حوار طريف مع الدكتور عصمت سيف الدولة .
جريدة الأهالي بتاريخ 15 – 5 – 1985 .
انقطع هذا الحوار عدة مرات لأن الدكتور عصمت سيف الدولة كان مستفزا للغاية .. وكان هذا هو المطلوب للحديث الذي يتكشف عن طريقه الوجه الآخر للمناضل السياسي والمفكر القومي والمحامي والكاتب السياسي البارز صاحب عشرات من الكتب من بينها "الاشتراكية العربية" من أبرز المؤلفات النظرية في الوطن العربي .
حين اعتقله السادات في سبتمبر 1981 مع عشرات السياسيين كانت المرة الثانية التي يتهم فيها خلال أقل من عشر سنوات بقلب نظام الحكم ويسجن بسبب هذه "المحاولة" ، وهناك في سجن مزرعة طرة اكتشف المسجونون السياسيون بلاغته وقدراته الفنية كصانع تماثيل ورسام وخطيب وكاتب مسرحي ..
فمن هو يا ترى عصمت سيف الدولة ؟
- اسمك الثلاثي ، ومحل ميلادك ، ومهنتك ، ومؤهلاتك العلمية وحالتك الاجتماعية ؟
- عصمت سيف الدولة عباس محمد سن 61 ، مولود في قرية الهمامية مركز البداري محافظة أسيوط ، مهنتي محام ، ومؤهلاتي العلمية ليسانس حقوق ، وثلاثة دبلومات دراسات عليا في القانون العام وفي الاقتصاد السياسي وفي القانون الخاص ، ودكتوراه في القانون ، متزوج ولي بنت طبيبة وابن مهندس وابن طالب .
- صف لنا الهمامية كما وعيت عليها في طفولتك وشبابك ، باختصار .
- ولماذا باختصار ؟
- لأنك لا تترك مناسبة إلا وتتحدث عنها طويلا .
- صحيح ، كما يتحدث العشاق عما يعشقون . على أي حال كانت الهمامية حتى الخمسينات قرية صغيرة فقيرة قائمة على سفح الجبل الشرقي حيث يلتقي النيل بالجبل في أشهر الفيضان . تتكون من بضعة عائلات تنتمي كل منها إلى أخ يجمعها جد كبير واحد كان يرعى الغنم اسمه فرج فداح . فكل أهلها متساوون في الحمية والنسب والظروف الاجتماعية والفقر الاقتصادي . اكتُشفت فيها آثار العصر الحجري ونسبت إليها حضارته وعرف تاريخها الحديث العنف مرتين ..
مرة كانت فيها طليعة ثورية شعبية اشتركت فيها عدة قرى مجاورة ضد استبداد حكم عباس باشا الأول وانهزمت ، وأعدم كثير من أجدادنا على "الخوازيق" . ومرة حديثة عام 1928 انحسر النيل عن جزيرة من الأرض الخصبة . فظن أهل الهمامية أن من حقهم زراعتها . كان للحكومة رأي آخر فأجّرتها الى عبد الرحمان بك محمود أخ محمد باشا محمود رئيس الوزراء في ذلك الوقت . فثارت قرية الفقراء وهاجموا أعوان المستأجر واستولوا على الأرض ، وقاوموا تدخل السلطة ، واقتسموها وما تزال بين أيديهم حتى عام 1952 . كان التعليم مقصورا على "الكتّاب" وقد كان من حظي أن أكون أول من دخل المدارس الابتدائية من أبناء الهمامية ونحو تسع قرى حولها ..
- كيف حصلت على هذا الاسم الغريب المركب وأنت من قرية في الصعيد ؟
- حصلت عليه بدون مقابل . ربما لأنه بدون مقابل ، كان الوالد عليه رحمة الله معجبا بشجاعة سيف الدولة الحمداني كما سمع عنها من المتنبي ، فحين رزق بولده عام 1923 كان إعجابه بالشجاعة قد شمل عصمت اينونو القائد المنتصر في موقعة أزمير ضد اليونان فأضاف هذا إلى ذاك ، وأسماني اسما يعجبه .
- وهل يعجبك أنت ؟
- في المراحل الأولى من العمر كان يسبب لي مضايقات جمّة حتى كنت أخفيه ، فقد كانت غرابته ملفتة للمدرسين والتلاميذ في المدرسة الابتدائية فكان مادة تندرهم وسخريتهم ، فقد كان التناقض بين إيحاءاته "الارستقراطية" وبين المظهر الاجتماعي والاقتصادي لحامله تناقضا صارخا يستحق التندر فعلا .
- هل أثر هذا في حياتك ؟
- أثر تأثيرا كبيرا ومازال باقيا ، قبل أن أنتقل إلى المركز حيث المدرسة الابتدائية كنت أعيش في مجتمع المساواة في الهمامية . كنا فقراء جميعا ، وأقرباء ، وغير متعلمين ، فلم نعاني الشعور بالدونية ، وفي المدرسة الابتدائية وعن طريق السخرية من الاسم الارستقراطي يحمله تلميذ وافد من القاع وعيت الفروق الطبقية مصحوبة بآلام الشعور بعدم المساواة بين الناس ، ودرّبتني "الخناقات" على التمرد ضد السّيطرة والاستعلاء والقهر .
- هل كانت تلك حالة خاصة بك أم وضعا عاما ؟
- عرفت فيما بعد أن ذلك كان وضعا عاما ، فقد كنا – نحن الفلاحين – اقرب اجتماعيا واقتصاديا إلى فلاحي القرون الوسطى في أوروبا ، كانت تسيطر على مركز البداري كله عائلة واحدة هي عائلة محمد محمود باشا . وكان جهاز الحكومة كله يأتمر بأمرها وينفذ إرادتهم ، وكان الفلاحون يعرفون هذه الحقيقة ويقبلونها أيضا إلا القليل من المنافسين أو المتمردين . ولقد كان والدي بحكم دراسته في الأزهر من المتمردين . وأعتقد الآن أنه لم يختر لي اسما أرستقراطي الدلالة إلا تعبيرا عن تحدي احتكار الأرستقراطية الإقطاعية التي كانت تحتكر كل رموز الامتياز من ثروة ومناصب وأسماء وألقاب ولم يكن إصراره على تعليمي إلا تحديا آخر فأنشأني متمرّدا ..
- كيف عبّرت عن تمرّدك الذي تقول عنه ؟
- في البداية بالتفوّق الكاسح على أبنائهم في المدرسة الابتدائية ، وفي مرحلة ثانية باختياري الانتماء إلى الحزب الوطني (حزب مصطفى كامل) تمرّدا على أن انتماء الناس كان قسمة بين حزب الوفد والأحرار الدستوريين .. ثم بممارسة الاستعلاء نفسه في علاقتي مع أبنائهم من الطلبة ، وهو استعلاء مصطنع وعدائي أيضا كان يرضيني كثيرا ..
- كيف كان أثر القاهرة عليك . أعرف أنك لم تر القاهرة إلا بمناسبة التحاقك بالجامعة ؟
- لقد التحقت بالجامعة عام 1942 . وحين قدمت إلى القاهرة أول مرة لم أستطع أن أنبذها ، فقد وجدت المدينة العاصمة ، مليئة حتى التخمة بحثالة البشر من الجنود والأغراب ، الشواذ السكارى المعتدين الذين يطاردون الرجال والنساء في الشوارع ، وينتهكون الأعراض علنا .. فانخرطت مباشرة بقدر ما استطعت فيما يمكن تسميته حركة المقاومة الوطنية التي كان يقودها الطلاب بشكل عام ، ويمارسها شباب الحزب الوطني كواجب يومي ..
- وماذا عن الشعر والمسرح هل هو نتاج السجن أم الموهبة ؟
- انه أيضا نتاج السجن . انها ألوان من المقاومة ، ما عدى مسرحية "محاكمة نيرون" التي بدأتها في السجن وأنهيتها بعد خروجي عام 1973 فهي مصنوعة .
- هل كان عبد الناصر هو النموذج الأصلي لنورون في المسرحية ؟
- المسرح ليس تعبيرا مباشرا ولا ينبغي أن يكون . الظروف الاجتماعية توحي بفكرة يريد المؤلف أن ينقلها إلى الآخرين ، فينقلها بما يسمى "المعادل الموضوعي" الذي لا يكون كذلك إذا كان سردا للواقع كما تسرده محاضر الشرطة . المسرحية ليست إثبات حالة ، وقد كتبت مسرحية محاكمة نيرون في مرحلة كان الكتّاب فيها قد انقسموا إلى مهاجمين لعبد الناصر أو مدافعين عنه . ولقد لاحظت أن الهجوم والدفاع كليهما يتناولان عبد الناصر خارج إطار الظروف التاريخية التي عاش فيها . هذه الملحوظة هي الفكرة التي أردت أن أنبه إلى خطئها . فأخذت نيرون الإمبراطور الروماني المتهم البريء . أعظم أباطرة الرومان على وجه الإطلاق ، في حقيقته التاريخية . وأكثرهم تعرّضا للإدانة في الدارج من الشائعات التاريخية . فأعدت طرحه في ظروفه التاريخية . خمس سنوات أولى كان فيها أداة لتحقيق مصالح مجلس الشيوخ الروماني ، أو سادة روما ، فجعلوا منه إلها وهو حي ، فلما اختلط بالفلاحين والعبيد وألغى المجندات ووزع الأرض وهجر روما وانحاز إلى العامة انقلب عليه مجلس الشيوخ وتآمر ضده . وأهم من هذا كُتب تاريخه وأُسند إليه أنه حرق روما وقد اتضح فيما تحقق من تاريخه بعد ذلك أن كل ذلك كان من اختلاق سادة الرومان ، هذا في الوقت الذي أنكر الشعب من العامة أن يكون نيرون قد قتل أصلا ، وبقي قرونا يردّد أغاني بأن نيرون اختفى وأنه سيعود لينقذ الشعب ..
- فهل كان نيرون طاغية ؟
- نعم في رأي الذين أضر بمصالحهم . وهل كان نيرون مصلحا .. نعم في رأي الذين حرّرهم من الاستعباد . وهكذا يكون الحكم العادل على المواقف القيادية أو السياسية إذا حوكمت في إطار ظروفها التاريخية الواقعية ..
أما الدفاع عن عبد الناصر الشخص أو الهجوم على عبد الناصر الشخص فتلك من ممارسات غيري ولم تكن في أي يوم مما أهتم به . فأنا لست مؤرخا ، ولكني إنسان حي منحاز إلى أغلبية الشعب وقضاياه ومصالحه .. وبالتالي أتجه إلى المواقف العينية فأهاجمها أو أدافع عنها ..
- يقول فولتير أن الناشرين يشربون الويسكي في جماجم المؤلفين فهل توافق على هذا ؟
- لا .. لا أوافق . التعميم خطأ . ثم إن استعمال الجماجم أوعية للشراب يقتضي تفريغها أولا من الأمخاخ . ويا ليت الناشرين قد أفرغوا جمجمة فولتير من مخها ، فلم ينشأ في تاريخ الفكر الإنساني مدرسة المنافقين الذي هو أستاذهم وشيخهم .
- أنت معروف في العالم العربي كمفكر قومي وفي مصر كمحامي فقط لماذا ؟
هذا ما تعرفينه أنت عما هو معروف عني . والواقع أن كل واحد يعرف من كل واحد ما تهمّه معرفته .. فدعينا من تحويل المعرفة النسبية إلى معرفة مطلقة خاصة وأنه ليس في أن يكون الإنسان معروفا أو غير معروف ما يستحق الاهتمام ، العبرة بما هو معروف به وكيف عرف به ، وقيمته الاجتماعية والإنسانية . وأسألك هل سجنت في مصر مرتين لأنني محام فقط ، وهل تحاورينني الآن لأنني محام فقط ؟
- أنت معجب بنفسك جدا . هل لهذا سبب خاص ؟
- إن كل إنسان معجب بنفسه جدا وإلا ما كان إنسانا . راجعي أسرار النفس في علم النفس . المهم ألا ينكر على الآخرين حقهم في الإعجاب بأنفسهم .أي المهم ألا يعتدي على هذا الحق بأن يفرض عليهم عن طريق القهر أو النفاق أن يعجبوا به هو . وكثيرون هم الذين لا يكفيهم الإعجاب بأنفسهم بل يحاولون تعميمه على الآخرين . هؤلاء بالذات يستفزونني جدا . فلا أتردّد في إشعارهم بأنني أيضا معجب بنفسي كأسلوب "لردعهم" عن ممارسة لعبتهم العدوانية فترينهم يضيقون بهذا الردع ويتهمونه بما يتجاوز الإعجاب بالنفس إلى حد الغرور . أرجو ألا تكوني من هؤلاء .
ثم أليس من حق أي إنسان عاش المرحلة التاريخية التي عشناها لا يكذب على نفسه ولا على الآخرين ، ولا يخشى أحدا ، ولا يرجو أحدا ، فلا ينافق أحدا ويدفع في سبيل هذا أثمانا فادحة وهو راض عن نفسه .. أن يعجب بنفسه ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق