بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

المقاومة من وجهة نظر قومية .


المقاومة من وجهة نظر قومية . 

د.عصمت سيف الدولة .

كان الحديث عن " المقاومة من وجهة نظر قومية " موجها الى جمع من الشباب العربي التقوا على موعد محدود في نادي " الوافدين " بالقاهرة مساء يوم 2 نوفمبر 1969 . وبدأ الحوار بعد الحديث حتى انقضت حدود الموعد . ثم لم تنقطع ساعات طويلة على مدى ايام عدة ، وشارك فيه شباب جاد في البحث عن اجابات لأسئلة محددة . وآخرون يثيرون الاسئلة لاختبار اجاباتهم المعدة . وغير هؤلاء وهؤلاء في مواقع عدة بصيغ متعددة . ولقد اثارت الاسئلة التي طرحت تساؤلات لم يطرحها أحد . وثبت من كل هذا أن " المقاومة " أكبر أثرا ، وأعمق محتوى ، من أن يكفي حديث قصير للاجابة عن كل ما تفجره من قضايا في اذهان الشباب العربي . فقد ذهبت الاسئلة والتساؤلات التي تثيرها " المقاومة " الى حد تناول كل القضايا الفكرية والحركية التي تتصل بالوجود القومي ومستقبل الحياة فيه ، أو أغلبها ، ولما ينقطع الحوار بعد . عندئذ أصبح من حق المقاتلين في المقاومة ، وقياداتهم ، والشباب العربي في كل مكان ، أن يشاركوا في الحوار الذي بدأ حديثا ، وعدم التشهير بأي من القوى والمنظمات التي تقف في مواجهة العدو المشترك . وصياغتها مرتبة على وجه يتفق مع تسلسل نقاط الحديث ذاته . دعوة الى مزيد من الحوار البناء حول اسلوب الوفاء بمسؤولياتنا القومية .
عصمت سيف الدولة . 

***
1) الحديث :
مدخل :
ان الحديث عن " المقاومة " حديث شائك لأسباب عدة . اولها اننا اذ نتحدث عن " المقاومة " لسنا على الحياد من معركتها البطولية ضد الغزو الصهيويني ، بل نحن مع " المقاومة " . ان هذا يعني اننا ملتزمون بحدود المعركة فلا نقول اذ نقول الا ما يدعم مقدرة " المقاومة " على النصر . والحديث عن المقاومة ، حتى فيما يدعم مقدرتها ، ليس سهلا في كل وقت . ذلك لأن ثبات " المقاومة " في المعركة وتصاعد مقدرتها بعد هذا ، والبطولات الرائعة التي يقوم بها مقاتلو " المقاومة " قد أضفى على " المقاومة " هالة من القدسية لا تقبل من الحديث الا ما يشبه الصلاة والتمجيد . ومع هذا فقد تعلمنا من تاريخنا القريب ، ومن هزيمة يونيو 1967 ذاتها ان الصمت ، حتى لا نمس مشاعر بعض الجماهير فيما تأمل فيه وتقدسه ، قد أسهم في الهزيمة . فتراكمت السلبيات خفية حتى انهارت القوى التي ما كان يظن أحد انها قابلة للانهيار . لهذا قد اخترنا الحديث الشائك عن " المقاومة " . السبب الثاني ، اننا اذ نتحدث عن " المقاومة " نتحدث عن أبطال بواجهون الموت كل يوم ، أو يموتون . ونحن نتحدث عنهم من مقاعدنا المريحة في القاهرة على وجه يبدو كما لو كنا ننتمي الى عالمين مختلفين منعزلين . هناك من يرون ـ ويرددون ـ أن وراء هذه العزلة تاريخا من صنع المثقفين العرب انفسهم ، اذ انهم أهدروا سنين طويلة في أحاديث لم تنقطع الا عندما اكتشفوا انهم بينما كانوا مشغولين بتنميق الكلمات ورصها جملا وسطورا والقائها جدلا صاخبا ، كان العدو يعد في صمت قوته المقاتلة التي أوقعت بدولهم الهزيمة فكشفت عن عقم الحوار الذي أضاعوا فيه أعمارهم وأن فلسفة " السلاح " هي الصحيحة ، أما سلاح " الفلسفة " فهو عبث لا يطاق . ولا شك أن وراء هذا الاتهام قدرا  محدودا من الحقيقة وان كان غير كاف لتغطية نوايا المغامرين . ومع هذا فقد تعلمنا من تاريخنا القريب ، ومن تاريخ الثورات في العالم ، انه اذا كان الفكر المجرد من السلاح عبثا فارغا ، فان السلاح المجرد من الفكر مغامرة جاهلة . وتعلمنا من قائد ثورة أكتوبر ، لينين العظيم ، أنه " لا ثورة بدون نظرية " . من أجل هذا اخترنا الحديث الشائك عن " المقاومة " من وجهة نظر " قومية " يقينا منا بأنا ما نزال نفتقد من الفكر المحرك أكثر مما نفتقد من السلاح الفعال .
وحديثنا بعد ، ليس استعراضا فكريا بدون غاية . ان غايته أن يسهم في تحقيق قدر من الوحدة الفكرية بين الشباب العربي كمقدمة لازمة لوحدة ثورية يحقق بها هؤلاء الشباب النصر على أعداء المصير التقدمي الذي يتطلعون اليه . وليس أكثر تعويقا للوحدة الفكرية ، وبالتالي تكريسا للفرقة الثورية ، من عدم تحديد مضامين الالفاظ التي نستعملها في الحوار ، عندما نتكلم لغة واحدة ، بينما يعني بها كل واحد منا معنى مختلفا ، فنختلف . لهذا ستكون بداية حديثنا تحديدا لما نعنيه " بالمقاومة " ثم ما نعنيه بالنظرة الى " المقاومة " ، لعل هذا التحديد أن يساعد على ألا يفهم أحد ما يقال على أساس من أفكاره الخاصة . فاذا انتهينا من هذا التحديد الذي يستغرق أكثر حديثنا سيكون سهلا علينا أن ندرك بدون حاجة الى حديث طويل ـ النظرة القومية " للمقاومة " .
مع التسليم مقدما بان كل هذا اجتهاد قد تختلف فيه الآراء .
ماذا تعني " المقاومة " ؟
عندما نتحدث عن " المقاومة " نعني أسلوب القتال المسلح الجماهيري لتحرير الأرض العربية من الغزو الصهيوني . فالمقاومة تعنينا ـ في نطاق هذا الحديث ـ من حيث هي " أسلوب " للنضال ، اسلوب قتال " مسلح " متميز عن النضال الديبلوماسي أو الدعائي أو الفكري . وهي " أسلوب " قتال مسلح " جماهيري " متميز عن الأسلوب الدولي واسلوب الحرب النظامية ، ان هذا لا يعني أن المقاومة مجرد عصابات مسلحة مقطوعة الصلة بالصراع الديبلوماسي ، أو الدعائي ، أو الفكري ، وبالدول وسياساتها وجيوشها ، أبدا ، انما يعني أن المقاومة اذ تلجأ الى واحد أو أكثر من تلك الاساليب ، انما تفعل هذا كدعم ومساندة لأسلوبها المتميز : القتال الجماهيري المسلح .
ونحن نعلم أن " المقاومة " ضد الغزو الصهيوني ليست مجرد مقاومة دفاعية بل تتضمن نوايا هجومية تذهب الى حد تحرير فلسطين ، ومع ذلك نسميها " مقاومة " . ونعلم أن المقاومة مجسدة في عديد المنظمات المتميزة من حيث منطلقاتها الفكرية ، أو تركيبها البشري ، أو غاياتها الاستراتيجية ، أو مقدرتها القتالية ، أو حتى بقادتها دون أي مميز موضوعي آخر . وكلها عندنا ـ في نطاق هذا الحديث ـ مقاومة . كما نعلم أن تلك المنظمات " الجماهيرية " المتعددة ليست على قدر موحد من الاستقلال أو التبعية بالنسبة الى بعض الدول العربية . ومع ذلك نعنيها جميعا عندما نتحدث عن المقاومة . ذلك لأن ما يهمنا من " المقاومة " في هذا الحديث هو تلك السمة المشتركة بين كل المنظمات وهي : أسلوب القتال الجماهيري المسلح .
ماذا تعني " القومية " ؟
ان كان هذا واضحا وبسيطا فلعله مما يثير الدهشة أن يكون مفهوم " القومية " أقل وضوحا وأكثر تعقيدا . يرجع هذا فيما نعتقد الى عوامل متعددة ومتفاعلة أهمها :
أولا ـ ان مواجهة المد القومي التي بدأت في سنة 1955 قد جذبت اليها بعضا من المثقفين الذين فهموا القومية على أنها انتماء سلبي يحقق لهم نصيبا في عائد انتصاراتها بدون أن ينتبهوا الى حدها الايجابي من حيث هي التزام من أجل تحقيق مضامين حية . لهذا كثر الحديث عن القومية حديثا فارغا كتفاخر فقراء الريف بانحدارهم من عائلات عريقة ، منقرضة . وتلقف أعداء القومية تلك الأحاديث فأضافوها ـ بسوء نية ـ الى حساب الفكر القومي .
ثانيا ـ ان الحركات القومية المعاصرة للصعود الرأسمالي في اوروبا قد أسقطت على القومية كل مثالب الراسمالية ، وأدينت القومية بما جنت أيدي الراسماليين ادانة تحتاج مراجعتها الى جهد علمي لا يقدر عليه الكثيرون أو لا يرغبون فيه . فأصبح رفض القومية ملجأ مريحا للعاجزين عن فهم حركة التاريخ وما يجري تحت أنوفهم في القرن العشرين .
ومنها وأخطرها ـ ثالثا ـ أن الحركة القومية العربية قد صاحبت محاولات التحرر من الاستعمار التركي والاوروبي ، وبهذا سبقت التحول الاشتراكي الذي بدأ بعد التحرر . فلما طرحت قضايا التحول الاشتراكي حاولت الرجعية العربية أن تغلف موقفها الرجعي بما تبقى لديها من تراث النضال القومي ، فأفرغت القومية من مضمونها التقدمي وانقلبت القومية على أيديها الى مجرد رابطة عرقية متعصبة ورجعية .
وغير هذا أسباب كثيرة .
وهكذا أصبح الحديث عن القومية مباحا لعديد من التيارات المتناقضة ، كل منها يدعيها ، وكل منها له في الأحداث " وجهة نظر قومية " .
من أجل هذا ، لا بد من أن نصبر على طول الحديث عن " القومية " ليكون مفهومها الذي نعنيه ، ونلتزمه ، ونرى " المقاومة " على ضوئه ، محددا الى أقصى درجة من التحديد ممكنة .
الوجود القومي :
الذي لا شك فيه أن الوجود القومي ( الأمة ) ، كأي معطى موضوعي ، قابل للمعرفة وان كان غير متوقف وجودا وعدما على تلك المعرفة . بمعنى أننا اذا عرفناه فذلك اكتشاف لحقيقة موضوعية . واذا لم نعرفه فالحقيقة قائمة وان كنا لا نعرفها . وقد وصل الكثيرون الى اكتشاف الحقيقة القومية عن طريق البحث العلمي باستعمال مناهج مختلفة . وأصبح مسلما بأن ثمة وجودا اجتماعيا ذا خصائص متميزة يسمى " الأمة " . ولكنا اليوم نريد أن نحاول اكتشاف تلك الحقيقة من منطلق جديد : المنطلق الاشتراكي . نريد أن نبدأ كاشتراكيين لنرى معا ما اذا كان ذلك سيصل بنا الى أن نكون قوميين .
لماذا ؟
ان أزمة المستقبل العربي كما نراها من الآن هي أن القوى الاشتراكية منقسمة الى قوميين ولا قوميين . لأن وحدة القوى الاشتراكية في الوطن العربي كما نطلبها في الوطن العربي ضرورة قومية . لأن المقاومة كما نعرفها لن تنتصر نهائيا الا ان أصبحت مقاومة قومية اشتراكية . ولن يغنينا عن هذا مليون فوهة بندقية .
فلنبدأ من البداية .
والبداية هي البحث عن اجابة عن ذلك السؤال الحيوي الذي لا بد أن قد طرحه كل منا على نفسه وهو : كيف أحقق لنفسي حياة أفضل ماديا ومعنويا ؟ .. منفردا ؟ .. هذا غير ممكن فلكل منا أسرة ينتمي اليها ولا يستطيع أن يحقق لنفسه حياة أفضل بمعزل عنها . فلتكن غايته اذن ، أن يحقق الحياة الأفضل لنفسه واسرته معا ؟ .. منفردين ؟ .. هذا غير ممكن ، فاسرة كل منا جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي ينتمي اليه تؤثر فيه وتتأثر به سواء أرادت هذا أم لم ترده .
اذن ، فالحياة الأفضل ، بدون اختلاس ، لا يمكن أن تتحقق لأي منا واسرته الا في داخل مجتمع تسمح امكانياته وعلاقاته بالحياة الأفضل التي نريدها لأنفسنا .
ومن هنا يصبح دور كل منا ، وهو يسعى الى حياة أفضل له ولأسرته ، أن يعمل ايجابيا لتطوير " المجتمع الذي ينتمي اليه " الى حيث تتحقق امكانيات وعلاقات الحياة الأفضل . هذا الدور الايجابي يتضمن أمرين أساسيين .
الأول : أن لكل عامل ايجابيا الحق في أن يتطور المجتمع الذي ينتمي اليه ما دام هذا شرطا لازما موضوعيا لتطوير حياته الخاصة . ان هذا الحق ينصب على كل من الامكانيات والعلاقات : حق استرداد الامكانيات من مغتصبيها والمستاثرين بها ، وحق تنظيم العلاقات الاجتماعية بحيث يحصل كل واحد من عائد التقدم الاجتماعي على نصيب خاص متكافئ مع ما قدمه من عمل ايجابي ، مساهمة في ذلك التقدم .
الأمر الثاني : التزام كل عامل أيجابيا في مواجهة المجتمع الذي ينتمي اليه بأن يسهم في تطوير المجتمع الى حيث يتحقق له ، ولغيره ، الامكانيات والعلاقات التي تسمح بحياة أفضل . هذا الالتزام ليس التزاما منفردا ، بل التزام في مواجهة المجتمع . والمجتمع جماهير حية مريدة وقادرة على استيفاء حقوقها . وهذا يعني الا يقوم الالتزام بالنضال من أجل التقدم الا خلالض علاقة جماعية منظمة تضع كل مناضل في مواجهة ، وتحت رقابة ، جماهير محددة هي جماعير " المجتمع الذي ينتمي اليه " .
الى هنا لا يثور خلاف بين الاشتراكيين .
فحق كل عامل في امكانيات المجتمع الذي ينتمي اليه ، أو رفض الاغتصاب والاستئثار ، هو ترجمة للملكية الاجتماعية لمصادر الانتاج وأدواته . وحق كل عامل في أن يحصل من عائد التقدم الاجتماعي على نصيب متكافئ مع ما قدمه من عمل ، هو ترجمة لشعار " لكل حسب عمله " . والتزام كل عامل ايجابيا في مواجهة المجتمع الذي ينتمي اليه هو ترجمة " للديمقراطية الشعبية " . والعمل الجماعي المنظم هو الصيغة التي تجسد تلك الديمقراطية .
عند هذا الحد كلنا اشتراكيون ، مناضلون في سبيل تقدم " المجتمع الذي ننتمي اليه " .
ثم يرد السؤال المهم :
ما هو ذلك " المجتمع الذي ننتمي اليه " ، ويرتبط مصيرنا بمصيره ، والذي لنا حق في كل امكانياته ، وحق في صياغة علاقاته ، وعلينا التزام أمام جماهيره بأن نطوره ونحقق فيه الحياة الاشتراكية الأفضل ؟ ..
ان طرح هذا السؤال ليس تفلسفا ولا تعسفا . بل ان الاجابة عليه شرط جوهري لنجاح أي نضال اشتراكي . اذ على ضوئه نعرف نقطة انطلاقنا ، وامكانياتنا المادية والبشرية ، وقوانا ، والقوى الحليفة لنا ، والقوى المضادة لغايتنا ، وحلفاءها وساحة معاركنا المقبلة . وعلى اساسه نضع استراتيجيتنا ، وفي واقعه ندير معاركنا التكتيكية ، ثم نقدم الحساب لجماهيره المحددة التي التزمنا أمامها بأن نحقق لها المستقبل الاشتراكي .
هذا اذا كنا جادين فيما ندعيه من تقدمية ، وما نعلنه من استعداد للنضال من أجل حياة أفضل .
ونحن جادون .
فما هو المجتمع الذي ننتمي اليه ؟
اسهل الاجابات وأقربها الى الذهن هي أن المجتمع الذي ننتمي اليه يتحدد " بالدولة " التي نحن رعاياها . فلكل " دولة " وطن وشعب ، وفيها حكومة ، ولها امكانيات ، وعلاقات ، ومقدرة على التقدم . ذلك هو الأمر الواقع . وليس من المنكر أن الأمر الواقع هو بداية الطريق النضالي أيا كانت غاية هذا الطريق . وان تجاهل الأمر الواقع أو القفز من فوقه الى غيره مثالية تبدد الطاقات ولا تغير من أمر الواقع شيئا . ولكن اذا كانت الدولة أمرا واقعا فان التخلف أمر واقع ، والاستغلال أمر واقع ، والاحتلال أمر واقع ، واسرائيل أمر واقع ، والهزيمة أمر واقع فلماذا لا نقبل كل هذه الأمور الواقعة ؟ لأن الاشتراكيين تقدميين فهم يعرفون أن كل ما يبدو أمرا واقعا هو في حركة وتغير دائمين . وأن ثمة في كل يوم جديدا تحت الشمس . وأن مهمتهم على وجه التحديد هي تغيير الأمر الواقع الى الأمر الأفضل . اذن ، فكون الدولة أمرا واقعا يحدد لنا مجتمعا معينا ليس بالضرورة أنها أفضل تحديد للمجتمع الذي ننتمي اليه . ويكون علينا أن نبحث عن الحقيقة الموضوعية لهذا المجتمع لنرى بعد هذا ما اذا كانت الدولة تتفق مع تلك الحقيقة أو لا تتفق . وعندما لا تكون الدولة متفقة مع تلك الحقيقة الموضوعية يجب أن تزول الدولة المصطنعة لتقوم بدلا منها الدولة التي تتفق مع حقيقة المجتمع الذي ننتمي اليه .
فكيف يمكن أن نكتشف تلك الحقيقة اللازمة لتحديد مدى التزامنا النضالي من أجل الاشتراكية ؟
يقول القوميون أن الوجود القومي ( الأمة ) مسلمة علمية وذات خصائص يسهل معها تحديد نطاق الانتماء ، ويقدمون في التدليل على هذا عديدا من النظريات ، التي أسهم بعض الاشتراكيين في وضعها عن خصائص الأمة : وحدة اللغة ، وحدة الأرض ، وحدة المصالح ، وحدة الشعور النفسي ، وحدة الارادة ..الى آخر النظريات التي قيلت في خصائص الأمة . وينتهي القوميون من هذا الحوار الى أن الأمم هي " المجتمعات" التي ينتمي اليها الناس ، وأن لكل انسان أمة متكونة أو في طور التكوين ينتمي اليها . وان التزامه النضالي يمتد الى أن يشمل كل أمته وطنا وبشرا ، وان حقه في حياة كريمة أفضل يمتد ليشمل كل امكانيات أمته وعلاقاتها . ثم يضيف العرب القوميون : ونحن أبناء أمة عربية واحدة ، فهي مجتمعنا الذي ننتمي اليه ، وامكانياتها حقنا ، والتزامنا قائم أمام جماهيرها كافة برغم التجزئة الطارئة عليها .
والى عهد قريب جدا كانت كل الدراسات القومية في الوطن العربي تدور حول هذه الفكرة وتقف عندها .
ولم يكن هذا كافيا .
لم يكن كافيا لاذابة الجمود الفكري لدى بعض الاشتراكيين . ولم يكن كافيا لاقناع بعضا آخر من الاشتراكيين بمضاعفة التزاماتهم النضالية والتصدي لسحق الدول الاقليمية وتغيير الحياة في الوطن العربي كله بدلا من المهمة السهلة نسبيا وهي تغيير الحياة في جزء منه . وقد استفز هذا الرفض كثيرا من الاشتراكيين العرب فاحتدمت المعركة بين صفوف الاشتراكيين .  وطبيعي أن الرجعية كانت المستفيدة الأولى من هذا الخلاف . والواقع ما وصل اليه الفكر القومي من بيان لخصائص الأمة لم يكن كافيا ، ولا يمكن أن يكون كافيا لاقناع أي مناضل من أجل الاشتراكية بأن يمد التزامه النضالي الى خارج دولته ، بما يتضمنه هذا من أعباء ثورية مضاعفة ، لمجرد أن يقال له أن اولائك المقهورين خارج الحدود اخوتك أبناء أمتك لأنك تتكلم لغتهم ، وتعيش معهم على رقعة جغرافية واحدة ، ولك معهم مصالح مشتركة .. الخ . ومن باب أولى لم يكن كافيا ، ولا يمكن أن يكون كافيا ، لأي اشتراكي أن يستجيب لدعوة عصبية قومية غير ذات مضمون فيهدر جهده من أجل معان مجردة غير قابلة لأن تتحول الى حياة أفضل خاصة اذا جاءت الدعوة من صفوف القوى الرجعية . ذلك لأن الغاية النهائية للنضال الاشتراكي هو أن يحقق حياة أفضل .
ولم يكن ثمة أمل في وحدة القوى العربية التقدمية الا باكتشاف العلاقة بين القومية والتقدمية . ومع أن الثبات النسبي للرابطة القومية ، وانعكاساتها على البناء الاشتراكي في المجتمعات التي سبقت الى بناء الاشتراكية ، وصمودها كاطار للتقدم في تلك المجتمعات بالرغم من ادانتها كان يشير الى أن هناك علاقة موضوعية بين القومية والاشتراكية ، فان القومية كانت قابلة للاضعاف كرابطة والذبول كفكرة والفشل كحركة ، في عصر الصعود الاشتراكي ، ما لم يثبت أنها بذاتها رابطة تقدمية أو على الأقل أنها ليست عائقا في سبيل الاشتراكية .
وقد قدم الاشتراكيون العرب ، تحت الحاح رغبتهم في وحدة القوى العربية التقدمية ، ووفاء منهم بمسؤولياتهم القومية أمام الجماهير العربية ، عديدا من الدراسات التي استهدفت الكشف عن علاقة القومية والاشتراكية ، من جميع الزوايا الفكرية أو التطبيقية التي تهم الاشتراكيين في حوار مفتوح مع القوى التقدمية . وكان ذلك هو الجانب الجاد من الحوار الذي استنفد سنين غالية من حياتنا على أمل لقاء كل التقدميين في وحدة ثورية . حتى فوجئنا بالعدو الصهيوني الامبريالي المشترك يعصف بأحلام الطامعين في بناء الحياة الاشتراكية الأفضل في جزء من الوطن العربي وتبينوا في اسوأ الظروف تلك الوحدة الموضوعية والتفاعل المتبادل بين كل المشكلات التي طرحها واقع الامة العربية ، وتذكروا تلك الكلمة التي قيلت لهم فصفقوا لها ثم نسوها أو تناسوها أو أخفوها " ان التقدم العربي لا يمكن أن يقوم على أساس التجزئة " .
ونحن نفترض أن الدرس القاسي قد أثمر فنعيد الحوار بدون استغلال لمرارة الهزيمة ونعود بهم الى حيث توقفنا : العلاقة بين القومية والتقدمية . هل القومية رابطة تقدمية ؟ هل تقف عقبة في سبيل الاشتراكية ؟
ان الاجابة على هذه الأسئلة ستكون آخر الحوار . والرفض المتعنت لها يضع ادعياء الاشتراكية في الوطن العربي موضع اتهام جاد وصريح يتناول ولاءهم للجماهير العربية واشتراكيتهم ذاتها ، فان الوقت العصيب الذي تمر به أمتنا لم يعد يسمح بمزيد من تدليل المتمردين على أمتهم ولو رفعوا شعارات الاشتراكية .
لماذا تكونت الأمم : 
قلنا من قبل ، ونقول الآن ، لكل الاشتراكيين الذين يتنكرون لالتزاماتهم القومية ، ويقصرون ولاءهم على جماهير أقاليمهم بحجة أن القومية غير ذات علاقة بالتقدمية ، أو بأن الحركة القومية رجعية :
أيها الاخوة ،
ان مسألة الأمة كظاهرة اجتماعية غير منكورة ، فالأمم تملأ الارض وهي تطرح اسئلة ثلاثة :
الأول : ما هي الأمة ؟ وفي الاجابة على هذا نظريات عديدة تعرفونها ولا تعنينا في هذا الحديث .
الثاني : كيف تتكون الأمة ؟ والمتفق عليه أنها تكوين تاريخي يتم على مدى حقبة طويلة من الزمان خلال المشاركة في أحداث تاريخية نعرفها من تاريخ كل أمة على حدة .
الثالث : الذي يعنينا الآن هو :
لماذا تكونت الأمم ؟ لماذا لم تظل الاسر أسرا ، والعشائر عشائر ، والقبائل قبائل ؟ لماذا تجاوزت المجتمعات تلك الأطوار البدائية حتى وصلت الى طور التكوين القومي ؟ لا يمكن أن يكون قد تم هذا كله اعتباطا . فالاشتراكيون خاصة يعرفون من منهجهم العلمي ألا شيء يتم اعتباطا أو مصادفة ، وأن كل شيء حتى حركة المجتمعات من الماضي الى المستقبل محكومة بقوانين تضبط حركتها واتجاهها . كما يعرفون من منهجهم الجدلي أن التطور تقدم صاعد أبدا ، وأنه لا يكرر نفسه ، بل ينمو من خلال الاضافة نموا جدليا .
اذن لماذا تكونت الأمم ؟
يقول الاشتراكيون العرب أن المجتمعات البشرية قد تطورت من حيث النمو من الأسرة الى العشيرة الى القبيلة الى الشعب المستقر على أرض الى أمة خلال البحث عن حياة أفضل . تلك الغاية التي لا تزال تحرك الانسان في أي مكان مهما اختلف مضمون الحياة الأفضل . فالطور العشائري كان تحقيقا لحياة أفضل عجزت الأسر منفردة عن تحقيقها . والطور القبلي كان تحقيقا لحياة أفضل عجزت العشائر منفردة عن تحقيقها . والطور القومي كان تحقيقا لحياة أفضل عجزت المجتمعات القبلية والشعوبية منفردة عن تحقيقها . وقد تم كل هذا خلال أحداث ومراحل تاريخية مليئة بالصراع والهجرات والحروب بين القوى داخل المجتمعات ومع المجتمعات الأخرى المتماثلة بحثا عن الحياة الأفضل ، استنفذ فيها كل طور مختلف أقصى طاقاته ، على التقدم ، فلما أن عجز عن مزيد من التقدم ، وكان لا بد له بحكم قوانين التاريخ أن يتقدم انتقل الى طور أكثر تقدما . أكثر تقدما من حيث أنه يقدم له امكانيات للتقدم لم تكن متاحة له في طوره السابق .
وهكذا ، اذا كنا نحن الآن في الطور القومي ، واذا كنا ننتمي الى أمة عربية تكونت تاريخيا ، فان هذا يعني أن تاريخنا قد استنفذ كل مقدرة العشائر والقبائل والأقاليم العربية على التقدم قبل أن تتكون أمتنا ، وأنها عندما تكونت كانت دليلا تاريخيا لا ينقض على عجز المجتمعات الأولى التي تكونت منها على التقدم الاجتماعي منفردة . وأنها هي الرابطة التقدمية التي تتيح لكل جماهير المجتمعات الاولى التقدم الذي لم تكن متوافرة لها .
هل هي آخر طور ؟
هكذا يتساءل " الامميون " فنقول لا . فقياسا على حركة التاريخ الجدلية الصاعدة لا يمكن أن يكون الطور القومي آخر مراحل النمو الاجتماعي . بل نعتقد أنه عندما يتم التكوين القومي لكل الأمم التي لا تزال في طور التكوين ، ثم تستنفذ كل الامم أقصى طاقاتها على التقدم سيتم تكوين أو تكوينات اجتماعية جديدة أكثر مقدرة على التقدم . كل ما في الأمر أننا لا نعرف من الآن كيف يكون التكوين الجديد كما لم تكن تعرف القبائل أن مصيرها الى الوحدة القومية . فقد يكون التكوين الجديد جغرافيا ، وقد يكون قاريا ، وقد يكون انسانيا عالميا . ثم اننا لا نعرف متى سيتم هذا على أي من تلك المستويات . ولكننا نستطيع أن نقول أنه قياسا على ما استنفذته المجتمعات القبلية لتصبح أمما ومع ادراك لزيادة سرعة التطور الحضاري فان بين البشرية وبين تجاوز الطور القومي بضعة آلاف من السنين تخرج ذلك الطور الاجتماعي المقبل عن الموضوع الذي يشغلنا وهو ـ حتى نتذكر ـ تحديد المجتمع الذي نلتزم في مواجهته جماهيره بالنضال الاشتراكي ونتحمل أمامها مسؤولية تطويره وتحقيق الحياة الاشتراكية الأفضل فيه .
الأمة العربية هي اذن مجتمعنا الذي ننتمي اليه ، والقومية هي الرابطة التقدمية التي تجمعنا ، لا مبرر للجمود ولا للخوف ، فان النصر معقود لأية حركة تتناسب مع المعطيات الموضوعية لساحة نضالها . والقومية هي الضمان للنصر الاشتراكي . وان كان ثمة من يرضيهم أن يضيفوا الى التزامهم القومي التزاما أمميا نحو الوحدة المأمولة للمجتمع الانساني ، فلا تثريب عليهم ، ولكن نقول لهم دعونا أولا نوف بمسؤولياتنا القومية نحو الجماهير التي نعرفها ويرتبط مصيرنا بمصيرها الى آلاف السنين ، وان عشتم بعد هذا فافعلوا ما تريدون . وحتى قبل ذلك الحين فان قبولكم حقيقة الوجود القومي هو قبول للوجود القومي للأمم الاخرى ، والتزام بالتعايش السلمي معها , والتحالف مع حركاتها التقدمية ضد الرجعية العالمية المتحالفة . ذلك لأن مجرد القبول بحقيقة الوجود القومي للأمم جميعا لا يعني أن أمتنا ليست جزءا مؤثرا ومتأثرا بالتطور البشري كافة ، لأننا أيضا أمة من البشر .
تلك هي القومية .
النظرية القومية :
عند هذا الحد ، حد اكتشاف المضمون التقدمي للقومية تصبح نظرية القومية ذات المضمون الاشتراكي عقيدة ( ايديولوجيا ) كافية لتقييم الواقع العربي وتحديد استراتيجية تغييره ، وتعبئة قواه وقيادة المعارك فيه وتحقيق النصر لجماهيره . أي تكون كافية للتحول الى حركة قومية ثورية ذات منطلقات فكرية واستراتيجية حركية .
أما المنطلقات الفكرية فيمكن تلخيصها في جانبيها السلبي والايجابي في أمرين :
1 ـ بما أن المجتمع العربي لا يتطور تطورا متكافئا مع امكانياته الا بحشد كافة امكانياته لتطويره ككل ، فان الاقليمية تجسيد التجزئة فكرا وتنظيما هي حركة رجعية فاشلة : رجعية لأنها تعوق التطور الاجتماعي في الوطن العربي وفي أي جزء منه تطورا متكافئا مع الامكانيات العربية المتاحة ، وفاشلة لأنها محاولة لاعادة الأمة الى طور متخلف عن الطور القومي وهو مستحيل بحكم حتمية التقدم الصاعد في حركة المجتمعات .
2 ـ انه بحكم الوحدة الموضوعية للمشكلات القومية فان أية مشكلة في أي مكان من الوطن العربي هي مشكلة قومية غير قابلة لأن تحل حلا تقدميا متكافئا مع الامكانيات العربية الا من منطلق قومي بأداة قومية في اطار التقدم الاجتماعي لجماهير الأمة العربية ككل . وبالتالي فان الحل التقدمي النهائي لكل مشكلات التقدم في الوطن العربي لا يتم الا في ظل دولة الوحدة العربية الاشتراكية والديمقراطية .
ان هذا لا يعني أن كل جزء من الأمة العربية عاجز تماما عن تحقيق بعض التقدم لجماهيره ، ولكن يعني تماما أن ما يتحقق في كل دولة اقليمية أقل بكثير مما يمكن أن يتحقق للشعب فيها في ظل الوحدة الاشتراكية والديمقراطية .
وأما عن الاستراتيجية فهي على اساس تلك المنطلقات الفكرية . تبدأ بالواقع وتنتهي الى غايتها العظيمة " اقامة دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية " . وبدءا بالواقع العربي يمكن تقسيم استراتيجية الحركة العربية التقدمية الى خمس مراحل :
المرحلة الأولى : الاعداد الفكري والبشري لقيام اداة الثورة العربية .
المرحلة الثانية : اقامة اداة الثورة العربية تنظيما قوميا اشتراكيا ثوريا .
المرحلة الثالثة : اشتعال الثورة العربية التحررية الوحدوية الاشتراكية .
المرحلة الرابعة : اقامة دولة الوحدة النواة العربية الثورية .
المرحلة الخامسة : تصفية الاقليمية واقامة دولة الوحدة الشاملة الاشتراكية الديمقراطية .
وطبيعي أن كل مرحلة من هذه تنطوي على مراحل تكتيكية لا داعي لحصرها الأن ولا يمكن التنبؤ بها مستقبلا . المهم أن نعرف أن الحركة العربية التقدمية تعيش الآن في مرحلتها الاستراتيجية الأولى : مرحلة الاعداد الفكري والبشري لقيام الثورة العربية . وانها من موقفها في هذه المرحلة تنظر وتقيم وتتخذ موقفا من أي حدث دولي أو عربي أو اقليمي ، ومن كل القوى ، والصراعات والحروب . وعلى ضوء مقتضيات هذه المرحلة تنظر وتقيم وتتخذ موقفا من الغزو الصهيوني ومن المقاومة .
فلننظر من هذه الزاوية ولنقدر الموقف العربي من الغزو الصهيوني بما فيه " المقاومة " .
حقيقة الموقف القومي :
ان حقيقة الموقف من وجهة نظر قومية تتلخص فيما يلي :
أولا : أن هناك غزوا صهيونيا لجزء من الوطن العربي يستهدف توطين اليهود عليه في دولة تمتد من الفرات الى النيل . بدأ الغزو الصهيوني تسللا قبل سنة 1948 ، ثم مسلحا في ذلك العام ، ثم ما تلاه من توسع حتى سنة 1967 ، وهو غزو في ظل دعم وتأييد الامبريالية العالمية وعلى راسها الولايات المتحدة الأمريكية .
ثانيا : ان هذا الغزو موجه ضد الأمة العربية بقصد الاستيلاء على جزء من الوطن العربي ، وأنه قد بدأ واتسع ونجح حتى الآن في غيبة أي قوة قومية . ذلك لأن التجزئة التي أقامها ذات الاستعمار المؤيد للصيونية ، والتي تجسدها الدول العربية الاقليمية ، قد حالت ، وتحول بين القوى المعتدية وبين القوى القومية المعتدى عليها بأن حرمت على الجماهير العربية أن تتصدى للدفاع عن وطنها باداة قومية سياسية ( دولة الوحدة ) أو باداة جماهيرية ( التنظيم القومي الثوري ) ، وان الدول الاقليمية على هذا الوجه قد اسهمت وتسهم بقدر في تغطية الغزو الصهيوني للوطن العربي .
ثالثا : انه في غيبة القوى القومية تصدت الدول الاقليمية لهذا الغزو في حروب دفاعية ثلاث على مدى عشرين عاما ، وانهزمت في كل مرة بالرغم من تفوق امكانياتها المتاحة وان المرجع الاساسي لفشلها هو انها دخلت معركة قومية ـ أو ادخلت فيها ـ بذهنية اقليمية ، من منطلقات اقليمية ، بأدوات اقليمية ، كانت غايتها أن تدحر خطرا يهدد سلامتها الاقليمية ولم تكن لدى أية دولة عربية في أي يوم من الأيام ارادة تحرير الأرض العربية في فلسطين .
رابعا : ان معركة 1967 قد اسفرت عن غزو الصهيونية لأجزاء من أقاليم بعض الدول العربية . وبذلك تغيرت طبيعة المعركة بالنسبة الى هذه الدول فأصبحت طرفا أصيلا في المعركة ، فلم تقبل الهزيمة كما قبلتها في أرض فلسطين ، ولم تقبل المفاوضة كما فاوضت على أرض فلسطين . وصمدت كما لم تصمد من قبل ، وهي تعد العدة لحرب هجومية لأول مرة في تاريخها .. كل هذا وهي تعلن وتكرر اعلانها بأن حدود معركتها هي ازالة آثار العدوان ، أي تحرير أرضها وليس تحرير الأرض العربية في فلسطين .
خامسا : الحقيقة الخامسة من حقائق الموقف ان قد اسفرت جولة يونيو سنة 1967 من دخول الجماهير العربية طرفا في القتال المسلح ضد الصهيونية في شكل منظمات فدائية ، صمدت للقتال بينما القوى جميعا منهارة ، وتصاعدت مقدرتها حتى فرضت وجودها على الأطراف التقليديين للمعارك السابقة : الصهيونية من ناحية والدول العربية من ناحية اخرى . تلك هي المقاومة احدى حقائق الموقف الراهن في الصراع ضد الصهيوينة .
المقاومة من وجهة نظر قومية :
قلنا أن الحركة العربية التقدمية تمر الآن بمرحلتها الاستراتيجية الأولى وهي الاعداد لبناء اداة الثورة العربية تنظيما قوميا تقدميا ثوريا ، وانها من هذا الموقع تقيم وتحدد موقفها من الأحداث والقوى جميعا . وعلى ضوء ما أوردناه في نقاط خمس من حقائق الموقف في الوطن العربي يمكن تلخيص النظرة القومية على الوجه الآتي :
أولا : بالنسبة للغزو الصهيوني والامبريالي فانه يتناقض تناقض الحياة والموت مع الحركة القومية لأنه يستهدف الاستيلاء على ذات الارض التي تستهدف اقامة دولة الوحدة العربية عليها ، والقضاء على اي أمل في قيام حياة افضل على الأرض العربية ، وبالتالي فان سحق اسرائيل وتصفية الصهيونية العالمية هي القضية الأولى والاساسية للنضال العربي .
ثانيا : انه اذا كان ذلك الغزو قد بدأ واتسع ونجح في غيبة القوى القومية ـ الطرف الأصيل في المعركة ـ فانه قابل للاتساع والنجاح طالما كانت القوى القومية بعيدة عن ساحة القتال ، وان التنظيم الثوري القومي الجماهيري والسياسي هو الاداة القادرة على سحق اسرائيل وتصفية الصهيونية .
ثالثا : ان الدول العربية ، كانت ، وما تزال ، وستظل ، منفردة أو متحالفة غير قادرة على تحرير فلسطين لسبب بسيط هو أن تحرير فلسطين يقع خارج نطاق أهدافها كدول اقليمية ، وبالتالي فان أي مخطط لتحرير فلسطين يجب أن يقوم بعيدا عن أية تبعية لأية دولة عربية سواء كانت تبعية سياسية أو تنظيمية أو مالية أو ادارية .
رابعا : غير أن الدول العربية التي فقدت أجزاء من أقاليمها في حرب يونيو 1967 قد أصبحت طرفا أصيلا في المعركة الى أن تزول آثار العدوان ، ولهذا فان الموقف القومي يتطلب دعم مقدرتها على الصمود وتنمية مقدرتها على القتال ودفعها الى المعركة والحيلولة دون انسحابها منها أو استسلامها ، ومع التحوط ضد ما تعلنه من أن حدود معركتها تقف عند حدود 4 يونيو 1967 .
خامسا : أما عن المقاومة كأسلوب فذلك هو المدخل التاريخي لانجاز المرحلة الاستراتيجية الأولى من مراحل الثورة العربية . فقد كانت الحركة العربية التقدمية تواجه صعوبات جسيمة تحول دون بناء تنظيمها القومي . وكانت في حاجة الى مكان في الوطن العربي لا تمتد اليه قوانين وشرطة ومحاكم وسجون الدول الاقليمية . وكانت في حاجة الى ساحة نضال تعبئ فيها قواها وتربي كوادرها وتخوض معاركها بعيدا عن رقابة أو وصاية أو تخريب الدول الاقليمية ، وكانت في حاجة الى تكوين جماهيري ثوري يتم ويقوم ويكتسب شرعية من مقدرته الذاتية على الوجود بعيدا عن جهود الدول الاقليمية . وكانت في حاجة الى الوجود المنظم الذي يمثل الجماهير العربية ككل ، ويحقق وحدتها القومية في ذاته ، بدون اعتداد بالانتماء السياسي لاية دولة عربية .
كانت ـ باختصار ـ في حاجة الى ممارسة اسلوب القتال الجماهيري المسلح الذي يكون السمة المشتركة بين منظمات المقاومة القائمة في الساحة الآن . الساحة التي هي مكان من الوطن العربي بعيد ـ فعليا ـ أو يمكن أن يكون بعيدا عن قوانين الدول الاقليمية وشرطتها ومحاكمها وسجونها .
فكأن المقاومة من وجهة نظر قومية تمثل أفضل الامكانيات المتاحة مرحليا لبناء اداة الثورة العربية .
دعوة الى القوى العربية التقدمية :
هل ينطبق هذا على كل منظمات المقاومة ؟
لا يمكن الهروب من الاجابة عن هذا السؤال الدقيق . فلنحاول الاجابة عنه في اطار ثلاثة حدود لا نتخطاها .
اولها : أننا ندعم المقاومة ككل ضد العدو الرئيسي لأمتنا العربية .
ثانيها : أننا لا نعرف كثيرا عن حقيقة المنظمات في الساحة .
ثالثها : ان المقاومة بكل منظماتها لم تتبلور بعد ـ نهائيا ـ لا فكرا ولا تنظيما ، فهي قابلة للتطوير والتطور .
في هذه الحدود نرى أن ثمة ثلاثة اتجاهات في المقاومة .
1 ـ اتجاه اقليمي مرتبط ببعض الدول العربية تنظيميا أو ماليا أو سياسيا .
2 ـ اتجاه اقليمي فلسطيني يشكل الجانب الأكبر من المقاومة يمثل شعب فلسطين ويقاتل من أجل تحرير فلسطين لاقامة دولة فلسطينية .
3 ـ اتجاه قومي غير متبلور وغير مفرز تماما ومتناثر بين منظمات محدودة الحجم أو في قواعد كل المنظمات تقريبا .
وكل الاتجاهات تقاتل اليوم معركتها المشتركة ضد الصهيونية ، فهي في وضع يفرض عليها التحالف والتنسيق بين قواها . ولكنا نستطيع بسهولة أن نرى أن الاتجاه الأول سيخرج من المعركة بمجرد انقضاء مرحلة ازالة آثار العدوان ، أي بخروج الدول العربية المرتبط بها من المعركة بعد استرداد ما ضاع من اقاليمها في يونيو 1967 .
أما الاتجاه الثاني الذي يجسد الاقليمية الفلسطينية فانه سيقاتل الى أن تتحرر فلسطين ، لأن غايته أن يحررها وأن يقيم فيها دولته . وهنا قد يبدو أن الاقليمية لا تساوي الفشل . والواقع انه الى أن تزول آثار العدوان قد لا تكون الاقليمية الفلسطينية سببا في اضعاف مقدرة المنظمات التي تجسدها . ولكن لننظر ماذا بعد ازالة آثار العدوان ؟ عندما ينفض حلفاء المرحلة ويعود حراس الحدود الى الحدود ، وتطرح قضايا الأمن الداخلي والالتزامات الدولية ، عندئذ ستكون تلك المنظمات أمام اختبار دقيق . اما أن تصفي قواعدها أو تقبل تصفيتها ، واما أن تستولي على قواعد في الدول العربية ذاتها . ولن تكون حجتها في هذا الا ان لها حقا في الأرض العربية خارج فلسطين ، أي الا اذا لاذت بالمنطق القومي ، عندئذ ستتبين كم أخطأت عندما اختارت الملاذ الاقليمي . ولن تكون لها فرصة كسب المعركة الا اذا قبلت أن تكون للجماهير العربية حقا فيها وفي فلسطين لأن ذلك هو المبرر لالتزام تلك الجماهير بتمكينها من النصر في قلب الأرض العربية خارج فلسطين ، وعندئذ ستتبين أن الاقليمية تساوي الفشل ولو بعد حين . فان قبلت فقد تحولت الى قوة قومية ، ولا بد أن تقبل . نقول لا بد لان الحقيقة الموضوعية لمعركة تحرير فلسطين أنها معركة قومية ، لا تنتصر فيها الا القوى القومية . وبرغم كل قصر النظر ، وكل حسن النية أيضا ، فان المنظمات الاقليمية الفلسطينية ستجد نفسها في وقت ليس ببعيد أنها اما أن تصبح قومية واما أن تهزم . لن يهزمها الاسرائيليون بل ستهزمها الاقليمية ، الاقليمية فيها والاقليمية خارجها . ان ما تواجهه في لبنان نموذج وانذار لما ستواجهه فيما بعد في دول عربية تقف معها الآن ضد الاقليمية البنانية .
انه مما يحير الفهم الا يرى الشباب الذين بلغت ثوريتهم حد الفداء المأزق القريب الذي هم مساقون اليه . ان كل ما سمعناه تأييدا لشعار " مسؤولية شعب فلسطين عن تحرير فلسطين " هو أن عزل الشعب الفلسطيني عن قضيته طوال عشرين عاما وتصدي الدول العربية للغزو الصهيوني هو الذي أضاع فلسطين . ولا شك في أن عزل الشعب العربي من فلسطين عن معركة تحرير فلسطين وحبسه في مخيمات اللاجئين أحد الأسباب التي مكنت للغزو الصهيوني من أن يستقر فترات طويلة بدون مقاومة . ولا شك في أن تصدي الدول العربية للغزو الصهيوني هو الذي أضاع فلسطين . ولكن الا نتبين بوضوح أنه اذا كانت الدول العربية قد عزلت الشعب الفلسطيني من فلسطين في مخيمات اللاجئين وحالت بينه وبين القتال لتحرير الارض المحتلة فانها في ذات الوقت كانت قد حبست الجماهير العربية في حدودها الاقليمية وحالت بينها وبين القتال لتحرير الارض المحتلة . وقالوا : لقد انقضى عشرون عاما ونحن مشردون ضائعون بلا وطن وبلا هوية ، فنحن نقاتل من أجل تحرير فلسطين ليكون لنا فيها ما نفتقده من وطن وهوية . وهذا صحيح ، ولكن ألا نتبين بوضوح أن الاقليمية العربية هي التي حالت دون أن يكون لكم وطن وتكون لكم هوية يوم أن اعتبرتكم ، أنتم الذين تلقيتم منها الضربة الموجهة الى الامة العربية كلها ، أجانب غرباء في بلادها ؟  الا نتبين بوضوح أن الاقليمية هي التي حاولت وتحاول دون أن يكون لكم في دولة الوحدة وطن وهوية ؟ فلماذا لا تقاتلون في سبيل ما هو اسمى وأشمل ، وتحاكمون القومية بما جنت أيدي الاقليمية ؟ لماذا تصاغ المقاومة صيغة اقليمية فتصطنع بينها وبين الجماهير العربية حدودا بدون أرض وهوية ، بدون دولة ، وتمييزا بدون موضوع ، لكسب الرأي العام العالمي من خلال فكرة " الدولة الفلسطينية الديمقراطية " ؟ ..
هذا حوار افضل ، ولكن هل جربتم كسبه من خلال فكرة " دولة الوحدة الديمقراطية " ؟ الحق انكم لا تكسبونه الا بمقدرتكم على النصر . ومع ذلك فانما نسعى الى كسب الحلفاء والمؤيدين " للقضية " التي نكافح من أجلها والتي نعتقد أنها حق وعادلة . ولكننا لا نغير قضايانا من أجل كسب الحلفاء والمؤيدين . أفلا تعتقدون أن قضية " دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية " أكثر حقا وعدلا من " قضية فلسطين الديمقراطية " ؟ .
ان الجماهير العربية تعتقد أنها أكثر حقا وعدلا وأولى بأن تكسب تأييد كل القوى التحررية التقدمية في العالم ولو بعد حين .
اننا نستطيع أن نستطرد الى ما لا نهاية ، ولكن الالتزام القومي يفرض علينا أن نؤيد وندعم المقاومة ككل ، ونؤيد وندعم المقاومة الفلسطينية بوجه خاص . لأننا نتحدث ونحن مشتبكون في المعركة فلا يمكن أن نخذل المقاومة عموما . ولاننا نعرف انه عندما تنسحب القوى العربية الاقليمية من ساحة القتال على اثر ازالة اثار العدوان  ، لن تبقى في الساحة الا المقاومة الفلسطينية التي ستقاتل الى ان تحرر فلسطين ، فهي حليف طويل الامد نسبيا ، للقوى القومية تلك التي يمثلها الاتجاه الثالث . 
هذا الاتجاه الثالث لم يتبلور بعد ، وتتوقف بلورته على التعجيل باقامة التنظيم القومي الثوري الذي تكون منظمته المقاتلة في ساحة المقاومة هي قوته الضاربة  ، وتتحرك تحت قيادته طبقا لاستراتيجيته وفي حماية قواعده المنظمة على المستوى القومي .
كيف يتم هذا ؟
اننا نعرف ان شبابا عربيا في صفوف المقاومة يحلم احلاما غير واقعية ، وان شبح " جيفارا " العرب يعبث بمخيلة كثيرا من شبابنا العربي . وان " فلسفة النواة المسلحة " المعزولة عن الجماهير ، غير المبلورة عقائديا ، التي تبني استراتيجيتها عن طريق التراكم التكتيكي ، وتبني قاعدتها الجماهيرية من خلال المعارك ، وتكون عقيدتها الثورية بعد ان تنتصر ، هذه الفلسفة التي روج لها " ريجي دوبرييه " تتداول في صفوف المقاومة . وان اكثر من منظمة قد تعجلت فاختارت اسمها ، ورسمت شاراتعا ، ووضعت مواثيقها ، ورفعت شعاراتها القومية ، وهي تنتظر التحام الجماهير العربية حول قياداتها ، اعتقادا منها بان هكذا يكون التنظيم القومي التقدمي الثوري . اننا نشفق على هؤلاء الشباب من خيبة الامل المريرة التي سيعانونها ، عندما يجدون ان الجماهير العربية وان كانت تعطف عليهم ، لا تلتحم بهم ، ونخشى ان ينزلقوا حينئذ الى اتهام الجماهير بانها لم تستجب الى دعوتهم العجولة .
ويهمنا ان نقول الى كل المناضلين الذين يمثلون هذا الاتجاه ، ويتطلعون الى ان يكونوا القوة الضاربة لجماهير امتهم العربية ، ان عبقرية " جيفارا " البطل كانت على وجه التحديد في استجابته لواقع الثورة في كوبا واختياره الاسلوب المناسب لها بدون تقيد بالاساليب التقليدية ، وان محصلة الخبرة من تجربة كوبا الناجحة هي انها غير قابلة للتكرار بعيدا عن مثل الواقع الذي افرزها .
ان تحرير فلسطين احدى المهمات الاساسية للثورة العربية ، ولكنها جزء من معركة التحرر العربي . ومعركة التحرر العربي ليست سوى مقدمة لوحدة الوطن العربي . وحتى معركة الوحدة ليست الا جزءا مكملا لمعركة الاشتراكية . والنصر في كل تلك المعارك لازم لتحقيق الغاية النهائية : اقامة دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية ، التي تقدم للجماهير العربية في كل مكان امكانيات الحياة الافضل . ان شروطها الخاصة لكي تقتحم المعركة ، أن الجانب الاساسي من بناء التنظيم القومي الثوري يقع على عاتق القوى العربية التقدمية وليس على جانب المقاومة . وان مسؤولية النصر في المعركة الدائرة ضد اسرائيل واقعة على عاتق تلك القوى . وهي اذ تتخلى عن مسؤولياتها لن تستحق الا هزيمة اخرى ، ولن يجديها حينئذ البكاء مرة اخرى كما بكت في يونيو 1967 .
ان كتائب " انصار " المعركة يجب ان تشكل في كل مكان من الوطن العربي لدعم المقاومة فكريا وماليا وبشريا وسياسيا وعسكريا تمهيدا للالتحام مع المقاتلين القوميين من خلال مؤتمر قومي ينبثق عنه التنظيم القومي الاشتراكي الثوري ، عندئذ ستتحول المقاومة الى اداة للثورة العربية قادرة على ان تستمر في المعركة حتى النصر .
تلك هي المقاومة من وجهة نظر قومية .
الموقف القومي من المقاومة :
" المقامة " من وجهة نظر قومية تعني المقاومة كما يجب ان تكون . اما الموقف القومي من " المقاومة " فيعني موقف القوى القومية التقدمية ( منظمة او غير منظمة ) من المنظمات الاخرى المشتبكة في القتال ضد الغزو الصهيوني للارض العربية . وهذا الموقف يتحدد بالموقف القومي من المعركة وقواها .
ونحن نرى بوضوح ان لمعركة تحرير فلسطين مرحلتين :
المرحلة الاولى :
1) الهدف : ازالة اثار العدوان ( استرداد الارض العربية المحتلة في يونيو 1967 ).
2) القوى الرئيسية : القوى القومية التقدمية المقاتلة والشعبية .
3) القوى الحليفة :
أ) المنظمات الاقليمية الجماهيرية المقاتلة .
ب) الدول العرلية .
ج) القوى الماركسية في الوطن العربي .
د) قوى المعسكر الاشتراكي ( دوليا ) .
ه-) قوى الحركة التحررية العالمية .
4) القوى المضادة :
أ) القوى السرائيلية ( الدولة ) .
ب) القوى الصهيونية ( المنظمة عالميا ) .
5) حلفاؤها :
أ) القوى الامبريالية ( الولايات المتحدة الامريكية والاستعمار )
ب) القوى العربية المرتبطة بالاستعمار والولايات المتحدة الامريكية .
ج) القوى الداعية الى المساومة او الاستسلام .
د) القوى العاملة على اضعاف المقدرة العربية على القتال .
المرحلة الثانية :
1 ) الهدف : تحرير فلسطين وتصفية الوجود الاسرائيلي .
2 ) القوى الرئيسبة : القوى القومية التقدمية المنظمة المقاتلة والشعبية .
3) القوى الحليفة : القوى الاقليمية " الفلسطينية " .
4) القوى المضادة :
أ) القوى الاسرائيلية ( الدولة ) .
ب) القوى الصهيونية ( المنظمة عالميا ) .
ج) الامبريالية العالمية بواسطة الولايات المتحدة الامريكية والاستعمار .
5) حلفاؤها : الرجعبة العربية العميلة للاستعمار والولايات المتحدة الامريكية .
6) قوى تنسحب من المعركة او التحالف :
أ) المنظمات العربية الاقليمية ( من غير فلسطين ) .
ب) الدول العربية الاقليمية .
ج) القوى الماركسية في الوطن العربي ( من غير فلسطين ربما ) .
د) قوى المعسكر الاشتراكي .
لقد وضعنا الاجابة بهذه الصيغة ليسهل علينا تحديد ضوابط المواقف التكتيكية للقوى العربية التقدمية على ضوء التفرقة الحاسمة بين قوى المعركة في كل من المرحلتين . ويمكن اجمال تلك الضوابط فيما يلي .
اولا : انه لا يجوز تحت اي ظرف اثارة معارك مع القوى الحليفة في كل مرحلة فلن يستفيد من هذا الا العدو المشترك . ان الوقوف موقفا عدائيا ، دعائيا ، او حركيا ، ضد اي قوة مقاتلة ، او مشتبكة ، او مجابهة ، عسكريا او فكريا او سياسيا ، لقوى اعدائنا وحلفائها ، خطأ تكتيكي مدمر في هذه المرحلة . ان اقصى ما يمكن الذهاب اليه هو اتخاذ موقف دفاعي ضد الحلفاء الذين يرتكبون هذا الخطأ ، بدون وعي ، او استغلالا لظروف المعركة قاصدين  تحقيق النصر لحسابهم الخاص . على ان يبذل كل صبر ثوري ضد اي استفزاز ، وتبذل كل محاولة ممكنة لتنمية كل اسباب التعاون وتوثيق التحالف وتصفية اسباب الخلاف . نقول هذا مدركين تماما ان الساحة لا تخلو من تخطيط واع لتخريب العلاقة بين القوى التي تقف معنا لفض تحالفها او تحويلها عن هدفها المشترك . كما اننا ندرك تماما التخريب الذي قد ينتجه الجهل الذي يعربد تحت حماية السلاح ، او الانتهازية التي تبحث عن مكاسبها الخاصة . ولكنا مدركون في الوقت ذاته ان الاستجابة لكل هذا والمساهمة فيه عن طريق قبول الدخول في معارك جانبية بين القوى المتحالفة هو " موضوعيا " وبصرف النظر عن المبررات اضعاف للمقدرة العربية ومساعدة غير مباشرة للقوى المعادية  " .
ثانيا : ان مواقع القوى ستتغير جذريا بعد انتهاء مرحلة ازالة اثار العدوان ، والدخول في مرحلة تحرير الارض المحتلة من فلسطين قبل سنة 1967 وتصفية الوجود الاسرائيلي . وان كثيرا من القوى المشاركة الان في القتال ، والحليفة ،  ستنسحب من المعركة ثم تكتفي بالتاييد الادبي ، او تقف على الحياد ، او تنظم الى تحالف القوى المعادية . انها تلك القوى التي تقبل الوجود الاسرائيلي على الارض العربية او غير مستعدة للقتال حتى تصفية ذلك الوجود . تلك هي اخطر مرحلة سيواجهها النضال العربي ، وفيها ستقع مسؤواية استمرار المعركة على عاتق :
1) القوى القومية التي تقاتل من اجل تحرير فلسطين لانها جزء من الوطن العربي لتقيم دولة الوحدة .
2) القوى الاقليمية الفلسطينية التي تقاتل من اجل تحرير فلسطين لانها وطنها الخاص لتقيم فيه كما تقول " الدولة الفلسطينية المستقلة " .
ثالثا : على ضوء هذا فان ضابط الموقف القومي من المقاومة الان ، اي في مرحلة ازالة اثار العدوان تتلخص في امرين :
1) دعم المقاومة ككل في مواجهة القوى المعادية وحمايتها ، من محاولات الاضعاف او التصغية والوقوف معها ضد اي قيود تفرضها عليها الدول العربية .
2) نقد المقاومة في خصوصية " الاقليمية " عن طريق التركيز على ما تسلبه تلك الاقليمية  ( فكرا ، وصيغة ، وعلاقات ) من اضعاف لمقدرتها على النصر .

***
2 - الحوار :
مدخل : 
سؤال (1) :
اليس من المبالغة القول بانا ما نزال نفتقد من الفكر المحرك اكثر مما نفتقد من السلاح ؟ لقد هزمتنا اسرائيل بقوة مسلحة متفوقة ولم تهزمنا في مناظرة فكرية . بل ان الواقع الاجتماعي الذي يضم اشتاتا من الناس في الرض المحتلة وكما يشير اليه تعدد الاحزاب وكثرتها هناك يدل على تمزق الاتجاهات الفكرية . وبالرغم من هذا فان المقدرة المادية قد حققت لاسرائيل النصر حتى الآن .
جواب (1) :
لا اعتقد ان هناك مبالغة في القول باننا نفتقد من الفكر المحرك – الفكر المحرك وليس الفكر المجرد – اكثر مما نفتقد من السلاح . وليس صحيحا ان مرجع انتصار اسرائيل على الدول العربية حتى الآن هو تفوقها في القوة المسلحة . الاسباب اعمق واقدم من هذا . لقد ثبت ان اسرائيل كانت تعد العدة للقتال في 1967 منذ 1956 . وكانت تعد للقتال 1956 منذ 1948 . وكانت تعد للقتال سنة 1948 منذ الحرب العالمية الثانية 1939 . ومن قبل هذا بنصف قرن كانت تعد المقاتلين والمال اللازم اللازم للقتال . ان هذا التخطيط طويل المدى ( الاستراتيجي ) هو المرجع الاول لانتصار الصهيونية حتى الآن . وقد كانت الصهيونية العالمية تخطط للمستقبل منذ اكثر من قرن على ضوء فكرة محددة ومحركة هي اقامة دولة يهودية تمتد من الفرات الى النيل . ولا شك ان ان الفكرة ذاتها غير مقطوعة الصلة بمعطيات مادية وفكرية سبقتها ، ولكن ابتداء من تكوين الحركة الصهيونية اصبحت القوة المادية المالية والعسكرية تعد وتنتقى ويتم التدريب عليها لتكون كافية لتحقيق اهداف الصهيونية خطوة خطوة . ولولا هذه الوحدة الفكرية لما التزم الصهاينة جيلا بعد جيل وفي كل مكان من الارض بان يبذلوا من اموالهم وجهدهم ما يكفي لبناء قوة عسكرية متفوقة .
اما عن انعدام الوحدة الفكرية في الارض المحتلة بين اشتات من الناس فتلك حقيقة يجب ان نفهم في حدودها انهم مختلفون فيما يتعلق بكيفية الحياة في اسرائيل ، ويذهبون في هذا الاختلاف من اقصى اليسار الى اقصى اليمين ، ولكن خلافهم هذا لا يتجاوز مداه ليتناول وجودهم في الارض المحتلة ، اي وجود اسرائيل . ان الوحدة الفكرية هنا متحققة الى اقصى درجاتها . وهي هي الفكرة المحركة للنشاط الهادف الى اعداد القوة العسكرية المتفوقة . اي ان التفوق المادي استلزمته وأقامته فكرة الحفاظ على الوجود الاسرائيلي والتوسع فيه حتى يتم تحقيق الغاية القديمة ، الدائمة ، اقامة دولة يهودية من الفرات الى النيل وفي هذا هم متفقون .
على عكس هذا كان الامر في الجانب العربي . اننا نمتلك امكانيات مادية وبشرية اكثر بكثير مما تملكه الصهيونية العالمية . ونستطيع ان نعد قوة عسكرية اكثر تفوقا مما تستطيعه اسرائيل . كان ذلك هو الوضع دائما . ولكن العقيدة المحركة  لحشد هذه الامكانيات والاعداد العسكري لهزيمة الصهيونية كانت مفتقدة دائما . وليس ادل على هذا من ان الحروب التي خاضتها الدول العربية كانت كلها حروبا دفاعية . كما انها دخلت كل الحروب بدون ان تكون مستعدة لها ، او حتى بدون ان تتوقعها . وافتقاد الفكر المحرك هو الذي حال دون التقاء العرب على تخطيط استراتيجي طويل المدى لمواجهة المخططات الصهيونية . وهو الذي حال دون وحدتهم اللازمة لهزيمة الغزو الصهيوني الامبريالي .
انه اذا كان يبدو الآن على ضوء احداث جرت في يونيو 1967 ان التفوق المادي العسكري كان العامل الاساسي في الهزيمة ، فان هذا لا يعني ان اسباب هزيمة 1967 كانت عسكرية ، بل الهزيمة العسكرية كانت النتيجة الحتمية لاسباب اسبق منها واعمق . اهمها انه لم تكن لدينا فكرة محركة تحدد الغاية التي اعددنا لها قواتنا المسلحة . وعندما جاءت المعركة لم نفتقد السلاح فقد كان وفيرا ، ولكنا افتقدنا كيف نستعمله .
ماذا تعني المقاومة ؟
سؤال (2) :
ان الحديث عن المقاومة ككل بالرغم مما قيل من انها مجسدة في منظمات متعددة متميزة من حيث منطلقاتها الفكرية او تركيبها البشري او غاياتها الاستراتيجية ، والتركيز على انها " اسلوب القتال الجماهيري " فيه عناية بالشكل اكثر من العناية بالمضمون ، في حين ان العبرة في استحقاق اية ثورة هو بمضمونها الاجتماعي . هل تجوز التسوية مثلا بين منظمة تخوض الثورة من اجل مجتمع اشتراكي لمصلحة الكادحين وبين بعض المنظمات التي لا تريد حتى ان تفصح عن مضمون التزامها الاجتماعي ؟
جواب (2) :
لا توجد حركة ، ولا ثورة ، بدون مضمون . بل ان كل حركة او ثورة ذات مضامين مركبة . والحديث عن المقاومة كاسلوب قتال جماهيري لا يعني تجاهل مضامينها الاجتماعية ، ولكن يعني اختيارا للزاوية التي تتصل بموضوع الحديث . والمقاومة ككل متميزة بانها اسلوب قتال جماهيري . اما من حبث مضامينها ، فانها جميعا كما نعتقد ذات مضمون " تحرري " بحكم انها قوة مقاتلة ضد الغزو الصهيوني . وهي هنا متشابهة بل انها لا تتميز في هذا عن حركة الدول العربية التي تواجه اسرائيل . فحركتها تلك ذات مضمون تحرري ايضا . وفيما يتجاوز المضمون التحرري تختلف المنظمات والدول نفسها من حيث المضمون الاجتماعي . وحتى ونحن نتكلم عنها من موقف قومي فانا ناخذ موقفا ذا مضمون تحرري وحدوي اشتراكي ، ونقيسها على مواقفنا ، وندعوها اليه . لاننا نعتقد ان العبرة في استحقاق اية ثورة للنصر ، ليس بمضمونها الاجتماعي فقط ، ولكن بمضمونها الصحيح  اي الذي يستجيب لمتطلبات الواقع . والواقع هنا واقع عربي محتل مجزأ متخلف . ونحن لم نشأ ان ندخل في محاكمات المنظمات بعضها للبعض الاخر ، اعتقادا منا بان القضايا التي تختلف عليها لا تؤثر في استحقاقها للنصر الا من حيث بعدها او قربها من المضمون القومي التقدمي الذي ندعوها اليه . وان الخلاف حول المضامين الاجتماعية لا ينفي الوحدة حول المضمون التحرري الذي لا يكتمل الا في اطاره القومي . مع ملاحظة ان استحقاق النصر ليس استحقاقا قانونيا بل يستحق النصر من يقدر على تحقيقه ولا تقدر عليه وبالتالي لاستحقه الا المقاومة القومية الاشتراكية . ان اي مضمون غير هذا ، او دون هذا ، او يتجاوز هذا ، خطأ لن يؤدي الى النصر .
الوجود القومي :
سؤال (3) :
اني لا ارى ان المدخل الى معرفة الوجود القومي او الامة هو ان نبدأ كااشتراكيين . وربما يكون العكس هو الصحيح . اي اننا اذا بدأنا كقوميين يمكن ان نصل الى ان نكون اشتراكيين ، باعتبار ان القومية تتضمن الولاء للجماهير العريضة التي تتكون منها الامة ولان الوجود القومي اقدم من النظام الاشتراكي وسابق عليه تاريخيا .
جواب (3) :
ان الوجود القومي ( الامة ) كمعطى موضوعي يمكن معرفته عن طريق المناهج تلعلمية . فالبحث العلمي هو المدخل الصحيح لمعرفة الوجود القومي . وقد عرف كثير من الناس حقيقة انتمائهم القومي وتعرفوا على امتهم قبل ان بعرفوا شيئا عن الاشتراكية . ولكنا في حديثنا لا نستهدف التدليل على الوجود القومي  ، انما نستهدف الوصول الى اقناع بعض الاشتراكيين في حوار موجه اليهم بان القومية رابطة تقدمية او لا تقوم عقبة في سبيل الاشتراكية . وفي مراحل سابقة وضع القوميون تحت نظر هؤلاء الاشتراكيين دراسات علمية وتركوا لهم ان يتعرفوا على تلك العلاقة بانفسهم . ولكن في هذه المرحلة حيث اصبحت وحدة القوى التقدمية ملحة بحكم المعركة ، نرى ان ندير الحوار معهم انطلاقا من مواقفهم ذاتها ليتبينوا انهم كاشتراكيين مطالبون بالالتزام القومي . وعلى هذا فالاشتراكية ليست مدخلا لمعرفة الوجود القومي ، ولكنه المدخل الذي قد يكون مناسبا لاخراج بعض الاشتراكيين من عزلتهم وتحطيم جمودهم العقائدي وانفتاحهم على جماهير امتهم .
سؤال (4) :
اذا كان صحيحا ان البدء من منطلق اشتراكي يؤدي بنا الى ان نكون قوميين فكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين الخبرة التاريخية التي اثبتت ان الاشتراكية نجحت في كثير من انحاء العالم  كنظرية وكثورة وفي التطبيق بدون اعتداد بالقومية بل نستطيع ان نقول من موقف معاد للقومية .
جواب (4) :
اولا ان الخبرة التاريخية للاشتراكية كنظرية وفي التطبيق لم تكتمل بعد حتى نستطيع ان نحتكم الى محصلتها النهائية . ولكن ما تحقق حتى اليوم 
من خبرة يدل على اتجاه ثابت لاكتشاف العلاقة بين القومية والاشتراكية . فكلنا يعرف ان الاشتراكية التقليدية بدات بموقف عدائي صريح للقومية على زعم أنها من خلق البورجوازية المستغلة التي تسعى الى السيطرة على السوق القومي . ولكنا نعرف الآن وبعد اكثر من نصف قرن من التطبيق الاشتراكي ان اكثر الدول الاشتراكية قد اعترفت - من خلال خبرتها في التطبيق – بتاثير الخصائص الخاصة بكل مجتمع على البناء الاشتراكي فيه ، وعندما تجاهلت بعض الدول هذه الخصائص ، ثار ، ومازال يثور ، نوع من الصراع بين الدول الاشتراكية . وهكذا تفرض "الخصائص" الخاصة بكل مجتمع ذاتها على الاشتراكيين ويقبلونها بالتدريج ، خفية او صراحة . من اين جاءت هذه الخصائص ؟ ليس من المنطلقات الاشتراكية فقد بدات واحدة . وليس من المعالم الجغرافية فهي لا تختلف في يوغسلافيا مثلا عنها في البانيا ، او في المجر عنها في رومانيا ، او في جبال الصين عنها في جبال الاورال . ولكن جاءت نتيجة تراث تاريخي كسب به كل مجتمع خصائصه . فاصبحت تلك الخصائص مميزا قوميا له . ولسنا نشك في انه لن يمضي وقت طويل حتى يصبح مسلما بان لكل امة اشتراكيتها الخاصة بها ، كنظرية وكثورة وكنظام اجتماعي . حينئذ تكون الخبرة التاريخية في هذه الخصوصية قد اكتملت بالاعتراف بالعلاقة التقدمية بين القومية والشتراكية بعد ان كانت قد بدات بافكار الاشتراكيين للقومية .
سؤال (5) :
ان اتخاذ السؤال " كيف احقق لنفسي حياة افضل ماديا ومعنويا " كمدخل للوصول الى الحل الوحدوي الاشتراكي يكشف عن منطق فردي لا يستقيم مع القول بان الوجود القومي " الامة " معطى موضوعي غير متوقف على معرفتنا ، لان هذا الوجود الاجتماعي يعني انه لا وجود للفرد منعزلا عن مجتمعه بحيث يبدأ مسيرته النضالية من ذاته كما لو كان وحيدا .
جواب (5) :
اعتراض صحيح فيما يتعلق بان لا وجود للفرد منعزلا عن مجتمعه بحيث يبدأ مسيرته النضالية من ذاته كما لو كان وحيدا . ولكن من ناحية اخرى لا يوجد مجتمع غير متكون من افراد . فالفرد جزء متفرد وان كان جزءا من كل يحتويه . وبين الفرد والمجتمع علاقة جدلية ، فالفرد يؤثر في مجتمعه ويتاثر به ليعود فيؤثر فيه . وعند الحديث عن هذا التاثير المتبادل لا بد من اختيا نقطة بداية . فاما ان نبدأ بالحديث عن المجتمع وتأثيره في الفرد ، واما ان نبدأ بالفرد وكيف يؤثر في المجتمع . وقد اخترنا ان نبدأ بالفرد اعتقادا منا بان الانتقال من البسيط الى المركب اسهل ادراكا من الانتقال من المركب الى البسيط . فاذا كنا قد قلنا ان البداية هي سؤال كل منا " كيف احقق لنفسي حياة افضل ماديا ومعنويا " فان هذا لا ينفي ان مضمون الحياة التي يريد ان يغيرها ومضمون الحياة الافضل ماديا او معنويا التي يريد ان يحققها متؤثران بمجتمعه قبل ان يطرح على نفسه السؤال .
سؤال (6) :
اليس قبول تحديد المجتمع على اساس الدولة اكثر واقعية من البحث عما يقال انه " الحقيقة الموضوعية للمجتمع " مع ملاحظة ان اكثر وواقعيةلا يعني قبول الامر الواقع . او بمعنى اوضح اليس اكثر واقعية ان يناضل الاشتراكيون في كل بلد عربي حتى اذا ما استولوا على السلطة وأقاموا الاشتراكية استطاعوا الالتحام في دولة واحدة لانعدام التناقض بينهم . اليس هذا اكثر واقعية من الوحدة بين دول مختلفة النظم الاجتماعية ؟
جواب (6) :
لنبدأ الاجابة من آخر السؤال لنستبعد على الفور تصور ان تقوم الوحدة بين نظم مختلفة النظم الاجتماعية . ان هذه الصورة قد تتحقق في النظام الكونفدرالي وهو نظام لا يتفق مع الاسس القومية للوحدة . اما في دولة الوحدة فلا يمكن ان يتواجد نظامان اجتماعيان او أكثر ، مثلها في هذا مثل اية دولة واحدة في العالم . والواقع ان الحديث عن وحدة عربية بين نظم مختلفة حديث فارغ وغير قابل للتحقق . فالوحدة لا تعني الجمع بين دولتين ونظامين او أكثر في اطار دستوري واحد ، ولكن تعني الغاء الكيان الدستوري لكل من الدولتين لاقامة كيان دستوري جديد يضم الاقليمين او الشعبين . وطبيعي ان هذا لا يتم تلقائيا ولكن بالنشاط الثوري الايجابي الذي اقام دولة الوحدة في مواجهة الدولتين الاقليميتين . هذا النشاط الثوري الايجابي له حتما مضمون اجتماعي ( وهو عندنا اشتراكي ) هو الذي سيكون نظام الدولة الجديدة عندما تنتصر القوى الوحدوية التي تجسده وتقيم دولتها الواحدة . لهذا قلنا دائما ان الوحدة العربية لا تتم من خلال اتفاق ، ولكن تتم من خلال كفاح القوى التقدمية المنظمة قوميا ، اي التي تعمل داخل كل الدول العربية بقصد الغاء الوجود المستقل لكل منها لمصلحة دولة الوحدة العربية . ذلك لان اقامة دولة الوحدة يقتضي الغاء الوجود المستقل لدولتين ( او اكثر ) في وقت واحد لاقامة دولة الوحدة بديلا عنها . فكيف يمكن تحضير الاقليمين ( او اكثر ) في وقت واحد ومحدد ؟ لا يمكن ان يتم هذا الا بعمل موحد طبقا لاستراتيجيا واحدة تحت قيادة واحدة تحرك الجماهير في دولتين ( او اكثر ) لتقيم على انقاضهما دولة الوحدة . ذلك هو الاسلوب الواقعي والصحيح . وعلى ضوئه لا يكون اسلوب نضال الاشتراكيين في كل قطر الى ان يستولوا على السلطة ثم يلتحمون في دولة واحدة اسلوبا واقعيا الا اذا كان نضال الاشتراكيين في كل قطر يتم في اطار وحدة تنظيمية تجمعهم وفي نطاق الالتزام بمخطط استراتيجي واحد يستهدف ان تكون غاية النضال الاشتراكي ، ليس الاستيلاء على السلطة في كل قطر على حدة وتطبيق الاشتراكية فيه ، ولكن الغاء الوجود المستقل لكل قطر واقامة دولة الوحدة الاشتراكية . وطبيعي ان الالتزام الشتراكي بتحقيق الوحدة سيكون ذا أثر ايجابي على تخطيط البناء الاشتراكي المقبل ، لان مصادر الانتاج وادواته وعلاقاته ومشكلات البناء الاشتراكي في دولة الوحدة لن تكون جمعا حسابيا لمصادر الانتاج وادواته وعلاقاته ومشكلات البناءىالاشتراكيةفي الاقاليم ، بل ستكون متميزية نوعيا عنها ، بحيث ان التخطيط الاشتراكي في دولة الوحدة سيكون مغايرا نوعيا لمجموع الخطط الاشتراكية في الاقاليم منفصلة .
على ضوء هذا نستطيع ان نرى ان تصور الوحدة بعد نمو البناء الاشتراكي في كل قطر على حدة تصور غير واقعي لاسباب كثيرة منها ما يتصل بضرورة الوحدة ذاتها ، اذ عندما يستقر في اذهان الاشتراكيين والجماهير في كل قطر ان الحياة الاشتراكية الافضل قابلة للتحقق في ظل التجزئة فان الوحدة العربية ستفقد المبرر الحياتي لها وتكون الدعوة لها غير واقعية . ومنها ان نمو البناء الاشتراكي على اساس التجزئة سيقيم مجتمعين منفصلين حتى لو كانا اشتراكيين . ولما كان البناء الاشتراكيي صياغة اجتماعية ايجابية لامكانيات المجتمع وعلاقاته ، فان تنمية هذه الصياغة على اساس التجزئة سيجعل التحامها اكثر صعوبة لما يقتضيه الالتحام من اعادة الصياغة الاجتماعية الشاملة لامكانيات المجتمع الموحد وعلاقاته . بحيث تصبح الدعوة لاعادة النظر او تعديل او الغاء ما تم بناؤه في كل من القطرين تمهيدا للوحدة بينهما دعوة صعبة القبول . ان كل ما يستطيعه الاشتراكيون الوحدويون هو اسقاط الاستغلال في الاقطار العربية ووضعها على طريق التحول الاشتراكي وتحقيق ما يمكن تحقيقه من المنجزات الاشتراكية ، كل هذا مع مراعاة التزامهم القومي بالا يكون البناء الاشتراكي عقبة في سبيل الوحدة . وهذا يقتضي الوعي وتوعية الجماهير على ان حياة الرخاء والحرية المتكافئة مع امكانيات امتهم العربية لن تتحقق الا في ظل الوحدة . ثم ان يخططوا للبناء الاشتراكي في اي قطر على اساس انه سيكون جزءا من دولة الوحدة الاشتراكية . واخيرا ان يسرعوا باقامة دولة الوحدة الاشتراكية ليتم البناء الاشتراكي منذ البداية على اساسه الصحيح . ان جمهورية المانيا الديمقراطية تفعل هذا في تخطيطها الاشتراكي فتدخل في حساباتها دائما احتمالات عودة الوحدة الالمانية .
ذلك هو الاسلوب الواقعي ، وبدونه سيرى الاشتراكيون الاقليميون ما بنوه منفصلا وقد عدله الاشتراكيون الوحدويون او الغوه لحساب اقامة الاشتراكية على اسس قومية ، ذلك لانه اذا كنا لا نقبل الوحدة الرجعية فانا لا نقبل ان نبيع دولة الوحدة بالاشتراكية الاقليمية . ثم ان الواقع دليل الواقعية ، وقد بدا التحول الاشتراكي في اكثر من قطر عربي فهل قربت الوحدة بينها او تاخرت ؟
سؤال (7) :

لماذا كانت الدراسات القومية في الوطن العربي التي تدور حول فكرة الوجود القومي وعلاقته بالتقدم الاشتراكي غير كافية لإقناع باقي الاشتراكيين ؟ هل لعجز هذه الدراسات عن الإقناع أم لأن باقي الاشتراكيين لا يريدون أن يقتنعوا ربما لان لهم ارتباطات غير قومية ؟

جواب (7) :

الواقع أننا نرى أن موقف الاشتراكيين غير مبرر علميا . غير مبرر علميا ان نلتزم بالنضال الاشتراكي في "الأقاليم" أو " في العالم أجمع " ، ونقفز فوق الوجود القومي مع التسليم بأنه موجود ، اذ لا أحد من الاشتراكيین ینکر الوجود القومي ( الأمم ) ، وقد ذكرنا أسبابا

عدة لهذا الموقف منها الجمود العقائدي ، ومنها الرجعية العربية التي ترفع شعارات القومية . ولسنا نريد أن نقول أن الارتباطات غير القومية سبب يضاف لأننا لا نريد أن نتهم أحدا بالخيانة بدون ان تكون الأدلة الحاسمة على هذه التهمة متاحة . وإنما نضيف ما قد يكون سببا مؤثرا وهو أن أغلب القيادات الاشتراكية في الوطن العربي من المثقفين الذين يجزعون من متاعب النضال القومي فيهربون منه إما الى الإقليمية ومتاعب النضال فيها محدودة ، أو الي الأممية ومتاعب النضال فيها صورية . ولكنا نعتقد أن الفشل الإقليمي سيكون المدرسة التي تعلمهم - بعد أن يدفعوا ثمن الفشل - أنهم لا يستطيعون الإفلات من انتمائهم القومي ، وأنهم لا يختارون المتاعب على هواهم ، فلا بد لهم من ان يقبلوا مواجهة متاعب النضال التقدمي كما تطرحها الظروف الموضوعية . والظروف الموضوعية في الوطن العربي تطرح متاعب ذات سمات وأبعاد وعلاقات قومية أمام كل االاشتراکین سواء آرادوا هذا أم لم يريدوه . ان هذا هو حكم التاريخ الذي صاغنا أمة عربية واحدة .

لماذا تكونت الأمم :

سؤال (8) :

ان سؤالي ذو شقين :

الشق الأول : لقد كانت المجتمعات القبلية في صراع دائم فیما بينها وكانت لكل قبيلة أهداف مختلفة ومتناقضة وربما كان تكوين الأمم نتيجة سيطرة مجموعة من القبائل على مجموعة أخرى أو غزو أحد لشعوب أخرى ، فكيف يمكن القول إطلاقا بأن الوجود القومي كان حلا تقدميا بالنسبة الى جميع المجتمعات التي نكون منها بدون تفرقة بين المجتمعات المسيطرة والمجتمعات المقهورة ؟

الشق الثاني : ان الحديث عن الوجود القومي أو الأمة ككل ، وتقدمها ، فيه تجاهل لدور الصراع الطبقي كحقيقة محركة للتقدم . والصراع الطبقي يفترض انقساما طبقيا يستحيل معه الحديث عن المجتمع ككل .

جواب (8) :

عن الشق الأول : ان الوقائع صحيحة أو غير مستبعدة . ففي المجتمعات السابقة على الطور القومي كان الصراع على اشده ، وكان كل مجتمع يحاول أن يفرض سيطرته على المجتمعات الأخرى . ويمكن ان نستنتج ان المجتمعات الأخرى كانت في أغلب الحالات تقاوم السيطرة المفروضة عليها . ونقول اختصارا للجواب أن كل ذلك هو ما نسميه الأحداث التاريخية التي تكونت الأمم خلالها . ثم نظيف هذه النقاط المتتابعة . بصرف النظر عن تقديرنا نحن للأهداف التي كانت تحرك الصراع القبلي لا بد أن كل قبيلة كانت تستهدف من الصراع ، هجوما أو دفاعا ، حياة أفضل لها ، أي انه كان صراعا اجتماعيا غايته تقدمية من وجهة نظر كل أطرافه ، انتهى بسيطرة مجمةعة من القبائل أو شعب من الشعوب على باقي المجموعات أو الشعوب الأخرى ، وكان ذلك حلا تقدميا بالنسبة للقوى المسيطرة ، وهو وهو ما لا يمكن زعمه بالنسبة للقوى المغلوبة التي لا شك انها كانت ترفض القهر ولو خفية وتحاول الثورة عليه واستئناف الصراع . وقد استطاع كثير من المجتمعات القبلية أن يثور ويصبح غالبا بعد أن كان مغلوبا . واستغرق ذاك الصراع حقبة تاريخية طويلة سبقت التكوين القومي وأسهمت فيه . خلال تلك الحقبة التاريخية الطويلة كان يوجد دائما طرف ثالث يظهر من حين الى حين ويفرض الهدنة والتحالف بين المتصارعين . ذلك هو العدو المشترك في شكل قبائل أخرى أو شعب آخر . المهم أن ندرك انه خلال الصراع كان التفاعل الاجتماعي بين الجماعات المتصارعة لا يتوقف وكانت تنمو بين الجماعات المتصارعة في رقعة جغرافية تتسع وتتقلص وتتحدد رويدا خصائص ومصالح مشتركة تميزها عن مجموعات أخرى . كل هذا كل هذا والصراع الذي اصبح داخليا يبرز الى الأمام كلما غاب الخطر الخارجي . ويصل الأمر بعد تراكم الخصائص والمصالح المشتركة الى أن يصبح الصراع داخل الوحدة هو الحل التقدمي الذي يتفق مع أهداف جميع المتصارعين . أي يصبح هدف الصراع دائرا حول كيفية التعايش في اطار وجود مشترك بدلا من كيفية الخروج من هذا الوجود المشترك . وبينما يستمر الصراع على وجه لا يخفي ميراثه القبلي تكون الأمة قد بدأت في التكوين ، ويدل على هذا اعادة ارجاء الصراع الداخلي في مواجهة العدو الخارجي الذي يعتبر عندئذ عدوا قوميا ، تواجهه الأمة التي في طور التكوين بقوى موحدة وقيادة موحدة . وتتعلم من النصر الذي تحققه أن وحدتها القومية كانت حلا لمشكلة الأمن التي يعجز عنها كل جزء منفرد ا . وفي ظل هذا الأمن يقدم لها الوجود القومي أفضل الامكانيات لتحقيق الحياة الأفضل اجتماعيا ، وتقدم لها الأرض المشتركة المادة الموحدة التي تشكل منها حياتها . كل هذا مع استمرار الصراع الاجتماعي ، ليس بين القبائل في هذا الطور ، ولكن بين القوى ذات الأهداف الاجتماعية المختلفة المتناقضة ، وان كانت كل منها تعتبر ان اهدافها تمثل الحياة الافضل بالنسبة الى الامة ككل ..

من هذا ندرك الحقيقة الكامنة وراء التكوين القومي وهي عجز المجتمعات السابقة عليه عن حل مشكلاتها منفردة بصرف النظر عن اسباب هذا العجز التي لا بد أن تختلف من جماعة الى جماعة . ان مجرد كون التكوين القومي يتضمن مقدرة فرضت ذاتها كبديل عن هذا العجز يعني انها طور أكثر تقدمية من الطور السابق عليها .

الشق الثاني : لعل الاجابة عن الشق الأول أن تكون قد أوضحت أن الوجود القومي لا ينفي الصراع الاجتماعي داخل الأمة . هذا الصراع الاجتماعي حقيقة غير منكورة وهو ما يسمى أيضا بالصراع الطبقي . ولسنا نرى أن في الحديث عن الأمة ككل ، وتقدم الأمة ككل تجاهلا للصراع الطبقي . لأننا ننطلق في موضوع الصراع الاجتماعي أو الصراع الطبقي من مسلمة أولى نستطيع أن نصوغها كما يلي : ان الوحدة الموضوعية والتأثسر المتبادل للمشكلات في اي مجتمع تعني أن الحل التقدمي لهذه المشكلات جميعا ، في زمان محدد ، في مجتمع محدد ، حل واحد محدد موضوعيا بصرف النظر عن مدى صحة معرفة الناس به .  وينقسم الناس عادة قسمين كبيرين في موقفهم من هذا الحل الموضوعي . قسم يتبنى ويناضل من أجل تحقيق هذا الحل التقدمي الذي يكون قد عرفه من خلال ادراكه الصخيخ للمشكلات الاجتماعية وتأثيرها المتبادل وحلولها العلمية .. اولئك هم التقدميون ، الذين وان كانوا قسما من المجتمع الا أنهم يمثلون مصلحة المجتمع ككل . أما كيف أدركوا ادراكا صحيحا المشكلات الاجتماعية وتأثيرها المتبادل وحلولها العلمية فذلك أمر قد تختلف الطرق اليه من أول البحث العلمي الى آخر تجربة الحياة وممارستها . وان كانت تجربة الحياة وممارستها تكون المدخل العريض لهذه المعرفة حيث يعي الذين يعانون مشكلات الحياة ضرورة التغيير الاجتماعي حتى تحل مشكلاتهم ، ويكون ذلك حافزا لهم على البحث عن حلول تقدمية لمشكلاتهم ، ذلك البحث الذي يكتمل لهم من خلاله عنصر المعرفة بمصالحهم المشتركة في التقدم وضرورة النضال الاجتماعي من أجل تحقيقه . في مواجهة هذه القوى التقدمية التي تتحول بالتحامها في نضال منظم الى طبقة تقوم القوى الرجعية التي تلتحم لحماية مواقعها لتكون طبقة أيضا . والرجعية قسم من المجتمع ينتمي اليه الرجعيون تحت تأثير عوامل عدة . منها الرغبة في الاستغلال ، أي استغلال قوى المجتمع الذي ينتمون اليه لمصلحتهم الخاصة . ومن هنا لا يمكن أن يقال عن هذه الشريحة المستغلة من الرجعيين انها تمثل المجتمع ككل لأنها لا تستهدف تقدم المجتمع ككل ، بل انها مع معرفتها بأن مصالحها الخاصة مناقضة للحل التقدمي الذي يجسد مصلحة المجتمع ككل ، تختار مصالحها الخاصة وتقف موقفا عدائيا من المجتمع . غير أن هناك شريحة أخرى تقف موقفا رجعيا ، ضد الحل التقدمي لانها تجهل حقيقة المشكلات الاجتماعية أو تأثيرها المتبادل أو حلولها العلمية ، فلا تتبنى الحل التقدمي ولا تناضل من اجله وقد تعوقه أو تقف ضده استجابة لتصوراتها الخاطئة . موضوعيا هي رجعية بصرف النظر عن حقيقة مصالحها التي تجهل علاقتها بالتطور التقدمي وموقفها لا يمثل مصلحة المجتمع ككل بل يمثل مصلحتها هي ذاتها كما تتصورها تصورا خاطئا .

وبين التقدميين والرجعيين ، يستمر الصراع الاجتماعي في شكل قوى منظمة تحاول كل منها أن تحقق أهدافها ، أي يستمر الصراع الطبقي . ومهما تكن أسباب الرجعية فانه لا يمكن الا أن تكون الأهداف التقدمية مجسدة لمصلحة المجتمع ككل في المجتمع المعين والمرحلة التاريحية المحددة التي يدور فيها الصراع . وهي أهداف كسبت سمتها التقدمية من استجابتها للواقع الاجتماعي ككل وليس من هوى اصحابها . وهذا هو الذي يؤمن النصر للتقدميين في نهاية المطاف بالرغم من ضراوة الرجعية ، ومن هنا ثقة التقدميين بالنصر . لكل هذا فانا اذا كنا نستطيع بحق الحديث عن نشاط الرجعية من أجل مصالحها الطبقية ، فان لا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن نضال التقدميين الذين يمثلون ـ من حيث هم تقدميون ـ مصلحة المجتمع ككل ، حتى المصلحة الحقيقية للقوى السلبية ، أو لتلك القوى التي لا تعرف كيف تحدد موقفها من الصراع الطبقي تحديدا سليما فتنحاز الى الرجعية جريا وراء مكاسب مؤقتة ، أو تحت تأثيرات ميتافيزقية بالرغم من أن مصلحتها الحقيقية في الحل التقدمي الذي تجهله أو تعوقه أو تعاديه .   

سؤال(9) :

ان تفسير " الأممية " بأنها انتماء الى مجتمع انساني واحد متوقع بعد آلاف السنين تفسير غير صحيح ومخالف لمفهوم الأممية التي تعني وحدة الطبقة العاملة في الوقت الحالي وفي المستقبل في مواجهة الامبريالية العالمية . فالى اي حد تكون " الاممية " بهذا المفهوم الصحيح متفقة أو مناقضة للدعوة القومية ؟

جواب(9) :

صحيح أن " الاممية " تعني وحدة الطبقة العاملة في الوقت الحاضر وفي المستقبل في مواجهة الامبريالية العالمية . ولكن هذه مواجهة ذات غاية تتجاوز القضاء على الامبريالية الى اقامة مجتمع انساني موحد . وعلى هذا فان تحليل الموقف الاممي يسفر عن معطيات ثلاثة : الأول أنه تحالف بين الطبقات العاملة ضد الامبريالية العالمية المتحالفة . وهذا الموقف مبرر بالدفاع عن النفس لان محركه الخطر المشترك الذي يجسده العدوان الامبريالي ، وهو مقبول بدون حاجة الى مبررات فكرية أو فلسفية أخرى . والمعطى الثاني أنه تطلع الى بناء مجتمع انساني موحد ، وهذه غاية تبعد عن عصرنا آلاف السنين ، ومع أنها أمنية انسانية جميلة الا انها لا تصلح محورا للالتقاء أو الالتزام النضالي الذي يستهدف تغيير الواقع الى ما هو أفضل منه وأكثر تقدما بما بعنيه ذلك من التحام بالواقع ذاته حتى يمكن تغييره . المعطى الثالث الذي لم يشر اليه السؤال مع أنه موضوع الحديث أن الاممية مطروحة كموقف مناقض للقومية ، مع أن الوجود القومي واقع معترف به ، والرابطة القومية حقيقة تشد الناس ولا يمكن تجاهلها . والأممية هنا " مثالية " من حيث انها تتجاهل الواقع الموضوعي وتحاول أن تصوغ علاقات نضالية تقفز من فوقه ، ولا شك في أن الزعم بأن مصالح الطبقة العاملة في العالم كله واحدة زعم غير صحيح . انه يفترض المساواة بين الأمم من حيث التحرر والتقدم الاقتصادي . وهذه فرضية غير صحيحة . ان العاملين في كل الامم يكافحون ضد الطبقات المستغلة بقصد استرداد مصادر الانتاج وأدواته من ايديهم وتحويلها الى ملكية اجتماعية يكون لكل عامل فيها نصيب متكافئ مع ما يعمل . ولكن وراء هذا حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها ، هي مصادر الانتاج وكل الثروات التي يراد اعادة توزيعها توزيعا عادلا في بعض الامم المتقدمة هي في الاصل ثروة مغتصبة بالاستعمار من أمم أخرى . ان هذا هو المبرر الرئيسي لما نلاحظه من أن المستوى المعيشي الذي يثور العمال في احدى الدول لانه اقل مما يستحقون ، هو ذاته يتجاوز بمراحل أحلام العاملين في أمم أخرى . تلك هي  الحقيقة التي افزعت " جيفارا " فثار ثورته العميقة ضد استغلال " المجتمعات المتقدمة " للمجتمعات المتخلفة بدون تفرقة بين اشتراكيين وغير اشتراكيين . ان هذا يعني فيما يهمنا أن التراث التاريخي الذي جعل مصلحة العاملين في كل أمة محددة بمشكلات التقدم كما تطرحها ظروف الامة التي ينتمون اليها وليس بالمستوى العالمي لمعيشة العاملين ، يحول دون الادعاء بوحدة المصلحة بين العمال في جميع أنحاء الأرض الى درجة تجعل من الانتماء الى " العمل " بديلا عن الانتماء الى الامة . غير أن هذا ذاته لا يعني أن ليس للعاملين في كل الأمم مصلحة مشتركة كتلك التي أشرنا اليها وهي اسقاط الامبريالية العالمية المتحالفة . ان تلك مصلحة تفرض عليهم ان يتحالفوا ضد عدوهم المشترك . كما أن للعاملين في بعض الأمم مصالح مشتركة قد لا تكون عالمية ، كمصلحة العالملين في المجتمعات المستعمرة في ان تتحرر مجتمعاتهم . وهكذا نرى أنه انطلاقا من أن القومية هي الرابطة الاصل ، يخوض العاملون التقدميون في كل امة معاركهم الداخلية ضد الاستغلال ، ويشاركون مع العاملين في أمم أخرى معاركهم ضد العدو الامبريالي المشترك دون أن يفقد أي منهم هويته القومية .

النظرة القومية :

سؤال (10) :

أ ـ اذا كانت الاقليمية رجعية فاشلة كما سمعنا فكيف يمكن تفسير الانجازات التحررية التي حققتها الدول العربية المتحررة بالرغم من أنها اقليمية ؟

ب ـ وما الرأي في فشل دولة الوحدة التي قامت سنة 1958 حتى في المحافظة على وجودها ؟

جواب (10) :

أ ـ عن التحرر :

ان القاعدة التي ذكرناها هي أن فشل الاقليمية لا يعني أن كل دولة اقليمية عاجزة تماما عن أن تحقق نجاحات محدودة بما تستطيع ولكن يعني تماما أن ما تحققه اقل بكثير مما كان يتحقق للشعب فيها في ظل دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية حيث يكون مدى التقدم ومعدله متكافئين لا مع مقدرتها الذاتية ولكن مع الامكانيات العربية المتاحة وهي بالغة الوفرة .

ومع ذلك فلننظر الى المنجزات التي حققتها بعض الدول العربية وعلى المستوى الذي يختاره الاقليميون عادة للجعجعة ، وهو مستوى التحرر ، الذي يظنزن أن قد وصلوا اليه في ظل الاقليمية بجلاء الجيوش المحتلة . انا نخطئ خطأ ساذجا اذا اعتقدنا أن جلاء الجيوش الأجنبية أو اجلاءها يعني التحرر تلقائيا . ان عصر الاستعمار بالبطش الظاهر ينحسر عالميا ، وتسحب الدول الاستعمارية قواتها من مناطق عديدة لمجرد توفير نفقاتها . وهي لا تفعل هذا متخلية عن مصالحها ولكن حافظة لتلك المصالح بأساليب أخرى اقل تكلفة واستفزازا من الجيوش المقاتلة . ولا شك في أن بعض الدول العربية قد استفادت من ذلك التحول التاريخي فجلت عنها الجيوش ، وأتاحت لها الفرصة لرفع اعلام الاستقلال ودق طبوله والحصول على مقعد مريح في هيئة الأمم المتحدة . غير أن التجربة لم تلبث أن أثبتت لنا أن الاستعمار الجديد ، الخفي ، الاقتصادي والثقافي ، ليس اقل ضراوة وتخريبا من الاستعمار المسلح السافر . ذلك لان التحرر من الاستعمار ليس منتهى غايات الشعوب بل هو بدايتها . فبرفع السيطرة الاجنبية عن الوطن وامكانياته المادية والبشرية ، يبدأ المستقلون في تحمل مسؤولية بناء الحياة التقدمية الافضل التي هي المعادل الحقيقي لتضحيات معارك التحرير . ولن يتحقق لهم هذا الا بأمور ثلاثة : أولها ـ الأمن ، أي حشد كل الامكانيات والجهود والقوى وتخطيط استخدامها من أجل بناء حياة افضل للجماهير التي قاست طويلا في ظل الاحتلال الاجنبي ، بدون خوف من عودة السيطرة الأجنبية ، أو بدون حاجة الى اقتطاع نسبة عالية من الامكانيات المحدودة لرد ، أو ردع ، محاولات احتلال أخرى . ولا نريد أن نشير الى أمثلة متعددة بل يكفي أن نقول أن أكثر الدول العربية جدية في رغبة التقدم الاقتصادي لم تترك سنة واحدة متصلة بدون تهديدات ، أو اغارات ، أو حصار، أو حرب ، وان قدرا متفوقا من طاقاتها كان وما يزال مسخرا من اجل دفع أو رد محالولات الاعتداء على استقلالها بالرغم من أنها كسبت معركة الجلاء .

معركة التحرر اذن لم تنته لان الامن الكافي للتفرغ لبناء الحياة الحرة لم يتحقق . وانها لمأساة حقا ان تكون حياة الجماهير تضحيات متصلة بلا نهاية معروفة ، تضحي من أجل الاستقلال ثم تستمر في التضحية في معارك الحفاظ على الاستقلال بدون انقطاع يسمح لها بأن تجني ثمار هذا الاستقلال . ان هذا الأمن اللازم لبناء الحياة غير قابل للتحقق الا في داخل الوحدة العربية القادرة على تصفية العدوان مرة واحدة والى الأبد ، وفرض احترام حريتها على كل مغامر ، وتجنيب احتياطي للدفاع يكفي للردع ولا يؤثر على المقدرة على الانتاج ، ثم التفرغ بالقدر الأكبر من امكانياتها لعملية بناء الحياة الأفضل . أي أن الاقليمية التي قد تستطيع ان تكسب معركة جلاء الجيوش الاجنبية عن ارضها تجد نفسها فاشلة في وضع حد نهائي لمحاولات العدوان وتوفير الأمن اللازم لتفرغها لبناء الحياة . فهي ـ في جملة قصيرة ـ عاجزة عن النصر النهائي في معركة التحرر .

الأمر الثاني ـ الذي لا يتم النصر في معركة التحرر بدونة هو هزيمة وتصفية الاستعمار الجديد . وجوهر الاستعمار الجديد هو التبعية الاقتصادية للدول المسيطرة . ان الدول العربية تنتمي الى العالم الثالث . فهي دول متخلفة اقتصاديا أو نامية . وهي في حاجة ملحة الى أن تضاعف مقدرتها الانتاجية بمعدل من السرعة يعوض سنوات التخلف . وفي هذا تحتاج ـ بالاضافة الى الجدية في العمل ـ الى أكبر قدر من معدات وخبرات الدول المتقدمة . وهي اما ان تكون قادرة علي دفع ثمنها الاحتكاري الفادح لكي تحصل عليها بدون شروط أو تبعية ، واما ان تدفع من ثمنها ما تستطيع ثم توفي باقي الثمن قبولا لشروط صريحة أو ضمنية ، معلنة أو خفية ، تضعها موضع التابع للدولة البائعة المعدات الشارية الحرية . وتلك هي النافذة التي يعود منها الاستعمار الجديد بعد أن كانت جيوش الاستعمار القديم قد غادرت من أبواب الموانئ . ولقد وقعت بعض البلاد العربية ـ الخالية من الجيوش الأجنبية ـ في براثن الاستعمار الجديد ، وباعت الاستقلال الذي دفعت ثمنه من دماء الشهداء بالارتباطات المالية والاقتصادية التي فرضتها عليها الدول الاستعمارية . فهل تحررت أم خانت الحرية ؟ لم تتحرر ولم تخن بل فشلت في تحقيق النصر النهائي في معركة التحرر . ولن تستطيع ان تحققه الا في ظل دولة الوحدة ، القادرة بمواردها الوفيرة على أن تشتري من المعدات والخبرات ما تحتاجه للتقدم الاقتصادي ، بثمنه الفادح ، بدون أن تبيع حريتها . وعندما نرى مستوى الحياة في كثير من البلاد العربية التي جلت عنها الجيوش الأجنبية مترديا ، أو متوقفا ، أو يحبو مثقلا بالديون والالتزامات الخارجية ، فيجب أن ندرك أن الإقليمية التي قد تتقدم حبوا ، فاشلة في التقدم وثبا ، لأن التقدم وثبا لا يتحقق لها الا بالإمكانيات العربية التي ترفع عنها أثقالها ، ثم تكفي ، وأكثر ، للتنمية الاقتصادية في الوطن العربي كله ، بعيدا عن شرك الاستعمار الجديد الذي يحتفي وراء الأموال ، والمعدات ، والخبرات ، والمعونات .

الأمر الثالث ـ الذي لا يكتمل النصر في معركة التحرر الا به هو أن تشعر الجماهير التي أذلها الاستعمار سنين طويلة بأن قيودها قد تحطمت يوم أن استقلت ، وأنها تعيش في بلادها المتحررة حياة حرة لا ذل فيها ولا خوف ولا قهر ولا استبداد . فهل تحطمت قيود الجماهير العربية بعد الجلاء ورفع أعلام الاستقلال ودق طبوله ؟ ان الرجعية لا تزال تفرض عليها القهر الاقتصادي وتذلها قبل أن تسمح لها بالحصول على لقمة العيش التي تحفظ الحياة من الموت . وتقبض على الناس من أمعائهم حتى يركعوا لها أو يسجدوا أو يموتوا جوعا . والجماهير العربية تتفرج على نظم العبودية والإقطاع في القرن العشرين ، ويحتمي الظالمون من غضبها ، وثورتها ، وراء حق الدول المستقلة في ألا يتدخل أحد في شؤونها الداخلية ، والتزام الدول " المستقلة " بالا تتدخل في شؤون غيرها . ثم ما بين وعود الحرية والرخاء والتقدم تبذل للجماهير العربية برعونة غير معقولة ، وبين عجز الدول الإقليمية فعليا عن تقديم إمكانيات تحقيق الوعود المبذولة ، انزلقت بعض الحكومات العربية الى الدكتاتورية المستبدة تفرض بها على الجماهير الصمت والصبر والمذلة لتغطي فشلها الذي لا مفر منه ما دامت تعد بما هي غير قادرة على تحقيقه في ظل الإقليمية . فهل كسبت الجماهير النصر النهائي في معركة التحرر ؟ انها لن تكسبه الا في دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية التي ان تعد فهي قادرة على الوفاء بوعدها فهي لا تخشى الجماهير وفي غير حاجة الى أن تفرض عليها الصمت والصبر والمذلة .

ثم ، أخي ، أليس من المغالطة أن نتحدث عن الانجازات التحررية في ظل الاحتلال الصهيوني ؟

ب ـ عن وحدة 1958 :

بقي الجانب الاستفزازي من السؤال الذي يقول : " ما الرأي في فشل دولة الوحدة التي قامت سنة 1958 حتى في المحافظة على وجودها " . ومصدر الاستفزاز فيه انه يوحي بأن الوحدة التي قامت بين سورية ومصر سنة 1958 قد فشلت في كل مجال " حتى " في المحافظة على وجودها . ولسنا نريد أن نستجيب للاستفزاز فنعدد مكاسب الشعب العربي في ظل ثلاث سنوات من الوحدة . بل نتجاوزه الى الجانب البنّاء من السؤال وهو الخاص بالفشل في الحفاظ على وجود دولة الوحدة . ذلك لأن وحدة 1958 لن ينصفها كثير من أصدقائها وكل أعدائها .

لقد قامت دولة الوحدة سنة 1958 بين مصر وسورية تجسيدا لرغبة شعبية عربية عارمة لا شك فيها . ثم وقع الانفصال سنة 1961 بدعم وتأييد وتخطيط القوى الاستعمارية والصهيونية . ولم يعد هذا محل شك أيضا خاصة بعد أن انكشفت كثير من المخططات العدوانية التي مهدت لحرب 1967 . ولم يعد أعداؤنا أنفسهم ينكرون أنهم بدأوا الإعداد للحرب والتدريب على خطتها منذ أن قامت الوحدة ، وأن الانفصال كان الخطوة الأولى في تنفيذ تلك المخططات . وهذا بشطريه يدل على أن الوحدة كانت خطوة تقدمية مستجيبة لآمال الجماهير العربية من ناحية ومضادة للمصالح الأمريكية والصهيونية من ناحية أخرى . أي أنها بمقياس تحرري تقدمي كانت خطوة الى الأمام . وأن الانفصال كان ردة رجعية . ان هذا لا ينفي أنه اذا كانت الجماهير العربية قد انتصرت في سنة 1958 فقامت دولة الوحدة ، فان هذه الجماهير ذاتها قد انهزمت في سنة 1961 ففقدت الوحدة الوليدة .

كل هذا صحيح ، إنما الخطأ الجسيم ان كان هذا بحسن نية ، أو التخريب المجرم ان كان متعمدا ، هو القول بأنه ما دامت الجماهير العربية قد انهزمت في سنة 1961 فان وحدتها سنة 1958 كانت خاطئة : ان هذا حكم ببراءة القوى الامبريالية والصهيونية والانفصالية العميلة من جريمة التآمر والعدوان على الأمة العربية . وهي دعوة انهزامية الى التنازل عن أهدافنا حتى لا ننهزم . وقياسا عليه يصبح قول الانهزاميين والخونة من أنه ما دمنا قد انهزمنا ثلاث مرات من إسرائيل فان رفضنا الوجود الإسرائيلي خاطئ . لقد تردّت مجموعات من أكثر المثقفين العرب ادعاء للعلمية وللتقدمية ، بل وللقومية أيضا ، في هذا الخطأ الجسيم يوم أن راحت بعد الانفصال تحاكم وتدين وحدة 1958 بدلا من إدانة الامبريالية والصهيونية . ان هذا الموقف الخاطئ خطأ جسيم قابل للتكرار في كل جولة لا ننتصر فيها من معاركنا الطويلة ، ولن تكون جولات معاركنا انتصارا وان كان حتما علينا أن ننتصر في النهاية .

في إطار هذا الإدراك لمعركة 1958 ، التي حققت فيها الأمة العربية أروع انتصار في تاريخها المعاصر ، ومنيت فيها أيضا بأفدح هزيمة ، لا ننكر بأن وقوع الانفصال واستمراره دليل غير قابل للنقض على أن القوى التي تصدت لحمل مسؤولية الدفاع عن وجود دولة الوحدة قد فشلت في الوفاء بمسؤوليتها . ولقد قيلت عشرات التبريرات لذلك الفشل منها ما وصل الى حد المهاترات الرخيصة . ونحن لا نعيدها ولا نرد عليها . انما نقصر الحديث على ثلاثة أسباب أساسية نعتقد أنها مجتمعة قد كانت وراء الفشل في الحفاظ على دولة الوحدة من حيث أنها سهلت للقوى المعادية انجاز غايتها المجرمة :

الأول : ان وحدة سنة 1958 قامت واستمرت حتى انقضت وحدة " انفصالية " ، أي معدة وجاهزة للانفصال . فقد تمت وحدة الرئاسة ، ووحدة الحكومة ، ووحدة مجلس الأمة ، أي تناولت الوحدة الإطار السياسي ، ثم بقي الإقليمان منفصلين جماهيريا ( في كل منها تنظيم سياسي مستقل ، وتنظيمات نقابية ومهنية مستقلة ) واقتصاديا ( لكل منها مصادر إنتاج مستقلة ، وخطة اقتصادية مستقلة ، وذمة مالية مستقلة ، ونقد مستقل ، وميزان تجاري مستقل وميزان مدفوعات مستقل ، ومخصصات للخدمات مستقلة ، وجهاز إداري مستقل ) وعسكريا ( لكل منها جيش مستقل من أبنائه خاصة ) ...الخ . لقد قيل قبيل الوحدة وأثناءها ، وبعد الانفصال ، أن القوى الوحدوية قد استعجلت الأمور وقفزت الى طموح غير واقعي لأنها اختارت الوحدة . وان الاتحاد كان افضل من الوحدة . قال هذا نفس أولائك الذين عرفنا من قبل أنهم أكثر الناس ادعاء للعلمية وللتقدمية وللقومية أيضا . وفي العراق أريقت الدماء في معارك بين أنصار " الوحدة " ودعاة " الاتحاد " ، وكانت " وحدة " 1958 نموذج القياس في اذهان الطرفين . وقد تجاهل دعاة الاتحاد ، الرافضون لوحدة 1958 بحجة انها التحام كامل لا تطيقه الظروف الإقليمية ، أن وحدة 1958 لم تكن " وحدة " ولا كانت " اتحاد " . كانت شيئا يشبه ـ وان كان أقل التحاما ـ الاتحاد الكونفدرالي . كانت اشتراكا في حكومة مختلطة بين دولتين مستقلتين جماهيريا واقتصاديا وماليا وتجاريا وعسكريا . ولم يكن ذلك الوضع قابلا للحياة طويلا فإما وحدة حقيقية وإما انفصال . وبينما قنعت القوى المسؤولة عن الحفاظ عن الوحدة بالخطوة الشكلية التي تحققت ولم تنشط في تصفية آثار التجزئة وملء الإطار السياسي الموحد بمحتوى اقتصادي واجتماعي وعسكري واحد ، نشطت القوى الامبريالية والصهيونية وعملاؤها الانفصاليون للقضاء على الوحدة وهي في اضعف أشكالها . وهكذا لم يتطلب انفصال إقليم من دولة أكثر من بيان في الإذاعة ، وهو ما لا مثيل له في التاريخ ز ولم يواجه الانفصاليون اية متاعب ، من اي نوع ، فبمجرد إعلان الانفصال وجدوا بين أيديهم دولة مجهزة معدة للانفصال .

لماذا ؟ لأن الإقليمية الخائفة على مصالحها الخاصة ، الداعية الى الوحدة كطريق الى مكاسب جديدة تضاف الى مكاسبها في أقاليمها ، أذعنت لوحدة الإطار السياسي ولكنها حالت دون الالتحام الجماهيري والاقتصادي والعسكري حتى لا تفقد مواقعها القيادية أو مصالحها السياسية أو سيطرتها العسكرية . فهل فشلت دولة الوحدة أم خربتها الإقليمية ؟

الثاني : أن وحدة 1958 لم تكن تجسد آمال الجماهير العربية ، وتشكل خطوة تقدمية لمجرد أنها وحدة بين مصر وسورية ، بل لأنها دولة الوحدة النواة ، التي قامت على أنقاض دولتي مصر وسورية . ودولة الوحدة " النواة " لا تتميز بعدد الأقاليم التي تقوم عليها ، ولكن بأنها قاعدة الثوريين العرب ومنطلقهم الى تصفية الإقليمية وإقامة دولة الوحدة العربية الشاملة . وهي لا تكون كذلك الا برفض التجزئة وعدم التردد ، أو التوقف عن استرداد مزيد من الأرض العربية الى أن تنمو الدولة النواة وتصبح دولة الوحدة . فان توقفت وارتضت حدودها الجديدة فقد انقلبت الى دولة إقليمية وان كانت قائمة على رقعة أوسع من ذي قبل من الوطن العربي ، وان كانت تضم قطرين أو أكثر ـ وقد توقفت وحدة 1958 عند حدود الإقليمين ، أو نقول تجمدت ، فتحولت الى دولة إقليمية كبيرة . ولما كانت الإقليمية فاشلة ولو تجسدت في دولة كبيرة فقد فشلت في الحفاظ على وجودها .

من الذي فشل ؟ ليس دولة الوحدة العربية النواة التي هتفت لها الجماهير العربية سنة 1958 ، بل الدولة الإقليمية التي كانت قائمة على إقليمي سورية ومصر سنة 1961 . أما لماذا فشلت ، أي لماذا انقلبت دولة إقليمية فلأن القوى الإقليمية الخائفة على مصالحها الخاصة ، التي تدعو الى الوحدة من منطلق إقليمي باعتبار أن قد تحمل إليها الوحدة مجالات أكثر اتساعا للاستغلال كانت حريصة في تجربتها الوحدوية الأولى على أن تنتظر حتى تستوثق مما اذا كانت التجربة قد حققت لها مكاسب تغري بمزيد من الوحدة ،أو لم تحقق.

الثالث : هو أن وحدة 1958 قامت بتأييد عارم لا شك فيه من جانب الجماهير العربية في كافة أنحاء الوطن العربي ولكن في غيبة التنظيم  القومي الثوري الذي يضع طلائع تلك الجماهير ، ويقودها ، فيحقق الوحدة بقوتها على وجه يجسد قوميتها شكلا ومضمونا ، ويبقي على الوحدة نواة لدولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية التي يستهدفها ، ويدافع عن الوحدة حتى الموت كما يدافع الثوار عن قواعدهم .

ان هذا السبب أولى بانتباه الشباب العربي لأنه كامن وراء السببين الأولين وان كان أكثر منهما شمولا . أما أنه كامن وراء السببين الأولين فذلك لأن وجدود التنظيم القومي الثوري كان كفيلا بسحق الإقليمية التي أبقت وحدة 1958 معدة للانفصال حتى انفصلت وحولت دولة الوحدة النواة الى دولة إقليمية ففشلت . أما أنه أكثر منهما شمولا فذلك لأنه كامن وراء كل الهزائم التي أصابت الأمة العربية حتى هزيمة 1967 ، وسيكون كامنا وراء أية هزيمة تصيب الأمة العربية حتى في ساحة " المقاومة " . الى أن يقوم التنظيم القومي الثوري ويتولى مسؤولية قيادة الجماهير العربية ضد أعدائها ، في كل الساحات ، على الطريق الى دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية .

لا شك في هذا أبدا .

ومن هنا ندرك أنه حتى لو لم تكن المقاومة  الا أفضل المداخل المتاحة لبناء التنظيم القومي ، وحتى لو لم يستطع أبطال المقاومة الا أن يساهموا ، ويسهلوا ، مولد التنظيم القومي ، فقد حققت المقاومة وحقق أبطال المقاومة الشيء الجوهري الذي تفتقده أمتهم العربية ، ووضعوا قدمها على أول طريق النصر ، وانعطفوا بالتاريخ العربي انعطافة جديدة  ظافرة لا شك في أنها ستؤثر تأثيرا عميقا في اتجاه التاريخ البشري المعاصر .  

حقيقة الموقف :

سؤال (11) :

 تقول أن الغزو الصهيوني قد وقع بتأييد من الامبريالية العالمية وعلى راسها الولايات المتحدة الأمريكية ، افليس أكثر مطابقة للحقيقة أن نقول أن هناك غوزا امبرياليا للوطن العربي يستعمل الصهاينة أداة له في تحقيق أغراضه على اساس أن اسرائيل ليست الا أداة تابعة وقاعدة للامبريالية . اني أرى أن هذا التحديد يساعدنا على فهم عدونا الاساسي في معركة تحرير فلسطين .

جواب (11) :

 ان اسرائيل ، والحركة الصهيونية ، حليفة للامبريالية العالمية وليست أداة لها . ان كلا منهما ذو استقلال فكري وتنظيمي وحركي ، ولكل منهما استراتيجيته الخاصة . الحركة الصهيوينة حركة عنصرية رجعية نشأت في وسط أوروبا ، ثم تحالفت مع مع الاستعمار البريطاني ، ثم نقلت تحالفها الى الولايات المتحدة الأمريكية ، تبعا لانتقال مركز القوة الدولي ، بقصد تحقيق غايتها الخاصة وهي اقامة دولة يهودية من الفرات الى النيل . فهي حركة غزو استيطاني يستهدف ارضا محددة . أما الامبريالية العالمية فهي تحالف راسمالي تقوده الولايات المتحدة الامريكية حاليا غايته فرض سيطرته المالية والاقتصادية على امكانيات العالم ونهب ثروات الامم ، أو تسخيرها لما يتفق مع تحقيق مزيد من الرخاء والقوة في الدول الراسمالية . وبالرغم من الأختلاف في مضمون العدوان ، ومدى شمول الاستراتيجية العدوانية ، في كل من الحركة الصهيوينة والامبريالية العالمية ، الا انهما حليفتان متفقتان فيما يتعلق بالوطن العربي على وجه التحديد . الامبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية تستهدف ابقاء العالم العربي في حالة تخلف وتبعية اقتصادية فتحول بكل قوة دون وحدته . ويحقق لها هذا ويضمنه عزل المشرق العربي عن المغرب العربي بكيان غير عربي . والصهيونية تستهدف اقامة الدولة اليهودية في ذات المكان الذي يعزل المشرق العربي عن المغرب العربي ويجعل وحدته أكثر صعوبة . فمع اختلاف المبررات أصبح الوجود الاسرائيلي في قلب الوطن العربي يحقق لكل من العدوين غايته فتحالفا . والامبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تستهدف استنزاف الامكانيات العربية في حروب دفاعية والاعداد العسكري لها وهو اقتطاع من قواها المنتجة لتبقى متخلفة ، بينما تدبر الصهيونية منذ عشرات السنين الحروب العدوانية ضد الأمة العربية لتستولي على الارض التي تريد أن تقيم عليها الدولة اليهودية . فمع اختلاف المبررات أصبح العدوان الاسرائيلي المتجدد على الامة العربية يحقق لكل من العدوين غايته فتحالفا . والتحالف يعني التعاون وتبادل الخدمات في اطار الأهداف المشتركة . ان هذا قد يبدو غير قيمة عملية ما دمنا نواجه الامبريالية والصهيوينة معا . ولكنا نعتقد انه ذو قيم عملية خطيرة . أولها أن الاعتقاد بأن الصهيوينة أداة للامبريالية قد يؤدي الى الاعتقاد الخاطئ بان مساومة الولايات المتحدة الأمريكية سيؤدي الى ان تسحب قاعدتها الصهيونية من فلسطين وتكف عنا أداتها اسرائيل . وهو وهم عشنا فيه ردحا من الزمان يوم أن كنا نفاوض انقلترا لتكف عنا الحركة الصهيوينة ظنا بانها أداتها . ثم ان هذا الاعتقاد قد يؤدي الى طغطية الاغتصاب الصهيوني للأرض العربية لو انقطعت صلة اسرائيل الدولة بالولايات المتحدة عن طريق تولي الاتجاهات التي يقال لها يسارية سلطة الحكم في اسرائيل . وهز وهم يداعب خيال كثير ممن يسمون انفسهم تقدميين في الوطن العربي أو خارج الوطن العربي . ومهما تكن ضآلة فرصة تولي بعض العناصر من أدعياء التقدمية في اسرائيل للحكم ن فان موقفنا يجب أن يكون محددا من الآن بأننا لا نقبل اقتطاع جزء من وطننا العربي ولو سكنته الملائكة . ان رفضنا للوجود الاسرائيلي قائم على حقنا في فلسطين ولا يتأثر حقنا هذا بنوع النظام الاجتماعي في مجتمع الغاصبين ولا بسياساتهم الداخلية اوالدولية . ثاني أوجه الخطورة في تجاهل الاستقلال داخل التحالف الامبريالي الصهيوني أن الاعتقاد المضاد بأن الامبريالية أداة مسخرة للصهيونية يخفي عنا الدور الايجابي ، ذي الغايات البعيدة ، للعدوان الامبريالي الذي يتم ـ مرحليا ـ  في اطار تحالفها مع الصهيوينة . وهذا وهم ضيق الأفق . ان معاركنا ضد الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية ستستمر وستكون أكثر ضراورة عندما نواجهها مباشرة بعد ان نكون قد صفينا الوجود الاسرائيلي في فلسطين.

لهذا ، فنحن أمام عدوين متحالفين ، ولسنا امام عدو واحد يتخذ من الآخر مجرد أداة له غير ذات أغراض عدوانية خاصة .

سؤال (12) :

ما المقصود على وجه التحديد من القول بأن الغزو الصهيوني موجه الى الوطن العربي بدلا من القول بأنه موجه ضد الدول العربية عامة ، أو بمعنى اصح ضد الدول العربية التقدمية .

جواب (12) :

المقصود الكشف عن حقيقة هي أن الغزو الصهيوني موجه الى الوطن العربي  وليس الى الدول العربية أو أي دولة عربية بالذات . اذ الواقع انه عندما رسم الصهاينة حدود الأرض التي يريدون غزوها والاستيطان فيها وإقامة الدولة اليهودية عليها لم تكن هناك أي دولة عربية فقد كان كل الوطن العربي كله تحت السيطرة التركية . ثم انه لما ان خطط الاستعمار الغربي حدود الدول العربية القائمة حاليا ، لم تغير الصهيونية مخططاتها مراعاة لأية دولة ناشئة . أما عن استهدافها الدول العربية المسماة تقدمية فانه غير صحيح أيضا . فان الصهيونية غزت الأرض العربية في ضل الاحتلال البريطاني ، وتوسعت سنة 1948 بينما كانت الدول العربية تابعة للاستعمار تحكمها الرجعية ، واستولت على خليج العقبة سنة 1956 في معركة مع مصر المتحررة التي لم تتحول اشتراكيا ، ثم أضافت أرضا جديدة سنة 1967 مقتطعة من ثلاث دول مختلفة من حيث نظام الحكم أو النظام الاجتماعي . ذلك هو المخطط الصهيوني التوسعي .

وهذا لا ينفي أنه عندما وجهت الصهيونية ضربتها الأولى الى الأمة العربية كانت الضربة غزوا لبعض أرض فلسطين ، وأنها كلما توسعت أصابت ضرباتها دولة أو أكثر من الدول العربية .، لأن الواقع الفعلي ان الوطن العربي الذي تحاول الصهيونية الاستيلاء على جزء منه مقسم بين الدول العربية . كما لا ينفي أيضا أن الصهيونية عندما تؤقت وتحتار معاركها التوسعية المرحلية تستهدف أمرين معا . الأمر الأول الاستيلاء على مزيد من الأرض . الأمر الثاني ضرب أية قوة أو أي اتجاه نام قوميا أو تقدميا قبل أن تكتمل له المقدرة على حماية نفسه ضد مراحل التوسع المقبلة أو قبل أن تكتمل له المقدرة على توجيه ضربة مضادة . ولا شك في أن الاتجاهات التقدمية القومية في بعض البلاد العربية تمثل خطرا مقبلا على مخطط التوسع الصهيوني . كما لا شك في أن دخول الجماهير العربية غير المنتمية سياسيا الى اية دولة عربية يمثل اتجاها بالغ الخطورة على الوجود الإسرائيلي ذاته . ومن هنا كانت الضربات الإسرائيلية توجه الى هذه القوى النامية لـامين مقدرة إسرائيل على مزيد من التوسع . ويمكننا أن نضيف الى هذا عاملا لا شك في أهميته ، وهو انه انطلاقا من معرفة الحركة الصهيونية أنها كانت دائما ، وما تزال ، وستظل عاجزة عن تحقيق أغراضها منفردة وبقوتها الذاتية ، فان إستراتيجيتها قائمة على أساس التحالف المستمر مع مركز القوة العالمية الذي كان ألمانيا الإمبراطورية فتحالفت معها ، ثم انجلترا فتحالفت معها ، ثم الولايات المتحدة الأمريكية فتحالفت معها . والتحالف يتضمن تبادل الخدمات والمساعدات . ومنذ سنة 1952 كانت مصر عدوا صلبا للاستعمار الأمريكي ، لأنها لم تقبل عودة النفوذ الأمريكي الى الشرق العربي بديلا عن النفوذ البريطاني الذي ساعدت أمريكا على هزيمته في سنة 1956 لتحل محله . وقد حاولت الولايات المتحدة أن تحل محل بريطانيا بكل الطرق ، من أول المساعدات الاقتصادية الى آخر الحصار الاقتصادي . وعندما تحققت الوحدة بين مصر وسورية 1958 تأكدت الولايات المتحدة الأمريكية بأن طريقها الى المشرق العربي لا يمكن أن يقوم الا على أنقاض الاتجاه القومي الذي يدفع الدول العربية الى غاية تبدو حتمية هي قيام الوحدة الشاملة . حينئذ بدأ التخطيط الأمريكي لضرب هذا الاتجاه وتصفيته ، واتخذ التخطيط هدفا له عزل الجمهورية العربية المتحدة عن العالم العربي وعن قضاياه . فكان الانفصال خطوة أولى ، ثم التهديدات المستمرة للإقليم الشمالي ، ثم تحرك القوات من الإقليم الجنوبي تعبيرا عن موقف التأييد لسلامة الإقليم الشمالي ، واذا بها تواجه خططا هجومية جاهزة منذ زمن بعيد لتصفية قواتها العسكرية بمجرد استدراجها الى الحدود . ثم وقعت المعركة التي استهدفت الصهيونية من رائها أرضا جديدة كجزء من خطتها التوسعية ، واستهدفت الولايات المتحدة الأمريكية من ورائها تصفية انفتاح مصر على العالم العربي . وان كنت تشك في هذا فلعلك سمعت أن الولايات المتحدة الأمريكية قد عرضت ن ولم تسحب عرضها ، بأن تعيد سيناء الى الجمهورية العربية المتحدة في نظير أمر واحد هو أن تنفض الجمهورية العربية المتحدة من القضايا العربية .

إذن فالغزو الصهيوني يستهدف أصلا الوطن العربي ، بدون توقف على وجود أو عدم وجود الدول العربية ، أو على حدودها ، ونظم الحكم فيها ، أو ما اذا كانت تقدمية أو رجعية . أما شق الطريق الى هذا الهدف فيصطدم بالدول القائمة على الأرض التي يستهدفها الغزو سواء كانت رجعية أو تقدمية . أما المعارك فتدور ضد القوى التي تعترض الطريق أو قد تقطعه في المستقبل . أما استهداف الجمهورية العربية المتحدة بالذات فلأن عزل مصر عن الوطن العربي يمثل هزيمة ساحقة للحركة القومية . وعندما تهزم الحركة القومية يصبح الوطن العربي بما فيه مصر ، لقمة سائغة للامبرياليين الأمريكيين .        

سؤال (13) :

الا تكشف الإجابة عن السؤال السابق حقيقة الخطأ الذي تكرر في المحاضرة وهو الحديث عن الدول العربية كما لو كانت متساوية في الموقف القومي ، أو الموقف التقدمي ، أو الموقف من فلسطين ، بحجة أنها مادامت كلها إقليمية فكلها فاشلة ، هل يصح بالنسبة للجمهورية العربية المتحدة مثلا ما يصح بالنسبة لتونس ؟    

جواب (13) :  

أرجو أن يكون واضحا أننا عندما نتحدث عن الدول ، أو الدولة ، نتحدث عن مؤسسة سياسية ذات مضامين فكرية واقتصادية وسياسية خاصة . وهي ذاتها شخص اعتباري (معنوي) خاص متميز عن الأشخاص الذين يعملون في أجهزته . هذه الدول ، المؤسسة ، شخص من أشخاص الفانون الدولي ملتزمة به في حركتها الخارجية في مواجهة الدول الأخرى . وهذه الدولة ، المؤسسة ، شخص من اشخاص القانون الداخلي ملتزمة به في حركتها الداخلية في مواجهة الشعب الذي تضمه . وهذه الدولة ، المؤسسة ، محدودة المقدرة بامكانياتها الخاصة . انها ساحة النشاط الاجتماعي وهي في الوقت نفسه حدود هذا النشاط .

ونحن عندما نقيّم الدول على حقيقتها كدول ، ولكن من وجهة نظر قومية ، أي على ضوء المقارنة بين ما نستطيع ان نقدمه الى الشعب العربي فيها من امكانيات التقدم ، وبين ما يمكن أن يحصل عليه هذا الشعب نفسه من امكانيات في ظل دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ، نقول أنها فاشلة لأنها اقليمية . وهذا يصح بالنسبة الى جميع الدول العربية .

أما مقارنة الدول العربية فيما بينها فشيء آخر . انها تختلف مساحة وعددا وثروات وامكانيات ونظاما وحكاما وقادة . وفي هذا لا تستوي دولة مع دولة أخرى . ولا يعنينا الآن أن نصوغ جدلا مقارنا لحركة التقدم في الدول العربية . انما الذي يعنينا تماما أن نفسر ذلك الاختلاف بين الدول العربية في مواقفها من القضايا القومية . قد يبدو عسيرا على الفهم ان نقول مثلا عن الجمهورية العربية المتحدة أنها دولة اقليمية ، في ذات الوقت الذي نقول فيه أن اتجاهها القومي حقيقة تزعج الاستعمار الى درجة التحالف مع الصهيوينة لتصفية هذا الاتجاه بالقوة المسلحة . ان انفتاح مصر على أمتها العربية كان في ذاته نصرا قوميا فكيف تحقق في ظل الاقليمية ؟ ودعم ثورات التحرر في الجزائر وفي اليمن وفي كل مكان من الوطن العربي ، حركة قومية ، ولا نقول مجرد موقف ، فكيف تمت في ظل الاقليمية ؟ واذا كانت الانتصارات القومية قابلة للتحقق في ظل الدولة الاقليمية ، ومن خلالها ، فلماذا نتهم الاقليمية بالفشل ؟

أسئلة مكررة ومبررة .

ومع هذا لننظر معا الى البدهيات . والبدهيات الأولى القوى القومية التقدمية التي تجسد الحركة القومية تعيش وتمارس نشاطها الفكري والسياسي في ظل تجزئة وطنها العربي الى دول اقليمية متعددة . وبحكم القيود الاقليمية على التحامها وشمول نشاطها الوطن العربي كله ، يتجه هذا النشاط الى تحقيق أكبر قدر من التقدم تسمح به الامكانيات الاقليمة مع محاولة كسر القيود الاقليمية الممثلة في الدولة ودشتورها وحدودها وقانونها وحكامها وسجونها للالتحام بالقوى القومية التقدمية الأخرى التي تعمل نفس الشيء في دول عربية أخرى .

ثم يأتي الموقف من سلطة الحكم في قبضة قوى اقليمية ، تبدو الاقليمية منسجمة مع ذاتها ودولتها ن وهنا ينكشف دورها الفاشل الرجعي العميل ونكون أمام نموذج " تونس تحت حكم بورقيبة " . هناك الدولة الاقليمية التي يحكمها الاقليميون حيث تسحق القوى القومية التقدمية بقسوة وحشية ، وحيث تتآمر الدولة علنا مع الاستعمار ومع الصهيونية أيضا ، وتبرر تآمرها بفكر تنسجم اقليميته مع رجعيته . ولكن الأمر ليس على هذا الوجه في كل الدول العربية ، اذ القوى القومية التقدمية ليست قوى سلبية أو ضعيفة . بل حدث ويحدث أن يتولى قادة ـ لا شك في اتجاههم القومي التقدمي ـ  مسؤولية الحكم في الدولة الاقليمية ، وهنا يقوم الصراع الذي لم يرد في كتب الفقه الدستوري ، أو فقه كتاب الصراع الاجتماعي . قيادة لا تؤمن بالدولة الاقليمية ، تصبح هي ذاتها صاحبة الدولة الاقليمية ، قيادة لا تؤمن بشرعية التجزئة ، ومع هذا تحتكم الى الشرعية الاقليمية في تعاملها الدولي . قيادة تؤمن بوحدة الأمة العربية ومع هذا تجد نفسها مضطرة الى معاملة أبناء الأمة معاملة الوافدين الأغراب . قيادة تؤمن بوحدة الامكانيات العربية ، ومع ذلك تجد نفسها مضطرة الى الدخول في سباق المنافسة بين دول التجزئة . قيادة تؤمن بأن التقدم لا يقوم على اساس التجزئة ، ومع ذلك تحاول حل المعادلة الصعبة في الاقليم بينما المعادلة لا تحل الا في ظل الوحدة . والصراع دائم بين الاتجاه القومي وقيود الاقليمية التي تشده الى الوراء : قيود الدستور والقانون والالتزامات الدولية . ووراء هذا صراع اجتماعي لا يتوقف بين القوى القومية التقدمية التي تقف وراء الاتجاه القومي الذي تمثله القيادة وبين القوى الاقليمية ذات المصالح التي تجسدها الدولة . وقد سحق هذا الصراع المرير بعض الحكام الذين وقعوا في شرك الحكم الاقليمي ، فاذا بهم من خلال تراكم وتبرير تصرفاتهم اليومية ، من أول تفتيش الحدود الى وعود العدالة الاجتماعية ، يجدون انفسهم وقد اصبحوا اقليميين تحت شعار التقدمية . ومنهم من أراد أن يغطي هزيمته التي يشعر بها شعورا قويا فاتجه الى مزايدات قومية ، أو تقدمية ، هو أول من يعلم أنها غير قابلة للتحقق . ومنهم من صمد للصراع الذي لم يحسم بعد . هنا تستطيع القيادة القومية أن تدفع بالدولة الى معارك التحرر بجرأة وحسم برغم الاقليمية ، لأن المجاهرة بالرغبة في الانسحاب من معارك التحرر يكشف ارتباط الاقليمية بالاستعمار ، فهي توافق علنا وتنقد سرا وتبحث عن مخرج غير متهم من متاعب التحرر العربي . ولكن عندما تطرح قضية الوحدة لا تقبل الاقليمية أن تلغى دولتها فهي تقبل التعاون والتحالف والوقوف في صف واحد ... الخ ولكنها لا تقبل الوحدة . ولما قامت الوحدة نتيجة لعلاقة قامت بين القواعد والقيادة متخطية الدولة ، كانت الاقليمية بالمرصاد فلم تترك فرصة واحدة لاضعاف الوحدة واعدادها للانفصال .

ان هذا يعني ان ما يتحقق في اتجاه قومي عن طريق الدول العربية انما يعبر عن مرحلة انتصار للقيادة القومية التقدمية في صراعها ضد دولتها الاقليمية ، ولكن انحسار هذا الاتجاه من حين الى آخر يدل على أن الصراع لم يحسم ، وهو لا يحسم ما دامت الدولة الاقليمية قائمة ، لأن قابلية الدولة الاقليمية للاستجابة لمتطلبات النضال القومي محدود ، ومن هنا فهي أداة فاشلة في النهاية . فكيف يمكن الخروج من هذا المأزق أي كيف يمكن أن تحكم القوى القومية التقدمية دولة عربية بدون أن تتحول هي الى قيادة اقليمية ؟ بالتنظيم القومي الثوري ، الذي يرشح لها حكامها وتبقى قيادته بعيدة عن سجن الاقليمية ، قادرة على أن تواصل نضالها القومي الى أن تكسب ارضا جديدة فتقيم دولة الوحدة النواة .

ألم نقل أن التنظيم القومي الثوري هو الأداة الوحيدة الصالحة لحل مشكلات القوى القومية ؟    

سؤال (14) : 

أ ـ كيف يمكن القول إطلاقا بأن الدول العربية كانت وما تزال وستظل ، منفردة أو متحالفة ، غير قادرة على تحرير فلسطين لأن تحرير فلسطين يقع خارج إطار أهدافها في حين أنه يمكن لقوة قومية تقدمية في مكان السلطة أن تستهدف تحرير فلسطين وأن تسخر قوى الدولة ذاتها لهذا التحرير .

ب ـ ثم أليست إسرائيل دولة قائمة على أصغر الأقاليم العربية فلماذا انتصرت ؟

جواب (14) :

أما عن مقدرة الدول العربية على تحرير فلسطين فقد قلنا أنها عاجزة ما دامت " إقليمية " لان الإقليمية هي مصدر الفشل ، وما دامت الدولة إقليمية فان أية قوة قومية تتولى السلطة لن تجد من بين أهداف دولتها مسؤولية تحرير أرض تعتبرها الدولة الإقليمية أرضا أجنبية . فالقوة القومية التي تتولى السلطة في أية دولة عربية لن تستطيع أن تدخل في أهداف دولتها تحرير فلسطين إلا إذا رفضت التجزئة العربية واعتبرت انها دولة قومية . وهذا يعني ان ترفض وجود دولتها الإقليمية ذاتها وتحيلها الى دولة وحدة نواة . والدولة تتحول الى دولة وحدة نواة عندما تصبح قاعدة الثوريين العرب ومنطلقهم الى تحرير الأرض العربية في كل مكان وإسقاط الإقليمية في أي مكان أيضا . فان استطاعت القوة القومية التي تتحدث عنها ان تفعل هذا قد سحقت دولتها الإقليمية قبل ان تستطيع ان تخطو خطوة واحدة خارج حدودها .

ب ـ أما عن إسرائيل فهي ليست دولة على إقليم يمكن مقارنته بأية دولة عربية . ان إسرائيل هي القوة الضاربة التابعة لتنظيم صهيوني عالمي . هو الذي خطط  لها ، وهو الذي يموّلها ويكسب لها الحلفاء والمؤيدين في العالم أجمع ، وتتحرك تحت قيادته لكسب مزيد من الأرض تستوعب اليهود جميعا . والأرض المحتلة ليست إقليما لدولة إسرائيل بل هي رأس الجسر ، أو القاعدة ، التي احتلتها الصهيونية لتحشد عليها قوتها الضاربة من أجل مزيد من التوسع . وهكذا نرى أنه عندما نقول أن على المقاومة أن تتحول الى قوة ضاربة لتنظيم جماهيري ثوري ، فإننا لا نبتكر أسلوبا جديدا لقتال الصهيونية إنما ندعو الى الأسلوب المتكافئ مع أساليب الأعداء . وعندما تتكافأ الأساليب يكون النصر حليف الأوفر إمكانيات ، وأكثر تحملا لمرارة الصراع ، وأعدل غاية .

سؤال (15) :

ما معنى ان المقاومة كأسلوب قتال جماهيري هي مدخل تاريخي لبناء التنظيم القومي . هل يعني هذا أنه لا يوجد أي مدخل غيره ؟..

جوابه (15) :

 نعني بالمدخل التاريخي انه أفضل الإمكانيات المتاحة في مرحلة تاريخية محددة .

ولا شك أن دخول الجماهير العربية ساحة القتال المسلح ضد الغزو الصهيوني يقدم أفضل الإمكانيات المتاحة لبناء تنظيم قومي ثوري في الوقت الحالي . ليس معنى هذا أنه لا يوجد أي مدخل غيره ، أو ان مصير الأمة العربية متوقف على ما يراه نفر من أبنائها ولو كانوا من أبطال المقاومة . ولكن معناه أن أبطال المقاومة من جهة ، والقوى القومية التقدمية من جهة أخرى أمام فرصة تاريخية يتحملون جميعا مسؤولية إدارتها ، وعندئذ ستبحث الجماهير العربية عن مدخل آخر ، الأصعب ، فذاك حوار لا يدور الا بين الذين يعنون ما يقولون ، أي الذين لا يبحثون عن المدخل من قبيل الفضول ، ولكن لأنهم لا يقبلون الحياة نفسها الا في داخل التنظيم القومي ، أولئك يعرفون ما يجب عليهم أن يفعلوه ليجسدوا ولاءهم لجماهير أمتهم بالرغم من كل العقبات والصعوبات .

دعوة الى القوى العربية التقدمية :

سؤال (16) :

ما هو مفهوم التقدمية ؟

جواب (16) :

أين ومتى .

ان التقدمية موقف ايجابي قائم على أسس خمسة :

الأول : الوعي بأن كل شيء في الوجود متحرك متغير أبدا .

الثاني : الوعي بأن كل شيء متغير متحرك يتقدم من الماضي الى المستقبل وينمو من خلال الإضافة نموا جدليا .

الثالث : الوعي بأن مضمون التقدمية يختلف من زمان الى زمان في المجتمع الواحد .

الرابع : الوعي بأن مضمون التقدمية يختلف من مجتمع الى مجتمع في الزمان الواحد .

الخامس : ان التقدمية على هذا الأساس هي التبني الايجابي للحلول الصحيحة للمشكلات التي يطرحها مجتمع معين في مرحلة تاريخية معينة .

فان أردت أن تطبق هذا على المرحلة التي تمر بها الأمة العربية ، فان المشكلات الرئيسية التي تطرحها الظروف العربية هي الاحتلال والتجزئة والتخلف والاستغلال . وان حلولها الصحيحة هي الحرية والوحدة والاشتراكية . وعلى هذا يكون مفهوم التقدمية بالنسبة إلينا هو التبني الايجابي للحرية والوحدة والاشتراكية ، معا .

سؤال (17) :

اذا كنا لا نعرف كثيرا عن حقيقة المنظمات في الساحة فكيف عرفنا انها بكل منظماتها لم تتبلور بعد ـ نهائيا ـ لا فكرا ولا تنظيما فهي قابلة للتطوير والتطور . اننا نعرف أن أقدم المنظمات في الساحة ذات اتجاهات مبلورة منذ نشأتها ولم تتغير ، كما أن بعض المنظمات قد انشقت على اساس عقائدي مما يدل على أنها متبلورة .

جواب (17) :

اننا نعرف ما تقول ومع هذا فانا لا نعرف كثيرا عن حقيقة المنظمات في الساحة . ربما لأن ضراوة المعركة التي تخوضها المقاومة ضد الصهيوينة والامبريالية وعملائها تحول دون اباحة كثير من اسرار المنظمات . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فانا لا نستطيع أن نعول على كل ما يقال عن المقاومة لأننا لا نستبعد تدخل القوى المعادية ، بطريق أو بآخر ، فيما يعلن . ومن بين ما نعرفه أن بعض الشباب العربي قد حددوا مواقفهم النهائية من منظمة أو أكثر على اساس انها قد تبلورت نهائيا على ما يعرفونه عنها معرفة ممارسة . ونعرف أن قياددات بعض المنظمات تتصرف كما لو كانت قد وصلت الى صيغتها النهائية . ثم نعرف معرفة اليقين أن هذا غير صحيح وأن المقاومة بكل منظماتها لم تتبلور بعد ـ نهائيا ـ لا فكرا ولا تنظيما . ذلك لأننا نعرف بأن العبرة في المواقف النهائية لا بما يظنه الناس بأنفسهم أو بغيرهم ، ولكن بملاءمة تلك المواقف للظروف الموضوعية . أي أن طبيعة المعركة ضد الغزو الصهيوني هي التي ستكون العامل الرئيسي في بلورة المقاومة فكرا وتنظيما . ولما كنا نعرف أن المعركة ضد الغزو الصهيوني معركة قومية تقدمية فانا على يقين من كل المنظمات ـ بدون استثناء ـ ستكون مضطرة الى تطوير نفسها في اتجاه طبيعة المعركة . ان هذا يمكن أن يتم عن طريق المعرفة العلمية ومن الآن ، ولكن تجاهله لا يعني أنه لن يتم ، فخلال المعركة الطويلة وتراكم الخبرات والمعاناة اليومية للتناقضات ، والخيار الملزم بين النصر أو الهزيمة ، سيخرج من الساحة كل الذين لا يلائمون طبيعتها ولا تبقى في الساحة الا المقاومة القومية التقدمية .  

سؤال (18) :

لماذا لا ترى أن الاتجاه المرتبط ببعض الدول العربية سيخرج من المعركة بمجرد انقضاء مرحلة ازالة آثار العدوان أي بخروج الدول العربية المرتبطة بها من المعركة بعد استرداد ما ضاع من اقاليمها في يونيو 1967 ، ولا تقدر احتمال بقاء هذه المنظمات في الساحة ، وما الذي يمنع من استمرار دعم الدول العربية للمقاومة حتى بعد ازالة آثار العدوان ؟

جواب (18) :

لأنه عندما تخرج الدول العربية من المعركة تكون ملزمة في مواجهة المجتمع الدولي بأن تكف القوى التابعة لها عن الاستمرار في القتال . فإذا لم تفعل فهي في حرب تتجاوز حدودها أيا كانت صورة القوى التابعة لها ، نظامية أو منظمة . ولما كانت الدول العربية تخوض المعركة الآن ـ كما تعلن ـ في سبيل إزالة آثار العدوان وفي حدوده ، فإنها كدولة ستكف القوى التابعة لها عن القتال فور إزالة آثار العدوان . وتجد المنظمات التابعة لها حينئذ أن عليها أن تطيع التعليمات الصادرة من القيادة الحقيقية . ومع هذا لنفترض أن المنظمات التابعة لم تطع وتمردت على قياداتها . انها حينئذ ستجد نفسها بدون قواعد ولا أموال ولا مزيد من الأسلحة وستحاول أن تحصل على ما تريد من الجماهير وليس من الدولة ، فتكتشف أنها لم تكن يوما مرتبطة بجماهير منظمة قادرة على تعويضها ايجابيا عن رابطتها بالدولة التي خذلتها ، أي ستفتقد التنظيم القوي القادر على أن يمدها بعناصر المقدرة على الاستمرار ، من كل الأقطار بدون توقف على موقف الدولة في أي قطر على حدة . ومع هذا لنذهب الى أكثر من هذا ونفترض أن بعض الدول العربية ستخرج من المعركة " علنا " ولكن ستظل تدعم المقاومة سرا . ان هذا لن يغير من الوضع الدولي شيئا فلا أسرار بعيدة عن معرفة أجهزة الدول المعنية بمراقبة جدية خروج الدول العربية من المعركة بعد إزالة آثار العدوان ، ثم ان الدعم السري قابل للانقطاع عندما ينكشف . فلا تبقى إذن وسيلة لتأمين استمرار دعم المقاومة بدون تدخل من الدولة أو بدون أن تكون مسؤولة دوليا عن هذا الدعم الا أن تتولاه جماهير منظمة غير مرتبطة بأية دولة . ذلك هو التنظيم القومي الثوري الذي لا تسأل الدول العربية عن نشاطه لأنه ينشط بعيدا عن أية تبعية لها ، بل ينشط بالرغم منها اذا اقتضى دعم المقاومة ذلك .

سؤال (19) :

هل هناك تناقض بين مسؤولية شعب فلسطين عن تحرير فلسطين ، وبين مسؤولية القوى القومية التقدمية عن تحرير فلسطين .

جواب (19) :

لا تناقض أبدا الى أن تتحرر فلسطين . ولا خلاف أيضا اذا كان المقصود هو أن شعب فلسطين مسؤول عن تحرير فلسطين كجزء من مسؤولية القوى القومية التقدمية عن تحرير فلسطين . ولكن الخلاف يقوم اذا كان المقصود ان شعب فلسطين زحده ـ دون القوى القومية التقدمية ـ مشؤول عن تحرير فلسطين لأنه وحده صاحب الحق في فلسطين ، فهي وطنه . ان في هذا عزلا للجماهير العربية عن معركة تحرير فلسطين ، أو تمهيدا لعزلها . وهو ما لا تقبله الجماهير العربية . أما كيف يمكن التفرقة بين الشعار بمفهومه الأول والشعار بمفهومه الثاني ، فمن خلال ما تمثله المنظمات ذاتها . فالمنظمة القومية ستكون مفتوحة للجماهير العربية ، بما فيهم العرب من فلسطين بل قد تكون غالبية قواها من عرب فلسطين . لا سيء يمنع من هذا . وهكذا يتحقق الشعار بمفهومه الثاني وبدون خلاف . أما اذا كان الشعار مجسدا في منظمات مقصورة على العرب من فلسطين قيادة وكوادر وقواعد ، فكرا واستراتيجيا وحركة ، فان سمتها الاقليميمة تحول دون امكانية اي تأويل قومي للشعار . وقد قلنا منذ البداية الا تناقض الى أن تتحرر فلسطين ، ونضيف هنا أن هذا التناقض لا يقوم حتى مع وجود الخلاف . لأن التناقض مولد للصراع ، والخلاف تمييز لا يقتضي الصراع . ومن وجهة نظر قومية نرى أن التحالف ، وليس الصراع بين الاقليمية الفلسطينية وبين القوى القومية واجب قومي الى أن يتحقق النصر على العدو المشترك وتتحرر فلسطين لنرى بعد هذا لمن تكون الأرض التي تحررت .  

سؤال (20) :

ان الجماهير العربية كلها ـ وكما هو ثابت ـ تؤيد وتدعم المقاومة بدون وجود للتنظيم القومي فلماذا التركيز على ضرورة هذا التنظيم القومي كشرط لانتصار المقاومة .

جواب (20) :

لأن المفروض ، بعد الهزائم التي لحقت بنا ، أن نحاول النظر الى أبعد من أنوفنا . ان الجماهير العربية كلها ـ وكما هو ثابت ـ تؤيد وتدعم المقاومة لأن المقاومة مباحة ولأن تأييد الجماهير العربية لها مباح . مباح مؤقتا لأن الدول العربية في حاجة الى المقاومة . وسيظل مباحا طالما هي في حاجة إليها . ونحن ننظر الى ما أبعد من هذا . عندما تصبح المقاومة غير مشروعة ، ويعود حمل السلاح جريمة معاقبا عليها ، ويعود النضال الجماهيري نشاطا " هداما " ، عندئذ سيتوقف مصير المقاومة على ما اذا كانت قد ارتبطت تنظيميا بالجماهير العربية أم لا ، لتستطيع قيادتها في الوقت المناسب ، ان تحركها ضد محاولات تصفية المقاومة ذاتها أو تحريم التأييد والدعم الجماهيري لها . ان ما هو ثابت اليوم لن يظل ثابتا غدا الا أن نقيم من اليوم دعامة تثبيته في كل الظروف الى أن تنتصر المقاومة . وليس سوى التنظيم القومي الثوري دعامة موثوقة تستند إليها قوته الضاربة في ساحة المقاومة .

سؤال (21) :

اذا كانت الدول العربية قد حالت وتحول دون قيام تنظيم قومي ثوري أفلا تؤدي محاولة اقامته الى فتح معارك جانبية داخل تلك الدول وضدها يناقض ما تدعو له من ضرورة التحالف ضد العدو المشترك حتى مع الدول العربية التي تواجه اسرائيل وتعد للقتال .

جواب (21) :

ان الأساس العقائدي للجواب هو أن الولاء أولا وأخيرا للجماهير العربية . وعندما نقتنع بأن التنظيم القومي ضرورة لازمة لانتصار أمتنا ، فيجب إقامة التنظيم القومي سواء رضيت الدول العربية أم لم ترض . ان الثوريين حقا لا يستأذنون أحدا عندما يريدون الوفاء بمسؤولياتهم الثورية . والقوميون لا يستأذنون الإقليمية . ومع هذا فان الوعي القومي على ضرورة تجنب أية معارك مع حلفاء المعركة يحتم على القوى القومية ألا تتحرك إلا في الحدود التي تسمح بها ظروف التحالف من أجل المعركة . ان هذا يؤثر في صيغة الحركة وليس في ضرورة التحرك . وظروف التحالف من أجل المعركة لا تسمح الآن بإقامة تنظيم قومي يتعرض لانقضاض الإقليمية ويضطر للدفاع عن نفسه في معارك جانبية . ولكنها ملائمة تماما للإعداد الفكري والبشري من خلال المعركة ذاتها . لهذا كانت دعوتنا الى تكوين كتائب " الأنصار" . وكتائب " الأنصار" كما نفهمها وندعو لها ليست التنظيم القومي ولكنها حركة قومية تعبئ الجماهير العربية من أجل الانتصار في المعركة وتدعم التحالف العربي ، وتحول دون الاستسلام أو المساومة ، وتسحق القوى العميلة الانهزامية ، وتحرض على القتال ، ثم تقاتل فعلا في ساحة المقاومة في صفوف قوتها الضاربة بقدر ما تستطيع وبقدر ما تحتاج قوتها الضاربة الى دعم بشري . وأمام " الأنصار" ساحة بعيدة فعليا عن يد الإقليميين . وأمامهم حاجة الدول العربية ذاتها الى دعم الجماهير المنظمة . كل هذه ظروف تمثل أفضل الإمكانيات لإعداد الكوادر الثورية ، التي صقلتها المعركة ذاتها ، ولكنها ظروف موقوتة بمرحلة إزالة آثار العدوان . وهذا يعني أن على " الأنصار" أن يلتحموا في تنظيم قومي قبل أن تنقضي هذه المرحلة ليستطيعوا أن يؤمنوا للمقاومة إمكانيات الاستمرار في القتال .

بقي أن نقول أن أية دولة عربية تحول دون إسهام الجماهير العربية إسهاما منظما في المعركة ضد الغزو الصهيوني ، تكون هي بذاتها قد خرجت على قاعدة التحالف من أجل المعركة . وتكون الجماهير العربية مطالبة بأن تتعامل معها بالأسلوب الذي يناسب موقفها .  

سؤال (22) :

لماذا تصر هنا وفي كتاب " ما العمل " على تسمية ما تدعو له باسم " كتائب الأنصار " ؟

جواب (22) :

ليس ثمة اصرار لا هنا ولا هناك . انما كان لابد من اسم ما ، يكون ذا دلالة بقدر الامكان . وقد احترنا " كتائب الأنصار" أول مرة في رسالة الى الشباب العربي في أواخر يونيو 1967 أي فور الهزيمة ، وكان الاسم اشتقاقا من دعوة الى الشباب العربي بأن ينصروا أمتهم في محنتها . ثم وجدناه ملائما لما عرف عن قتال الوحدات الجماهيرية بينما الحرب النظامية قائمة ، فقد خاضت الجماهير السوفياتية " حرب الأنصار" بينما كان الجيش يتقهقر أمام الهجوم النازي ، وعادت فصاحبت مسيرته الى النصر . ثم وجدناه أكثر ملاءمة للتعبير عن نصرة المقاومة . وهي ايضا كتائب انصار المعركة . أو كما تشاء لأني لا اصر الا على الدعوة لتنظيم الجماهير واشتراكها في المعركة . هذا هو الجوهري فيما أدعو له ، أما الاسم فشكل لا يستحق الاصرار عليه .

سؤال (23) :

أليست أفضل صيغة واعية ، وعلمية أيضا ، لمواجهة الغزو الصهيوين هو وحدة كل منظمات المقاومة في جبهة مقاتلة ووحدة كل القوى التقدمية في جبهة عربية تدعم المقاومة وتساندها ؟ اني أعتقد أن هذا هو البديل للتنظيم القومي .

جواب(23) :

نعم ان أفضل صيغة واعية وعلمية أيضا ، لمواجهة الغزو الصهيوني هو وحدة كل منظمات المقاومة في جبهة مقاتلة ووحدة كل القوى التقدمية في جبهة عربية تدعم المقاومة وتساندها . ولكن ليس هذا هو البديل عن التنظيم القومي . كما أن التنظيم القومي ليس بديلا عن الجبهة . اذ عندما يقوم التنظيم القومي لن يناضل في عزلة عن القوى التي تواجه عدوه المشترك ، بل سيناضل في جبهة مع كل حلفاء أغراضه المرحلية . وما دمت تحتكم الى العلم فاني أضع تحت نظرك القوانين العلمية للتحالف الجبهوي . ان النضال في جبهة هو الصيغة العلمية لتعاون قوى " مختلفة أصلا " ضد عدو مشترك . ان هذا التحالف مهما طالت مدته مرحلي ومتوقف على انتهاء المعركة ضد ذلك العدو المشترك . وفي مرحلة التحالف تؤجل القوى المتحالفة صراعاتها الاصلية . تؤجلها ولكن لا تنهيها لأنها صراعات مرتبطة بالتناقضات التي جعلت منها قوى متعددة بدلا من أن تكون قوة واحدة . ويقاتل المتحالفون عدوهم المشترك بدون أن يغفل أحد منهم عن الصراع الذي سيدور فيما بينهم بعد النصر في معركتهم المشتركة . فيحاول كل منهم أن يحضر للمرحلة التالية ، اما بكسب قوى ومواقع جديدة تحت غطاء المعركة المشتركة ، أو بتصفية الحلفاء عن طريق امتصاص قواعدهم وتصفية مواقعهم . وهكذا لا يتوقف الصراع الخفي بين حلفاء الجبهة ، وان كان لا يصل في العنف أو الحدة الى درجة اضعاف قوتهم المشتركة ضد العدو المشترك ، أو المفروض أن يكون كذلك احتراما لقوانين التحالف الجبهوي .

هذه هي الجبهة ، وهي واقعية ، وعلمية ، وضرورية في هذه الحدود ، أي بدون أن يقال أنها طريق الى الوحدة أو أنها بديل عن الوحدة ، وحدة التنظيم القومي . ونحن عندما ندعو الى قيام تنظيم قومي ثوري ذي قوة ضاربة في ساحة المقاومة ، لا ندعو الى الغاء وجود القوى الأخرى ، بل ندعو القوى القومية التقدمية الى أن تتجسد في وجود منظم تفتقده الساحة ، بدلا من بقائها مبعثرة بين منظمات محدودة وبين قواعد المنظمات الاخرى . اننا ندعو الى دخول المعركة ولا ندعو الى اخراج أحد منها , وعندما نوجد معا أما عدو مشترك فان الجبهة ستكون صيغة نضالنا المشترك . الى أن تتحرر فلسطين ، فتخرج كل القوى من ساحة النضال العربي ويبقى التنظيم القومي قائدا لنضال الجماهير ضد الامبريالية والاقليمية والرجعية الى أن يقيم دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية . وهكذا ترى أن التنظيم القومي لا ينفي الجبهة ، ولكنه لن يتوقف عن النضال القومي عند الحدود التي يتوقف عندها حلفاء المرحلة ، بل تتجاوز استراتيجيته تحرير فلسطين الى الغاء التجزئة واقامة دولة الوحدة . ومن هنا فانه هو وحده ، وليس الجبهة الضمان الوحيد لاستمرار الثورة العربية حتى غاياتها العظيمة .

  


ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق