بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

هذه الدعوة إلي الإعتراف المستحيل


هذه الدعوة إلي الإعتراف المستحيل .

دكتور عصمت سيف الدولة .

قصة الإعتراف :

1ـ  تطوف بالعالم اليوم دعوة الى منظمة التحرير الفلسطينية تحرضها على الاعتراف بإسرائيل اعترافا مبادرا أو اعترافا متزامنا . فكرة الاعتراف بإسرائيل هذه ليست جديدة . فقد ثبت في بعض الرؤوس منذ بداية معارك تحرير فلسطين من الغزو الصهيوني ، المعارك الثورية  أو الحربية أو السياسية أو الفكرية أو الدعائية . وكانت تبقى كامنة أو تتردد خفية إلى أن تظهر دعوة صريحة أو ضمنية كلما حقق الصهاينة نصرا أو حاقت بالعرب هزيمة .

كان أول ظهورها دعوة ضمنية  بعد يوم 29 نوفمبر 1947 ، قبل ذلك اليوم كان العرب قد خاضوا معركة سياسية خاسرة بدأت في مؤتمر لندن الثاني الذي انعقد في سبتمبر 1946 وقدموا فيه اقتراحا بدولة فلسطين موحدة تضم العرب واليهود في مواجهة مشروع موريسون القائم على التقسيم . وانتقلت المعركة الى أروقة هيئة الأمم المتحدة وانتهت يوم 29 نوفمبر 1947 بهزيمة عربية . في ذلك اليوم أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بتقسيم فلسطين العربية الى دولتين إحداهما للصهاينة والأخرى للعرب ، كان قبول العرب قرار التقسيم يعني فيما يعني الاعتراف المسبق . إذا لم تقل الصريح بدولة إسرائيل . فرفض العرب .. حينئذ انبرت  مجموعات وأفراد وأحزاب في الوطن العربي تتميز إما بالعداء للقومية وإما بالولاء للاستعمار وإما بالجهل . تدين الرفض العربي لقرار التقسيم وتدعو الى قبوله بما يعنيه من اعتراف بدولة الصهيونية . وتقدم لذلك حججا شتى قد نعرض لها فيما بع . ثم لم تلبث هذه الدعوة الضمنية حتى تحولت الى دعوة صريحة على أثر الهزيمة  العربية فى معارك مايو - يوليو 1948 ، وإبرام اتفاق الهدنة الثانية في رودس عام 1949 . ثم عادت الدعوة الى الكمون بعد معركة 1956 . أولا لأن مجمل حصيلة تلك المعركة كانت انتصارا وهزيمة عربية صهيونية .

وثانيا ، لأنها كشفت عن العلاقة العضوية بين الكيان الصهيوني وبين القوى الاستعمارية فتغيرت إلى حد كبير مواقف بعض الذين كانوا يتصورون أنها تستحق الاعتراف لأنها دولة ديمقراطية وقيل تقدمية أيضا .

بعد الهزيمة العسكرية الجسيمة التي أصابت مصر وسوريا والأردن عام 1967 برزت الدعوة إلى الاعتراف بإسرائيل المنتصرة في شكل جديد أكثر ثقة من أية مرة سابقة ، تدعمها ـ أولا ـ هزيمة ثلاث دول عربية مسلحة تسليحا جيدا من بينها مصر المتطورة اقتصاديا واجتماعيا وعسكريا تحت قيادة عبد الناصر ، بما توحي به من أن كل أمل للعرب في تحرير فلسطين قد تبدد أو يجب أن يتبدد . فلم تعد ثمة حاجة إلى دعوتهم للاعتراف . ما على الصهاينة إلا أن ينتظروا بجوار تليفوناتهم إلى أن يتلقوا الاعتراف . ثانيا ،  أنه إذا كان ثمة بقية من العناد العربي فقد تكلفت الولايات المتحدة  بمحاولة تطويعه  ، فحالت ـ لأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة دون أن يصدر قرار بإيقاف إطلاق النار مصحوبا بطلب العودة الى المواقع التي بدأ منها القتال . وهكذا كان كما جاء بالقرار 242  الشهير ، فأصبحت الأرض العربية في سيناء وغزة والضفة والمرتفعات السورية رهينة في يد الصهاينة لا ترد إلا بعد الاعتراف بإسرائيل .

ولكن لم يمض وقت حتى أجمع في مؤتمر الخرطوم الذي انعقد في أغسطس 1967 على ألا صلح ولا مفاوضة ولا اعتراف .

2 - بعد ذلك الوقت برزت الى مقدمة الصفوف العربية قوة جديدة هي قوة الثورة الفلسطينية تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية . كانت الثورة قد بدأت بداية يحجبها ظل الدولة العربية يوم أول يناير 1965 على أيدي مقاتلي حركة تحرير فلسطين ( فتح ) . ومازالت محجوبة بظل الدول العربية إلى أن انهزمت تلك الدول فظهرت الثورة الفلسطينية كمعقد أمل يكاد يكون وحيدا للاستمرار والنضال المسلح إلى أن يتم تحرير فلسطين . ولعب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر دورا أساسيا في إفساح الطرق أمام الثورة الفلسطينية لتأخذ مكانها في المقدمة عربيا ودوليا .

لم تغب دلالة ذلك الحدث التاريخي عن أحد ، لقد كانت تعني أن العرب قد ملكوا في النهاية الأداة الصحيحة المناسبة لتحقيق النصر في معركة تحرير فلسطين . إذ هي ثورة وليست دولة وضد دولة معترف بها من كثير من الدول ومن هيئة الأمم المتحدة ذاتها ، وبالتالي فإنها تستطيع من حيث هي ثورة وليست دولة أن تستمر حتى النصر متحررة من كافة القيود الدستورية الدولية التي تحد من مقدرة الدول على القتال ضد دولة معترف بها . وقد رحبت بها كل الدول العربية وأمدتها بما استطاعت من تأييد معنوي ومادي لا لأنها رفيق نضال بل لأنها تقدم أيضا الى الدول العربية أعذارا لا يبدو مقبولا للتحرر من التزاماتها بتحرير فلسطين وذلك بأن تكون الثورة هي المسئولة عن هذا التحرير . وقد صاغوه شعارات تقول : شعب فلسطين هو المسئول عن تحرير فلسطين ، لا تتدخلوا في شئون الثورة ، نحن نقبل ما تقبله الثورة … الخ .

ولكن الثورة كانت تحمل في ذاتها بذور مخاطر جسيمة ، أن نبتت ونمت هددت أصدقاءها وأعدائها جميعا .

أما أصدقاؤها ، ولنقل الدول العربية ، فقد كانت تمثل بالنسبة إليهم تجربة غير مأمونة العواقب . فهي ثورة شعبية تقاتل من خارج حدود فلسطين أي من أرض هذه الدولة أو تلك . ويتوزع الاحتياطي البشري لها في كل الأرض العربية ، وهي تحقق انتصارات محدودة ولكنها بالقياس إلى هزائم الدول العربية تبدو ذات مقدرة هائلة على تخصيب الاتجاهات الثورية في كل الأقطار . ثم أنها تقاتل من أجل قضية مسلم بأنها قومية وبالتالي إنها ، شاءت أم أبت ، لابد لها من أن تتطور خلال المعارك أو من خلال التعامل مع الدول الشعبية على امتداد الوطن العربي ، والتأثير المتبادل بين هدف تحرير فلسطين وهدف التحرر والتقدم والوحدة ، فتصبح ثورة قومية ، وهذا ما تخشاه الدول العربية خشية الموت .

ولقد استطاعت الدول العربية أن تبقى على ما يرضيها من الثورة وأن تحتوي المخاطر المتوقعة عن طريقين . الطريق الأول الحضور الفعلي داخل إطار الثورة وذلك بالمساهمة فيها عن طريق منظمات مرتبطة بها أو متحالفة معها أو تابعة لها ، تقوم عندما تصل الثورة الى مرحلة الخطر المتوقع بإيقاف تطورها وإبقائها في الحدود المقبولة ، الطريق الثاني تطويق الثورة بالقيود التي تحول في المستقبل دون أن تصبح خطرا وذلك بإفساح مكان لها كعضو أصيل في جامعة الدول العربية حيث تكون ملتزمة بما تلتزم به الدول العربية من التشاور والتعاون والتضامن وعلى وجه خاص عدم التدخل في شئون بعضها البعض والضمان المتبادل لأمنها الداخلي . وهكذا قبلت ( فتح ) وبقية المنظمات الدخول في إطار منظمة التحرير الفلسطينية وعزل أحمد الشقيري وحل محله ياسر عرفات واستحق منذ وقتها أن يعامل عربيا معاملة رؤساء الدول حتى يمكن مطالبته بأن يسلك في قيادته مسالك رؤساء الدول . هل شعرت الثورة بآثار هذا التطويق وهل استمعت في صالونات الجامعة العربية إلى واحد أو أكثر من " الإخوة " الملوك والرؤساء يدعوها للاعتراف بإسرائيل ؟ … لست أدري . ولكن الذي أدريه أن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والقائد العام لقواتها المسلحة قد دعي ، كما يدعى رؤساء الدول ، الى حضور جلسة من جلسات مجلس الشعب في القاهرة ، وهناك سمع بأذنيه إعلان الرئيس أنور السادات عن استعداده لزيارة القدس المحتلة .

3 ـ هذا ما كان من أمر الدول العربية الصديقة أما الأعداء الذين تقودهم الولايات المتحدة الأمريكية فيجدوا أن منظمة التحرير الفلسطينية تنطوي على عنصرين ، فمن حيث هي ثورة شعبية مسلحة تملك المقدرة على الاستمرار في القتال حتى النصر ، أي حتى تحرير فلسطين وتصفية المؤسسة الصهيونية المسماة إسرائيل . وإن من أهم العوامل المساعدة على هذا الانتصار قابليتها لاستمرار في القتال بأشكال بالغة المرونة والتنوع لا تستطيع أن تتوفر لأية دولة بما فيها إسرائيل ، وإلى مدى زمني مفتوح على وجه لا تستطيع أن تحتمله أية دولة بما فيها إسرائيل . وهي بهذا تمثل خطرا داهما على المؤسسة الصهيونية ، أما العنصر الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية فهو هويتها السياسية التي أصبحت عنصرا بالغ الأهمية منذ أن اعترف لها عربيا بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، بهذه الصفة يمكن حملها على الاعتراف بإسرائيل ، فتعاملت القوى المعادية مع منظمة التحرير الفلسطينية طبقا لمخطط ذي هدفين . أولهما تصفيتها كثورة لتأمين الوجود الصهيوني في فلسطين ، والإبقاء عليها كمنظمة سياسية تمثل الشعب الفلسطيني لتقدم في النهاية الاعتراف المطلوب بإسرائيل .

ولقد بدأ تنفيذ هذا المخطط في النصف الثاني من عام 1970 حينما اقتلعت قواعد الثورة من شرق الأردن وطوردت قواتها حتى لبنان ، وما إن استردت قوى الثورة أنفاسها واستقرت في لبنان حتى بدأ القتال ضدها فيما تطور بعد الى حرب أهلية صاحبتها حرب الاغتيالات في قلب بيروت وفي الخارج .

وفي تلك الأثناء ذاتها  أي بينما كان مخطط تصفية الثورة ينفذ بأساليب متصاعدة من القسوة والوحشية كانت منظمة التحرير تتقدم على طريق مرسوم ، وتحرز مكاسب سياسية ومعنوية ودعائية غير قابلة للإنكار . تقدمت أولا الى موقع الاعتراف العربي الكامل بها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني ، وأتيح لها أن تمارس سلطتها عليه أينما كان بمثل ما تمارس الحكومات من سلطة على رعايا الدولة فتفرض عليهم التجنيد وتجبى منهم الضرائب ، وتقدمت فكسبت على المستوى الدولي اعترافا متناميا فأصبح لها في كثير من الدول " مكاتب " شبه دبلوماسية . وتقدمت فكسبت ما يكاد يكون إجماعا في الرأي العام العالمي على استحالة استقرار السلام في " الشرق الأوسط " في غيبة الشعب الفلسطيني الذي هي ممثلته الشرعية والوحيدة . وتقدمت فكسبت مقعد المراقب في هيئة الأمم المتحدة وعومل رئيسها معاملة رؤساء الدول … الخ .

4 ـ هذا التزامن بين محاولة تصفية المنظمة كثورة ومحاولات تدعيمها كمؤسسة سياسية لفتتنا الى ظاهرة " الرشوة " الكامنة في هذا التعامل المنافق ، ومدى المخاطر التي تنتظر المنظمة على تطوير تقدمها ، فكتبنا محذرين منذرين سلسلة من المقالات نشرت عام 1975 تحت عنوان "التقدم على الطريق المسدود " جاء فيها :

" لقد فتحت الثورة الفلسطينية الطريق وتقدمت عليه وحققت مكاسب لا يمكن إنكارها ، وفرضت الثورة الفلسطينية على القوى المعادية أن تفسح لها الطريق فتقدمت عليه وحققت مكاسب لا يمكن إنكارها ، يستويان في الحاضر . ولكن المستقبل مختلف ، إن ذات القوى المعادية للأهداف الإستراتيجية للثورة قد أقامت في نهاية الطريق سدا معلوما ومعلنا أساسه  الاعتراف الصريح أو الضمني بإسرائيل ، أو ضمان أمن حدودها ، أي تصفية الثورة ، إن الثورة الفلسطينية تتقدم ولكن على طريق مسدود ، وغدا أو بعد غد ستصل خلال تقدمها الى السد ، ولن يقول أحد أنه قد فوجئ فإن كل شئ مفضوح . فما الذي ستفعله الثورة حينئذ ؟.

".. إن كل القوى التي تراجعت أمام الثورة حتى الآن ستدير ظهرها الى السد وتواجه الثورة من موقف عداء سافر . إن الذين مهدوا من قبل للتخلص من المسئولية  سيقفون بعيدا ويقولون للثورة قرري أنت مصيرك فإن الشعب الفلسطيني هو المسئول عن تقرير مصيره . والذين اعترفوا بالشعب الفلسطيني وبأن منظمة التحرير هي ممثله الشرعي والوحيد سيقولون لها قد آن الأوان لتعترفي بالوجود الإسرائيلي . والذين استقبلوا قائد الثورة في هيئة الأمم  المتحدة وقدموا الى الثورة مقعد المراقب سيطلبون من الثورة أن تلتزم بميثاق الأمم المتحدة فلا تستولي على الأراضي بالقوة ولا تعتدي على دولة عضو فيها وتحترم قراراتها التي تعترف بالوجود الإسرائيلي ، باختصار .. عند السد ، ستكون الثورة الفلسطينية مطالبة بالثمن من الأعداء والحلفاء والأصدقاء ، وعلى المستوى الرسمي والعربي والدولي ، وفي مواجهة كل هؤلاء سيكون عليها أن تجيب على السؤال الصعب : ماذا تفعل ؟..

5 ـ نشر هذا التقرير يوم 2 فبراير ( شباط ) عام 1975 أي قبل اليوم بنحو سبع سنوات . وتلته مقالات تضع تحت تصرف الثورة الفلسطينية بدائل منهجية وفكرية وإستراتيجية وتكتيكية وتنظيمية على مستويات علاقاتها الداخلية والعربية والدولية ، السلمية والمقاتلة ، بقصد تمكينها من إعداد نفسها ليوم تواجه فيه السد الذي يقطع عليها طريق التحرير ..

غير أنه في المدة من 1975 حتى 1979 حلت بالعرب ، كل العرب ، أبشع هزيمة وأكثرها تدميرا في تاريخهم كله ، أكثر بكثير من هزيمتهم أمام الصليبيين الذين اغتصبوا الأرض وأقاموا الممالك ثم انهزموا بعد قتال استمر نحو قرن . أكثر بكثير من هزائم 1948 و1956 و1967 مجتمعة . تلك  هزيمة العرب التي تحققت في مصر تواريخ متتالية بدأت باتفاقية فض الاشتباك الثاني في أول سبتمبر 1975 واتفاقيات كامب ديفيد في 17 سبتمبر والاتفاقية المسماة اتفاقية السلام في 26 مارس 1979 وبها تمت الهزيمة العربية المروعة باعتراف حكومة مصر بإسرائيل ومطالبتها العرب بأن يعترفوا بها .

وأسميها هزيمة لكل العرب ، لأنه لا يوجد في الوطن العربي دولة او نظام أو حزب أو جماعة أو منظمة لم تسهم إيجابيا في تداعي الأحداث على الساحة العربية تداعيا أدى إلي اعتراف حكومة مصر بإسرائيل  ومطالبتها العرب بأن يعترفوا بها . كلهم مذنبون بالاشتراك في طريق التحريض أو المساعدة أو الاتفاق ، بالفعل أو بالامتناع عن الفعل ، في الهزيمة التي وقعت بهم جميعا في مصر العربية .

6 ـ في اتفاقيات كامب ديفيد وثيقة تحمل " إطار السلام في الشرق الأوسط " تحت عنوان فرعي عن " المبادئ المرتبطة " . يجري نص هذه المبادئ على الوجه الآتي : 

"1ـ تعلن مصر وإسرائيل أن المبادئ والنصوص المذكورة أدناه ينبغي أن تطبق على معاهدات السلام بين إسرائيل وبين كل جيرانها مصر والأردن وسوريا ولبنان .

"2 ـ على الموقعين أن يقيموا فيما بينهم علاقات طبيعية كتلك القائمة بين الدول التي هي في حالة سلام كل منهما مع الأخرى ، وعند هذا الحد ينبغي أن يتعهدوا بالالتزام بنصوص ميثاق هيئة الأمم ، ويجب أن تشمل الخطوات التي تتخذ في هذا الشأن :

" ( أ )   الاعتراف الكامل .

" (ب)   إلغاء المقاطعة الاقتصادية .

" (ج)   الضمان في أن يتمتع المواطنون في ظل السلطة القضائية بحماية الإجراءات القانونية واللجوء إلي القضاء .

وتشترط الوثيقة في موضع آخر أن تبدي الدول العربية استعدادها للتفاوض مع إسرائيل للوصول الى هذه المبادئ ، أي أن حكومة مصر في ذلك الوقت قد ارتضت لنفسها أن تشترط على الدول العربية أن تبادر بإعلان استعدادها للتفاوض مع إسرائيل  على أساس أنها ستقبل الاعتراف الكامل بها .. بعد هذا أصبحت الدعوة الى الاعتراف بإسرائيل خطأ رئيسيا في السياسة العربية والدولية لحكومة مصر ، تضع وراءها كل ثقلها وتدافع عن الاعتراف بإسرائيل على كل المنابر الداخلية والعربية والدولية ، ورفض العرب كل العرب هذه الدعوة فكانت القضية والعزلة والانعزال .

 من حسن الحظ أو من سوئه ، تتوقف النتيجة على ما يجري في المستقبل ، أن اتفاقيات كامب ديفيد تجاهلت تماما منظمة التحرير الفلسطينية من حيث هي ثورة ومن حيث هي منظمة سياسية تمثل الشعب الفلسطيني .. " لا " لم تتجاهلها فقط بل استبعدتها أيضا .

تنص اتفاقيات كامب ديفيد تحت عنوان " إطار السلام والشرق الأوسط"  على أنه :

"1 - ينبغي أن تشترك مصر وإسرائيل والأردن وممثلو الشعب الفلسطيني في المفاوضات الخاصة بحل المشكلة الفلسطينية بكل جوانبها " على مراحل تنتهي بإقامة " سلطة حكم ذاتي ـ مجلس إداري ـ في الضفة الغربية وغزة في أسرع وقت ممكن " بعدها تبدأ فترة انتقالية مدتها خمس سنوات في نهاية الخمس سنوات تجري "  المفاوضات بين مصر وإسرائيل والأردن والممثلين المنتخبين لسكان الضفة الغربية وغزة لتحديد الوضع النهائي للضفة الغربية وغزة وعلاقتها مع جيرانها "وإبرام معاهدة سلام بين الأردن وإسرائيل " وتقول الوثيقة : 

ستقرر هذه المفاوضات ضمن أشياء أخرى وضع الحدود وطبيعة ترتيبات الأمن ، ويجب أن يعترف الحل الناتج عن المفاوضات بالحقوق المشروطة للشعب الفلسطيني ومتطلباتهم العادلة ، ماذا كانوا يعنون بالشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة ومتطلباتهم العادلة ؟ لم يترك الصهاينة والأمريكيون فرصة لأحد ليفسر هذه الكلمات كما يريد . فأضافت الوثيقة :
بهذا الأسلوب سيشارك الفلسطينيون في تقرير مستقبلهم لأن (1) ممثلي السكان في الضفة الغربية وغزة سيشتركون في المفاوضات مع مصر وإسرائيل والأردن على الوضع النهائي للضفة الغربية وغزة . ولأن (2) ما يتفقون عليه سيعرض على التصويت من جانب المنتخبين من السكان في الضفة الغربية وغزة . ولأنه (3) ستتاح الفرصة للممثلين المنتخبين عن السكان في الضفة الغربية وغزة لتحديد الكيفية التي سيحكمون بها أنفسهم تنفيذا لاتفاق الحكم الذاتي ، ولأنهم (4) سيشارك ممثلو السكان في الضفة الغربية وغزة في المفاوضات بشأن معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن .

وحتى لا يثور أي لبس فيما تعنيه اتفاقيات كامب ديفيد بالشعب الفلسطيني وما تعنيه بحقوقه المشروعة ، نصت الوثيقة على أنه في خلال فترة الانتقال :

يشكل ممثلو مصر وإسرائيل والأردن وسلطة الحكم الذاتي لجنة لتكون صلاحيتها الموافقة بالإجماع على السماح بعودة الأفراد الذين طردوا من الضفة الغربية وغزة عام 1967 مع اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع الاضطرابات وأوجه التمزق ".

وهكذا استبعدت اتفاقيات كامب ديفيد من دلالة الشعب الفلسطيني الذين تركوا فلسطين قبل 1967 كافة ، والذين تركوها بعد 1967 ولكن لم يطردوا ، والذين طردوا بعد 1967 وترى إسرائيل أن عودتهم تسبب الاضطراب ، وانحصر الأمر في الشعب الفلسطيني المقيم في الضفة الغربية وغزة .

ولقطع سبل التأويل والتفسير نهائيا على ما تعنيه كلمة الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروطة ، ألحقت باتفاقيات كامب ديفيد وأصبحت جزءا لا يتجزأ منها رسالة موجهة من مناحم بيجين الى جيمي كارتر رد عليها الرئيس الأمريكي يوم 22  سبتمبر 1978 برسالة تقول :

" أحيطكم علما بأنكم أبلغتموني بما يلي (أ) أنكم ستفسرون وتفهمون عبارة " الفلسطينيون " أو " الشعب الفلسطيني " الواردة وكل فقرة من وثيقة إطار التسوية المتفق عليها باعتبارها تعنى " عرب فلسطينيون " .. (ب) أن الحكومة الإسرائيلية تفهم وتفسر تعبير " الضفة الغربية " في أي فقرة ترد فيها في وثيقة إطار التسوية على أنه يعنى يهودا والسامرة"..

8 ـ كل شئ يقترب من النهاية ، حكومة مصر اعترفت بإسرائيل وحملت مسئولية الدعوة إلي الاعتراف بها ، والقطيعة الحتمية بين مصر وأمتها العربية كفيلة بأنها تكشف عجز الدول العربية في غيبة مصر . عجزها حتى عن الدفاع عن أمنها الداخلي أو الخارجي ، بقيت الثورة الفلسطينية .

إذا كانت اتفاقيات كامب ديفيد قد استبعدت منظمة التحرير الفلسطينية ، ودعت الدول العربية لبنان والأردن وسوريا للاعتراف ، فإن اعتراف تلك الدول لن ينهي الثورة لأنه ليس حجة عليها ولا هو ملزم بها ، لا بد إذن من إقناع منظمة التحرير الفلسطينية ، بأشد وسائل الإقناع وحشية بالتخلص من هويتها الثورية وقبول الاعتراف بإسرائيل . وحبذا لو أدت تلك الوسائل ذاتها ـ توفيرا للتكلفة ـ الى حمل لبنان ، المشار إليها في اتفاقيات كامب ديفيد على الاعتراف بإسرائيل . حينئذ يمكن دعوة الأردن لتعلب دور المفاوض المشار اليه في كامب ديفيد . أما سوريا فسيأتي دورها حين تجد نفسها وحيدة عاجزة ، وحيدة وعاجزة عن تغير الاتجاه العربي الى الإعتراف . إذن هذا يقتضى أن يكون الاتجاه قويا الى درجة تجرف سوريا أيضا . ويمكن ذلك باتفاق جماعي أو شبه جماعي من الدول العربية على الإعتراف بإسرائيل ولو اعترافا ضمنيا ، الخطوة الأولى مؤتمر عمان حيث يتم الاتفاق على اختيار الحل السلمي والتنازل عن الخيار العسكري ، الخطوة الثانية مبادرة الملك فهد التي تتضمن استعدادا خجولا لاعتراف الضمني بإسرائيل ، الخطوة الأخيرة في مؤتمر فاس حيث تم الاتفاق الصريح على الاعتراف الضمني بإسرائيل .

إلى أن يتم هذا تغزو إسرائيل لبنان بقوة عسكرية معدة لتعرية سوريا فيما لو حاولت التصدي لها . وتحاصر إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية في غرب بيروت وتظل تدك المدينة بكل أنواع الأسلحة مؤجلة اقتحامها من أسبوع الى أسبوع ، هناك كان السد الذي أقيم على طريق الثورة الفلسطينية ولقد كان سدا ماديا أحاط بها من البر والبحر والجو ، وحينما ارتبطت الثورة بالسد تلفتت حولها فوجدت أن كل الأصدقاء والحلفاء والأعداء على المستوى العربي والدولي ينتظرون منها الجواب على السؤال الصعب : ماذا تفعل ؟ ولا يفعلون شيئا . وذهب إليهم عملاء الولايات المتحدة يطلبون منها الإعتراف بإسرائيل فأعطاهم أبو عمار قصاصة ورق ذات صيغة غامضة ، يحاول فيها أن يوهم الجميع بأنه على استعداد ليعطي ما يعرف تماما أنه مطلوب منه : الإعتراف ، وحالت بطولة مقاتلي الثورة وحلفائها من القوى الوطنية اللبنانية والعربية والإسلامية دون إمكان عقد الصفقة خلال الحصار فاكتفت الولايات المتحدة الأمريكية بتجريد مقاتلي الثورة من أسلحتهم وتوزيعهم في عدة دول عربية في مخيمات أخرى من الأسلاك الشائكة أسموها معسكرات ، ثم جاء دور منظمة التحرير الفلسطينية المطلوب استمرار وجودها الى أن تعترف ، فأتيح لها أن تقفز من فوق السد وتخرج من بيوت في حماية الأساطيل والقوات العسكرية الأمريكية وحلفائها .

9 ـ هنا انتهى دور الأدوات  والعملاء والتابعين فتقدمت الولايات المتحدة الأمريكية الى مركز قيادتها الذي مارست منه حقيقة التخطيط لكل ما حدث ، وتوفير وسائل تنفيذه ، تقدمت علنا  لتطلب بنفسها ، لأول مرة في تاريخ الصراع ، أن تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل . قدرت الولايات المتحدة أن ما حدث في بيروت وصابرا وشاتيلا وما حدث قبله كفيل بأن يقنع منظمة التحرير الفلسطينية بالإعتراف بإسرائيل فطلبته فيما عرف بمبادرة ريجان … وبدأت إجراءات تلقي الاعتراف عن طريق الصيغة التي تم الاتفاق عليها في كامب ديفيد ، يتولى الأردن التفاوض والصلح والإعتراف باسرائيل  على وجه يلزم الشعب الفلسطيني إذ ما دخل الشعب الفلسطيني في دولته ، وما يزال العرض مستمرا .

فتطوف بالعالم اليوم دعوة موجهة الى منظمة التحرير الفلسطينية تحرضها على الإعتراف بإسرائيل اعترافا مبادرا أو متزامنا ، وتصاغ الدعوة صيغة مستعجلة ومتوترة في مصر العربية بالذات .

ما هو هذا الإعتراف ولماذا يدعون إليه بمثل هذه الحرارة ولماذا يوجهونه الى منظمة التحرير الفلسطينية وما هي الآثار التي يمكن أن تترتب عليه ؟.

ماهية الإعتراف :

10ـ الإعتراف كلمة مضللة لأنها بذاتها ناقصة الدلالة ولا تكمل دلالتها إلى نسبتها الى موضوع . فهي بذاتها تعنى ـ لغويا ـ الإقرار على النفس ، أما مضمون الإقرار فينتظر تكملة تفصح عنه . وهكذا تؤدى كلمة الإعتراف وظيفة مباحة لأي مضمون ، فالإعتراف قد ينصب على الشئ وقد ينصب على نقيضه ، من هنا يصبح من المجال الموثوق لمعرفة الدلالة الكاملة للإعتراف في مضمونه ، وكلما كان المضمون واضح الدلالة كان الإعتراف واضح الدلالة ، مثلا ، الإعتراف بالحقوق المشروعة لشعب فلسطين جملة تبقى غير ذات دلالة إلى أن نعرف من صاحبها ماذا يعنيه على وجه التحديد بالحقوق ، وبالمشروعة وبالشعب ، وبفلسطين . ثم أن كلمة الإعتراف تضللك من ناحية أخرى حتى لو انصبت على مضمون محدد . ذلك لأنها إقرار على النفس بوجود المضمون ولكنها لا تتضمن تحديدا لموقف صاحبها من المضمون الذي أقر به ، فالإعتراف بوجود إسرائيل كالإعتراف بالأمر الواقع لا يعني موقفا محددا منها رافضا أو قابلا ، فمثلا لا يوجد عربي واحد أو حتى غير عربي ينكر أن إسرائيل موجودة . وهل كانت منظمة التحرير الفلسطينية تقاتل مطاحن الهواء أم كانت تعاني وجودا صهيونيا على أرض فلسطين اسمه إسرائيل ، كذلك لم تكن الدول العربية تحارب عدوا موهوما كما تفعل الجيوش والمناورات العسكرية بل كانت تحارب وجودا عسكريا نشيطا هزمها أكثر من مرة . ولم تكن الأجيال العربية المتعاقبة تعاني من كابوس ثقيل يتلاشى بمجرد اليقظة بل كان القتال العربي كله ، على مدى أجياله المتعاقبة يدفع عدوانا متجسدا في مؤسسة صهيونية يقال لها إسرائيل .

هذا بالإضافة الى أن إسرائيل نفسها لم تترك فرصة واحدة دون أن تنتهزها لتذكير كل عربي بوجودها ولو بأكثر الوسائل قسوة ووحشية .

نحن جميعا ، إذن ، نعترف بإسرائيل بمعنى إننا لا ننكر وجودها ، فما هو الإعتراف الذي يدعوننا إليه . لا بد أن يكون اعترافا بمضمون مختلف عن وجود إسرائيل .

إنه  الإعتراف " بدولة " إسرائيل وهو أمر مختلف تماما عن الإعتراف " بوجود " إسرائيل . ذكر بهذه التفرقة رئيس مجلس الدولة الصيني فيما نشرته الصحف يوم 23 ديسمبر 1982 حينما قال في المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيس جمهورية مصر العربة أن مسالة وجود دولة شئ والإعتراف بهذه الدولة شئ آخر ويخضع لتقديرات أخرى ، ليست هذه حنكة صينية ولكنها بدهية دولية .

11ـ ذلك لأن الاعتراف الذي يعرفه  العالم مصطلح من مصطلحات القانون الدولي العام ، ذلك القانون الذي ينظم العلاقات فيما بين الدول كاملة السيادة . ومن هنا نعرف الشرط الأول للإعتراف وهو أن يكون صادرا عن دولة ومنصبا على دولة ، أي انه يصدر وينصب على ما يسمونه أشخاص القانون الدولي وهي الدول . والدولة كما هو معروف لا تقوم الا بقيام عناصرها الثلاثة : إقليم معين وشعب معين وسلطة تمثل سيادة الشعب على الإقليم ، الشرط الثاني ألا يكون وليد إكراه كما حدث عام 1918 حينما أكره الحلفاء ألمانيا على الإعتراف بتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا لأن الإكراه يبطل الإرادة ، والخضوع له يمس السيادة ،  الشرط الثالث  ألا يكون مشروطا ، بمعنى أن ينصب الإعتراف على الدولة المعترف بها كما هي شعبا وإقليما وسيادة ، فإن جاء مشروطا لا يعد اعترافا وإن اعتبر وعدا بالاعتراف إلي أن تتحقق شروطه . وهذا يعنى تماما ـ في القانون الدولي ـ أن ينصب الاعتراف على الدولة المعترف بها كما تدعي هي لنفسها شعبا أو إقليما أو سيادة .

إذا صدر هذا الإعتراف يرتب عليه القانون الدولي آثارا ملزمة لمن صدر منه الإعتراف ، ذلك لأن الإعتراف لا يلزم الدولة المعترف بها بشئ خاص في مواجهة من اعترف . أهم هذه الآثار شرعية الدولة المعترف بها في مواجهة الدولة المعترفة بحيث لا يجوز للأخيرة أن تنازعها أو أن تنكر عليها سيادة شعبها على إقليمها واستقلاله بهذه السيادة وحقه في ممارستها بالطريقة التي يراها بدون تدخل من خارجه . إن الإعتراف إقرار على الدولة المعترفة نفسها بأن الدولة المعترف بها " دولة " بكل ما تعنيه كلمة الدولة في القانون الدولي من عناصر التكوين وشرعية الوجود . وهو إقرار نهائي . لا يعنى هذا أنه غير قابل للسحب ، ولكن يعنى ان سحبه قد تعتبره الدولة عملا عدوانيا من حقها أن تدفعه بالقوة المشروعة دوليا ، ولكنه على أي حال لا ينتقص من شرعيتها التي تم الإعتراف بها .

وأخيرا  فإن الإعتراف لا يلزم إلا من صدر منه وليس له أية حجية في مواجهة الدول التي لم تعترف أي أنه علاقة ثنائية ، وإن كان يمكن أن يكون علاقة جماعية حين تعترف مجموعة من الدول معا بدولة أخرى ، أو تعترف دولة واحدة بمجموعة من الدول . ولكنها في هذه الصورة الجماعية يبقى ذا حجة بين أطرافه المتعددين ولا يحتج به على من لم يشترك معهم في الاعتراف .

هذا هو الإعتراف الذي يدعون منظمة التحرير الفلسطينية إلى إصداره إقرارا على نفسها بشرعية إسرائيل ، وتطوف دعوته اليوم أرجاء الدنيا ، فهل هو ممكن أم هو مستحيل ؟..

الاعتراف المستحيل :

12 ـ في هذا الموضع من حديثنا نريد أن نثبت أن دعوة منظمة التحرير الفلسطينية الى الإعتراف بإسرائيل هي دعوة الى المستحيل ، ليس المستحيل ماديا ، أي استحالة أن يصدر اعتراف من المنظمة بإسرائيل ، ولكن المستحيل قانونيا ، بمعنى ان القانون الدولي لا يطلب ولا يعتد ولا يرتب أثرا على أي اعتراف بإسرائيل يصدر من منظمة التحرير الفلسطينية .

والأمر واضح .

إذا كان أول شروط الإعتراف أن يصدر من دولة كاملة السيادة ، فإن منظمة التحرير الفلسطينية ليست حكومة في دولة فلسطينية لأن الدولة الفلسطينية مفتقدة ، فلسطين الإقليم تحتله الصهيونية وتقيم عليه مؤسسة تسميها إسرائيل . والشعب الفلسطيني  بعضه لا يقيم على اقليمه والبعض الآخر يقيم على الإقليم المحتل تحت سلطة الصهاينة ، ومنظمة التحرير الفلسطينية لا تمارس أية سلطة تشريعية أو تنفيذية أو قضائية أو إدارية في فلسطين المحتلة لا باسمها ولا باسم الشعب الفلسطيني . إذا ، فالشخص الدولي الفلسطيني ، أي الدولة الفلسطينية ، التي يمكن أن تطالب بالاعتراف ، ويمكن أن يعتد بالاعتراف الصادر منها ، ويمكن أن يرتب القانون الدولي على اعترافها آثارا ، غير موجودة . وبالتالي يتخلف أول شروط الاعتراف . ثم أن الاعتراف الذي يصدر من منظمة التحرير الفلسطينية لا ينشئ الدولة الفلسطينية ولا يقررها ، إذ أن الاعتراف قد ينشئ أو يقرر الدولة المعترف بها ، على خلاف بين مدارس فقه القانون الدولي حول ما إذا كان الإعتراف منشئا أو مقررا ، ولكنه بالإجماع لا ينشئ للمعترف دولة ولا يقر للمعترفين بدولة ، وستبقى دولة فلسطين مفتقدة سواء اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل أم لم تعترف .

ولما كانت الآثار التي تترتب على الإعتراف هي نشء علاقات بين الدولتين المعترفة والمعترف بها ، فإن هذه الآثار لن تتحقق لأن الطرف الفلسطيني غير قائم ، هذا من ناحية ..

ومن ناحية أخرى فإن منظمة التحرير الفلسطينية ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني فيما عهد به الشعب الفلسطيني اليها من مهام ، وقد كانت وما تزال قيادة الشعب لتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني واسترداد الأرض المغتصبة الى شعبها ، في حدود هذا التفويض يصح القول بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني . ويعتد بما يصدر عنها من أعمال أو تصرفات أو اتفاقيات ، ويبطل بطلانا مطلقا كل عمل أو تصرف أو اتفاق يتعلق بواقع أو مستقبل حركة تحرير فلسطين يستبعد منظمة التحرير الفلسطينية أو لا توافق عليه مادام داخلا في نطاق تمثيلها للشعب الفلسطيني .

أما ما يتجاوز حدود التفويض أو يناقض مضمونه فلا صفة لمنظمة التحرير الفلسطينية في إجرائه أو الموافقة عليه .. وإن أجرته أو وافقت عليه فإنها لا تمثل فيه الشعب الفلسطيني على وطنه فلسطين ، تلك السيادة التي يمثل استردادها جوهر معركة التحرير ، فإنه يحق للشعب الفلسطيني أن يجيز ما أجرت المنظمة أو وافقت عليه باسمه ، أما إذا كان التجاوز تخليا عن مهمة التحرير أو تنازلا أو تصالحا أو تفريقا أو استسلاما أو تسليما ينتقص من سيادة الشعب الفلسطيني على أرضه فإن منظمة التحرير الفلسطينية لا تمثل فيه الشعب الفلسطيني على أي وجه بل تخون به الأمانة التي أوكلت اليها ، والخيانة غير مشروعة فلا تحدث أثرا في حق الأصيل . وفي كل الحالات لا تملك منظمة التحرير الفلسطينية أكثر ما يملك الشعب الفلسطيني كما أن الوكيل لا يملك أكثر مما يملك الأصيل .. مستحيل إذا على منظمة التحرير الفلسطينية أن تعترف بإسرائيل لأنها غير مفوضة في الإعتراف ولأن الإعتراف تنازل عن هدف التحرير ، ولأنها لا تملك أكثر مما يملك الشعب الفلسطيني الذي لا يستطيع بذاته أن يعترف بدولة طالما افتقد هو ذاته دولته .

مرة أخرى نقول أننا نعني بالاستحالة الاستحالة القانونية ، أي أن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية ليس مطلوبا وأن صدر فإن القانون الدولي لا يعتد به ولا يرتب عليه أثرا ، وإن كان صدوره ستترتب عليه أثار أخرى لأنه حينئذ لا يكون اعترافا ولكن شيئا آخر يختفي وراء كلمة الإعتراف كما سنرى .

13 ـ حديثنا هذا عن شروط وأحكام الإعتراف والقانون الدولي موجه الى الذين يعترفون بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني . أما الذين ينكرون شرعية وجودها كمنظمة تحرير ويعتبرونها منظمة إرهابية . أو الذين يستبعدونها ويستبعدون الشعب الفلسطيني جملة من ان يكون صاحب قضية ، ويفضلون التعامل مع " سكان الضفة وغزة " كما يقولون أو " يهودا والسامرة " كما يقول الصهاينة ، فهؤلاء جميعا محرومون من أي حق قانوني أو سياسي أو أخلاقي في مخاطبة منظمة التحرير الفلسطينية أو دعوتها  الى الإعتراف أو عدم الاعتراف .

على رأس الذين ينكرون شرعية وجودها كمنظمة تحرير ويعتبرونها منظمة إرهابية الولايات المتحدة الأمريكية . ومن الذين لا ينكرون وجودها ولكن ينكرون شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني بعض الدول الكبرى في أوروبا الغربية . وعلى رأس الذين يستبعدونها الذين أبرموا اتفاقيات كامب ديفيد والتزموا بها والذين وافقوا عليها وأيدوا إبرامها .

ليس لأي من هؤلاء أن يدعو منظمة التحرير الفلسطينية الى الاعتراف بإسرائيل قبل أن يصحح هو موقفه فيعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني ، فإن فعل فإن ألف علامة استفهام تقوم أمام دعوته متسائلة عن البواعث التي تحمله على أن يطلب من منظمة لا يعترف بشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني أن تعترف بشرعية المؤسسة الصهيونية ، إنه تناقض لا بد من حله لمن يريد بدعوته أن يكون طرفا في الحوار ولمن يريد لدعوته أن تكون محل حوار .

ونحن لا نستطيع أن نخفي أننا نكتب هذا وفي ذهننا مثل صارخ للتناقض من موقف حكومة مصر العربية ، فلسنا نغفل عما نتمنى أن يكون دلالة إيجابية للدعوة المتكررة ، الحارة ، المتوترة في بعض الأوقات التي تصدر من القاهرة الى منظمة التحرير الفلسطينية بقصد إقناعها بجدوى الإعتراف المبكر أو المتزامن بإسرائيل . ولقد عرفنا من قبل أن حكومة مصر  العربية أبرمت اتفاقيات كامب ديفيد واعترفت بإسرائيل ووجهت الدعوة بالاعتراف الى ثلاث دول عربية حصرا في صلب الاتفاقيات ذاتها هي : الأردن ولبنان وسوريا ، ثم استبعدت الشعب الفلسطيني ـ غير سكان الضفة الغربية وغزة ـ واستبعدت منظمة التحرير الفلسطينية من أي دور تمثيلي أو تفاوضي أو تقريري له علاقة بقضية فلسطين ، انطلاقا من اتفاقيات كامب ديفيد التي لا تزال تقيد إرادة الحكومة المصرية .. نعتقد ، أو نحب أن نعتقد ، أن مخاطبة حكومة مصر منظمة التحرير الفلسطينية  ولو لدعوتها الى الاعتراف بإسرائيل هي خطوة منطلقة من أسر هذه الاتفاقيات  المشئومة . إنها عودة الى الاعتراف ولو ضمنيا ، بأن منظمة التحرير الفلسطينية ممثل الشعب الفلسطيني تملك صلاحية التعبير عنه ولو كان التعبير اعترافا . لو صح ما نحب أن نعتقد فإنه خطوة ايجابية محدودة في قضية محدودة في زمن محدود ولكنها خطوة على أي حال الى المواقع العربية التي جرمتها اتفاقيات كامب ديفيد ، ان هذا قد يؤكد أمل الذين يرون ويعملون على الخروج بمصر نهائيا من أسر تلك الاتفاقيات التي فرضت على الشعب العربي في مصر فرضا . ولكنه قد يؤكد النقيض تماما قد يؤكد أمل الذين يرون ويعملون على استغلال ثقل تأثير مصر والوطن العربي لجذب مزيد من العرب الى دائرة الالتزام باتفاقيات كامب ديفيد حتى من استبعدوا بها وجردوا من هويتهم الفلسطينية .

التناقض أوضح ما يحتاج الى إيضاح . ولو لم تكن على الحياد لأمن قضية فلسطين ، ولا من الواقع في مصر العربية ، فإننا ندعو مصر العربية إلى أن تحل هذا التناقض حتى لا تكون الدعوة التي تصدر منها محل شك وريبة . وحلها الجذري هو الخروج النهائي من أسر اتفاقيات كامب ديفيد واتفاقية 26 مارس 1979 والعودة الى مركز قيادتها العربي في معارك التحرير من الغزو الصهيوني ، إنه مركز ما يزال شاغرا ينتظرها . فإن كانت حكومتها لا تسمح الآن ، فلتكف من الآن ، والى ان تستطيع ، عن التدخل في القضية الفلسطينية بتوجيه دعوة الى الاعتراف بإسرائيل ، كما كفت عن الاستمرار في الاعتراف في مهزلة التفاوض مع إسرائيل حول ما أسموه الحكم الذاتي لشعب فلسطين في غيبة الشعب الفلسطيني وممثليه الشرعيين  .

14 ـ على أي حال فإن آلاف علامات الاستفهام تتزاحم لتأخذ أماكنها المشروعة أمام كل دعوة موجهة الى منظمة التحرير الفلسطينية للاعتراف بإسرائيل . ذلك لأننا لا نشك لحظة  في أن كل الذين يدعونها الى هذا الاعتراف يعرفون معرفة اليقين أن الاعتراف بمفهومه القانوني والدولي غير مطلوب منها ولا يعتد به أن صدر ولا يحدث أثرا . وبالتالي فإننا على يقين من أنهم جميعا يستعملون كلمة " الإعتراف " ويريدون به أن يحقق أثارا أخرى غير تلك الآثار التي نظمها القانون الدولي ، أي أنه لا بد أن يكون ثمة معنى آخر وآثارا أخرى للاعتراف الذي يدعون اليه . وربما تتعدد المعاني وتتنوع الآثار  من داع الى آخر . ولقد قلنا من قبل أن كلمة الاعتراف مضللة فليس من المستبعد أن تضلل صاحبها ، لهذا علينا أن نكون مستعدين لاكتشاف اختلاف المواقع التي تصدر منها الدعوة الى الاعتراف وأن نبحث عما وراءها في كل موقع على حدة . فقد نجدها صادرة من موقع عداء ، أو من موقع رجاء ، أو حتى من موقع رياء .

وحين تكون الدعوة صادرة من موقع عربي ، دولة أو حزب أو منظمة أو فرد ، فمن الفطنة أن تكون محل بحث قبل أن تكون موضع محاكمة ، فلعل كثيرا من العرب يدعون منظمة التحرير الفلسطينية الى الاعتراف بإسرائيل من موقع الرجاء . حينئذ علينا أن نعرف ما الذي يرجونه من وراء هذه الدعوة ؟ وهل يرجونه لأنفسهم أو لغيرهم ام للشعب العربي الفلسطيني ، أو على الأصح ما الذي يرجوه كل واحد على حدة ، ومن المفيد جدا لقضية تحرير فلسطين أن يكشف كل عربي يدعو منظمة التحرير الفلسطينية عن حقيقة ما يرجوه من وراء الاعتراف ، بدون خجل وبدون احتيال وبدون " فهلوة " أيضا ، ومن الفهلوة التي تحتقر العقل العربي الدعوة الى أن يكون الاعتراف ضمنيا وليس صريحا كما جاء في بعض المبادرات كما يسمونها . لأنه لا فارق في الشروط ولا في الآثار بين الاعتراف الضمني والاعتراف الصريح في حكم القانون الدولي وإنما الفارق في صيغة التعبير عن إرادة الاعتراف .

هذا يعني أننا نكون مطالبين بافتراض حسن النية . والواقع أننا في بعض الحالات نكاد نكون مكرهين على افتراض حسن النية حفاظا على وحدة الثورة الفلسطينية ، فعندما تصدر قيادة إحدى فصائل الثورة الفلسطينية الممثلة في اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي يحتل قائدها مركزا في اللجنة التنفيذية ، تصدر بيانا صارخا تقبل فيه الاعتراف بإسرائيل وتدعو إليه رفاق السلاح تحتاج الى أكبر قدر من شجاعة الصبر لنتذكر أنه لم يأت بعد الوقت الملائم لحديث عن الثورة من الداخل . وأن المرحلة الراهنة هي مرحلة التشبث بمواقف الدفاع عن الثورة ككل ضد ما يأتي من خارجها لينال منها أو يحبط أهدافها التي التزمت أما الشعب العربي الفلسطيني بتحقيقها فأسلمها من أجل التحرير قيادته ، وقدم دماءه الغالية ثمنا لم يقبض مقابله بعد ، أما حين يأتي الوقت الملائم فسيكون لكل حدث حديث .

15 ـ إذا افترضنا حسن النية راضين أو كارهين فإن الذي يغلب على الظن أن يكون الباعث على الدعوة الى الاعتراف بإسرائيل تقييم الاعتراف بأنه خطوة تكتيكية ومرحلية تقتضيها الظروف العربية أو الدولية الراهنة ، ولا تضر بهدف تحرير فلسطين الاستراتيجي ، إذا صح هذا التقييم فإن المثالين الفاشلين وحدهم هم الذين يحرمون الثورة من المقدرة على اتخاذ المواقف التكتيكية التي تفرضها ظروف المرحلة ما دامت لا تتناقض ولا تضر بالهدف الاستراتيجي للثورة . هم الذين ينكرون على الثورة حقها " المطلق " وأن تستفيد في تحديد خطواتها التكتيكية بالمقولة العلمية : أن أول شروط المقدرة على تغيير الواقع هو التعامل معه كما هو . وبالمقولة العلمية بأنه لا يجوز التعامل مع الواقع الجزئي وعزله عن الواقع الكلي ، وبالمقولة العلمية بأن الواقع متحرك أبدا متأثر بغيره مؤثر فيه أبدا متغير أبدا وبالمقولة الحكيمة بأن السياسة هي فن تحقيق الممكن في زمانه ومكانه .. الخ . كل هذا مسلم .

ولكن كيف يمكن التأكد من أن " الإعتراف " التكتيكي لن يضر الهدف الاستراتيجي ؟.

بمعرفة ما هو الهدف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية .. أليس كذلك ؟..
بلى .

المبدأ والإستراتيجية والتكتيك :

16 ـ ليس لهذه الكلامات المهيبة :  المبدأ والاستراتيجية والتكتيك أي معنى إلا إذا كانت منسوبة الى واقع معين ، ومن حسن الحظ أن الواقع المعين في خصوصية فلسطين ليس محل خلاف بين العرب ، فلسطين أرض مغتصبة من الشعب العربي ، فلسطين ليست محتلة أرضا وبشرا كما كان الوضع قبل عام 1948 ، بل فلسطين الأرض اغتصبت واخليت من الشعب العربي إلا قليل واستوطنها الصهاينة الغاصبون وأقاموا عليها دولة أسموها إسرائيل .. إن واقعها قريب الشبه بالواقع الأسترالي والأمريكي بعد إبادة البشر إلا قليل وإقامة مجتمعات ودول من المهاجرين عليها . ينحصر الفرق في أن الشعب العربي لم يُبد ولكنه يحيط بأرضه المغتصبة إحاطة كثيفة يريد استردادها .

هذا هو الواقع من وجهة نظر عربية ولا تختلف الرؤية الصهيونية لهذا الواقع عن الرؤية العربية الا في التقييم . فلسطين أرض اغتصبها العرب من الشعب اليهود منذ الفتح  الإسلامي ، فلسطين لم تكن محتلة أرضا وبشرا قبل 1948 ، بل فلسطين أرض اغتصبت منذ أربعة عشر قرنا واخليت من الشعب اليهودي الا قليل واستوطنها العرب الغاصبون وضموها الى دولة أسموها دولة الخلافة سلمتها للإنجليز . إن واقعها كان قريب الشبه بالواقع الاسترالي والأمريكي بعد إبادة البشر وإقامة مجتمعات ودول من المهاجرين إليها . ينحصر الفرق في أن الشعب اليهودي لم يبد ولكنه تشتت في أقطار الأرض الى أن قادته الحركة الصهيونية الى فلسطين لاستردادها خالية من البشر فاستردها وأقام دولته عليها ، وأسماها إسرائيل .

لا خلاف إذن أن الصراع العربي الصهيوني يدور حول أرض فلسطين لمن تكون . طبيعي أن واقعا متجددا أضيف إلى هذا الواقع غير المختلف عليه نتيجة الصراع ذاته ، فانتصار الصهيونية وإخلاء الأرض أسفر عن طرد أغلبية الشعب العربي من فلسطين فأقاموا حيث أقاموا ويقيمون خارجها وشكلوا بذلك واقعا إنسانيا واقتصاديا واجتماعيا مضافا الى الواقع الأصيل .

وانتصار الصهاينة في إقامة دولة أسفر عن إعتراف كثير من الدول بها وعقد تحالفات مع دول كبرى وغير كبرى تساندها كل بما تستطيع ، وانتصار الصهيونية عسكريا عام 1956 أسفر عن احتلال  سيناء. وانتصار العرب سياسيا عام 1956 أسفر عن استعادة سيناء وفقد المياه الإقليمية في خليج العقبة ، وانتصار الصهيونية في عام 1967 أسفر عن إكمال اغتصاب فلسطين ( الضفة وغزة ) واغتصاب المرتفعات السورية (الجولان ) واحتلال سيناء وانتصار  العرب في 1973 أسفر عن استرداد سيناء ماعدا طابا أرضا والانتقاص من السيادة العربية عليها واعتراف حكومة مصر باسرائيل وهزيمة العرب عام 1982 أسفرت عن احتلال جنوب لبنان .. الخ .

كل هذا حدث وغيره كثير من الأحداث والمتغيرات العسكرية والسياسية والفكرية التي تراكمت على المستويات الفردية والجماعية والدولية ، فلسطينيا وعربيا ودوليا .. نتيجة تطورات الصراع وتطورات ـ الظروف التي يدور فيها على مدى ما يقرب من نصف قرن .

والمطلوب أن نعرف ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي من بين هذا الركام…

17 ـ المبدأ أو ( النظرية ) التي ينطلق منها الصراع هو الذي يحدد الهدف الاستراتيجي ،  تعني الهدف النهائي للصراع . ويتحدد المبدأ الذي يدور حوله الصراع كما هو لا خلاف عليه بين طرفي الصراع : أرض فلسطين لمن تكون ، للعرب أم للصهاينة ؟ الذين يجيبون أو الذين أجابوا على هذا السؤال المبدئ بأن أرض فلسطين للصهاينة يخرجون من حلبة الصراع أو الحوار بدون حديث عن الإستراتيجية أو التكتيك أو يدخلون حلبته ليقوموا بمهمات وأدوار تكتيكية في خدمة الإستراتيجية والصهيونية . هذا بصرف النظر عن أجناسهم أو أديانهم وحتى لو كانوا عربا . أما الذين يجيبون أو الذين أجابوا بأن أرض فلسطين للعرب فأنهم يخرجون من الصراع أو الحوار بدون حاجة من الحديث عن الإستراتيجية أو التكتيك أو يدخلون حلبته فيكون من حقهم المشاركة في الحوار حول الهدف الاستراتيجي للنضال العربي وعلاقة الإعتراف التكتيكي بهذا الهدف .

نريد أن نقول بأكبر قدر من الوضوح أن معرفة ما اذا كان الاعتراف باسرائيل خطوة تكتيكية لا تضر بالهدف الاستراتيجي لمنظمة التحرير الفلسطينية لا يمكن أن تتم الا في نطاق مبدأ ، أو نظرية ، أن أرض فلسطين من حق الشعب العربي .

لماذا نقول هذا ونركز عليه ؟ لأن مع تراكم المتغيرات التي تحولت الى واقع خلال الصراع العربي الصهيوني تحولت كثيرا من الأهداف التكتيكية بالنسبة الى هدف تحرير فلسطين الى أهداف إستراتيجية بالنسبة الى أصحابها . تحرير جنوب لبنان مثلا هدف استراتيجي بالنسبة الى الكتائبيين وهو هدف تكتيكي بالنسبة الى تحرير فلسطين ، تحرير المرتفعات السورية وسيناء هدفان استراتيجيان بالنسبة الى الإقليمين السوريين والمصرين وهدفان تكتيكيان بالنسبة الى هدف تحرير فلسطين . كذلك استرداد غزة والضفة الغربية هدف استراتيجي بالنسبة الى الإقليميين الأردنيين ولكنه هدف تكتيكي بالنسبة الى هدف استرداد فلسطين للشعب العربي الذي قامت الثورة الفلسطينية من أجله .

ولعله مما يوضح هذا الموقف " حركة تحرير فلسطين " ( فتح ) التي تعتبر القوة القائدة الرئيسية في منطقة التحرير الفلسطينية عسكريا وسياسيا ، هذه المنظمة أنشئت ثم بدأت نشاطها الثوري في أول يناير 1965 . في ذلك الوقت لم يكن قد تم احتلال جنوب لبنان أو المرتفعات السورية أو الضفة الغربية أو غزة أو سيناء . نشأت وبدأت الثورة من أجل هدف استراتيجي محدد : استرداد أرض فلسطين التى اغتصبت عام 1948 . على مدى الصراع وساحته تراجعت قواتها الرئيسية ومركز قيادتها من الضفة وغزة الى الأردن بعد 1967 ثم من الأردن الى لبنان بعد 1970 ، من لبنان الى حيث هي الآن  عام 1982 ، كل هذه التراجعات بالنسبة الى هدفها الاستراتيجي تراجعات تكتيكية لأنه لم يحدث أبدا أن استردت فلسطين المحتلة عام 1948 ثم عادت فسلمتها الى الصهاينة ليعيدوا بناء دولة اسرائيل عليها ، كما لم يحدث أن كفت عن النضال منتصرة أو منهزمة متقدمة أو متراجعة من 1965 . وينطبق هذا بشكل عام على منظمة التحرير الفلسطينية ، كان ، وما يزال هدفها الاستراتيجي استرداد كامل أرض فلسطين .

والمفروض ، ولو من قبيل الأمانة مع النفس أن الذين يوجهون الى منظمة التحرير الفلسطينية الدعوة الى الاعتراف باسرائيل " معتقدين " أن الاعتراف خطوة تكتيكية لا تضر بالهدف الاستراتيجي أن يكون اعتقادهم هذا ( صح أو لم يصح ) قائما على نسبة الإعتراف الى الهدف الاستراتيجي لمنظمة التحرير الفلسطينية ، أي استرداده كامل أرض فلسطين من قبضة الصهيونية الغاصبة . أما إذا كانوا يدعونها الى الاعتراف كخطوة تكتيكية الى ما دون هذا من أهداف تعتبر بالنسبة إليهم إستراتيجية مثل الجلاء عن جنوب لبنان ، أو تحرير المرتفعات السورية ، أو تحرير الضفة الغربية وغزة أو ما هو دون ذلك من أهداف يعتبرونها هم أهدافا تكتيكية حتى بالنسبة  الى أهدافهم الإستراتيجية ، مثل كسب الرأي العام العالمي ، أو وضع العالم أمام مسئولياته ، أو الحوار مع أمريكا ، أو السلام في الشرق الأوسط .. الخ ، فليس مطلوبا منهم إلا " الإعتراف " بأنهم يريدون لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تعقد صفقة تبيع فيها هدفها الاستراتيجي في مقابل هدف تكتيكي بالنسبة إليها حتى ولو كان هدفا استراتيجيا بالنسبة الى أصحاب الدعوة . أو ما هو أدهى من هذا ، أن تبيع هدفها الاستراتيجي مقابل هدف تكتيكي بالنسبة إليهم .

إذا لم يعترفوا بهذا فإنها " جريمة احتيال " بالغة الغباء ، إذ الأغبياء وحدهم هم الذين يتصورون أن شعبا له مثل وعي وخبرة وقيادة الشعب العربي الفلسطيني سيبيع جزءا من وطنه مقابل جزء منه ، أو مقابل ـ وهذا هو الاحتيال ـ أن يحققوا أهدافهم الخاصة . 

18 ـ بعد استبعاد " المحتالين " من دائرة الحوار لا نستبعد أن يكون من أصحاب دعوة منظمة التحرير الفلسطينية من ضللته الكلمات فاعتقد صادقا مع نفسه أن اعتراف المنظمة باسرائيل لا يضر بهدفها الاستراتيجي . هؤلاء وحدهم هم الذين قد يكونوا من حقهم دعوة منظمة التحرير الفلسطينية الى الاعتراف باسرائيل ، ويستحقون الحوار معهم حول ما يعتقدونه من أن هذا الاعتراف لا يضر بالهدف الاستراتيجي . مصدر استحقاقهم أنهم ينطلقون من مبدأ أن أرض فلسطين لشعبها العربي وأن الهدف الاستراتيجي هو استردادها كاملة للشعب العربي .

إلى هؤلاء نقول : عندما يتحدد استرداد كامل التراب العربي في فلسطين هدفا استراتيجيا يجب أن تسقط المثالية الفاشلة التي توهم ذاتها بأن ما تريد أن تحققه في الواقع سيتحقق لمجرد إنها تريد أن تحققه . فهنا ، بعد تحديد الهدف الاستراتيجي ، يأتي دور المواقف والخطوات والمراحل التكتيكية ، وليس للمواقف أو الخطوات أو المراحل التكتيكية صيغة معينة سلفا ، أو مضمون محدد من قبل ، تلتزم به الحركة النضالية مقدما وهي في طريقها الى هدفها الاستراتيجي ، التقدم قد يساوي التوقف قد يساوي التراجع قد يساوي الالتفاف في مدى ضرورته لتحقيق الهدف الاستراتيجي الكلمة قد تساوي البندقية ، والمعارك السياسية قد تكون أكثر لزوما من المعارك العسكرية في سباق النضال من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي ، نعني أنه لا يمكن حصر المواقف والخطوات والمراحل التكتيكية التي تترجم الخطوط اللاستراتيجية . تلك الخطوط التي تربط بين " المبدأ " وبين " الهدف الاستراتيجي " ذلك لأنه على المستوى التكتيكي تدور المعارك الفعلية ، الفكرية والحركية ، السلمية والعنيفة ، السياسية والثورية ، المحلية والدولية ، ويلتحم المتصارعون ويتعدد الأطراف بحيث لا يستطيع أي طرف أن ينفرد باتخاذ موقف أو خطوة تكتيكية غير متأثر بالموقف أو المواقف التكتيكية المضادة أو حتى الحليفة ، ولا أن يستعمل سلاحا فكريا أو دعائيا أو سياسيا أو قتاليا بعيد عن قياس مضائه الى مضاء الأسلحة التي يواجهها . باختصار يمثل المستوى التكتيكي المبدأ المرن للمناورة وفيه تتجلى كفاءة المناضلين والقادة ، لا في القتال فقط ، ولكن أيضا في المهارة في مواجهة المواقف الطارئة ، والأفخاخ المنصوبة ، والخدع المموهة ثم الملائمة بين تحركاتهم وتحركات  القوى المضادة ، وتتوقف تلك المهارة الى حد كبير على الإدراك الثابت بأن الهزيمة أو النصر لا يتم قط ، ولم يتم قط على مدى تاريخ الشعوب ، في معركة تكتيكية أو مرحلية . إنما تتم هزيمة طرف حين يتنازل عن هدفه الاستراتيجي أي يستسلم .

وفى تاريخ فلسطين بالذات دليل على ما نقول . فمن قبل هزمت ثورة 1920 و1921 و 1935 و1939 ، وفى 1948 و1967 تخلى الكثيرون من الشعب العربي في فلسطين عن الأرض وغادروها منهزمين ولكنهم لم يلبثوا أن تحولوا خارج الأرض الى منظمات مقاتلة بدأت آخر ثوراتها من اجل تحقيق الهدف الاستراتيجي فثبت أن كل الهزائم السابقة كانت هزائم تكتيكية لم تحل دون العودة الى النضال من جديد .

وفي تاريخ الصراع العربي الصهيوني أدلة كثيرة . لقد هزمت الدول العربية عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 . وهزم الصهاينة عسكريا عام 1973 . وكانت كلها معارك تكتيكية . كانت كل معركة تؤكد السمة التكتيكية للهزيمة في المعركة التي قبلها الى أن أعلنت حكومة مصر العربية أن معركة 1973 هي آخر الحروب ، وكان لا بد لها وقد تنازلت عن خيار الحرب أن تقبل ما تقدم لها بشروطه . فكانت اتفاقية 26 مارس 1979 هزيمة للسادات وحكومته لم يقبلها الشعب العربي في مصر قط .

وفى تاريخ الصراع العالمي . تخلى الروس عن الأرض وحرقوها ودمروها متراجعين أمام نابليون وأمام هتلر ، وتراجعت قوى الحلفاء حتى انحصرت في الجزيرة البريطانية ، وكانت كلها هزائم وتراجعات ومعارك تكتيكية لم تؤثر في انتصار الهدف الاستراتيجي ، لروسيا ضد نابليون وللحلفاء ضد النازية .

إذا ،

فلا حصر لما تستطيع أن تتخذه منظمة التحرير الفلسطينية من مواقف أو خطوات في سبيل الحفاظ أو الإقتراب أو تحقيق هدفها الاستراتيجي ، بل إنها تستطيع أن تتوقف عن النضال أو تحل نفسها معلنة إنتهاء تمثيلها للشعب العربي الفلسطيني وعجزها عن الاستمرار في الكفاح من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي تاركة له حرية اختيار من يمثلوه أو يقودوه في مسيرته المناضلة الى أرضه وسيكون من السهل اعتبار كل هذا خطوات تكتيكية …

إلا الاعتراف بإسرائيل ، اعترافا صريحا أو ضمنيا ، يستحيل أن يكون خطوة تكتيكية .

لماذا ؟

19 ـ لأن الاعتراف بإسرائيل هو إقرار ملزم بأن دولة اسرائيل بكل عناصرها ( الشعب والأرض والسيادة ) دولة مشروعة . وعلى وجه خاص إقرار ملزم للمعترف بأن أرض فلسطين من حق الشعب اليهودي . الإعتراف هنا ليس إقرارا بالهزيمة على مستوى تكتيكي ، ولاحق إقرار بالهزيمة على مستوى استراتيجي ، لا ، ولا هو اعتراف بالأمر الواقع ، بل هو حسم للصراع مع الصهيونية على مستوى المبدأ ذاته .

وأن إدراك هذا لعلى أكبر قدر من الأهمية ، ذلك لأن الاعتراف بأن إسرائيل الصهيونية المدعمة بالولايات المتحدة الأمريكية غير قابلة للهزيمة الى الحد الذي يمكن فيه تصفيتها كدولة واسترداد أرض فلسطين للشعب العربي في هذه المرحلة التاريخية ، أي الاعتراف بالأمر الواقع ، والكف عن محاولة تحرير فلسطين ، يعتبر تخليا عن الهدف الاستراتيجي . ولكنه لا يحول دون العودة الى محاولة تحقيقه في مرحلة تاريخية أخرى تكون الظروف فيها مواتيه أو مشجعة ، مثال هذا اتفاقيات الهدنة التي أبرمت في رودس عام 1948 . 

أما الإعتراف بدولة اسرائيل فهو إقرار ملزم " بالمبدأ " الصهيوني الذي وضعت على أساسه الإستراتيجية الصهيونية منذ قرن والذي ينفذه الصهاينة على مراحل تكتيكية . هذا المبدأ الذي تقوم على أساسه دولة الصهاينة كدستور وتستغني به عن أي دستور هو : أن فلسطين هي أرض اسرائيل . فلا شبيه في أن الاعتراف بدولة اسرائيل هو اعتراف بأن فلسطين هي أرض اسرائيل لا حيلة لأحد في هذا ، ولا يجدي أحدا أن يحاول المقارنة أو القياس في أي حالة اعتراف يعرفها لأنه لا توجد في العالم المعاصر حالة اغتصاب مشابهة لاغتصاب الأرض العربية . لا يوجد صراع ضد استعمار استيطاني إلا في فلسطين ، فلا يجوز القياس في شأن الإعتراف باسرائيل على الإعتراف بأية دولة أخرى .

في جملة واحدة أن الإعتراف بدولة اسرائيل هو اعتراف بشرعية " الصهيونية " فهو موقف صهيوني فإذا تذكرنا أن الصهيونية ليست هي اليهودية بل هي الحركة السياسية التي تلتزم بالمبدأ الذي يقول بأن للشعب اليهودي حقا تاريخيا مشروعا في أرض فلسطين ، وأن بعض اليهود لا يدينون بهذا المبدأ فهم ليسوا صهاينة ولو كانوا يهودا ، وأن من غير اليهود كثيرين يقرون هذا المبدأ فهم صهاينة ولم يكونوا يهودا ، ندرك بوضوح ، ونتمنى أن يدرك أصحاب الدعوة الى الإعتراف بإسرائيل بأن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة اسرائيل اعترافا صريحا أو إعترافا ضمنيا يحولها فورا من منظمة تحرير فلسطينية الى منظمة يهودية ، إذ بمجرد أن يصدر هذا الاعتراف ، صريحا أو ضمنيا تصبح منظمة التحرير الفلسطينية مسلمة بأن أرض فلسطين المقامة عليها دولة اسرائيل هي ملك للشعب اليهودي . هي أرض اسرائيل .

فهل يمكن أن يعتبر هذا الإعتراف " خطوة تكتيكية " لا تضر بهدف التحرير الاستراتيجي ؟ لا نعتقد هذا إذ ليس بعد الاعتراف تكتيك آخر . ولكنه يمكن أن يعتبر خطوة تكتيكية بالنسبة الى الهدف الاستراتيجي الصهيوني . ذلك لأن أرض اسرائيل ، ولينتبه جيدا الذين يلعبون بنار الإعتراف الآن ، التي يعتبر استردادها للشعب اليهودي هدفا استراتيجيا للحركة الصهيونية أوسع بكثير من فلسطين . من الفرات الى النيل كما يقولون هم وكما نعلم نحن . وبمجرد أن تكسب الصهيونية المعركة المبدئية ضد العرب ، بمجرد أن يقر لها بمبدأ الحق التاريخي في أرض فلسطين ستنتقل الصهيونية ، مدعمة بهذا الإعتراف ، الى ميدان المعارك من أجل إكمال استرداد أرض اسرائيل حتى لا يبقى الحق المعترف به منقوصا …

وأخيرا ، فلقد قلنا من قبل أن الإعتراف مصطلح من مصطلحات القانون الدولي ، لا يصدر إلا من دولة ولا ينصب إلا على دولة ، ورأينا أن هذا الاعتراف مستحيل قانونا أن يطلب أو يعتد به إذا صدر من منظمة التحرير الفلسطينية ، ما هو إذا المفهوم الذي يختفي تحت كلمة " الإعتراف " إذا صدر من منظمة التحرير الفلسطينية ؟… إن لم يكن الخيانة فهو الاستسلام . إن الدعوة التي تطوف بالعالم اليوم تدعو منظمة التحرير الفلسطينية الى الاعتراف باسرائيل هي اذن دعوة لها الى الاستسلام او الخيانة وهنا لن تستطيع أن تضلل كلمة الاعتراف أحدا .

المقابل :

20 ـ ما هو المعروض على منظمة التحرير الفلسطينية مقابل اعترافها بدولة اسرائيل ؟ لا يكاد يعثر الباحث عن جواب لهذا السؤال على شئ محدد . فالواقع ما هو معروض على المنظمة هو ما يعتبره أصحابه مكاسب دعائية أو سياسية أو إنشائية . من المكاسب الإنشائية أن المنظمة بهذا الاعتراف . ستضع العالم أمام مسئوليته ، أي عالم ؟ في العالم دول وشعوب لا تقف موقفا لا من اسرائيل ولا من منظمة التحرير الفلسطينية . وأية مسئولية ؟ إن  أية مسئولية  لا بد أن تكون ذات مضمون ، نعني ما الذي يعتبر العالم مسئولا عن تحقيقه إذا ما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل ؟ وإذا أمكن تحديد هذا المضمون فما هي القوة التي ستلزم العالم بالوفاء بهذه المسئولية ؟ وإذا وجدت هذه القوة فما هو الجزاء الذي ستوقعه هذه القوة على العالم اذا لم يوف العالم بمسئوليته ؟ لا يوجد جواب ، ولا يمكن أن يوجد جواب ، على أي من هذه الأسئلة . فالحصيلة جملة إنشائية رنانة التعبير ولكن أين المضمون ؟.

من المكاسب الدعائية براءة المنظمة من تهمة " الإرهاب " وإثبات أنها من أنصار السلام والعاملين عليه في " الشرق الأوسط " وفي العالم أيضا . إن هذا المقابل يستحق أن نقف عنده ونتأمله . ذلك أولا ، لأن الحرب ذاتها عملية وحشية . قد تكون فروسية أو بطولة أو خلودا للقادة التي يديرونها ولكنها مجزرة وغير إنسانية بالنسبة الى المقاتلين العاديين من أبناء الشعب وأمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم وإخوتهم وأبنائهم . وتدبير مخرب لحياة الذين يفلتون من الموت ليعيشوا في الخرائب الإقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تخلفها الحرب . إذا أضيف الى آثار الحرب أن المقاتلين مشردون ينطلقون من غير قاعدة ، ويكرون ويفرون في غير أرضهم ويطاردون من الأعداء والأصدقاء من موقع غير مأمون الى موقع أقل أمنا ، فإننا نكون أمام نموذج غير مسبوق من المعاناة التي عاناها الشعب العربي الفلسطيني . ليس هناك شعب في الأرض في حاجة إلى السلام حاجة شعبنا العربي الذي يولد الأطفال فيه ليعدوا للاستشهاد . من هنا فإن هذا الشعب في غير حاجة الى من يقنعه بضرورة السلام بإضافة سلام الشرق الأوسط أو سلام العالم الى سلامه هو .

هذا أولا ، أما ثانيا فلأن " السلام " هذه الكلمة التي تعبر عن أسمى وأنبل المعاني قد امتهنت حينما اتخذت غطاءا لأبشع أنواع المواقف والمواقع ، فنحن لا ننسى أن اتفاقية 26 مارس 1979 قد أسميت " معاهدة السلام"، ولا ننسى أيضا أننا حينما حملنا مع أكثر من 1500 مواطن وحشرنا في سجن جديد في طريق سبتمبر 1981 فوجئنا بأن الاسم الرسمي لهذا السجن كان " سجن السلام " لهذا لا بد من أن نحذر حينما نستمع الى نداء السلام حتى نعرف ما هو المراد بهذا السلام .

ودليل المعرفة في أيدينا ، فالسلام يعني عدم القتال واعمال العنف نهائيا ، نقول نهائيا لأن توقفها مؤقتا هو هدنة أو تربص ، هذا الانعدام النهائي يتحقق في حالتين ، الأولى عدم اللجوء الى القتال أو العنف أصلا في محاولة فرض إرادة أحد طرفي النزاع ما على الطرف الآخر واختيار الأسلوب السلمي ، أما إذا بدأ القتال واستعمال العنف لفرض إرادة أحد طرفي النزاع على الطرف الآخر وجاء الرد قتالا عنيفا فقد اسقط المعتدي خيار السلام ، ولن يعود السلام " مؤقتا " إلا مناورة أو هدنة ، ولن يعود السلام نهائيا إلا حينما يحسم النزاع باستسلام أحد المتصارعين . أي أن يكون أحدهما قد استطاع بالقتال والعنف فرض إرادته على الطرف الآخر . حينئذ يسود السلام نهائيا ولا يحول هذا دون العودة  الى الأسلوب السلمي، ولكنه في هذه الحالة ، أي بعد الاستسلام في معارك العنف ، يكون الطرف الذي استسلم مجردا من أهم أسباب الانتصار سياسيا وأكثرها حسما في المعارك السلمية ، ونعني به حق العودة الى القتال والمقدرة عليه ، تلك المقدرة التي تتيح للأساليب السياسية فرصتها الحقيقية في أن تكون مجدية عندما تمارس في ظل قتال مستمر كما حدث في ثورة الجزائر وثورة فيتنام .

اذا صح هذا ، وهو عندنا صحيح ، فما هو نوع السلام الذي يراد من منظمة التحرير الفلسطينية أن تثبت اختيارها له بالاعتراف بإسرائيل لتحظى بالبراءة من تهمة " الإرهاب " التي تسندها إليها الإدارة الأمريكية ، ولتسهم به في سلام الشرق الأوسط ، أو في السلام العالمي ؟.

أنه ليس توقفا عن القتال واستعمال العنف ، الواقع أن هذا مستحيل حتى ولو اختارته المنظمة لأن المجرمين الصهاينة لن يكفوا عن استعمال العنف والقتال ضد الشعب العربي ، ولن تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية ولا أية منظمة في العالم أن تجرد الناس من حق الدفاع عن النفس الذي يكاد يكون حقا غريزيا . وليس هو التوقف المؤقت عن القتال واستعمال العنف لإعطاء الفرصة للأساليب السياسية . فالواقع أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تترك أية فرصة للأساليب السياسية بدون أن تنتهزها ، بل وفي أكثر من مرة أعلنت " الهدنة " من جانب واحد في القتال في جنوب لبنان فكانت النتيجة غزوا مدمرا لجنوب لبنان وتجريدا للمنظمة من أسلحتها الثقيلة والمتوسطة وطردا لها بالقوة والعنف والقتال المتوحش من قاعدتها في غرب بيروت . وأعتقد أن المنظمة كانت حتى مذبحة صابرا وشاتيلا على استعداد لقبول هدنة محدودة المدة لتعطى كل دعاة الحل السلمي وكل أدعيائه فرصة تجربة أساليبهم .

لا . المطلوب من منظمة التحرير الفلسطينية أن توقف القتال واستعمال العنف نهائيا . أن تستسلم . ألم تر كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية تطلب منها أن تغير نصوص ميثاقها الثوري لتتنازل كتابة وتصدق جماعيا على إسقاط هدف تحرير فلسطين ، ثم ها هي  مدعوة الى الاعتراف الذي عرفنا أنه حسم للصراع على مستوى المبدأ . وبه تصبح أية محاولة عودة الى القتال من جانب منظمة التحرير الفلسطينية أو أي فصيلة منها وافقت على الإعتراف محاولة إرهابية مجردة من الحق والشرعية تقف ضدها كل القوى ، حتى التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية .

نعم ، لو اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية " قد " يحتويها السلام ولكن كما تحتوى القبور الجثث ، وليس ثمة سلام أكثر استقرارا من سلام الموتى . نقول " قد " لأن منظمة التحرير الفلسطينية ليست صاحبة الكلمة النهائية في الخيار بين القتال والاستسلام . وأعتقد أن قادة المنظمة يعرفون تماما أن السلم مع اسرائيل لا ينهي القتال والعنف ولا يوقف نزيف الدم بل ينقله الى ساحة أو ساحات  أخرى ، وإلا فما الذي سيفعله الطلائع الذين ربتهم الثورة وتعدهم للقتال وما الذي ستفعله الكوادر التي  رافقت الشهداء في المعارك الضارية ، لا أحد يستطيع أن يشك جديا في أن إيقاف القتال والعنف ضد العدو الصهيوني سيؤدى مباشرة الى حرب أهلية في الشعب العربي الفلسطيني قد تمتد نيرانها فتلهب الوطن العربي كله .

ثم أن السلام في الشرق الأوسط مستقر والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، مستقر استسلاما أو مستقر عجزا أو مستقر جبنا .

ثم أن السلام العالمي لا يقوم إلا بتصفية الاعتداء وتجريد المعتدين من المقدرة على استعمال العنف لفرض إرادتهم على محبي السلام ، نعني أن ردع وتصفية قوى العدوان هو أول خطوة الى السلام العالمي . إن هذا العالم المخادع الذي يريد من العرب أن يدفعوا ثمن سلامة أمن أرضهم كان قد أنشأ محكمة دولية عسكرية لمحاكمة من أسماهم مجرمي الحرب من النازيين ، وحاكمهم في ثورمبرج وأعدم من أعدم وسجن من سجن (1945 - 1946 ) طبقا لقانون أصدره ، تقول الفقرة 3 من المادة 6 من ذاك القانون أنه تعتبر جريمة ضد الإنسانية تستحق العقاب الدولي حتى الموت والقتل والتعذيب والاستعباد والتشريد والتصرفات غير الإنسانية التي تقع ضد أي شعب مدني ، وقبل أن يمضي عامان على محاكمتهم طبقا لقانونهم كانت القوى الصهيونية تقتل وتعذب وتستبعد وتشرد الشعب العربي من فلسطين فأعترف بها هذا العالم ، الذي يؤتى الآن ليطلب من المعتدى عليهم ضحايا الجرائم الدولية الإعتراف " بشرعية " تلك الشرائع ذاتها وتبرئة المجرمين .. من أجل السلام .

ثم هذا العالم المنافق قد اجتمع ممثلوه في الجمعية العامة للأمم المتحدة وأصدروا اتفاقية دولية يوم 9 ديسمبر 1948 لمنع جرائم إبادة الجنس البشرى والعقاب عليها . وحددوا من بين جرائم إبادة الجنس البشرى المادتين 2 من الإتفاقية .." التسبب في إيقاع أضرار جسدية أو ذهنية جدية في أفراد مجموعة بشرية أو فرض ظروف معيشة تؤدي بهم الى الدمار كليا أو جزئيا " صدرت هذه الاتفاقية بينما كانت إبادة الشعب العربي في فلسطين قائمة على قدم وساق . وكان هو ـ هذا العالم ـ يتبارى في الإعتراف بدولة الصهاينة المجرمين . ويريد العالم أن يعترف الشعب العربي الفلسطيني " بشرعية " إبادته ..

إن كل عربي يقول " نعم " للسلام العالمي حين يقول " لا " للاغتصاب والعدوان ، وألف لا للاعتراف بشرعية اغتصاب أرض فلسطين وتشريد وإبادة شعبها العربي ، وسواء أعجب هذا الموقف المتاجرين بالسلام من المستسلمين أو المخادعين أو المنافقين أم لم يعجبهم ، فإننا نقول ، وسيثبت التاريخ صحة ما نقول ، أن ثورة الشعب العربي من أجل تحرير فلسطين وتصفية الصهيونية العنصرية هي أول ثورة في التاريخ تقوم وتقدم ضحاياها من أجل السلام العالمي . وحين تستطيع أن تجرد المؤسسة الصهيونية من المقدرة على تهديد السلام في فلسطين والشرق العربي تكون قد حققت السلام العالمي أكثر بكثير من هيئة الأمم المتحدة ذاتها .

21 ـ وأخيرا وليس آخرا يتحدثون عن مكاسب سياسية هائلة تتمثل في قبول الولايات المتحدة الأمريكية الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية أو الإعتراف بها إن اعترفت المنظمة بإسرائيل . هذه الولايات المتحدة الأمريكية التي لا ينكر حتى عملاؤها والمتعاملون معها أنها المسئولة الأولى عن إقامة دولة اسرائيل على الأرض العربية وفلسطين وعن تشريد العرب من أرضهم وعن بقاء اسرائيل " حية " حتى اليوم بما تقدمه اليها من غذاء مالي واقتصادي وعسكري ، وأنها ، أي الولايات المتحدة الأمريكية ـ هي التي تحول دون هزيمة اسرائيل هزيمة تسحقها لو تركت لقواتها الذاتية . وأنها ـ أي الولايات المتحدة الأمريكية ـ هي التي وضعت تحت تصرف اسرائيل  القوة الدولية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والبشرية التي مكنتها من أن تهزم الدول العربية عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 وتصد هجومها عام 1973 وتفتح الثغرة غرب القناة وتعود الى المرتفعات السورية ، وهى التي خططت ودعمت ما نفذته اسرائيل من غزو جنوب لبنان ومن حصار لبيروت وتدمير لها ، وهى  التي زودت اسرائيل بالقوة الراجحة التي حالت دون النجدة العربية، وهى التي فرضت هيمنتها على أغلب الدول العربية من خلال علاقات تبعية واضحة أو خفية فبقيت " تتفرج " على الغزو والحصار والتدمير والقتل والتعذيب بدون أن ترفع إصبعا ، ولو من باب الشهامة ، للدفاع عن الشعب العربي في لبنان وقواته المقاتلة . والولايات  المتحدة هي التي حولت اسرائيل منذ عام 1973 الى ترسانة من أسلحة معقدة ومتطورة أخذتها لا من الفائض الأمريكي بل من مخازن القوات المسلحة الأمريكية ذاتها وأخلت بها إخلالا جسيما بموازين القوى العسكرية في الصراع العربي الصهيوني ، وهى التي تقدم الى اسرائيل الدعم المالي والاقتصادي والفني والدولي لبناء المستعمرات في الأرض المحتلة منذ 1967 وتعوق المجهودات الدولية التي تحاول إيقاف العدوان عند حد أو إنصاف المعتدى عليهم في أدنى الحدود وذلك باستعمالها " الفاجر " لحق الفيتو ..

إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي قيل أنها تملك 99% من اوراق اللعبة وقيل 100% ، لا بالمعنى الذي أراده القائلون ولكن بمعنى أنها تحمل 99% أو 100% من المسئولية .. عن اغتصاب فلسطين وتشريد الشعب العربي منها ، فهي العدو الأول للشعب العربي منها ، فهي العدو الأول للشعب العربي في نضاله من أجل التحرر من التبعية وتحرير الأرض المغتصبة ، والمسئول الأول عن كل قطرة دم عربية أريقت في معارك تحرير الأرض العربية .

عندما بادرت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الى الاعتراف بإسرائيل ، كانت طرفا رئيسيا في معاهدتين دوليتين أبرمتهما عشرون دولة . الأولى معاهدة " لاما " والثانية معاهدة " مونتفيديو " وفي كل من المعاهدتين نص يقول أن المتعاقدين يقررون بحسم وكمبدأ سلوك كل منهم التزامهم الدقيق بعدم الاعتراف بالاستيلاء على أية أراض أو أية مكاسب إقليمية عن طريق القوة .. ومع ذلك لم تتردد لحظة في تسليح المجرمين وتمكينهم من إنجاز اغتصاب فلسطين ثم الاعتراف بدولتهم وحمايتها وجرّت وراءها كل المتعاهدين .

إن العقبة الحقيقية في سبيل الحوار المجدي مع الولايات المتحدة الأمريكية أنها هي العدو الأول وما اسرائيل الا كلب الحراسة الذي تشحذ أنيابه ليتولى حراسة مصالحها في الوطن العربي ، فما الذي يمكن أن يؤدى إليه الحوار مع العدو ـ أي عدو ـ إلا التشكيك في الحق وإضعاف الروح المعنوية والقتالية لدى الشعب ، وهي جريمة تعاقب عليها كل الدول بالإعدام ، سنرى فيما بعد كيف يجب أن يكون التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية من حيث هي العدو ، ونكتفي الآن بمحاورة الذين يتوهمون أن الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية يحقق لمنظمة التحرير الفلسطينية مكسبا كبيرا أو صغيرا .

لقد قلنا أن العقبة الحقيقية أمام جدوى الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية أنها العدو الأول ونعرف أن كثيرا من الدول العربية لا تعجبها هذه الصيغ الجدية في التعبير عن الواقع ويفضلون ـ " الاعتدال " ..
فليكن .. فنحن نريد أن نساعد " المعتدلين " حتى يعتدلوا ..

ما هي الولايات المتحدة الأمريكية التي تهمنا ؟..

أنها ليست تلك الرقعة الفسيحة من الأرض الغنية التي تتوسط القارة الأمريكية وليس ذلك الخليط الغريب من الأجناس والشعوب والأديان والألوان ونفايات الحضارات التي حملها المهاجرين الى تلك البقعة وأقاموا من خليطها دولة . وليست ذلك الثراء الباذخ والتقدم العلمي الكبير والمقدرة العسكرية المخيفة .. وليست الولايات المتحدة هي الكونجرس ولا الإدارة الأمريكية ولا الرئيس أيا كان رئيس الولايات المتحدة ، كل هذه العناصر المادية والبشرية التي تكون معا ما يسمى  الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تهمنا ـ نحن العرب ـ في شئ أو كان يمكن الا تهمنا في شئ .. فليس في أي من هذه العناصر ما يحمل الولايات المتحدة الأمريكية على الإعتداء على أرضنا  أو على شعبنا أو يحملنا على العداوة لها ..
  
إنما عدونا الذي اعتدى علينا ولم يزل هو الولايات المتحدة " النظام " ومصدر العلاقة بين الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية هو ذلك "النظام " ولا تقوم اسرائيل بدور كلب الحراسة حماية لأي أمريكي ولكن حماية لذلك " النظام " إنه النظام الامبريالي ، نعني النظام الرأسمالي الذي أصبح إمبراطورية تشمل أغلب أقطار الأرض والذي تقوم الولايات المتحدة الاميركية  بدور القيادة فيه أخيرا بعد انجلترا وبعد ألمانيا من قبل، فتبع كلب الحراسة " اسرائيل " قيادته من ألمانيا الى انجلترا الى أمريكا .

قالوا لنا ألف مرة ، ويقولون بدون ملل ، لنكن واقعيين ولندع جانبا الأفكار المجردة ولنسقط الشعارات الرنانة ولنكف عن المزايدات ، لبيهم . فلنكن جميعا واقعيين ولنتعامل مع الواقع كما هو قبل أن يحدد كل منا موقعه من هذا الواقع . والسؤال الذي نشترك في طرحه والإجابة عليه هو : ما هو القانون الأساسي للنظام في الولايات المتحدة الأمريكية ؟ نبسط السؤال : مع ترك هامش للاختيارات الإنسانية والمعنوية ، ما هو العالم الذي يحدد ، في التحليل الأخير ، موقف الولايات المتحدة الأمريكية من أية قضية ؟.. إنه  " الربح " لسنا نحن الذين نقول هذا بل  علم " الاقتصاد السياسي " الذي تبلغ واقعيته وبروده ، حد تجاهل المبادئ الإنسانية والأخلاقية والدينية . وما دولة الولايات المتحدة الأمريكية من أو رئيسها الى آخر " مرمطون " في مطابخ قواتها المسلحة إلا أدوات لفتح وتوسيع وحماية الأسواق أمام النشاط الرأسمالي العالمي الذي يطلقون عليه الإمبريالية . وما كان " المعتدلون " العرب أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية لوحدة " المزاج " بينهم وبينها ، ولكن لأنهم شركاء  معها أو تابعين في نشاطات اقتصادية ومالية تحقق للولايات المتحدة الأمريكية أرباحا أو مزيدا من الأرباح وتحقق لهم " فوائد " ربوية هائلة جزاء إيداع فائض أموالهم في البنوك الأمريكية أو ـ وهذا باعث جديد ـ لأنهم عاجزون عن إدارة اقتصاد دولهم إدارة  ناجحة فوضعوه تحت تصرف الولايات المتحدة الأمريكية  لعلها أن تنمي نصيبهم منه في مقابل أن تأخذ منه نصيبها . فكلهم بدرجة أو بأخرى ، أدوات كبيرة أو صغيرة في ذلك الجهاز العدواني الذي وضع الولايات المتحدة الأمريكية في موقع العداء لمصير شعبنا .. وكلهم مضطرون الى " الإعتداء " لتغطية الانحياز ومن يحاول أن يمثل الى حيث قومه يجر الى موقع الاعتدال من أمعاء شعبه التي تقبض عليها اليد الامريكية . وهكذا ـ ظلت بعض الأمزجة العربية "معتدلة " حتى وهي ترى رأى العين على شاشات التلفزيون مذابح صابرا وشاتيلا ، وهي تسمع سماع الأذن استغاثة العزل من الرجال والنساء والأطفال وهم يمزقون تمزيقا .

في هذا الواقع أن " الربح " هو الذي يحدد الموقف الأمريكي ، ما هي جدوى حوار تجربه منظمة التحرير الفلسطينية مع الولايات المتحدة الأمريكية ؟ ما هي مصادر الأرباح  التي يمكن لشعب مشرد ومقاتلين متفرقين في الأرض ومنظمة أفقر من شركة امريكية أن يقدموها الى الولايات المتحدة الأمريكية ؟ .. لا شئ .. لا .. هناك شئ هام جدا للولايات المتحدة الامريكية من حيث هو مصدر ربح ، إنه الاستقرار للوطن العربي . الهدوء . أي المساهمة عن طريق امتناع عن الفعل في حماية وتنمية مصادر الربح الأمريكي في الوطن العربي .  كيف يمكن هذا ؟ بأن تخمد الثورة الفلسطينية ، وتتلاشى منظمة التحرير الفلسطينية ، بأن يتنازل الشعب عن وطنه لتمكين الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها وعملائها من تحقيق أكبر قدر من الأرباح بهدوء .

من يشك في هذا عليه أن يتذكر التبرير الذي قدمته الولايات المتحدة الأمريكية وما تزال تقدمه لرفض " توسلات " أصدقائها في الوطن العربي بأن تسمح بإقامة دولة فلسطينية على الضفة الغربية وغزة .. إنها لم ترفض لأن الضفة الغربية وغزة ليست أرضا فلسطينية ، ولا لأن الشعب العربي الفلسطيني غير موجود ، ولا حتى لأن ليس له حق تقرير مصيره .. إنما ترفض لسبب وحيد تكرره دائما : أن هذه الدولة الفلسطينية حين تقوم يرجح أن تكون اشتراكية أو على علاقة بالدول الاشتراكية وبالتالي فستكون بؤرة تنطلق منها مخاطر الاشتراكية التي تهدد المصالح المربحة ربحا خرافيا للولايات المتحدة في الوطن العربي ، وليتصور من يريد كيف أن دولة تستغل نصف الكرة الأرضية وثلاثة أرباع البشر فيها للحصول على الأرباح ، تحرم شعبا من تقرير مصيره لأنه " قد " يهدد جزءا من أسواق تجارتها . حينئذ سيعرف من لم يعرف ما هو جوهر الواقعية والاعتدال في الوطن العربي . سيعرفون أن وراء الاعتدال " مشاركة واقعية " واستغلال الوطن العربي أرضا وبشرا .

من مواقع هذه المشاركة الواقعية تنطلق الدعوة الى منظمة التحرير الفلسطينية تطلب إليها أن تعترف بإسرائيل حتى تقبل الولايات المتحدة الأمريكية الحوار معها . ويحاولون إقناع غيرهم بأن في هذا الحوار ستستطيع كمنظمة التحرير الفلسطينية أن تقنع الولايات المتحدة الأمريكية،  لا أدرى كيف بأن أبدا أبد ا لن يعتنق فلسطيني واحد في دولة فلسطين المبادئ الاشتراكية ، وأنهم يضمنون من الآن ، لا أدرى كيف ، أن الأجيال القائمة والقادمة ستكون أجيالا مغلقة العقل دون الاشتراكية مشلولة المقدرة على التطور الاجتماعي .. وقد يقبل السيد ريجان حينئذ أن يسمح بقيام دولة فلسطينية بدلا من حشر الشعب الفلسطيني والضفة وغزة في " خيمة " الأردن .

فأين هذه المكاسب التي ستجنيها منظمة التحرير الفلسطينية ؟.

أن تصبح حكومة في دولة فلسطينية ؟

مستحيل ؟.

22 ـ إن الحكومة القادمة في الدولة الفلسطينية سيختارها الشعب العربي الفلسطيني ، وليس هناك أدنى شك في أن الشعب سيختار لحكومته من ترشحهم منظمة التحرير الفلسطينية لو قامت الثورة الفلسطينية كثمرة لانتصار ولو جزئي تحررت به أرض ولو في حدود مدينة . إن اختيار مرشحي المنظمة في هذه الحالة ليشكلوا أول حكومة هو تجديد للثقة بالمنتصرين . ولكن لنفرض العكس ، قامت الدولة الفلسطينية كثمرة حوار مقنع مع الولايات المتحدة الأمريكية ، تتجاهل مؤقتا الموقف الإسرائيلي وكانت قوة الإقناع فيه مستمدة من اعتراف المنظمة بدولة اسرائيل ، ذلك  الاعتراف الذي عرفنا أنه موقف صهيوني ، ثم جاء وقت اختيار الشعب لحكومته الأولى . كيف سيختار هذا الشعب الذي عانى طويلا حكاما له وممن قادوه نحو عشرون عاما من مكان الى مكان ألى أماكن ، واقتحموا به معارك الفشل والقتال والتشريد والعقاب والعذاب وقدموا من أبنائه عشرات الألوف  ضحايا في معارك وحشية ، وأصابوا الأمهات بالثكل والزوجات بالترمل والأطفال باليتم من أجل وعد ، وثق به الشعب ، بتحرير فلسطين المغتصبة ، ثم جاءوا في نهاية المطاف " يعترفون " بإن فلسطين المغتصبة من حق الصهاينة وأن ليس للعرب حق فيها ، وأن كل التضحيات قد ذهبت هدرا نتيجة " خطأ " في معرفة لمن الأرض ؟ كيف يثق الشعب في وعود حكومة لم يصدق أفرادها وعودهم من قبل .

مستحيل .

فأين هي المكاسب التي ستجنيها منظمة التحرير الفلسطينية ؟.
أن تكسب للشعب العربي الفلسطيني دولة ؟

الدولة الموعودة :

23 ـ الشعب العربي الفلسطيني مشرد في الأرض ، مطارد في الوطن العربي ، يعاني أهوال الإذلال والبطش في الضفة وغزة ، يعامل معاملة المواطن من الدرجة الثالثة في فلسطين المغتصبة ، الشعب العربي الفلسطيني أجهده العذاب المتصل ، استنزفت دمه المعارك غير المتكافئة ، الأرض العربية والضفة وغزة " يهودونا " يقيمون عليها المستوطنات ، يزرعون فيها البشر ، لا بد من إيقاف المعاناة ، لا بد من جمع المشردين ، لا بد من إنقاذ الأرض … لا بد من دولة فلسطينية في الضفة وغزة .

وتكاد تنفطر قلوبنا ألما وحسرة ، وتكاد تجف دماؤنا خزيا وعارا ، لأن الأمور قد وصلت بشعبنا العربي وبأرضنا العربية الى ما يقولون . وما يقولونه صحيح .

" نعم " إذا لدولة فلسطينية .نعم لدولة فلسطينية في الضفة وغزة . نعم لدولة فلسطينية ولو في مدينة . نعم لأية دولة فلسطينية على أي قطعة من فلسطين بدون شروط . لا يوجد عربي واحد يبلغ به الغباء أو الغرور أو البلاهة حد اشتراطه شروطا لقيام دولة فلسطينية. سمعت من قائد مرموق في قمة منظمة  التحرير الفلسطينية أن صحب أبا عمار في الحج إلى بيت الله ، أو العمرة ، لا أذكر أيهما ، وهناك رأى أبا عمار يتشبث بستار الكعبة يشدها ويصرخ مستغيثا : دولة فلسطينية يا رب .. بعدها عاد الى جنوب لبنان ليستأنف تشبثه بالبندقية . إلى هذا الحد لا يريد الشعب العربي الفلسطيني إلا دولة .. يدعو لها دعاء المتضرعين ويقاتل من أجلها قتال المجاهدين . ويقبلها أينما تكون على أرض فلسطين ولا يعنيه في شئ كيف تقوم ولو قامت بمساعدة الأمريكيين .

ولكن ، أيها الناس ، لم يعرض أحد على منظمة التحرير الفلسطينية "دولة " ولم يسمح أحد لمنظمة التحرير الفلسطينية بأن تقيم دولة . المعروض على منظمة التحرير الفلسطينية أن تعترف بإسرائيل فترضى عنها الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد تحاورها ، وقد تعدها بدولة فلسطينية . المؤكد من كل هذا أنه معروض على منظمة التحرير الفلسطينية أن تعترف بإسرائيل . أما الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية فوعد غير موثوق . وأما موضوع الحوار فغير معروف . وأما ما يسفر عن الحوار ففي عالم الغيب . وأما الذي يقطع الألسنة ، أو ما يجب أن يقطعها ، فهو إعلان الولايات المتحدة المتكرر بأنها لن تقبل قيام دولة فلسطينية أبدا .

المعروض على منظمة التحرير الفلسطينية أن تقسم فلسطين والشعب العربي الفلسطيني أرضا وبشرا ، بعضه في دولة الأردن وبعضه في دولة إسرائيل ، هذا هو العرض الأمريكي . أما الطرف الصهيوني فيقدم عرضين : العرض الأول هو عرض كامب ديفيد ، حكم ذاتي إداري في الضفة الغربية وغزة يساهم فيها سكان تحت السيادة الإسرائيلية على الأرض والبشر معا ، والعرض الثاني تطرحه المعارضة في إسرائيل : السكان في الضفة وغزة تحت سلطة الحكم الإداري الأردني . الأرض تحت السلطة العسكرية الإسرائيلية ، ومجردة من السلاح ومفتوحة الأبواب ، أما العرض " الأوروبي " فهو أحسن صورة دولة فلسطينية منزوعة السلاح لمصلحة إسرائيل ، التي من حقها عقد اتفاق صهيوني يضمن أمنها ضد أي اتجاه معاد لإسرائيل فكريا أو حركيا أو قتاليا .

فأين هي الدولة الفلسطينية في كل هذه العروض ؟.

24 ـ إن كل الذين يقدمون عروضهم " بدولة فلسطينية " موعودة مقابل الاعتراف بإسرائيل يعلمون علم اليقين أنه لا توجد مؤسسة تستحق اسم "الدولة " إلا اذا كانت كاملة السيادة ، سيادة شعبها على أرضها واستقلاله بالأرض دون غيره كاملة السيادة في أن تقيم سلطتها الوطنية بالطريقة التي يرتضيها الشعب بدون تدخل . كاملة السيادة في أن تصوغ الحياة فيها طبقا لما يحقق مصالح شعبها كما يراها شعبها . كاملة السيادة في أن تدافع عن إقليمها ضد أي اعتداء يقع عليه بكل ما تملك من قوة وبدون قيود . كاملة السيادة في ان تنشئ أو تعدل أو تلغي أية علاقة مع دولة أخرى طبقا لما تراه محققا لمصالح شعبها ، كاملة السيادة في أن تعبر عن إرادة شعبها وتنفذ هذه الإرادة بدون إكراه . 

وكلهم يعرفون معرفة اليقين أن أية مؤسسة تفقد سيادتها جزئيا أو كليا، ليست دولة ولو قامت فيها حكومة تحكم شعبا مقيما على أرض ، إنها بمعنى أو بآخر مستعمرة . وشعبها بمعنى أو بآخر مستعمر ، وحكومتها بمعنى أو بآخر عميله تطيع مكرهة أو راضية ما يصدر إليها من أوامر أو وصايا أو نصائح من خارجها .

فلماذا يطلقون على عروضهم اسم " دولة " وهم يعلمون تماما أنها أيا كانت منقوصة السيادة أو فاقدتها ، ولماذا يبشرون الشعب العربي المشرد الذي  يعاني ، الذي يقاتل ، بهذه المؤسسة التي سيعيش فيها منقوص الحرية أو فاقدها . إن كل الفلسطينيين ، في أي مكان كانوا الآن خارج الأرض المحتلة أكثر حرية مما سيكونون في هذه المؤسسة التي يسمونها دولة إنهم سيكونون دولة فيها على مستوى الذين يحملون على أكتافهم الآن أثقال الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين المغتصبة ، أنها ستكون " استادا " كبيرا مثل " استاد " بيروت الذي تجمع فيه المقاتلون منزوعي السلاح ، كل ما في الأمر أنهم لن يغادروه الى حيث يعوضون ما فقدوه من مقدرة على القتال ، بل سيحاصرون فيه ليبقوا منزوعي السلاح تحت الحراسة الإسرائيلية والأردنية أو ربما تحت الحراسة الدولية .

25 ـ ومع ذلك فلنتأمل الفجر الفاجر الذي لا مثيل له في التاريخ ، الوعد هو : اعترفوا بإسرائيل تكن لكم دولة ، ولكنكم أيها الناس تعرفون تماما أنه لا بد لنا من دولة لتكون لنا صلاحية الاعتراف ، وأن فرض الإعتراف على الدولة ، أية دولة ، هو اعتداء على سيادتها يجردها من أن تكون دولة فيفقد اعترافها أية قيمة .

ثم يقال أن الإعتراف يخرج منظمة التحرير من مأزقها الذي دخلته بعد أن خرجت من بيروت ، مع أنه لم يحدث في التاريخ أن دعي شعب الى مأزق مثل مأزق الإعتراف . على الأقل لأن كل المأزق لها مخارج ظاهرة أو خفية ، أما مأزق الاعتراف فهو مقبرة منظمة التحرير الفلسطينية التي لا تخرج منها .

البديل :

26 ـ يقال وما البديل ؟… أصبحت " مودة " في الوطن العربي منذ كامب ديفيد ، أن يكون البديل الجاهز عن الحجة المفتقدة هو القول : وما البديل ؟ هذا خطأ ، ما البديل ؟ هذا استسلام . ما البديل ؟ هذه خيانة . ما البديل ؟ .. لا للإعتراف . ما البديل ؟. أليس من حق الناس أن تفهم أن هذا السؤال عن البديل قد سبقه في ضمير السائل اعتراف بأن "الإعتراف" استسلام وخيانة ؟ بلى ، إلا عند السفسطائيين الذين يجردون الألفاظ من معانيها ثم يتقاذفونها كالمعلبات الفارغة .

مهما كانت الظواهر لا نحب أن نتهم عربيا صادق الحيرة في البحث عن بديل وهو يدرك من ذات نفسه أن دعوة منظمة التحرير الفلسطينية إلى الإعتراف بإسرائيل هي دعوة للاستسلام أو الخيانة ، فلنقل إذا ببساطة بسيطة أن البديل عن " الإعتراف " هو " عدم الإعتراف " أليس هذا بدهيا .

ثم نضيف أن عدم الاعتراف ليس موقفا سلبيا كما يبدو من صياغته . لا ، إنه أحد المبادئ العتيدة في القانون الدولي التي تعبر عن الممارسة الايجابية للسيادة والاستقلال . والغريب أن مبدأ عدم الاعتراف يرتبط تاريخيا بالولايات المتحدة . في عام 1915 وجهت اليابان الى الصين مذكرة تحاول بها الحصول لنفسها على امتيازات في الصين وقبلت الصين ما طلبته اليابان ولكن الولايات المتحدة الأمريكية احتجت لدى الدولتين بأنها لا تستطيع أن تعترف بأن اتفاق بين الصين واليابان يتضمن مساسا بالسيادة الإقليمية لجمهورية الصين ، وكررت هذا الموقف في مذكرة مماثلة أرسلها وزير خارجيتها 1932 الى الصين واليابان أيضا ، وتبنته عصبة الأمم وأيده فقهاء القانون الدولي وأصبح " عدم الاعتراف " مبدأ من مبادئه ارتبط باسم وزير خارجية الولايات المتحدة : "ستمسون".

ولكننا نعترف أن هذا البديل لا يكفي ، لا لأن منظمة التحرير الفلسطينية ليست حكومة في دولة مستقلة لتقع اختياراتها في نطاق مبادئ القانون الدولي فحسب ، بل أيضا لأننا نفترض أن العربي الحائر حتى اليأس عن بديل يريد موقفا إيجابيا يوقف الهزائم على الأقل أو يتقدم إن أمكن ولو خطوة صغيرة على طريق تحرير فلسطين .

حينئذ لا نملك الا أن نقول لا حول ولا قوة إلا بالله ، كيف تفرق الهزائم أفئدة الناس ، فيجزعون وتثير الاضطراب في عقولهم فلا يعقلون ، وتعمي أبصارهم فلا يبصرون حتى ما يقبضون عليه بأيديهم من أسباب النجاة .

على أي حال فأننا نجتهد فنقول واثقين أنه لم يحدث في تاريخ الصراع العربي أن أتيحت من أسباب النصر على الصهيونية مثل ما هو متاح الآن. وأنه لم يحدث في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية أن تملكت على المقدرة على الانتصار قدر ما تملكته بعد ان خرجت من بيروت . ذلك لأنه الآن ، والآن فقط ، حرقت في نيران بيروت ودفنت مع شهداء صابرا وشاتيلا كل الأساليب والنظم والدول التي خلفت في العقل العربي أوهام نصر غير قابل للتحقيق . الآن ثبت أنه لا خيار إلا القتال المسلح والعنف العنيف . وأن كل النظم الرأسمالية والتابعة لها إما عدو أو حليف للعدو . وأن كل الدول العربية منفردة أو مجتمعة  لن تستطيع تحرير فلسطين . بعد هذا التطير بالنار التي أحرقت أوهام صاحبت التقدم الدامي على الطريق المسدود ، أصبح مشروعا أن يثور السؤال ما البديل ؟ وأصبحت الإجابة ممكنة .

من الذي يسأل ، أعني من الذي يبحث عن بديل ؟..

27 ـ أن تكن منظمة التحرير الفلسطينية فقد كان خروجها من بيروت مفتاحا لبدائل كثيرة نثق ، ولاشك أنها تثق ، وأنها قد انتصرت نهائيا في معركة البقاء التي كانت تخوضها منذ أن ولدت ، الآن أصبح مستحيلا على الصهاينة والأمريكيين وحلفائهم أن يتصوروا المستقبل بدون منظمة التحرير الفلسطينية . فأتت فرصة تصفيتها وأصبحت راسخة الجذور في المجتمع العالمي تحافظ عليها كل الدول وكل الشعوب حتى الولايات المتحدة الأمريكية . إن كانت فقدت الكثير من سلاحها فقد كشفت معارك بيروت أنها تملك سلاحا ماضيا سيفتح لها أبواب النصر ، وسيجبر أعداءها على التسليم لها طال الزمن أو قصر أنه " عدم الاعتراف " . إن الدول والأساطيل والقوات المسلحة التي حملت مقاتليها وحرست أعلامهم وهم يغادرون بيروت هي الأدلة المادية الحاسمة على أن وجودها أصبح ضرورة حيوية لهذه الدول والعالم اجمع يبقونها لتعترف بإسرائيل .. إذن لا تعترف بإسرائيل تحت أي ظرف وهي واثقة بأن الصبر الطويل سيحمل الجميع ـ في النهاية ـ على أن يعترفوا بدولة فلسطين المحررة . هذا أحد البدائل .

ثمة بديل آخر لم تعثر عليه الثورة الفلسطينية بل ألقيت إليه وكان بعيد المنال .

لقد بعثرت القوات المناضلة في أطراف الوطن العربي ، أبعدوا عن "كلب الحراسة " ليجدوا أنفسهم داخل عباءة العدو الأول : الولايات المتحدة  الأمريكية . وماله من موقع إن أحسنوا الاستفادة به فلن يخرجوا منه إلا الى فلسطين المتحررة ، فمن حولهم ، وفي متناول أيديهم عدوهم الأول متجسدا في مصالحه ، إنهم لا يستطيعون القضاء على تلك المصالح نهائيا ، نعم ، ولكن من الذي قال أن هذا لازم .. يكفي أن تتحول الأرباح الأمريكية الى خسائر بالمعنى " المادي " للربح والخسارة ليؤدى قانون النظام الأمريكي دوره . وحين تقتنع الإمبراطورية المالية التي تسخر حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وقواتها المسلحة لفتح وتأمين مجالات الربح في الوطن العربي إلى أنه لا مجال لأي ربح مادامت فلسطين مغتصبة ، فستحمل تلك الإمبراطورية المالية المجردة من أية مبادئ ، ستحمل خادمها القابع في البيت الأبيض وأعوانه وقواته على إخلاء الطريق أمام العرب ليخلوا فلسطين من مغتصبيها .

وهذا بديل .

ثم هناك بديل لا بد أن تكون معارك بيروت قد أقنعت منظمة التحرير الفلسطينية بجدواه بعد تردد طويل . في يناير 1975 كتبنا نقول :".. إن الثورة الفلسطينية قد اقتربت ـ وهي تتقدم ـ من نهاية المطاف وعليها أن تتمرد على ذاتها لتكون قابلة للالتحام  العضوي  مع القوى القومية التقدمية إيذانا بمولد الثورة العربية . وبكل الإخلاص  الصادق الذي لا نملك غيره ـ الآن ـ نقول أن مرحلة " الثورة الفلسطينية " قد أوشكت على نهايتها وحققت أقصى ما تسمح به طاقتها وظروفها الإقليمية وعليها أن تعد نفسها من الآن لتكون جزءا عضويا من متطلبات المرحلة المقبلة : الثورة العربية .

".. إن مسئولية هذا الميلاد التاريخي لا تقع على الثورة الفلسطينية وحدها وإن كانت تتحمل قدرا كبيرا من المسئولية عنه . أما باقي المسئولية فيقع على أولئك الذين يطيب لنا الحديث عنهم تحت عنوان القوى القومية التقدمية ..".

فإن كانت الإقليمية داخل الثورة وخارجها قد حالت دون أن تتطور الثورة الفلسطينية الى ثورة عربية ، بإقامة حواجز بينها وبين الجماهير العربية العريضة فها هي معارك بيروت قد ألقت بالثورة الفلسطينية في محيط الجماهير العربية بعيدا عن الحصر الإقليمي  .

ها هي قد أعادتها عنوة الى رحم أمتها العربية لتولد من جديد ثورة عربية ، وهي قادرة الآن على أن تتطهر من جراثيم الإقليمية داخلها وأوهام الإقليمية خارجها .

وهذا بديل ، أكثر البدائل حسما في معركة تحرير فلسطين ..

28 ـ أما إذا كانت الدول العربية هي التي تبحث عن البديل فلا يكفينا أن نقول لها جميعا ارفعي يدك عن فلسطين ولو حياء من موقفك وقوى الثورة محاصرة في بيروت ، بل نقول أنه من الغريب أنها هي أيضا قد أصبحت بعد معارك بيروت تملك أفضل البدائل منذ عام 1973 ، فلنتأمل معا منذ 1974 لم يهدأ أي جهاز تعبير في حكومة مصر العربية من أول رئيس الجمهورية الى آخر مذيع في إذاعة إقليمية  عن التأكيد على أن مصر لا تقبل ولم تقبل صلحا منفردا مع إسرائيل ، وأنها لا تفرط ولم تفرط في حقوق شعب فلسطين ، وأنها لا تتخلى ولم تتخل عن مسئولياتها القومية . في ظل هذا الإعلام المكثف المتصل أبرمت اتفاقيات كامب ديفيد واتفاقية الصلح وبدأت مفاوضات الحكم الذاتي ، وتتمسك منذ عام بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره . إذا ، أرادت حكومة مصر العربية وتريد أن تقنع العرب جميعا بما فيهم الشعب العربي في مصر أن اتفاقياتها مع إسرائيل كانت مقترنة في ذهنها بشرط فاضح هو تمكين شعب فلسطين من تقرير مصيره . ولقد كانت حددت خمس سنوات بعد كامب ديفيد لتحقيق هذه الغاية . اليوم لم يبق على نهاية السنوات الخمس غير تسعة أشهر . وتحت سمع وبصر حكومة الاستهانة المذلة التي تمارسها  إسرائيل بكل ما وعدت به وما اتفقت عليه وإن " طابا " على ذلك شهيد ، وتحت سمعها وبصرها التصفية الجسدية لشعب فلسطين في لبنان … فهل تبحث الحكومة في مصر عن بديل يصحح كل ما فات ويعيد إليها مركز قيادتها في الصف العربي يحيطها بتأييد أكثر من مائة مليون من جماهير الأمة العربية ؟.

إن كانت تبحث فها هو : بيان من رئاسة الجمهورية بأنه إذا لم يستطع العالم أن يمكن شعب فلسطين من تقرير مصيره بحرية وبدون تدخل من أية قوة قبل 22 سبتمبر 1983 فإن مصر تعتبر اتفاقية كامب ديفيد واتفاقية السلام منتهية ، وستتخذ المواقف التي تراها على هذا الأساس . إن هذا البيان وحده هو الذي يحدد مضمون الجملة الرنانة " وضع العالم أمام مسئوليته ".

إن بيانا جادا بهذا المعنى سيخلع قلوب العالم العربي وسيضع كل حكومة فيه أمام مسئوليتها أمام شعبها . وستتولى هذه الشعوب ما لا نستطيعه نحن : إكراهها على أن تدفع ثمن السلام الذي اختلسته نصبا واحتيالا . وسيكون له في الوطن العربي أثر " النفخ في الصور " تبعث به الى الحياة دولا وقوى أصبحت أمواتا ، وستتراص القوى العربية صفا كما يحدث قبل معركة 1973 ، وكما بعد معركة 1967 ، وكما حدث أثناء 1956 ، وستحل به المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأنه سيحل وثاق المذلة الذي أفقد الإنسان العربي حق المقدرة في التفكير ، دعونا نعري عصا الولايات المتحدة الأمريكية العملاقة ، فمن قبل ضربت لنا الأسطورة مثلا أن النبي العملاق سليمان عليه السلام مات متكئا على عصاه ، وبقيت مخلوقات الأرض تخدمه ظنا بأنه مادام واقفا على قدميه فهو ذا قوة عظمى ، إلى أن استطاع مخلوق دقيق أن يرب عصاه فلما انكسرت انهار العملاق .

فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية المتحللة اجتماعيا من الداخل تقف على عصاها الاقتصادية فلنفرها حتى تنهار أو تجثو على ركبتيها ، وإن كان العالم كله يتكئ على عصا السلام في الوطن العربي مطمئنا الى عجزنا عن الإهتداء الى البدائل أو عجزنا عن استعمال البدائل المتاحة ، فلنذكره بأن ليس ثمة بديل عن فلسطين إلا انهيار السلام في الوطن العربي وفى العالم. وحين نتذكر ونفرض عليه جديتنا فسيخلى بيننا وبين ذلك العدو الصهيوني كل بقوته الخاصة . حينئذ سنلقي الصهاينة في البحر .

نعم لقد قالوا ألف مرة سيلقون العرب في الصحراء فلم يتذكرها أحد ، ولم نقل قط أننا سنلقي الصهاينة في البحر ، وسندوها إلينا ، وسألونا عنها، وحاسبونا عليها حسابا عسيرا . وبقينا دهرا ندفع تهمة بقول لم نقله إلى .. إلى أن ألقوا قوى الثورة الفلسطينية في البحر . فلنقلها الآن ولنكررها دائما فقد ثبت حتى لأكثر الناس بلادة أن القضية هي : إما نحن
وإما هم في فلسطين . وحين يأتي ذلك الحين الذي سنفرضه ونلقيهم في البحر فلن نغضب من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا ان جاءت أساطيلها تلتقطهم وتحملهم بعيدا عن الأرض العربية كما حملت أصحاب الأرض العربية بعيدا عنها .

هذا إذا كانت ثمة بحث عن بديل حقا ، فهو ثمة من يبحث عن بديل ؟.

في أبريل 1970 قلنا في حوار علني  جرى في عمان أن إسرائيل قد نشأت ونمت وتعيش في حماية الدول العربية فهل كنا ـ نحن القوميين ـ مخطئين ؟


القاهرة في 28 ديسمبر 1982 .


 ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق