بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

نظرية الثورة العربية : الغايات 1.



الغايات : مدخل .  

" كل مذهبين مختلفين اما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، واما أن يكونا جميعا كاذبين ، واما أن يكونا جميعا يؤديان الى معنى واحد وهو الحقيقة ، فاذا تحقق في البحث وأنعم في النظر ، ظهر الاتفاق ، وانتهى الخلاف " .
                                                     ابن الهيثم .

             
(1)


34  ـ أين ومتى ؟

تدخل أية نظرية لتطوير الواقع الاجتماعي ، أسهل اختبار لصحتها وفائدتها عندما تتصدى لبيان منطلقات التطور . ويبقى عليها أن تجتاز بعد هذا إختبارين أكثر صعوبة واكثر أهمية . أولهما تعيين الغايات التي يجب أن يتجه الجهد الانساني الى تحقيقها في الواقع الاجتماعي حتى يتطور . والثاني ، أصعبها جميعاً وأكثرها أهمية ، ان تحدد الاسلوب الذي يستطيع الناس ان يصلوا به من المنطلقات الى الغايات . كل هذا طبقاً لمنهج (منطق) واحد . هذا الانتقال المتدرج من السهل المهم الى الصعب الأهم الى الأصعب الأكثر أهمية هو الطريق الذي على النظرية ، أية نظرية ، أن تشقه من التجريد الفكري الى ان تلتقي بالواقع العيني لتثبت في الممارسة ـ أخيراً ـ قيمتها على محك ما ينفع الناس . قيمتها وفائدتها كضابط فكري للجهد الانساني (العمل) الذي يطور الواقع الاجتماعي فعلاً . إن هذاجدير بانتباه خاص . فالنظريات مقولات فكرية ذات قيمة وفائدة ثقافية . غير ان هذه القيمة والفائدة الثقافية لا تعني بالضرورة صلاحية كل المقولات الفكرية لتكون ضوابط للعمل الذي يطور الواقع الاجتماعي . إنما تتوقف هذه الصلاحية على اداء وظيفة اجتماعية تتجاوز مجرد المعرفة هي ان تكون صالحة للالتقاء عليها بين متعددين وللالتزام بها في الممارسة ثم ـ وهذا مهم ـ للاحتكام إليها عند الاختلاف في الممارسة بين الذين التقوا عليها والتزموا بها . وليس كل مقولة فكرية ، ولو كانت صحيحة ، قادرة على ان تؤدي هذه الوظيفة .
وبيان هذا إنه بعد ان تحدد النظرية ، أية نظرية ، منطلقات الجهد الانساني وغاياته وأسلوبه ثم يلتزمها الناس ضابطاً للممارسة وحكماً فيما بينهم ، يبدأ ” العمل ” الذي هو الأداة الأخيرة لتطوير الواقع . وفي ساحات العمل وعلى مدى زمانه تتحول النظرية الى مجموعة بالغة التعدد والتنوع من المنجزات الجزئية والمرحلية التي توزعها قسمة العمل على عديد من الأفراد يعمل كل منهم في موقعه حسب قدرته . ويكون نجاح كل اولئك الذين يسهمون في تحقيق الغايات المعينة في النظرية متوقفاً على ألا تنحرف بهم الممارسة الجزئية والمرحلية في مواقع متفرقة عن تلك الغايات . كما يكون تكامل الجهود التي يبذلها متعددون في مواقع متفرقة متوقفاً على ثقة كل عامل في موقعه بانه ليس وحده على الطريق الى تلك الغايات وبأن ثمة رفاقاً ملتزمين يعملون في مواقع اخرى على الطريق الى الغايات ذاتها . وأخيراً يكون بقاء كل تلك الجهود المتنوعة المتفرقة المتكاملة على الطريق إلى أن تحقق غاياتها متوقفاً على المقدرة على الاحتكام الى النظرية عند الاختلاف في الممارسة . باختصار، أن نجاح كل الملتزمين نظرية واحدة في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها في أن يحققوا غاياتهم ، يكون متوقفاً على وحدتهم الفكرية . وهذى هي على وجه التحديد وظيفة النظرية في خدمة قوى تطوير الواقع الاجتماعي في أي مجتمع . وعندما تفشل أية مقولة فكرية في أداء هذه الوظيفة تفقد قيمتها وفائدتها كضابط للعمل الذي يطور الواقع الاجتماعي حتى لو بقيت لها قيمة أو فائدة ثقافية .
إن هذا يعني أن على النظرية أن تعيّن للجهد الانساني غايات على قدر من الوضوح والواقعية تصلح به أن تكون محلاً للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام إليها عند الاختلاف . وهي لا تستطيع هذا إلا اذا اجتنبت عدة أسباب تؤدي الى فشل المقولات الفكرية في أداء وظيفة النظرية حتى لو كانت مقولات فكرية صحيحة .
أول هذه الأسباب هو التجريد . الاقتصار على ما هو عام والقصور عما هو خاص . وقد يكون العام صحيحاً ، ولكنه يبقى مجرداً ما دام مقصورأ على ما هو عام قاصراً عما هو خاص . صحيح أن الخاص مهما يكن متميزاً بخصائص مقصورة عليه هو جزء من العام لا يتناقض معه ولا ينفيه  ولا يفهم إلا في إطاره ومنسوبأ إليه ، ولكن فهم العام فهما صحيحاً لا يكفي لفهم الخاص فهما صحيحاً . يلزم ولكن لا يكفي . وبالتالي تبقى المقولات الفكرية العامة الصحيحة عاجزة عن أن تقدم الاجابات الصحيحة على الأسئلة التي يطرحها الخاص فيما يكون مقصوراً عليه . فكوننا ـ مثلاً ـ أمة عربية لا ينفي أننا واحدة من أمم كثيرة نشترك معها في كل الخصائص التي تميز المجتمع القومي عن المجتمعات الأخرى . وكون الأمم مجتمعات قومية متميزة بخصائص مقصورة عليها لا ينفي إنها مجتمعات إنسانية تشترك مع غيرها من المجتمعات في كثير من الخصائص المترتبة على إشتراكها في وحدة التكوين (الانسان) ، وأهمها ، إن حركة تطورها جميعاً تخضع لقوانين واحدة . ولقد نعرف من الممارسة اليومية أو من العلوم المتخصصة ان كل إنسان في أي مجتمع يحتاج الى أن يأكل وان يلبس وان يسكن … ليحافظ على حياته . وعرفنا من جدل الانسان أن الناس في أي مجتمع … كل منهم يسعى ولا يستطيع إلا أن يسعى لإشباع حاجته . وكل منهم يستهدف ولا يستطيع إلا أن يستهدف حريته … وعليه يصح بالنسبة إلى نظرية تطوير الواقع الاجتماعي في أي مجتمع أن تكون حرية الناس فيه أو تحررهم من حاجاتهم غاية يجب أن يتجه الجهد الانساني الى تحقيقها حتى يتطور . كذلك يصح بالنسبة الى أية نظرية أن تكون غير ذات قيمة اذا لم تكن قابلة في النهاية الى أن تترجم في الواقع العيني الى حياة أفضل : غذاء أفضل ، ولباس أفضل ، ومسكن أفضل ، وثقافة أفضل ، وإمكانيات أفضل للتمتع بالحياة حتى تكون الحياة شيئاً يستحق العمل من أجل الحفاظ عليه وبذل الجهد من أجل تطويره .
كل هذا صحيح .
ومؤداه أن ثمة مشكلات مشتركة بين كل المجتمعات الإنسانية ، فثمة مضامين مشتركة بين كل النظريات التي تخدم حركة التطور الاجتماعي في أي مجتمع ، فثمة غايات مشتركة للجهد الانساني أينما كان الانسان . جهل أو تجاهل هذا القدر المشترك من الغايات بين المجتمعات الانسانية لا يسلب العام حقيقته بل يشعره حقيقة الخاص . فيه ينقلب التخصيص الى تفرد ، والتمييز الى امتياز، ومحاولة تطوير الواقع الاجتماعي الى عزله تعسفأ عما يؤثر فيه ويتأثر به . وبه تنقلب القومية الى شوفينية . وتلك أخطاء جزاؤها الفشل المحقق في فهم الواقع الاجتماعي ، أي واقع اجتماعي ، وحركته ، وبالتالي فشل محاولة تطويره . ومن هنا ندرك ” سخافة ”  الوهم أو الإيهام بأن القومية تعني أن الأمة معزولة عن المجتمع الانساني ، أو أنها مجتمع ممتاز فيه، أو أنها فريدة في كل  مشكلات تطورها متفردة بغايات للتطور لا مثيل لها في العالمين . لا ينسب هذا الى القومية إلا أعداؤها أو الجاهلون حقيقتها وأكثر من ينسبه اليها أعداء جاهلون معاً .
ومع هذا ، أو بالرغم من هذا ، فإن المجتمعات تختلف وتتميز، تاريخاً وتراثاً وحضارة وبشراً وموقعاً وثروة ... فتختلف وتتميز مشكلات التطور فيها من مجتمع الى مجتمع . نريد أن نقول أنه بالرغم من ذلك القدر المشترك من مشكلات التطور بين كل المجتمعات تبقى لكل مجتمع مشكلات مقصورة عليه تختلف وتتميز عن المشكلات المقصورة على كل واحد من المجتمعات الاخرى . وبالتالي يبقى قدر من المضامين يختلف ويتميز  من نظرية الى نظرية تبعاً لاختلاف وتميز الواقع الاجتماعي الذي تخدم حركة تطويره . ويبقى للناس في كل مجتمع قدر من الغايات يختلف ويتميز تبعاً لاختلاف وتميز الواقع الاجتماعي من مجتمع الى مجتمع مع أنها ، او بالرغم من انها ، جميعاً ، مجتمعات انسانية وعليه ، فلا يكفي لأية نظرية تخدم حركة التطور في مجتمع معين ان تكون مقصورة على ذلك القدر المشترك من المضامين العامة التي تصح بالنسبة الى كل المجتمعات .  بل أن مقدرتها على تحديد غايات تصلح ان تكون محلاً للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف ليست منوطة بالمضامين العامة المشتركة بل منوطة بالمضامين التي تنفرد بها كاجابات خاصة على ذلك القدر من المشكلات المقصور على المجتمع الذي تخدم حركة تطويره . إذ بهذه المضامين الخاصة ، وليس بالمضامين العامة المشتركة فقط ، تلتقي النظرية بالواقع العيني في المجتمع الذي تؤدي  فيه وظيفتها كضابط فكري لقوى  تطويره . وعندما تكتفي بالمضامين العامة المشتركة التي تصح بالنسبة الى كل المجتمعات وتجهل أو تتجاهل المضامين المقصورة على المجتمع المعين تبقى معلقة فوقه بعيدة عن الحياة فيه ولو كانت صحيحة في مستواها المجرد . ذلك لأنها وأن صلحت محلا لالتقاء متعددين في مدرسة فكرية تظل عاجزة عن أن تكون محلا للالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف في حل مشكلات المجتمع المعين . وقد تصلح رموزها شعارات ولكنها تفشل في أن تكون ضابطاً فكرياً للعمل فيفترق الملتقون عليها عندما يواجهون المشكلات العينية المقصورة على مجتمعهم في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها . مرجع هذا إلى أن التجريدات الفكرية والشعارات العامة تسمح بأن يلتقي عليها أو تحتها أكثر الناس اختلافاً في فهم مضمونها العيني وكيف يتجسد الواقع . ويبدأون زحاماً ملتقين على غايات مجردة أو تحت شعارات عامة ثم إذا بكل منهم يحاول أن يجسدها في الممارسة على الوجه الذي فهمها منذ البداية . فإن اختلفوا وأرادوا الرجوع إلى أفكارهم أو شعاراتهم يحتكمون اليها أيهم أصدق فهما خذلتهم الأفكار المجردة ولم تستطع الشعارات العامة أن تحكم فيما بينهم لأنها من حيث هي عامة ومجردة تكون قابلة في الممارسة لتأويلات مختلفة . فيختلفون ويفترقون يتهم كل منهم رفاق الأمس في مدرسته الفكرية بأنه قد ارتد عن منطلقاته أو خان التزامه والواقع أن أحداً لم يرتد ولم يخن وانما التقوا جميعاً على مقولات فكرية مجردة حولوا رموزها الى شعارات عامة بدون الانتباه الى أنها على هذا الوجه المجرد العام ، أو  بسبب هذا التجريد العام ، فاشلة منذ البداية في أن تحفظ وحدتهم حتى لو كانت افكاراً صحيحة تحولت الى شعارات مناسبة .
ان الحرية ـ مثلاً ـ غاية غير منكورة للتطور الاجتماعي في كل المجتمعات . وهي شعار ترفعه كل القوى حتى التي تستهدف غايات متناقضة ويدعيها كل واحد غاية له حتى ولو كان مستبداً . وهي بهذا التجريد وحده ، بصلاحيتها أن تكون شعاراً لغايات قوى متناقضة في كل المجتمعات لا تصلح موضوعاً لالتزام قوى مفرزة بتحقيق غاية محددة في مجتمع معين . وعندما يرتفع هتاف : ” تحيا الحرية ” لا يدّخر أحد طاقته ليكون صوته أعلى الأصوات . وهذا يعني أن الهتاف للحرية ، بالرغم من دلالته الصحية والصحيحة ، لا يتضمن أي التزام بتحقيق الحرية . لا لأن الهاتفين لا يريدون الحرية ولكن لأن الحرية كغاية مجردة ، وان كانت صحيحة ، لا تصلح موضوعاً للالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف . إنما تصبح كذلك عندما تغادر  هذا المستوى المجرد لتقع على مجتمع معين فيتحدد مضمونها  العيني ، من واقع القيود المفروضة على حركة التطور فيه . ان كانت قيوداً مفروضة من الخارج فهي استعمار أو من الداخل فهي استبداد . وإن كانت قيوداً سياسية فهي ديكتاتورية أو قيوداً اقتصادية فهي استغلال …  الخ . وفي كل حالة تتحدد قوى القهر التي يجب أن تسحق وموضوع القهر الذي يجب ان يلغى فتوجد فعلاً الغاية ” العينية ” للالتزام بتحقيق الحرية . عندئذ لن يكون غريباً أن تفرز قلة ملتزمة من بين الكثرة الهاتفة . ولكن تلك القلة تكون عندئذ أقدر على تحقيق غايتها لأنها ملتقية على مضمون قابل للالتزام به والاحتكام اليه فلا تفترق . بهذا التحديد العيني تصبح الحرية نظرية قادرة على تحقيق الوحدة الفكرية بين الناس في ساحة الممارسة وعلى مدى زمانها .
وهـي لا تتحدد على هذا الوجه إلا منسوبة الى مجتمع معين .
وليس الأمر أقل وضوحاً بالنسبة الى ” الوحدة ” كغاية بل انه أوضح .
ذلك لأن الوحدة السياسية ليست غاية تقدمية للجهد الانساني في كل المجتمعات ولا حتى في كل الأمم ، بل هى غاية مقصورة على المجتمعات القومية المجزأة (الأمة العربية ، المانيا ، كوريا ، الصين … الخ) وبينما يكافح التقدميون في تلك المجتمعات الممزقة لحل مشكلة التجزئة بتحقيق وحدتهم القومية تعتبر الدعوة الى الوحدة في فرنسا أو انجلترا أو روسيا عبثاً . وتكون عابثة أية نظرية لخدمة حركة التطور الاجتماعى في أي من تلك الأمم تعني ولو مجرد عناية بتحديد ” الوحدة ” غاية يجب أن يتجه الجهد الإنساني الى تحقيقها . انها متحققة فهى ليست مشكلة عندهم . وعندما تتحقق الوحدة السياسية للأمة العربية أو المانيا … الخ تنقضي كغاية . ولكنها الى أن تتحقق ، تقدم دليلاً حيأ على عقم التجريد الفكري الذي يتجاهل التجزئة مهما تشدق بالكلمات الكبيرة عن التطور والتقدم والحرية والاشتراكية … الخ . إذ أن أية نظرية تزعم أنها تخدم قوى التقدم والحرية والاشتراكية … الخ في الوطن العربي أو في المانيا أو في كوريا أو في الصين … ثم تجهل أو تتجاهل مشكلة التجزئة تكون بالنسبة الى قوى التطور والتقدم … الخ في تلك المجتمعات تجريداً فكرياً معلقاً فوق الواقع وبعيداً عن الحياة فيه ولو كانت صحيحة في مستواها المجرد . صحيحة بالنسبة الى الأمم عامة ولكنها غير صحيحة بالنسبة إلى الأمم الممزقة ان صلحت لالتقاء متعددين في مدرسة فكرية فانها لا تصلح أن تكون محلاً للالتزام بها في الممارسة  والاحتكام اليها عند الاختلاف فيفترق الذين التقوا عليها فكريا عندما يواجهون مشكلات التجزئة في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها .
من هنا لا تكون الوحدة السياسية غاية إلا منسوبة الى مجتمع معين .
واخيراً يقول الاشتراكيون ، كل الاشتراكيين ، أن الاشتراكية هي ” الغاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان ” . وهو قول صحيح تماما على مستواه الانساني المجرد . غير أن هذه صيغة بدون مضمون عيني ما دامت مجردة . وحولها قد يلتقي ملايين الناس الذين يريدون ـ  فيما يعلنون  ـ الغاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان . ونكون في مواجهة زحام من ” الاشتراكيين ” ما دامت الاشتراكية بهذا المفهوم المجرد لا تلزم ايا منهم بان يؤدي في واقعه الاجتماعي عملاً معيناً . فيختلفون في التطبيق لان كلا منهم يفهم الاشتراكية التي هي الغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان على ما يريد ويحاول أن يجسدها في الممارسة طبقأ لفهمه . فان عادوا الى ” الاشتراكية ” التي جمعتهم حول مفاهيم مجردة ليحتكموا اليها أيهم أصح فهما وأصدق وعداً خذلتهم الأفكار الكبيرة المجردة من مضمون عيني . ولن يجدي عندئذ أن يتهم أحد رفاقه بالردة أو خيانة الاشتراكية . لا ردة هناك ولا خيانة ، وانما تجريد فكري عاجز منذ البداية عن  أن يحفظ وحدة القوى التي تلتزمه . إنما تكون الاشتراكية ذات مضمون عيني عندما نعرف من هو ذلك الانسان الذي يستغل غيره لنلتقي ثم نلتزم برده . ومن هو ذلك الإنسان الذي يستغله غيره لنلتقي ثم نلتزم بتحريره . وما هو موضوع الاستغلال لنلتقي ثم نلتزم بالغائه .. عندما تتحدد هذه المضامين نكون أمام نظرية اشتراكية صالحة للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف .
وهي لا تتحدد على هذا الوجه الا منسوبة إلى مجتمع معين .
كيف ؟
أليست الاشتراكية واحدة وإنما تختلف الطرق اليها وتتميز تبعأ لاختلاف وتميز المجتمعات ؟ يمثل هذا السؤال وجبة مفضلة لدى الذين يأكلون الكلمات ويجترونها ثم يحاولون اطعامها الناس الاخرين . فالطرق التي تشقها المجتمعات إلى المستقبل التقدمي مختلفة ومتميزة . هذا لا شك فيه . ولكن الاشتراكية هي أيضأ نظام اجتماعي ، أفضل نظام اجتماعى ، يمكن المجتمعات من شق طريقها الى المستقبل التقدمى . انها هي بذاتها طريق ، أفضل طريق ، الى الغاية الثابتة لحركة التطور الاجتماعى ” : اشباع الحاجات المادية والثقافية المتجددة أبداً ” . وهذا لا ينفى ان تكون بذاتها غاية تختلف الطرق اليها عندما تكون مفتقدة في النظم الاستغلالية . ويصح القول بأن ثمة طرقاً مختلفة الى الاشتراكية . ولكن ما أن يسقط النظام الاستغلالي حتى يصبح النظام الاشتراكى بذاته طريقاً الى الرخاء والحرية . فيصح عليه القول بان ثمة طرقاً اشتراكية مختلفة الى الرخاء والحرية ويكون من المهم لحفظ وحدة الاشتراكيين الذين يشقون طريقهم الى الاشتراكية أن يعرفوا ، منذ البداية ، فيم ستكون الاشتراكية مختلفة عندما تتحقق فتصبح طريقأ مختلفاً . كما أنه لا ينفي أن ثمة مضامين مميزة للنظام الاشتراكي وبالتالي مشتركة بين كل النظريات الاشتراكية . ولكن الاشتراكية لا تكون صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام اليها في مجتمع معين ان كانت مقصورة على تلك المضامين المشتركة التي تصح بالنسبة الى كل المجتمعات وانما بتلك المضامين العينية التي يلتزم الاشتراكيون بتحقيقها في واقعهم الاجتماعي المتميز والتي لا تمكن معرفتها إلا منسوبة الى مجتمع معين . الطرق الى الاشتراكية مختلفة . نعم . والاشتراكية بمعنى الغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان واحدة . نعم . ولكن الاشتراكية بهذا المعنى لا تلزم أحداً بشىء معين فهي تجريد فكري عاجز عن أن يحقق الوحدة بين القوى التي تلتزمه . 
ولا تكون الاشتراكية ذات مفهوم ملزم إلا اذا نسبت الى مجتمع معين .
مؤدى هذا جميعاً أن ثمة وظيفة للفكر عندما يكون في خدمة قوى التطور الاجتماعي هي تحقيق الوحدة الفكرية بينه .  وهو لا يستطيع أن يؤديها إلا اذا حدد لتلك القوى غايات صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام إليها . وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت منسوبة الى مجتمع معين . ومنه ندرك ان لكل مجتمع نظرية خاصة بتطوره .. وانها لا تكون صالحة لخدمة قوى تطويره إلا اذا كانت خاصة به . وان النظريات الصالحة لخدمة قوى التطور الاجتماعي متعددة ومتميزة تبعاً لتعدد وتميز المجتمعات . وان الزعم بان ليس ثمة إلا نظرية واحدة تلتزمها كل قوى التطور في كل المجتمعات تجريد فاشل . فان قيل انها واحدة ولكن ثمة فروق في التطبيق نقول أن التطبيق هو الذي يقدم المضمون العيني للأفكار المجردة ، وتلك الفروق هي التي تحدد مضامين الالتزام في الممارسة ، وهي التي يحتكم اليها عند الاختلاف ، فهي التي تضفي على الافكار المجردة المقدرة على حفظ وحدة الملتزمين بها في الممارسة وعلى مدى زمانها . وبدون تلك الفروق تظل الافكار المجردة فاشلة حتى لو كانت صحيحة .
والواقع ان ليس كل فكر مجرد فشلاً . اذ يتوقف الامر على الغاية التي يستهدفها كل مجتهد من طرح افكاره . فقد يكون مرجع التجريد الى التخصص  في الدراسات الفكرية المجردة . أولئك مفكرون وعلماء و فلاسفة لا يلزمون أحداً ما يقولون . وقد يكون مرجعه إلى إرساء مقدمات مجردة تمهيداً للاقتراب بها من الواقع فلا تؤخذ المقدمات المجردة في عزلة عن نتائجها العينية . وقد يكون التجريد إيضاحاً للاصول الفكرية لمواقف عينية غير مجردة فتكمل هذه دلالة تلك . انما التجريد الفكري الفاشل في أن يكون ضابط حركة هو الذي يزعم أن المقولات المجردة صالحة للالتقاء والالتزام والاحتكام فيدعو الناس إلى الالتقاء عليها والإلتزام بها والاحتكام إليها . هو الذي يستغني بالعام عما هو خاص ويشد انتباه الناس في مجتمع معين إلى غايات إنسانية عامة موهماً اياهم بان في ذلك غنى لهم عن الانتباه إلى الغايات التي يحددها واقعهم الاجتماعي ” كما هو   .
ومن السهل أن ندرك أنه عندما يكون التجريد الفكري على هذا الوجه الذي يستغني به صاحبه عن نسبته الى مجتمع معين وترجمته الى غايات عينية  يكون منطويا على هروب من الخاص حيث يمكن الالتزام لتقوم المسؤولية الى العام حيث لا التزام ولا مسؤولية . أما  لماذا يهربون ؟… فلأن التجريد الفكري يسمح للقادرين عليه بأوسع مجال لاستعمال ملكاتهم الفكرية بدون التزام . ويمكنهم من أن يحتفظوا في جعبتهم بأكثر التقديرات تناقضا لذات الافكار المجردة التي سبق أن طرحوها . ان التجريد الفكري بالنسبة اليهم نوع من التأمين ضد المسؤولية أمام القوى القادرة على المساءلة في مجتمعاتهم . وكيف تمكن مساءلة المتحدثين الداعين الملتزمين ” النضال ” من أجل التقدم أو الحرية أو الاشتراكية بدون أن يقولوا ” أين ؟ ” على وجه التحديد يلتزمون النضال من أجلها ؟.. هل يمكن أن يوجد مثل هؤلاء المتجردين ؟ لا . لا يوجد ولا يمكن أن يوجد بشر ” مجردون ” من واقع اجتماعي معين . وانما توجد أفكار مجردة . وهذا يعني أن لكل متحدث أو داعية الى الالتزام بافكار مجردة ” موقفا خاصاً ” ، من ترجمتها في الواقع الاجتماعي الذي يتحدث ويدعو الناس الى الالتزام فيه . ولكنه يخفيه . ألا يقولون أن ليس ثمة إلا اشتراكية واحدة ثم يخفون ما بأنفسهم فلا يقولون شيئاً عن تلك الاشتراكية الوحيدة ؟ ألا يتحدثون عن التقدم الاجتماعي ثم لا يقولون شيئأ عن الإقليمية ؟ الا يدعون الى النضال من أجل التحرر ثم لا يقولون شيئأ عن الوجود الصهيوني في فلسطين ؟ . ان وراء الأفكار المجردة ، إذن ، مواقف خفية من الواقع الاجتماعي . يخفونها ربما لأنهم يريدون ان يستدرجوا الناس الى قبول مقولاتهم الفكرية المجردة التي قد تكون صحيحة على مستواها الانساني العام ، حتى إذا ما أعلن الناس التزامهم وظنوا هم انهم قد قطعوا على الناس سبل التراجع طرحوا عليهم ، أو باسمهم ، ما كان خفياً . فإذا بالإشتراكية الوحيدة هي الماركسية ، وإذا بالتقدم الاجتماعي يقوم على التجزئة ، وإذا بالتحرر قابل للتحقق في جوار اسرائيل . إنه تدليس ولكنه أيضأ هروب من مسؤولية الصدق مع النفس ومع الناس . ولا بد للكاذبين من أن يختلفوا فيفترقوا .
على أي حال فان حديثنا الذي بدأ بالمقولات المجردة عن قوانين تطور المجتمعات ، ثم غادرها الى الحديث عن منطلقات التطور الاجتماعي في نوع خاص من المجتمعات هو المجتمع القومي ، لا بد له من أن يلتقي بالواقع وهو يحدد غايات التطور فينسبها الى مجتمعنا . وهكذا لا نستطيع أن نحدد لجهودنا غايات قابلة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام اليها إلا منسوبة الى أمتنا العربية . أن يكن التطور فهو التطور العربي . وأن يكن التقدم فهو التقدم العربي . وأن يكن التحرر فهو التحرر العربي . وأن تكن الوحدة فهي الوحدة العربية . وان تكن الاشتراكية فهي الاشتراكية العربية . حتى لو كان الطريق الى الاشتراكية فهو الطريق العربي الى الاشتراكية العربية … الخ . وعندما يصبح كل هذا واضحاً في الممارسة الفعلية قد نستغني بدلالة المواقف العينية ءن دلالة الكلمات المميزة . ولكننا في مرحلة الالتقاء الفكري قبل الالتزام وقبل الممارسة لا نستطيع إلا أن نميز غاياتنا بنسبتها الى مجتمعنا فهي غايات عربية أيا كان مضمونها ليعرف كل واحد منذ البداية انه ملتزم ومسؤول أمام جماهير هذه الأمة بحل مشكلات التطور الاجتماعي في هذه الأمة ، كما يحددها الواقع الموضوعي في هذه الأمة . على ان يكون مفهوماً تماماً ان ليس في هذا التخصيص ما يعارض او ينكر او ينفي القيمة الثقافية للفكر المجرد عن التطور أو التقدم أو الحرية أو القومية او الاشتراكية . وليس فيه ما يعارض أو ينكر أو ينفي المضامين المشتركة بين كل النظريات عن التطور أو التقدم أو الحرية أو القومية أو الاشتراكية . تماماً كما ان كوننا عربا لا يتعارض او ينكر او ينفي اننا بشر . وانه ـ على سبيل القطع ـ ليس تحديا بنظرية مخترعة في التطور او التقدم او الحرية او القومية او الاشتراكية ، انما هو ـ ببساطة ـ مغادرة للتجريد الفكري المعلق فوق واقعنا الاجتماعي البعيد عن الحياة فيه والتقاء بواقع امتنا العربية تتحول به افكارنا المجردة عن التطور والتقدم والحرية والقومية والاشتراكية الى غايات عينية نستطيع ان نلتقي عليها ونلتزم بها ونحتكم اليها في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها .
به نجيب على السؤال : ” أين ؟ .. ”  الذي تعلمنا من جدل الإنسان أن نطرحه على أنفسنا ونحن نحاول أن نفهم الواقع أو نحاول تطويره . وفيه نطبق أول دروس التطور الاجتماعي : ” ان التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع الاجتماعي كما هو . بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين كما هم . ويكون علينا ، أول ما علينا ، ونحن نحاول معرفة واقعنا لنطوره ان نعرف معرفة صحيحة ، ونحدد بدقة ، واقعنا الاجتماعي . أن نجيب على أول الأسئلة التي يطرحها التطور الاجتماعي : ما هو مجتمعنا ؟.. وأن نحتفظ به كما هو . وأن نحافظ عليه كما هو . وان نتعامل معه كما هو . سواء أعجبنا أو كان منا من يتمنى لو لم يكن منتمياً اليه   .
ولقد عرفنا أن ثمة سؤالآ آخر علينا ان نجيب عليه حتى نستطيع ان نطوّر واقعنا هو السؤال : “ متى ؟…”  وهو سؤال يفرض ذاته بقوة عندما نكون بصدد تحديد غايات علينا ان نحققها . في الواقع العربي حتى يتطور . ذلك لأن المستقبل لا نهاية له . وهو ” تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان ولا قيد ولا حد لما يتمناه الإنسان لنفسه فيشعر بالحاجة اليه . انه يصوغه كما يريد من تجاربه أو من تجارب غيره في واقعه الاجتماعي أو مما يعرف عن واقع الناس في المجتمعات الأخرى ” . ومن هنا فحتى ونحن نضع أقدامنا على واقع اجتماعي معين هو الامة العربية يبقى باب الهروب من الالتزام والمسؤولية مفتوحأ أمام الذين يغادرون التجريد الفكري في المكان الى التجريد الفكري في الزمان، ويحددون للجهد الإنساني في الوطن العربي غايات ” رائعة ” ولكنها غير صالحة للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف . ان لعبة التجريد ، اذن ، ما تزال قائمة بدون قاعدة وبدون حكم ولو حددنا لها المساحة العربية . وحيث لا قاعدة ولا حكم لا التزام ولا مسؤولية . وكيف مساءلة ” المبشرين ” ، بأمة عربية متحررة كالسويد ، ديمقراطية كانجلترا، مثقفة كفرنسا ، غنية كأمريكا ، صناعية كاليابان ، اشتراكية كروسيا ، ثورية كالصين ، روحية كالفتيكان ، إنسانية كأيام الراشدين ؟ .. كيف تمكن مساءلة الذين يعدون الفلاح العربي بنماذج الحياة التي لمسوها يوم أن كانوا مبعوثين أو سائحين أو عرفوها من الكتب المترجمة وافلام السينما المستوردة : منزل مكيف ، وسيارة فارهة ، وثلاجة متخمة ، وتلفزيون ملوّن ، ومكتبة عامرة ، ثم ملعب ملحق بحديقة منزله فيمارس فيه رياضته المفضلة ؟ .. أليست هذه هـي غاية ” المباراة السلمية ” بين النظم الاجتماعية المختلفة . لا أحد إذن في الوطن العربي لا ” يتمنى” أن تتحقق له كل هذه الوعود . انها غير مرفوضة فليطمئن الذين لا يكفون عن الدعوة اليها . ولكن لا أحد في الوطن العربي يستطيع أن يسائل الواعدين بها عن فشلهم في تحقيقها . لأن الوعد بتلك الغايات ” الرائعة ” لا يتضمن التزاماً بشيء عيني يجب ان يتحقق في المرحلة التاريخية الراهنة من تطور الامة العربية لا يتضمن موضوعاً عينياً صالحاً للالتقاء عليه بين متعددين والالتزام به في الممارسة والاحتكام اليه عند الاختلاف . قد يلتقي عديدون في مدرسة ” للتبشير ” من مدارس أحلام اليقظة  ولكنهم ثم عندما يفيقون ليبدأو الممارسة سيجدون أن بين الواقع العربي وبين تلك الغايات الرائعة زماناً طويلاً لم يعرفوا من احلامهم كيف يقطعونه فيحاول كل منهم أن يقطع طريقه بطريقته فيختلفون وتخذلهم الاحلام  عند الاحتكام اليها فيتمزقون . إن المثال الحي على هذا ، بالاضافة الى الداعين الى ” طريقة الحياة الامريكية ” هم الشيوعيون . 
ماذا يعني ان يقول أي عربي اني شيوعي ؟.. أو يعلن أي عربي انه يلتزم ويناضل من أجل الشيوعية ؟ .. يعني أنه يلتزم ويناضل من أجل ان يتحول الوطن العربي من البداوة والزراعة الى مجتمع صناعي ، ثم يفيض الانتاج فيه الى درجة ان كل عربي يستطيع ان يحصل على ما يريد بصرف النظر عما يعمل ، ثم تزول التناقضات بين الناس وبين المدن والقرى ويصبح الشعب العربي جماعة من الأخوة المتحابين المتعاونين الآمنين فلا يحتاجون الى جيش ولا إلى شرطة ولا الى محاكم ولا الى قانون ولا إلى دولة . نستطيع أن نقول ان هذا مجتمع وهمي لا إنساني وبالتالي فهو غير قابل للتحقق . لأنه قائم على فرض غير صحيح هو أن حاجات الناس قابلة للتوقف عند درجة معينة فيمكن اشباعها بفائض الانتاج مرة واحدة وإلى الأبد بينما حاجات الناس متجددة أبداً . قد يفيض الانتاج في سلعة فيستطيع كل واحد أن يأخذ منها حسب حاجته بدون توقف على عمله ولكن حاجته إلى سلع جديدة لن يتوقف أبداً . لأنه ” لا يستطيع أي انسان أن يكف نفسه عن الحاجة أو أن يشبع حاجاته المتجددة أبداً . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يظل  أبداً مفتقداً حرية جديدة باحثاً عن حريات متجددة ” . وقد يهم مثل هذا الحوار جماعة المثقفين في الوطن العربي . وقد يكون حواراً مفيداً على مستواه المجرد . ولكن الواقع العربي يكون في انتظار الاجابة على سؤال آخر . أنه : إلى متى ينتظر الكادحون العرب مجتمعهم الشيوعي الموعود ؟ متى تتحقق تلك الجنة ؟… بعد الف عام ، الفين … مائة ، مائتين ؟… إن الجوعى لا يصبرون أكثر من أعمارهم فلنكن إذن جادين في الحديث إليهم ، وليقل ذلك المواطن العربي الفخور بانتمائه إلى أهل الجنة ما الذي يلتزم في مواجهة الجماهير العربية المحرومة بتحقيقه في الواقع العربي المتخلف ؟.. إن كانت الاشتراكية فهذا تعبير قابل للفهم عن غاية قابلة للالتزام بها . فهو إذن اشتراكي . ويكفي أن يكون اشتراكياً . ولايهم أحد في الوطن العربي إلا أن يكون اشتراكياً . ولن يحاسبه أحد إلا على قدر ما يوفي بالتزامه الاشتراكي . أما عندما ينفي أنه اشتراكي  ليؤكد أنه شيوعي فإننا نكون في مواجهة هارب مثالي من متاعب الواقع إلى نعيم الأحلام . وهي قضية خاصة . والحق انه إذا لم يكن التبشير الهارب من الواقع حالة مرضية تستحق العلاج فهو موقف استغلالي يستحق الانتباه . فالغالب أن الواعدين بكل تلك الغايات الرائعة منها والطوباوية لا يحملون أحلاماً فارغة تمامأ من غايات عينية . وكثيراً ما تكون غاياتهم إغراء أحلام الجماهير المحرومة وجمع المحرومين ، و هم كثرة في الوطن العربي وفي المجتمعات المتخلفة، حول “ المبشرين ” ليرتقي المبشرون على آلام المحرومين فيصبحوا قادة بدون أن يلتزم القادة بشيء معين يستطيع المحرومون أن يحاسبوهم عليه ، فهو تأمين آخر ضد المسؤولية .
إن هذا ليس إدانة لأحلام البشر حتى لو كانت غير قابلة للتحقق ، وليس رفضاً للطموح الانساني حتى لو كان بعيداً . إذ أن الاحلام الرائعة والطموح البعيد والتطلع إلى مكان في الجنة قد تكون حوافز قوية على مغالبة متاعب تطوير الواقع الاجتماعي ولكنه إدانة ورفض ” للمثالية  التي تفرض الافكار المجردة على الواقع وتتجاهل الحد الزماني لحركة التطور الاجتماعي فتحيل ” الاحلام المجردة ” الى غايات مطلوبة في غير زمانها فلا تفعل إلا أن ” تخدر ” الناس فلا ينتبهون إلى مشكلات واقعهم في زمانهم ، أو تبدد الجهد الانساني في محاولات عقيمة لتحقيق ما لا يتحقق إلا في زمانه . انه ـ ببساطة أيضاً ـ عودة بعد الحلم الرائع إلى الواقع . وهو تفرقة بين الغايات لا من حيث استجابتها لما يتمناه الناس بل من حيث صلاحيتها للالتقاء والالتزام والاحتكام . وهي لا تكون كذلك لمجرد انها منسوبة الى الأمة العربية بل أيضأ بان تنسب إلى الأمة العربية في مرحلة تطورها الراهنة . بهذا تلتقي افكارنا المجردة في الزمان بالواقع العربي في زماننا فتتحول إلى غايات عينية نستطيع أن نلتقي عليها ونلتزم بها ونحتكم إليها في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها .
وبه نجيب على السؤال : ” متى ؟…”  وفيه نطبق ما تعلمناه : ” أن التطور الاجتماعي لا يتم بمحاولة تحقيق كل ما يريده الناس بل بتحقيق ما يمكن تحقيقه فعلاً مما يريدون في مجتمع معين في وقت معين . وقمة النجاح هو تحقيق كل الممكن . ويكون علينا أن نكتشف هذا الممكن موضوعياً في كل وقت    .

(2)

35 ـ لماذا ؟
هذي هي أمتنا العربية في النصف الثاني من القرن العشرين .
فما الذي يجب على الشعب العربي أن يحققه في الواقع الاجتماعي حتى تتطور الأمة العربية ؟.. إن السؤال بهذه الصيغة ينذر باننا على شفا منزلق خطير … نعود عليه مرة اخرى الى التجريد الفاشل : الاختفاء وراء الشعب هروباً من المسئولية . فنحن نحاول أن نلزم الشعب افكارنا الخاصة فنوجب عليه أن يحقق في الواقع العربي ما نريد نحن أن يتحقق . حتى إذا لم يتحقق كان الشعب هو المسئول عن الفشل . وهي لعبة تجريدية قديمة يتقنها الكثيرون في الوطن العربي فيسقطون إرادتهم على إرادة الشعب العربي قبل أن يقول الشعب العربي كانت فيما يريدون . فترى الاقليميين يتحدثون باسم الأمة العربية ، والمتخمين يتحدثون باسم الجائعين ، ويعلن المستبدون ما يريدون باسم الشعب ، ويحترف “البورجوازيون” الحديث باسم العمال الكادحين .  لنصحح السؤال إذن ليكون : ماالذي يجب علينا أن نحققه في الواقع العربي حتى تتطور الأمة العربية ؟
وهو تصحيح نغادر به  ـ  نهائياً ـ التجريد الفكري وتتضح به أكثر من ذي قبل ماهية نظريتنا . انها ليست مجرد نظرية في التطور الاجتماعي ، أو التطور القومي ، أو التطور العربي ، بل هي ـ  على وجه التحديد ـ نظرية القوى العربية التي تلتقي عليها وتلتزم بها وتحتكم اليها في عملها لتطوير الواقع العربي . وهي في هذا مثل كل المقولات الفكرية ، لا تغادر التجريد مغادرة نهائية ولا تلتقي بالواقع الاجتماعي التقاء كاملأ إلا إذا تجسدت في بشر يلتقون عليها ويلتزمون بها ويحتكمون إليها فتصبح نظريتهم وتؤدي فيهم وظيفتها كضابط للعمل واداة لتحقيق الوحدة الفكرية بينهم في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها . وعندما لا تجد أية مقولة فكرية ، ولو كانت عبقرية ، بشراً عاملين يلتقون عليها ويلتزمون بها ويحتكمون إليها تبقى معلقة فوق الواقع الاجتماعي بعيدة عن الحياة فيه . فتبقى قيمتها ، إن كانت لها قيمة ، مقصورة على فائدتها الثقافية .
وكما لا بد أن نتوقع تضعنا مغادرتنا النهائية للتجريد الفكري والتقاؤنا الكامل بالواقع العربي في مواجهة عديد من الاسئلة الدقيقة التي يتعين على نظريتنا أن تجيب عليها إجابات واضحة . انها ذات الأسئلة التي كان التجريد الفكري مهربأ من مواجهتها . أول تلك الأسئلة هو : لماذا نختار ” نحن ” غايات تلزم انفسنا بتحقيقها في الواقع العربي ؟ وهو سؤال استنكاري يتضمن اعتراضاً على أن تتصدى فئة من الشعب العربي لاختيار غايات لا لتحققها في ” شؤونها الخاصة ” ولكن لتحققها في الوطن العربي كله للشعب العربي كله . لعشرات الملايين من البشر لا يعرفونهم . إن لكل أصحاب نظرية يجسدونها التقاء والتزاماً واحتكاماً مبررات يستطيعون أن يجيبوا بها على السؤال : لماذا اخترنا ؟… وتتضمن النظرية عادة تلك المبررات . فهم يقدمون من افكارهم مبررات اختيارهم . ولا اعتراض على هذا . ولكن السؤال الاعتراضي منصب على أن يختاروا للأمة العربية . ما هو مصدر حقهم في أن يختاروا، وهم فئة محدودة من الشعب العربي مهما كثر عددهم ، غايات لتطور الأمة العربية كلها ؟ هل هو فضول قد يرد أم تسلط يجب أن يرد ؟ … انها اسئلة لا بد للنظرية من أن تجيب عليها قبل أن تحدد للقوى التي تجسدها غايات يلتزمون بتحقيقها في الواقع العربي . ذلك لأنهم يواجهون في الممارسة جماهير أمتهم بالتزامهم السابق بتحقيق غايات عينية في الواقع الاجتماعي الذي هو واقع هذه الجماهير وحياتها . وتلك علاقة لا ينبغي أن تبقى معلقة بدون بيان لماهيتها يعرف به كل واحد لماذا يفعل بنفسه ما يفعل ليغير ويطور حياة الناس . ولنعرف لماذا نختار نحن للأمة العربية ولا نختار لأنفسنا ؟ ..
ان الاجابة سهلة . فقد سبق أن عرفنا من جدل الانسان ، ” ان الواقع الاجتماعي هو الذي يسهم في اثارة المشكلات في المجتمع . لأن الواقع (حصيلة الماضي) الذي يناقض ما يريده الانسان هو ـ هنا ـ واقع اجتماعي . ومؤدي هذا انه لا وجود في المجتمع لما يسمى المشكلات الخاصه . إن كل المشكلات التي يواجهها أي انسان في حياته هي مشكلات اجتماعية في حقيقتها الموضوعية . بحيث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا على ضوء الواقع الاجتماعي الذي اسهم في اثارتها أو الا من حيث هي تعبير عن تناقض قائم بين الواقع الاجتماعي كما هو وبين ما يريده الانسان فيه “. (فقرة 18) . وعندما طبقنا هذه القاعدة الموضوعية على مجتمعنا العربي قلنا أن الأمة العربية ” عندما اكتملت تكويناً كانت بذلك دليلاً موضوعياً غـير قابل للنقض على أن ثمة وحدة موضوعية ، قد نعرفها وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي أيا كان مضمونها، وانها، بهذا المعنى مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بامكنيات قومية وقوى قومية  في نطاق المصير القومي ” (فقرة   . (23
نحن ، إذن ، نختار للأمة العربية لا تفضلاً ولا تسلطاً بل لأننا لا نستطيع إلا أن نختار للأمة العربية بحكم وحدة المصير القومي ، ولأن الذين يختارون لأنفسهم في عزلة عن مصير مجتمعهم فاشلون . ونعرف أن الواقع الموضوعي الذي يربط مصير كل واحد من الشعب العربي بمصير أمته يحول دون أن يختار أحد لنفسه . إنه عندما يختار لنفسه مستهدفاً حل مشكلاته التي يعرفها يكون قد اختار للأمة العربية بدون أن يعرف ولو لم يختر سوى الانتحار الذي يحرم أمته من جهده في خدمة تطورها . وكما انه من الجبن أن ننكر أننا نحن وليس الشعب العربي الذين نختار الغايات التي نلزم أنفسنا  بتحقيقها في الواقع العربي ، يكون من النفاق أن نخفي اننا نختار للأمة العربية وليس لأنفسنا فقط . ونحن لا نريد أن نكون فاشلين أو جبناء أو منافقين ، ولا نريد أن يمر بخاطر أحد منا ، أو أحد غيرنا إننا نختار لأمتنا تفضلاً أو تسلطاً . لهذا نقول : ما دمنا ننتمي الى الأمة العربية ، وهي مجتمعنا الذي يحدد مصيرنا في مصيره ، فإننا لا نستطيع إلا أن نختار للأمة العربية كلها غايات نلتزم نحن بتحقيقها ومن حقنا أن نختار لأمتنا العربية كلها لأن الاختيار لأنفسنا دون الأمة العربية التي ننتمي إليها مستحيل . ثم نضيف إننا إذ نرفض الاعتراض على حقنا نحن في أن نختار لأمتنا العربية كلها غايات نلتزم نحن بتحقيقها لأن الاختيار لأنفسنا مستحيل فإنه من المستحيل علينا ، بحكم نظريتنا ذاتها ، أن نعترض على حق غيرنا من أبناء الأمة العربية في أن يختاروا لأمتهم ما يشاءون من غايات يلزمون أئفسهم بتحقيقها مهما تكن تلك الغايات مختلفة عن غاياتنا . هذا مع إننا نعلم علم اليقين إنهم عندما اختاروا بأنفسهم ما اختاروا لأمتهم قد اختاروا لنا أنفسنا إذ نحن بعض أبناء الأمة العربية . ان هذا حقهم بحكم وحدة المصير القومي التي هي مصدر حقنا 
وسنعرف عند حديثنا عن الأسلوب الذى نحقق به غاياتنا كيف يحدد لنا هذا الذي نقوله الآن مواقف عينية في ساحات الممارسة .
ولنواجه سؤالاً آخر من الأسئلة الدقيقة التي تبدأ بـ  ” لماذا ؟ “..
أياً كان مضمون الغايات التي نختارها للأمة العربية ونلزم أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي ، ” لماذا ؟ ” نختارها هي بالذات دون غيرها ؟ لو كنا نختار لأنفسنا لكانت الإجابة سهلة : إننا نختارها لأنها الحلول الصحيحة للمشكلات الإجتماعية التي نشعر بها في أنفسنا . ولكننا نختار للأمة العربية . وتكون الإجابة السهلة هي : أن الغايات التي اخترناها للأمة العربية قد اخترناها وألزمنا أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي لأنها الحلول الصحيحة للمشكلات الإجتماعية في الوطن العربي . غير أن هذه إجابة يستطيع كل واحد أن يقولها فيزعم لنفسه  أو لغيره أن الغايات التي اختارها لمجتمعه هي ، وحدها، الحلول الصحيحة للمشكلات الإجتماعية في مجتمعه ثم يوهم نفسه أو غيره بأنه قد أجاب على سؤال دقيق بقول مفيد . وهو غير صحيح . فما يزال السؤال الدقيق قائماً ولن يكون القول مفيداً في الإجابة عليه إلا إذا عرفنا لماذا تكون تلك الغايات التي نختارها لأمتنا العربية هي دون غيرها الحلول الصحيحة للمشكلات الإجتماعية في الوطن العربي ؟.
إنه أدق الأسئلة المطروحة على الفكر السياسي على وجه الإطلاق لأن الإجابة عليه تتصل إتصالاً مباشراً بحياة الآخرين من ملايين البشر الذين نختار لهم قبل أن نعرف رأيهم فيما اخترنا . أولئك الملايين من البشر الذين نزعم إننا ما اخترنا ولا التزمنا إلا من أجل حل مشكلاتهم الإجتماعية . وهو زعم ذو ثمن باهظ . فقد ندفع نحن حياتنا في سبيله وقد يدفع الاخرون حياتهم في سبيل ردنا عن سبيله . وعندما تكون الحياة والموت متوقفين على صحة الأفكار التي تضبط حركة البشر تكون المسئولية عن صحة الأفكار فادحة . وهي مسئولية لا يشعر بها المثاليون والماديون لأن النظريات المثالية والمادية تسمح لأصحابها بممارسة هوايتهم الخطرة والمفضلة معاً : الحديث نيابة عن الناس والتعبير عن مشكلات عشرات الملايين من البشر الذين لم يعرفوهم قط . فيجدون في المادية أو المثالية التي تختار للناس ما يريدون مهرباً مريحاً من مسئولية الإجابة على السؤال الدقيق .
أما نحن ، أصحاب نظرية جدل الإنسان ، التي تنكر أن يكون التناقض الجدلي قائماً في الفكر المجرد أو في المادة الصماء وتؤكد إنه قائم في الإنسان نفسه بين واقعه وبين إرادته فتدخل الشعور الذاتي بالحاجة عنصراً موضوعياً في تحديد المشكلة الإجتماعية ، فقد حرمت علينا نظريتنا أن ننسب الى الناس مشكلات لا يحسون بها في أنفسهم ، وعلمتنا ” أن التطور الإجتماعي هو حل مشكلات الناس في المجتمع لا أكثر ولا أقل ، وأن ” علينا ونحن نحاول أن نعرف ما الذي يجب أن نفعله لنطور واقعنا الإجتماعي أن نعرف مشكلات الناس معرفة صحيحة . مشكلات الناس بما فيهم نحن وليس مشكلاتنا نحن دون الناس . ونحن نعرفها بالمقارنة بين الواقع الإجتماعي كما هو وبين ما يريده الناس كما هو . ان المشكلة هي الفرق بينهما في المضمون والمدى ” . وأن ” التطور الإجتماعي ليس مجرد نمو خلال الإضافة بل ان كل إضافة ينمو بها المجتمع ويتطور هي حل لمشكلة إجتماعية واقعية فليس كل ما يحدث في الواقع الإجتماعي تطوراً ” . منذ أن تعلمنا وعرفنا كل هذا أصبح مستحيلاً علينا أن نحدد لنا غايات نختارها للأمة العربية ونلزم أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي لمجرد إرادة تغيير الواقع أو لمجرد تغيير ما نريد نحن حلاً لمشكلاتنا التي نعرفها ، بل أصبح علينا قبل أن نحدد تلك الغايات وقبل أن نلتزم بتحقيقها أن نعرف المشكلات الإجتماعية التى هي حلول لها . ومن واقع المشكلات تتحدد الغايات ونقدم الإجابة عن السؤال : لماذا اخترنا للأمة العربية ؟
(3)

36 ـ مشكلات التطور : 

كيف نعرف المشكلات الإجتماعية التي يعانيها الشعب العربي فعلاً ؟

يبدو طبقاً لنظريتنا اننا في حاجة الى استفتاء الشعب العربي في مشكلاته قبل أن نحدد لأنفسنا غايات تلتزم بتحقيقها في الواقع العربي حلاً لتلك المشكلات تتطور به الأمة العربية . ليس كذلك تماماً . فلو كنا قد استوعبنا تماماً جدل الإنسان لاستطعنا أن نفرق بسهولة بين نوعين من مشكلات التطور الإجتماعي . النوع الأول هي المشكلات التي يثيرها التناقض الجدلي المتجدد أبداً بين الواقع المادي وحاجة الانسان المتجددة أبداً . إنها مشكلات الإضافة والنمو التي تتوقف معرفة حلولها الصحيحة على معرفة ما يشعر كل إنسان بالحاجة إليه فعلاً ، وهو لا يعرف إلا من الناس أنفسهم . ففيهم أنفسهم يتناقض الواقع والحاجة وتثور المشكلة . وعندما نعرف مشكلات النمو التي يعانونها في أنفسهم ، عندما تعرف ماهية المضامين العينية الجديدة التي يريدونها لإشباع حاجاتهم المتجددة أبداً ، يمكن ، بعد هذا وليس قبله ، اكتشاف الحلول الصحيحة لتلك المشكلات كما هي محددة موضوعياً بامكانيات واقعهم . وهي حلول ستكون متجددة متنوعة متغيرة متزايدة أبداً لأن ” تحرر الإنسان حاجته في موضوع معين يؤدي مباشرة الى حاجته في موضوع جديد . ولا يستطيع أي إنسان أن يكف نفسه عن الحاجة أو يشبع حاجاته المتجددة أبداً . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يظل أبداً مفتقداً حرية جديدة باحثاً عن حريات متجددة ” . أما النوع الثاني فهي المشكلات التي يثيرها التناقض بين واقع إجتماعي معين وبين إرادة التطور. بين إرادة الناس حل مشكلات التقدم والنمو التي يشعرون بها في أنفسهم وبين واقع إجتماعي معين يحول بينهم وبين حلها . مشكلات التنمية قائمة، وإرادة حلها قائمة ، وإمكانيات حلها قائمة ، ولكن ذلك الواقع المعين يحول بين الناس وبين ما يريدون . وتكون هذه هي المشكلة الطارئة على حركة التطور المعوقة له . وتمكن معرفتها حيث تكون بدون حاجة الى الرجوع الى الناس . ذلك لانه يمكن ، بدون حاجة الى استفتاء ، معرفة ان كل إنسان يريد ، من حيث هو انسان ، أن يحل مشكلاته بصرف النظر عن مضمون تلك المشكلات ، ” إذ حتم على الإنسان بحكم قانونه النوعي أن يستهدف دائماً حريته ”. ” كما يمكن ، بدون حاجة الى استفتاء ، معرفة الواقع الإجتماعي الذي يحول بين الناس وبين تحقيق إرادتهم في التطور . يمكن معرفته عن الواقع الإجتماعي ذاته وهو قابل للمعرفة بدون استفتاء ..

وعندما نعرف النقيضين نعرف المشكلة بدون استفتاء ، فنعرف أنها ، أيأ كان مضمونها ، مشكلة حرية . ما يحول بين الناس وبين التطور . والتطور يتم بحل مشكلات التقدم والنمو كما عرفنا . ومن هنا فان المشكلات التي نسميها مشكلات حرية ، من حيث أن التحرر هو حلها الصحيح ، تعنى أنه ثمة في الواقع الإجتماعي ما يحول دون التقدم والنمو الإجتماعي المتكافيء مع الإمكانيات المتاحة .

لهذا نسمى المشكلات الأولى مشكلات التنمية التي يحلها الناس بانتاج ما يحتاجون إليه من مضامين مادية أو ثقافية عن طريق توظيف إمكانياتهم المادية والبشرية المتاحة في مجتمعهم . ونفترض أن ثمة مجتمعاً متحرراً يواجه الناس فيه واقعهم ويطورونه بدون عائق . أما المشكلات الثانية فتسمي مشكلات التخلف . لا بمعناه الدارج أي التخلف عن المجتمعات الأخرى في سياق التقدم المادي الثقافي الذي يقاس ، عادة بمستوى المعيشة ، ولكن بمعناه الفني كما هو معروف في علم الاقتصاد السياسي ، أي عجز  الناس في مجتمع معين عن توظيف كل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة فعلاً ـ في مجتمعهم .

 المهم اننا لا نستطيع أن نعرف الحلول الصحيحة لمشكلات التنمية التي يكون من أثرها اشباع حاجات الناس إلى مضامين مادية وثقافية معينة بدون معرفة ما يحتاج اليه الناس فعلا من الناس أنفسهم هذا طبعأ مع التجاوز عما نستطيع أن نعرفه من حاجاتهم الفسيولوجية إلى المواد الأساسية اللازمة مادياً لحفظ الحياة . أما مشكلات التخلف التي يكون من أثرها منع الناس من توظيف كل الامكانيات المتاحة في مجتمعهم لاشباع حاجاتهم فاننا نستطيع أن نعرفها بدون رجوع إلى الناس لأننا نعرف ان الناس يريدون دائماً اشباع حاجاتهم بما هو متاح فان لم يفعلوا فلا بد من أن ثمة ما يحول بينهم وبين ما يريدون .

واضح انها تفرقة في مصادر معرفة المشكلات الاجتماعية . بعضها مصدر معرفته هو الناس أنفسهم . وبعضها مصدر معرفته القوانين الموضوعية التي يخضع لها الناس حتما وتؤثر هذه التفرقة ، بالتالي ، في كيفية معرفة الحلول الصحيحة لها . بعضها لا يعرف إلا بعد الرجوع الى الناس لمعرفة ما يريدون من مضامين مادية أو ثقافية ، وبعضها يعرف بدون الرجوع الى الناس لأن مضمونه في كل الحالات هو تمكينهم من تحقيق ما يريدون . وهكذا يختلف في مواجهته كل منهما الاسلوب الذي نحدد به غاياتنا . نحدده في الاولى استناداً إلى ما نعرفه من الناس وحاجاتهم . ونحدده في الثانية استناداَ إلى ما نعرف من القوانين الموضوعية التي تضبط حركة الناس . وستكون هذه التفرقة ذات أهمية كبيرة عندما نصل بالحديث الى تحديد الاسلوب الذي تتحقق به في الواقع العربي الغايات التي اخترناها للأمة العربية . ذلك لاننا وان كنا نلزم أنفسنا دائماً بتحقيق الحلول الصحيحة لمشكلات التنمية ومشكلات التخلف جميعاً إلا أن اسلوب تحقيق كل منها سيكون مختلفاَ .

وأخيراَ ، فينبغي أن ننبه إلى أن حل مشكلات التنمية هو الأصل لأن التطور هو الأصل في حركة المجتمعات بحكم حتمية القوانين الموضوعية التي تضبط حركتها من الماضي إلى المستقبل . فهي مشكلات مستمرة ومتجددة ومن حلولها المستمرة المتجددة تنمو المجتمعات وتتقدم . أما مشكلات التخلف فطارئة وبالتالي مؤقتة . وهي تعوق التطور ولكنها عندما تحل تطرد حركة التطور التقدمي من خلال الحلول الجدلية لمشكلات التنمية . ومن هنا فإن وجود التناقضات التي تثير مشكلات التخلف في المجتمع لا تلغي نهائياً حركة التطور الحتمية انما تضعفها . ففي ظل مشكلات التخلف تظل مشكلات التنمية قائمة ومتجددة يحلها الناس ولكن بما هو ” متاح لهم ” وليس بما هو ” متاح في مجتمعهم ” . أو بتعبير آخر، عندما تثور مشكلات التخلف في أي مجتمع ، والى أن تحل تظل حركة التطور عن طريق حل مشكلات التنمية قائمة ومستمرة بقدر ما ” هو ممكن ” وليس بقدر ” ما يجب ان يكون ” منسوباً الى الامكانيات المادية والبشرية المتاحه فعلا في مجتمع معين في وقت معين .

فلينطبق هذا على الامة العربية .

ان الامة العربية هي الشعب العربي (الناس) والوطن العربي (الارض) وفيهما تتمثل الامكانيات المتاحة للتطور العربي ( فقرة 22) . يمثل الشعب العربي بما يملكه من قوة العمل اليدوي والذهني الامكانيات البشرية المتاحة. ويمثل الوطن العربي بما فيه من مصادر الثروة الامكانيات المادية المتاحة . ويتم التطور بأن يتولى الشعب العربي بما يملكه من قوة العمل اليدوي والذهني تحويل ما في الوطن العربي من مصادر الثروة الى ثروة متاحة ، أي الى مضامين مادية أو ثقافية تشبع حاجاته المتجددة ابداً . وهكذا يواجه الشعب العربي نوعين من المشكلات الاجتماعية وهو يطور واقعه :

الاول : المشكلات المستمرة المتنوعة المتجددة التي يعانيها وهو يحاول أن ينتج من الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي ما يشبع به حاجاته المستمرة المتنوعة المتجددة أبداً :

الثاني : المشكلات الطارئة ، المعوقة ، التي تحول بينه و بين أن يحل مشكلات النوع الاول .

وبما أن النوع الاول هو الاصل فنبدأ به .

(4)

37 ـ مشكلات التنمية : 

نحن نعرف من واقعنا العربي أن أجزاء أمتنا العربية مغتصبة وأن الاستعمار الظاهر و الخفي ، القديم والجديد يسيطر عسكرياً واقتصادياً على كثير من ا مكانياتنا المادية والبشرية . ونحن نعرف أننا أمة مجزأة تقوم على كل جزء منها دولة من أبنائها أو من الغاصبين ونعرف أن الرجعية المستغلة تفرض الفقر والمذلة على شعبنا العربي . وان هذا كله شامل الأمة العربية شعباً ووطناً بدون فائض ” الشعب العربي ، الجماهير العربية ، هي هي ذاتها شعوب وجماهير الأقاليم . والوطن القومي هو هو ذاته المجزأ بين الدولة الاقليمية . الامكانيات القومية هي ذاتها المقسمة الى امكانيات اةليمية … في هذا الواقع لا يوجد شعب قومي مفرز كما لا توجد أرض قومية خالصة ” ( فقرة 31 )  .

وبينما يركز الفكر القومي التقدمي تركيزاً قوياً على مشكلات الاستعمار والتجزئة والاستغلال حتى نكاد نعرف منه كل شيء تقريباً عن تلك المشكلات وحلولها الصحيحة كما يرمز لها الشعار المثلث : “الحرية والوحدة والاشتراكية ” الذي ترفعه وتتحرك من تحته اعرض القوى في الوطن العربي ، لا نكاد نعرف من الفكر القومي التقدمي شيئاً معيناً يجب أن يتحقق في الواقع العربي المستعمر المجزأ المستغل ، حتى تتطور الأمة العربية بقدر ما هـو متاح فيها . كأن الشعب العربي لا يعاني في حياته إلا مشكلات الاستعمار والتجزئة و الاستغلال .

وهو غير صحيح وغير واقعي .

ليس الاستعمار والتجزئة والاستغلال هي المشكلات الوحيدة التي يعانيها الشعب العربي فعلاً . وليست الحرية والوحدة والاشتراكية هي الغايات الوحيدة التي يريدها الشعب العربي حقا . بل اننا نستطيع أن نقول أن كثيرين من ابناء الامة العربية تستغرقهم مشكلات الحفاظ على الحياة ، مجرد الحفاظ على الحياة ، من مخاطر الجوع والمرض والعرى والتشرد فلا يجدون في رؤوسهم مكاناً يستقبلون فيه الحديث عن مشكلات الاستعمار والتجزئة والاستغلال ، ولا يجدون في أوقاتهم متسعاً للتفكير في الحرية والوحدة والاشتراكية . وكثيرون من أبناء الأمة العربية ، ملايين ، عشرات الملايين ، يعرفون مشكلات الاستعمار والتجزئة والاستغلال ، ويريدون الحرية والوحدة والاشتراكية ، ولكن مشكلات الحياة اليومية تستنفد طاقاتهم فلا يجدون فائضاً منها يبذلونه في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية . انهم مشغولون باشباع حاجاتهم المتجددة ابداً بما هو متاح لهم . البدوي الذي يقضي ايامه متنقلا في الأرض الوعرة يبحث عن حل لمشكلة غذاء قطيعه ويصبر على الجوع والعري ومخاطر الطبيعة  في انتظار أن تلد النعجة حملاً فيحل مشكلة غذائه وكسائه . الفلاح الذي يقضي أيامه وسط الطين يبذر البذور ويصبر على الجوع والعرى والمرض في انتظار أن تنمو البذور فتأتي الثمار. وما أن تأتي بعد شقائه الطويل حتى يستولي على اكثرها المرابون والمالكون الأرض ومحصلو الضرائب . العامل المجهد خلال ساعات العمل الطويل يحل مشكلات الانتاج بمعدل السرعة التي تفرضه الالات في حركتها غير الانسانية التي لا تتوقف ، ثم يطلب ويرجو ويتوسل وقد يتحايل من أجل أن يزداد ارهاقاً في ساعات عمل اضافية ليحصل على قروش يحل بها مشكلات أسرته التي تنتظر . الشباب لا يتعلمون أو ينقطعون عن التعلم لأنهم لا يستطيعون دفع ثمن العلم . وراء كل هـؤلاء ملايين من الاباء والشيوخ والامهات العاجزات والاطفال الذين يموتون لان اباءهم لا يجدون ما يبذلونه من أجل الحفاظ على حياة ابنائهم . وبجوار هؤلاء ملايين من الشباب العربي يقضون ايامهم الطويلة المملة في محاول حل مشكلة القادر العاطل : ماذا يعمل ؟..  وفوق كل هؤلاء بضعة ملايين من رؤساء العشائر ومشايخ القبائل والمالكين المستغلين والمستعمرين والمغتصبين والبيروقراطيين تكاد يكون دورهم الوحيد استغلال شعبنا العربي وسلبه إمكانيات تطوره وتنغيص حياته وتعقيد مشكلاته . وفي مواجهتم ملايين من الرجال والنساء العرب العاملون الجادون يبذلون جهودهم الخلاقة في الصحارى والجبال والمزارع والمصانع والمدارس والجامعات وفي كل مجالات الخدمات ، ينتجون ويضيفون وينمون ويبنون بقدر ما هو متاح لهم من امكانيات وهو قليل … الخ .

هذه هي أمتنا العربية . إذ لا وجود لكائن وهمي يسمي الامة العربية مستقل عن الشعب العربي . وهذا هو الشعب العربي . عندما نشير اليه بأصبع لنقول هذا شعبنا سيقع اصبعنا على بدوي يحل مشكلة الصحراء أو فلاح يحل مشكلة في الارض ، أو عامل يحل مشكلة في المصنع ، أو والد شيخ أو أم عاجزة أو طفل يحتضر … الخ . عندئذ نعرف معرفة اليقين أن ” وحدة المصير القومي ” التي لا نمل الحديث عنها وتأكيدها لا تعني في الواقع العربي إلا وحدة مصيرنا ومصير هؤلاء البشر .   وان تطور الامة العربية ” إنما يتم ويطرد عن طريق حل المشكلات الاجتماعية التي يعانيها هـؤلاء البشر إذ أن ” المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها ، ولا تتطور إلا من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها لا ابعد   .

هنا وهناك ، على امتداد الوطن العربي، في مواقع العمل أو في مواقع البطالة توجد ملايين المشكلات الاجتماعية التي يثيرها التناقض بين الواقع العربي وما يريده الشعب العربي . وهي كلها مشكلات تقدم وتنمية . فيها يحاول العاملون من أبناء الامة العربية ان يغيروا بالانتاج واقعهم ليشبعوا حاجات الشعب العربي المتغيرة المتنوعة المتجددة ابداً . في ظل الاستعمار وفي ظل الحرية ، في ظل الاقليمية وفي ظل الوحدة ، في ظل الاستغلال وفي ظل الاشتراكية ، لا تتوقف محاولة التطور، ولا يكف الانسان العربي عن محاولة حل مشكلاته عن طريق تغيير واقعه ليشبع حاجاته . ليحقق ارادته . ليتطور . ليبني . ليضيف . ليتقدم . ونحن نعرف ان كل هؤلاء العاملين الكادحين المشغولين بحل مشكلات الحياة لا يفعلون شيئاً سوى تطوير وبناء وتقدم امتهم العربية سواء كانوا يعرفون هذا ويقصدونه او كانوا لا يعرفون ولا يقصدون . هذا اذا كنا نحن قد وعينا ما عرفنا وما ينبغي أن نؤكده مرة ومرات من ان ” المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها . ولا تتطور إلا من خلال حل مشكلات الناس فيها. وبقدر ماتحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها لا ابعد ” .

ما هي تلك المشكلات وما هى حلولها الصحيحة ؟

الاجابة هنا وهناك على امتداد الوطن العربي حيث يعيش الشعب العربي في مواقع العمل او في مواقع البطالة . وهي مشكلات تختلف مضامينها وتتنوع من واحد الى واحدة ومن جماعة الى جماعة ومن موقع الى موقع ومن يوم الى يوم . ولاتستطيع اية نظرية ” انسانية ” ان تحدد مقدماً مشكلات التنمية كما يعانيها الشعب العربي حيث يكون . ان اقصى ما يمكن معرفته ” نظرياً ” هي انها ذات المضامين مادية وثقافية . ربما لان الانسان الذي هو ” وحدة من المادة والذكاء ” لا يحتاج الى مضامين من نوع ثالث . اما ما هي تلك المضامين المادية والثقافية وأين مصادر انتاجها وكيف يتم انتاجها و كم يحتاج الشعب العربي منها وما الذي يفعل كل واحد ليتم الانتاج وكيف تصل المنتجات الى الحاجات فتشبعها وكيف يتكرر الانتاج … الخ . فتلك اسئلة تجيب عليها ” خطط ” التنمية الاجتماعية التي تتضمن الحلول الصحيحة لمشكلات التنمية . وليس من شأن النظرية، اية نظرية انسانية لا تبيح لاصحابها الحديث نيابة عن الناس وتضع ” الانسان اولاً ” ان تجيب عليها مقدماً وبعيداً عن الناس وواقعهم . وإن كان من شأنها ان تنذر بالفشل الذي تستحقه  أية حركة تستهدف تطوير الواقع لحل مشكلات اصحابها جاهلة او متجاهلة مشكلات الناس . او جاهلة او متجاهلة حقيقة الواقع الاجتماعي، او مدعية للناس مشكلات لا يشعرون بها من انفسهم ” . وهـو ما انذرنا به جدل الانسان منذ البداية ( فقرة 18 )  .

إذا كنا نريد ، إذن ، أن نعرف الغايات التي نختارها للأمة العربية ونلزم أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي حتى يتطور فلنعش مع الشعب العربي في مواقع العمل أو في مواقع البطالة و لنعرف ما هـي مشكلاته ولنكتشف حلولها الصحيحة ثم نحولها إلى خطوط انتاج يومي تنفذها في الواقع العربي . تلك هـي ” الغاية ” التي تلزمنا بها نظريتنا : أن نعرف من الشعب العربي نفسه المشكلات الواقعية التي يثيرها التناقض بين واقعه وان نكتشف حلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته ثم نلزم أنفسنا بتحقيقها . بهذا ننضم الى قافلة البنائين الحقيقيين للتقدم في الأمة العربية . إذ بالأنتاج ثم الانتاج ثم مزيد من الانتاج تتقدم الأمة العربية ـ  وبقدر ما ننتج ثم ننتج  ثم ننتج  نسهم حقاً في تقدم الأمة العربية ، أن هذي هي عملية البناء والإضافة التي تتطور من خلالها المجتمعات والأمم، ومن خلالها نطور واقع أمتنا العربية . وهي قائمة ومتجددة قبل التحرر وبعده ، قبل الوحدة وبعدها ، وقبل الاشتراكية وبعدها . لم تتوقف منذ أن وجد الإنسان على الأرض ولن تتوقف أبداً .

ولكنا عندما نحاول انجازها في ظل الاحتلال أو الاستعمار أو التجزئة أو الاستغلال سنكتشف أن ثمة في الواقع العربي ما يحول بين إرادتنا التقدم وبين التقدم . ما يحول بين إرادتنا التطور وبين الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في أمتنا العربية . عندئذ سيستمر التقدم من خلال حل مشكلات التنمية بما هو متاح للشعب العربي ، وبقدر ما هو متاح ، وفي المجالات المتاح فيها ، ويثبت لنا الواقع ذاته أن حل مشكلات التنمية بما هو متاح في الأمة العربية وليس بما هو متاح للشعب العربي فقط ، يقتضي حل مشكلات التخلف .

(5)

38 ـ مشكـلات التخلف :

قلنا أن للتخلف مفهومين . المفهوم الدارج أي التخلف عن المجتمعات الاخرى في سباق التقدم المادي والثقافي الذي يقاس عادة بمستوى المعيشة أي متوسط ما يحصل عليه كل فرد من المضامين المادية والثقافية لاشباع حاجته . والمفهوم الفني كما هو معروف في علم الاقتصاد السياسي، أي عجز الناس في مجتمع معين عن توظيف كل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة فعلاً في مجتمعهم .

ولا شك في أن الأمة العربية متخلفة بالمفهومين كليهما .

فمستوى معيشة الاغلبية الساحقة من الشعب العربي أقل بكثير من ” حد الفقر ” الذي تجاوزته بعض المجتمعات المعاصرة منذ قرن . وفي الوطن العربي يموت الملايين كل عام بذلك المرض الذي لا تموت منه حتى الحشرات : الجوع . عدم الحصول على الحد الادنى من المواد الغذائية اللازمة لاستمرار الحياة . أما باقي المائة مليوناً ، إلا قلة ، فيعيشون تحت المستوى الذي يشبع حاجاتهم الفسيولوجية ولا نقول الثقافية ويدفعون الفرق سنين مخصومة من أعمارهم ، إذا أردنا أن نعرف هذا وندرك بشاعته فلنغادر المدن العربية تلك النتؤات الاجتماعية النامية نمو الأوارم الخبيثة فهي مؤشرات الى أمراض خطيرة أكثر منها صحة . تلك المدن التي انشئت لتكون  مقراً وسكناً ” لائقاً ” بحياة المستعمرين الأوربيين ولتكون قطعاً من أوربا . وما تزال البيروقراطية المستغلة ، خليفة المستعمرين ، تنميها وتزوقها لتكون مقراً وسكناً ” لائقاً ” بحياة القادرين على أن يسلبوا الفقراء أسباب الحياة ليصنعوا منها لأنفسهم حياة مترفة . في هذه المدن يثير المترفون أكثر المشكلات غرابة وغربة عن الشعب العربي . مشكلات الرفاهية مشكلات الانماط المستحدثة من المباني والسيارات والملابس والمجوهرات ووسائل التسلية لملء أوقات الفراغ ويستعيرون لها آخر ما وصلت اليه المجتمعات الأوربية أو الامريكية من حلول مترفة . في هذه ” المجتمعات ” الغربية  الغريبة القائمة في الوطن العربي لا نلتقي بالشعب العربي فلا نعرف كم  هو متخلف في مستوى معيشة . انما نلتقي به ونعرف كم هو متخلف في الازقة المتعفنة من بقايا المدن القديمة حيث يعيش العمال حول المدن المستحدثة . في جوف الصحراه القاحلة وعلى قمم الجبال الجرداء حيث يحيا جزء كبير من الشعب العربي ذات الحياة التي كان يحياها اسلافهم منذ الف عام .  في الريف العربي حيث تعيش اغلبية الشعب العربي من الفلاحين . هناك يعيش الانسان العربي تحت حد الفقر، وهناك يكون الحصول على ” لقمة العيش ” مشكلة متجددة من وجبة إلى وجبة ، وهناك يموت الإنسان العربي من الجوع . ذلك هو الشعب العربي في واقعه المتخلف وفي  آلامه . نعم آلامه . ففى هذا النصف الثاني من القرن العشرين حيث تولى التقدم المذهل في وسائل المواصلات والنشر والاذاعة عصفت موجات ” الترانزستور ” بالحذر العتيق : ” القناعة كنز لا يفنى “. ويعرف الشعب العربي ، لا شك يعرف ، كم استطاعت الشعوب الاخرى أن تحقق من تقدم . فهو يتطلع ، لاشك يتطلع إلى مثل الحياة التي يعرفها ، فيشعر، لاشك يشعر، بعمق التناقض بين واقعه وبين ما يتمناه لنفسه ، فيتألم ، لا شك يتألم ، ألماً يتضاعف بقدر ما تتضاعف معرفته بمدى تخلف أمته العربية عن المجتمعات المعاصرة .

ومع هذا فليس هذا هو التخلف الذي يعنينا في مرحلتنا الراهنة إذ ” أن التطور الاجتماعي لا يتم بتحقيق كل ما يريده الناس بل بتحقيق ما يمكن تحقيقه فعلا مما يريدون في مجتمع معين في وقت معين ” ان التخلف عن المجتمعات الاخرى يثير الآلام التي تكون حافزاً على التقدم وانذاراً للذين يتجاهلون الآم الناس ، ولكن التقدم لا يتم إلا بتحقيق ما هو ممكن . التخلف الذي يعنينا ، اذن ، أكثر تواضعاً مما تثيره المقارنة بين امتنا والمجتمعات المتقدمة . انه تخلف الامة العربية بمعناه الفني عجز الشعب العربي عن أن يحقق لنفسه التقدم المادي والثقافي الممكن فعلاً كما هو محدد موضوعياً بالامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي . عجز الشعب العربي عن ان يوظف كل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة فعلاً في وطنه .

هنا سنواجه ما يقال من أن أغلبية الشعب العربي نفسه متخلفة . عشرات الملايين من أبناء الامة العربية عاجزون ” ذاتياً ” عن أن يعرفوا الحقيقة الاجتماعية لذات المشكلات التي يعانونها في انفسهم وحلولها الصحيحة المحددة موضوعيأ بواقعهم الاجتماعي ولا يتقنون العمل المناسب لتنفيذ تلك الحلـول في الواقع . أو إن الذين قد يعرفون حقيقة مشكلاتهم لا يعرفون حلولها الصحيحة لا يعرفون كيف ينفذونها في الواقع . ومع التخلف الثقافي والتخلف العلمي والتخلف في مهارة إداء العمل المناسب يقفون امام الامكانيات المادية والبشرية المتاحة لهم عاجزين عن توظفيها ، أو مبددين ما يوظفونه فيما لا يشبع حاجاتهم ، أو مهدرين طاقاتهم في عمل غير منتج اصلا . وان هذا الواقع نعرفه . انه ميراث تاريخي ولكنه واقع وهذا هو المهم . إن ” تخلف الانسان العربي ” ، اذن ، من أسباب تخلف الامة العربيةألم نتعلم أن ” الناس هم أداة التطور ” ؟ وانه ” لا يستطيع أحد أن يغير من الواقع شيئاً الا بقدر ما يعلم وفي مجالات علمه لا اكثر ولا أبعد ” ؟ … بلى اذن فإن ” جهل ” أغلبية شعبنا العربي بكيفية حل مشكلات التنمية والتقدم سبب أول من أسباب تخلف الامة العربية . فحتى لو صفينا الاستعمار والاقليمية والاستغلال  وأقمنا دولة الوحدة الاشتراكية في الوطن العربي ، ثم بقيت أغلبية الشعب العربي جاهلة بكيفية توظيف الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة في وطنه العربي ، فستبقى الأمة العربية متحررة ، موحدة ، إشتراكية ، ولكن متخلفة بقدر ما تجهل .

كثيرون يوافقون على هذا الذي نقول ، ويشيدون بواقعيته ، ثم ” يشهرون ” ” بالتخلف الحضاري ” للأمة العربية  تمهيداً لتقديم ” وصايتهم ”  على الشعب العربي كحل لمشكلة تخلفه ، لانهم هم العلماء المتخصصون في معرفة المشكلات الإجتماعية وحلولها ، القادرون على البناء الحضاري . ونحن نعرف انه حل خاطىء . أكثر الحلول خطأ على الإطلاق . لأننا نعرف إننا ” عندما نرى الناس أو بعضهم عاجزين عن معرفة حقيقة  المشكلات الإجتماعية أو عن إكتشاف حلولها الصحيحة أو نراهم مفتقدين المهارة اللازمة لتنفيذ تلك الحلول في الواقع ، لانعزلهم عنا ولا ننعزل عنهم ولا نستعلي عليهم، بل ننتبه ، بقوة ، إلى أننا نواجه فيهم أخطر مشكلات التطور الإجتماعي التي يطرحها واقعنا : تخلف البشر . فلا نهرب منها أو نستهين بها بل نضعها فوراً في المرتبة الأولى من المشكلات الإجتماعية الملحة التي يجب أن تحل ”  .

بعد أن اعترفنا بالمشكلة نعود فنواجه الذين لا يكفون عن التشهير بالأمة العربية فينسبون إليها ” التخلف الحضاري ” لينسبوا كل مصائب الشعب العربي الى ” تخلفه الحضاري ” ويحملونه مسئولية  العجز عن التقدم الإجتماعي . إنهم جماعة من المثقفين المثاليين الذين لا يجيدون شيئاً إلا اجترار الكلمات الكبيرة وأطعامها للآخرين . وهم مثاليون :

أولاً : انهم يتجاهلون أن الشعب العربي الذي يضم عشرات الملايين من المتخلفين يضم أيضأ عشرات الملايين من المتقدمين . إن الشعب العربي البالغ مائة مليونأ تقريبأ يستطيع أن يفرز من بين أبنائه من المثقفين والمتعلمين والعمال المهرة أكثر من العدد الكامل لكثير من الشعوب الأوربية المتقدمة . هذا واقع أيضأ يجهلونه  أو يتجاهلونه . وقد أتاحت لهم هزيمة 1967 فرصة جنائزية لندب التخلف الحضاري عن إسرائيلوقد كانوا يستطيعون أن يعرفوا من الإحصائيات المتاحة أن في الشعب العربي من خريجي الجامعات والمعاهد العليا المتخصصة ، فقط ، ما يزيد عن عدد الصهاينة في إسرائيل رجالاً ونساء وأطفالاً .

ثانياً : وهم مثاليون لأنهم يتجاهلون الحد الزماني للمشكلات الإجتماعية فيختارون للأمة العربية في هذه المرحلة التاريخية من تطورها ما لا يمكن تحقيقه إلا في مراحل تالية . إذ ماذا يعني أن الشعب العربي متخلف في مقدرته الذاتية على صنع التقدم ؟… يعني انه متخلف قياسأ على المقدرة الذاتية لبعض الشعوب الأخرى . إنه لا يعرف من صناعة التقدم الإجتماعي بقدر ما تعرف الشعوب المتقدمة التي يأخذ منها المتحدثون عن ” التخلف الحضاري ” نماذج كامنة في أذهانهم . ان صح ما يقولون فتلك واقعة وليست مشكلة واقعية . إن إدراك الشعب العربي الشعوب التي سبقته ثقافة وعملاً ومهارة ليس مطلباً قابلاً للتحقق لمجرد أننا نريده بل يتحقق بالتقدم الاجتماعي المطرد بكل ما هو متاح في الأمة العربية من امكانيات مادية وبشرية . المشكلة الواقعية ، إذن ، هي تطور الامة العربية بكل ما هو متاح فيها من امكانيات مادية ولو كانت أرضها خالية من ” مناجم الماس ” . وبكل ما هو متاح فيها من امكانيات بشرية ولو كان شعبها خالياً من العباقرة . هذا هو المقياس . وما يحققه الشعب العربي ” كما هو ” بالامكانيات المتاحة في وطنه ” كما هو ” هو الحل الصحيح لمشكلات التطور العربي ” كما هو ” محدد موضوعياً بالواقع العربي ذاته . أما ما يتجاوز هذا فهو أحلام مثالية .

والمثاليون الذين يركزون على مشكلة التخلف البشري في الوطن العربي ويجعلون منها سبباً وحيداً ” للتخلف الحضاري”  لا يسألون أنفسهم عن السبب الذي يحول بين عشرات الملايين من المتفوقين في الثقافة والعلم والمهارة وبين أن يتجاوزوا هذا التخلف الحضاري في أمتهم العربية ولا يدركون تفوق الجامعيين وهم يسابقون غيرهم من الأمم الأخرى ولكن بدون مكتبات وبدون معامل وبدون مؤتمرات وبدون عقول الكترونية . أو العلماء يحاولون اللحاق بغيرهم بدون معاهد للبحوث وبدون أدوات وبدون تفرغ  وبدون المال الكافي لانفاقه في التجارب العلمية . أو العمال ينتقلون من الحقول مباشرة إلى أحدث الالآت بدون أن يعرفوا القراءة والكتابة ، بدون تدريب، بدون تقاليد صناعية ومع ذلك ينتجون . أو الفلاح العربي على ضفاف النيل يحقق الغلة الحدية ويبتكر أنواعاً مستحدثة من الحاصلات في أمتار مربعة محدودة من الأرض بذات أدوات الزراعة التي ورثها من آلاف السنين . أليس هذا تفوقاً بشرياً تحول الامكانيات القاصرة دون أن يبلغ غاية ما يستطيع . إنهم قوة عمل متفوقة المقدرة ولكنها عاطلة جزئياً على الأقل لا لأنهم لا يريدون أن يصنعوا التقدم الحضاري في الأمة العربية ، ولا لأنهم غير قادرين على صنعه، ولكن لأنهم يفتقدون الامكانيات المادية التي يمارسون فيها مقدرتهم الخلاقة . هذا بينما الامكانيات المادية المتاحة في وطنهم العربي تفيض عما يحتاجون إليه لتتحول مقدرتهم على العمل إلى تقدم اجتماعي حضاري . لماذا ؟ … هذه هي المشكلة الحقيقية . ولعل الكثيرين من الذين لا يكفون عن التشهير بالأمة العربية وتخلفها الحضاري ويحمّلون الشعب العربي مسؤولية العجز عن التقدم الاجتماعي إنما يريدون أن يضللوه عن هذه المشكلة الحقيقية ليبقى هو متخلفاً ويبقوا هم أوصياء عليه أوتابعين مستفيدين من الأوصياء عليه .

وإلا فهل يجهلون أن حل مشكلة ” الجهل ” بكيفية صنع التقدم الاجتماعي هو العلم بصنع التقدم الاجتماعي ؟ ” العلم ” بمشكلات التطور الاجتماعي وحلولها الصحيحة وكيفية تنفيذ تلك الحلول بالعمل المناسب في الواقع العربي ؟ … أو ليس لهذا العلم مصدران : التعليم ، وهو يتطلب توظيف الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي لتعليم الشعب العربي كل أنواع العلوم اللازمة لصنع التقدم الاجتماعي ، من أول محو الأمية إلى آخر الجامعات المتخصصة وما بينهما من مدارس ومعاهد ومكتبات وصحافة … الخ ، ثم أن الممارسة هي المصدر الثاني للعلم وهي تتطلب إتاحة أوسع الفرص للشعب العربي ليمارس صنع التقدم الاجتماعي بكل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي ليتعلم ويتقدم معاً .

وعندما يحرم الشعب العربي من امكانيات العلم في معاهده والتعلم والممارسة ثم يبقى جاهـلاً ، ألا يكون من المثالية أن نحمله مسؤولية الجهل . ومن التضليل أن نخفي عنه أن ثمة امكانيات من حقه ولكنها مغتصبة منه .

على أي حال فإن مؤدى هذا جميعاً :

أولاً : إن مشكلة ” تخلف البشر ” في الوطن العربي هي في حقيقتها الاجتماعية مشكلة تقدم وتنمية ، تنمية كفاءة البشر على صنع التقدم الاجتماعي . وهي ككل مشكلات التنمية متجددة أبداً وتختلف من واحد إلى واحد ومن جماعة إلى جماعة ومن موقع إلى موقع ومن يوم إلى يوم . وستظل دائماً قائمة لأن الحاجة إلا العلم لا تتوقف .

ثانياً : أنه لا يصح أن ينسب إلى الشعب العربي ” العجز ” عن التقدم الاجتماعي بحجة أنه أقل ” علماً ” من غيره من الشعوب . إنما يكون “ عاجزاً ” ، عندما لايتقدم بقدر ما ” يعلم ” أيأ كان مستوى علمه . وهو لا يتقدم بقدر ما يعلم إلا إذا كان ثمة ما يحول بينه وبين الامكانيات المتاحة في وطنه .

بهذا تتضح الحقيقة الموضوعية لمشكلات التخلف العربي ، التي لا يمكن حل مشكلات التقدم العربي حلاً كاملأ إلا بعد أن تحل : انها عجز الشعب العربي عن توظيف ” كل ” الامكانيات المادية والبشرية المتاحة فعلأ في الأمة العربية في هذا النصف الثاني من القرن العشرين . ويكون ”  الواقع ” الذي يجب أن ننتبه إليه ، ونكتشفه ، ثم نركز عليه ، ولا نهرب منه ، ولا نقبل التضليل فيه ، لأنه سبب تخلف الأمة العربية ، هو ذلك الواقع الذي يحول بين الشعب العربي وبين كل الامكانيات المتاحة في وطنه العربي .

والواقع كما نعرفه هو أن ليس كل ما هو متاح من امكانيات التقدم الاجتماعي في الوطن العربي متاحاً للشعب العربي ليصنع تقدمه الاجتماعي . إن بعضه . أكثره ، مسلوب ومغتصب ومسخر في تحقيق التقدم الاجتماعي للسالبين الغاصبين الذين يستخدمون بعض ما يسلبون في الابقاء على تخلف الأمة العربية . وإذا بالأمة العربية متخلفة لأن امكانياتها مسلوبة . ومتخلفة لأن امكانياتها المسلوبة تستخدم ضدها حتى لا تتجاوز التخلف .

هذه هي قضيتنا الأساسية ..

فهل يستطيع أن ينكر أنها قضية واقعية ؟ … هل يستطيع أحد أن ينكر أن الشعب العربي يعمل ويكدح ويشقى ويناضل محاولاً أن يطور حياته وأن يتقدم ولكنه لا يحقق من التقدم الاجتماعي ” كل ما يمكن تحقيقه بالامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي ؟…  فما الذي يحول بينه وبين التقدم بما يملك من إمكانيات مادية وبشرية ؟ . عندما نعرف أن الاستعمار والتجزئة والاستغلال تمثل معاً ذلك الواقع المسؤول عن عجز أمتنا عن التقدم الاجتماعي الممكن موضوعياً ، نعرف لماذا نختار لأمتنا العربية : دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية . فنعرف أننا لم نخترها لأننا نريد دولة كبرى ندخل بها سباق القوة فنصبح أقوى دولة ، أو لأننا نريد بها وفيها فرض الوصاية على الشعب العربي ، بل اخترناها من أجل تحقيق غاية في مستوى تواضع وواقعية الفلاح العربي : المقدرة على الحياة بما هو متاح في الأرض .

فما الذي نختار لأمتنا العربية ؟




 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق