بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

جذور ثورة 23 يوليو




جذور ثورة 23 يوليو .
عصمت سيف الدولة .

السؤال المطروح : منذ حين يحاول كثيرون بأساليب شتى الاجابة على سؤال مطروح عن علاقة ثورة 23 يوليو 1952 بما سبقها من تاريخ ، وعلاقة منظمة “الضباط الاحرار” بالمذاهب والقوى السياسية التي كانت سائدة قبل الثورة . في سبيل الاجابة على هذا السؤال اجتهد كثيرون وقدموا اجتهاداتهم الى الجماهيرالعربية في خطب مسموعة او كتب مطبوعة او منشورة ..
وقد اعتمد أغلب الذين قالوا أو كتبوا في اجاباتهم على بيان موقع موقف كل واحد من اعضاء مجلس قيادة الثورة من الاحداث والقوى قبل قيام الثورة . . فلما أن تبينوا أن قد كان لكل واحد من مجلس قيادة الثورة اتجاهات فكرية وانتماءات سياسية مختلفة عن الاخرين ، وان اتجاهاته تلك قد اختلفت بين حين وحين، قالوا كما قال الدكتور عبد الكريم احمد في ختام مقاله ” الثورة الناصرية واثرها في الفكر السياسي المصري” المنشور في ( مجلة الشورى – العدد الرابع – السنة الثانية ) .
” لقد كانت الثورة الناصرية هي النتيجة الطبيعية ، ان لم تكن الحتمية، للتطورات السياسية والاجتماعية السابقة عليها. ومما يؤكد ذلك انها كانت تضم منذ بدايتها عناصر في قيادتها ممن يحملون بذور التيار الليبرالي بشقيه الراديكالي والمحافظ ، ومن يحملون بذور التيار الديني ، ومن يحملون بذور التيار الاشتراكي بمختلف اتجاهاته بما فيها التدريجي وا لماركسي ” .
وانفرد الدكتور عبد الكريم احمد ، من بين كل الذين حاولوا الاجابة على السؤال المطروح ، باجتهاد يستحق التأمل والانتباه . ويقول هذا الاجتهاد بان المبادىءالستة التي التقى عليها الضباط الاحرار وقامت من اجل تحقيقها الثورة، هي جماع المبادىءالتي كانت متفرقة بين القوى السياسية السابقة على الثورة .
يقول :
” ومما يجعل الحكم على اتجاهات الثورة في بدايتها عسيرا اننا عندما نعمد الى تحليل المبادىء الستة التي اعلنتها الثورة غداة نجاحها نجد انها كانت في الواقع صدى لهذا التكوين المختلط لقيادتها .
” فالمبدأ الاول ، وهو القضاء على الاستعمار كان شعاراً ترفعه كل التيارات السابقة بلا استثناء . بل وجميع من عملوا في ساحة الحياة العامة المصرية منذ مطلع القرن وقبل ذلك .
“وكذلك يرتبط المبدأ الخامس : اقامة جيش وطني قوي بالمبدأ الاول وينطبق عليه نفس الشيء فيما يتصل بموقف هذه التيارات وان كان بدرجة اقل .
” اما المبدأ الثاني والثالث ، وهما القضاء على الاقطاع والقضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم وكذلك المبدأ الاخير وهو اقامة حياة ديموقراطية سليمة ، فكلها شعارات يمكن ان يرفعها ممثلو التيار الليبرالي والتيار الاشتراكي بل وكذلك التيار الديني على ان يفسرها كل منهم بطريقته الخاصة.
( ويبقى بعد ذلك المبدأ الرابع الذي يتحدث عن العدالة الاجتماعية، ولاشك في ان هذا المصطلح اكثر ارتباطا باهداف التيار الاشتراكي (الديموقراطي الاجتماعي) منه بالتيارين الآخرين
، الا ان بعض ممثلي التيار الليبرالي وبخاصة الراديكالي ، والتيار الديني ، وبخاصة المجددين منهم، استطاعوا تطويع مفهوم العدالة الاجتماعية لاتجاهاتهم ولم يلبثوا ان رفعوه هم ايضا كشعار من شعاراتهم …”.
أما القوى السياسية التي تمثل التيارات الفكرية قبل ثورة 1952 فقد حددها الدكتور عبد الكريم أحمد بانها :
اولا : ” تياريعبر عن مصالح طبقة كبار الملاكين والاقطاعيين من ابناء الاسر الكبيرة في الريف ويمثله حزبا الاحرار الدستوريين والاتحاد “.
ثانيا : ” التيار الليبرالي الذي يمثله حزب الوفد الضخم الذي حظي بتأييد اغلبية كبيرة ” .
ثالثا : ” التيارالديني الذي ينادي بتطبيق الشريعة الاسلامية بدلا من القوانين الحديثة ” . واهم من يمثله كان جماعة الاخوان المسلمين .
رابعا : ” التيار الذي يمكن ان نطلق عليه في مجموعه الاتجاه نحو الديموقراطية الاجتماعية او “الاشتراكية ” وقد كان من الطبيعي (هكذا يقول الدكتور عبد الكريم احمد) ان يكون الطابع الغالب على هذا التيار هو التيارالماركسي “.
ولقد استثنى الدكتورعبد الكريم أحمد التيار الاول ثم اجتهد في بيان العلاقة بين ثورة 23 يوليو والتيارات الثلاثة الاخرى فتحولت ثورة 23 يوليو الى امتداد ، على المستوى الفكري في المبادىء الستة وعلى المستوى الذاتي في اشخاص قيادتها ، للوفد والاخوان المسلمين والاشتراكيين الذين يغلب عليهم الطابع الماركسي .
والحق ان هذا لظلم بيّن لثورة 23 يوليو في مستواها الفكري ومستواها الذاتي .
والظلم لا يستغرب اذا جاء ممن لا يظاهرون الثورة فكرا او ينتمون اليها حركة .
ولا يستغرب اذا جاء من الذين يتوهمون ان ثورة 23 يوليو قد انتهت وأصبحت تاريخا قديما فأباحوا لانفسهم الحديث عنها منصفين أنفسهم ظالمين اياها حتى لو كانوا يوما من قادتها أو من قواها .
ظلم ثورة 23 يوليو لا يستغرب من احمد حمروش عندما يكتب مجلدين عن قصة الثورة يحاول فيهما ان يصورها كما لو كانت من صنع المنظمة الماركسية “حدتو” لأنه وخالد محي الدين ويوسف صديق كانوا اعضاء في منظمة حدتو . فهؤلاء نفر كانوا يستهدفون ما لم تكن الثورة تستهدفه عام 1952 فالتحقوا بها لاحتوائها ثورة فلما اخرجتهم قيادتها من صفوفها بعد اقل من ستة اشهر على قيام الثورة جاءوا يريدون اليوم احتواءها تاريخيا . فظلموها لينصفوا انفسهم .
وظلم ثورة 23 يوليو لا يستغرب من عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين حين جاءا يعلنان انهما قد استقالا من مراكز قيادتها يوم ان انحرفت عما يدينان به من فكر فاصبحت اشتراكية .
انهما يظلمان الثورة بالنوايا ولا يفطنان الى انهما لم يظلما الا نفسيهما يوم ان كشفا عن مواقفهما الرجعية .
كل هذا لا يستغرب ..
أما ان يأتي الظلم من الدكتور عبد الكريم أحمد فهو غريب ..
اولا : لأن الدكتور عبدالكريم احمد ينتمي الى ذلك الجيل من المخضرمين أمثالنا الذين لم يعاصروا ما قبل الثورة ، واعين فحسب ، بل انهم لم يكونوا في ذلك الوقت راكدين ، كان وعيهم واعمارهم تسمح لهم بان يخوضوا احداث ما قبل الثورة ويعرفوا من امرها ما يعرفه الخبير .
ثانيا : لان الدكتور عبدالكريم احمد استاذ كبير، خبير بالعلوم السياسية ، وعلى يديه يتلقى الشباب من الجيل الجديد دروسا في الفكر السياسي وتاريخه فتوافرت له امكانيات الحكم الصحيح والتأثير الفعال. وهما مناطا المسئوليات الجسيمة فيما يكتب ويقال .
ثالثا : وهذا هو المصدرالاساسي للاستغراب ، ان الدكتور عبد الكريم أحمد ينتمي فكرا وموقفا ، عقلا وعاطفة ، الى ثورة 23 يوليو ولم يزل . أعني بهذه الكلمة الاخيرة انه لم يغير مواقفه ولم يخرج على الثورة لا عقلا ولا عاطفة كما فعل الاخرون وما يزال يعتز علانية بالانتماء اليها ويدافع علانية عنها … فلماذا يظلمها . .
خطأ المنهج :
احسب ان الدكتور عبدالكريم احمد لم يقصد ظلم ثورة 23 يوليو حين ظلمها ، انما أراد ان ينصفها فانتهج في بيانه خطأ منهجيا ذهب بما قاله دفاعا عنها الى حافة الظلم لها . وهو لم يفعل هذا غير ما يفعل غيره من الذين لا يهتمون كثيرا بمناهج البحث العلمي فتفوتهم العناصر اللازمة لتفسير الاحداث التاريخية تفسيرا صحيحا .
فمثلا :
1 ـ لما ان عرف من معاصرته لتاريخ ما قبل ثورة 1952 ان تيارات سياسية عددها كانت ترفع كل منها - منفردة ـ شعارا اواكثر من المبادىء الستة التي قامت عليها الثورة ، تصور ان تلك المبادىء وقد اجتمعت في الثورة بقيت كما هي فاعتبر مبادىء الثورة امتدادا لمبادىء الاحزاب قبلها . وفاته ان المبادىء المتفرقة بين قوى متعددة تحمل كل قوة منها ما تشاء منها ، اذا اجتمعت لقوة واحدة فقد تغيرت . تغيرت نوعيا وفي مضامينها ولم تعد هي هي : لسبب بسيط وهي عندما تجتمع تتكامل . يؤثر كل منها في الاخر فيغير مضمونه ، ويصبح كل منها حدا للآخر فتصبح اجزاء لا تفهم الا منسوبة الى الكل الذي يجمعها . وتطبيقا لهذا نستطيع ان نقول ان مضمون كل مبدأ من المبادىء الستة التي حملتها ثورة 23 يوليو ليس امتدادا او استمرارا على اي وجه لذات مضمونه يوم ان كان يحمله ـ منفردا ـ اي من التيارات السابقة على ثورة 23 يوليو .
2 ـ لما ان عرف من معاصرته لتاريخ ما قبل ثورة 1952 ان كل واحد من اعضاء مجلس قيادة الثورة كانت له انتماءات فكرية او تنظيمية ، ثابتة او متغيرة ، بواحد أو اكثر من الاحزاب والقوى السياسية السابقة ، تصور انهم عندما اجتمعوا معا في مجلس قيادة واحد لتنظيم ثوري واحد كان كل واحد منهم ما يزال محتفظا بانتمائه السابق . فكما جمع المبادىء الستة ميكانيكيا ، جمع مجلس القيادة ميكانيكيا فاصبح هو فلان وفلان وفلان . وفاته ان مجلس قيادة الثورة ” شخص ” آخرغير الاشخاص الذي يتكون منهم . لهذا الشخص فكر اخر غير افكار كل منهم وله ارادة غير ارادة كل منهم ، وله اهداف غير اهداف كل منهم لان افكاره وارادته واهدافه هي الحصيلة الجدلية لالتقائهم على افكار وارادات واهداف أكثر منها نضجا و تقدما لانها ثمرة الحوار والصراع الجدلي بين الافكار والارادات والاهداف فيما بينهم . ولا يمكن ان تنسب الى الثورة افكار او ارادة او اهداف الا ما ينسب لهذا الشخص الاخر الذي هو مجلس القيادة كما يعبر عنه صاحب الحق تنظيميا في التعبير عنه وهو قائده . وبالتالي فان كل الافكار والارادات والاهداف وحتى الانتماءات الخاصة بأي عضو في مجلس قيادة الثورة كانت وما تزال من شئونه الخاصة التي لا تنسب الا اليه بعيدا عن نسبتها الى الثورة .
ولا يمكن ان ينسب الى ثورة 23 يوليو من الافكار والارادات والاهداف الا ما عبر عنه قائد مجلس قيادة الثورة ، وبصفته هذه ، وكلنا نعرف من هو .
ان ما قاله وما اراده وما استهدفه جمال عبد الناصر، وهو يمارس دور القيادة ، هو وحده الذي يستحق ان ينسب الى الثورة . ولا يجدي أي واحد من اعضاء مجلس قيادة الثورة أن يقدم لنا مذكراته الشخصية عما كان يفكر فيه او ما كان يريده او ما كان يستهدفه مادام قد عجز عن ان يحوله الى فكر وارادة وهدف الثورة . كما لا يجدينا ونحن نتحدث عن ثورة 23 يوليو ان نستمع الى مبررات العجز التي يشكو منها الان بعض القادة السابقين في مجلس قيادة الثورة .
ان الدراسة المنهجية الصحيحة لا تعتد بما يقولون الا من حيث مدى اثره السلبي او الايجابي في فكر الثورة وارادتها واهدافها ، ولكنها لا تعتد به كفكر او ارادة او هدف من افكار و ارادة واهداف الثورة .
انهم يبحثون ، يا دكتورعبد الكريم ، عن صكوك براءة مما يحسبونه تهما وهو موقف مجرد من العلمية ومن الاخلاق ايضا فلا تتبرع لهم بما يريدون وانت لست معهم و لست مثلهم خلقا .
3 ـ ان الخطأ المنهجي الاكبر الذي وقع فيه الدكتور عبد الكريم احمد، وكل الذين كتبوا ويكتبون عن علاقة ثورة 23 يوليو بما سبقها من مبادىء وقوى قد سلبه، كما سلبهم ، المقدرة على الاجابة على السؤال الحاسم :
اذا صح ان اعضاء مجلس قيادة الثورة قد ظلوا بعد قيامها على افكارهم وانتماءاتهم السابقة ، فلماذا أسسوا “منظمة الضباط الاحرار” اصلا..؟ لماذا لم يحاول كل منهم ان يحقق ما يريد من موقع انتمائه الفكري والحركي الى القوة السياسية التي كان ينتمي اليها ؟ ..
لا بد ان يكون كل واحد منهم قد قارن بين جدوى بقاء انتمائه القديم فكريا او تنظيمياً وجدوى انتمائه الى منظمة جديدة فاختار الجديد.
وهنا يكمن السؤال : ما هو الفارق – الجديد- الذي حمل كل واحد منهم على حدة على ان يختار الانتماء الى الضباط الاحرار بدلا من الانتماء الى حزبه؟
الجديد اما ان يكون في الفكر او يكون في الاسلوب.
يقوال الدكتور عبد الكريم أحمد في ختام مقاله ” الثورة الناصرية : اثرها في الفكر السياسي المصري” : ان الاتجاه الحقيقي للثورة لم يكن محددا مسبقا بل انه تكون بعد ذلك من خلال الممارسة ، ونضيف : الا الاتجاه الذي يمثله ويعبر عنه اجتماع المبادىء الستة التي كانت من قبل شعارات يرفع كل حزب ما يختار منها .
اذن فقد يكون الجديد هو الاسلوب. أعني اسلوب تغيير الواقع في مجتمع أظهر عناصر واقعه ، بالاضافة الى التخلف ، الاحتلال الاجنبي الذي كان يشل حركة تطوره بما يستطيع منذ سبعين عاما . وفي مواجهة الاحتلال الاجنبي يختلف الناس اسلوبا فمنهم الثوري ومنهم الاصلاحي . الثوري: يتعامل مع القوى الاستعمارية باسلوب التعامل مع الاعداء فهو لا يعترف ولا يصطلح معها ولا يفاوضها ولا يساومها بل يقاتلها بكل اداة من اول الكلمات الى الرصاصات . ويدرك الثوريون ان التناقض الاساسي في ظل الاحتلال الاجنبي يقوم بين ارادة التحرير من ناحية وواقع القهر من ناحية اخرى فيضعون متطلبات معركة التحرر فوق كل المتطلبات الاخرى ، ويحددون مواقفهم من الاحداث والناس والقوى طبقا لمواقفها من معركة التحرر .
اما الاصلاحيون : فيتعاملون مع قوى الاحتلال من منطلق مهزوم اصلا . يعترفون بشرعية الأمر الواقع ويصالحون أعداءهم ويفاوضونهم ويساومونهم على ذات مصير وطنهم .
وفي كل مجتمع محتل لا يوجد ـ اذا استبعدنا الخونة - الا تياران اساسيان : تيار ثوري وتيار اصلاحي . وهذا لا يحول دون ان يفترق الاصلاحيون في اشكال تعاملهم مع المحتلين فيتوزعون احزابا . ويتنافسون فيما بينهم على ” انسب “ تلك الاشكال ويكون محور تنافسهم هو : من منا اكثر قبولا لدى من بيده الامر .
ومن منا أقرب الى قلوب السادة فهو اقدر على ان “يسترد” منهم بعضا من الحرية المفقودة .
هذا بينما يبقى الثوريون في موقف رفضهم التعامل مع العدو الا باسلوب التعامل مع الاعداء.
الاساس الفكري :
ولسنا نقول هذا لاننا نصطنع مقدمات لنصل الى نتائج نريد ان نقولها.
ولكنا نقوله لاننا لا نفهم الاحداث ولا نفسرها الا على هدى منهج علمي نحتكم اليه ونقبل مقدما ما يؤدي اليه هذا الاحتكام .
والمنهج - كما لا شك يعرف الدكتور عبد الكريم احمد ـ هو مجموع القوانين الموضوعية التي تضبط حركة الاشياء والظواهر حتما .
وهي موضوعية بمعنى أن وجودها وفاعليتها غير متوقف على معرفتنا اياها .
ان عرفناها فاستخدمناها في المعرفة اصبنا .
وان جهلناها أو تجاهلناها او أنكرناها فقد نصيب وقد نخطىء.
ويأتي الصواب والخطأ صدفة .
وانا لنعرف - كما لا شك يعرف الدكتور عبد الكريم أحمد - ان فهم الاحداث التاريخية وتفسيرها طبقا لقانون التطور الاجتماعي لا يصح الا اذا كانت في مجتمع متحرر من القهر الخارجي (الاحتلال) او القهر الداخلي (الديكتاتورية) . ففي المجتمع المتحرر وحده يخضع التطور الاجتماعي لقوانينه الموضوعية وتتحدد مواقف الناس فيه ، ويفرزون تيارات او احزابا تبعا لمدى وعيهم على مصالحهم المادية والثقافية وعلاقتها بمصالح المجتمع الذي ينتمون اليه ككل . ويصح حينئذ ان نفرز من بين الناس تلك التيارات التي تحددها مصالح اصحابها كما يعرفها . ويصح حينئذ تقسيم تلك التيارات الى اقطاعيين وليبراليين ودينيين واشتراكيين . وتكون تلك المواقف المتميزة من الواقع الاجتماعي ومشكلات تطوره هي مناط الحكم والتقييم .
اما عندما يفرض القهر من الخارج ، او من الداخل ، ويصبح المجتمع كله ، بما فيه من موارد وبشر، مسخرا ، بالقوة ، لتحقيق غايات معينة سلفا ومفروضة عليه بالعنف فان شرط الحرية اللازمة لفاعلية القوانين الاجتماعية يزول .
وتصبح المشكلة الاساسية التي تواجهها القوى السياسية هي كيف يتحرر المجتمع ليستطيع ان يتطور وليس كيف يتطور المجتمع في ظل الاحتلال .
فيختار الثوريون الحرية ، وتصبح مضامين التطور الاجتماعي بالنسبة اليهم هدفا مرتبطا بانجاز مرحلة التحرر: التحرر من اجل التطور الاشتراكي مثلا ..
ويختار الاصلاحيون لعبة التعامل الظاهر اوالخفي مع القوى المحتلة او القاهرة ..
ويبادلونها مصلحة بمصلحة . تولي السلطة في مقابل الاعتراف. التنمية في مقابل ان يكون للمحتل نصيب من العائد . شرعية الاحزاب في مقابل شرعية احتلال . نشر التعليم في مقابل ان يكون بلغة المحتل وثقافته . الى اخره .
وفي حدود ما تسمح به القوة المحتلة في حدودها فقط ، وبقدر ما تسمح فقط ، يتصارع الاصلاحيون على فتات ما يلقى اليهم من مائدة امتهم المغتصبة.
ويستعيرون عناوين سياسية فهم ليبراليون او راديكاليون او ديموقراطيون اجتماعيون …
اذن ، وهذا مجرد اجتهاد ، لا ينبغي ان نحتكم في بيان القوى السياسية في مجتمع محتل الى ذات المقاييس التي نحتكم اليها في بيان القوى السياسية في مجتمع متحرر.
ان اول مقياس في المجتمع المحتل هو فرزالناس على اساس موقفهم من المحتل نفسه واسلوب تعاملهم معه .
وبعد هذه البداية نستطيع - اذا كان ذلك لازما ـ ان نصنف القوى داخل التيار الثوري حسب الوعود الاجتماعية التي يربطونها بالتحرر.
وتصنيف القوى داخل التيار الاصلاحي حسب المواقف التي يأخذونها من القضايا الاجتماعية في ظل الاحتلال .
وقد نجد ان بعض الشعارات مرفوعة في صفوف الثوار وفي صفوف الاصلاحيين .
فاذا لم نفطن الى التيار الاساسى الذي تنتمي اليه كل قوة وقعنا في خطأ الجمع بين القوى التي ترفع شعارا واحدا بالرغم من اختلافها الاساسي في مواقفها من قضية التحرر.
فتحسب مثلا ، ان ” التيار الديموقراطي ” يجمع كل الذين يرفعون شعار الديموقراطية بينما يكون شعار الديموقراطية في التيار الثوري مرفوعا كهدف من اهداف الثورة في الوقت الذي يرفعه الاصلاحيون بديلاً عن الثورة … وهكذا .
ويعرف الدكتور عبد الكريم أحمد كما نعرف جميعا ان مصر العربية عام 1952 وما قبله كانت محتلة ، فيكون همنا :
اولا : ان نبحث في تاريخها السابق على ثورة 23 يوليو عن التيارات السياسية الاتية:
التيار العميل الخائن ، التيارالوطنى الاصلاحي ، التيار الوطنى الثوري ،
ثم يكون علينا بعد ذلك ـ ثانيا : ان نعرف الى أي تيار من هذه تنتمي ثورة 23 يوليو .
المرجع :
ان مرجعنا هو الدكتورعبد الكريم نفسه . ففي رساله الدكتوراه التي تقدم بها الى جامعة القاهرة في عام 1970 وحصل بها على درجته العلمية المرموقة قال :
” وقد بدأ القرن العشرون وليس في مصر سوى قوتين سياسيتين ذات فعالية ، المستعمر الاجنبي والقصر الذي كان يمثله خديو أجنبي الى حد كبير. ولكن لم تمض السنوات الاولى منه حتى كان المثقفون المصريون قد احتلوا مراكزهم كقوة ثالثة على رأس الشعب المصري ، وظلت هذه القوة الثالثة تنمو معبرة عن الارادة القومية للمصريين الى ان بلغت ذروتها في ثورة 1919 . وكان معظم هؤلاء المثقفين المصريين من تلامذة محمد عبده الذين تشربوا تعاليمه التقدمية واتفقوا معه في مبدأ الأخذ من الفكر الغربي الحديث بالقدرالذي يتفق مع الشخصية المصرية النامية ومع تقاليدها وتراثها ، ومالا غنى عنه لبناءالدولة العصرية .
” وقد انقسم هؤلاء المثقفون أساسا الى فريقين : يمثل احدهما النزعة الثورية بزعامة مصطفى كامل، ويطالب بالاستقلال الفوري والحكم البرلماني المسئول والتعليم للجميع واشتراك الشعب في الحكم .
” اما الفريق الثاني ، الذي تألف منه حزب الامة فكان يتكون من لفيف من المثقفين الذين تلقوا تعليما غربيا وهضموا كثيرا من المفاهيم السياسية الجديدة وبدأوا يدعون الى بناء دولة مصرية عصرية ، وكان من ابرز هؤلاء المثقفين لطفي السيد وأحمد فتحي زغلول وقاسم أمين وسعد زغلول ..”
ولسنا نريد ان نضيف الى هذا الا ثلات نقط .
الاولى : ان فريق مصطفى كامل كان فريقا منظما اسمه ” الحزب الوطني ” ، وهو ذات الاسم الذي حمله تنظيم احمد عرابي الذي خاض معركة الدفاع ضد الاحتلال سنة 1882.
والنقطة الثانية : ان الفارق الأساسي بين الحزب الوطني وحزب الامة كان منصبا على اسلوب التعامل مع الاحتلال .
الحزب الوطني يرفض شرعية الاحتلال ولا يعترف به ويرفع شعار” لا مفاوضة الا بعد الجلاء ” ويتجه الى الشعب يعده للثورة ، ويتجه الى الميدان السياسي الخارجي ليجمع الحلفاء ضد المحتلين ولكنه يرفض تولي السلطة او المشاركة فيها في ظلال الاحتلال .
وحزب الامة يسلم بمشروعية الاحتلال ويعترف بالمحتلين ويرفع شعار التعاون معهم في نهضة البلاد تعليميا واقتصاديا ويتجه الى الاحتلال وعميله ” القصر” ، في كل ما يريد أن يفعله ليستأذن اولا ويستمد من صاحب الاذن شرعية ما يفعل .
النقطة الثالثة : هي ان التناقض بين التيار السياسي الذي يمثله الحزب الوطني والتيار السياسي الذي يمثله حزب الامة كان في مثل حدة وعنف التناقض بين التحرر والاحتلال نفسه .
فعندما حدث صراع مسلح بين بعض الفلاحين وبعض جنود الاحتلال في حادثة دنشواي الشهيرة، وقف الحزب الوطني موقفا ثوريا مع الفلاحين وشن حملة عالمية هائلة على الاحتلال انتهت بطرد اللورد كرومر. هذا بينما اختار المحتلون احمد فتحي زغلول عن حزب الامة ليكون قاضي دنشواي الذي حكم بقتل الفلاحين وجلدهم في موقع الاشتباك وامام اعين اهلهم .
وهكذا كان في مصر العربية تياران اساسيان . تيار ثوري وتيار اصلاحي.
اما التيار الثوري فقد ضرب ضربة قاسية بعد سنة 1914 عندها اعلنت الحماية على مصر. فسجن زعماؤه وطردوا وأغلقت صحفه وحيل بينه وبين ما كان يمارسه من وجود علني .
اما التيار الاصلاحي الذي بدأ بحزب الأمة فقد تكاثر وخرجت منه أسر اصلاحية كثيرة أسمت نفسها احزابا باسم ” الاحرار الدستوريين ” أو ” الاتحاد ” أو ” الشعب ” أو ” الوفد” أو ” السعديين ” أو “الكتلة”. الخ . وكلهم – في شأن قضية التحرر- ينتمون الى التيار الاصلاحي ويختلفون فيما بينهم حول قضايا اخرى اغلبها ذاتية وبعضها وطنية ومصلحية مع ملحوظة وحيدة هي ان الوفد لم ينشأ حزبا بل نشأ ” وفدا ” مختارا من الساسة العاملين حينئد يوفده الشعب الى مؤتمر الصلح في باريس ليعرض قضية استقلال مصر عليه استنادا الى حق تقرير المصير الذي اعلنه الحلفاء .
في ذلك الوقت كان محمد فريد قائد الحزب الوطني منفيا في اوروبا ، ولكن الحزب ايد ايفاد وفد للمطالبة بالاستقلال ومثله في الوفد واحد من اعضائه البارزين : مصطفى النحاس . بعد فشل الوفد قامت ثورة 1919 الجماهيرية . فمن الذي كان قد علم جماهير 1919 من الفلاحين والعمال والطلبة .. ان الاستقلال لا ينتزع الا بالثورة ؟ ليس اعضاء الوفد .. ولكن تراكم الممارسات التي كان التيار الثوري قد ربى عليها جيلا كاملا من المصريين في المعاهد والمدارس الليلية والنقابات التي انشأها . ولعل هذا ما يفسر ” العناد ” الوطني الذي عرف به مصطفى النحاس فيما بعد . انه على أي حال خريج المدرسة الثورية الذي لم يكن يوما منتميا الى حزب الامة ولا من رجاله .
فشلت الثورة أيضا فتحول الوفد الى حزب ثم احزاب كلها امتداد لحزب الامة ، أي الى التيار الاصلاحي ..
تأريخ ما أهمل التاريخ :
الذي لم يكتب بعد على الوجه الذي يستحقه هو الاجابة التاريخية على السؤال : ما الذي آل اليه التيار الثوري الذي بدأ باحمد عرابي ثم مصطفى كامل ثم محمد فريد ، بعد ان ساد وحكم التيار الاصلاحي ممثلا في أحزابه التي تنازعت وتقاسمت الحكم بعد فشل ثورة 1919 ؟
نقول :
ان الحزب الوطني كمؤسسة جماهيرية علنية قد تقلصت بشرا واثرا بحيث انه في الفترة ما بين 1919 الى 1952 لم تكن تلك الحفنة العنيدة من الرجال الذين ابقووا على الحزب الا رمزا لبقاء المقاومة الثورية التي لا يمارسونها هم انفسهم . كانوا يقاومون الاتجاه الاصلاحي بصلابة ولكن في اطارها الشرعي الدي صاغته الاحزاب الاصلاحية . وكانوا يرفضون الاشتراك في الحكم فلم يكن للحزب الممثل فيهم جاذبية او امكانات الممارسة الشعبية واسعة النطاق . وكانوا متمسكين “ بالامفاوضة ” مع الاحتلال فلم يساهموا في لعبة المساومة مع المحتلين . واستجمعوا كل قواهم في آخر معركة مجيدة لهم في الحملة الهائلة التي شنوها على معاهدة 1936 التي ابرمتها جماعة “حزب الامة ” التي اصبحت جبهة من الاحزاب الاصلاحية والمستقلين .
ولكن ، يا دكتور عبدالكريم .. ويا ايها الشباب العربي .. لم يكن هذا هو كل شيء في تاريخ مصر العربية. الذي لم يكتبه أحد بعد هو انه منذ 1914 تاريخ فرض الحماية الانجليزية على مصر، وضرب الحزب الوطني ” العلني ” لجأ التيار الثوري مباشرة الى مواجهة الموقف الجديد باسلوب جديد هو : النشاط الثوري السري . وكان أيضا تحت قيادة شباب الحزب الوطني (حينئذ) الذي لم يعرف الشعب عنهم شيئا منذ ذلك الحين بينما كانوا يقودون ثورته الصامتة في الخفاء ولم يظهروا الا مع ثورة 23 يوليو 1952 كأنهم خرجوا من جوف الارض . ولكن النشاط الثوري السري اتسع لكل الثوريين حتى ممن كانوا غير منتمين للحزب الوطني وامتد فجند عناصره وادار معركته حتى بين صفوف الأحزاب الاصلاحية . ولقد استطاع ان يضع احد رجاله في اقرب موضع مع سعد زغلول نفسه وهو عبد الرحمن فهمي ، الذي انشأ ” الجهاز السري” للوفد كما يقول المؤرخون بينما الجهاز كله كان ينفذ مخططات ثورية لم يقررها الوفد بل قررها التيار الثوري المتمركز خارج الوفد والاحزاب الاصلاحية الاخرى .. وكان النشاط كله بقيادة شخص ما يزاد حيا وان كان اغلب الناس لا تعرفه، لانه منذ 1914 حتى 1952 لم يكن الا موظفا بسيطا في أجهزة دولة مصرهو: عبد العزيز علي قائد التيار الثوري في مصر ورائده ومعلمه منذ سنة 1914.. ومؤسس كل الجماعات الثورية التي كانوا يطلقون عليها ” ارهابية ” بدأ بجماعة ” اليد السوداء ” ولأن العمل الثوري في ظل الاحتلال لا بد له من ان يكون عنيفا فان كل العشرات والمئات من اول الجنود الى الخونة الى اخر القائد الانجليزي للجيش المصري كانوا قد اعدموا بناء على احكام اصدرها التيار الثوري المنظم الذي لم يكن يعرف عنه احد شيئا … هذا- طبعا- بالاضافة الى التبشيرالفكري السري الذي كان يأخذ شكل منشورات والتحريك الجماهيري الذي كان يأخذ شكل المظاهرات . منشورات ومظاهرات تحمل عناوين شتى ويقودها- او تحسب انها تقودها- شخصيات متنوعة الاتجاهات، ولكن الذي ينظمها ويحركها ويقودها فعلا جنود مجهولون ينتمون الى التيار الثوري ومنظماته .
الاتجاه الى الجيش :
في عام 1940 قررت قيادة المقاومة الثورية للاحتلال تجنيد افراد من الجيش المصري للعمل الثوري . وتشكلت أول خلية من القوات المسلحة من ضباط سلاح الطيران ( سعودي وبغدادي ووجيه اباظة وحسين ذو الفقار ) وكانت تلك اول جماعة منظمة فيما عرف بعد باسم الضباط الاحرار. واقسم كل من هؤلاء يمين الولاء للثورة امام عبدالعزيز علي الموظف البسيط في ذلك الوقت في الادارة المالية لمحافظة القاهرة . وبدأ انتشارالخلايا الى حين ان وصل الى جمال عبدالناصر فتغير كل شيء تغييرا نوعيا . فقد كان جمال عبد الناصر اكثر مقدرة على التنظيم السري من القيادة المدنية . وكانت القيادة المدنية اكثر ولاء للتيار الثوري واهدافه من المزاحمة على القيادة ، فاستقل الضباط الاحرار بتنظيمهم تحت قيادة جمال عبدالناصر واستمرت الحركة المدنية بقيادة جيل جديد من شباب الحزب الوطني ، وظل الطرفان يرجعان للمشورة الى الرجل الذي تنحى وبارادته ليفسح المجال لمن اصبح اقدر منه بحكم الموقع والسن . ولقد كان عبدالعزيزعلي استاذا معترفا به من الضباط الاحرار ومستشارا يرجعون اليه حتى قيام ثورة 1952 عندما نقلوه من وظيفته البسيطة الى منصب الوزارة في اول وزارة للثورة .
الى من تنتمي ثورة 23 يوليو :
هل نريد بهذا التعليق على مقال الدكتور عبد الكريم أحمد أن نقول ان ثورة 1952 تنتمي الى التيار الثوري في مصر الذي بدأه احمد عرابي، في مواجهة وضد التيار الاصلاحي الذي بدأ بحزب الامة وامتد في الاحرار الدستوريين والوفد والسعديين والكتلة… الخ ؟
نعم  .
ان جمال عبد الناصرهو القائد الرابع للتيار الثوري في مصر . عرابي فمصطفى كامل فمحمد فريد فجمال عبد الناصر. وقد كنا نتمنى لو أن الدكتور عبد الكريم أحمد فطن الى المشابهة بل المطابقة تقريبا- مع اختلاف اللغة- بين المبادىء الستة التي بدأت بها ثورة 1952 وبين المبادىء التي قامت من اجل تحقيقها ثورة عرابي عندئذ كان يمكن ان يجد العلاقة بين الجانب التحرري والجانب الاجتماعي منها . فأحمد عرابي ركز على الجانب التحرري لان الظروف الاجتماعية لم تكن نضجت بعد ليرفع شعاراتها الاجتماعية . فيأتي مصطفى كامل ويعمق افكارها التحررية ويأتي محمد فريد ويتصل اتصالا مباشرا بالحركة الاشتراكية في أوروبا وتتأثر الحركة الوطنية المصرية الثورية في مصر بهذا الاتصال ويتجه الحزب الوطني بقوة الى انشاء النقابات العمالية وفتح المدارس الشعبية الليلية التي كان يدرس فيها قادة الحزب انفسهم . ويحضر رئيس الحزب مؤتمرات اشتراكية دولية التي تنعقد في اوروبا ممثلا للحزب . ثم ينقطع هذا الاتجاه بتولي الاصلاحيين الحكم بعد ثورة 1919 ، ولكن تلك المبادىء التي تتجه الى التكامل تظل تتفاعل وتنتشر في ظل الكفاح الثوري ضد الاحتلال ، الى ان تلتقي معا في المبادىء الستة لثورة 23 يوليو . ثورة 23 يوليو التي قامت ضد كل عناصر التيار الاصلاحي كما كانت تمثله الاحزاب الحاكمة في ذلك الوقت. ولهذا نقول عنها ثورة.
ولو كانت امتدادا مختلطا من مبادىء الاصلاحيين لكانت انقلابا .
فهل هي ثورة ام انقلابا ؟ ..
ما خفي كان اعظم :
لوصح ما قلنا لكان لابد له من ان يتجسد في ممارسات عينية تعبر بها ثورة 23 يوليو عن انتمائها الى التيار الوطني الثوري الذي بدأه احمدعرابي بدلأ من مجرد التحليل التاريخي . اذ ليس من المعقول ان تكون ثورة 23 يوليو كما تعي ذاتها تنتمي الى تيار ثوري نشيط خارج القوات المسلحة ولا تلتقي به في مراحل نضالية مشتركة .
لنطرح السؤال بوضوح أكثر ليكون الدليل على ذلك الانتماء أكثر وضوحأ :
ماهي العلاقة النضالية بين منظمة الضباط الاحرار والحزب الوطني (ممثلا في قوته السرية وليس في تشكيله العلني) قبل سنة 1952 ؟..
لسنا نعيد هنا العلاقة التأسيسية التي تحدثنا عنها ، ولا العلاقة الشخصية التي كانت قائمة بين الافراد ، كما اننا لا نفشي الان كل اسرار الاجتماعات المشتركة بين بعض الضباط الاحرار وبعض شباب الحزب الوطني من قوته الثورية في منزل الشيخ محمد الاودن في منزله في الزيتون ، ولا نريد ان نذكر المشروع المشترك الذي اعده الحزب الوطني سنة 1951 وعرض على الضباط الاحرار بتكوين قوة مقاتلة مشتركة تعبر الى سيناء وتدير منهناك حرب عصابات ضد القوات البريطانية ..
نكتفي فقط بنموذج واحد ..
الغيت معاهدة 1936 في اواخر عام 1951 وكان ذلك نصرا بينا لمبادىء التيار الثوري الذي لم يكف أبدا عن مناهضتها. وبدأت حركة مقاومة شعبية في منطقة القناة تحت اسم كتائب التحرير وتنافست الاحزاب جميعاً في ارسال طوابير كثيفة من شبابها تقوم باستعراضات عسكرية حول معسكرات الانجليز.. ولم يكتب احد بعد اين كان تنظيم الضباط الاحرار من تلك المعركة.. وما يؤسف له ان” الميثاق ” وهو يستعرض تاريخ مصر الحديث أغفل الحديث عن تلك الفترة المجيدة من النضال الوطني الثوري ..
الان نقول ، او نستطيعان نقول :
انه تحت ستار التظاهرات العلنية الكثيفة التى استغلت فيها الاحزاب الاصلاحية معركة القناة الشعبية بعد الغاء المعاهدة كانت في منطقة القناة ثلاث قوات ثورية حقا تقاتل حقا .
أولاها : في القنطرة قرب الاسماعيلية وعناصرها الأساسية من جماعة الاخوان المسلمين . وثانيهما : في السويس وعناصرها شعبية .
والثالثة : في الشرقية في منطقة أبو حماد . هذه القوة الثالثة التي لم تظهر أبدا علانية ولم تصدر أبدا نشرات وصورا عما كانت تفعل والتي اتخذت مواقعها الخفية في قرية المحجر وقرية السهرية بعيدا عن المدن ، وادارت معركة ” القرين “الشهيرة وقاتلت حتى بعد حرق القاهرة ، ممن كانت تتكون وكيف تكونت؟..
انهما مجموعتان (25 فردا في كل مجموعة) تكونتا من شباب الحزب الوطني . حملت احداهما اسم كتيبة مصطفى كامل وحملت الاخرى اسم كتيبة محمد فريد . دربتهما واعدتهما للقتال منظمة الضباط الاحرار .
تم التدريب النظري في منزل رقم 2 شارع خيرت بالسيدة زينب بالقاهرة خفية . خفية حتى عن التشكيل العلني للحزب الوطني . وتم التدريب العسكري على الرماية بالاسلحة الخفيفة في معسكرات سلاح المدفعية . وتم التدريب على استعمال المتفجرات في معسكرات سلاح المهندسين .
منظمة الضباط الاحرار هي التي ادخلتهم خفية ودربتهم في تلك المعسكرات . ولما تم اعدادهم هي التي سلحتهم .
وقبل ان يتجهوا الى الجبهة عينت لهم قيادة سياسية وقيادة عسكرية .
اما القيادة السياسية فكانت من الحزب الوطني ومهمتها التدريس والتوعية للمقاتلين بالقضايا الدولية والوطنية ونظم الحكم والتقدم الاجتماعي والاقتصادي . وحملت معها مكتبة كاملة وذلك اثناء النهار الذي اتفق على ان يختفي اثناءه المقاتلون .
واما القيادة العسكرية فقد اختارتها منظمة الضباط الاحرار وقد اختارت لها الضابط وجيه اباظة (محافظ القاهرة فيما بعد) ومهمته التواجد في المنطقة ابتداء من مغرب كل يوم لقيادة المجموعات في العمليات الهجومية على المعسكرات .
اما ضابطا الاتصال اللذين لعبا منذ البداية دورا اساسيا في هذا النشاط المشترك فكانا- عبد المجيد فريد (سكرتير رئاسة الجمهورية فيما بعد) ممثلأ للضباط الأحرار، ومحمد عبد الرحمن حسين (المستشارفيما بعد) ممثلاً للحزب الوطني..
وكان الهدف المتفق عليه : تكوين جيش ثوري من خلال القتال ضد المحتلين يكون قادراً في مرحلة لاحقة على اشعال الثورة في القاهرة واسقاط النظام البائد ..
وفشلت الخطة عندما حرقت القاهرة وعاد الذين ذهبوا يلتمسون في معركة القناة سبيلا الى الثورة في مصر .. ولم يقل أحد شيئا ولم يكتب احد شيئا ، لان الثوار حقا لا يهمهم ان يقولوا ماذا يفعلون ..
هل كل هذا صحيح ؟
عندما قامت الثورة قفز من الظلام الى النور فجأة رجل اسمه سليمان حافظ . كان وكيلا لمجلس الدولة فاصبح المدني البارز بجوار القيادة العسكرية للثورة . وكان هو الذي وضع وثيقة تنازل فاروق عن العرش. وكان هو- وليس احدا غيره او معه- الذي ذهب الى فاروق في قصره وطلب منه التوقيع على الوثيقة . فلما وقع بيد مرتعشة طلب اليه ان يوقع مرة اخرى بيد ثابتة . ويشن احمد حمروش في كتابه حملة شعواء على سليمان حافظ ويتهمه بأنه المسئول عن الاجراءات العنيفة ضدالاحزاب التي اتخذتها الثورة في سنتها الاولى . ويشير الى تأثيره القوي على عبد الناصر. واحمد حمروش مخطىء فعبد الناصر لم يكن الرجل الذي يخضع لتأثيررجل مدني اسمه سليمان حافظ .
كان أولى بأحمد حمروش ان يسأل نفسه : لماذا قفز سليمان حافظ من منصبه القضائي الى موقع القيادة في الثورة ، وما هو مصدر حقه في ممارسة مهمات الثورة الصعبة . ولماذا كان ” الضباط” يقبلون تصديه لتلك المهمات ، ولماذاكان نائباً لرئيس الوزراء في اول وزارة تؤلفها الثورة في 7 / 9 / 1952.
ولو سأل أحمد حمروش نفسه ، بدلا من محاولة ان يصور ثورة 23 يوليو كما لو كانت ثورة منظمة الشيوعية ” حدتو ” لعرف الاجابة على اسئلة اخرى .
منها مثلا :
لماذا كان نصف الوزراء في أول وزارة شكلتها الثورة من المنتمين الى الحزب الوطني (سليمان حافظ – نور الدين طراف- حسين أبو زيد – عبد العزيز علي- محمد فؤاد جلال - محمد صبري منصور- فتحي رضوان ) .
لا يمكن ان يكون كل هذا اعتباطا ، ولكن كان وراءه تاريخ . تاريخ ثوري سري فهو غير معروف الا لاصحابه . وأصحابه ثوريون فلم يكن يهمهم أن يعرف ..
أاما الان فلا بد من أن يشار اليه على الأقل حتى لا يقع واحد من اخلص الرجال لثورة 23 يوليو وجمال عبد الناصر مثل الدكتور عبد الكريم احمد في الخطأ الذي وقع فيه ، فيحسب أن ثورة 23 يوليو هي الحلقة الأخيرة من التيار الاصلاحي الذي بدأه حزب الأمة بدلا من ان يعرفها الحلقة الاخيرة من التيار الثوري الذي بدأه الحزب الوطني . وان جمال عبد الناصر هو خليفة سعد زغلول ومصطفى النحاس بدلا من أن يعرفه خليفة محمد فريد ومصطفى كامل ..
لا اعتذر:
لست مدينا باي اعتذار لقراء الشورى عن هذه الإطالة في التعليق على مقال الدكتور عبد الكريم أحمد ، ولو كنت قصدت به مجرد الحوار لاعتذرت ، ولو كنت قصدت به استعراض معرفتي بالتاريخ لاعتذرت. اذ ماذا يهم القراء من الجيل العربي الجديد من حوار حول التاريخ يدور بين اثنين من شيوخ الجيل السابق .
ولست أعتذر فلقد قصدت به ما يهم الجيل العربي الجديد من قراء مجلة الفكر القومي التقدمي . ففي مصر العربية يقيم ثلث الشـعب العربي أو اكثر. ومن هنا فان أي حركة الى المستقبل القومي تجري بعيدا عنهم او في عزلة منهم لن تحمل من القومية الا اسمها .
هذا الثلث من الشعب العربي يمثل بالنسبة الى أمته قمة نضجها الاجتماعي والحضاري وبالتالي فان مصير الامة العربية ككل متوقف الى حد بعيد على ما يدور في مصر . ان انتكست انتكست . وان انتصرت انتصرت .
هذا حكم الواقع التاريخي الراهن سواء أعجب أحدا أم لم يعجبه . ومن هنا فان كل قضايا الشعب العربي في مصر هي في القمة من قضايا الامة العربية. ويمثل الموقف منها افضل المحكات المعاصرة للتمييز بين المواقف القومية والادعاءات القومية ..
ثم ، وهذه هي الخلاصة :
أن التيارين الاساسيين ، التيار الثوري الذي بدأه الحزب الوطني ، والتيار الاصلاحي الذي بدأه حزب الامة قد عادا يتنازعان مصير الشعب العربي في مصر أي مصير الامة العربية ذاتها ، بعد ان حسب البعض ان ثورة 23 يوليو قد حسمت الخيار الى الابد لصالح التيارالثوري .
وفي محاولة الانتصار للتيار الاصلاحي يحاول كثير من الكتاب منذ فترة نسبة ثورة 33 يوليو الى التيار الاصلاحي لتضاف اليه ايجابياتها كموقف مناهض للتيار الثوري الذي ما تزال الثورة مستمرة فيه .
ومقال الدكتور عبد الكريم ينتمي الى الكتابات التي تنتصر للتيار الاصلاحي وتساعد في اضافة ثورة 23 يوليو الى رصيده مناهضة للتيار الثوري ، هذا في حين انالدكتور عبد الكريم أحمد شخصيا ينتمي الى التيار الثوري الذي يناهض التيار الاصلاحي ..
هذا التناقض بين موقف الكاتب ومقاله.. هو الغريب لان الكفاءة الفكرية والخبرة السياسية المتوافرتين للدكتورعبد الكريم أحمد كانتا كفيلتين بان يقول غير ما قال .
فلنقل اذن .. لكل عالم هفوة .
* * * * *
المصدر: كتاب حوار مع الشباب العربي – الدكتور عصمت سيف الدولة
وللمزيد من التفصيل بخصوص أفكار ونشاط الحزب الوطني قبل ثورة 23 يوليو 1952 ودوره في حركة المقاومة المسلحة في القناة في العام 1951 ، يرجع الى كتاب الثائر الصامت – عبدالعزيز علي من منشورات دار المعارف – مصر .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق