشروعة ، ويعود حمل السلاح جريمة معاقبا عليها ، ويعود
النضال الجماهيري نشاطا " هداما " ، عندئذ سيتوقف مصير المقاومة على ما
اذا كانت قد ارتبطت تنظيميا بالجماهير العربية أم لا ، لتستطيع قيادتها في الوقت
المناسب ، ان تحركها ضد محاولات تصفية المقاومة ذاتها أو تحريم التأييد والدعم
الجماهيري لها . ان ما هو ثابت اليوم لن يظل ثابتا غدا الا أن نقيم من اليوم دعامة
تثبيته في كل الظروف الى أن تنتصر المقاومة . وليس سوى التنظيم القومي الثوري
دعامة موثوقة تستند إليها قوته الضاربة في ساحة المقاومة .
سؤال (21) :
اذا كانت الدول
العربية قد حالت وتحول دون قيام تنظيم قومي ثوري أفلا تؤدي محاولة اقامته الى فتح
معارك جانبية داخل تلك الدول وضدها يناقض ما تدعو له من ضرورة التحالف ضد العدو
المشترك حتى مع الدول العربية التي تواجه اسرائيل وتعد للقتال .
جواب (21) :
ان
الأساس العقائدي للجواب هو أن الولاء أولا وأخيرا للجماهير العربية . وعندما نقتنع
بأن التنظيم القومي ضرورة لازمة لانتصار أمتنا ، فيجب إقامة التنظيم القومي سواء
رضيت الدول العربية أم لم ترض . ان الثوريين حقا لا يستأذنون أحدا عندما يريدون
الوفاء بمسؤولياتهم الثورية . والقوميون لا يستأذنون الإقليمية . ومع هذا فان
الوعي القومي على ضرورة تجنب أية معارك مع حلفاء المعركة يحتم على القوى القومية
ألا تتحرك إلا في الحدود التي تسمح بها ظروف التحالف من أجل المعركة . ان هذا يؤثر
في صيغة الحركة وليس في ضرورة التحرك . وظروف التحالف من أجل المعركة لا تسمح الآن
بإقامة تنظيم قومي يتعرض لانقضاض الإقليمية ويضطر للدفاع عن نفسه في معارك جانبية
. ولكنها ملائمة تماما للإعداد الفكري والبشري من خلال المعركة ذاتها . لهذا كانت
دعوتنا الى تكوين كتائب " الأنصار" . وكتائب " الأنصار" كما
نفهمها وندعو لها ليست التنظيم القومي ولكنها حركة قومية تعبئ الجماهير العربية من
أجل الانتصار في المعركة وتدعم التحالف العربي ، وتحول دون الاستسلام أو المساومة
، وتسحق القوى العميلة الانهزامية ، وتحرض على القتال ، ثم تقاتل فعلا في ساحة
المقاومة في صفوف قوتها الضاربة بقدر ما تستطيع وبقدر ما تحتاج قوتها الضاربة الى
دعم بشري . وأمام " الأنصار" ساحة بعيدة فعليا عن يد الإقليميين .
وأمامهم حاجة الدول العربية ذاتها الى دعم الجماهير المنظمة . كل هذه ظروف تمثل
أفضل الإمكانيات لإعداد الكوادر الثورية ، التي صقلتها المعركة ذاتها ، ولكنها
ظروف موقوتة بمرحلة إزالة آثار العدوان . وهذا يعني أن على " الأنصار" أن
يلتحموا في تنظيم قومي قبل أن تنقضي هذه المرحلة ليستطيعوا أن يؤمنوا للمقاومة
إمكانيات الاستمرار في القتال .
بقي
أن نقول أن أية دولة عربية تحول دون إسهام الجماهير العربية إسهاما منظما في
المعركة ضد الغزو الصهيوني ، تكون هي بذاتها قد خرجت على قاعدة التحالف من أجل
المعركة . وتكون الجماهير العربية مطالبة بأن تتعامل معها بالأسلوب الذي يناسب
موقفها .
سؤال (22) :
لماذا تصر هنا
وفي كتاب " ما العمل " على تسمية ما تدعو له باسم " كتائب الأنصار
" ؟
جواب
(22) :
ليس ثمة اصرار
لا هنا ولا هناك . انما كان لابد من اسم ما ، يكون ذا دلالة بقدر الامكان . وقد
احترنا " كتائب الأنصار" أول مرة في رسالة الى الشباب العربي في أواخر
يونيو 1967 أي فور الهزيمة ، وكان الاسم اشتقاقا من دعوة الى الشباب العربي بأن
ينصروا أمتهم في محنتها . ثم وجدناه ملائما لما عرف عن قتال الوحدات الجماهيرية
بينما الحرب النظامية قائمة ، فقد خاضت الجماهير السوفياتية " حرب
الأنصار" بينما كان الجيش يتقهقر أمام الهجوم النازي ، وعادت فصاحبت مسيرته
الى النصر . ثم وجدناه أكثر ملاءمة للتعبير عن نصرة المقاومة . وهي ايضا كتائب
انصار المعركة . أو كما تشاء لأني لا اصر الا على الدعوة لتنظيم الجماهير
واشتراكها في المعركة . هذا هو الجوهري فيما أدعو له ، أما الاسم فشكل لا يستحق
الاصرار عليه .
سؤال (23) :
أليست أفضل صيغة
واعية ، وعلمية أيضا ، لمواجهة الغزو الصهيوين هو وحدة كل منظمات المقاومة في جبهة
مقاتلة ووحدة كل القوى التقدمية في جبهة عربية تدعم المقاومة وتساندها ؟ اني أعتقد
أن هذا هو البديل للتنظيم القومي .
جواب(23) :
نعم ان أفضل
صيغة واعية وعلمية أيضا ، لمواجهة الغزو الصهيوني هو وحدة كل منظمات المقاومة في
جبهة مقاتلة ووحدة كل القوى التقدمية في جبهة عربية تدعم المقاومة وتساندها . ولكن
ليس هذا هو البديل عن التنظيم القومي . كما أن التنظيم القومي ليس بديلا عن الجبهة
. اذ عندما يقوم التنظيم القومي لن يناضل في عزلة عن القوى التي تواجه عدوه
المشترك ، بل سيناضل في جبهة مع كل حلفاء أغراضه المرحلية . وما دمت تحتكم الى
العلم فاني أضع تحت نظرك القوانين العلمية للتحالف الجبهوي . ان النضال في جبهة هو
الصيغة العلمية لتعاون قوى " مختلفة أصلا " ضد عدو مشترك . ان هذا
التحالف مهما طالت مدته مرحلي ومتوقف على انتهاء المعركة ضد ذلك العدو المشترك .
وفي مرحلة التحالف تؤجل القوى المتحالفة صراعاتها الاصلية . تؤجلها ولكن لا تنهيها
لأنها صراعات مرتبطة بالتناقضات التي جعلت منها قوى متعددة بدلا من أن تكون قوة
واحدة . ويقاتل المتحالفون عدوهم المشترك بدون أن يغفل أحد منهم عن الصراع الذي
سيدور فيما بينهم بعد النصر في معركتهم المشتركة . فيحاول كل منهم أن يحضر للمرحلة
التالية ، اما بكسب قوى ومواقع جديدة تحت غطاء المعركة المشتركة ، أو بتصفية
الحلفاء عن طريق امتصاص قواعدهم وتصفية مواقعهم . وهكذا لا يتوقف الصراع الخفي بين
حلفاء الجبهة ، وان كان لا يصل في العنف أو الحدة الى درجة اضعاف قوتهم المشتركة
ضد العدو المشترك ، أو المفروض أن يكون كذلك احتراما لقوانين التحالف الجبهوي .
هذه هي الجبهة ،
وهي واقعية ، وعلمية ، وضرورية في هذه الحدود ، أي بدون أن يقال أنها طريق الى
الوحدة أو أنها بديل عن الوحدة ، وحدة التنظيم القومي . ونحن عندما ندعو الى قيام
تنظيم قومي ثوري ذي قوة ضاربة في ساحة المقاومة ، لا ندعو الى الغاء وجود القوى
الأخرى ، بل ندعو القوى القومية التقدمية الى أن تتجسد في وجود منظم تفتقده الساحة
، بدلا من بقائها مبعثرة بين منظمات محدودة وبين قواعد المنظمات الاخرى . اننا
ندعو الى دخول المعركة ولا ندعو الى اخراج أحد منها , وعندما نوجد معا أما عدو
مشترك فان الجبهة ستكون صيغة نضالنا المشترك . الى أن تتحرر فلسطين ، فتخرج كل
القوى من ساحة النضال العربي ويبقى التنظيم القومي قائدا لنضال الجماهير ضد
الامبريالية والاقليمية والرجعية الى أن يقيم دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية
. وهكذا ترى أن التنظيم القومي لا ينفي الجبهة ، ولكنه لن يتوقف عن النضال القومي
عند الحدود التي يتوقف عندها حلفاء المرحلة ، بل تتجاوز استراتيجيته تحرير فلسطين
الى الغاء التجزئة واقامة دولة الوحدة . ومن هنا فانه هو وحده ، وليس الجبهة
الضمان الوحيد لاستمرار الثورة العربية حتى غاياتها العظيمة .
ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق