بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الناصرية كيف ؟


PDF

د.عصمت سيف الدولة .

الناصرية كيف ؟

1 ـ في الوطن العربي حركة شعبية نامية ترفع لواء " الناصرية " ، تضم تلك الحركة أصلب العناصر التي أسهمت في المعارك السياسية تحت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر ثم بقيت بعد وفاته ثابتة في مواقفها وفية لمبادئها . وتضم أعرض الجماهير العربية المقهورة سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا ، والتي كانت تفتقد ـ قبل عبد الناصر ـ القائد القومي الذي يعبر عن آمالها ، ويوجه ويقود حركتها ، ويفتح أمامها أبواب الخلاص من القهر .. وما تزال تربط بين أمل الخلاص وبين اسم قائدها الذي رحل . كما تضم جيلا جديدا من الشباب العربي الذي نشأ وشب في ظل ثورة عبد الناصر ، وتعلم منه أول دروس الحرية والاشتراكية والوحدة ، ثم لم تسمح له سنه ، وظروف تاريخية أخرى ، بالنضال تحت قيادته . كل هؤلاء يتحركون على الساحة العربية في مواقع متفرقة ، بأساليب متباينة ، من أجل أهداف متنوعة ، تحت شعار " الناصرية " ، ويخوضون معركة دفاع مجيدة ضد القوى العميلة والرجعية والانتهازية المرتدة ، التي ظنت ان غياب عبد الناصر قد أفرغ الساحة العربية من جماهيرها المناضلة ، فحاولت ، وتحاول تصفية المنجزات التي تمت في ظل قيادته . 
ولست أشك لحظة في أن هذه المعركة الضارية التي بدأت .. ستستمر وتتسع وتتعمق وتصبح أكثر ضراوة . كما لا أشك لحظة في أن النصر فيها ـ كما هو الحال في كل معارك الصراع الاجتماعي ـ لن يكون معقودا لأكثر الأطراف عددا بل لأصحهم عقيدة وأكثرهم تنظيما .. من هنا فاني أعتقد أن مستقبل تلك الحركة الشعبية النامية تحت نواة " الناصرية " ، متوقف ـ الى حد كبير ـ على مقدرتها على ضبط حركتها في المواقع المرحلية والتكتيكية بإستراتيجية موحدة تقوم على " نظرية " واحدة ، ولست أعني بالنظرية أية مقولة فلسفية أو فكرية مجرّدة ، بل أعني بها الصيغة الفكرية الواضحة المحدّدة لمجتمع المستقبل الذي تناضل من أجله الحركة . 
أقول الواضحة حتى يكون الالتقاء عليها والالتزام بها قادرا على فرز الملتقين عليها من القوى التي تختفي تحت شعاراتها وتخفي غاياتها .
وأقول المحدّدة حتى تصلح أن تكون حكما بين الملتقين عليها الملتزمين بها عندما يختلفون في مواقع الممارسة فلا يفترقون ولا يتمزقون .
باختصار أعني بالنظرية تلك الأفكار التي  تكون في خدمة حركة جماهيرية منظمة في مجتمع معين في مرحلة تاريخية معينة .
فهل تملك الحركة الشعبية النامية تحت لواء " الناصرية " نظرية بهذا المعنى ؟.
هذا هو السؤال الذي أريد أن أجتهد فأفتح به بابا للحوار الأوسع فيما بين الناصريين أنفسهم ، فهم وحدهم ، لا أحد غيرهم ، الذين يتحملون مسؤولية اكتشاف الإجابة الصحيحة عليه .

2 ـ قد يقال ببساطة متسرعة أن السؤال لا مجال له ، فان للناصريين " نظريتهم " التي تضمنتها مواثيق الثورة وخطب وتعاليم ومواقف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، وتجربته الطويلة العريضة ، العميقة ، الغنية ، وهذا حق غير كامل . فلا شك في أن البحث عن " نظرية " الناصرية يجب أن يدور في نطاق مواثيق الثورة وخطب وتعاليم ومواقف الرئيس جمال عبد الناصر ، وتجربته الطويلة العريضة العميقة الغنية . بل يمكن أن يضاف الى هذا كله كل الاجتهادات الفكرية والتطبيقية التي مارستها ـ على امتداد سنوات ـ قوى كانت تجتهد وتطبق من موقع التزامها بالاتجاه الفكري والسياسي لجمال عبد الناصر حتى لو لم تنشط تحت قيادته ، ذلك لأن جمال عبد الناصر كان قائد مرحلة تاريخية كاملة لا في مصر وحدها ، بل في الوطن العربي كله . ومن ذلك الموقع ، أثر تأثيرا قويا ، مباشرا وغير مباشر ، في كل الأفكار والأحداث التي أفرزتها تلك المرحلة . من هنا فان التاريخ العربي كله ، ابتداء من 1952 حتى وفاة الرئيس سنة 1970 هو الوعاء التاريخي الذي يضم عناصر " نظرية " الناصرية

3 ـ غير ان كل هذا لا يعني أن في الوعاء التاريخي الغني نظرية ناصرية جاهزة يمكن التقاطها فإذا هي صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام إليها . بل إننا نعتقد ، لسببين سنذكرهما ، أن مثل هذه النظرية لم تكن ممكنة الوجود في حياة القائد جمال عبد الناصر ، وبالتالي فان فرصة وجودها لم تصبح متاحة الا بعد غيابه في عام 1970
السبب الأول هو شخص جمال عبد الناصر
ان عبد الناصر لم يكن شخصا عاديا تولى الحكم في مصر فترة طويلة ، بل كان قائدا فذا للجماهير العربية خلال مرحلة تاريخية متميزة نوعيا عما سبقها من تاريخ . ان فترة قيادة جمال عبد الناصر للجماهير العربية لم تكن تصورا تلقائيا أو إصلاحيا للمعطيات التاريخية قبله ، بل كانت طفرة ثورية لم تترك شيئا مما سبقها الا غيرته وطورته ، فخلقته من جديد . ان الجيل الجديد من الشباب العربي قد لا يستطيع إدراك الخلاف النوعي الجذري بين المجتمع قبل وبعد عبد الناصر ، ولكننا نحن الذين أدركنا ، واعين العصرين ، نكاد نشعر بأننا عشنا حياتين في مجتمعين غريبين بالرغم من أننا عشنا في ذات المجتمع . لقد تغيرت نوعيا أحلام الجماهير العربية وأفكارها ، وآمالها ، وأخلاقها ، وحياتها اليومية ، ومجتمعاتها السياسية ، وعلاقتها الدولية ، كما لو كانت قد ولدت من جديد . انه هذا واقع لا يماري فيه أحد سواء كره ميلاده الجديد أو أحبه ، وحتى لو كانت خصوبة الأمة العربية في المرحلة التاريخية السابقة على جمال عبد الناصر ترشحها لميلاد جديد ، وهذا حق ، فان جمال عبد الناصر كان المولّد المُنشئ المُربي للمجتمع العربي الذي ولد بعد 1952 . ومع أنه من أبعد الأمور عن الحقيقة الزعم بأن عبد الناصر قد بدأ من الصفر ، إلا أنه على ذات البعد من الحقيقة العلمية الزعم بأن عبد الناصر لم يأت بجديد غير مسبوق . الحق أن عبد الناصر كان مبدعا على المستوى الفكري والتطبيقي كليهما . قدم من عنده مقولات فكرية وأنماطا من أساليب التطبيق وأدواته ، وأشكالا من التنظيم الاجتماعي لم تكن مسبوقة في الوطن العربي . أكثر من هذا أنه قدمها الى الجماهير العربية العريضة ودخل معها وبها في حياة أولئك الذين لم يهتم حاكم عربي من قبل بأن يقدم لهم نفسه أو فكره ... حتى يكون حاضرا دائما في حياتهم اليومية ، فارتبط كل ما أبدعه عبد الناصر من فكر وكل ما أنجزه عبد الناصر من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية وكل ما اتخذه من وسائل وابتكره من أدوات ، أقول ارتبط كل هذا في أذهان الجماهير العريضة باسم عبد الناصر ، وأصبح ـ على وجه ـ ناصريا . 
لم يكن جمال عبد الناصر اذن ، مجرد قناة تمر منها الأفكار والخبرات السابقة في طريقها الى التنفيذ ، بل كان عنصرا مضافا الى الأفكار والخبرات التي سبقته ، يتفاعل معها فيؤثر فيها ويتأثر بها ، تنضجه فينضجها ، فلا تتجاوزه الى ساحة التطبيق الا وقد حملت طابعه فلم تعد كما كانت تراثا ، بل أصبحت أفكار وانجازات عبد الناصر على وجه التحديد . مرجع هذا ـ فيما أعتقد ـ وما يميز جمال عبد الناصر هو القوة غير المادية لفعالية العنصر الذاتي في تفاعله مع المعطيات الموضوعية . وهكذا أصبح عبد الناصر الذات التاريخية بكل خصائصها ـ جزءا لا يتجزأ من كل فكرة طرحها ومن كل حدث أنجزه . وبالتالي لم يكن مقبولا علميا تقييم أفكار  جمال عبد الناصر منعزلة عن عنصرها الذاتي . أي منعزلة عن كونها أفكار ومنجزات جمال عبد الناصر دون غيره . ولسنا نريد أن ندلل على هذا بما انتهى اليه الفكر السياسي التقدمي من أهمية التأثير المتبادل بين الذات والموضوع ، بل يكفي دليلا عليه ما نعرفه جميعا من قبول الجماهير العربية لشخص جمال عبد الناصر ضمانا لمواقف فكرية وحركية ما كانت لتقبلها من أحد سواه .
على ضوء هذا يمكننا القول أن عبد الناصر بذاته يقوم من جماهيره ـ الى حد كبير ـ مقام " النظرية " ويؤدي وظيفتها . فهو مصدر الإبداع الفكري ، وهو مناط الالتزام الحركي ، وهو الحكم المقبول عندما يختلف المناضلون تحت قيادته . في ظل هذا الواقع لم يكن من الممكن أن توجد " نظرية " للحركة الجماهيرية فوق القائد أو بدون أن يكون هو جزءا أصيلا منها .  
وقد غاب عبد الناصر فانقضى العنصر الذاتي ، وبقيت مقولاته ومنجزاته ينقصها وجوده . فهي الآن ليست هي ذاتها في حياته ، وتقييمها الآن يختلف عن تقييمها وهو معها ، إنها الآن تقتضي أن تقيّم تقييما موضوعيا خالصا ، وبالتالي تقييما جديدا ، أي أنها الآن تصلح أن تكون مصادر موضوعية لبناء " نظرية " يلتقي عليها الناس ويلتزمون بها ويحتكمون إليها . 

4 ـ السبب الثاني لاعتقادنا أن فرصة وجود " نظرية " ناصرية لم تتح الا بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، هو منهج الحركة في ظل قيادة عبد الناصر . فلأسباب تاريخية سابقة على ثورة 23 يوليو 1952  بدأت الثورة ، وكان لا بد لها من أن تبدأ قبل أن تستكمل سلاحها الفكري ، أي قبل أن تملك نظرية . ولما كان المنهج العلمي جزءا أساسيا من أية نظرية فان الثورة بقيادة عبد الناصر ، قد انطلقت على المنهج الوحيد الذي كان متاحا ، منهج التجربة والخطأ ، ومن خلال التجربة والخطأ نما البناء الفكري للثورة نموا مطردا ، انتقلت به الثورة في سنة 1961 من مجموعة محدودة وعامة من المبادئ الى وثيقة فكرية هي الميثاق . ثم من بعده بيان 30 مارس . ولكن الميثاق نفسه ، بالرغم من أنه يمثل تقدما كبيرا عن الفترة السابقة عليه ، كان موضع تجربة حدّدها الرئيس الراحل بعشر سنوات ، ثم توفي قبل أن تتم . أما بيان 30 مارس فكان مرتبطا ارتباطا وثيقا بحدث مرحلي هو هزيمة 1967
المهم أنه بالرغم من أن أفكار الرئيس جمال عبد الناصر قد تطوّرت وارتقت مقتربة من ذروة النضج عن طريق الإضافات الواعية التي تسفر عنها الدروس المستفادة من التجربة والخطأ في الممارسة ، فان هذا المنهج ظل حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر الضابط الأساسي لحركته النضالية . وقياسا على سياق الحركة قبل وفاته لم يكن من المستبعد ، بل يكاد يكون من المؤكد ، أن الرئيس عبد الناصر كان سيضيف الى مواقفه الفكرية والتطبيقية دروسا جديدة يستفيدها من تجارب جديدة فيما لو كانت حياته قد امتدت سنوات أخرى . 
ان هذا يعني ـ من ناحية ـ أنه طوال حياة الرئيس عبد الناصر لم يكن من الممكن التوقف عند مضمون فكري معين ليقال أن هذا هو النموذج الفكري الذي به اكتملت النظرية . 
ويعني ـ من ناحية أخرى ـ أن انتهاء مرحلة " التجربة والخطأ " بوفاة قائد المرحلة قد أنهت احتمالات الإضافة عن طريقه ، وحددت تحديدا نهائيا ما يمكن أن ينسب إليه فكرا أو تطبيقا ، أي أنهت المرحلة التي هي ـ كما قلنا ـ الوعاء التاريخي الذي يتضمن عناصر بناء نظرية . 

5 ـ اذا صح ان فرصة بناء نظرية ناصرية لم تصبح متاحة الا بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر وأن عناصر بناءها متوافرة ومتضمنة في التراكمات الفكرية والتطبيقية التي تشكل المرحلة التاريخية التي بدأت في سنة 1952 ، يبقى السؤال الأهم : ما هي تلك العناصر التي تدخل في بناء النظرية ؟ . انه السؤال الذي يتردّد بصيغة أكثر بساطة : ما هي الناصرية ؟ .
ليس أسهل أن ينطلق أي معاصر لعبد الناصر معاصرة فكر أو ممارسة فينتقي من وعاء التجربة التاريخية الطويلة ، العريضة ، العميقة ، الغنية ، ما يروق له من أقوال أو مواقف أو منجزات عبد الناصر ليقول : هذه هي الناصرية . والواقع أن هذه لن تكون الا " ناصريته هو " ، أعني الناصرية كما يفهمها "هو" ، ولن يُقنع حينئذ من يجادله بناصرية أخرى فهمها صاحبها كما أراد أن يفهمها ، وسيجد كل منهما في وعاء التجربة التاريخية الغني نصوصا أو مواقف أو منجزات تؤيد فهمه للناصرية . فيختلفان في المواقف وهما يحملان شعارا واحدا : الناصرية
هل يمكن أن يحدث هذا ؟. 
انه حادث ، وله أسباب غير منكورة ، أسباب كثيرة .
من تلك الأسباب : 

أولا :

أن المرحلة التاريخية التي قادها جمال عبد الناصر تتميز اساسا بأنها مرحلة تحرر قومي ، ومنها يستمد عبد الناصر أوضح مميزاته . انه قائد معارك التحرر العربي ضد الاستعمار القديم والجديد والاستيطاني ، وبطل النضال القومي ضد التبعية بكل أنواعها . انه ان كان قد خسر معركة 1967 ، فقد كسب معركة الجلاء ، ومعركة 1956 ، ومعركة تحرير الجزائر ، ومعركة تحرير العراق ، ومعركة تحرير اليمن ، واسهم في كل معارك التحرير حتى خارج حدود الوطن العربي ، وكسب لمصر حلفاء في معاركها التحررية في أطراف الأرض جميعا ذادوا عنها فلم يجهز عليها العدو بالرغم من أنها كانت مباحة بعد هزيمة 1967 ، وأمدوها بما استطاعت به أن تصمد حتى تنتصر في معركة 1973 .
إن كل تلك كانت انجازات عبد الناصر الذي كسب عن جدارة مركزه العالمي كواحد من أبطال التحرر في العالم كله . ولقد كان هذا الخط التحرّري لجمال عبد الناصر ، ثابتا وواضحا منذ سنة 1952 وظل متصلا طوال حياته ، لم ينقطع ولم يضعف ولم يتغيّر ولم ينحرف أبدا .
ولما كانت معارك التحرر القومي تسمح بالتقاء قوى مختلفة المنابع الفكرية والاتجاهات السياسية والمصالح الاقتصادية والوعي الفكري وان كانت متفقة في موقفها الموحد من الاستعمار ، فقد التقت تحت قيادة عبد الناصر قوى وجماهير لا تتفق فيما بينها الا على موقفها التحرّري وتذهب فيما عدا ذلك مذاهب شتى ، واحتضنت قيادة عبد الناصر كل تلك القوى ووظفت كل قادر فيما يقدر عليه وتجاوزت عن نقاط الاختلاف مركزة على نقاط الالتقاء فأصبحوا جميعا " ناصريين " . 
ناصريون بمعنى انهم مناضلون تحت قيادة عبد الناصر ، ولم تكن " الناصرية " عندهم تعني أكثر من الالتزام بالنضال تحت قيادة عبد الناصر في معارك التحرر . أما ما يتجاوز هذا من مضامين اخرى ، ديمقراطية ، أو اشتراكية ، أو وحدوية ، فقد كان لكل واحد فهمه الخاص لها . وبالتالي لم يكن مضمون الناصرية متفقا عليه بين الناصريين . ومن بين أولائك الناصريين سيبرز الذين خرجوا على عبد الناصر بعد هزيمة 1967 ، وسيبرز الذين انقضّوا على منجزاته الوحدوية والاشتراكية ، ودعوا إلى تصفيتها بعد أن انتهت قيادته بانتهاء حياته . ثم يبقى الآخرون يحمل كل منهم في رأسه فهما خاصا " للناصرية "  موروثا من فترة الاختلاط في معارك التحرر ، مصوغا تبعا لفهمه أو عدم فهمه للعلاقة بين الحرية والاشتراكية والوحدة . وفي هذا يختلفون . 

ثانيا :

السبب الثاني ، أن ثورة 23 يوليو التحررية التي بدأت سنة 1952 بدون نظرية وانتهجت في مسيرتها النضالية الطويلة منهج التجربة والخطأ ، واستفادت من أخطائها فأضافت إلى حركتها مضامين فكرية وتطبيقية متنامية ، كانت تُطوّر قائدها وهو يُطوّرها . إن الفارق بين ما انتهت إليه الثورة سنة 1970 وما بدأت به سنة 1952 ، هو ذات الفارق بين المجتمع العربي بين 1952 والمجتمع العربي سنة 1970 . وهو فارق نوعي كبير . ويمكننا أن نلاحظ هذا الفارق بوضوح على مستويين : المستوى القومي والمستوى الاشتراكي . 

أ ـ ثورة يوليو لم تبدأ قومية ، بل بدأت مصرية ، ولم يخطر ببال عبد الناصر وهو يعد لثورة 23 يوليو أن يتسع تنظيم الضباط الأحرار لغير المصريين . ولما قامت الثورة لم تر في انفصال السودان إلا انه تحرير للسودان . كان همها الأول تحرير مصر من الاحتلال الانجليزي ولم يكن الوطن العربي إلا دائرة ثابتة محيطة بالدائرة المصرية ، تتأثر بها وتؤثر فيها . ثم بدأت معارك تحرير مصر بعد اتفاقية الجلاء : هجوم على غزة من فلسطين المحتلة . العراق في حلف استعماري يريد أن يضم الاردن ليطوق مصر . ليبيا السنوسية تمنح الولايات الأمريكية وبريطانيا قواعد عسكرية على حدود مصر الغربية . ثم انفجر الموقف كله سنة 1956 فتم العدوان الثلاثي لأن عبد الناصر أراد أن يمارس سيادة مصر على القناة التي هي قطعة منها ، وسمح لنفسه أن يمدّ المساعدة لثورة الجزائر . في معركة 1956 خاضت مصر الثورة القتال دفاعا عن حريتها ضد قوى اتخذت من الأرض العربية قواعد انطلاق وتموين . ودخلت الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي كله معركة الدفاع عن حرية مصر ، فهاجمت ودمرت أنابيب إمداد النفط والقواعد العسكرية ، واشتركت بمتطوعين عنها في صفوف القوات المقاتلة .. في تلك المعركة اكتشف عبد الناصر أن العلاقة بين مصر والأمة العربية ليست علاقة دائرة بدائرة ، بل علاقة الجزء بالكل . وتعلم من الخطأ في تجربة التحرر الإقليمي ، أن الحل الصحيح للحفاظ على حرية مصر هي حرية الأمة العربية التي تنتمي إليها . وسيظل هذا الموقف ثابتا في تاريخ عبد الناصر الى أن تفقده أمته التي تطوّر خلال الدفاع عنها من قائد معركة تحرير مصر ، إلى قائد معركة التحرّر العربي

ب ـ وكان الأمر مشابها على المستوى الاشتراكي . أن ثورة 1952 لم تكن في بدايتها اشتراكية بأي معنى من معاني الاشتراكية . ان الاصلاح الزراعي نفسه نظام تحرّري قصد به تحرير الفلاحين من سيطرة كبار الملاك ولم يستهدف تغييرا في علاقات الإنتاج الزراعي . أما عن العدالة الاجتماعية وهي واحدة من الأهداف المعلنة لثورة 23 يوليو فلا تكفي للقول بأنها مبشر باتجاه اشتراكي . يؤيد هذا اتجاه الثورة الى التنمية الاقتصادية في السنوات من 1952 الى 1956 . لقد اتجهت الثورة اتجاها واضحا وصريحا لحل مشكلة التخلف  بالتنمية الرأسمالية . فصدر سنة 1853 قانون استثمار الأموال الأجنبية ومنح لرؤوس الأموال تسهيلات لم يحصلوا عليها في أي قانون لاحق . وأنشئت المؤسسة الاقتصادية وكان هدفها الأخذ بيد المشروعات الخاصة حتى تقف على قدمها وتربح . وغير هذا كثير نجد مؤشراته في أنماط الرجال الذين اختارتهم الثورة وعوّلت عليهم في حل مشكلة التخلف في تلك السنين . ولكن الرأسماليين جميعا ، الوطنيين وغير الوطنيين ، خذلوا ثورة 23 يوليو وتخلوا عنها . فمن ناحية كانت البنية الاقتصادية المتخلفة التي ورثتها ثورة 23 يوليو في حاجة الى تراكمات استثمارية توظف في المجالات الإنتاجية وتكون فائضا اقتصاديا يعاد استثماره حتى تطرد عملية التنمية . ولم يكن كل هذا ليسمح لرأس المال الوطني بمعدلات الأرباح في المجالات الاستهلاكية أو الوسيطة أو في أماكن أخرى . فهرب رأس المال الوطني الى حيث توجد الأرباح الأكثر . هرب داخليا الى النشاطات الاستهلاكية والطفيلية ، وهرب جزء كبير منه الى خارج مصر . ومن ناحية أخرى ، فان رأس المال الأجنبي قد فعل ما يفعله في كل مرة . أملى شروطه
لم تكفه الإعفاءات من الضرائب لخمس سنوات ، ولم تكفه الإعفاءات الجمركية على ما يستورده ، ولم تكفه حرية تصدير أرباحه ، ولم تكفه إعادة تصديره ذاته ، وكلها تسهيلات تضمنها قانون 1953 ، بل كان لا بد له من ضمانات تتصل بسياسة الدولة داخليا وخارجيا . أي أنه مدّ شروطه لتمس قضية التحرر الوطني التي كانت حجر الأساس في ثورة 23 يوليو .. وفي قضية التحرّر الوطني كان عبد الناصر ـ كما قلنا ـ بطلا لا يهتز ولا يرتدّ ولا ينحرف . فرفض التنمية عن الطريق الرأسمالي ، وامتدّت معارك التحرّر لتدور من أجل واحد من أكبر مشروعات التنمية وهو السد العالي . وقدّمت معارك التحرر القاعدة الاقتصادية الأولى للتنمية الاشتراكية عندما أمّم عبد الناصر المؤسسات المالية والاقتصادية للدول المعتدية وحليفاتها . وهكذا اكتشف عبد الناصر من تجربة التحرّر خطأ الطريق الرأسمالي واختار الاشتراكية ، كضرورة ، أملتها ظروف التخلف كما قال . وعندما تعلم من التجربة طوّر وصحّح المفاهيم الأولى فأصدر الميثاق وقوانين يوليو الاشتراكية ، وأصبح جمال عبد الناصر قائدا للنضال من أجل الاشتراكية . وبقي على هذا حتى انتهت قيادته بوفاته . 
اذن ، فقد بدأت المرحلة التاريخية التي قادها عبد الناصر وخطها الأساسي خط تحرّري مصري ، ثم اغتنت من التجربة النضالية فتحولت من خلال المعاناة في الممارسة إلى تجربة اشتراكية وحدوية ، وعبرت عن كل هذا في شعارها المثلث : حرية ، اشتراكية ، وحدة . 
خلال كل تلك المرحلة وعلى امتدادها ، التقت بجمال عبد الناصر فكريا وعملت معه أو تحت قيادته شخصيات وقوى عديدة . التقت به القوى التحرّرية عندما بدأ قائدا تحرريا ، والتقت به قوى قومية في فترة لاحقة عندما أصبح قائدا قوميا ، والتقت به قوى اشتراكية في فترة أخرى عندما أصبح قائدا اشتراكيا ، وأصبحوا جميعا " ناصريين " .
ناصريون بمعنى أنهم مناضلون تحت قيادة عبد الناصر . ولم تكن " الناصرية " تعني عندهم أكثر من الالتزام بالنضال تحت قيادته تحت شعار " حرية ، اشتراكية ، وحدة " . أما ما يتجاوز هذا فقد كان لكل واحد منهم فهمه الخاص " للناصرية " . لم يكن كل التحرريين اشتراكيين ، ولم يكن كل الاشتراكيين وحدويين . وكان كل فريق يحاول أن يدفع بالأحداث ويؤوّل أقوال ومواقف عبد الناصر على الوجه الذي يتفق مع فهمه للناصرية . وعندما يغيب القائد غيبته المفاجئة سنة 1970 لن تلبث بعض تلك الاتجاهات التي كانت تملأ الأرض ضجيجا بانتمائها " الناصري " ، أن تكشف عن فهمها الخاص  للناصرية وتتعرّض الوحدة والاشتراكية بوجه خاص لأقسى هجوم تعرّضت له من جانب الذين كانوا أكثر الناس ادعاء للناصرية والولاء لعبد الناصر ، أولائك الذين رفعوا الميثاق يوما إلى مصاف الكتب المقدسة . 
ثم يبقى الآخرون يحمل كل منهم في رأسه فهما خاصا " للناصرية " موروثا من فترة قيادة عبد الناصر ، مصوغا تبعا لفهم كل منهم أو عدم فهمه للناصرية الأصيلة : هل هي الناصرية بمعنى التحرّرية قبل أن تشوبها " الأفكار المستوردة " ، أم هي الناصرية بمعنى الاشتراكية بعد أن استفادت من خطأ تجربة التنمية الرأسمالية ، أم هي " الناصرية " بمعنى الوحدوية بعد أن استفادت من خطأ تجربة التحرّر الإقليمي ، أم هي " الناصرية " بمعنى كل هذا معا ، وإذا كان الأمر كذلك فهل ثمة أولوية في الأهداف أم ترتيب بينها ... الى آخره . وفي هذا يختلفون . 

ثالثا :

السبب الثالث والأخير ، لاختلاط المفاهيم حول " الناصرية " ،هو أن جمال عبد الناصر قائد ثورة 23 يوليو قد بدأ وانتهى مرحلته التاريخية وهو رئيس لدولة مصر . وهي دولة ورثها بمالها وما عليها ولم تكن لذات الظروف التاريخية التي سبقت ثورة 1952 ، متوافرة لديه القوة البشرية الملتزمة من قبل ، القادرة على قيادة أجهزة الدولة . ذلك لأن ثورة 23 يوليو التي بدأت بدون نظرية بدأت أيضا بدون حزب جماهيري . ولعل هذا أن يكون السؤال الأول والأساسي عن كل السلبيات التي صاحبت التجربة ، والهزائم التي تعرضت لها الثورة . لقد كان على ثورة 23 يوليو أن تغير لتطور المجتمع بأجهزة الدولة ، مع أن تلك الأجهزة ذاتها هي التي أفسدت الأرض قبل 1952 وبرّرت الثورة . ان كثيرين قد لا يعرفون أن قادة الأسلحة الجوية والبحرية سنة 1967 كانوا هم أنفسهم قادتها منذ عهد الملكية . لعل كثيرين لا يعرفون أن الذين صاغوا قانون الإصلاح الزراعي ونفذوه كانوا هم الإقطاعيين أو أبناء الإقطاعيين . لعل كثيرين لا يعرفون أن الذين وضعت الثورة في أيديهم المؤسسات المؤمّمة ودخلت بهم ميدان التحوّل الاشتراكي ووضعتهم على رأس القيادة في القطاع العام كانوا هم الرأسماليين وابناء الرأسماليين . ويعرف الكثيرون الآن أن الصحفيين الذين أخرجوا من سجونهم ويقودون الآن حملة التشهير بجمال عبد الناصر والناصرية كانوا منذ 1952 حتى سنة 1965 من اقرب الناس الى مواقع القيادة في ثورة 23 يوليو . 
وزاد الطين بلة ، كما يقولون ، يوم ان أصبح التحوّل الاشتراكي ضرورة التنمية ، وأنشأ القطاع العام هيئات ومؤسّسات وشركات تحيط وتسيطر على كل أوجه النشاط الاقتصادي ، وأصبحت الناصرية بمعنى الاشتراكية طريقا الى مواقع القيادة في المؤسّسات الاقتصادية وضمانا للرّقي الوظيفي .. فدخل الانتهازيون مباراة شيطانية في ادعاء الاشتراكية ، وجاء وقت كان يبدو كل الناس فيه اشتراكيين . وأسهم في هذا خطأ قاتل كانت القوى الاشتراكية قد ارتكبته تحت تأثير جمودها الفكري ، فقد كانت تلك القوى قد انتهت منذ سنة 1954 بعد تحليل علمي على هدي منهجها العلمي جدا ، الى إن ثورة 23 يوليو انقلاب بورجوازي عميل للولايات المتحدة الأمريكية ، وشنوا ضد عبد الناصر حملة شعواء عزلتهم عن مسيرة الثورة ، فأفسحوا مجالا للانتهازيين أدعياء الاشتراكية فعوّقوا إلى حد كبير التحوّل الاشتراكي ذاته وأباحوه لمن أساءوا إليه . 
هل أخطأت الثورة حينئذ في استخدامها ذات جهاز الدولة الذي ثارت عليه ، وأباحت للانتهازيين فرصة القفز للمواقع القيادية ؟ . 
ان الإجابة النهائية على هذا السؤال ستكون من نصيب المؤرخين ، أما نحن المعاصرين  للتجربة فنقول أنه خطأ تاريخي أسهم جيلنا فيه ، ولكن المسؤول الأول هي الظروف التاريخية التي سادت قبل 1952 وحرمت الثورة من المقدرة على ان تبدأ مسلحة بنظرية وبحزب جماهيري قادر على إدارة الدولة بعد الاستيلاء على السلطة فيها . 
المهم فيما يتصل بحديثنا هذا ، هو ما افرزه الانتهازيون من فكر وافتعلوه من مواقف نسبت الى المرحلة التاريخية التي قادها عبد الناصر فما زالت قابلة للانتساب الى الناصرية
إنني لا أستطيع أن أعدّد هنا آلاف الكتب والكتيبات والمقالات والنشرات التي أغرقت الساحة العربية في الفترة اللاّحقة لسنة 1961 ، تلفق وتخترع أفكارا لا أساس  لها من العلم وتقدّمها تعليقا على الميثاق أو شرحا له ، أو تأصيلا لنصوصه ، أو متابعة لخطب الرئيس جمال عبد الناصر تعليقا وشرحا وإيضاحا . 
في صيف عام 1963 قرّر الرئيس جمال عبد الناصر أن يدرّس في كل المدارس والمعاهد العليا والجامعات ما عرف باسم " المواد القومية " وكان من بين تلك المواد القومية مادة أسميت " الاشتراكية العربية " . وكان الطوفان . طوفان من الكتب ألّفت على عجل لتدرك بدء العام الدراسي تحمل كلها عناوين " الاشتراكية العربية " . وتنتقي من الميثاق ، وتلفق بين النظريات ما تستطيع ليعلن أصحابها أنهم منظروا " الفكر الناصري " . وفي صيف عام آخر سُئل الرئيس عبد الناصر عن رأيه فيما يسمّى " الاشتراكية العربية " ، فقال أنه يعتقد أن الاشتراكية واحدة وإنما يختلف التطبيق . فنزع الانتهازيون أغلفة كتب السنين الماضية وقدموا كتبهم إلى من يتلقون منهم العلم بعد أن حذفوا عناوينها الأصلية . 
وأذكر أن الدار القومية للطباعة والنشر رفضت في سنة 1967 أن تنشر كتاب " الطريق الى الاشتراكية العربية " بحجة أن الرئيس قد حسم الأمر ، فلا يجوز الحديث بعد هذا عن الاشتراكية العربية . وأن الاشتراكية الواحدة هي " الاشتراكية العلمية " التي جاء ذكرها في الميثاق . ثم يقولون أن الاشتراكية العلمية هي الماركسية ، وأذكر أن جماعة من ابرز كتاب الفكر اليساري قد بادروا بعد صدور الميثاق فاسموا أنفسهم " الميثاقيين " . ان كل هؤلاء الآن يفتحون ملفات عبد الناصر ويقيمون من أنفسهم حكاما على تجربته ، وقد كان الاقتراح الأول لكل هؤلاء بعد وفاة عبد الناصر هو إلغاء " المواد القومية " جملة . غير أن هذا الموقف الانتهازي الذي انكشف لم تنته بانكشافه آثار التلفيق الفكري الذي طرحه على الناشئة في المدارس والمعاهد والجامعات والصحف والمجلات ، ودسّه في رؤوس جيل كامل .. إن هذه الأفكار ما تزال متداولة ومصادرها ما تزال مطروحة . وكلها محسوبة على الناصرية مع أن كلا منها يعطي الناصرية مفهوما مختلفا عما يعطيه الآخر . 

6 ـ لتلك الأسباب الثلاثة التي نكتفي بها لا تجوز الاستهانة بالصعوبات الواقعية التي تعترّض استخلاص مبادئ الناصرية من الوعاء التاريخي الغني لمرحلة عبد الناصر . انها صعوبات واقعية يقتضي التغلب عليها جهودا مخلصة ، ومعرفة علمية صحيحة بالواقع التاريخي الذي انقضى ، وبالأسلوب العلمي لاكتشاف المبادئ الأساسية التي أسهمت في تطويره . ولكن التغلب على تلك الصعوبات ليس مستحيلا . بالعكس . ان عوامل مساعدة كثيرة متوافرة الآن لتسهيل مهمة التغلب عليها . أهم تلك العوامل هو انكشاف سقوط أدعياء الناصرية بعد وفاة عبد الناصر ، وارتدادهم الى مواقع الهجوم على تجربته التاريخية . 
من العوامل المساعدة أيضا وضوح المواقف الفعلية لكثير من القوى والأفراد من المنجزات التحرّرية والاشتراكية و الوحدوية التي شكلت الاتجاه العام لفترة قيادة عبد الناصر .. ففي مواجهة الارتداد أو السلبية تنمو حركة جماهيرية ايجابية للدفاع عن تلك المنجزات وتطويرها . وهكذا تكاد القوى التي كانت مختلطة تحت قيادة عبد الناصر أن تفرز كل منها نفسها فيتحدّد موقفها من المستقبل التقدّمي الذي يرمز له شعار عبد الناصر : حرية ، اشتراكية ، وحدة .  وإذا كان كل هذا قد أدّى إلى انكماش حجم الناصريين عددا فانه أدّى بالمقابل إلى وضوح هويتهم ، وبالتالي أصبحوا أكثر مقدرة على بناء نظريتهم . وعندما يبنونها سيعرف الجميع الإجابة الصحيحة عن السؤال : ما هي الناصرية ؟ .

7 ـ كيف يبنونها ؟ .. كيف يمكن استخلاص مبادئ واضحة محدّدة ، صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام إليها من وعاء الخبرات الفكرية والتطبيقية التي خلفها الزعيم القائد جمال عبد الناصر ؟ . 
أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال هي المساهمة الممكن تقديمها لكل من يعنيه أن يتصدى للمهمة الأصعب . مهمة البناء النظري
وعلى قدر ما استطيع ان أسهم فأقول باختصار شديد : ان ثمة أربعة ضوابط منهجية للبحث عن عناصر النظرية

الضابط الأول :

أن توجد في بناء النظرية المبادئ الفكرية وتطرح الخطط الإستراتيجية أو المواقف التكتيكية التي خططها أو وقفها جمال عبد الناصر . إن هذا يقتضي فرزا للخبرات الفكرية والتطبيقية التي خلفها على المستويات الثلاث لحركته التاريخية : المبدأ ، الإستراتيجية ، التكتيك .
إن المثال الذي يمكن أن نضربه  لبيان ضرورة هذا الفرز هو الموقف من الوحدة العربية . فمن حيث المبدأ كان عبد الناصر وحدويا ، هذا لا شك فيه . أما من حيث الإستراتيجية فان إستراتيجية عبد الناصر لتحقيق الوحدة كانت متأثرة بموقفه كرئيس دولة وما يفرضه عليه ذلك الموقع من قيود دولية ودستورية . كانت استراتيجية قائمة على الاقتراب من الوحدة عن طريق التقريب بين النظم والدول الإقليمية ، ولم يكن في استطاعته أن يخطط استراتيجيا غير ذلك . وليست هذه الإستراتيجية لازمة لزوم حصر لتحقيق المبدأ . وقد اعترف جمال عبد الناصر بهذا أكثر من مرة وكشف عن التناقض بين مبدئه الوحدوي ووظيفته الدستورية الإقليمية . فمنذ صيف 1963 والرئيس جمال عبد الناصر يركز تركيزا شديدا على ضرورة الحركة العربية الواحدة ( التنظيم القومي ) كآداة جماهيرية لتحقيق الوحدة . ولكن كان في كل مرة يركز تركيزا شديدا أيضا على انه هو من موقعه كرئيس دولة لا يستطيع أن يسهم أو يتحمل مسؤولية الإسهام في بناء الحركة العربية الواحدة ، وأن مسؤولية بنائها تقع على عاتق الجماهير العربية الثورية . كما كان جمال عبد الناصر قد خلف اجتهادات فكرية كثيرة بيانا ودفاعا عن مبدأ الوحدة العربية وعلاقته بالتطور التقدمي للأمة العربية ، بلغت صيغتها من الوضوح حد قوله الحاسم " ان التقدم لا يمكن ان يقوم على أساس التجزئة " ، فانه قد خلف أيضا مقولات فكرية ومواقف تطبيقية كثيرة تبريرا لرؤيته الإستراتيجية لأسلوب تحقيق الوحدة . وكل هذا متواجد ومختلط ـ بدرجات مختلفة من الوضوح تبعا لنوع المناسبة ، في تراث عبد الناصر . وبينما يظل مبدأ الوحدة قائما يستمد صحته من واقع موضوعي ثابت هو الوجود القومي . فان إستراتيجية عبد الناصر كانت إستراتيجية عبد الناصر على وجه الخصوص . أعني أن مبرراتها متصلة بعبد الناصر شخصيا ، والظروف التي كان يناضل فيها ، والأدوات التي كانت متاحة ، والقيود التي كانت مفروضة على حركته ، وأهمها مسؤوليته الدولية والدستورية ـ كرئيس دولة ـ التي كانت تلزمه احترام استقلال الدول العربية ، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ، أي تلزمه احترام التجزئة . من هنا ، فان الجماهير العربية التي تريد أن تضبط حركة مسيرتها الى المستقبل الوحدوي الذي ناضل من أجله عبد الناصر ، عليها أن تفرز كل هذا فتختار المبدأ وتلتزمه ، ولكنها غير ملزمة بأن تتبنى في تحقيق الوحدة إستراتيجية عبد الناصر " حتما " ، أقول حتما ، لأنها غير ملزمة أيضا بان تطرح تلك الإستراتيجية لانها كانت إستراتيجية عبد الناصر . ليس هذا ما أعنيه ، إنما أعني أن لها حرية اختيار إستراتيجية نضالها المقبل طبقا لظروفها الذاتية من حيث هي جماهير منظمة ، وهي ظروف مختلفة عن الظروف الذاتية لعبد الناصر ، وطبقا لظروفها الموضوعية المتغيرة التي لاشك في أنها غير متطابقة مع الظروف التي عاشها عبد الناصر
لسنا نريد اذن ، من هذا المثال الا التنبيه والتحذير من الفهم الخاطئ للخبرات الفكرية والتطبيقية التي خلفتها المرحلة التاريخية التي قادها عبد الناصر ، واعتبار ان كل ما قاله عبد الناصر أو فعله يرتفع الى مستوى المبدأ الذي يلزم الجماهير العربية من بعده .

الضابط الثاني : 

أن تؤخذ في بناء النظرية المبادئ الفكرية في درجة نموها القصوى التي وصلت اليها في حياة عبد الناصر . ان هذا يقتضي تتبع نشأة ونمو وتطور تلك المبادئ خلال الفترة التاريخية التي انتهت سنة 1970 وطرح كل المبادئ الفكرية التي تجاوزتها تجربة عبد الناصر وصححتها وطورتها .. 
والمثل الذي نستطيع ان نضربه بيانا لضرورة هذا الفرز هو موقف عبد الناصر من الاشتراكية . 
لقد عرفنا من قبل أن ثورة 23 يوليو لم تبدأ اشتراكية بأي معنى سنة 1952 . وفي مرحلة لاحقة ردّد عبد الناصر تعبيرا وسطيا يتفق مع درجة نمو الثورة في طريقها التجريبي الى التحوّل الاشتراكي ، نعني تعبير " الاشتراكية التعاونية " . ثم تطوّر كل هذا الى أن بلغ أقصى درجات نضجه في الميثاق . ومع ذلك فان التطبيق قد تجاوز الميثاق في السنوات التالية لعام 1961 ، وبالذات فيما يختص بعنصر العمل .
فابتداء من عام 1964 أصبح العمل ( تشغيل العاطلين والخريجين ) هدفا مقصودا بذاته لمبررات اشتراكية بصرف النظر عن أثر العمالة في سعر تكلفة الإنتاج . وفي عام 1964 أصدر عبد الناصر القانون 150 لسنة 1964 الذي صحّح الموقف الوسطي السابق من أموال الإقطاعيين والرأسماليين وأعداء الثورة . فقد كانت الثورة قد طبقت على هؤلاء جميعا قانون الحراسات الذي يطبق على الأعداء أثناء فترات الحرب وقانون الحراسات يبقي الملكية والعائد لأصحاب الأموال ويشل أيديهم عن الإدارة فقط . وهو موقف يتفق مع ظروف الحرب التي هي مؤقتة مهما طالت ، والمتوقع بعدها ـ وأيا كانت نتيجتها ـ رد الأموال الى الرعايا الذين منعوا من إدارتها خلال فترة الحرب . أو تعويضهم عما تلف منها كجزء من التسويات الدولية التي تتم بعد الحروب عادة . ونصوص قوانين الحراسات التي طبقت ابتداء من 1956 في مصر مستعارة بالنص تقريبا من قانون الحراسات الذي صدر على اثر قيام الحرب العالمية الأولى . 
على أي حال فان نظام الحراسة على الأموال كإجراء تحفظي أو حتى كعقوبة لا علاقة له بالاشتراكية والنظام الاشتراكي . والذي حدث أن جزءا كبيرا من الثروات العقارية والمالية والتجارية أخذت من الإقطاعيين والرأسماليين وأعداء الثورة وسلمت الى جماعة من الموظفين يديرونها لحساب أصحابها بدون أن يعود الى أصحابها شيء من ناتج إدارتها وبدون ـ وهذا هو المهم ـ أن يعود الى خزانة الدولة شيء من ذلك الناتج لأجل لم يكن أحد يعرف متى ينتهي . وكانت فرصة استغل فيها الحراس هذا النظام العقيم فنهبوه تحت حماية قانون يحرم الطعن على تصرفات الحراس . ولفترة غير قصيرة حرمت مشروعات التنمية من الإضافة المالية والاقتصادية التي كان يمكن أن تمثلها تلك الثروات فيما لو ألغيت ملكيتها الخاصة لحساب الشعب . أي فيما لو كانت قد أممت . 
وقد حاول عبد الناصر التغلب على هذا العقم بطريقتين إداريتين غير حاسمين : أولهما التأجيل الواقعي في دفع سنوات التعويض . الثاني الإيحاء على الحراس ببيع المؤسسات المستولى عليها الى القطاع العام . ولم يحسم الأمر على أسسه الاشتراكية الصحيحة الا عام 1964 فقضى القانون رقم 150 بأن تؤول الى الدولة كافة الأموال الخاضعة للحراسة . أي أنها أممت ، وهو ما كان يجب أن يحدث منذ البداية لو أن الوعي الاشتراكي للثورة كان سنة 1956 ـ عندما فرضت الحراسات لأول مرة أو سنة 1961 عندما وضع الميثاق ـ في درجة وعيها الاشتراكي الناضج سنة 1964
المهم أن عبد الناصر قد خلف كثيرا من الأفكار الاشتراكية وتطبيقاتها بدأت في مستوى بساطة " العدالة الاجتماعية " والإصلاح الزراعي سنة 1952 وانتهت الى سيطرة القطاع العام ، واحتكاره التجارة الخارجية والنشاط المصرفي واشتراك العمال في الإدارة والأرباح وتأميم ممتلكات المصريين أنفسهم حتى كان تأميم تلك الملكيات لازما لتدعيم أو الحفاظ على متطلبات التحول الاشتراكي .
ويستطيع كل من يريد أن يجد في أقوال عبد الناصر أو منجزاته ما يبرّر أي طور من تلك الأطوار التي مر بها نمو الوعي الاشتراكي لثورة يوليو . وهو يجعلنا ننبه ونحذر من الفهم الخاطئ للخبرات الفكرية والتطبيقية التي خلفتها المرحلة التاريخية التي قادها عبد الناصر واعتبار أن كل ما قاله عبد الناصر أو فعله على المستوى الاشتراكي يرتفع الى مستوى المبدأ الذي يلزم الجماهير العربية من بعده بدون انتباه الى حركة النمو المطردة في الوعي الاشتراكي لثورة 23 يوليو . إنما تلتزم الجماهير بأقصى ما قدمته المرحلة نموا ، ولا تلتزم به الا بداية لمسيرتها هي التي لا بد أن تنمّي ما خلفته المرحلة التي انقضت ..
أما الاحتجاج بما قاله أو فعله عبد الناصر في السنين الأولى للثورة يوم أن كان يحاول التنمية عن طريق الرأسمالية ويمنح لرؤوس الأموال تسهيلات سخية فانه ليس إلا احتجاجا بالخطأ في التجربة وإنكار للتصحيح الذي جاء على اثر الخطأ ليصححه . 

الضابط الثالث :

أن تؤخذ في بناء النظرية المبادئ الفكرية المتطورة التي خلفها جمال عبد الناصر قائد الجماهير العربية . ان هذا يقتضي فرز المبادئ الفكرية حتى لو كانت متطوّرة ، التي خلفها جمال عبد الناصر نتيجة ممارسته وظيفته كرئيس دولة . 
والمثل الذي نستطيع أن نضربه لضرورة هذا الفرز يمكن أن نستمدّه من مشكلة الديمقراطية . 
فعلى المستوى الفكري يبدو عبد الناصر من أوضح وأصلب المدافعين عن الديمقراطية الشعبية . وما جاء في الميثاق من بيان فكري للديمقراطية فلسفة وأسلوبا يعد إضافة ذات قيمة فائقة للفكر الديمقراطي . ولكن المحاولات الجادة المستمرّة لتجديد هذا الفكر الديمقراطي في مؤسّسات ديمقراطية شعبية فشلت أو لم تصل في التطبيق الى حد يترجم النظرية . 
فمن هيئة التحرير ، الى الاتحاد القومي ، الى الاتحاد الاشتراكي ، الى التنظيم السري ( طليعة الاشتراكيين ) ، الى منظمة الشباب ، الى الغاء الملكية الخاصة للصحف .... كل هذا وفوقه المخاطبة المباشرة للجماهير ، لم يحل مشكلة الممارسة الديمقراطية في مصر الحل الذي بشر به الميثاق . وبقيت الديمقراطية في مصر تمارس مكبلة بقيود البيروقراطية العاتية الى أن توفي عبد الناصر . ومما يفيد في إيضاح هذه المشكلة الصعبة ، أن جمال عبد الناصر كان قد قارب اليأس من إمكان الممارسة الديمقراطية عن طريق تثقيف أو تطوير الأجهزة والمؤسّسات التي يديرها ويسيطر عليها جيل بيروقراطي ، فأنشأ منظمة الشباب ، والذين عايشوا عبد الناصر أو عاشوا في منظمة الشباب يعرفون أنها كانت " الابن المدلل " لعبد الناصر ، ومعقد أمله في أن تفرز الكوادر التي لم تتح ـ تاريخيا ـ قبل 1952 . وأنه كان يعوّل عليها في تصحيح السلبيات التاريخية الموروثة مما قبل الثورة ، وأنه كان يرعاها رعاية خاصة ، ويسمح لها بالنمو الديمقراطي فكرا وحركة بدون قيود وبدون خوف ، بل نقول بحب وأمل . وقد نمت منظمة الشباب نموا رائعا ومتفوقا فكريا وحركيا وسبقت بكثير الاتحاد الاشتراكي العربي الذي كان يعتبر بالنسبة اليها ـ شكلا ـ المنظمة الأم . 
وبعد هزيمة يونيو 1967 بدأت منظمة الشباب تمارس النضال السياسي وأخذت مواقف حادة لم تحتملها البيروقراطية المسيطرة على الاتحاد الاشتراكي .. واستمرت منظمة الشباب على نشأتها تبشر بتغيير نوعي في أسلوب الممارسة الديمقراطية يقترب من نموذجه الشعبي حتى مارست فعلا قيادة الشارع السياسي في أوائل عام 1968 . عندئذ اتخذ الأمين العام للاتحاد الاشتراكي في ذلك الوقت قراره المخرب بتجميد منظمة الشباب وتسريح أفضل عناصرها فوئدت أروع التجارب الناصرية على مستوى الممارسة الديمقراطية وبقيت البيروقراطية
لماذا فشل جمال عبد الناصر في أن يصل بالممارسة الديمقراطية الى مستوى مبادئه الديمقراطية ؟ 
لأنه كان رئيسا لدولة بيروقراطية عتيدة ، وكانت البيروقراطية على استعداد لكي تطبع وتنشر وتدعو لأفكار عبد الناصر وأن تستمع الى تعليماته وأن تنفذها شكلا ، ولكنها لم تكن على استعداد أبدا أن تفقد سلطتها ، وبالتالي حالت دائما في الممارسة وعلى المستويات البعيدة عن الرؤية المباشرة من جانب القيادة دون أن تجد الديمقراطية الشعبية التي بشر بها الميثاق طريقها الي التطبيق الفعلي . 
وهكذا بينما يمكن ان تكون الديمقراطية الشعبية مبدأ تلتزمه الجماهير ، فإنها ليست ـ بالضرورة ـ ملزمة بأن تقبل ذلك القدر من الممارسة الذي سمحت به البيروقراطية بالرغم من الميثاق . هذا بالإضافة الى أن تجربة الممارسة الديمقراطية التي تمت في ظل عبد الناصر قد نمت في جزء من الوطن العربي ، فهي متأثرة بظروفه المحلية ان سلبا أو إيجابا بحيث لا يمكن قبولها تعميما وكمبدأ تلتزمه الجماهير العربية العريضة . وما ينطبق على مشكلة الديمقراطية ينطبق على كل ما خلفه عبد الناصر من تراث فكري أو تطبيقي كان في حينه وفاء لالتزاماته المحدودة بمصر المحدّد بدستورها وبظروفها المحلية

الضابط الرابع : 

وهو أهمها جميعا . اكتشاف المنهج العلمي الذي يبرّر ويربط كل المبادئ المستخلصة من الضوابط الثلاثة الأولى . أي الذي يفسر لنا كيف أسفرت الحركة التاريخية عما هو صحيح . ومرجع أهمية هذا الضابط أن منهج التجربة والخطأ قد فقد ضمانه بوفاة عبد الناصر من ناحية ، كما فقد المبررات التاريخية لإتباعه من ناحية أخرى . فقدها لأن حصيلة الماضي وخبراتها قد أصبحت أغنى من أن يحتاج المستقبل الى دفع ثمن الخطأ في التجربة وأصبح لزاما على الذين لا يريدون أن يكرروا الأخطاء ، أن يلتزموا في حركتهم المقبلة منهجا علميا يخطط وينفذ طبقا لرؤية عقائدية سابقة ، ومعرفة علمية صحيحة بقوانين التطور الاجتماعي التي نسميها " المنهج " . هذا إلا إذا كان ثمة من يحلمون بأن يكون المستقبل ليس امتدادا ناميا للماضي ، بل تكرارا له . أما الذين يعتقدون أن التجربة والخطأ منهج قائم بذاته فهم ، ان كانوا حسني النية ، يخلطون بينه وبين وسائل البحث العلمي في اكتشاف القوانين
صحيح ان البحث يبدأ باختبار مفردات تجرى عليها تجارب محددة قد يصاحبها خطأ ، فتعاد التجارب الى أن تتسق النتائج في الظروف المماثلة ، فيكون قد تم اكتشاف القانون العام الذي يحكم حركة تلك المفردات .. وبمجرّد أن يُكتشف القانون تنتهي مرحلة التجريب ، ويصبح القانون هو المناط في توقع الحركة المقبلة والتحكم فيها . 
كل هذا صحيح ، ونحن لم نقل شيئا في كل ما قلناه أكثر من الدعوة الى استثمار التجربة الناصرية الماضية لاكتشاف قانون حركتها والتزامه بعد هذا بدون عودة الى التجريب ، أما أن تكون التجربة والخطأ منهجا ثابتا بديلا عن معرفة واستخدام قوانين التطور الاجتماعي ، فهذا ما لا يقول به إلا الذين يريدون أن يسمحوا لأنفسهم بتجربة أفكارهم في حياة البشر . الذين لا يريدون أن يكونوا ناصريين بل يتوهمون بأنهم عبد الناصر . وتلك أوهام غير علمية لن يكون من أثرها إلا تعويق مسيرة الحركة الشعبية النامية تحت لواء " الناصرية " . وأكثر تعويقا لمسيرة تلك الحركة أولائك الذين ينتقون من تراث عبد الناصر ما يتفق مع أحلامهم الخاصة ويسمونه " ناصرية " . 

تنويه : وردت ثلاث كلمات ناقصة من المصدر ( نسخة قديمة من مجلة الشورى ) ، اجتهدنا في تعويضها حسب السياق للمحافظة على استرسال الكلام دون انقطاع ، وتركناها بلون مغاير حتى يعرفها القارئ ( فقرة 2 ـ 3 ـ 5 ) ...  


*        



هناك تعليق واحد: