بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

صوت الأصيل الغائب .



صوت الأصيل الغائب .
الدكتور/ عصمت سيف الدولة .




نعني  بالأصيل الأمة العربية .
ونعنى بالغيب أنها ليست  ، ولم تكن منذ خمسين عاما ، طرفا حاضرا ومشاركا فى الصراع السياسى والاجتماعي الذى يدور حول مصيرها ذاته .    
ذلك لأن الأمة العربية ـ عندنا ـ ليست الشعب العربى (البشر) ، وليست الأرض العربية (الوطن) فإن لكل دولة شعبا ووطنا بدون أن يعنى هذا أن لكل دولة تقوم على أمة . وليست الأمة العربية عندنا شعبا ذا لغة واحدة أو حياة إقتصادية واحدة أو حالة نفسية واحدة أو دين واحد .
واحدة أو سائدة تستويان فليست هذه هى القضية؛ إن لكل قبيلة جائلة فى الصحراء أو كامنة فى الغابات لغة واحدة وحياة إقتصادية واحدة ودين واحد وشعور قوى بالانتماء القبلى يسمونه الحالة النفسية بدون أن يعنى كل هذا أن كل قبيلة أمة .
إنما الأمة العربية ـ عندنا ـ تكوين إجتماعى  واحد من الناس (الشعب) والأرض (الوطن) معا والحضارة التى نتجت خلال تطور تاريخى من تفاعل الشعب بالأرض . فنحن عندما نقول ـ مثلا ـ أننا أمة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربى لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل (الأمة) الذى يتضمن الجزء (الوطن) . فالشعب العربى (الناس) والوطن العربى (الأرض) يكونان معا الأمة العربية التى ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التى تقيم عليها إلى أمة ، أو من أرض لا تخص شعبا بعينه إلى أرض عربية، إلا عندما التحم الشعب العربى بالوطن العربى ، واختص به ليكونا وجودا واحدا هو الأمة العربية خلال تفاعلهما الذى أسفر عن حضارة متميزة. أما كل ما تعلمناه من مميزات الأمة كاللغة أو الثقافة أو الدين .. الخ فتلك عناصر التكوين الحضارى وهى تختلف من أمة إلى أمة تبعا لظروف التطور التاريخى الذى كونها . أما الحالة النفسية المشتركة والولاء المشترك .. الخ فتلك معبرات فى الأفراد عن إنتمائهم إلي أمة قائمة وتختلف من فرد الى فرد فى الأمة الواحدة تبعا لوعيه علاقته بمجتمعه القومى .

هذا الوجود الإجتماعى الذى نسميه أمة يحمل فى ذاته خصائص الإعتراف به والتعامل معه بحيث أن جهل أو تجاهل هذه الخصائص كلها أو واحدة منها يعنى أننا إما ننكر وجود الأمة أو أننا نستبعدها من نطاق التعامل بيننا .

أولى هذه الخصائص وهى أن الأمة تكوين تاريخى نتج عن تفاعل أجيال متعاقبة من الشعب مع أرضه المعينة. وهذا يعنى أن الأرض (الوطن) ملكية تاريخية مشتركة بين أجيال الشعب العربى . ويترتب على هذا أن أى جيل من الشعب  العربى لا يملك حق " التصرف " فى أرض الوطن أو فى جزء منها . فإن فعل بأن تنازل أو تخلى عن جزء من الوطن العربى فإنه لا يفعل شيئا سوى خيانة أمته ويبقى للأجيال القادمة حق استرداد أرضها ومعاقبة الخونة .
ويكون هذا هو الموقف القومى الصحيح من معارك التحرر .

الخاصية الثانية هى أن الأمة تكوين مشترك من الشعب العربى كله والوطن العربى كله . فكل فرد عربى ذو حق مساو لأى فرد عربى آخر فى كامل تراب الوطن العربى ، أى أن الأرض ( الوطن ) ملكية مشتركة بين كل أفراد الجيل القائم فى أية مرحلة تاريخية . وتترتب على هذا ثلاثة مواقف مبدئية :

الموقف الأول :

أنه ليس لأى فرد أو مجموعة من الأفراد أن يستأثر لنفسه أو لأنفسهم خاصة دون باقى الشعب العربى بمصادر الثروة المادية أو البشرية المتاحة فى الوطن العربى بل هم شركاء فى المصادر فى العمل وفى الإنتاج وفى العائد . ومع إخراج الأرض من نطاق الملكية الخاصة يصبح لكل فرد عربى نصيب بقدر ما يؤدى من عمل منتج .
ويكون هذا هو الموقف القومى الصحيح من معارك الاشتراكية .

الموقف الثانى :

أن ليس لأى فرد أو مجموع من الأفراد ولو بلغت عشرات الملايين أن تقتطع لنفسها من الوطن العربى جزءا ـ كبيرا أو صغيرا ـ لتستأثر لنفسها به دون باقى الشعب العربى ، وتمنع باقى الشعب العربى من حقه فى المشاركة فيه . فإن فعلت كان من حق الشعب العربى فى الجزء ، وفى باقى الوطن ، أن يعيد وحدته ووحدة أرضه .
ويكون هذا هو الموقف القومى الصحيح من معارك الوحدة .

الموقف الثالث :

أنه ليس من حق فرد أو مجموعة من الأفراد ولو بلغت الملايين أن تنفرد بسلطة إتخاذ القرارات المتصلة بكيفية توظيف الموارد المادية والبشرية المتاحة فى الوطن العربى أو فى وضع النظام الدستورى أو القانون الذى يصوغ علاقة الناس فيه ، بل أن لكل عربى حقا متساويا فى الإسهام بالرأى وبالعمل فى إدارة مجتمعه القومى المشترك .
ويكون هذا هو الموقف القومى الصحيح من معارك الديموقراطية .

هذه هى ضوابط الموقف القومى التقدمى كما يعبر عنه الشعار المثلث حرية  ( ديموقراطية ) . وحدة . اشتراكية . ولأنها ضوابط مستمدة من خصائص واقع موضوعى هو الوجود القومى ، فإنها ضوابط موضوعية . فكما أن وجود الأمة العربية ذاته لا يتوقف على معرفتنا أو إرادتنا فإن ضوابط الموقف القومى التقدمى المستمدة منه لا تتوقف على إختيارنا . إن اخترناها فقد عرفناها ولم نختلقها . وإن لم نخترها فهى ضوابط صحيحة ويتحمل من يشاء مسئولية ما إختار . ولكنه فى هذه الحالة يكون إما منكرا لوجود الأمة العربية ، أو رافضا التعامل معها كواقع موضوعى . وألف باء السياسة تعلمنا أن إنكار الواقع الموضوعى أو تجاهله لا يؤدى إلا إلى الفشل .

***

غير أنه من الواقع الموضوعى أيضا ، الذى لا يجوز إنكاره أو تجاهله أن الأمة العربية (الوطن) مغتصبة بعض أرضها وتقوم على فلسطين دولة استعمارية استيطانية يسمونها " إسرائيل " . ثم ان الوطن تجزأ فيما بين عشرين دولة تضع كل منها لما تتأثر به حدودا تحرسها شرطة ومحاكم وسجون . ثم ان الأمة العربية (الشعب) مقسم فيما بين عشرين دولة تمارس كل دولة منها سلطاتها عليه وتلزمه دساتيرها وقوانينها ولوائحها وتعتبر بقية الشعب العربى خارج حدودها أجانب فلا تسمح لهم بأن ينتقلوا إليها أو يعملوا فيها إلا طبقا لشروطها . وتستأثر كل دولة بما فى الأرض التى قامت عليها من ثروات مادية وبشرية وتساوم أو تبادل أو تتاجر أو تضارب أو تبدد تلك الثروات طبقا لما يذهب إليه هو حكامها .   
ثم أن فى داخل كل دولة تستأثر قلة بما هو متاح فيها من ثروات مادية وبشرية وتحصل من عائدها على ما تريد لها قوانينها المستغلة وتحرم الشعب العربى فيها وخارجها من حقه فى ثروات وطنه .
ثم أن فى داخل كل دولة تحتكر قلة السلطة وتحرم الشعب العربى فيها وخارجها من حقه الديموقراطي فى إدارة شؤونه المشتركة .
هذا واقع موضوعى أيضا .
هذا الواقع الموضوعى يحمل فى ذاته ـ أيضا ـ خصائص الإعتراف به والتعامل معه بحيث أن جهل أو تجاهل هذه الخصائص كلها أو واحدة منها يعنى أننا إما أن ننكر وجوده أو أننا نستبعده من نطاق التعامل بيننا .

أولى هذه الخصائص هى تفرد كل دولة عربية بوجودها الخاص أرضا وشعبا ، إن هذا يسلبها الحق ـ دوليا ودستورا ـ فى مد سيادتها إلي خارج أرضها ويمنحها حق منع إمتداد أية سيادة " أجنبية " إلى داخل أرضها . إنها مسؤولة عن الحفاظ على وطنها والدفاع عن سلامة ترابها ، وليست ملزمة بأن تحافظ على ما يتجاوز حدود وطنها أو الدفاع عنه ، وكل دولة أو شعب مسؤول عن أرضه ومصيره فإن فشل فذلك تقصيرا منه وإن استسلم كان " حرا " فى شأنه ولا مسؤولية على الدول العربية الأخرى . وقد تتعاون الدول العربية وقد تتضامن وقد يساند بعضها بعضا فى معركة أو أكثر ولكن ذلك يكون فى نطاق الموقف المبدئى :" حق كل شعب عربى فى تقرير مصيره " مستقلا عن غيره .
ويكون هذا الموقف الإقليمي الصحيح فى معارك التحرر .

الخاصية الثانية هى إستقلال كل دولة عربية عن الأخرى . وليس لأى فرد عربى من الحقوق إلا ما يستمده من قوانين دولته ، وليس لأية دولة عربية أن تتدخل فى شئون دولة عربية أخرى وتترتب على هذا ثلاثة مواقف مبدئية :

الموقف الأول :

أنه ليس لأى فرد أو مجموعة من الأفراد أن يستأثر لنفسه أو لأنفسهم خاصة ، دون باقى الشعب " فى دولتهم " بمصادر الثروة المادية أو البشرية المتاحة فى  " وطنهم " بل لابد من أن يكون لكل واحد حسب عمله . وليسو مسؤولين بعد هذا عن تحرير شعوب غيرهم من الاستغلال والقهر الاقتصادي .
ويكون هذا هو الموقف الإقليمي من معارك الاشتراكية .

الموقف الثانى :

حق كل شعب فى كل دولة فى الاستقلال بدولته والاستئثار بما فى أرضها من ثروات وحريته فى استثمارها والتصرف فيها بدون تدخل من أية دولة عربية أخرى ، والدفاع عن هذا الاستقلال فكريا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا والاستنجاد بالدول الأوروبية أو الأمريكية فيما لو حاولت دولة عربية أن تتدخل فى شؤون الدولة المعينة .
ويكون هذا هو الموقف الإقليمي الصحيح من معارك الوحدة .

الموقف الثالث :   

حق كل دولة فى أن تقيم نظامها السياسى والاجتماعي الداخلي بدون تدخل فى شؤونها وضرورة احترام هذا النظام السياسى والاجتماعي من كل الدول العربية حتى لو كان قبليا أو إقطاعيا أو ديكتاتوريا فاشيا .
ويكون هذا هو الموقف الإقليمي الصحيح من معارك الديموقراطية .

واضح أن المواقف القومية تناقض المواقف الإقليمية تماما .
ومع ذلك فإن الواقع القومى الموضوعى ، والواقع الإقليمى الموضوعى متواجدان معا ومتداخلان فى الأمة العربية الواحدة . فكل قطعة أرض هى أرض قومية وأرض إقليمية فى الوقت ذاته . وكل شعب إقليمى هو فى الوقت ذاته جزء من الشعب القومى . وكل نصر إقليمى فى معارك التحرر أو الاشتراكية أو الديموقراطية هى فى الوقت ذاته هزيمة قومية . إن هذا التواجد المشترك بين القومى والإقليمي  فى الأمة العربية يثير كثيرا من الغموض الفكرى والحركى فتختلط المواقف وتتاح فرص الإدعاء والمثالية معا . إذ يسمح ـ أولا ـ للقوى الإقليمية بأن تستر تحركاتها بغطاء دعائى قومى . ويسمح ـ ثانيا ـ لبعض القوى الإقليمية بأن تستر عجزها بإدانة الإقليميين وتحركاتهم والوقوف سلبيا من الأحداث التى تجرى فى وطنهم القومى بحجة أنها أحداث إقليمية  يحركها إقليميون ، هذا بينما الأمة العربية ، أمتهم ، هى موضوع تلك الأحداث .

 فكيف يمكن تبرير هذا الغموض ؟
 بأن تفرز القوى فى الوطن العربى على أساس مواقفها من الواقع وتناقضاته ، القوميون التقدميون قوة مفرزة والإقليميون بكل اتجاهاتهم قوى مفرزة . كل قوة تمثل واقعا موضوعيا ماديا وبشريا . أحدهما الواقع القومى ، والثانى الواقع الإقليمى . وعندما تفرز القوى على هذا الوجه سيكون التناقض بينهما أعمق مما تجدى فيه المصالحة أو الحلول الوسيطة ، وسيكون الصراع بينهما أكثر ضراوة من كل صراع عرفته الأرض العربية . وهذا هو ما تدركه القوى الإقليمية تماما وتخشاه حتى الموت . ولما كانت القوى الإقليمية هى المسيطرة حاليا بأجهزتها الإقليمية " الدول " فإن كل تلك الدول تسخر قواها الظاهرة والخفية وتتعاون فيما بينها ومع أعداء الأمة العربية فى كل مكان للحيلولة دون أن تفرز القوى القومية نفسها فتصبح قوة مواجهة ضارية .

ويساعد على هذا أن القوى القومية التقدمية لا تستطيع بحكم ولائها للأمة العربية أن تقف من المعارك التى يديرها ويقودها الأقليميون موقفا سلبيا . فهى تؤيد كل موقف إقليمى من أجل التحرر أو الاشتراكية أو الديموقراطية . وهذا بدوره يساعد القوى الإقليمية بأن تدعى أنها إنما تخوض المعارك من أجل الأمة العربية وقضاياها المصيرية . وهكذا تختلط المواقف وتبدو الخيانات الإقليمية كما لو كانت إنقاذا للأمة العربية ، وتستغل السمة القومية لكل غاية ، وكل نصر وكل هزيمة لتغطية الغايات الإقليمية واجبا فى النصر القومى ونسبة الهزيمة الى الأمة  العربية .

  فما الحــــــل  ؟..

إن القوى الإقليمية السائدة لن تسمح أبدا للقوى القومية التقدمية بأن تفرز نفسها وتلتحم معا لتكون قوة مستقلة عن الدول العربية وقواها الإقليمية . إنها ستحارب هذا بكل وسيلة وعندما تعجز قد تحاول احتوائه لتكون القوة القومية التقدمية فى خدمة قوة أو قوى إقليمية . وبالتالى فإن مسؤولية فرز القوى القومية التقدمية تقع على عاتق تلك القوى . ولا يجديها عذرا ما تلاقى من عقبات ينثرها الإقليميون على طريقها فإن أحدا لا يستطيع ـ بحق ـ أن يعتذر بما يفعله أعداؤه .

عندما تفرز تلك القوة القومية التقدمية ستكون ممثلة للأمة العربية . أما قبل أن تفرز فإن كل الأطراف الذين ساهموا منذ خمسين عاما ويساهمون اليوم فى المعارك الدائرة على الأرض العربية ، أيا كان موضوع تلك المعارك ، هى قوى إقليمية . كل منهم يمثل إقليمه ، ولا يمثل أى منهم الأمة العربية . وقد يتعاونون ويتضامنون ولكنهم حينئذ حلف إقليمى يمثل دولهم ولا يمثل الأمة العربية . وعندما ينتصرون يكونون هم الذين إنتصروا وليست الأمة العربية . وعندما ينهزمون تكون الإقليمية هى التى إنهزمت وليست الأمة العربية . هذا بالرغم من أنهم " يستعملون " الشعب العربى والأرض العربية فى تعبئة قواهم وتحريكها . ذلك لأن الأمة العربية ( الوطن والشعب ) هى الأصل ، أما الإقليمية ( الدول والأحزاب) فهى لاتملك لنفسها شيئا غير الوطن العربى والشعب العربى .
وسيظل هذا الموضوع قائما إلى أن تجد الأمة العربية من يمثلها . إلى أن تلتحم القوى القومية التقدمية فى تنظيم قومى وتقدمى . ينطلق من الولاء لأمة دون غيرها ، ويتخذ من الأحداث المواقف القومية التى ذكرناها ، ويناضل فى سبيل تحرير الوطن من أجل وحدته ، ووحدته من أجل حياة اشتراكية لكل أبنائه . يناضل تكتيكيا فى كل مكان من أجل إقامة استراتيجية واحدة : دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية .
وإلى أن يتم هذا لا نملك إلا أن نتحدث من موقع الولاء المطلق لأمتنا العربية ، تعبيرا عن موقف قومى مطهر تماما من أوشاب الإقليمية . إننا لا ندعى أننا نمثل الأمة العربية فنتحدث نيابة عنها ، ولكننا نزعم أننا فى هذا المكان ، وفى مثل هذا اليوم من كل أسبوع ، سنحاول أن نرفع صوت أمتنا فى كل الأحداث التى تجرى فى وطننا ولشعبنا . صوت أمتنا العربية الأصيلة الغائبة .


***


جريدة السفير فى 6 يناير 1975 .


***


                                                      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق