أسس الاشتراكية العربية .
الدكتور عصمت سيف الدولة .
- 1-
عرفنا مما مضى من حديث أن الحرية قائمة على أساس من الضرورة ، أي انضباط حركة العالم بما فيه من أنواع ، وانضباط حركة كل نوع على حدة ، بقوانين علمية حتمية . وقلنا أن الحرية للإنسان وحده ، وانه يمارسها على مقتضى قانونه النوعي : قانون الجدل . وانتهينا إلى أن الحرية هي القدرة على التطور ، وأن غاية التطور إشباع حاجة الإنسان .
إن الإجابة عن هذه الأسئلة ذات أهمية ؛ لأن الحديث عن الحرية لا يكمل إلا بها . يقول مؤلفو " أسس الماركسية - اللينينية " : " من الطبيعي أن كل واحد مقود في أفعاله ببواعث معينة الى غايات معينة . ولكن السؤال الذي يثور أولا هو لماذا كانت لشخص بالذات تلك البواعث والغايات دون غيرها " . والواقع انه سؤال حاسم ، قدمت له الماركسية إجابة ؛ أصيلة ، وإن كانت غير حاسمة . ولعل أفضل ما كتب في الماركسية ما قيل إجابة عن هذا السؤال تحت عنوان " المادية التاريخية " أو التفسير المادي للتاريخ . ففيه محاولة لتجريد حركة التاريخ من أن تكون " أحداثا " تقع مصادفة دون ضابط ، فيصبح التاريخ غير مفهوم وغير قابل للفهم .
ـ 2 ـ
تتوقف الإجابة عن الأسئلة التي قدمناها على نظرية كل مجيب في الحرية . فالذين يلغون حرية الإنسان لحساب " القدرية " التي تحدد لكل إنسان عمله تحديدا سابقا على تدخله ، والذين يلغون حرية الإنسان لحساب" أللاأدرية " التي" لا تدري" ماذا يريد الإنسان وماذا يفعل ، والذين يلغون حرية الإنسان لحساب " اللاحتمية " فيتركون حاجته وغايته رهنا بالمصادفات ، يقفون أمام الأسئلة عاجزين تماما عن تحديد اتجاه تطور الإنسان . إنه قدر غير معروف وغير قابل للمعرفة . وطبقاً لهم جميعا ، تكون حرية الإنسان غير ذات معنى ، ويصبح تاريخ الناس حصيلة أحداث قدرية غير ذات فائدة ، بل يصبح وجود الإنسان ومحاولته ان يصنع التاريخ عبثا غير لازم ، يستوي فيه الوجود والعدم كما يقول الوجوديون .
ونصبح في مجال يسمح بالإجابة ، بانتقالنا إلى عالم الضرورة . فانتظام حركة الإنسان على قانون حتمي ، يقدم الأساس الذي يمكن ان تقوم عليه الحرية . وتصبح به حركة الإنسان في الماضي ( التاريخ ) مقدمة لفهم حركته في المستقبل ( المصير ) ، وبالتالي تكون دراسة التاريخ ومحاولة فهمه ، شيئا مجديا .
غير ان صحة الإجابة في النظريات التي تأخذ الضرورة أساساً للحرية ، تتوقف على فهم كل نظرية للضرورة التي ينتظم على أساسها التطور .
فالضرورة الميكانيكية ، عاجزة عن فهم الحرية وفهم التاريخ ، لأنها تحيل حياة الإنسان وتاريخه إلى حركة ميكانيكية غير هادفة ، أي مجردة من الباعث والغاية . ومن أمثلة ما قيل تطبيقا للضرورة الميكانيكية المادية ، ما قاله أصحاب المدرسة " البيولوجية " ، فعندهم ان حركة المجتمعات تشبه الحركة البيولوجية في جسم الإنسان . وقد تولى رينيه ورمز احد مفكريها في رسالته " العضوية والمجتمع " وضع تفصيلات المقابلة بين أجهزة المجتمع وأعضاء الجسم ، فمثل المصنع بالكبد ، يتلقى العصارات من الأعضاء ليحولها إلى عصارة أخرى تذهب إلى الأعضاء . وفي مقابل هذا مثل القلب بالبورصة . والبورصة هي سوق الأوراق المالية التي تمثل أقبح مظاهر الاقتصاد الرأسمالي حيث الربح منوط بالمضاربة المجردة من أي مجهود . وطبيعي بعد هذا أن نستنتج من آرإء رينيه ورمز انه إذا كان الإنسان يموت إذا توقف قلبه فإن المجتمع سيموت إذا غلقت البورصات . ومهما تكن سطحية تلك النظرية ، فإنها لم تستطع ان تفسر دفعة الحياة في المجتمع أو فى الإنسان . لماذا يخفق القلب حتى نستطيع ان نقول لماذا تعمل البورصات . وقد اندثرت المدرسة البيولوجية ، وتخلى عنها حتى رمز نفسه ، ليقول بعد ذلك في كتابه " علم الاجتماع " إن المجتمع يتطور " بطريقة إنسانية خاصة " ، ولم يزد عن ذلك إيضاحا . وهناك تطبيقات أخرى للضرورة الميكانيكية "النفسية" كذلك الذي قاله جبرائيل تارد في كتابه" قوانين المحاكاة " من ان المحاكاة أو " التقليد " هو قائد حركة الإنسان . فالتطور عند تارد يتجه من الداخل الى الخارج أي من داخل الإنسان ليقلد ما هو خارجه ، ثم يتجه من الأرقى إلى الأقل رقيا ، لأنه عجز عن بلوغ الكمال . ويدلل على هذا بأن المجتمعات لم تعد تنتج روائع الزجاج الذي تنتجه فينيسيا ، وأن إنتاج النسيج أحط من إنتاج فلورنسا القديم ... الخ . ومثل هذا أيضا ما قاله فرويد عندما أراد أن يجعل الرغبة الجنسية محركا وقائداً لحركة الإنسان .
وكل هذا قد انتهى ؛ لأن البشرية تتقدم وتخلق كل يوم جديداً بالرغم من جبرائيل تارد ، ولأن الإنسان أكثر تعقيدا من الحيوان الذي يستوي معه في الدافع الجنسي ، إذ له الحرية التي تمكنه من استخدام القوانين البيولوجية والنفسية ، وتخضع له دوافعه الجنسية ، يقودها ولا تقوده بالرغم من سيجموند فرويد .
أكثر أصالة من هذا ، ما قاله هيجل ، تفسيرا للحرية على أساس الضرورة . فإن الإضافة الجدلية التي تضمنتها نظرية هيجل أوجدت " الخلق " كغاية للتطور ولكن الجدلية الهيجلية لم تجب عن السؤال : ماذا يخلق التطور ، ولماذا يخلقه ؟ ولهذا استطاع هيجل ان يفسر التاريخ الذي وقع طبقا لمنهجه ، ولكنه لم يستطع ان يعرف إلى أين يسير التاريخ ، فرفع حصيلة الماضي إلى ما فوق إرادة الإنسان ، وترك المستقبل إلى الروح الكلية لا يدري الإنسان منه شيئا ، فلا يختاره ، ولا يصنعه .
إنما الأصيل حقا ما قالته الماركسية .
تبدأ الإجابة عن هذه الأسئلة بما قاله ماركس في مقدمة " نقد الاقتصاد السياسي " :
" إن أسلوب إنتاج الحياة المادية يحكم حركة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية بوجه عام . ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ، بل بالعكس ، إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم . وعند مرحلة معينة من تطورهم تدخل قوى الإنتاج المادية في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة ، أو ـ بالتعبير القانوني عن الشيء ذاته ـ مع علاقات الملكية التي كانت تعمل خلالها حتى ذلك الوقت " .
ويقول مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية " شرحا لهذا .
العنصر الأساسي في الحياة المادية في المجتمع هو العمل الذي يبذله الناس في إنتاج ضرورات ومتع الحياة : الغذاء ، والكساء ، والمسكن ..الخ . هذا النشاط (العمل) ضرورة طبيعية دائمة ، أي شرط جوهري يتوقف عليه ذاته وجود المجتمع . يقول انجلز : " يجب ، أولا ، أن يأكل الانسان وأن يشرب وأن يكون له مسكن وملبس قبل أن يستطيع متابعة السياسة والعلوم والفن والدين ، ... الخ .
" ويكوّن الوسط الجغرافي من ناحية ، والناس من ناحية أخرى ، المقتضيات الطبيعية المادية لعملية الإنتاج . إلا أنه بالرغم من أن هذه الشروط الطبيعية المادية تؤثر تأثيرا ذا قيمة في مجرى التطور التاريخي ، بأن تزيد سرعته أو تعوقه ، فإنها ليست أساس حركة التاريخ ، إذ يمكن أن توجد نظم اجتماعية مختلفة في ذات الوسط الطبيعي ، كما أن كثافة السكان ليست ذات أثر واحد في الظروف التاريخية المختلفة .
" فبعكس الحيوان الذي يلائم بينه وبين الوسط الخارجي ملاءمة سلبية ، يمارس الإنسان تأثيراً إيجابياً على الوسط المحيط به ويحصل على القيم المادية اللازمة لحياته عن طريق العمل . والعمل يفترض ابتداء استعمال وصنع أدوات خاصة . ولا يستطيع المجتمع ان يختار تلك الأدوات اعتباطا ، فكل جيل جديد يدخل الحياة يرث أدوات الإنتاج التي خلقها من قبل جهود أجيال مختلفة ، ويتابع الإنتاج بمساعدة تلك الأدوات ، ولا يغيرها ولا يطورها إلا تدريجياً .
" أكثر من هذا ، يتتابع تطور هذه الأدوات تتابعاً محدداً . فلا تستطيع الإنسانية – مثلا ـ ان تقفز من الفأس الحجري إلى محطة القوة الذرية . إن أي تطوير جديد وأي اختراع ، لا يمكن أن يتم إلا على أساس ما سبقه من أدوات ، ويجب أن يقوم على أساس خبرة الإنتاج المتراكمة تدريجياً ، أي مهارة العمل والمعرفة في شعب بلد معين او شعب بلد أخر أكثر تقدماً .
" غير ان أدوات الإنتاج لا تعمل بذاتها . إن القدر الرئيسي من عملية الإنتاج يقوم به الإنسان ، أي الشعب العامل ، الذي يستطيع أن يصنع وأن يستعمل تلك الأدوات لأنه يمتلك مهارات معينة وخبرة عملية ".
" إن وسائل الإنتاج التي خلقها المجتمع ، وفوق كل شيء أدوات العمل التي تخلق بها الثروة المادية ، ثم الناس الذين يقومون بالإنتاج على أساس قدر معين من الخبرة به ، يكونون قوى الإنتاج في المجتمع " .
" غير أن الحياة المادية فى المجتمع ليست مقصورة على قوى الإنتاج " .
" إن الإنتاج لا يقوم به فرد في عزلة مثل روبنسون كروزو في جزيرته المهجورة ، بل له دائماً طابع اجتماعي ، ففي أثناء إنتاج الثروة المادية ، يجد الناس أنفسهم سواء أرادوا أم لم يريدوا ، متصلين بعضهم ببعض على وجه أو على آخر ، ويصبح عمل كل منتج جزءا من العمل الاجتماعي " .
" هذه العلاقات ليست مقصورة على الروابط بين المنتجين في شتى فروع الإنتاج . ففي مرحلة معينة من تطور قوى الإنتاج ، كما سنرى فيما بعد ، تنفصل ملكية كل وسائل الإنتاج ، أو على أي حال ، الأساسي منها ، عن المنتجين المباشرين وتتركز في أيدي قلة من المجتمع . ابتداء من هذه النقطة لا يتحد المنتجون وأدوات العمل ، ولا يمكن أن يبدأ الإنتاج إلا إذا دخل المالكون لأدوات الإنتاًج مع المنتجين في علاقة معينة . وتصبح العلاقة التي تقوم بين طائفتين من الناس خلال مجرى الإنتاج علاقة بين " طبقات " أي مجموعات كبيرة من الناس يملك بعضهم أدوات الإنتاج جزئياً أو كلياً ويأخذون لأنفسهم ناتج عمل الآخرين المحرومين ، كلياً أو جزئيا من ملكية أدوات الإنتاج ومكرهون على العمل من أجل الأولين . ففي المجتمع الرأسمالي - مثلا - لا تعمل طبقة الرأسماليين شيئاً ، ولكنها ، عن طريق ملكيتها المصانع والمطاحن والسكك الحديدية ، تستطيع أن تستولي على ثمار عمل العمال . أما العمال ، فسواء أرادوا أم لم يريدوا ، لا يستطيعون أن يكسبوا أرزاقهم إلا بأن يبيعوا قوة العمل إلى الرأسماليين ، ما داموا غير مالكين أدوات الإنتاج " .
" وقد أطلق ماركس وانجلز على العلاقات التي تقوم بين الناس خلال عملية الإنتاج اسم " علاقات الإنتاج " وتسمى أيضاً العلاقات الاقتصادية " .
" وتتكون علاقات الإنتاج غير متوقفة على وعي الإنسان ، وبهذا المعنى يكون لها طابع مادي . ويتحدد طابع علاقات الإنتاج بواسطة مستوى تقدم وطابع قوى الإنتاج ، فعلاقات الإنتاج الخاصة ـ مثلا ـ بملكية العبيد لا يمكن أن تقوم في المجتمعات البدائية . فقبل كل شيء كانت أدوات العمل عندئذ سهلة الصنع ( الهراوة والفأس الحجري ) إلى درجة يستطيع معها أي واحد تقريباً أن يصنعها . وعلى هذا كانت الملكية الخاصة المقصورة على صاحبها لهذه الأدوات مستحيلة . ومن ناحية أخرى لم يكن الناس مستطيعين أن يستغل بعضهم بعضاً ، إذ في ذلك المستوى الإنتاجي الذي كان قائماً ، لم يكن في استطاعتهم ان ينتجوا إلا ما يعيشون عليه ، وكان من المستحيل فسيولوجياً ان يعولوا طبقات طفيلية " .
ومن هذا المثل وحده ، يتضح أن العلاقات التي تقوم بين الناس خلال عملية الإنتاج ، وقوى الإنتاج أيضاً ، لا تقوم في عزلة عن بعضها البعض ولكن في وحدة محددة . هذه الوحدة من قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج تعبر عنها المادية التاريخية " بأسلوب الإنتاج ".
كيف يتطور الإنتاج ؟
" منذ أقدم العصور حتى وقتنا هذا يتقدم الإنتاج الاجتماعي تقدماً لا جدال فيه ، بأن يحل أسلوب للإنتاج أرقى محل أسلوب آ خر على وجه مستمر " .
كيف يتحقق هذا التطور ؟ ما الذي يدفعه إلى الأمام ؟
" تثبت الحقائق أنه يجب البحث عن منابع تطور الإنتاج داخل التطور ذاته وليس خارجه وقد أكد هذا ماركس الذي عرّف التاريخ بأنه " التطور الاجتماعي الذاتي للبشرية " .. ".
" فى أثناء العمل يؤثر الناس في الطبيعة الخارجية ويغيرونها . ولكنهم ، بينما يؤثرون في الطبيعة يتغيرون هم أنفسهم في الوقت ذاته . إنهم يستزيدون خبرة بالإنتاج ومهارة في العمل ومعرفة بالعالم حولهم . كل هذا يجعل من الممكن تحسين أدوات العمل وطرق استعمالها ، واختراع أدوات جديدة ، وإجراء تحسينات مختلفة في عملية الإنتاج . وكل تحسين أو اختراع من هذا النوع يؤدي إلى تحسينات جديدة فيما يتصل به بحيث تحدث في بعض الأوقات ثورة حقيقية في التكتيك وإنتاجية العمل " .
" ومع هذا ، فكما أوضحنا من قبل ، يفترض الإنتاج ، حتما ، علاقات معينة ، لا بين الإنسان والطبيعة فحسب ، بل وبين الناس المسهمين في الإنتاج أيضاً . وتؤثر تلك العلاقات بدورها في تطور قوى الإنتاج . إنها تحدد معدل نشاط أولئك الذين يسهمون إسهاماً مباشرا في الإنتاج والطبقات التي تسيطر على أدوات العمل . وتقوم القوانين الاقتصادية في كل أسلوب للإنتاج على طبيعة علاقات الإنتاج فيه " .
ما هو التأثير المتبادل بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ؟
" إن وحدة قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج التي تعبر عنها بأسلوب الإنتاج لا تمنع ، بأي وجه إمكان التناقض بينهما ".
" وتكمن الأسباب التي تؤدي إلى هذه التناقضات في أن عنصري أسلوب الإنتاج ـ علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج ـ يتطوران بطرق مختلفة . فبوجه عام ، يتحسن التكتيك ومهارات الإنتاج والخبرة العملية التي يملكها الناس ، تحسنا متزايداً مطردا على وجه أو على آخر سواء نظرنا إلى التاريخ ككل او الى أسلوب من أساليب الإنتاج على حدة . إنها أكثر عناصر الإنتاج حركة وتغييرا .
" أما عن علاقاًت الإنتاج ، فبالرغم من أنها تتغير بعض التغير في ظل أسلوب معين للإنتاج ، فان طبيعتها الأساسية تبقى كما هي . مثال هذا ، أن رأسمالية احتكار الدولة في هذه الأيام ، كما سنرى فيما بعد ، مختلفة اختلافا يميزها عن رأسمالية القرن الثامن عشر، ومع هذا ، فإن أسس علاقاًت الإنتاج الرأسمالية - الملكية الفردية لأدوات ووسائل الإنتاج - باقية كما هي ، وبالتالي فإن القوانين الأساسية للرأسمالية لا تزال كما هي . ولا بد للتغيير الجذري لعلاقة الإنتاج من أن يأخذ شكل " الطفرة " - أي تحطيم التطور التدريجي - التي تقتضي " تصفية " علاقات الإنتاج القديمة وإقامة علاقات جديدة بدلا منها ، أي ظهور أسلوب جديد للإنتاج " .
" من هذا يتضح ، لماذا يكون أي توافق بين علاقات الإنتاج وطابع قوى الإنتاج في تاريخ كل أسلوب من أساليب الإنتاج توافقاً انتقالياً ومؤقتاً حتى بلوغ العهد الاشتراكي - ويوجد هذا التوافق عادة في المرحلة المميزة لتطور أسلوب الإنتاج فقط ، أي في المرحلة المتميزة بإقامة علاقات إنتاج جديدة ملائمة لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج . بعد هذا ، لا يقف تطور التكتيك وتراكم مهارات العمل ، والخبرة والمعرفة ، بل ، كقاعدة ، ينشط معبراً بوضوح عن التأثير الإيجابي لعلاقات الإنتاج في تطور قوى الإنتاج . عندما توافق علاقات الإنتاج تلك القوى، يطرد تقدمها بيسر نسبي وبدون عوائق " .
" غير أن تطور علاقات الإنتاج ذاتها لا يمكن ان يلاحق تطور قوى الإنتاج ، ففي المجتمع الطبقي ما ان تقوم تلك العلاقات حتى تدعم قانونياً وسياسياً في أشكال الملكية والقوانين ، والسياسة الطبقية ، وفي الدولة وفي أجهزة أخرى " .
" ومع نمو قوى الإنتاج قد يصل عدم التوافق الذي يقوم حتماً بينها ويبن علاقات الإنتاج إلى أن يصبح نزاعاً ، ما دامت علاقات الإنتاج البائدة تقف حائلا دون مزيد من تطور قوى الإنتاج " .
***
" ويعمق النزاع بين علاقاًت الإنتاج وقوى الإنتاج التناقضات في قطاعاًت الحياًة المختلفة في المجتمع ، وفوق كل شيء بين الطبقات ، التي تكون مصلحة بعضها في علاقات الإنتاج القديمة بينما مصلحة الآخرين في علاقات الإنتاج الجديدة الناضجة للظهور " .
" وعاجلا أو آجلا يحل هذا النزاع بالإلغاء الثوري لعلاقات الإنتاج القديمة ، وإقامة علاقات جديدة بدلا منها تتفق مع طابع قوى التقدم التي تمت ومقتضيات مزيد من التطور، وبهذا يقوم أسلوب إنتاج جديد ، وفيه تبدأ ـ على وجه أرقى ـ دورة جديدة من التطور، تمر بذات المراحل ـ وفي حالة المجتمعات المكونة من طبقات متصارعة ، تتركز مرة أخرى في انهيار أسلوب الإنتاج القديم ومولد أسلوب جديد " .
" الأساس والبناء ( العلوي)
" تحدد حالة قوى الإنتاج كما رأينا طابع علاقات الإنتاج بين الناس أي التركيب الاقتصادي للمجتمع . وهذا التركيب الاقتصادي يمثل بدوره القواعد والأسس التي تقوم عليها أنواع كثيرة من العلاقات الاجتماعية والأفكار والنظم . فأفكار المجتمع ( السياسية والقانونية والفلسفية والدينية ... الخ) ونظمه وأجهزته ( الدولة ، والكنيسة ، والأحزاب السياسية ... ) التي تقوم على أسس معينة تمثل البناء العلوي للمجتمع . وتوضح نظرية الأسس والبناء كيف انه في التحليل النهائي للأمور يحدد أسلوب الإنتاج كل أوجه الحياة الاجتماعية ، ويكشف الصلة بين العلاقات الاجتماعية الاقتصادية وكل العلاقات الأخرى في مجتمع معين " .
ـ 3 ـ
تلك هي نظرية " المادية التاريخية " في الماركسية ، نقلناها ترجمة عن أسس الماركسية - اللينينية " ؛ لأنها فكرة أصيلة تستحق ان تعرف ، وتغني معرفتها من يقبلونها ومن لا يقبلونها على السواء .
وقد أساء كثير ممن يقبلون فهمها واستعمالها حتى اعتذر عنهم واضعاها ، ماركس وانجلز . فبمناسبة الفهم الخاطئ للمادية التاريخية قال ماركس كلمته المشهورة : " كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً " . وقال أنجلز في رسالته إلى بلوخ ( ٢١ سبتمبر ١٨٩٠ ) " لقد كنا ، ماركس وأنا ، مسئولين جزئياً عن تركيز الشباب على الجانب الاقتصادي تركيزا أكثر مما يستحقه . لقد كان لا بد لنا ، نحن ، من ان نركز على المبدأ الأساسي " في مواجهة " معارضينا الذين ينكرونه . ولم يكن يتوافر لنا دائماً ، الوقت والمكان والفرصة المناسبة لنسمح للعناصر الأخرى بالتدخل في التأثير المتبادل بالقدر الذي تستحقه " .
غير أن بعض الذين لم يقبلوا المادية التاريخية ، أو " التفسير المادي للتاريخ " كانوا أكثر من غيرهم إساءة لفهمها واستعمالها . فقد عورضت النظرية معارضات عنيفة على أسس عاطفية ونفسية ، أي بمجموعة من العويل على كرامة الإنسان الذي تقوده الحياة المادية وتحدد مصيره ، وسخط عصبي على تجاهل النظرية المشاعر الإنسانية ومساواتها البشر بالآلات ، وانحطاطها بمقدراتهم وأفكارهم وعواطفهم إلى مستوى السوائم التي لا تسعى، حيث تسعى، إلا استجابة لنداء أمعائها ... الخ . ولا شك في أن " البكاء " على مصير الإنسان مفيد للباكين إذ يفرج عن غيظهم المكبوت . ولكن الحقائق العلمية لا تثبتها الدموع ولا تمحوها . فإذا كانت " الحياة المادية " او " أسلوب إنتاج الحياة المادية " هو الذي يحدد مصير المجتمعات الإنسانية حقاً وثبت هذا علميا ، فالبكاء إذن غباء ، وما على الإنسان إلا أن يعرف مصيره ويقبله . وإذا لم يكن مصير المجتمعات الإنسانية معلقاً بتطور " أسلوب إنتاج الحياة المادية " ، فعلى العصبيين أن يضبطوا أعصابهم وان يستعملوا عقولهم لمعرفة البديل عن أسلوب إنتاج الحياة المادية : ما الذي يحدد للإنسان غاياته وأهدافه وكيف تتحدد ؟ عندئذ يكون نقدهم المادية التاريخية على المستوى العلمي الذي تقتضيه النظريات العلمية . يقال ـ مثل ـ إن " المادية التاريخية " تجاهلت وجود الإنسان ، وجردته من أي دور يلعبه في التطور التاريخي . وهذا تشويه " للمادية التاريخية " . فالإنسان قائم في التاريخ لأن التاريخ الذي تتحدث عنه الماركسية ليس تاريخ النبات او الحيوان ، بل تاريخ الإنسان، والإنسان هو صانع أدوات الإنتاج والعامل بها ، فهو عنصر من عناصر قوى الإنتاج التي تكوّن الشق الأول - والأساسي كما يقولون - من أسلوب الإنتاج - أما الشق الآخر " علاقات الإنتاج " فهو عن العلاقات بين " الناس " كما تتحدد في أسلوب الإنتاج . إذن فأينما تناولنا المادية التاريخية وجدنا الإنسان هناك . ولو لم يكن ذلك كذلك لما استحقت حتى عناء المناقشة .
الإنسان قائم ، وعامل ، يسعى في التاريخ . ولكن إلى أين ؟ .. إلى أين يتجه التاريخ ؟ ما الذي يحدد للإنسان غاياته ؟ .. تلك هي الأسئلة التي حاولت المادية التاريخية أن تجيب عنها ، وهي ـ فى هذا ـ أكثر علمية ، وفائدة للإنسان ، من كل الذين يبكون مصيره .
أو على الأقل ، هكذا نفهم ـ نحن ـ المادية التاريخية . وكذلك فهمها وشرحها ستالين . قال في كتابه " المادية الجدلية والمادية التاريخية " " إن المادية التاريخية توسيع لنطاق مبادئ المادية الجدلية لتشمل دراسة الحياة الاجتماعية ، وتطبيق لهذه المبادئ على حوادث الحياة الاجتماعية أي على دراسة المجتمع وعلى دراسة تاريخ المجتمع .
المادية التاريخية ، إذن ، تطبيق للجدلية المادية ، فعلى ضوء ذات المنهج فسر ماركس الماضي ( التاريخ ) تفسيرا ماديا كانت حصيلته " المادية التاريخية " ، وحدد اتجاهه إلى المستقبل ، وبذات المنهج تتبع ماركس المستقبل ـ في اتجاهه التاريخي ـ فانتهى به من الرأسمالية إلى الشيوعية ، فأصبح تاريخ المجتمع عنده متسق الاتجاه ، يجري على أساس واحد من أقصى الماضي إلى أقصى المستقبل في تتابع منتظم ، يضبط أوله وتتابعه قانون واحد يستمد منه حتمية البداية والتتابع والمصير؛ لأن القوانين حتمية .
هذا المنهج والأساس هو" الجدلية المادية " .
وقد عرفنا أن الجدلية المادية قائمة على أساس ان المادة متطورة أولا وان الفكر متطور تبعا لها ، او كما قال ماركس في " رأس المال " " إن حركة الفكر ليست إلا انعكاسا لحركة المادة منقولة إلى دماغ الإنسان " وعلى هذا الأساس بدأ ماركس في تفسيره المادي للتاريخ بقوله فى مقدمة " نقد الاقتصاد السياسي " :
" ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ، بل العكس ، إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم " . وعلى هذا الأساس أيضاً قال ستالين في " المادية الجدلية والمادية التاريخية " : " إن قوى الإنتاج ليست أكثر عناصر الإنتاج حركة وثورية فحسب . بل هي العنصر الحاسم في تطور الإنتاج . فكما تكون قوى الإنتاج ، يجب ان تكون علاقات الإنتاج " . وقال " إن تغير أسلوب الإنتاج يؤدي حتماً إلى تغير النظام الاجتماعي كله وإلى تغير الأفكار الاجتماعية والآراء والنظم السياسية " . وعلى هذا الأساس يكون تطبيقاً صحيحاً للجدلية المادية ما قاله مؤلفو " أسس الماركسية اللينينية " من أن الحياة المادية ( قوى الإنتاج وعلاقاته ) تتحدد بعيدا عن وعي الإنسان وإرادته ، وإن كل ما يمثل وعي الإنسان من أفكار ( سياسية وقانونية وفلسفية ودينية ... الخ ) ، ونظم ( الدولة والكنيسة والأحزاب السياسية ... الخ ) لا تغير اتجاه التاريخ ولا تحدد مصير المجتمعات ، " ولكن تأخذ مكانها فيه " عن طريق تبعيتها لتطور الحياة المادية .
ويكون هذا حتماً لأن الجدلية المادية نظرية " علمية " .
فإذا طرحنا جانبا وعي الإنسان ( قوانينه وفلسفته ودينه ودولته وأحزابه السياسية ...الخ) وانتقلنا الى أسلوب إنتاج الحياة المادية ، كان حتماً طبقاً للجدلية المادية أن يكون في هذا الأسلوب نقيضان .
والنقيضان في أسلوب الإنتاج هما " قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج " .
تكمن الأسباب التي تؤدي إلى هذه التناقضات في ان عنصري أسلوب الإنتاج ـ علاقات الانتاج وقوى الإنتاج ـ يتطوران بطرق مختلفة .." فأدوات الإنتاج أكثر عناصر الإنتاج حركة وتغييراً " وملكية أدوات الإنتاج قد تتغير بعض التغيير ولكن " تبقى طبيعتها الأساسية كما هي" .. فالتناقض إذن كامن في أن أدوات الإنتاج تتطور بسرعة أكبر من " ملكيتها " . وبذلك يحدث فاصل بين عنصري الإنتاج ، يزيد ( يتراكم ) عمقاً ، ويزيد به التناقض حدة .
إلى متى ؟
طبقاً للجدلية المادية ، يحل التناقض " بطفرة " مفاجئة . والطفرة كما حددها مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " هي " تصفية علاقات الإنتاج القديمة وإقامة علاقات إنتاج جديدة بدلا منها " . ولا بد ان يتم هذا " بطفرة مفاجئة " او كما قالوا بهدم علاقات الإنتاج البائدة . فالوصول التدريجي غير ممكن وغير علمي ، لأن الجدلية المادية نظرية علمية .
لمن النصر ؟
في النهاية ، للقوة الأكثر تقدما ؛ للطبقة العاملة التي تهدم علاقات الإنتاج وتهدم معها البناء الفوقي " بكل ما يتضمنه من " أفكار وفلسفة ودين ودولة وأحزاب ..الخ " لتقيم علاقات إنتاج جديدة ، يقوم عليها ـ حتماً ـ بناء فوقي جديد .
وقد جرى التاريخ كله ، ويجري ، يقوده تطور أدوات الإنتاج ، خلال الصراع الطبقي ، وتلك هي المادية التاريخية ؛ تطبيق سليم لمنهج الجدلية المادية على حركة المجتمع .
وفهم " المادية التاريخية " على ضوء " الجدلية المادية " ، يضع حدودا معينة لتفسيرها ، لأن الجدلية المادية منهج " علمي " ، وعلى هذا تكون حصيلة تطبيقها حتمية ، وتكون محاولة تبرير أي استثناء من منطق " المادية التاريخية " ، أو وجود هذا الاستثناء دليلا على أحد أمرين إما أن ما يبدو استثناء غير معروف على حقيقة أي ان العيب في " المعرفة " ، وإما أن " الجدلية المادية " منهج غير علمي لأنه لا يفسر"كل" الظواهر التاريخية . أما " تطوير" الجدلية المادية ، أو شد أطرافها لتغطي كل التاريخ ، وتأويل قوانينها بحيث تصبح غير محددة فهو سلب لطابعها العلمي . كذلك تزييف التاريخ ليلائم الجدلية المادية او لينقضها سلب لجدية البحث العلمي .
فمثلا ، يتطور آي مجتمع خلال التناقض بين أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج .
ولو ثبت أن هناك أي مجتمع تطور أو يتطور عن غير هذا الطريق فإن الجدلية المادية تكون منهجاً قاصراً ، قد يفسر ظاهرة تاريخية ولكن لا يفسر حركة التاريخ .
ولا بد أن تكون علاقات الإنتاج متخلفة في تطورها عن قوى الإنتاج ، وأن يكون وعي الناس وأفكارهم ونظمهم والدولة والأحزاب متخلفة - بالتالي - عن تطور" القوة المنتجة " وأن يقوم صراع " طبقي" بين الذين يعكسون علاقات الإنتاج والذين يعكسون قوى الإنتاج . فإن ثبت أن هناك أي مجتمع تطور أو يتطور بغير تخلف الوعي والأفكار والنظم عن قوى الإنتاج ، أو بغير الصراع الطبقي ، فإن الجدلية المادية تكون منهجاً قاصرا قد يفسر ظاهرة تاريخية ولكن لا يفسر التاريخ .
إذا صحت الجدلية المادية كان ما قاله ستالين صحيحاً ، وكانت المادية التاريخية صحيحة .
وإذا كان لا بد من الصراع الطبقي ، وتعميقه ، وحدته ، فلا بد من أن تكون السيادة والنصر للطبقة العاملة . ان تكون الدولة دولتها ، والسيادة لأفكارها ، وأن تلغى كل ما كان قائماً على ما هدمته ؛ " لأن الأفكار السائدة في كل عصر هي أفكار الطبقة السائدة كما قال ماركس وأنجلز في البيان الشيوعي ؛ ولأن " الصراع الطبقي يؤدي حتماً إلى ديكتاتورية البروليتاريا كما قال ماركس في رسالة إلى فيديمير إ ه مارس ١٨٥٢ ) .
وكل هذا مقياس للماركسيين وأدعياء الماركسية ، قدامى ومحدثين ٠ قال لينين : " الماركسي الحق هو الذي يصل من إقراره الصراع الطبقي إلى إقراره ديكتاتورية البروليتاريا . إن هذا يمثل أعمق الخلاف بين الماركسي وبين البورجوازي الصغير ( أو الكبير ) وهو محك " اختبار الفهم والمعرفة الصحيحين بالماركسية " .
ـ 4 ـ
عندما قلنا وكررنا ـ فيما سبق ـ كلمتي : " لابد " و" حتما " ، لم يكن ذلك تأكيدا لأمر وقع أو سيقع ، ولم يكن كتابة للتاريخ أو تنبؤا بالمستقبل ، بل كان تأكيدا " للضرورة الحتمية " كأساس لأية نظرية علمية . وقد قيل لنا ، ويكرر القول ، إن الجدلية المادية منهج علمي ، وإن المادية التاريخية نظرية علمية ، وليس ثمة أي مبرر لرفض هذا القول قبل اختيارا ، سوى التعصب ضد الماركسية . لذلك فإنا لا نرفضه ولكن تقبله منطلقاً إلى البحث ، فإن صدق قبلناه منهجاً ونظرية ، وإن لم يصدق ، فلا يكفي أن نرفضه بل نجتهد بحثاً عما يتخطاه صدقاً . لا تعصب إذن للمادية التاريخية ، ولا تعصب ضدها ، ولكن محاولة لمعرفة الحقيقة ، لهذا سنأخذ ذات المجتمعات ( التاريخية ) التي اختارها الماركسيون ميدانا لاختبار نظريتهم .
يقول مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " : " إن الإنسانية ـ ككل ـ قد مرت بأربعة أشكال : الشيوعية البدائية ، والعبودية ، والإقطاعية ، والرأسمالية ، وأنها تعيش الآن عصر التحول إلى الشكل التالي ، أي الشكل الشيوعي الذي يطلق على مرحلته الأولى اسم الاشتراكية .
ثم يبدأون التطبيق فيقولون عن الشيوعية البدائية :
" كانت أدوات الإنتاج التي تملكها الإنسانية في المراحل الأولى من نظام الشيوعية البدائية من أكثر الأنواع بدائية : الهراوة ، والفأس الحجري ، وسكين الصوان ، والحربة ذات الرأس الحجرية ، تبعها بعد ذلك القوس والسهم . وكان الناس يحصلون على ضرورات المعيشة عن طريق الصيد وجمع المأكولات الطبيعية وبعد ذلك بكثير ظهرت الزراعة بواسطة الفأس ، وكانت قوة الإنسان الجسمانية القوة المحركة الوحيدة في ذلك العصر .
" وكانت علاقات الإنتاج يبن الناس متفقة مع مستوى تطور قوى الإنتاج . فلم يكن من الممكن ـ بواسطة أدوات العمل المتاحة وقتئذ ـ أن يكافح الإنسان منفردا قوى الطبيعة ، وان يؤمن ضرورات الحياة ؛ فكان لا بد من العمل الجماعي ( الصيد الجماعي للحيوان والأسماك ... الخ ) بواسطة جميع أعضاء المجتمع الشيوعي البدائي ، متحدين متعاونين ، ليستطيعوا الحصول على ما يلزمهم من ضرورات الحياة . واقتضى العمل الجماعي الملكية الجماعية لأدوات الإنتاج ، التي كانت أساس علاقات الإنتاج في ذلك العصر ؛ كان كل أعضاء المجتمع مشتركين في ذات العلاقات مع أدوات الإنتاج ، ولم يكن أي واحد من أعضاء المجتمع يستطيع أن يسلب الأعضاء الآخرين أدوات الإنتاج وان يحولها إلى ملكية خاصة به " .
" ولما لم تكن ثمة ملكية خاصة ، لم يكن من الممكن أن يستغل إنسان إنساناً آخر . وكانت وسائل العمل البدائية ، حتى عند استعمالها جماعيا ، تؤدي إلى قدر ضئيل من الضروريات لا يكاد يكفي إطعام كل عضو من أعضاء الجماعة ؛ أي ببساطة ، لم يكن ثمة فائض يمكن ان يؤخذ من منتج ويحفظ لباقي أعضاء المجتمع . ولما لم يكن هناك استغلال لعمل الآخرين لم تكن هناك حاجة لجهاز خاص للردع . وكانت المهام البسيطة الخاصة بتدبير الشئون المشتركة تتم إما جماعيا أو بإسنادها الى أكثر أعضاء الجماعة احتراماً وخبرة " .
" وهكذا كانت بساطة ملامح الشكل الاجتماعي محددة بانحطاط مستوى الإنتاج ، وعجز الإنسان في مواجهة محيطه الطبيعي المروع . انعكس اعتماد الإنسان على الطبيعة ، التي كانت تواجهه كشيء غريب وغير مفهوم ، في أفكار دينية فجة وطفولية . كان الناس يعيشون في حماية قوة الجماعة العشيرة أو القبيلة ، وكانوا يتبعون العادات والتقاليد تبعية عمياء . في تلك المرحلة كان التعاون وتبادل المساعدة قائمين بين أعضاء القبيلة الواحدة فقط . وأحيانا كان يثور نرع بين القبائل . فمع أن النظام الشيوعي البدائي كان متحررا من مظاهر التخريب والتشويه التي أصابت المجتمع والناس فيما بعد في ظل نظام الاستغلال ، لم يكن ، على أي وجه ، "عصر ذهبياً " بالنسبة إلى الإنسان " .
" وقد كان الناس مدفوعين إلى تحسين أدوات العمل وزيادة مهاراتهم بالضرورة ، وبالرغبة في ان يكون عملهم أكثر سهولة وان يختزنوا ما يحتاجون تحوطاً ضد الكوارث الطبيعية . غير أنهم بتغييرهم أدوات العمل كانوا يمهدون الطريق لثورة اجتماعية عميقة ، بدون ان يدركوا هذا او يعوه ، بل وحتى بدون ان تخطر على بالهم النتائج الاجتماعية لذلك التغيير . وقد كانت تلك الثورة العميقة أن حل الشكل العبودي للمجتمع محل الشيوعية البدائية . كانت قوى الإنتاج التي انتشرت في المجتمع تتطلب علاقات جديدة بين الناس " .
انتهى ما قاله مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية . والإضافة الوحيدة من كتاب " أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة " لفريدريك انجلز الذي حدد تاريخ نهاية تلك المرحلة " بأغريق العصر البطولي والقبائل السابقة على تأسيس روما بفترة قصيرة والألمان أيام تاسيتس " أي إلى ١٠٠٠ سنة قبل الميلاد تقريبا . وعلى هذا تكون مرحلة الشيوعية البدائية قد استغرقت مئات الألوف من السنين (٤٠٠٠٠٠ سنة تقريبا ) إلى ان انتهت إلى الملكية الفردية ، فانتهت بها .
تلك إذن فترة طويلة ، أطول مما نتصور، كانت المجتمعات الإنسانية تعيش خلالها حياة خالية من أي انفصام بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج أي بدون تناقضات أو صراع او طبقات او ثورات طبقاً للمادية التاريخية . ومع ذلك تطورت من الهراوة والفأس الحجري كما قال مؤلفو " الماركسية - اللينينية" إلى ما ذكره أنجلز في كتابه " أصل العائلة" : " استخدام الحديد واختراع الحروف والكتابة واستخدامها في تدوين الآداب ... وفى أشعار هوميروس " شاعر الإغريق الأشهر" وخاصة الإلياذة نجد المرحلة العليا للبربرية في قمة ازدهارها ، فقد جاه في تلك الأشعار وصف الآلات الحديدية التي تطورت إلى فنون ، والعربات والعجلات الحربية وبناء السفن ، والفن الهندسي ، وبناء المدن ذات الأسوار والأبراج الدفاعية الخ " .
والسؤال هنا : كيف تطورت الإنسانية خلال تلك الآلاف العديدة من السنين وكيف وصلت إلى ما وصفه انجلز ؟ ما الذي كان يقود التاريخ قبل ظهور الملكية الفردية ؟ ما الذي كان يحدد للإنسان " بواعثه وغاياته " بدلا من التناقض داخل أسلوب الإنتاج بين قوى الإنتاج وعلاقاته ؟ ما الذي كان يحرك كفاحه الدامي بدلا من صراع الطبقات ؟
ما نقلناه عن " أسس الماركسية ـ اللينينية ، يتضمن بعض الإجابة عن هذه الأسئلة . فقد قالوا إن الناس في المجتمع الشيوعي الأول كانوا " مدفوعين الى تحسين أدوات العمل وزيادة مهاراتهم بالضرورة والرغبة في أن يكون عملهم أكثر سهولة ، وان يختزنوا ما يحتاجونه تحوطاً ضد الكوارث الطبيعية ". غير ان السؤال يبقى قائماً . لماذا رغب الإنسان الأول في أن يكون العمل أكثر سهولة ، وهل تكون سهولة العمل باعثاً وغاية نفهم التاريخ على ضوئها ؟
أياً كانت الإجابة الجديدة عن هذا السؤال الجديد فلن تكون التناقض في أسلوب الإنتاج بين قوى الإنتاج وعلاقاته " ، ولا " الصراع الطبقي " ولا " الطفرة " الجدلية التي تهدم القديم فجأة لتقيم الجديد ؛ أي أن الجدلية المادية كمنهج والمادية التاريخية كنظرية لا يقدمان لنا تفسيرا للتطور خلال الحقبة الكبرى من عمر البشرية .
بعد الشيوعية الأولى يأتي المجتمع العبودي .
يقول مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية " :
" أساس علاقات الإنتاج في هذا النظام ليس الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج فحسب ، بل ملكية العاملين أنفسهم ( الرقيق ) أيضاً . وقد كان حق ملكية العبيد وكل ما يملكون محددا بمستوى تطور قوى الإنتاج في ذلك العصر . كان هذا المستوى مرتفعاً ارتفاعا كافيا لقيام إمكانيات استغلال الشعب العامل . وفي الوقت ذاته كان لا يزال منخفضاً ، بحيث لم يكن من الممكن استغلال العاملين والاستيلاء على جزء مما ينتجون إلا عن طريق النزول بمستهلكاتهم إلى الحد الأدنى ، وان يترك لهم ما يكفي فقط للإبقاء على حياتهم فلا يموتون جوعاً . ولم يكن من الممكن أن يتم هذا إلا بسلب المستغلين كل الحقوق ، وإحالتهم إلى أدوات ناطقة واستعمال أقسى أنواع القهر " .
" أدى تغيير علاقات الإنتاج إلى ثورة في نواحي الحياة الأخرى أيضاً " .
" فقد حلت محل علاقات التعاون والتضامن التي كانت طابع المجتمع البدائي علاقات تتضمن سيادة قطاع من المجتمع على آخر ، أي علاقات الاستغلال والاضطهاد والعداء المقيم ، وانقسم المجتمع إلى طبقتين من الأعداء : طبقة مالكي العبيد ، وطبقة العبيد .
" وقد أثار الاستغلال الوحشي للعبيد معارضة حادة من جانبهم ، وكان القضاء على هذه المعارضة يحتم خلق جهاز خاص للردع ( الدولة ) بدلا من أجهزة الإدارة السابقة من العشيرة والقبيلة . وكانت وظيفة الدولة أن تحمي ملكية أصحاب العبيد ، وان تؤمن لهم موردا ثابتاً من العبيد من أسرى الحرب ومن المدنيين المفلسين أيضاً ، الذين كانوا يتحولون إلى عبيد . وأدى مولد الدولة الى مولد القانون ، أي نظام من القواعد والأوامر القانونية تعبر عن إرادة الطبقة الحاكمة وتحميها قوة الدولة الرادعة . وظهرت عادات جديدة وفكر خاص عن الرقيق . فانتشر في السادة المضطهدين ، تدريجيا ، احتقار وازدراء العمل الجسماني الذي أصبح يعتبر عملا غير لائق بالرجل الحر ، فثبتت جذور فكرة عدم المساواة بين الناس " .
" وبالرغم من هذا كله كان النظام العبودي خطوة إلى الأمام في التقدم الإنساني . فقد أدى الى مزيد من التطور في التقسيم الاجتماعي للعمل بين الزراعة والحرفيين في المدن ، وبين فروع مختلفة من الحرفيين أيضاً . واقتضى تقسيم العمل بدوره التخصص وتحسين الأدوات وزيادة المهاًرات . فظهرت فروع جديدة من الزراعة ( زراعة الخضروات والفاكهة .. الخ ) بالإضافة إلى إنتاًج الحبوب ، واخترعت أدوات جديدة للعمل مثل المحراث ذو العجلات والمتعدد النصل والمنجل . وبالإضافة إلى قوته الجسدية ، بدأ الإنسان في استخدام قوة الحيوان على نطاق واسع ، وباستخدام عمل جماهير من العبيد أمكن بناء السدود ، وتنظيم الري والطرق ، وأنشئت السفن البحرية ، وانابيب نقل المياه ، وأقيمت المدن الكبيرة . وخلق تحرر قطاع من المجتمع ـ بفضل استغلال العبيد ـ من الاسهام المباشر في إنتاج ظروف تطور العلم والفن " .
" غير أنه قد جاء الوقت الذي استنفذت فيه إمكانيات التقدم الكافية في أسلوب الإنتاج العبودي ، عندما تحولت علاقات الإنتاج شيئاً فشيئاً إلى قيود تمنع تطور قوى الإنتاج . إذ لما كان ملاك العبيد يملكون عملهم الرخيص فإنهم لم يبذلوا جهدا لتحسين أدوات الإنتاج . أكثر من هذا ، ان العبد الذي لم يكن ذا مصلحة في ناتج عمله ، لم يكن من الممكن ان يؤتمن على أدوات معقدة وغالية الثمن . وشيئا فشيئاً أصبحت الحاجة الملحة لتطور قوى الإنتاج تقتضي إلغاء علاقات الإنتاج القديمة " .
" ولم يكن ذلك ممكناً إلا بثورة اجتماعية . وكانت القوة المحركة وراء الثورة تلك الطبقات والجماعات التي عانت أشد المعاناة عن النظام العبودي، وبالتالي كانت تستفيد أكثر من غيرها من إلغائه . وكان الجزء الأكبر منهم عبيدا والقطاعات الفقيرة من الأحرار . وعندما وصلت التناقضات في أسلوب الإنتاج القديم إلى الذروة ، أصبح الصراع الطبقي ، شيئا فشيئا ، أكثر حدة ، واتخذ جميع الأشكال ؛ من الإتلاف العمد لأدوات العمل ، إلى تمرد عشرات الألوف من الناس . وفي النهاية ، تحت ضربات تمرد الطبقات العاملة وغزوات القبائل البربرية المجاورة ، التي لم تستطع دولة ملاك العبيد ان تقاومها لما سببته تناقضاتها الداخلية والصراع فيها من ضعف ، انهار النظام العبودي " .
في هذا الذي يقوله الماركسيون محاولة عنيفة للخروج من مأزق أدى إلى تناقض واضح فيما جاء به خاصاً بقوى الإنتاج . فطبقاً للجدلية المادية والمادية التاريخية ، لا بد من ان تتطور أدوات الإنتاج سابقة في تطورها علاقات الإنتاج . وينفرد المجتمع العبودي كما وصفوه بميزة خاصة هي ان أدوات الإنتاج هم " العبيد " و " الآلات " . وقد بدأوا بأن طوروا أدوات الإنتاج " غير الناطقة " فتطور المحراث الحديدي الذي تركناه عند آخر مراحل الشيوعية البدائية إلى المحراث ذي العجلات والمتعدد النصل والمنجل "..الخ . وكان لا بد " للأدوات الناطقة " من ان تتطور أيضاً حتى تسبق قوى الإنتاج علاقات الإنتاج . ولكنهم قالوا إنها لم تتطور ولا حتى تطورت أدوات الإنتاج التي طورها في أول الحديث ؛ لأن ملاك العبيد ، لم يبذلوا جهدا في تحسين أدوات الإنتاج . وأكثر من هذا أن العبد الذي " لم تكن له مصلحة في ناتج عمله لم يكن من الممكن ان يؤتمن على أدوات معقدة وغالية الثمن . وشيئاً فشيئاً أصبحت الحاجة الملحة لتطور قوى الإنتاج تقتضي إلغاء علاقات الإنتاج القديمة " .
وراء هذا نقض للمادية التاريخية . إذ أن قوى الإنتاج هنا لم تتطور حتماً مخلفة وراءها علاقات الإنتاج بل حالت ملكية العبيد دون أن يبذل المالكون " جهدا في تحسين أدوات الإنتاج ، وحالت دون ان يحافظ العبيد على أدوات العمل أو أن يحصلوا على أفضل منها " فدمروها عمدا " . هنا تحدد علاقات الإنتاج مستوى تقدم قوى الإنتاج ، وتكون هي العامل الحاسم وليس العكس ، إذن لماذا ثارت " الأدوات الناطقة" ؟ لماذا ثار العبيد ؟ فيما نقلناه عن " أسس الماركسية - اللينينية" بعض الإجابة . قالوا :
أثار الاستغلال الوحشي للعبيد معارضة حادة من جانبهم ... ( ولأن ) العبد لم تكن له مصلحة في ناتج عمله ... ( فقام العبيد بثورة ) ... وكانت القوة المحركة وراء الثورة تلك الطبقات والجماعات ادني عانت أشد المعاناة من النظام العبودي .. ( واتخذت الثورة شكل ) ... الإتلاف العمد لأدوات العمل وتمرد عشرات الألوف من الناس ...
اذن فقد كان الباعث على الثورة هو الاستغلال الوحشي للعبيد و لم تكن غاية الثورة ان يمتلك العبيد أدوات الإنتاج فقد دمروها عمدا . فما الذي كان يريده العبيد ؟ ما الذي كان يحدد بواعث وغايات الإنسان العبد ؟ أياً كانت الإجابة الجديدة على هذا السؤال الجديد فلن تكون التناقض بين تطور أدوات الإنتاج وبين علاقات الإنتاج . لم تكن ثورة العبيد " طفرة " تلحق بها علاقات الإنتاج المتخلفة بأدوات الإنتاج المتقدمة . لم تكن المشكلة أصلا مشكلة أدوات الإنتاج بل مشكلة إنسان لا يريد ان يكون أداة ناطقة . ونصبح في حاجة إلى قاعدة جديدة نعرف على أساسها لماذا ثار العبيد ويثورون ، ولو أدى هذا إلى تدمير أدوات الإنتاج جميعاً .
بعد عهد العبودية جاء عهد الإقطاع . وقال فيه مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية " :
" أساس علاقات الإنتاج فى هذا النظام ملكية - الإقطاعيين أدوات الإنتاج وأولها الأرض . وقد كان الفلاحون كأشخاص تابعين للإقطاعيين ، ولكنهم لم يكونوا مملوكين لهم تماماً . كان للإقطاعيين حق في عمل الفلاحين ، وكان الفلاحون ملزمين بأداء خدمات للإقطاعيين . وكان المجتمع الإقطاعي يتميز أيضا بحيازة الفلاحين والحرفيين الخاصة . وكان للفلاح التابع قطعة من الأرض خاصة به ، يبقى ناتجها تحت تصرفه بعد الوفاء بالتزاماته قبل المالك الإقطاعي " .
" وفتح الطابع الخاص لعلاقات الإنتاج مجالات جديدة لنمو قوى الإنتاج فقد أصبحت للمنتج المباشر ـ الآن ـ مصلحة مادية معلومة في ناتج عمله . وعلى هذا فلم يعد يحطم او يتلف أدواته بل بالعكس ، أصبح يعنى بها عناية حريصة - ويحاول تحسينها . وزاد التقدم في الزراعة ، فادخل نظام الدورة الزراعية الثلاثية وانتشر استخدام طرق تخصيب الأرض .
" وتحقق نجاح أكثر دلالة بتزويد الحرفيين الزراعة بالأدوات والأشياء اللازمة للإقطاعيين والتجار في حياتهم اليومية ، وأنواع مختلفة من الأدوات المنزلية ، وكذلك بالأسلحة والمهمات العسكرية . وأدى تقدم الحرف والتجارة إلى إنشاء المدن . وبمرور الزمن أصبحت المدن ـ مهد أسلوب الإنتاج الرأسمالي الجديد ـ مراكز قوية للنشاط الاقتصادي والسياسي والثقافي " .
" وتمت في عهد الإقطاع اكتشافات فذة ، كان لها تأثير عظيم في مجرى تاريخ الإنسان ؛ فقد تعلم الإنسان كيف ينتج الحديد من خام الحديد ، وان يبني سفناً شراعية قوية قادرة على الرحلات الطويلة ، وان يبتكر أدوات رؤية بسيطة (نظارات وتليسكوبات ) والبوصلة ، والبارود ، والورق ، وطباعة الكتب ، والساعات الآلية ، وأضيفت إلى قوة الإنسان والحيوان الجسدية ـ على نطاق أوسع كثيراً ـ قوة الريح ( طواحين الهواء والسفن الشراعية ) وقوة مساقط المياه ( كانت إدارة الطواحين والعجلات بالمياه هي المحركات البسيطة التي انتشرت في القرون الوسطى ) " .
" وأدى حلول علاقات الإنتاج الإقطاعية محل علاقات الإنتاج العبودي إلى تغييرات في حياة المجتمع كلها " .
" كان التغيير الرئيسي في التركيب الطبقي ، فقد أصبح الإقطاعيون ملاك الأراضي الطبقة الحاكمة . وكان فلاحو الأرض هم الطبقة الأساسية الأخرى في المجتمع الإقطاعي . وكانت العلاقة بين هاتين الطبقتين ذات طابع عدائي وقائمة على تعارض في المصالح الطبقية لا يمكن التوفيق فيه . ومع ان أشكال الاستغلال كانت أخف قليلا منها في عهد العبودية فقد كانت من نوع بالغ القسوة . كان استغلال الفلاحين لا يزال قائما على الردع غير الاقتصادي فلم يكن العامل في الأرض ليجد الحافز الاقتصادي والباعث المادي إلا في عمله في الأرض التي يحوزها . وكان الجزء الأكبر من وقته مخصصاً للعمل لحساب المالك الإقطاعي ، ولم يكن يتقاضى عن هذا العمل أي مقابل على الإطلاق . كان الباعث على العمل هنا مجرد الخوف من العقاب والإكراه المادي ، وخطر فقدان ملكيته الخاصة ، التي كان في إمكان مالك الأرض ان يصادرها " .
" بالمقارنة بالمجتمع العبودي ، وصل الصراع الطبقي إلى درجة أعلى . وقد شملت ثورة الفلاحين في بعض الأحيان أقاليم واسعة . وتظهر مقاومة الفلاحين للإقطاعيين في حروب الفلاحين التي هزت بلدا بعد أخر " .
***
وكان البناء السياسي والفكري للمجتمع الإقطاعي يعكس أشكال الاستغلال والصراع الطبقي الخاصة به . فلكي يستغل الإقطاعيون الفلاحين ويحتفظوا بهم كانت دولة الإقطاع تلجأ دائماً إلى القوة المسلحة ، التي لم تكن تحت تصرف السلطة المركزية فحسب ، بل أيضا تحت تصرف كل مالك إقطاعي . وكان هذا الأخير مطلق السيادة داخل مقاطعته يستطيع ان يحكم ويعاقب كما يريد " .
" وتضمنت التشريعات عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الإقطاعي ؛ فكونت الطبقات وقطاعاتها الداخلية طوائف ( كان المجتمع الإقطاعي مكوناً من طوائف كالنبلاء ورجال الدين والتجار والفلاحين ) . وكانت العلاقات بين الطوائف وفي داخلها مؤسسة على خضوع محكم وتبعية شخصية . وكان جمود الحواجز الاجتماعية يعرقل الحركة من درجة في سلم التدرج الإقطاعي إلى درجة أخرى . وكانت الحياة الروحية في المجتمع محكومة بالكنيسة والدين " .
" ومع الزمن ، أدى تطور قوى الإنتاج إلى تناقضات بينها وبين علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع الإقطاعي والبناء السياسي والفكري السائد القائم عليها والمحدد بها . وكان نضال الفلاحين يتحدد شيئا فشيئاً ضد الاضطهاد الإقطاعي في سبيل حرية تصرفهم في ناتج نشاطهم الاقتصادي . كانوا يحاولون ان يحرروا أنفسهم من الاضطهاد الإقطاعي حتى يحصلوا على إمكانيات تقدم زراعتهم ..الخ . وظهرت بجوار محلات الحرفيين الصغيرة مؤسسات صناعية كبيرة قائمة على المهارة اليدوية ولكن على الاستخدام واسع النطاق لتقسيم العمل واستخدام جهد عمال متحررين من التبعية الشخصية " .
" وتطورت المدن ـ دعامة البرجوازية الناشئة " ـ تطوراً قوياً واتسع مجال التجارة أكثر من ذي قبل فاستولى التجار بمساعدة الجيوش الملكية على أسواق جديدة في بلاد عبر البحار، وادي نمو التبادل بدوره الى سرعة تطور الإنتاج الذي أصبح بالتالي سهلا كنتيجة للاكتشافات العلمية والتكنيكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر " .
" في وسط النظام الإقطاعي أخذ أسلوب جديد من الإنتاج الرأسمالي يتكون تدريجيا ، وكان تطوره يقتضي إلغاء النظام الإقطاعي . كانت البرجوازية - الطبقة التي تبدو الآن رائدة أسلوب الإنتاج الجديد ـ في حاجة إلى سوق عمل " حر" ؛ أي إلى عمال متحررين من تبعية الفلاحين ومن الملكية كليهما ، يدفعهم جوعهم إلى المصانع . كانت في حاجة إلى سوق وطني والى إلغاء الجمارك وكل الحواجز الأخرى التي خلقها الإقطاعيون . وقد ألغت فعلا الضرائب التي تدفع للبلاط والخدم الكثيرين للنبلاء وحطمت امتيازات الطوائف ، وكانت غايتها ان تكون قادرة على السيطرة على نواحي الحياة في المجتمع " .
"وجمعت البرجوازية حولها كل الطبقات والجماعات التي لم تكن راضية بالنظام الإقطاعي ، من الفلاحين التابعين ، إلى القطاعات المنحطة من سكان المدن التي كانت تعيش في ظروف من الفقر والإذلال والاضطهاد ، إلى العلماء والكتاب التقدميين الذين كانوا ـ بصرف النظر عن أصلهم ـ مختنقين بالاستبداد الروحي للاقطاع والكنيسة " .
غير أنها تبدو أكثر صلابة ومقدرة على التفسير بظهور تلك الطبقة الجديدة في قلب الإقطاع . فقد تركت المادية التاريخية الطبقتين الرئيسيتين : الإقطاعيين والفلاحين في عدائهما الذي لا توفيق فيه دون ان ينتهي التناقض بين علاقات الإنتاج ( الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ) وقوى الإنتاج . ووجدنا طبقة جديدة ( لم تتحدد طبقا لمركزها من علاقات الإنتاج ، بل بعدم انتمائها إلى طرفي تلك العلاقة : الإقطاعيين والفلاحين ، فنسبت إلى " المدن "، وحملت اسمها : ( سكان المدن او البرجوازية ) لا تريد ان تلغي علاقات الإنتاج القديمة ولكن تريد لها ان تكون مطلقة . تريد ان تدعم " الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج " وتلغي أي قيد عليها ، مع ان قوى الإنتاج قد تطورت تطور خطيرا ، إذ قد تمت " اكتشافات فذة كان لها تأثير كببر في مجرى تاريخ الإنسان " فقد تعلم الإنسان كيف ينتج الحديد من خام الحديد وان يبني سفناً شراعية قوية قادرة على الرحلات الطويلة ، وان يبتكر أدوات رؤية بسيطة (نظارات وتليسكوبات ) والبوصلة والبارود والورق وطباعة الكتب والساعات الآلية ... الخ " . وكان هذا يقتضي - كما قال الماركسيون بحق - سوقاً حرا للعمل وسوقاً حرا للتجارة ، ولم يكن هذا ممكناً إلا بإلغاء سلطة الإقطاعيين .
فما الذي حدد للبورجوازيين بواعثهم وغاياتهم ؟ وكيف تطورت قوى الإنتاج في عهد الإقطاع دون ان" يتعمق" التناقض بينها وببن " علاقات الإنتاج " ؟ انها أسئلة تحتاج إلى مزيد من التفسير .
وإذ نشأت الرأسمالية تتبعها مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية" فقالوا :
" علاقات الإنتاج في الرأسمالية قائمة على ملكية الرأسماليين الخاصة أدوات الإنتاج . وتستغل طبقة الرأسماليين طبقة العمال الأجراء ، المتحررين من التبعية الشخصية ، ولكنهم مضطرون إلى بيع قوة عملهم ؛ لأنهم لا يملكون أدوات الإنتاج .
ومرة أخرى تؤدي التغيرات في أسلوب الإنتاج على تغييرات في كل جوانب الحياة في المجتمع " .
" أصبحت طبقة الرأسماليين وطبقة العمال ، الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع . وكما حدث من قبل ، ظلت العلاقة بينهما ذات طابع عدائي إذ أنها قائمة على استغلال واضطهاد الذين يملكون للذين لا يملكون . إنها علاقة صراع طبقي لا يمكن تفاديه . ولكن طرق الاستغلال والاضطهاد قد تغيرت جذريا . وأصبح شكل الإكراه السائد اقتصادياً . فالرأسمالي لا يحتاج ـ كقاعدة ـ إلى القوة المادية لحمل الناس على العمل من اجله ، إذ أن العامل المجرد من أدوات الإنتاج مكره على ان يقوم بهذا ـ إراديا ـ تحت تهديد الموت جوعا . وأصبحت علاقات الاستغلال مغلفة بالاستخدام " الحر" للعمال ؛ ببيع وشراء قوة العمل " .
" وأدى التغيير في طرق الاستغلال إلى تغيير في طرق الحكم السياسي ، وتم التحول من الاستبداد المكشوف في العصور الخالية إلى أشكال أكثر تهذيباً في الحكم ؛ أي إلى الديمقراطية البورجوازية . وأخلت السلطة المطلقة للملكية الوراثية مكانها للجمهورية البرلمانية ( او على الأقل الملكية الدستورية ) وتقرر الاقتراع العام . وأعلن أن للمواطنين حريات سياسية معينة وأنهم متساوون أمام القانون . هذا النوع من النظام يتفق إلى أكبر حد مع مبادئ ، حرية المنافسة وحرية اللعب بالقوى الاقتصادية التي كانت الرأسمالية قائمة عليهما زمناً طويلا ".
" ومع هذا ، فإن كل الاختلاف بين البناء السياسي والفكري في المجتمع البورجوازي وبين ذلك البناء في المجتمع الإقطاعي لم يخف الحقيقة الأساسية وهي انه لا يزال بناء قائما على علاقات الملكية الخاصة والاستغلال . والجزء الأكبر من هذا البناء مكون من أجهزة وأفكار الطبقة البورجوازية المستغلة التي كانت مهمتها ان تحافظ على سيادة الطبقة البورجوازية وأن تضمن طاعة الجماهير المضطهدة " .
" وكما ثبت في الوقت الحالي ، لا نظريا فحسب ، بل بالممارسة الاجتماعية ، ان الشكل الرأسمالي أيضاً شكل مؤقت وانتقالي . ففي قلب النظام نفسه يزيد العداء عمقاً ، وفوق هذا ينضج ويعمق التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والشكل الفردي للملكية . والمخرج الوحيد من هذه التناقضات هو الانتقال إلى الملكية الاجتماعية لأدوات الإنتاج ؛ أي إلى الاشتراكية " .
" غير انه ـ كما كان الأمر في الماضي ـ لا يمكن أن يتم الانتقال إلى الأسلوب الجديد في الإنتاج الا خلال ثورة اجتماعية . والقوة المقدر لها أن تقوم بهذه الثورة قد ولدتها الرأسمالية ذاتها في شكل الطبقة العاملة . وتقوم الطبقة العاملة ، ضامة إلى جانبها كل الشعب العامل ، بإسقاط سلطة رأس المال وخلق نظام اشتراكي جديد متحرر من استغلال الإنسان للإنسان " .
هنا مجتمع تلعب فيه الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج دورا هاماً ، وعلى هذا تبدو المادية التاريخية بالنسبة اليه نظرية صلبة . ومع هذا فليس الأمر خاصاً بتفسير أثر أدوات الإنتاج او ملكيتها في التطور . فلا أحد أنكر او ينكر مالها من أثر قد يكون خطيرا كما هو الحال في النظام الرأسمالي ، ولكن الأمر أمر فهم التاريخ بكل جزئياته وعلاقة ظواهره بعضها ببعض على ضوء نظرية علمية يجب ـ لتكون علمية حقاً ـ ان تفسر . الكل وتفسر الأجزاء أيضا .
فطبقاً للمادية التاريخية تتحدد الغايات تبعاً لتطور قوى الإنتاج ، فهو المحرك الأول . وقد تطورت قوى الإنتاج في ظل الرأسمالية تطوراً خطيرا " فظهر الإنتاج الآلي الكبير المؤسس على السيطرة على قوى الطبيعة مثل البخار، وبعده الكهرباء وعلى الاستعمال الواسع للعلم في الإنتاج " . ومن ناحية أخرى يجب أن تبقى علاقات الإنتاج ( الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ) كما هي . وقد بقيت فتحقق وجود النقيضين . ويجب ان ينعكس هذا في " أدمغة الناس فيكون " المالكون " طبقة غايتها استغلال غير المالكين ويكون " العاملون " بأدوات الإنتاج " طبقة غايتها الغاء " الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج " . ومع هذا فإن مؤلفي " أسس الاشتراكية ـ اللينينية " يقولون إنه في " أيامنا هذه " هناك " أساس لتحالف اجتماعي وسياسي أكثر من ذي قبل بين الطبقة العاملة و" البورجوازية الصغيرة " بل و" بعض الرأسماليين أنفسهم " .
طبقاً للمادية التاريخية يجب ان يزيد التناقض حدة كلما تطورت قوى الإنتاج وان يزيد الصراع الطبقي خلال الاتجاه الى الاشتراكية . ومع ذلك فإن مؤلفي " أسس الماركسية - اللينينية " يقولون إن " خبرة الاتحاد السوفييتي والديمقراطيات الشعبية لم تؤيد على أي وجه نظرية ستالين في ان الصراع الطبقي يزيد حدة خلال التقدم الى الاشتراكية " .
وطبقاً للمادية التاريخية ، يجب ان تكون قوى الإنتاج قد تطورت وسبقت علاقات الإنتاج حتى يكون هناك تناقض يحل بطفرة " ثورية " ، ومع ذلك فإن مؤلفي " أسس الماركسية ـ اللينينية ” يقولون عن خبرة الاتحاد السوفييتي " قد أثبتت أنه يمكن ـ في أيامنا هذه ـ ان يتطور المجتمع إلى الاشتراكية أياً كان مستوى تطوره الاقتصادي " .
وطبقا للمادية التاريخية لا بد من ان تتحدد بواعث وغايات وعلاقات الناس على أساس التناقض الطبقي في أي مجتمع . وتطبيقاً لهذا قال ماركس في البيان الشيوعي . " ليس للعمال وطن " . ومع ذلك يقول مؤلفوا " أسس الماركسية ـ اللينينية " : " خلال التطور التاريخي للإنسان قام عدد من المجتمعات المستقرة على وجه لا يتفق مع التقسيم الطبقي . مثلا وعلى الأخص المجتمع القومي او الوطن " . وإن الروابط القومية متميزة " باستقرارها الكبير " ٠
وطبقا للمادية التاريخية لا بد من ان يكون الصراع بين الطبقة العاملة وبين الرأسماليين صراعاً عدائياً ؛ لأن التناقض عدائي . ومع ذلك يدافع مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية " عن المنافسة السلمية بين الاشتراكيين في الاتحاد السوفييتي والرأسماليين في الولايات المتحدة الأمريكية ويثير هدا غضب الماركسيين في الصين فيسمونه تضليلا .
وطبقا للمادية التاريخية ، تعكس الأفكار والنظم البورجوازية علاقات الإنتاج الرأسمالي ، ويجب ان تزول مع الرأسمالية . ومع ذلك فإن مؤلفي " أسس الماركسية ـ اللينينية " يقولون : " ليس كل ما في الديمقراطية البورجوازية ذا قيمة واحدة بالنسبة إلى جماهير العمال " ، وإن " لهم مصلحة في الاحتفاظ وتوسيع حقوقهم المدنية " ، وإن " الحقائق قد أثبتت أن الديمقراطية تدعم نفسها في الدولة البورجوازية بالرغم منها " ، وإنه " في البلاد ذات التقاليد الديمقراطية العريقة ، يمكن ان تأخذ ديكتاتورية الطبقة العاملة أو الديمقراطية فيها شكل جمهورية ديمقراطية " ، " وإذا نجحت الطبقة العاملة المتحالفة مع كل القوى الديمقراطية والوطنية في الحصول على أغلبية برلمانية مؤهلة لتأميم ملكية الاحتكارات الرأسمالية الكبرى وإحداث تغييرات اشتراكية فإن ذلك الجهاز التقليدي للديمقراطية البورجوازية ( البرلمانية ) يمكن ان يتحول إلى أداة حقيقية للإرادة الشعبية " . فكأن البناء الفوقي القائم على علاقات الإنتاج البورجوازية قد يصلح لاستيعاب الغايات التي تعكس قوى الإنتاج الاشتراكية .
وطبقاً للمادية التاريخية يكون المثقفون في المجتمع الرأسمالي رجعيين حتما ، لأنهم بفلسفتهم وأفكارهم ، التي تعكس علاقات الإنتاج البورجوازية ، يكونون طرفا في الصراع الطبقي العدائي ضد الطبقة العاملة . ومع ذلك فإن مؤلفي " أسس الماركسية ـ اللينينية " يقولون : " لقد علمتنا التجارب انه بالإضافة إلى العناية الفائقة يجب ان يعامل المثقفون معاملة مفعمة باللياقة والتسامح ".....الخ الخ .
بعد قليل سنرى لماذا تطورت الرأسمالية ، والنضال في سبيل القضاء عليها ، وإقامة الاشتراكية على غير ما تقتضيه المادية التاريخية ، كما سنرى كيف نفسر هذا ونفهمه ، إنما الذي يعنينا الآن أن " خبرة الاتحاد السوفييتي والديمقراطيات الشعبية قد أثبتت أن التاريخ قد جرى وبجري على غير ما تقتضيه الجدلية المادية " حتما " ـ لأن الجدلية المادية نظرية علمية ـ ولسنا نقف في صف الماركسيين الصينيين لنقول ان الماركسيين السوفييت يضللون ، بل نقبل التجربة السوفييتية الغنية ؛ لنقول ان ثمة ما أثبتته التجريب وتضيق به النظرية . وقد يكون القصور في النظرية ذاتها .
يصبح هذا القصور واضحاً تماما ، عندما ننتقل من الرأسمالية إلى الشيوعية (أو الاشتراكية كما يعبرون عنها الآن) .
يقول مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية " :
" أسلوب الإنتاج الاشتراكي مؤسس على الملكية الاجتماعية لأدوات الإنتاج . وعلى هذا فإن علاقات الإنتاج في المجتمع الاشتراكي علاقات تعاون ومساعدة متبادلة بين عمال متحررين من الاستغلال . إنها تتفق مع طابع قوى الإنتاج ؛ أي كون الطابع الاجتماعي مؤسسا على الملكية الاجتماعية لأدوات الإنتاج " .
هنا يثور مرة أخرى ـ وأخيرة ـ السؤال الذي ثار أولا كيف يتطور المجتمع الشيوعي ( او الاشتراكي ) بغير " تناقض " في أسلوب الإنتاج بين قوى الإنتاج وعلاقاته ، وبغير طبقات ، وبغير صراع وثورات ؟ ما الذي يحدد للإنسان " بواعثه وغاياته " ، وإلى أين يتجه التاريخ بعد سقوط النظام الرأسمالي ؟ نجد بعض الإجابة فيما نقلناه عن أسس الماركسية اللينينية " ، ففيه قول يوحي بان الناس سيتطورون عن طريق " التعاون والمساعدة المتبادلة " . ومن قبل ، قال أنجلز في حديثه عن " الاشتراكية الخيالية والاشتراكية العلمية " ، إنه " عندما يستولي المجتمع على أدوات الإنتاج ... يبدأ الإنسان في صنع تاريخه بنفسه ".. غير ان السؤال يظل قائما : لماذا يتعاون الناس ويتبادلون المساعدة ، وهل يكون التعاون قانون التطور بدلا من صراع الطبقات ؟ ثم ما هو مضمون ذلك التاريخ الذي يبدأ الإنسان في صنعه بنفسه ؟ ولماذا يصنعه ؟ وما الذي يحدد له ما يصنع ؟ ثم من أين يبدأ في صنع تاريخه وماذا يفعل في البناء الفوقي لعلاقات الإنتاج البورجوازية ؟ .
نقل مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " عن لينين قوله : " بين كل ما كتبه الاشتراكيون في الموضوع لم استطع ان أذكر دراسة اشتراكية واحدة أعرفها ، أو رأياً لعالم اجتماعي عن المجتمع الاشتراكي المقبل للتغلب على الصعوبة العملية الواقعية التي ستقوم أمام الطبقة العاملة بعد ان تستولي على السلطة ، وتأخذ على عاتقها أن تحول كنز الثقافة والمعرفة والتكنيك الذي جمعته البورجوازية والذي نحتاجه تاريخياً وحتماً ، من أداة للرأسمالية ، إلى أداة للاشتراكية .. إنها مهمة لم تسبقها مهمة في مثل صعوبتها ودلالتها التاريخية " . مصدر المشكلة التي كان لينين يبحث لها عن حل في الدراسات الاشتراكية ، فلم يجده ، أن ما أسماه " كنز الثقافة والمعرفة والتكنيك الذي جمعته البرجوازية " ، هو هو ذلك البناء الفوقي لعلاقات الإنتاج البورجوازية المناقضة لتطور قوى الإنتاج ، أي هو البناء الذي يجب ان يهدم طبقاً لمنهج الجدلية المادية في حين أن لينين كان يريد أن يحتفظ به لأنه في حاجة إليه " تاريخيا وحتما " .
ـ 5 ـ
إن حتمية الحل الاشتراكي تعني ، من ناحية ، أن الاشتراكية هي الحل الوحيد لأزمة الإنسان في النظام الرأسمالي . وتعني ، من ناحية أخرى ، أنها حل مقصور على الرأسمالية ، أي لا بكن القفز إلى الاشتراكية " عن غير طريق الرأسمالية " . ومنهج الجدلية المادية لا يستطيع ان يفسر حتمية الحل الاشتراكي على أي من الوجهين ؛ لأن الجدلية المادية لا تستطيع أن تحدد غاية الإنسان من الاشتراكية .
ليس الجديد في الرأسمالية " علاقات الإنتاج " ؛ أي الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ، وتناقضها مع الطابع الاجتماعي للإنتاج . فمنذ أن بدأ مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " الحديث عن المجتمعات والإنتاج ذو طابع اجتماعي ، ومنذ ان غادرنا معهم عهد الشيوعية الأولى وملكية أدوات الإنتاج ملكية خاصة لم تتغير ، فقد كانت علاقات الإنتاج :
ـ في المجتمع العبودي : " ليست ملكية أدوات الإنتاج ملكية خاصة فحسب ، بل وملكية الرقيق أيضا ".
ـ وفي المجتمع الإقطاعي " ملكية الإقطاعيين أدوات الإنتاج وأولها الأرض " .
ـ وفي المجتمع الرأسمالي : " ملكية الرأسماليين الخاصة أدوات الإنتاج " .
ـ 6 ـ
غير ان الحديث عن القانون وإعطاءه دلالة غير دلالته أشد تضليلا من رفض القانون ، فسيبقى المفهوم الجديد " للقانون " محتاجاً إلى ضابط لدلالة " العادات " و " المفضل " و " الحدس " ، فإذا لم يوجد ذلك الضابط انفتح الباب على مصراعيه لحديث غير مفهوم يستعمل الكلمات دون أن يعني مدلولاتها ، ونحتاج عندئذ ، قبل البحث عن غايات الإنسان ، أن نسأل لكل متحدث عما يقصده " شخصيا " من " الألفاظ " لتي يستعملها ، ومتى يعتبر " القانون " عنده تعبيراً عن " العادة " أو " الأفضل " أو " الحدس " ، وماذا يعني بكل هذا او ببعضه ؛ أي أننا نغادر ميدان البحث العلمي لنبحث عن الحقيقة في نوايا المتحدثون وأهوائهم . وقد عرفنا من قبل أن أي حديث عن تاريخ الإنسان ومستقبله يصبح لغوا إذا كان المستقبل ـ وهو المجال الوحيد المفتوح لنشاط الإنسان ـ يقع مصادفة منوطة بالأقدار والأهواء . وعرفنا أيضاً أنه إذا كان ثمة شيء غير معروف فليس ثمة ما لا تمكن معرفته ، وأن طريقنا إلى تلك المعرفة هو البحث العلمي .
وقد سبق أن عرفنا مدى صدق هذا .
إلى هنا وصل المثاليون كما رأينا من قبل .
وهكذا نصل عن طريق مزيد من التحليل لنقطتي البداية فى الفكر الماركسي والفكر المثالي كليهما إلى ما عرفناه من " جدل الإنسان " من أن قانون الطور الجدلي يبدأ بالمشكلة ، فتصميم الحل ، فتنفيذه بالعمل .
ومنا من يهوله هذا فيقول ليس للإنسان غاية محددة .
ومنا من يختار موضوعا فيقول إنه غاية الإنسان " الرئيسية " إقحاما لتقديره الشخصي في أهمية الموضوعات وأولويتها .
وعلى هذا يمكن القول إن المشكلات تحدد الغايات كما قلنا من قبل ، ثم نضيف أن الصراع هو العنصر المشترك في كل الغايات ، ونكون قد تقدمنا خطوة أخرى .
ثم نمضي .
كيف ؟
ـ 7 ـ
ـ 8 ـ
أما عن الطبيعة فالإنسان جزء منها . وقد قلنا " ان القوانين الكلية للطبيعة ـ بما فيها الإنسان - ثلاثة التأثر والحركة والتغير ، وإن تلك القوانين كلية وحتمية " . هذه الحتمية التي يخضع لها الإنسان كجزء من الطبيعة تحدد غاياته كجسم طبيعي في حاجة متجددة الى مواد طبيعية يستهلكها فيتمثلها لكي يعيش ، أي ليحافظ على وجوده ، بعد أن يكون قد وجد نتيجة لقوانين التناسل الطبيعية . وقد كان الإنسان ، ولا يزال ، ومن غاياته أن يتنفس وأن يأكل وأن يشرب وأن يسكن ؛ أي أن يقي حياته مخاطر الطبيعة المادية والحيوية ، وتلك غايات متجددة . ومن هنا كانت موضوعا متجدداً لصراع الإنسان فى سبيل تحرره من الموت والجوع والعطش ، ومن الآلام التي ينذر بها جهازه العصبي الطبيعي بحاجة جسمه الى مزيد من عناصر الطبيعة لكي يبقى إنساناً حياً . وفي هذا صدق انجلز عندما قال إنه يجب - أولا - أن يأكل الإنسان وأن يشرب وأن يكون له مسكن وملبس قبل أن يستطيع متابعة السياسة والعلوم والفن والدين ...الخ . وصادق أيضا ما يترتب على هذا منطقيا من أن الإنسان الذي يحل مشكلته الأولى فيأكل ويشرب ويكون له مسكن وملبس ، فيكسب بهذا حريته من عبودية الطبيعة فيه لن ينتهي تاريخه ، بل سيبدأ فورا - ولو بين وجبات غذائه - في الصراع من أجل مزيد من الحرية عن طريق متابعة السياسة والعلوم والفن والدين . . . الخ . ومؤدى هذا أن كون مشكلة المأكل والملبس والمسكن ... الخ مشكلة أولى يعني أن حبس جهود الإنسان فيها ، وبقاءها دون حل ، يعوق انطلاقه الى مزيد من الحرية ، ومزيد من التقدم .
ـ 9 ـ
وأما عن المجتمع فالإنسان جزء منه أيضا . وقد سبق أن عرفنا كيف يتطور اثنان عن طريق " الجدل الاجتماعي " ، ونعني به الاشتراك في حل المشكلات المشتركة ، أي بتبادل الجدل : تبادل المعرفة فيعرف كل واحد من الاثنين كيف نشأت المشكلة المشتركة لديهما ، وتبادل الفكر أي معرفة كل واحد منهما وجهة نظر الآخر في حل المشكلة ، وتبادل العمل أي مساهمة كل منهما في إشباع حاجتهما المشتركة ، وبهذا يتطوران ، أي يتطور المجتمع عن طريق المعرفة المشتركة أو العلم ، والرأي المشترك أو العقيدة ، والعمل المشترك . وقلنا عند الحديث عن الديمقراطية " إن حرية الإنسان في المجتمع هي تطوره فيه ، وإنها منضبطة بقانون الجدل أيضا . وبذلك تكون الديمقراطية هي نظام الجدل الاجتماعي ؛ هي أسلوب الشعب في : 1ـ إدراك مشكلاته . 2 - حل تلك المشكلات . 3- تنفيذ الحل بالعمل .
هذا الارتباط بين حرية الإنسان في المجتمع وتطور المجتمع ذاته هو الذي يطرح المشكلة ويقدم لها إمكانيات الحل ، وبه يصبح المجتمع - كالطبيعة تماما - عائقا في سبيل حرية الإنسان وأداة لتحقيقها في الوقت ذاته . فالمجتمع يطرح المشكلة بتعدد الناس فيه ؛ كل يسعى الى حريته مع اشتراكهم جميعا في إمكانيات واحدة . ومع حتمية الحياة الاجتماعية تبدو حرية كل واحد في المجتمع قيدا على حرية الآخر على مستويات المشكلات المختلفة ، فلا تتفق مشكلاتهم ولا حلولهم ، ولا تتآزر جهودهم ، ويعوق " الجدل الاجتماعي " ما نحب أن نسميه " الصراع الاجتماعي " . ومع أن غاية كل فرد حريته ، وغاية المجتمع حرية الجميع فيه ، فإن الطابع الاجتماعي للحياة في المجتمع - ذلك الطابع الذي لا بد منه - هو الذي قد يخلق الصراع الاجتماعي الذي يعوق تحقيق حرية الإنسان في المجتمع . ومع ذلك فإن هذا المجتمع الذي خلق بتعدد الناس فيه عائقا فى سبيل " الحرية " هو الذي يقدم أداة تحقيقها بالتعدد ذاته ؛ فتعدد الناس يعني تعدد المدارك طريقا ميسرا لمعرفة المشكلات ، وتعدد الآراء طريقا سريعا لمعرفة الحل السليم ، وتعدد الجهود طريقا فذا لتحقيق التقدم الى مزيد من الحرية .
وفي هذا تفصيل ينبغي أن يقال .
سبق أن ذكرنا : " إن الإضافة الى الاثنين تمد أبعاد المجتمع على مستويات ثلاثة : امتداد أفقي حيث ينتشر الناس من الفرد الى الجماعة وحيث يحمل كل فرد حاجته معه ، وتتعدد المشكلات والحلول في حركة جدلية تتجه من الجزء الى الكل . وامتداد رأسي يبدأ من الحاجة الخاصة لكل فرد الى الحاجة العامة التي يشترك فيها الجميع ، وتتسع المشكلات والحلول في حركة جدلية تتجه من الخاص الى العام . وامتداد الى المستقبل حيث يسير التطور في حركة جدلية من الحاجة الى الغنى . وفي حدود هذه الأبعاد تتطور أية وحدة اجتماعية خلال حركة جدلية جماعية متجهة الى التحقيق الشامل لكل حاجات الأفراد " .
أما على المستوى الأفقي فإن المجتمع يبدو عائقا في سبيل حرية الإنسان فيه ، إذ يتسابق الجميع على إمكانيات واحدة ، كل يبغي أن يحقق حريته ، وكل يدرك أن تحقق حرية غيره تعويق لتحقيق حريته . وبذلك يصبح الاستئثار مشكلة أولى ومصدرا للصراع ببن الأفراد على غاية معوقة هي إزاحة الآخرين من الطوق ، والانتقاص من حرياتهم تحقيقا للحرية الفردية .
وخلال هذا الصرع ، تبقى المشكلات الموضوعية قائمة بدون حل ، ويسهم المجتمع على هذا الوجه في تعويق انطلاق الإنسان عبر تاريخه الى حريته . يسهم " الصراع الاجتماعي " في تعويق " الجدل الاجتماعي " . ويظل الصرع الاجتماعي - على هذا المستوى - عائقا معطلا الى أن يصبح الجهد الذي يساهم به كل فرد في حل المشكلات المشتركة السبيل الوحيد لتحقيق الحرية الفردية في المجتمع ، أي إلى أن يصبح " لكل حسب عمله " فينتهي " الصراع الاجتماعي " على هذا المستوى لينطلق " الجدل الاجتماعي " سريعا الى توفير الحرية للجميع ، أداته في هذا وفرة وتعدد العاملين ، أي المجتمع ذاته .
وعلى المستوى الرأسي داخل المجتمع الواحد ، تتكون وحدات اجتماعية على مشكلات خاصة بها . قد يكون أولها الرابطة الطبيعية التي تربط الوالدين بأولادهم أي رابطة الأسرة ، ولكنها قد تأخذ أنماطا عديدة : فلكل قرية مشكلات خاصة ، ولكل إقليم مشكلاته الخاصة ، ولكل العاملين في مهنة واحدة مشكلاتهم الخاصة .. الخ . ومع أن غاية كل جماعة أو فئة أن تحقق حريتها المشتركة ، فإن الطابع الاجتماعي للحياة في المجتمع ـ ذلك الطابع الذي لا بد منه ـ قد يخلق الصراع الاجتماعي بين تلك المجموعات أو الفئات ، ويصبح الجهد المشترك لكل جماعة أو فئة موجها ، لا إلى تحقيق حريتها ، ولكن الى قهر حرية الفئة التي تزاحمها في الطريق . وخلال هذا الصراع تبقى المشكلات الموضوعية قائمة بدون حل ، ويسهم المجتمع على هذا الوجه في تعويق انطلاق الإنسان عبر تاريخه الى حريته . يسهم " الصراع الاجتماعي " ( القبلي أو الطائفي أو الطبقي .. الخ ) في تعويق " الجدل الاجتماعي " . ويظل الصراع الاجتماعي - على هذا المستوى - عائقا معطلا الى أن يصبح التقسيم الداخلي للمجتمع تقسيما للعمل ، فينتهي " الصراع الاجتماعي " على هذا المستوى لينطلق " الجدل الاجتماعي " سريعا الى توفير الحرية للجميع ، أداته في هذا ، تنوع المهارات وتخصص الجماعات فيه و " تقسيم العمل " بين العاملين أي بين أفراد المجتمع ذاته .
وعلى مستوى التطور الى المستقبل ، ينقسم المجتمع أفرادا وجماعات حول أولوية الحلول . فالجائع يريد أن يأكل أولا ، والعاري يريد أن يلبس أولا ، والذي لا مأوى له يريد المأوى أولا ، والذي تحقق له كل هذا يريد المزيد من الرفاهية المادية أو الذهنية ... الخ . ومع أن غاية كل فرد وكل جماعة وكل فئة أن تحقق حريتها ، فإن الطابع الاجتماعي للحياة في المجتمع ـ ذلك الطابع الذي لا بد منه - قد يخلق الصراع الاجتماعي بين الأفراد والجماعات والفئات ؛ كل يبغي أن يحقق الحرية التي تنقصه أولا . ويصبح الجهد الفردي والجماعي موجها ، لا الى تحقيق الحرية للجميع ، ولكن الى تسخير الجهود فى تحقيق ما يرى الفرد أو الجماعة تحقيقه أولا ، وقهر حرية غيرهم من السابقين أو المتخلفين . وخلال هذا الصراع على أولوية الحلول تبقى المشكلات الموضوعية قائمة بدون حل ، ويسهم المجتمع على هذا الوجه في تعويق انطلاق الإنسان عبر تاريخه الى حريته . يسهم " الصراع الاجتماعي " في تعويق الجدل الاجتماعي . ويظل الصراع ـ على هذا المستوى - عائقا معطلا الى أن تصبح الأولوية " لحرية الأغلبية " فينتهي " الصراع الاجتماعي " على هذا المستوى لينطلق الجدل الاجتماعي سريعا الى توفير الحرية للجميع ، أداته في هذا مجموع جهد العاملين ، أي المجتمع ذاته .
وهكذا نرى أن دور المجتمع في حياة الإنسان ، وفي تاريخه ، مؤثر حتما بحكم انتماء الإنسان الحتمي الى مجتمع ، غير أن هذا التأثير لا يخلق للإنسان غاية غير الحرية ، ولا يحدد للتاريخ اتجاها غير اتجاهه الى الحرية ، بل يعوق تحرر الإنسان بما يخلقه تعدد الناس فيه من صراع اجتماعي . أو يسرع بتحرر الإنسان بما يقدمه الناس في المجتمع ـ الى كل إنسان فيه ـ من قدرة إضافية فذة على الإدراك السليم والرأي الصائب والعمل المجدي ؛ أي بما يقدمه المجتمع الى الإنسان الذي ينتمي إليه من إمكانيات ضخمة ، ليتحقق له من الحرية ما لا يقدر على تحقيقه وحده .
أما المجتمع الذي عرفه بعض مفكري أوروبا كائنا غير الإنسان ، ذا تاريخ غير تاريخ الناس ، وغايات غير غاياتهم ، فهو مجتمع لا نعرفه . فالمجتمع عدنا ليس أكثر من أحد عناصر ظروف الإنسان الذي يعيش فيه . وكون المجتمع من البشر لا يعني سوى اختلاف نوع العلاقات التي يؤثر خلالها في حياة الإنسان عن تأثير عنصر الطبيعة مثلا . وكما أن وجود الإنسان في الطبيعة وتأثيره فيها وتأثيرها فيه لا يعني أن الإنسان ليس شيئا مذكورا ، فإن وجوده في المجتمع وتأثيره فيه وتأثره به لا يعني أن يكون شيئا منكورا . فالمجتمع ناس لا أكثر ولا أقل . وكل قيمة المجتمع - أي مجتمع - فيما يسهم به في تحقيق حرية الناس فيه ، لا أكثر ولا أقل أيضاً .
ـ 10 ـ
ومن عناصر الظروف تلك الحصيلة التي حققها الإنسان على مدى الزمان بتفاعله مع الطبيعة ومع المجتمع .
ولقد انقضت مئات الألوف من السنين منذ أن وجد الإنسان في الطبيعة ، حل خلالها ملايين المشكلات التي طرحتها ، ومع هذا فلا يزال في بداية الطريق الى تحرره الكامل من قيودها . في سبيل تحرره من الجوع مد يديه " المكونتين على شكل رائع " فاقتطف من الطبيعة ثمارها القريبة ، فلما أن نفذت الثمار المعدة طبيعيا حيث كان ، سعى في الأرض متنقلا أو مهاجرا الى الطبيعة البكر حيث كانت في اقطار الأرض . وكان في سعيه محدود الحرية ؛ تحد حرية انتقاله الوحوش الضارية فابتكر الهراوة إضافة الى مقدرته الجسدية على الدفاع والبطش . ولقد كانت الهراوة فرعا من شجرة انتزعه من أصله وشكله على الوجه الذي يتفق مع غايته . ثم استأنس الحيوان إضافة ار مقدرته على الحمل والانتقال ، وابتكر النار إضافة الى مقدرته على الرؤية ، وبنى المساكن إضافة الى مقدرته على تحمل البرد والحر .. ولم يكن اي شي من هذا جاهزا في الطبيعة فخلقه ، وكانت غاية خلقه أن يكون حرا أو أكثر حرية . كان يريد ، فيهمّ بأن يحقق إرادته ، فتقف الطبيعة فيه - أو الطبيعة حوله - حائلا دون غاية إرادته ، وطرح الموضوع الذي تتحدى فيه حريته ، فينتهي جدل الإنسان الى ابتكار أداة قهر الطبيعة وتغطي عقباتها ، فيدرك ويفكر ويعمل ، فيصبح أكثر حرية من ذي قبل . كذلك كانت الزراعة حلا لمشكلة ندرة الثمار في غير مواسمها الطبيعية فكان لا بد من أن يكون إنتاجها وفيرا حتى تخزن وتبقى الى مواسم الندرة ، أو تنقل الى حيث لا تسمح الطبيعة بأن ينمو الزرع أو تنتج الثمار . ولم تكن أدوات الإنتاج المصنوعة سوى أدوات تحرر الإنسان من قيود الطبيعة فيه ومن حوله . كانت أدوات فرض إرادته ، ابتكرها وصنعها ليكمل بها مقدرته ، فيرى أكثر مما كان يرى ، ويسمع أكثر مما كان يسمع ، وينتقل بأسرع مما تطيق قدماه ، ويحمل بالرّوافع التي يديرها بيديه أضعاف ما تطيقه اليدان ، ويسخر القوى الطبيعية ( الحرارة والكهرباء ، والذرة .. الخ ) فتصبح كلها قوة مضافة الى قوته الذاتية ، فيصيح إن أرد فعل ، أي يصبح أكثر حرية . ومنذ الهراوة الأولى كان تاريخه صراعا ضد الطبيعة فى سبيل حريته من قيود الطبيعة . ولقد نجح نجاحا مذهلا فلم تعد تعوقه البحار أو الجبال أو الليل أو النهار ... الخ ، فله المزارع والمصانع والسفن والقاطرات والطائرات والصواريخ ... الخ . كان كل هذا فى سبيل حريته . فى سبيل أن يفعل ما يريد ، رغم ما تضعه الطبيعة من قيود في سبيل إرادته .
وفى أي زمان معين فى مجتمع معتن ، تكون قد تجمعت للإنسان حصيلة مصنوعة من خلقه ، أضافها الى الطبيعة ، وتكون تلك الحصيلة قد أصبحت بتمام خلقها عنصرا من عناصر الظروف ، يسهم في طرح مشكلات المستقبل ويسهم في حلها في الوقت ذاته .
فهي تطرح المشكلة - فى زمان ومكان معينين - بتحديدها الحتمي لنقطة انطلاقة الإنسان الى مستقبله . أيا كان المستقبل الذي يتطلع الإنسان اليه فإن المشكلة القابلة للحل ، والحل القابل للتحقيق ، هما المشكلة وحلها اللذان تحددهما تلك الحصيلة من تطوره كنقطة ملزمة الى المستقبل . ومن هنا تعوق انطلاقه الى أي مستقبل لا يبدأ منها . غير أن تلك الحصيلة ذاتها هي التي تقدم له إمكانيات تخطيها بمعدل من السرعة أكثر من ذي قبل ؛ لأنها تجسيد خبرته بكل ما فيها من فشل أو نجاح . وتقدم بهذا إمكانيات الانطلاق بأقل قدر من الفشل وأكبر قدر من النجاح ؛ لأنها تعفي الجهد المقبل من أخطاء تجربة الماضي . وكلما كانت تلك الحصيلة المضافة الى الطبيعة أكثر غنى ، كان الانطلاق الى مستقبل أفضل - الى مزيد من الحرية - أكثر يسرا وسرعة . وهكذا بينما دامت الهراوة الأولى مئات الألوف من السنين ، ودام المحراث عشرات الألوف ، تحققت الثورة الصناعية على الطبيعة في نحو أربعة قرون ، وأصبحنا اليوم نطور الإنتاج الزراعي والإنتاج الصناعي من عام الى عام أو في أقل من هذا زمنا ، ونكسب حريات جديدة ضد الطبيعة كل يوم .
كل هذا لم يغير غاية الإنسان واتجاه تاريخه منذ الهراوة الأولى الى الصاروخ الأخير ، كما أن حصيلة كل هذا في زمان معين وفي مجتمع معين ، لا يختلق للإنسان أو للمجتمع غاية غير حريته ، ولا ينحرف بالتاريخ عن اتجاهه الى الحرية . فالمجتمعات الزراعية كالمجتمعات الصناعية ، والمجتمعات المتخلفة كالمجتمعات النامية كالمجتمعات المتقدمة ، تتجه جميعا اتجاها وحدا الى الحرية ، وإنما يتوقف معدل سرعة انطلاقها على النقطة التي يبدأ منها الانطلاق ، وعلى حصيلة ما تحقق لها من ماضيها عند تلك البداية . فالمجتمعات المتخلفة تسعى في تاريخها بمعدل بطيء ، والمجتمعات المتقدمة تندفع إليه اندفاعا سريعا ؛ لأن الأولى تنطلق من بداية متخلفة والثانية تنطلق من بداية متقدمة ، وإن كانا يعيشان في فترة زمنية واحدة .
تلك حصيلة تفاعل الإنسان مع الطبيعة في الزمان كعائق في سبيل الحرية وكآداة إليها .
أما حصيلة تفاعله مع المجتمع فمنها تلك الإضافة الرائعة ، ونعني بها اللغة التي تشكلت بها الأصوات رموزا لمعاني مشتركة فحلت المشكلة الأولي التي طرحها المجتمع ؛ مشكلة المجتمع الواحد من ناحية وتعدد الناس فيه من ناحية أخرى . ولم تكن الا بداية تحرر بها الإنسان جزئيا من عزلته الطبيعية عن غيره ، وبعدها واجه مشكلات أخرى ٠ فقد عرفنا أن المجتمع يتطور عن طريق المعرفة المشتركة والرأي المشترك والعمل المشترك . وأن ذاك قانون تطوره الحتمي . هذا الاشتراك الحتمي بين أفراد متعددين في مجتمع واحد فرض تنظيم نشاط الأفراد ، علما وفكرا وعملا ، وإدارة جهودهم على وجه تتكامل به تلك الجهود فتصبح جهدا واحدا في مواجهة الظروف الواحدة . وكان لا بد لهذا التنظيم من جهاز يتولى إدارته ، فابتكر الإنسان حلا لتلك المشكلة ما أسميناه - أخيرا - الدولة ؛ أي جهاز إدارة المصالح المشتركة بين الناس في مجتمع ما على أسس القواعد التي يرتضونها . ثم أننا قد عرفنا أن المجتمع قد يخلق الصراع الاجتماعي بين الأفراد على مستوى امتداده الأفقي ، وبين الفئات و الجماعات على مستوى امتداده الرأسي ، وبين المتخلفين والمتقدمين على مستوى تطوره الى المستقبل ، وعرفنا ما يؤدي إليه " الصراع الاجتماعي " من تخلف نتيجة لدوره المعوق " للجدل الاجتماعي " . لهذا خول ذلك الجهاز منذ أن وجد سلطة الردع ليفرض حل الأغلبية على الأقلية المتمردة أفرادا أو جماعات .
وعلى أساس أن الدولة دولة كل الشعب تصبح حكومات " الأقلية " و" الطبقة " و" الفرد " حكومات غير مشروعة ، فإدارة دولة كل الشعب من حق حكومة الشعب كله أو أغلبيته .
بالإضافة الى اللغة والدولة خلق الإنسان من تفاعله مع المجتمع ملايين الحلول التي تكون قدرا كبيرا مما نسميه الحضارة . حلول أوجدها الإنسان لمشكلات وجوده في مجتمع . فمجموع ما أدركه الناس معا من مشكلات منذ أن علم الإنسان أن الشمس تظهر وتغيب دوريا ، وأن الفصول لا تستوي بردا وحرارة ، وانه اذا لم يأكل يموت ... إلى أن علم تركيب الذرة ، وكيفية تحويلها الى طاقة ، هو ما نسميه العلم أو التراث العلمي . ومجموع الأفكار التي صاغها الناس خلال جدلهم الاجتماعي حلا لما واجههم في تاريخهم من مشكلات هو ما نسميه عقائد ومذاهب . لم تكن الفلسفة إلا محاولات فكرية لتحديد العلاقة بين المشكلات وحلولها على مستوى الوجود كله . ومجموع القواعد التي وضعها الإنسان حلا للمشكلات هي ما نسميه النظم . فالقانون نظام لحل مشكلة الصراع ببن الحريات في المجتمع ، والاقتصاد نظام لحل مشكلة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك في المجتمع . وغير هذا كان الأدب والفن تنبيها الى مشكلة أو توجيها الى حل أو حافزا على عمل ، يسهم على أي وجه من هذه في التقدم الحضاري ، ويميزه عن غيره توسله الى الإنسان طريق الجمال الذي يغريه دون قهر أو تحريض ، وبذلك كان أكثر أسباب التقدم إنسانية ، وكانت حصيلته في الزمان تراثا إنسانيا حقا في شكله ومضمونه وغايته . حتى الأخلاق والعادات والتقاليد كانت خلقا اجتماعيا لحل مشكلة فعلية طرحها وجود الإنسان في مجتمع ، ولم تكن عبثا . فكما انتهت اللغة إلى أن تستقر عملا بدون جهد يذكر عن طريق المران الدائم على الحديث فلم يعد أحد يعنى بتقصي أسبابها وان كان اللغو يجذب الانتباه ، كذلك اهتدى الإنسان خلال تاريخه الطويل ومعاناته المشكلات الخاصة بالاتصال الحتمي بين الناس في المجتمع ، الى حلول تتصل بعلاقات الناس صاغها أنماطا من السلوك ، واطرد تطبيقها حلولا صحيحة لمشكلات متجددة ، وانقلبت خلال اطرادها الى قواعد دارجة يلزمها الناس في علاقاتهم بدون جهد يذكر ، ولا يعنى أحد بتقصي أسباب التزامها ، وان كان الخروج عليها يستفز الناس فينتبهون - عندئذ ـ الى أنها فيهم روابط راسخة ( في ضمير المجتمع كما يقولون عادة ) وإن كانت هادئة ؛ تلزم كل إنسان في المجتمع أن يكون اتصاله بالآخرين اتصالا وديا صادقا مجردا من الفردية والاستعلاء والوقاحة ... الخ ؛ وان الخروج على تلك الأسس المسلمة ( لأنها مستقرة ومطردة) عود الى إثارة المشكلات الأولى التي كانت حلا لها ، ويسمون تلك القواعد أخلاقا أو عادات أو تقاليد أو عرفا ... الخ.
لا يعرف الماركسيون .
ولنا عودة لنقول ما نعرف ، وليعلموا من " جدل الإنسان " ما لا يعلمون .
ولنمض في الحديث الذي هنا موضعه عن تلك الحصيلة التي خلقها الإنسان في تاريخه من تفاعله مع المجتمع .
في أي زمان معين في مجتمع معين ، تكون قد تجمعت للإنسان حصيلة مخلوقة من اللغة والنظم والفلسفة والأدب والأخلاق والعادات والتقاليد ... الخ إضافة مصدرها تفاعل الناس في المجتمع ، هي ذلك الذي يسميه الماركسيون البناء الفوقي لعلاقات الإنتاج المادية في المجتمع ، ونسميها نحن أحد عناصر الظروف ، إذ أن تلك الحصيلة تصبح بتمام خلقها عنصرا من عناصر الظروف أي تصبح ماضيا ، لا يمكن هدمها أو إلغائها أو تغييرها . يكون الزمان قد افلت بها من إمكانية الإلغاء ، ومن هنا يتحدد دورها في بناء المستقبل فيصبح مقصورا - كدور غيرها من عناصر الظروف - على تعويق التطور أو سرعة انطلاقه .
فهي تسهم مع باقي عناصر الظروف - في زمان معين ومجتمع معين - في طرح المشكلة بكونها تجسيدا لقيم الماضي وعلاقاته التي يسعى الإنسان الى الإفلات منه . ومن هنا تمارس ـ أيا كان نوعها - ضغطا وتحديدا معوقا لمقدرة الإنسان على خلق وإبداع نظم وعلاقات وقيم جديدة ، فالحصيلة اللغوية في أي زمان معين كما تكون كنزا للمعاني والأفكار التي تجمعت في تاريخ مجتمع ما ، تكون أيضا حدا لتلك المعاني والأفكار ، فهي قيد على تجاز الأفكار المصوغة فيها الى الأفكار التي يجب أن تصاغ فلا تجد إلا القوالب اللغوية القديمة لصياغتها . بهذا تعوق التبادل الفكري وتحدد آفاق المعرفة والدولة والقانون والاقتصاد ... الخ ، أي النظم عامة تشكيل وحدود لحياة الأفراد في المجتمعات ، وتحدد - على وجه - آمال مستقبلهم . والعقائد والمذاهب والعادات والتقاليد ... الخ تصبح باطرادها المستقر المتواتر مصدرا للراحة يقتضي الإفلات منها وتجاوزها ـ في زمان معين - جهدا يضاف الى الجهد الذي يستلزمه الخلق الجديد . هنا الدور المعوق الذي يلعبه ذلك العنصر من عناصر الظروف باستقراره النسبي - لا بالنسبة الى تطور أدوت الإنتاج كما يقول الماركسيون - ولكن بالنسبة الى تغيير الناس في المجتمع . أي قصر حياة الإنسان بالنسبة الى عمر النظم والتقاليد ... الخ .
ويشكل أغلب الناس حياتهم ويخططون حلول مشكلاتهم الخاصة وينظمون نشاطهم في المستقبل ، على أساس استقرار النظام الاجتماعي والقيم التي يعيشون في ظلها . ومرانهم على الحياة في ظل هذا الاستقرار النسبي يقتضي منهم - عند تغييره - جهدا مضاعفا .. جهد الإفلات من الراحة التي يخلقها الاستقرار والتعود ، ثم جهد بناء المستقبل . فكل فكرة جديدة تقتضي جهدا ضائعا في البحث عن لفظ قديم ثم جهدا آخر لابتكار اللغة التي تصدق التعبير عنها . وكل نظام جديد يقتضي جهدا ضائعا في التخلص من آثار النظام القديم ثم جهدا آخر لإرساء قواعد الجديد . وكل فلسفة جديدة تستنفذ قدرا من الجهد في نقض الاقتناع بالفلسفات القديمة قبل أن تتفرغ للاقتناع بالجديد فيها .. وهكذا ، باختصار ، إن بناء المستقبل يقتضي جهدا للتحرر من الراحة التي يخلقها الاطراد المستقر المتواتر، بما في الجهد من معاناة وآلام ، وهي آلام تعوق انطلاق الكثيرين ، وقد تشل آخرين فيستمرئ البعض اجترار الماضي وتطيب لهم السلبية بما تتضمنه من راحة وخمول . فالناس إذن ، وهذا مهم ، لا يبذلون أي جهد ، ولا يستطيعون ، في هدم الماضي وإلغائه ، فإن الزمان الذي لا يقف يكون قد قضي عليه وأعدمه بمجرد تحققه ، ولكن الناس يغيرون الماضي في أنفسهم وفي المستقبل المفتوح أمام جهودهم الخلاقة ، ويقتضي هذا جهدا ليتحرروا من راحة الحياة التي تشكلت في ظله ، ثم جهدا آخر لبناء المستقبل الذي يريدون .
على هذا الوجه - أي اقتضاء الجهد المضاعف - تكون تلك الحصيلة من تفاعل الإنسان مع المجتمع معوقة لانطلاقه الى الحرية .
غير أن هذه الحصيلة المعوقة على وجه ، هي ذاتها مصدر إمكانيات الانطلاق السريع الى مزيد من الحرية في المستقبل . فهي حلول تتجسد فيها تجارب وخبرة الإنسان في ماضيه ، وبهذا تفتح أمام الإنسان مجالات أكثر شمولا للإبداع والابتكار يستطيع بفضلها أن يرتاد المستقبل ويكسب مزيدا ؛ من الحريات بأقل قدر من العناء ، أي بأسرع مما كان يستطيع أن يصل إليه لو كان مجردا في سعيه الى حريته من تراثه الحضاري لغة ، ونظما ، ومذاهب ، وفلسفات ، وأدبا ..
ومن هنا يكون أي نظام قيدا معوقا للإنسان وكنزا لإمكانيات انطلاقه .
وسيظل لهذه الحصيلة الحضارية الأثر المعوق إلى أن يدرك الناس أن كل شيء متغير فتسقط عنها القدسية التي تجمد الإنسان عندها ، لتبقى - في أي زمان وأي مجتمع ـ كنزا يحتاًجه الإنسان تاريخيا وحتما كما قال لينين عن " كنز الثقافة والمعرفة والتكنيك الذي جمعته البرجوازية " .
ـ 11 ـ
إذن ، فغاية الإنسان الحرية .
وغاية تاريخه الحرية .
مصدر هذا التحديد قانونه النوعي ( جدل الإنسان ) ، لا يغيره أن الإنسان " مادة " وفكر وانه يعيش في الطبيعة وجزء منها ، ولا يغيره أن الإنسان كائن اجتماعي وأنه يعيش في مجتمع وجزء منه ، ولا يغيره أن الإنسان كائن اجتماعي وأنه يعيش في مجتمع وجزء منه ، ولا يغيره ما حققه بتفاعله مع الطبيعة ( زراعة أو صناعة بما فيها أدوات الإنتاج الزراعي أو الصناعي ) ولا ما حققه بتفاعله مع المجتمع ( لغة أو دولة أو نظما أو فلسفات أو عقائد أو تقاليد بما فيها علاقات إنتاج الحياة المادية ) . كل هذا لا يصنع ولا يحدد بواعث الإنسان وغاياته ولا يغير اتجاه التاريخ الى الحرية ، ولكنه يطرح الموضوع الذي يحقق الإنسان فيه حريته و " المادة " التي يشكل الإنسان منها تاريخه ، ودوره - بعد - مقصور على أن يعوق سير التاريخ أو يسرع بعجلته الى حرية الإنسان وتحرره .
وماذا عن الإنسان نفسه . عن الناس .
هل يستطيعون أن يختاروا غاية غير الحرية ، وأن يتجهوا بتاريخهم الى غير مزيد من الحرية ؟
الإجابة لا ، قاطعة .
ليس مصدر القطع أحداث التاريخ كله ، ففي هذا قد يمارون . ولكن مصدره قانون حركة الإنسان (جدل الإنسان ) حتى بالنسبة الى الإنسان نفسه فهو لا يستطيع أن يبتكر لذاته إنسانية غير إنسانيته . ولا يستطيع الإنسان أن يكون جمادا يهذب قوالب منحوتة يرص بعضها فوق بعض تحقيقا لإرادة البناء الأوحد . ولا يستطيع أن يكون نباتا يجفف ويلقى به وقودا تحقيقا لإرادة مشعلي الحروب . ولا يستطيع أن يكون حيوانا يحبس في الحظائر ويعلف حتى يسمن تحقيقا لإرادة أدعياء الاشتراكية . لا يستطيع الناس أن يكونوا دودا يزحف على بطنه في الطين . لا . ولا يستطيع الناس أن يكونوا عبيدا . لا بد للناس من أن يسعوا الى الحرية فتلك غايتهم ، ولا بد لتاريخ المجتمعات من أن يكون صراعا في سبيل الحرية فذلك اتجاهه . وحيثما بدا الناس كالجماد يرصون رصا ، أو كالنبات تحرقهم الحروب ، أو كالحيوان يأكلون ما يقدم إليهم ، أو كالدود يزحفون على بطونهم في الطين وراء أرزاقهم ، فهم مكرهون على هذا كله إكراها يخرب إنسانيتهم ، ويعوق تقدمهم ، ويعطل تاريخهم ، ولكنه لا يغير بواعثهم وغاياتهم . وستبقى الحرية غاية الإنسان حتى لو أرغمه الخوف على سترها بالصمت والصبر .
فهل يفقه المستبدون ؟ .. إن أكثرهم لا يفقهون .
كيف ؟
ـ 12 ـ
سبق أن عرفنا أن الظروف هي النقيض من الماضي في التطور الجدلي ، وقلنا " إن الماضي ـ بالنسبة الى الإنسان ـ مادي جامد غير متوقف عليه وغير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من إمكانية الإلغاء . ولكن الإنسان ، إذ يعرف عن طريق استرجاعه ، كيف وقع يدرك امتداده التلقائي في المستقبل ، والمستقبل - بالنسبة الى الإنسان - تصور لا يحده الزمان أو المكان . وأقصى مستقبل لأي إنسان أن تتحقق جميع احتياجاته . وفي الإنسان يجتمع النقيضان وتثور المشكلة بالصراع بين الماضي ممتدا تلقائيا في المستقبل ، وبين المستقبل الذي يريده الإنسان . بين الماضي يريد أن يمتد فيلغي ما يريده الإنسان ، وبين ما يريده الإنسان أن يتحقق فيلغي امتداد الماضي . وتكون المشكلة - التي تعبر عن الصرع - هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي والمستقبل الذي يريده الإنسان ، ويعبر عنه تعبيرا سلبيا بالحاجة ، أي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في استقبل ) ومقاومة الظروف ( الماضي ممتدا تلقائيا في المستقبل ) لإشباع تلك الحاجة . وبقدر ما يكون الفرق كبيرا يكون التناقض عميقا ، فيكون الصراع قويا ، فتكون المشكلة حادة . وبقدر ما يسترجع الإنسان من ماضيه يتصور من مستقبله ويتحدد شمول المشكلة التي لا بد من حلها ، ويظل الصراع قائما : ظروف الماضي تفرض نفسها على المستقبل وتقاوم الإلغاء لتلغي المستقبل الذي يتصوره الإنسان لنفسه ، والمستقبل الذي يريده الإنسان ويتصوره يفرض نفسه ليتحقق فيلغي ظروف الماضي من المستقبل .
ذلك عنصر آخر من عناصر جدل الإنسان ، أو التطور الجدلي كما عرفناه ؛ تصور الإنسان مستقبله . وهو النقيض الذي يصارع الظروف في الإنسان نفسه . واذا كانت الظروف مادية وغير قابلة للإلغاء فإن تصور الإنسان مستقبله غير مادي ( أي غير مستقل عن فكر الإنسان ) وغير جامد ( أي يستطيع الإنسان أن يبدله ويغيره ويلغيه ويتصوره مرة أخرى ) . وقد قلنا انه غير محدد بالزمان ( يستطيع أي إنسان أن يتصور نفسه حيا في أي زمان ) وغير محدد بالمكان ( يستطيع أي إنسان أن يتصور نفسه ساكنا في المريخ ) ، ثم قلنا أيضا ،" بقدر ما يسترجع الإنسان من ماضيه يتصور من مستقبله " ؛ لأن التصور أيا كانت صورته ليس الا تشكيلا جديدا لذات العناصر التي تتكون منها الظروف ذاتها . فالذي يتصور نفسه ممتطيا بساط الريح ، عرف البساط وعرف الريح وعرف الحركة ... الخ من ظروفه أي من ماضيه . والذي يتصور العنقاء يلفق طائرا واحدا من عناصر يختارها من طيور عدة عاشت في ظروفه ، وقد يضيف إليه ما شاء خياله من عناصر الحيوان الذي عرفه .
وفي هذا يستوي التصور الفكري مع الظروف المادية .
فتصور المستقبل ، أو المستقبل المتصور، أو الظروف المثلى ، أو المثل العليا ، تلعب دورا منجزا في صنع التاريخ ، وتحقيق الحرية من حيث هي محرك الصراع ضد الظروف لمحاولة منع امتدادها التلقائي في المستقبل إنها النقيض الثاني الذي يطرح مقدمة لخلق الحياة الجديدة . وفى هذا يستوي الناس . فلكل إنسان مثله الأعلى بحكم كونه إنسانا ، ولو كانت لقمة من الخبز في آخر يوم من الجوع . ولو كانت المقدرة على أن يقول كلمة بدون خوف . إنما يختلف الناس تبعا لشمول المثل الأعلى لكل منهم أو قصوره . وكلما كان المثل الأعلى الذي يتصوره الإنسان في مستقبله شاملا ، أي متضمنا تغيير الظروف بكافة عناصرها ، كان ساميا أيضا لأنه ـ من بين الظروف حرية الناس جميعا . إنها تلك الحالة التي حاول سارتر ببراعة أن يضيفها الى الوجودية العقيمة ليخرج منها شيئا ينفع الناس ، في القول الذي ردده أخيرا من أن الإنسان عندما يختار يكون قد اختار لنفسه ولغيره ومن هنا يكون " التزامه " فيما يختار بما يرى أن يكون قدوة للآخرين . والناس يستعملون عادة كلمة " مثل أعلى سام " تعبيرا عن هذا الشمول . ومنهم من يجنح الى أن يفرض مثله الأعلى على الآخرين ، ومنهم آخرون يتوهمون ، مما يلاحظونه من أن لكل إنسان مثلا أعلى ، أن ثمة مثلا أعلى خارج الإنسان يجذب سعيه إليه محاولا أن يكون على صورته . والأمر ببساطة أن الإنسان خالق مثله الأعلى، وأنه يتصور لأنه إنسان، وأن ما يتصوره محدد بظروفه من حيث هو نقيضها .
وإذا كانت المثل العليا لكل إنسان محددة بظروفه كنقيض لها ، فإن عدم تقيد التصور بالزمان أو المكان يجعلها أكثر غنى من ظروفه في زمان معين أو مكان معين ؛ فيستطيع أو يتصور المستقبل ظروفا مركبة من عناصر الظروف الخاصة به ، وعناصر ظروف غيره من الأفراد أو المجتمعات . وتسهم المعرفة والعلم في أن يغني الإنسان تصوره فتصبح مثله العليا أكثر شمولا وأكثر سموا . كما يسهم بعض ذوي الحس المرهف من الناس في اغناء مادة المستقبل الذي يتصوره الإنسان . وهنا نقابل مرة أخرى أولئك المتميزين بالمعرفة العريضة التي تتجاوز الظروف الخاصة ، والإحساس المرهف الذي يتجاوز الإنسان الى الناس جميعا ، ونعني بهم بنائي المثل العليا من العلماء والأدباء والفنانين .
إن هؤلاء الرواد - رواد الإنسانية - لا يضعون تحت تصرف الناس إمكانيات السمو بمثلهم العليا الى ما يتجاوز الظروف المحددة فحسب ، بل يغرونهم أيضا عن طريق الجمال في الأدب والفن على أن يدربوا حسهم حتى يصبح مرهفا ، فتصبح مثلهم أكثر سموا ، فيصبحون أكثر . معاناة لمشكلات ظروفهم ، فأقدر جرأة على تغييرها وخلق حياة أكثر حرية أي يصبحون أكثر إنسانية . ذلك الفن والأدب يميزه - بعد جمال الأسلوب - الحس المرهف ، والمعاناة النفسية ، والحرية . هذا إن كان فنا وأدبا . ليس كمثله محرك للتطور وحافز على التقدم سوى الدين . غير أن بعض الأديان تتجاوزه شمولا وسموا في الوقت ذاته ؛ لأنها تجمع في حركة جدلية واحدة كل ماضي الإنسان منذ وجوده الأول في مواجهة مستقبله كله حتى نهاية الوجود ، مذكرة الإنسان بكل ما عاناه الناس قبله ، فمصورة مثله الأعلى حرية كاملة حتى من قيود المادة فيه ، لا تثبط همته بما تطرحه أمامه من تجارب الماضي ، ولا تلهيه عن حياته بما تفتحه أمامه من أفاق المستقبل ، بل تشحذ مقدره الجدلية لتسمو بها الى مستوى إنسانيته ؛ وتجعل من هذا التفوق ذاته مثلا أعلى لكل إنسان . لهذا تضمنت بعض الأديان أقدر المثل العليا على البقاء أحقابا طويلة من الزمان ، تتغير في ظلها الطبيعة والمجتمعات والتاريخ وهي باقية . ولما كان الدين يطرح من الماضي ما لم يعرفه الإنسان ويكشف من المستقبل ما يتجاوز تصور الإنسان ، فإن كثيرا مما يطرحه يبدو غير مفهوم للناس في زمان معين أو مكان معين . وواضح أن ما عرف الإنسان من ماضيه لا يعني أن الوجود بدأ به إلى أن يعرف الإنسان كيف بدأ الوجود معرفة علمية ، وأن ما يتصوره من مستقبل الوجود ليس حجة على الأنبياء إلى أن يتجاوز التصور الى الإثبات العلمي .
وبهذا الفارق في الشمول بين جدل الإنسان وجدل الأديان يرتفع الدين عن أن يكون محلا للاختبار فيها يتجاوز معرفة الإنسان وتصوره في زمان معين ، وان كان هذا لا يعني أن ثمة شيئاً - حتى ما جاءت به الأديان - غير قابل للمعرف العلمية منذ بداية الوجود حتى نهايته . إنما لكل شيء آن . والى أن يتم هذا ويصبح به الدين والعلم شيئا واحدا ، يبقى الدين حافزا على التقدم مهما اختلفت الظروف والمجتمعات ، لا يختلط بالمبادئ التي يخطط الإنسان على هديها حلول المشكلات التي تطرحها ظروفه في مجتمع معين ؛ لأنه إذا ذكر الإنسان بماض يمتد الى أول الوجود ، وصور له مستقبلا نهاية الوجود ، قدم له ما يغني تجربته ومثله العليا ولا يلغي ظروفه ، ثم ترك له أن ينتقي من عناصر الماضي والمستقبل كليهما الحل الذي يلائم المشكلات التي تطرحها تلك الظروف في زمان معين ، وتلك مسؤوليته .
ففي الإسلام مثلا ما يبرر الرأسمالية عندما تكون الرأسمالية حلا لمشكلات الإقطاع ، وما يبرر الاشتراكية عندما تكون الاشتراكية حلا لمشكلات الرأسمالية ، وما يبرر الطاعة عندما تكون الطاعة حلا لمشكلات التمرد ، وما يبرر التمرد عندما يكون حلا لمشكلات الاستبداد ... الخ . وعندما نجد هذا كله في" كتاب" واحد فإن هذا لا يعني تفضيلا لأحدها أو حشدا لها جميعا في زمان واحد ، وإنما يعني أنه قد منحنا كنزا من الحلول في كتاب غير محدود بالزمان أو المكان ، وترك لنا أن نختار - على مدى الزمان - ما يحل مشكلات كل ظروف في زمانها ؛ إذ وراء هذا كله تمجيد الإنسان وتدعيم ثقته بنفسه والتحريض الملح ، الآمر ، على مواجهة الظروف وحل مشكلاتها في أي زمان .
أما الذين يتوهمون أن الدين ملاذ يهربون إليه من مسؤولياتهم ، والذين يزيفون الدين ليكون مطابقا لمعتقداتهم فهو" اشتراكي " حينا و" رأسمالي" حينا آخر، والذين يختارون من آياته ما يهوون فهو" رجعي" في حين و" تقدمي" بعد حين ، والذين يتهمونه دائما فكل دين عندهم مخدر للشعوب كالأفيون ، فإنهم يتحدثون عن " أديان " صاغوها من ظروفهم على ما يتصورون ، وليس هذا من الدين في شيء .
هذا المثل الأعلى ( تصور المستقبل أكثر حرية من ظروف الماضي ) الذي يناقض الظروف فيسهم في طرح المشكلات ، ويكون بسموه دافعا لعجلة التطور وتحقيق حرية الإنسان ، قد يكون معوقا للتطور ومعطلا لتحرير الإنسان عندما ينقلب من" مثل أعلى" الى" مثالية" .
والمثالية - طبقا لجدل الإنسان - هي توقع حل المشكلات عن غير طريق جدل الإنسان الذي عرفناه . وعلى هذا فقد تكون مثالية " فكرية " أو مثالية " مادية " يستويان في أنهما موقفان عقيمان لا يتقدم الإنسان خلالهما بل يظل عبد ظروفه ، لأن تحققهما غير ممكن عمليا ، وذلك مميز " المثالية " ، أما صورتها فإلغاء أحد النقيضين .
" فالمثالية " الفكرية ، تتجاهل الظروف ( النقيض من الماضي ) والقوانين العلمية الحتمية التي تحكم تطورها ، لحساب المستقبل الذي يشكله الإنسان من أمانيه محاولة تحقيقه . ولما كان هذا غير ممكن علميا لأن الحل الممكن هو ما يتضمن من المستقبل المتصور ما تسمح قوانين الظروف أن تتطور إليه فإن المثالية الفكرية تبدد طاقة الإنسان الجدلية في جهد عقيم ، ملفقة مشكلات صورية لم تطرحها الظروف ، ولا تتوافر إمكانيات حلها ، كما فعل الطوبويون القدامى منهم والمحدثون ، وكما يفعل كل الذين لا ينتهجون منهج العلم في مواجهه ظروفهم ، فيذهب الجهد هباء وتبقى الظروف ومشكلاتها ممتدة من الماضي الى المستقبل فيركد تاريخ الناس ويظل الإنسان عبد ظروفه .
و " المثالية " المادية ، تتجاهل الإنسان ومثله العليا ( النقيض من المستقبل ) لحساب الظروف متوهمة أن الظروف جدلية ، وأنها تحل المشكلات التي تطرحها . ولما كان هذا غير صحيح علميا لأن الظروف غير جدلية فإنها تنزل بآمال الإنسان في مستقبله الى حد القبول السلبي ، محرضة الناس على أن يحددوا مستقبلهم على الوجه المتوقع من التطور التلقائي للظروف ، وأن يكون دورهم " التعبير عن حركة تاريخية تجري تحت أنوفهم أو أن يأخذوا أماكنهم في التاريخ "، وقد تكرههم على هذا فتبقى المشكلات معلقة ويظل الإنسان عبد ظروفه .
والمثاليون الفكريون والماديون جميعا ، يدعون الى المثالية ( الفكرية أو المادية ) ولكنهم يتصرفون في حياتهم على مقتضى جدل الإنسان ، لأنهم من الناس لا يفلتون من قوانينهم النوعية ، وإنما تحد المثالية من قدرتهم الجدلية وتعوق تطورهم ) .
ـ 13 ـ
عرفنا الحرية غاية الإنسان واتجاه تاريخه فعلا .
ثم رددنا الإنسان الى علاقته بغيره ، فوجدنا أن علاقته بالظروف ( الطبيعة والمجتمع ، وما تحقق من تفاعله معهما في زمن معين ) لا تغير تلك الغاية ـ ولكنها تتضمن إمكانيات تعويق تاريخ الإنسان أو دفع عجلته ، ثم وجدنا أن علاقته بالنقيض الثاني ( المستقبل الذي يتصوره ) لا تغير أيضا غايته ولا اتجاه تاريخه ، ولكنها تتضمن إمكانيات تعويق تحرره أو انجاز حريته .
بقي أن نعرف كيف يصنع الإنسان تاريخه فعلا .
قلنا عند الحديث عن كيفية حل التناقض الجدلي : " ان صراع النقيضين يطرح المشكلة التي لا بد أن تحل ، ثم يستعمل الإنسان إدراكه ليعرف كيف نشأت المشكلة ، أي ما هو وجه التناقض ببن الظروف وحاجته ( الظروف تعبير عن امتداد الماضي والحاجة تعبير عن المستقبل الذي يريده ) ، ويستفيد الإنسان من مقدرته على معرفة الماضي وقوانين وقوعه ليعدل شروط تحقق تلك القوانين ، ويحول دون استمرار الماضي في المستقبل ، وهو ما أسميناه الامتداد التلقائي للظروف .
كما يستفيد من معرفته العلمية للظروف لتعديل المستقبل الذي يتصوره الى المستقبل الممكن " علميا " ، أي يجد حلا يتضمن ما يريده الإنسان وتسمح به الظروف معا - هذا الحل يتحقق بالعمل المادي أو الذهني تبعا لطبيعة المشكلة . هذا الحل يلغي من الظروف كما يحددها الماضي مالا يتفق مع المستقبل كما يريده الإنسان ويلغي من المستقبل الذي أراده الإنسان ما لم يتفق مع إمكانيات الظروف وقوانين تغييرها النوعية ، فيخلق - في كل لحظة وفي كل مكان - مستقبلا متفقا مع حاجة الإنسان وظروفه ، أي خاليا من جمود الماضي وخيال المستقبل . أما أداة الخلق فهو العمل ، الذي يحل التناقض وتتم به الحركة الجدلية " .
ولما أن طبقنا هذا على المجتمعات قلنا إن المجتمعات تتطور عن طريق المعرفة المشتركة والرأي المشترك والعمل المشترك ، وأسمينا هذا " الجدل الاجتماعي " .
وفي كل مكان أتيحت الفرصة لتأكيد حتمية القانون العلمي ، قلنا إن جدل الإنسان قانون حتمي . وإن الجدل الاجتماعي هو القانون الحتمي لتطور المجتمعات ، وان مقتضى حتمية أن الإنسان لا يتطور ولا يحقق حريته عن غير طريق جدل الإنسان ، وان المجتمعات لا تتطور ولا تتحقق حرية الناس فيها عن غير طريق الجدل الاجتماعي ، فإذا ظلت المشكلات معلقة بدون حل ، ولم يتم التطور في زمانه ، فمعنى هذا أن شروط التطور الجدلي لم تتحقق . ولما كان جدل الإنسان قانونا حتميا للتطور بالنسبة إلى الفرد والى المجتمع ، ففي أي زمان معين في مجتمع معين لا يكون ثمة إلا حل واحد صحيح للمشكلة الواحدة التي تطرحها الظروف الواحدة سواء كانت مشكلة فردية أم جماعية أم مشتركة . وهذا يفرض اتساق الجدل الفردي مع الجدل الاجتماعي لإمكان حل المشكلات أيا كان نوعها أو شمولها أوحدتها . وقد سبق أن أشرنا إلى صورة لاختلاف الجدل الفردي عن الجدل الاجتماعي ، أو ما أسميناه " الصراع الاجتماعي ، وعرفنا دوره المعوق للتطور . ولما كان التطور حركة المجتمع في الزمان من الماضي الى المستقبل خلال الجدل الاجتماعي ، فإن النظر الى الصراع الاجتماعي في أي زمان محدد في مجتمع معين ، على ضوء الحل الموضوعي الواحد ، يؤدي الى اكتشاف تجمع المتصارعين اجتماعيا فى مجموعتين طبقا لموقفهم من الحركة الجدلية .
فالذين يدركون مشكلات ظروفهم إدراكا صحيحا عن طريق المعرفة الصحيحة بالظروف ( الطبيعة ، والمجتمع والتاريخ ) وقوانين تطورها وتأثيرها في مقدرة الإنسان على تحقيق حريته ، كعائق وأداة ، ثم يبدعون لتلك المشكلات حلولها العلمية ، أي المؤسسة على احترام تلك القوانين وتغيير الظروف ـ لا بتخطيها وتجاهلها ـ ولكن بتغيير شروط فاعلية قوانين تحويلها لتكون أداة للتقدم وليس عائقا في سبيله ، ثم يبذلون الجهد في انجاز تلك الحلول وتحقيقها بالعمل وأدواته حلا فعليا للمشكلات ، هم صانعو التاريخ وقادة التطور ، هم الذين يحققون المستقبل ويحلون التناقض بين ظروفهم ومثلهم العليا ، ويحققون بالعمل حرية الإنسان . هم الذين نعنيهم عندما نقول إن التطور يتم خلال حل التناقض بين الإنسان وظروفه .
هم التقدميون .
أما الذين لا يدركون مشكلات ظروفهم إدراكا صحيحا ، أو يتجاهلون تلك الظروف ، أو يبتكرون ظروفا ومشكلات لا وجود لها ، والذين لا يستطيعون أن يجدوا الحلول العلمية الصحيحة للمشكلات التي أدركوها . يضللهم الجهل أو المثالية ( الفكرية أو المادية ) ، والذين تقعد بهم السلبية عن بذل الجهد حلا للمشكلات توهما أن المشكلات تحل ذاتها أو اتكالا واختلاسا لعمل الآخرين ، فهم عبء على جهود الأولين ، وعائق في سبيل التطور .
إنهم الرجعيون .
التقدميون يقودون ظروفهم الى المستقبل والرجعيون يقفون مع امتداد الماضي التلقائي في المستقبل .
هنا نصل الى تلك الظاهر الاجتماعية التي لاحظها ماركس وأسماها " صراع الطبقات " وهنا يجب أن نقف قليلا لأهمية النظرية الماركسية في صراع الطبقات ، ولأن التقسيم الطبقي و" الصراع الطبقي " و" تحالف الطبقات " و" تذويب الفروق بين الطبقات " ... تعبيرات أصبحت دارجة في الكتابات والأحاديث حتى كادت أن تكون مسلمة ، مع أن كل كاتب أو متحدث قد يعني بذات التعبيرات مفاهيم لا تخطر على بال غيره من الكاتبين او المتحدثين .
لقد لاحظ ماركس أن في مراحل معينة من تاريخ المجتمعات توجد فئتان متصارعتان (ملاك العبيد والعبيد في العهد العبودي ، والإقطاعيون والفلاحون في العهد الإقطاعي ، والرأسماليون والعمال في العهد البرجوازي ) فقال في البيان الشيوعي : " إن تاريخ كل المجتمعات هو تاريخ الصراع بين الطبقات " ، ولما ان أراد تفسير تلك الظاهرة على ضوء منهجه ( الجدلية المادية ) الذي يقصر دور الإنسان على أن يكون مرآة تعكس التناقض الجدلي الذي ينسبه الى المادة ، أضفى على الصراع الطبقي سمة الجدلية الخلاقة ؛ لأنه تعبير عن صراع النقيضين في التطور الجدلي . كما أن ذات المنهج فرض عليه أن يكون " أسلوب إنتاج الحياة المادية " هو الذي يحدد للإنسان بواعثه وغاياته فرتب عليه نتيجته المنطقية وهي أن المصلحة المادية تحدد لكل إنسان موقعه الطبقي حتما ، أو كما قال مؤلفو " أسس الماركسية - اللينينية " : " مادام العامل الحاسم والرئيسي فى الحياة الاجتماعية هو الإنتاج المادي ، فإن أساس انقسام المجتمع الى طبقات يجب أن يبحث عنه في المكان الذي تشغله كل جماعة من الناس من نظام الإنتاج الاجتماعي ، أي في علاقتهم بأسلوب الإنتاج ."
وبهذا دارت نظرية الصراع الطبقي في الماركسية على محورين : أولهما ، أن مرجع الانتماء الطبقي مركز كل شخص في علاقات الإنتاج المادي ، والثاني ، أن الصراع الطبقي محرك التطور لا يتم الا خلاله .
على المحور الأول تدور أقوال الماركسيين عن " الطبقة العاملة " ودورها التقدمي ، وقيادتها لباقي الطبقات وحقها في السلطة ، إلى حد ما زعموه في " أسس الماركسية - اللينينية " من أن " التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية لا يمكن أن يتم إلا خلال حكم الطبقة العاملة " ، وأن العلاقات الاشتراكية لا يمكن أن توجد إلا بعد أن تحصل الطبقة العاملة على السلطة " ... الخ .
وعلى المحور الثاني تدور أقوال الماركسيين عن " حتمية الصراع الطبقي " و " تعميق التناقض بين الطبقات " و" وحدة الطبقة العاملة " و" العمال لا وطن لهم "...الخ.
والماركسيون في كل هذا " ماديون جدليون " ، وكان لينين ماديا جدليا حقا عندما جعل من الإيمان بالصراع الطبقي محكا لتمييز الماركسيين عن أدعياء الماركسية .
غير أن تحديد الانتماء الطبقي على أساس علاقة الإنتاج المادي ، وكل ما قاله الماركسيون في هذا ، لا يفسر كيف أن كثيرا من العمال الذين يعتبر النظام الرأسمالي مصدر مشكلاتهم يقفون موقفا مضادا للاشتراكية التي تحل تلك المشكلات .
كما لا يفسر كيف كان قادة الثورات التقدمية جميعا ، بدون استثناء ، في أي مجتمع وفي أي زيان من " المثقفين الثوريين " ؛ أي الذين توافر لهم شرطان : الوعي ، والمقدرة على العمل . كذلك كان ماركس وانجلز ولينين وماوتسي تونغ .. وغيرهم كثير . لم يستطع ماركس أن يعرف لماذا كان هو بالذات تقدميا ، أو حتى لماذا كان زميله " البرجوازي " فريدريك انجلز تقدميا ، ثم لماذا يكون كل المثقفين ( وليس المتعلمين ) الثوريين تقدميين أيا كانت مهنتهم وأيا كان مركزهم في علاقات الإنتاج المادي . وقد جاء التطبيق وخبرة " الاتحاد السوفييتي والديمقراطيات الشعبية والأحزاب الشقيقة في الوقت الحالي " فأثبتت خطأ " النظرية في تحديدها الانتماء الطبقي على أساس علاقات الإنتاج المادي .
فطبقا للنظرية كما جاء في " البيان الشيوعي " سنة ١٨٤٨ : " كل الطبقات الدنيا من الطبقة الوسطى كصغار الصناع وأصحاب المحلات التجارية والفنيين والفلاحين ليسوا ثوريين بل رجعيون " .
وطبقا للتجربة كما جاء في " أسس الماركسية - اللينينية سنة ١٩٦٣ " : " إن الناس الذين يصنعون التاريخ هم الطبقة العاملة والفلاحون والمثقفون العاملون وفئات أخرى تسهم في التقدم الاجتماعي " .
واضح أنه إذا كانت النظرية تفسر القول الأول فإنها عاجزة عن تفسير القول الأخير .
ولكن " جدل الإنسان " يفسر في يسر . ذلك أنه - طبقا لجدل الإنسان - يوجد في مراحل معينة من تاريخ المجتمعات من لا يدركون مشكلات ظروفهم وعلاقتهم المتبادلة مع تلك الظروف ، ولا يستطيعون أن يجدوا لها الحل العلمي الصحيح ، أو لا يبذلون العمل الكافي لحلها عجزا عن العمل أو اختلاسا للراحة على حساب عمل غيرهم وهو ما يسمى استغلالا . قد يكون انتماء فرد الى هؤلاء مرجعه الجهل بوجود المشكلة أصلا ، أي نقص الوعي ، كبعض العمال الذين توافر لهم المبرر المادي لتغيير حياتهم ولكنهم يعتقدون أن ذلك قضاء وقدر تمحو القناعة ما فيه من ألام . وقد يكون منهم قدر من المتعلمين الذين أفسدتهم المثالية فأصبحوا يبحثون عن حلول للمشكلات على غير أساس من العلم بقوانين التطور . وقد يكون منهم الواعون المشكلات ، القادرون على إيجاد الحلول ولكنهم سلبيون ينتظرون من غيرهم أن يعملوا ولا يعملون وفى هذا يستوون فى الرجعية - وأينما اجتمع لإنسان إدراك المشكلات وإبداع الحلول العلمية والمقدرة على العمل ، فهو تقدمي أيا كانت مهنته وأيا كان مركزه من علاقات الإنتاج المادي . فالمقياس لأي فرد أو أية فئة أن " تسهم في التقدم الاجتماعي " أو " المقدرة الجدلية " . ولما كان المثقفون ( الذين يدركون مشكلات ظروفهم ويبدعون حلولها على أساس من العلم ) الثوريون ( الذين يحققون بعملهم حل المشكلات يغيرون ظروفهم ) أكثر الناس مقدرة على الجدل ، فإنهم كانوا ولا يزالون قادة التقدم في أي زمان .
أما عن المحور الثاني ، فإن القول بأن التطور لا يتم إلا خلال الصراع الطبقي يعني أن وجود كل من الطبقتين والصراع بينهما ضرورة لازمة لا يتم التطور الا بها . وبذلك يكون لكل من الطبقتين سبب مشروع اجتماعيا وعلميا يبرر وجودها وصراعها . كما يعني - وهذا أهم - أنه إذا انتهى الصراع الطبقي فإن مشكلات الظروف لن تحل ولن تتطور المجتمعات . وكأن الاتحاد السوفييتي قد توقف عن التطور بعد أن أصبح خاليا من الصرع الطبقي كما يقولون . وقد رأينا من قبل كيف أن هذا القول يبقي تطور المجتمعات الشيوعية الأولى ، وتطور المجتمعات الاشتراكية بدون تفسير .
هذا الدور الايجابي للنقيضين لا يستقيم في التناقض الطبقي الذي قالت به الماركسية ؛ إذ يخلط الماركسيون - تحت تأثير منهجهم الخاطئ - بين الصراع بين المتناقضات الذي يدور ببن الإنسان وظروفه وينتهي بحل المشكلات حلا جدليا يغني حياة الإنسان لأنه إضافة دائمة وتقدم مستمر ، وبين الصراع السياسي الذي يثور بين التقدميين والرجعيين عندما يحاول الرجعيون الوقوف فى سبيل التطور وإعاقة تقدم الشعوب . وهذا الخلط بين التناقض الجدلي الخلاق المتجدد وببن الصراع السياسي المعوق المؤقت أوقف الماركسية حائرة في فهم وتفسير كيفية تطور المجتمعات الخالية من الصراع الطبقي سواء أكانت الشيوعية الأولى أم الشيوعية الأخيرة . غير أن كثيرا من كتابات الماركسيين الأخيرة تشير الى الصراع بين الإنسان وبين الطبيعة محركا للتطور في المجتمعات الخالية من الصراع الطبقي . وهو قول سليم . إلا أن هذا القول ذاته يضع الجدلية المادية في مأزق ، لأن التناقض هنا ليس في الطبيعة المادية ولكن الطبيعة المادية أحد النقيضين والإنسان هو النقيض الثاني ، وهو ما لا يتسق مع القول بأن المادة جدلية ، وان دور الإنسان أن يعكس حركتها الجدلية كما تعكس المرآة صورة الشيء أمامها . ومن ناحية أخرى ، إن هذا القول بحيل " الصراع الطبقي " إلى مجرد تفسير لظاهرة تاريخية مؤقتة بمرحلة تاريخية معينة ويجردها من سمة القانون العام الذي يضبط حركة موضوعه على مدى التاريخ كله ، فهي إذن نظرية غير علمية .
أما طبقا " لجدل الإنسان " فإن غاية الصراع السياسي ضد الرجعية أن يزيل عقبة في سبيل التفرغ لحل مشكلات الظروف . ولو هزمت الرجعية دون أن يفعل التقدميون سوى الانتصار عيها فإن المشكلات ستبقى كما هي بدون حل ، ولن يتقدم المجتمع قيد أنملة ؛ إذ يبقى بعد هزيمة الرجعية ذلك الصراع الخلاق الذي يحركه التناقض ببن التقدميين وظروفهم والذي يحل جدليا بالإضافة والتقدم . بمزيد من الحرية . إن الرجعية ـ طبقا لجدل الإنسان ـ ليست ضرورة للتطور الجدلي لا يتم التطور الا بوجودها وصراع التقدميين ضدها ، ولكنها عبء على جهد التقدميين تلزم إزاحته لإمكان التطور . نقول إمكان التطور وليس التطور ذاته ؛ لأن التطور بمعنى حل المشكلات حلا جدليا لا يتم إلا خلال صراع التقدميين - الذين رفع عنهم عبء الرجعية - ضد ظروفهم .
وما دام التطور لا يتم إلا طبقا لقانون الجدل الحتمي فإن الصراع بين الإنسان وظروفه حتمي ، وليس كهذا الصراع بين الرجعيين والتقدميين ( أو الصراع بين الطبقات ) فإنه ليس شرطا لقانون التطور وبالتالي يمكن إلغاؤه فيطرد التطور مستقيما دون عائق . والحتمية التي نعنيها هي الحتمية العلمية أي توقف التطور على وجود النقيضين كليهما والصراع بينهما وحل التناقض بالعمل . أما الضرورة السياسية لشل قدرة الرجعيين على تعطيل التطور( أو ما يسمونه حتمية الصراع الطبقي ) فمتوقفة على موقف الرجعيين أنفسهم ، إن حاولوا إيقاف الجدل الاجتماعي فقد خلقوا بموقفهم هذا مبررات تجريدهم من مقدرتهم على الحركة المضادة للتطور ، وإن لم يحاولوا فسيظل التقدميون مشغولين بصراعهم الحتمي ضد ظروفهم . ومن هنا ندرك أن ما يقال له " حتمية " الصراع الطبقي شيء يختلف عن الحتمية العلمية التي لا يخلقها أحد ، ولا تتوقف على إرادة إنسان . انه موقف يخلقه الرجعيون بإرادتهم وعليهم مسئوليته ، فهو ليس حتميا . وإذا كان الصراع بين التقدميين والرجعيين ( أو بين الطبقات كما يقولون ) موجودا في أغلب المجتمعات في كثير من مراحل التاريخ فلأنه ظاهرة مرضية على التخلف الذي لم تتجاوزه أغلب المجتمعات ، ولكنه ليس ظاهرة مطردة في التاريخ كله . ويمكن على هذا فهم ما قاله ويقوله الماركسيون من أن " صراع الطبقات " بدأ في مرحلة متأخرة من تاريخ الإنسان وأنه سينتهي بنهاية العهد الرأسمالي . يمكن فهمه على ضوء " جدل الإنسان " ولكن لا يمكن فهمه على ضوء الجدلية المادية " ، ذلك لأنه كلما اتسق الموقف الفردي مع الجدل الاجتماعي رفع عن كاهل الشعوب عبء الرجعية ، وخلصت المجتمعات أداة فذة لتحرير الإنسان من العقبات التي تضعها الظروف في سبيل حريته ؛ يكون الإنسان قد تخلص من الصراع الطبقي وبقي له وللمجتمعات التي يعيش فيها قانون تطوره العام الدائم الحتمي ( الجدل الاجتماعي ) ، وتلك إحدى غايات الاشتراكية . ولهذا يكون مفهوما - طبقا لجدل الإنسان وليس طبقا للجدلية المادية ـ لماذا نقول ان المجتمع الاشتراكي ، المطهر من الصراع الاجتماعي ، أقدر على التطور من غيره من المجتمعات .
إذن ، فثمة رجعيون وتقدميون تميز هؤلاء عن هؤلاء مقدرتهم الجدلية ، وليس مراكزهم بالنسبة الى علاقات الإنتاج المادي . وليس ثمة ما يمنع من استعمال تعبير" طبقة " للإشارة الى كل من الفئتين ، فيقال " طبقة " الرجعيين و " طبقة " التقدميين ، وإن كنا نفضل التعبير المجرد من ذلك اللفظ الذي يثير اللبس بين ما نقول ونعني ، وما يقوله الماركسيون ويعنونه . على أنه أيا كان التعبير الذي نستعمله فيجب أن نفطن دائما إلى أن الصراع الطبقي ليس حتميا ، وليس محركا للتاريخ ، وليس لازما للتقدم ، وأن القضاء على الرجعية التي تقف مع الماضي لا يعني أننا كسبنا المستقبل ، بل لا بد أن نصنعه لنكسبه .
ـ 14 ـ
كيف نفسر التاريخ ونفهمه على ضوء كل هذا الذي قلناه ؟
وقد انتهينا - من جانبنا - إلى أن كل تلك العناصر مجتمعة ، وأيا منها على انفراد ، يسهم في صنع التاريخ من حيث هو موضوعه ، ولكن التاريخ - أي كل هذه العناصر مجتمعة في حركتها في الزمان من الماضي الى المستقبل - لا يفهم إلا على ضوء غايته التي يتجه إليها ، وقلنا انها الحرية . واستندنا في هذا الى القوانين النوعية الخاصة بالإنسان نفسه - صانع التاريخ - وليس الى أحداث محشورة من الوقائع التاريخية .
ما فائدة هذا ؟
ـ 15 ـ
ويبدو أن التاريخ قد امتد فعلا على هذه القاعدة . عرفنا شطرا منه عندما عرفنا لماذا ابتكر الإنسان الأول هراوته الأولى ثم طورها في العهد البدائي - كان الإنسان حينئذ يحاول ان يتحرر من قيود الطبيعة فيه : يريد أن يأكل وأن يشرب وأن يحفظ حياته ، فيتحرر من ألام الجوع والعطش والمرض والموت . وكانت أدوات تحرره في الطبيعة من حوله تمنحه تلقائيا ما يشبع حاجته موزعة على الأرض في مصادر إنتاجها الطبيعي ، فكانت الهجرة والارتحال مظهرين متجددين مميزين لتاريخ الجماعات الأولى . وكانت الهجرة من مكان الى آخر سعيا وراء المراعي ومصادر الرزق أو درءا للمخاطر ، شكل صراع الإنسان في سبيل حريته ضد قيود الطبيعة في تكوينه وضد الطبيعة من حوله . كان تغييرا للامتداد التلقائي للظروف بهجر الظروف الطبيعية من مكان الى ظروف أخرى في مكان آخر . وبالهجرة وخلالها التقاء بجماعات أخرى تسعى وراء الغاية ذاتها ، أي التحرر من فقر الطبيعة والاستيلاء على مصادر إنتاج أخرى ليتحرروا من الطبيعة فيهم . كل قبيل يسعى الى حريته فيلتقيان على مصدر واحد فيقتتلان عليه . وبغلبة احدهما يدخل مرحلة من التطور بدأت بحل المشكلة الأولى فيستقر في الأرض ويبدأ في مواجهة المشكلات الجديدة التي تطرحها ظروفه الجديدة . فيبتكر في الأرض التي استقر عليها ما يحل مشكلات جمع إنتاجها وتخزينه وتوزيعه وحراسته ، أدوات من فؤوس ودواب ومنازل ونبال وحراب ... غايته من كل هذا أن يحافظ على حريته الجديدة . ويصوغ كل هذا نظما وعادات وتقاليد . وقد يتوافر له الوقت الهادئ الذي يكون قد حل فيه تلك المشكلات فيمجد نصره على الطبيعة والأعداء أغاني وألحانا ... الى أن ينضب رزق الأرض فتبدأ مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة بهجرة جديدة يصاحبها صراع جديد . فكان تاريخ كل جماعة ذا وجهين : تاريخ داخلي من العلاقات والنظم والعقائد والعادات تهدف كلها الى تحقيق حرية كل واحد منهم بحصوله على قدر متساو من ثمار الطبيعة الوفيرة ـ ولهذا سميت الشيوعية الأولى - وتاريخ خارجي سلسلة متواصلة من الانتقال والقتال ضد القبائل الأخرى ، كل يبغي أن يكون أكثر حرية في مواجهة الطبيعة بأن يستولي على مصادر الإنتاج الطبيعي . كانت الجماعات والقبائل وحدات متماسكة داخليا مقاتلة دائما . وكانت فترات الصراع تشغل الناس بالمشكلة الأولى في الدفاع عن حرية وجودهم فتعوق تطورهم كما يعوق " الصراع الاجتماعي " " الجدل الاجتماعي " في كل زمان ومكان . وعلى هذا نفهم ما قاله الماركسيون في " أسس الماركسية - اللينينية " من أنه : " بالرغم من أن النظام الشيوعي البدائي كان متحررا من مظاهر التخريب والتشويه ( يقصدون الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ) التي أصابت المجتمع والناس فيما بعد في ظل نظام الاستغلال فإنه لم يكن على أي وجه عصرا ذهبيا بالنسبة الى الإنسان " .
وقد أضاف الماركسيون أنه : " خلال مجرى الزمن وصل نظام الشيوعية البدائية الى حالة الانحدار وكانت الأسباب الحاسمة في هدم المجتمع البدائي تكمن في تطور قوى الإنتاج ، فقد سيطر الناس تدريجيا على سر صهر المعادن فحلت الأدوات المعدنية محل الأدوات الحجرية والخشبية ... الخ " .
وطبيعي أننا سنقول هذا بلغة أخرى ، فخلال مجرى الزمان لم ينحدر النظام الشيوعي البدائي ولم يهدم المجتمع ؛ لأن الماضي غير قابل للإلغاء ؛ والتاريخ يتقدم دائما ، وإنما حلت المجتمعات المشكلة الأولى ؛ فلم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبعة تلقائيا ، بل استقرت في أودية الأنهار وابتكرت الزراعة ، أي الإنتاج الإرادي لثمار الأرض ، فأصبحت أكثر حرية من ذي قبل . لم يعد جدب الطبيعة قادرا على أن يكره الناس على تغيير منازلهم . وفي سبيل تدعيم تلك الحرية الجديدة ابتكر الإنسان المحراث تحقيقا لإرادته في أن يفتت التربة ويقلبها ، وابتكر روافع المياه تحقيقا لإرادته في أن تجري المياه الى أعلى بالرغم من قانون الجاذبية ، كما ابتكر أدوات النقل والملاحة النهرية وبنى البيوت مستقرة من الطين أو الحجر ٠ وكان في كل هذا يريد فتحول الطبيعة وقوانينها دون أن يحقق إرادته ، فيبتكر من الأدوات والإنشاءات ما يحقق تلك الإرادة ويكسب حرية جديدة . ولما أن حلت مشكلة الزراعة بدأ في تطويرها فاكتشف الحديد وصنع المحراث ذا النصل الحديدي، وحلت الأدوات المعدنية محل الأدوات الحجرية والخشبية ؛ ابتكرها الإنسان وصنعها قهرا لصلابة عناصر الطبيعة التي لا تجدي فيها صلابة الخشب أو الحجر .
عندئذ افترق تاريخ الشعوب والجماعات .
وانطلقت المجتمعات المستقرة تصنع حضارتها بمعدل أسرع من تلك المجتمعات التي لم تكن قد استقرت بعد فظلت على بداوتها الأولى ؛ تتطور ولكن ببطء ؛ يفتك بمقدرتها على التطور الصراع بينها وبين المجتمعات الأخرى على مصادر الإنتاج الطبيعي . ابتداء من تلك المرحلة لم يعد ثمة وجه للحديث عن تاريخ ينطبق على كل الجماعات والمجتمعات والشعوب ، بل أصبح لكل جماعة ولكل شعب تاريخه الخاص الذي لا يمكن فهمه إلا على ضوء ظروفه الخاصة ، وما تسهم به في عرقلة أو تقدم تطوره الى الحرية . كذلك ظلت القبائل الأوروبية على البداوة الأولى بينما ازدهرت حضارات في أودية الأنهار في مصر وما ببن النهرين وشمال الهند وجنوب الصين ... إلا أن مفسري التاريخ من الأوروبيين يستطردون في الحديث عن تاريخ المجتمعات " الإنسانية " فيقولون إنه قد جاء بعد العهد البدائي عهد عبودي ، ثم عهد بورجوازي أو رأسمالي . وهو خط يتفق الى حد كبير مع تطور التاريخ الأوروبي الذي يمثل عند الأوروبيين نموذج تاريخ الناس ؛ لأن أوروبا عندهم هي القارة من بني الإنسان .
على أي حال ، ما دمنا لا نكذب التاريخ هنا ولا نحاول كتابته ، بل نجادل بعض النظريات الأوروبية في تفسير التاريخ وفهمه ، فلا ضرر من أن نسير على الدرب الذي رسموه لآرائهم ، عسى أن نستطيع أن نفهم حتى من تاريخهم ما لا يفهمون .
عندما استقرت القبائل على الأرض ، وحلت بهذا مشكلة الصراع مع القبائل الأخرى على مصادر الإنتاج الطبيعي ، ثم بدأ الإنسان في حل مشكلات ظروفه المحددة فابتكر أدوات تطويع الطبيعة لإرادته ، طرحت الظروف مشكلة أولئك الذين انحدروا من سلالة أسرى الحروب القبلية وحوّلهم آسروهم إلى " أدوات منتجة " ، أي عبيد . كانت المشكلة - على عهد روما وأثينا ـ هي ما إذا كان الناس يولدون أحرارا أم أن مصيرهم مرتبط بمولدهم ، ولم تتعد المشكلة تلك الحدود . لم تكن ألام العبيد لتمتد إلى حق الاجتماع أو التملك أو ممارسة الحكم ، بل حاجتهم الملحة إلى أن يكون كل منهم إنسانا مساويا لغيره في الإنسانية . وافترق الناس في المشكلة فقال أفلاطون إن الناس يولدون أحرار متساوين في الحرية ، وقال أرسطو إن الناس يولدون وبعضهم حر وبعضهم عبد . كانا يعبران عن موقفين من المشكلة ، وكان أفلاطون أكثر تقدما لأنه تبنى حلا أكثر تقدما ؛ لأنه تبنى حلا جدليا للمشكلة ، وكان أرسطو رجعيا لأنه أراد أن تبقى المشكلة بدون حل ، واستمد مبررا لموقفه من الواقع الذي يكون المشكلة ذاتها . فلما أن دخلت المسيحية أوروبا منتصرة للإنسان ، ومقدمة حجة الله لكل الذين لم يستطيعوا أن يجدوا المبرر النظري للتخلص من آلامهم ، لم تعد مشكلة هل يولد الإنسان حرا أو عبدا تحتاج الى جدل فكري ، واكتفت جموع العبيد بالإيمان بأن لهم حقا في أن يكونوا أحرارا . وكانت المسيحية ذاتها تركيزا واضحا صريحا على حرية الإنسان بمعنى أنه ليس عبدا . ولم يكن مدى هذه الحرية ومضمونها الاقتصادي والسياسي الذي دارت عليه معارك المستقبل يمثل مشكلة على الإطلاق ، لهذا لم تفرض المسيحية برنامجا اقتصاديا أو سياسيا ولم تضع نظاما للحكم . كانت المسيحية محررة العبيد عن طريق إلحاحها على مساواة الناس في الإنسانية ، لأن الإنسان العبد لم يكن يتصور عندئذ من حاجته سوى أن يكون فردا حراً غير مملوك لغيره ، أي أن تكون له حرية إدراك المشكلات ووضع حلولها وتنفيذ تلك الحلول طبقا لمقدرته الجدلية ، لا يلغي إدراكه لحساب إدراك سيده ، وعندما أطلق السيد المسيح صيحة الأخوة بين البشر وعبر " بالمحبة " و " التسامح " عن قبول الوحدة الحتمية بين الناس في مجتمع واحد ، دكّ بذلك فلسفة أرسطو وغير أرسطو من الرجعيين ، ومضى التطور في المسيحية حتى جمعت الأخوة في كل مكان فسقطت الإمبراطورية الرومانية وأصبح الإنسان يولد حرا .
وكسب الإنسان حرية جديدة .
وقد مارس الإنسان حريته إلى أوسع مدى تستطيع الحرية - بمعنى التحرر من الرق - أن تصل إليه . وطبع القرون الوسطى كلها بطابع " الخلق الفردي " ؛ كان كل فرد يريد ويحاول أن يخلق شيئا بجسد فيه حريته الذاتية . وتركتا لنا تلك الحقبة من التاريخ أروع ما يمكن أن يصل إليه الإبداع الفردي . تركت لنا أجمل لوحات الرسم ، وأفخم المعمار ، وأكثر ألوان الأدب إمعانا في الخيال والجمال معاً ، والقطع الخالدات من الخلق الموسيقي ، كما سادت فيه البطولات الفردية التي تمثلت في المبارزات والمغامرات . إنها تلك الفترة الخلاقة التي لم تكن من قبل ولم تتكرر بعد ، والتي كان الخلق فيها خلقا فرديا يهدف الى طبع معالجات المشكلات بأقوى ما يعبر عن الذات التي تحررت .
لم تكن الملكية مشكلة حادة في ظل الإقطاع ، فقد فتحت مجالات جديدة لنمو قوى الإنتاج ، وأصبح للمنتج المباشر مصلحة مادية معلومة في تاريخ عمله ، وعلى هذا لم يعد يحطم أو يتلف أدواته ، بل العكس ، أصبح يعنى بها عناية حريصة ويحاول تحسينها ، وزاد التقدم في الزراعة ، فادخل نظام الدورة الزراعية الثلاثية ، وانتشر استخدام طرق تخصيب الأرض . وتحقق نجاح أكثر دلالة بتزويد الحرفيين الزراعة بالأدوات والأشياء اللازمة للإقطاعيين والتجار في حياتهم اليومية ، وأنواع مختلفة من الأدوات المنزلية ، وكذلك الأسلحة والمهمات العسكرية ، وأدى تقدم الحرف والتجارة الى إنشاء المدن ... " الى آخر ما قاله الماركسيون في أسس الماركسية - اللينينية ".
وانتعشت المدن الساحلية وخرج منها التجار والمغامرون يجوبون الأرض بحثا عن كل ما تحتاجه أوروبا ، وتمت اغلب الاكتشافات الجغرافية ، واستطاعت الثروات المنهوبة أن تشبع حاجة السادة الأوروبيين وبالتالي أن تحول دون أن تكون الملكية مشكلة حادة . غير أن الإنسان الذي وجد نفسه وتحدى الطبيعة في البر فنظم دورات إثمارها ، وتحداها في البحر فجاب المحيطات ، انطلق يفرض عليها إرادته أينما كانت ويحل مشكلاتها ، ويخلق حلولا صناعية لحاجته . فعن طريق مقدرته الجدلية راقب الطبيعة وعرف بعض قوانينها واستعمل معرفته هذه في أن يحقق إرادته ، فيرى أكثر مما يرى ، ويضيف الى قوته ومقدرته قوة الطبيعة ذاتها فابتكر " أدوات رؤية بسيطة (نظارات وتليسكوبات ) والبوصلة ، والبارود ، والورق وطباعة الكتب ، وأضيفت الى قوة الإنسان والحيوان الجسدية - على نطاق أوسع كثيرا - قوة الريح ( طواحين الهواء والسفن الشراعية ) وقوة مساقط المياه .." إلى آخر ما قاله الماركسيون أيضا .
وبينما الفلاحون والتجار والحرفيون والعلماء يحققون حريتهم ضد الطبيعة ، ويكسبون في كل يوم حرية جديدة ، كان للأمراء في عهد الإقطاع الكلمة الأخيرة في حصيلة ما يحققه كل هؤلاء المبدعين . كان لهم حق فيما يخلقه الناس دون أن يعملوا ، وكانت حريتهم في التصرف حدا لحرية رعاياهم ، فقد كان كل أولئك " تابعين لهم تبعية شخصية " . وكانوا كثيرا ما يستعملون ذلك الحق في " الاضطهاد غير الاقتصادي " ، وهو اضطهاد شمل الفلاحين والتجار والحرفيين والكتاب والعلماء ، وبذلك أصبحت سلطة أمراء الإقطاع ( في التبعية الشخصية ) مشكلة تتطلب الحل ، كانت تتجاوز في حدتها مشكلة علاقة الإنتاج الزراعي المحصورة بين أمراء الإقطاع من جهة والفلاحين من جهة أخرى ، لذلك لم تسفر حرب الفلاحين عن حل جدلي لمشكلة الإقطاع ، ولم يسقط الفلاحون أمراءهم من الإقطاعيين ، بل أسقطهم " المضطهدون " . كانت الحرية السياسية والمدنية الخطوة التالية لإشباع حاجة الناس الى الحرية .
كان الإقطاع والاستبداد يمثلان الماضي فتطلع الناس الى مستقبل خال من الإقطاع والاستبداد . ومن المشكلة التي انتشرت من الفرد الى الأفراد فأصبحت عامة ، ونضجت رويدا رويدا عبر الزمان حتى أصبحت حادة ، أبدع الفلاسفة والكتاب الحلول مستخدمين كل معرفتهم بالإقطاع والاستبداد ، داعين الى مزيد من الحرية ، وبذلك طرحت على الجدل مشكلة الحرية السياسية والمدنية . وكان حلها يعني خطوة الى الإمام . لهذا عندما ألف روسو كتابه العظيم تحت اسم " العقد الاجتماعي " ، كانت كلمته الأولى " ولد الإنسان حرا " ولم يناقش هذا الحل بعد ذلك معبرا عن عدم قيام أية مشكلة تتعلق بمولد الإنسان حرا ، أي مبتدئاً من آخر حل وصل اليه التطور الجدلي للحرية . ولم تمد البشرية أبدا الى مناقشة هذا الحل . لقد كانت قضية المستقبل عدى عهد أبطال الحرية في القرن السابع عشر هي الحرية السياسية والمدنية . وقد حاول كل منهم أن يوجد حلا نظريا وأن يدعو اليه . وإذا كنا نعرف الآن مؤلفات رائعة لفلاسفة حفظ التاريخ أسماءهم ، فلا شك في أن الملايين من البشر كانوا يحاولون في مناقشاتهم العادية كل يوم أن يجدوا حلا لمشكلة الحرية السياسية والمدنية وإذا تجاوزنا عن الاختلاف في مضمون الحلول التي اقترحها رواد الحرية ، فإننا نضعهم جميعا في وصف واحد مع كل المتبرمين بعبودية الإقطاع ، فقد كانوا جميعا تقدميين . أي كانوا يدركون أن ثمة مشكلة قائمة ويرون وجوب حلها ، ويجتهدون في إيجاد الحل . فعندما قال توما الاكويني" إن الملكية والحرية حقان طبيعيان لأن التفرقة في الملكية والعبودية لا تتفق مع القانون الطبيعي الذي أرساه الله لجميع البشر " كان يعبر عن حل مستمد من الدين . وعندما ابتدعت جان دي مونج فكرة " العقد السياسي " واستغلها جان بودان في مساندة أمراء الإقطاع على أساس أن الشعب قد تنازل في العقد السياسي عن حريته تنازلا لا رد فيه ، معبرا بذلك عن موقفه الرجعي ، رد عليه لوك بأن الناس لم يتنازلوا عن حقوقهم الطبيعية في الحرية والمساواة والملكية ، بل أنابوا عنهم ممثلين لإدارتها لمصلحة الجميع وكان في هذا يقرر حلا على النمط الانجليزي ويبرر ثورة ١٦٨٨ وخلع جاك الثاني عن العرش . وحتى عندما بدأ هوبز من أن القوة قانون التعادل بين البشر كان ذلك ليصل الى حل يبرر استخدام القوة ليحصل الناس على حريتهم المدنية والسياسية . فالقوة إذا كانت قانونا هاما في معاملة الناس تعرض كل واحد منهم في ظله للاعتداء من غيره ، فدفعتهم الرغبة في المحافظة على سلامتهم إلى أن يكونوا مجتمعا يحفظ السلام ويحمي حقوق الأفراد ضد العدوان عليها ، فإن أخل المجتمع بهذا الشرط أو عجز عن تحقيق تلك الغاية ، فإن لكل فرد أن يرجع الى القانون الأول ، أي القوة ليحصل على حريته ويحميها . ولما لم يعجب هذا الحل جان جاك روسو وأشفق من الرجوع الى البربرية الأولى أبدع نظرية " العقد الاجتماعي" . فالعقد عنده لم يكن بين الأفراد ليكونوا مجتمعا ولكن بين المجتمع والأمير أو الحكومة . وكان على الأمير بمقتضى ذلك العقد أن يلتزم في حكمه حماية حقوق الأفراد وحرياتهم فإن أخل بالتزامه ذاك جاز للمجتمع المتعاقد فسخ العقد والإطاحة بالحكومة واختيار حكومة أخرى . لم يكن روسو يسرد التاريخ بل كان يقترح حلا لأزمة الحرية المدنية والسياسية في القرن السابع عشر .
كل هؤلاء وغيرهم من الفلاسفة والكتاب وملايين البشر في تصرفاتهم العادية التي لم يحفظها التاريخ ، حتى لو كانت نظرة امتعاض في موكب أحد الأمراء ، كانوا يعبرون عن النقيض الثاني في جدل الإنسان ، أي التصور الفكري للمستقبل . وكان استبداد أمراء الإقطاع النقيض الأول . وقد كان التقدم في الطباعة التي اخترعت سنة ١٥٣٨ والوسائل المتقدمة نسبيا في المواصلات كافيين لاشتراك الجماهير في الجدل الاجتماعي القائم فنضجت الحلول وصقل بعضها بعضا .
وبذلك تحددت جبهة التقدميين ، أغلبية كاسحة .
في مواجهة ذلك التيار الثوري التقدمي كان الماضي يحاول أن يدافع عن نفسه ( امتداده في المستقبل ) وقد اتحدت الرجعية الأوربية سياسيا وعسكريا وخاضت معارك يائسة ضد المد التحرري . وتولى كثير من الفلاسفة الرجعيين - خلفاء أرسطو ـ تبرير مسلك الرجعية ؛ أي التدليل الفكري على عقم الانقضاض التحرري . ولما كان رجال الكنيسة غير خاضعين لسلطة أمراء الإقطاع السياسية ، وشركاء لهم في السلطة المدنية ، فإن المشكلة لم تكن قائمة بالنسبة إليهم . لم يكن أحد من رجال الكنيسة الرجعيين يشعر بآلام تناقض ظروف الإقطاع مع حرية الناس ، فلم يدركوا المشكلة أصلا ، ويذلك وقفوا في صف ظروف الماضي يريدون لها أن تمتد وتستمر في المستقبل ، وقادوا حركة " الحروب الصليبية " حلا " مثاليا " لألام الناس ، مقدمين الحياة الآخرة بديلا عن الحياة الأولى . ومن قلب الرجعية العتيدة في ألمانيا جاء الرد الفكري المباشر على فلاسفة الحرية ، فخرج أخطر مفكر رجعي في التاريخ ونعني به هيجل . لقد استغل ذلك الفيلسوف مقدرته الفكرية الفذة ليهزم الحرية . كان فلاسفة الحرية قد انتهوا الى حتمية حل مشكلة الحرية في القرون الوسطى مبتدئين من نقاط مختلفة . بدأوا من الله ومن الطبيعة ومن الإنسان وانتهوا جميعا الى إدانة الاستبداد وان اختلفوا في مضمون الحل . وكانوا بذلك قد سدوا المنافذ على المنطق الرجعي . ثم جاء هيجل فبدأ من نقطة أخرى : من الروح الكلية التي ليست إلها . من الفكرة المطلقة التي توجد خارج رأس الإنسان . وكان لابد أن يبرر اختياره وان يثبته فلجأ الى التاريخ كما كان يعرفه ، واستغل المعرفة العلمية المحدودة في وقته ، وانتهى من كل هذا الى الجدلية المثالية التي سبق أن عرفناها .
كان هيجل يدافع عن الرجعية الأوربية وقد وقف صراحة في صف الرجعية ، لم يحدد موقفه ، مكانه من علاقات الإنتاج ، ولكن ضللته المثالية فكان موقفه رجعيا .
غير أن جدل الإنسان لا يرجع الى الوراء .
وعندما انتهى الجدل الى حل محدد انفجرت ثورة الحرية الكبرى في فرنسا سنة ١٧٨٩ مصدرة إعلان حقوق الإنسان بأن قد " ولد الناس جميعا أحرارا ومتساوين أمام القانون" . وإضافة كلمة القانون الى حل المشكلة القديمة " ولد الناس أحرارا " يعبر عن الجزئية الجديدة من مشكلة الحرية التي تولت الثورة الفرنسية حلها . إذ أن المساواة في القانون تعني الحرية المدنية والسياسية .
من الذي قام بالثورة ؟
كل التقدميين ، الذين أدركوا المشكلة فتصدوا لتغيير ظروفهم وتحقيق ظروف جديدة خالية من استبداد أمراء الإقطاع .
ضد من ؟
ضد كل الرجعيين ، سواء كانوا من أمراء الإقطاع ( وهم قلة قليلة ) أم جنودهم أم خدمهم أم فلاحيهم أم رجال الكنيسة أم الكتاب والفلاسفة الذين كانوا يقفون ضد تغيير الظروف .
من قادها ؟
لم يقدها الفلاحون الذين كانوا أكثر الناس تعرضا للاضطهاد " غير الاقتصادي " المباشر ، لأن ثقافتهم ـ حينئذ - لن تكن تؤهلهم لمعرفة الحل الذي تقتضيه مشكلة الاضطهاد . ولم يقدها الفلاسفة الذين خططوا الحلول الفكرية وهم عاجزون عن مواجهة الاستبداد ومعاناة آلام الجهد الثوري ضده . ولكن قادها أولئك الذين صقلت التجارة بما تتضمنه من احتكاك بالناس والشعوب إدراكهم ، وصقلت الصناعة بما تتضمنه من ايجابية الحلول مقدرتهم على العمل ، وأولئك المثقفون والكتاب والفلاحون والفلاسفة الذين توافرت لهم المقدرة على الإدراك والعمل الايجابي معا . ومع ذلك لم يكن فيهم كل التجار ولا كل الصناع ولا كل المثقفين أو الكتاب أو الفلاحين أو الفلاسفة . لم يكن مناط المقدرة على قيادة الثورة في ذلك الوقت ـ كما هي في كل وقت - المهنة التي يحترفها الإنسان ، ولكن الوعي والايجابية . إدراك المشكلات والتصدي لحلها . الثقافة والثورة . وفي النظام الإقطاعي لم يتوافر هذان العنصران لكثير من الإقطاعيين ، ولا لكثير من الفلاحين ، ولم يكن مركز كل واحد من علاقات الإنتاج محددا لمدى ثوريته ، فقيل أن الثوريين ، أو قادة الثورة ضد نظام الإقطاع كانوا " طبقة وسطى " . وهي تسمية تنفي عنهم الانتماء الطبقي إلى إحدى الطبقتين اللتين تحدد موقفهما على أساس علاقات الإنتاج ؛ أي الإقطاعيين والفلاحين . ولما لم يكن ممكنا نسبتهم إلى أي مركز في علاقات الإنتاج يتميزون به عن غيرهم ، نسبوا الى " المدن " التي كان يقيم فيها أغلبهم فأسموهم ، بورجوازية
ومع أن علاقات الإنتاج كانت واحدة في كل أوروبا ، وكان الاضطهاد واحدا ، والمقدرة الثورية واحدة ، حدد التفوق الثقافي مكان انطلاق الثورة ، فاندلعت في فرنسا ، ولما أن نجحت وفجرت وعي الآخرين امتدت الى كل مكان في القارة الأوربية . وفي حدود هذا ، نفهم ما قاله الماركسيون في " أسس الماركسية - اللينينية " :
جمعت البرجوازية حولها كل الطبقات والجماعات التي لم تكن راضية بالنظام الإقطاعي ، من الفلاحين التابعين ، الى القطاعات المنحطة من سكان المدن ، التي كانت تعيش في ظروف من الفقر والإذلال والاضطهاد . الى العلماء والكتاب التقدميين الذين كانوا ـ بصرف النظر عن أصلهم - مختنقين بالاستبداد الروحي للإقطاع والكنيسة " . وترجمتها على هدى " جدل الإنسان " : " جمع المثقفون الثوريون كل التقدميين " .
لم تكن ثورة " البورجوازية " على عهد الإقطاع تهدف الى تغيير علاقات الإنتاج فبقيت الملكية الفردية وتدعمت ، بل كانت تهدف الى مزيد من الحرية ، فحلت مشكلة الحرية المدنية والسياسية، وتجاوز الحل النظرية الى التطبيق ، وخرج قانون نابليون متضمنا كل الحريات التي كانت تأمل فيها الشعوب فى ذلك الوقت .
وعندما هزمت الرجعية ، لم يهدم الإقطاع ؛ لأنه انقضى ، بل خلصت جهود التقدميين بعد أن طرحوا عبء الرجعية ، لتحقيق مزيد من الحرية ، وانطلق التاريخ الى غايته .
ـ 16 ـ
عدما كسب الإنسان حريته من الرق وحريته المدنية والسياسية ، كسب حريات كثيرة ، فالحرية من الرق تتضمن حرية الحركة ، وحرية التفكير وحرية الزواج ... الخ . والحرية المدنية تتضمن حرية التعاقد وحرية التملك وحرية التصرف . والحرية السياسية تتضمن حرية القول ، وحرية الاجتماع ، وحرية الترشيح للحكم ، وحرية الانتخاب وحرية الانتماء إلى دولة ... الخ .
لا يجدي أن نعدد كل تلك الحريات . ولكن المهم ان نفهم مدلولها الحقيقي . إنها كلها حريات سلبية ؛ أي حق الفرد في ألا يتدخل أحد في شؤونه ، وأن يكون سيد نفسه كما قال روسو . إننا نفهمها على وجه أوضح إذ لم نطلق عيها " حرية الإنسان " ، وأطلقنا عليها " تحرر الإنسان " ، أي مجرد فك القيود عن إرادته . وكون تلك الحريات سلبية لا تعني أنها غير ذات قيمة للإنسان ، ولكي نعرف قيمتها الحقيقية يجب ألا نفصلها عن الظروف التاريخية التي كانت حلا لمشكلاتها . وعلى ضوء تلك الظروف يتحدد مداها الحقيقي . لقد كانت ضماناً ضد استبداد الحكام ، وكان كسبها نصرا حقيقياً على طغيان الحكومات ، دفعت له الشعوب من تضحياتها ثمناً فادحاً . ثم كانت ـ وهو الأهم ـ خطوة إلى الأمام في التطور الجدلي للمجتمعات الإنسانية ... إلى الحرية .
ـ 17 ـ
أما وقد تحرر الإنسان من استبداد الحكومات فقد انطلق يحقق أكبر ثورة في التاريخ ، تحطيم قيود الطبيعة وفرض إرادة الإنسان عليها ، عن طريق العلم والرأي والعمل . وعن طريق الجدل الاجتماعي الذي خلصت فيه جهود الشعوب من عبء الرجعية ، تحققت الثورة الصناعية التي تكلمنا عنها من قبل ، والتي مجدها فلاسفة المذهبة الحر في انجلترا وفرنسا ، وقال عنها مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " أنها مؤسسة على " السيطرة على قوى الطبيعة " . غير أن الظروف لم تلبث أن كشفت ـ في أوائل القرن التاسع عشر ـ عن بذور مشكلة جديدة . وكما كانت مشكلة الرق مشكلة حرية موضوعها الرقيق ، ومشكلة الإقطاع مشكلة حرية موضوعها سلطة الأمراء ، كذلك كانت المشكلة الجديدة مشكلة حرية موضوعها هذه المرة ـ " أدوات الإنتاج " الصناعي على وجه التحديد ـ وأسهم الماضي ذاته في طرحها . فباسم حرية التملك التي كافح الناس من أجلها الرجعية في الإقطاع ، وعلى أساسها ، قام ذلك النظام الذي سمي بالرأسمالية . واستعملت في ظله كل الحريات الفردية استعمالا تجاوز مداها التاريخي . فباسم حرية التملك عمل الرأسماليون على تركيز الممتلكات في أيديهم ( يبغون من هذا مزيداً من الحرية لأنفسهم ) فحرموا بذلك أغلب الناس من الملكية ؛ فبقيت حرية التملك بالنسبة إليهم فارغة من أي مضمون . وباسم حرية الإرادة استحال تعديل شروط العمل التي يقبلها العمال مضطرين لا خيار لهم فيها ولا إرادة ، فبقيت حرية التعاقد بالنسبة إليهم غير ذات دلالة . وباسم التحرر من تدخل الحكومات استمرت المنافسة وتكونت الاحتكارات وأكل القوي الضعيف وفقد الكثيرون حرية المنافسة . وباسم حرية التجارة أحالت أوروبا بقية العالم إلى مستعمرات لا حرية لأهلها . وقد كانت الجيوش تقتحم سواحل الهند والصين باسم حرية التجارة . واحتلت بريطانيا مصر سنة ١٨٨٢ لتأمين حرية التجارة مع الهند . وبدأت المشكلة تظهر متفرقة بالتدريج ثم أصبحت مشكلة أوروبا الحادة في القرن التاسع عشر وما بعده .
وجد النقيض من الماضي .
فهب أولئك الذين أسميناهم رواد الاشتراكية الأوائل من أمثال أوين وفورييه وسان سيمون ... الخ ، الذين أدركوا المشكلة وحاولوا أن يصوروا المستقبل خالياً من مشكلات الظروف ، فأبدعوا من تصوراتهم تلك النظريات التي سميت في التاريخ باسم الاشتراكية الخيالية . كانت المثل العليا يصوغونها فيحددون بها النقيض من المستقبل .
ثم وجد ماركس .
ـ 18 ـ
كان ماركس جدليا على طريقة هيجل وتلميذا له ، ولكن التقدم العلمي الذي صاحب الصعود الرأسمالي لم يكن ليستسيغ الأفكار الكلية المجردة ، في وقت كان الإنسان قد اهتدى فيه إلى المنهج التجريبي ، وطبقه بنجاح في كل ميادين العلم والصناعة . وتراجعت المثالية الهيجلية أمام ضغط تيار مادي ساد أوروبا وطبع الفلسفة والاقتصاد والاجتماع والأدب بطابعه . أخلت الرومانسية مكانها لواقعية مادية تقوم على ذات الأسس المنهجية التي طبقت بنجاح في ميادين العلوم الطبيعية . وبدلا من هيجل وجد فيورباخ . وكان ماركس قد عانى المشكلة في نفسه وفي غيره . وكان كغيره من التقدميين ( وإن لم يكن عاملا ) مشغولا بالبحث عن حل . ولكنه انفرد وتميز بانتهاجه البحث العلمي طريقا الى الحل ، وبهذا استحقت الماركسية أن تتميز تاريخياً من غيرها من الاجتهادات التقدمية فقيل إنها علمية . ولم يطل الأمر بماركس حتى استعار من هيجل جدليته ، ثم أفرغها من مثاليتها وملأها مادة ، وبذلك قد حدد منهجه وفلسفته فكانت له " الجدلية المادية " ثم انكب في إصرار وصبر جديرين به على دراسة النظام الرأسمالي وقوانينه ومستقبله ، وكان في دراسته كل هذا يستعمل منهجه استعمالا دقيقاً أميناً .
ولم كانت الجدلية المادية تنسب الجدل إلى المادة ، وبالتالي تتوقع منها أن تحل تناقضاتها ، فقد قبل ماركس الامتداد التلقائي لظروف النظام الرأسمالي طبقا لذات قوانينه الاقتصادية . استلم الخيوط من أيدي فلاسفة المذهب الحر ليسير معها قابلا مقدما النتائج التي تنتهي إليها . وحدد دور الماركسيين في أن " يعبروا عن حركة تاريخية تجري تحت أنظارهم " كما قال في البيان الشيوعي سنة ١٨٤٨ . ولم يطق ماركس أية محاولة فكرية أو سياسية تهدف إلى وضع حد للتطور الرأسمالي حيث نما في ألمانيا أو انجلترا أو فرنسا ، ولا أية محاولة فكرية أو سياسية تهدف إلى منع قيامه أو تطوره حيث لم يقم بعد في شرق أوروبا أو روسيا أو باقي بلاد العالم . وكان لا بد لكي يتخلص أي مجتمع من الرأسمالية ، من أن يمر من الإقطاع إليها ، ثم أن يتجرع مرارتها حتى الثمالة . لهذا صدق لينين عندما قال فيما كتبه عن " دور الاشتراكية الديمقراطية في الثورة " : " إن الماركسية تعلمنا أن أية محاولة لتحرير الطبقة العاملة عن غير طريق تطوير الرأسمالية محاولة رجعية " . وكانت طريقة تغيير العالم الرأسمالي أن يعمق الناس تناقضاته ، وينظموا طبقاته ، ويقفوا وراءه يدفعونه من الخلف على طريقه ليقطع الطريق في أقل وقت ممكن . أما " الاشتراكية " بمعنى التطور عن " غير الطريق الرأسمالي " أصلا ، او التصدي الايجابي للنظام الرأسمالي وتغييره قبل أن يحول الناس إلى عبيد لا يملكون شيئاً سوى قوتهم يبيعونها ، فقد كانت تثير غضب ماركس وثورته . وقد ثار يوما (٣٠ مارس سنة ١٨٤٦ ) ، على قائد الحركة العمالية في ألمانيا (ولهم ويتلنج) عندما دعا إلى الإضراب والمقاطعة الصناعية قائلا له : " إنه لمن الخداع السهل أن تثير الشغب بغير مبالاة ، وان إيقاظ الآمال الخيالية لن يؤدي يوما إلى خلاص المظلومين " . ثم أنهى مناقشته معه قائلا " إن الغباء لم يسعف أحدا قط " . ومع قبول التطور التلقائي للنظام الرأسمالي انطلق ماركس يفتش في داخل أسلوب الإنتاج الرأسمالي عن النقيضين . بدأ بالسلعة وقيمتها فأولدها فائض القيمة لينتهي إلى أن التناقض قائم بين الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج والعمل . ولما كانت الجدلية المادية تحدد لكل إنسان موقفه على أساس مكانه من علاقات الإنتاج المادية فقد قسم ماركس المجتمع الرأسمالي إلى طبقتين الرأسماليين أو ملاك أدوات الإنتاج ، والعمال الصناعيين ، وأسمى الأخيرين البروليتاريا ، وحتم الصراع الطبقي بينهما طريقاً الى المستقبل ؛ لأنه الصراع الحتمي بين الملكية والعمل " محولا إلى مخ الإنسان " . ولما كان الانتماء الطبقي - طبقاً للجدلية المادية - يقوم على أساس من علاقات الإنتاج ، فقد انتهى ماركس ـ منطقياً ـ إلى وحدة الطبقة العاملة ضد وحدة الطبقة الرأسمالية . وقال في البيان الشيوعي : " إن العمال لا وطن لهم . وإذا كانت الطبقة العاملة في حاجة إلى قيادة تنظمها وتقود صراعها الطبقي ، فإن الشيوعيين طليعة الطبقة العاملة وأكثرها وعيا ، ويتميزون عن باقي الطبقة العاملة بميزتين : " الأولى أنهم خلال الصراع الذي تخوضه الطبقة العاملة في أمة ما يركزون على أولوية مصالح الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم دون اعتبار للقومية ، والميزة الثانية أنهم ، دائما وفي كل مكان ، يمثلون الحركة العمالية ككل كما جاء في البيان الشيوعي . أما " الاشتراكيون " فهم أولئك الذين يتصدون للرأسمالية قبل أن تقضي أجلها المحتوم محاولين تغييرها ، أو حائلين دون نموها ، ولما كان مميزهم وعيهم وثوريتهم وليس مركزهم من علاقات الإنتاج فلم يكونوا عمالا صناعيين ولا رأسماليين ، ولم تكن لهم طبقة خاصة ، أطلق عليهم أنجلز تلك التسمية التي أطلقت من قبل على قادة الثور في عهد الإقطاع ، وأسماهم الطبقة الوسطى . قال في تقديمه للطبعة الانجليزية من البيان الشيوعي سنة ١٨٨٨ : " كانت الاشتراكية في سنة ١٨٤٧ ( على عهد ماركس ) حركة الطبقة الوسطى وكانت الشيوعية حركة الطبقة العاملة " . ومن هنا ، ومنذ البداية ، وعلى أساس من الجدلية المادية ذاتها ، تميز الاشتراكيون عن الشيوعيين .
فلنترك الاشتراكيين مؤقتا لنرى كيف يحل الماركسيون الشيوعيون مشكلة الإنسان في العهد الرأسمالي .
أولا ، هم لا يحلون المشكلة ، ولكن يعمقونها حتى تحل . وحلها الذي سيأتي في أوانه : إلغاء الملكية الفردية لأدوات الإنتاج . ولما كان البناء الفوقي ( الدولة والدين والآراء والفلسفات والعقائد والحريات والأحزاب ) في العهد البرجوازي قائماً على أساس علاقات الإنتاج البورجوازية فإنه سيزول حتماً بزوال الرأسمالية ويقبر معها . وقد عدد ماركس ما سيلغيه الشيوعيون في الفصل الثاني من البيان الشيوعي فقال : " إنه يمكن تلخيص النظرية الشيوعية في جملة واحدة : إلغاء الملكية الخاصة . ولا شك في أننا نهدف إلى إلغاء الشخصية البورجوازية ، والاستقلال البورجوازي ، والحرية البورجوازية ... الخ " .
ماذا يكون بعد الإلغاء ؟.
لم يقل ماركس شيئا محددا .
وهكذا انتهت الجدلية المادية بماركس والماركسيين : نسبوا التطور الجدلي إلى المادة فجردوا الإنسان من حرية تطوير ظروفه . وأوجدوا النقيضين في أسلوب الإنتاج المادي ، فجردوا الإنسان من المقدرة على اختيار القضية التي يدافع عنها ويكافح من أجلها ، واستبعدوا كل الناس ـ فيها عدا العمال الصناعيين أو البروليتاريا ـ من الإسهام في الثورة ضد الرأسمالية . وحددوا النقيضين في : الملكية والعمل . ولما لم يستطيعوا حل التناقض حلا جدلياً اكتفوا بإلغاء الملكية وبقي العمل كما كان من قبل . واعتبروا أن كل الأفكار والنظم السياسية والقانونية والحريات السائدة في النظام الرأسمالي بناء فوق الملكية الخاصة فأقبروه معها ، وعندما حكم ماركس على الحريات التي كانت سائدة في ظل الرأسمالية أن تقبر مع الرأسمالية ترك المستعبدين كما هم بدون حريات على الإطلاق .
وهكذا جاءت النظرية الماركسية المؤسسة على قواعد الجدلية المادية متضمنة نكسة للحرية . وظل لها هذا الطابع في النظرية حتى أبرزته الممارسة التطبيقية . ولقد رأينا من قبل نماذج عديدة من التراجعات النظرية ، او تطوير النظرية كما يقولون ؛ من الماركسية ، إلى اللينينية ، إلى " خبرة الاتحاد السوفييتي والديمقراطيات الشعبية والأحزاب الشقيقة في الوقت الحالي " . ورأينا كيف انعكس الصراع بين النظرية والتطبيق على الحركة الشيوعية فمزقها ، ويمزقها ، ابتداء من الانقسام بين البلشفيك والمنشفيك ، إلى الانقسام بين الصين والاتحاد السوفييتي ، وفي قلب كل حزب شيوعي أينما كان .
وتكونت من كل هذا حصيلة غنية من التجارب النظرية والتطبيقية ذات دلالة واحدة ؛ ان الجدلية المادية كمنهج عاجزة عن ان تجد حلا للمشكلات الني طرحتها الظروف في العهد الرأسمالي . وانها بهذا تسهم إسهاما ايجابيا في إطالة عمر الرأسمالية ٠ ان ملايين من البشر الذين لا يعرفون الحل الصحيح ، يقفون من الاشتراكية موقفاً سلبياً أو معاديا لسبب بسيط هو أنهم يرفضون الحل الماركسي الذي يقدم إليهم الآن تحت اسم " الاشتراكية " بعد ان اختار الشيوعيون ـ في تراجعهم ـ أن يحملوا شعار الاشتراكية ، التي أسماها أستاذهم انجلز " حركة الطبقة الوسطى " غير أن هذا الاختيار ليس مجرداً من دلالته التاريخية ؛ فمنذ لينين حتى اليوم تفرض الحلول الجدلية الصحيحة نفسها على التطبيق الشيوعي . ومن خلال الآلام ـ في ظل الشيوعية ـ يؤدي جدل الإنسان دوره الحتمي وإن كانت الماركسية تعوقه . وكل ما قيل إنه تطوير للماركسية ، وكل ما قيل إنه " خبرة " الأحزاب الماركسية " ليس إلا تقهقرا أمام الاشتراكية التي تغزو الشيوعية الماركسية من الداخل ، مرغمة الماركسيين ـ خلال الخبرة المؤلمة ـ على ان يقبلوا جدل الإنسان ، وتلك معركة في قلب الحركة الشيوعية لن تنتهي إلا بان يكسر الماركسيون قيود الفلسفة الماركسية ، فيكسبوا حرية جديدة يسهمون بها في حل مشكلة الإنسان في العهد الرأسمالي . وإلى أن تنتهي ، سيظل الصراع بين النظرية والتطبيق قائماً ، وسيظل الركب الاشتراكي مفتقدا الماركسيين في صفوفه ، وسيبقى الماركسيون عاملا مساعدا على تدعيم الرأسمالية وإطالة بقائها ، وعاملا معوقاً لجهود الاشتراكيين في كل مكان . أي سيبقون في صفوف الرجعية وإن كانوا من الطبقة العاملة أوقادة لها .
ـ 19 ـ
وبينما وقفت الجدلية المادية عاجزة عن التقدم ، تقدم عدد من الفلاسفة والكتاب بسيل من النظريات ، تحاول كلها أن تقنع الناس بأنه لا توجد مشكلة ، ولا يوجد حل ، وأنه يكفي الناس أن ينص في الدساتير على أنهم أحرار حتى لو لم يستطيعوا ممارسة هذه الحرية ، أي أن الحريات السلبية الشكلية هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه التحرر . وقد سبق أن عرضنا لبعض من تلك النظريات . وموقفها السلبي يمزق القناع الفلسفي الذي تتستر وراءه فهي غير علمية لأنها تتجاهل مشكلات قائمة فعلا . وهي خادمة للرأسمالية لأنها تبرر الاستغلال . وهي رجعية لأنها تريد أن توقف تطور الحرية عند الحد الذي وصلت إليه الثورة الفرنسية .
وعندما تعجز كل تلك النظريات عن إخفاء المشكلة التي يعانيها الإنسان في ظل الرأسمالية يلجأ بعض الرجعيين إلى الدين يؤولونه على هواهم ؛ يغرون الناس بالجنة في السماء بديلا عن جنة في الأرض ، وكأنما قد خلق الإنسان في الأرض عبثا . ثم يلجأون إلى الشيوعية والماركسية يرهبون بها المتذمرين الثائرين متخذين من نكسة الحرية في الماركسية أية لهم . ويقدمون " الاشتراكية " إلى الناس على أسس ماركسية ، موهمين الناس بأنها الاشتراكية الوحيدة التي لا اشتراكية غيرها ، وأنها الغاية التي يسعى إليها كل الاشتراكيين في الأرض . وبذلك يسهم الرأسماليون في تدعيم الماركسية والإبقاء عليها ، لأن في هذا ذاته تدعيما للرأسمالية وإبقاء عليها . ويستفيد الرأسماليون من أخطاء الماركسيين أضعاف أضعاف ما يستفيدون من تبريرهم النظري المنهار . ويجد أشال مارتن ديز رئيس لجنة النشاط المعادي لأمريكا الجرأة والمبرر ليقول : " لو أن الحكومة الديمقراطية تحملت مسئولية القضاء على الفاقة والبطالة فإنها ستمهد الطريق ـ ببساطة - للدكتاتورية ، وليس ثمة أسهل من ان يوضع كل شخص في هذا البلد في عمل إذا كنا راغبين في أن ندفع ثمن العبودية " . إنها المغالطة الذكية تستغل الإخلاص الغبي .
غير ان كل هذا لا يجدي الرأسماليين شيئا ، لأن المشكلة قائمة ملحة ، ولأن جدل الإنسان يؤدي دوره الحتمي في قلب الرأسمالية ذاتها .
فالرأسمالية لم تنته إلى ما قاله ماركس ، لأن الإنسان الجدلي لم يسمح لها بأن تمتد تلقائياً في المستقبل . فلم تتركز رؤوس الأموال في أيدي قلة من الناس ، ولم تنخفض الأجور ، ولم تزد ساعات العمل ، ولم تنقسم المجتمعات إلى طبقتين لا ثالثة لهما ، بل أن العكس هو الصحيح .
ان غنى القلة لم يمنع كثيرا من الناس من ان يكونوا أغنياء . كما انه في كل يوم تظهر صناعة جديدة تحتاج إلى مزيد من الأيدي العاملة . ولم يقض استعمال الآلات على العمال ، ولم يغن عن جهودهم الخلاقة . ومن ناحية أخرى فإن أجور العمال في ازدياد مستمر في قلب الرأسمالية ، فإن الحقوق الديمقراطية والتنظيم النقابي وحق الإضراب والتحديد الجماعي للأجور قد سلب الرأسماليين قدراً كبيراً من مقدرتهم على فرض إرادتهم . واستطاع الكفاح الفعلي الإيجابي ان يحول دون ان تكون كولة أداة طيعة في أيدي الرأسماليين ، فتدخل المشرعون في الدول الرأسمالية ففرضوا حدودا دنيا للأجور ، كما فرضت شروط تشغيل النساء والأطفال . وفرض على مالكي المنشآت الصناعية أن يوفروا لعمالها العناية الطبية ، والعلاج بدون مقابل ، وان تؤمن حياتهم ضد إصابات العمل وضد الشيخوخة ؛ أما عن ساعات العمل فإنها محددة بالقانون ، ولم يعد الرأسماليون قادرين - دائماً - على أن يشغلوا العمال ما شاءوا من الوقت ، وان يفرضوا عليهم ما شاءوا من الشروط .
كل هذا في ظل الرأسمالية في كثير من الدول والمجتمعات . حلول على الطريق الاشتراكي وإن كان النظام الرأسمالي يضغطها فتبدو قاصرة او مشوهة .
إذن فالرأسماليون - كالماركسيين ـ يتراجعون ، ولكنهم - كالماركسيين أيضا - يقولون إن هذا تطوير للرأسمالية .
والذين يقولون هذا يغالطون .
كل المكاسب التي تحققت في داخل النظام الرأسمالي انتصارات للاشتراكية .
إنهاً الاشتراكية تعزو الرأسمالية من الداخل . فالرأسمالية نظام اقتصادي قائم على قوانين اقتصاًدية واضحة : المنفعة الشخصية ، والعرض والطلب ، والمنافسة الحرة ، أي حيدة الدولة وسلبيتها في مواجهة النشاط الفردي . فإذا كنا نريد أن نعرف ما هي الرأسمالية فلا ينبغي أن ننظر إليها حيت تتراجع تحت الضغط الاشتراكي ، ولكن حيث فرضت قوانينها .
والذين يغاًلطون يحتجون بما يقولون على كارل ماركس ، ويرددون كالببغاوات ان ما توقعه ماركس من الرأسمالية لم يقع ، فليست الرأسمالية إذن ما عرفه ماركس ، وهو منتهى الجهل بالماركسية والرأسمالية كليهما .
فقد كان ماركس من أوائل من كشفوا الغطاء عن حقيقة الرأسمالية . لم يكن في ذلك مدعيا ولا داعيا . فقد وجد ان الرأسمالية نظام محكم للاقتصاد له قوانينه الصارمة . ووجد ان فلاسفة المذهب الحر قد أرسوا تلك القوانين على قواعد صلبة ، فلم يناقشهم ولم يعترض علبهم ، وتلقى الخيوط من أيديهم وسار معها إلى نهايتها ، وإذا به يكتشف ، عن طريق البحث المجرد من العاطفة ، أن الرأسمالية في طريقها إلى تلك الصورة المفزعة التي رسمها ، والتي كانت ثمارها العفنة قد بدأت تزكم أنوف الناس منذ قرنين من الزمان . وعندئذ أطلق ماركس نداءه منذرا الناس بمخاطر الرأسمالية .
ولو لم يفعل ماركس غير هذا لاستحق ان يكون من الخالدين .
فقد عرفنا منه التطور التلقائي للظروف الرأسمالية ، وامتدادها من الماضي إلى المستقبل حيث المصير المفزع . كان لا بد عندئذ من ملايين الضحايا حيت يجد الناس أنفسهم وليس أمامهم إلا الثورة التي نادى بها ماركس وتنبأ بوقوعها . ثورة الذين لا يملكون شيئاً فيدمرون كل شيء .
ولا يهم أن تلك النبوؤة لم تتحقق ، فإن في هذا أكبر انتصار لكارل ماركس . فقد كان كشفه الصادق للمصير التعس الذي ينتظر البشرية في ظل الرأسمالية تحديدا للثمن الفادح الذي يدفعه الناس لقبول الرأسمالية ، وحافزا لتصدي الناس للرأسمالية ليحولوا دون أن تصل بهم إلى ذلك المصير . وإذا كان ماركس لم يفطن إلى الدور الحاسم الذي لعبه كإنسان عظيم في التاريخ فغير به وجه التاريخ بعده ، فإن هذا لا يمنع أن يكون كشفه المستقبل التلقائي للرأسمالية دينا يدين به الاشتراكيون بل الإنسانية كلها لكارل ماركس .
فبعد ماركس ، وتحت تأثيره ـ وإن كان على غير ما أراد ـ توالت جهود الاشتراكين ـ لا ليدفعوا الرأسمالية إلى مصيرها القاتم ـ ولكن ليحولوا دون أن تصل بالإنسان إلى ذلك المصير ، واختار كثير من الأمم الطريق " غير الرأسمالي " سبيلا الى المستقبل . وتحت الضغط الفكري والتطبيقي تراجعت الرأسمالية ولا تزال تتراجع . وما نراه الآن في كثير من الدول ليس الرأسمالية الظافرة بل الاشتراكية تغزوها . إنها الرأسمالية مهزومة .
ـ 20 ـ
الاشتراكية تغزو الماركسية إلى حد قبول الماركسيين التطور " غير الرأسمالي " و " دولة كل الشعب " والديمقراطية ، تنازلا منهم للحرية التي يتجه إليها التاريخ . والاشتراكية تغزو الرأسمالية إلى حد قبول الرأسماليين تدخل الدولة ، و" تأميم بعض وسائل الإنتاج " و " التأمينات الاجتماعية " تنازلا منهم للحرية التي يتجه إليها التاريخ . وفي الوقت ذاته يقاومون التاريخ في اتجاهه إلى غايته ، وقد يتآمرون ويتحايلون ، فيتركون وراءهم النظريتين المتضادتين ـ كما يزعمون ـ فينقلب حل أزمة الإنسان في عهد الرأسمالية إلى " مباراة " سلمية على يد خروتشوف الماركسي وكيندي الرأسمالي . ويقتسمون كوريا وفيتنام ، كما يقتسمون القوة الذرية ، فيحبس كل من الطرفين " العلم " بها عن الناس جميعاً وعن شركائه على وجه خاص ، ولو أفلحوا لاقتسموا الأرض بمن عليها ، وفي هذا يتساومون .
غير أن الاشتراكيين في باقي أنحاء الأرض يجادلون جدلا ثورياً ، فيتحدون ظروف التخلف في بلادهم النامية ، رافضين الماركسية والرأسمالية كلتيهما ، متتبعين الحلول الجدلية الصحيحة أينما كانت في الشرق أو في الغرب يتبنونها ويلائمون بينها وبين واقعهم مبتدئين دائماً من ذلك الواقع . أغنى التقدم العلمي إدراكهم لظروفهم ، وأغنت تجربة الدول الأخرى تصورهم المستقبل الذي يتطلعون إليه . عرفوا من الدول الرأسمالية كيف يؤدي النظام الرأسمالي إلى الاستغلال الذي لا يحجبه الرخاء ، وعرفوا من الدول الشيوعية الإرهاب الذي لا يحجبه إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ، فأغناهم هذا وذاك عن مرارة التجربة ، واتخذوا الاشتراكية مثلا أعلى يبغونه حياة من الرخاء والحرية معا . وبذلك أصبح التناقض بين الماضي (الظروف المتخلفة) والمستقبل (الاشتراكية) عميقاً ، فأصبح الصراع حادا وأصبحت مشكلاتهم أكثر إيلاماً . لا وقت إذن للانتظار فلا بد مما ليس منه بد . ورفعت أغلب الشعوب شعار" عدم الانحياز" تعبيراً عن رفض الطريق الماركسي والطريق الرأسمالي معاً ، وشعار" الاشتراكية " تعبيراً عن سعيها إلى الحل الصحيح لأزمة الإنسان كما تعلمتها من التجربة الرأسمالية . ثم اندفعت تحاول بناء المستقبل تحت الشعارين منهجها " التجربة والخطأ " ، فيأتي المستقبل آنا رأسمالياً فتعدله ، وآناً شيوعياً فتغيره ، وآناً اشتراكياً فتبقيه . وتبدد من الجهد ما تقتضيه التجربة وستنفذ من الطاقة ما يضيع في الخطأ ، وتتحمل هذا كله بثورية فذة لا ينقصها إلا الثقافة . وكثيراً ما يحدث أن يجنح بعض الثوريين - تخلصاً من آلام التجربة والخطأ - إلى اختيار نظرية " متطورة " او لكي" يطوروها " فينقلب بعضهم إلى ماركسيين فقط خوفا من الشيوعية ، وينقلب بعضهم إلى ديمقراطيين فقط خوفا من الرأسمالية ، أي يلجأون إلى النظريات التي هلهلتها التجربة ، يستعيرونها أثمالا من الذين يحاولون طرحها وراءهم ، فلا تستر الصادقين منهم ولا الانتهازيين ، او يلفقون من أثمال النظريتين غطاء للجهل فلا يفلحون .
وكذلك يفعلون .
هنا وقفة الناس في التاريخ المعاصر، يكابدون مشقة الانطلاق إلى الحرية ، ويبدد طاقتهم الرجعيون من الرأسماليين او الماركسيين او المغامرين الانتهازيين . ويدعي كلهم " الاشتراكية " حتى يكاد أمرها أن يختلط عليهم أنفسهم ، فهم في حيرة من أمورم ، يعبرون عن حريتهم بهذا الضجيج الفارغ الذي يملأ آفاق التاريخ المعاصر، يثيره صراع التقدميين فيما بينهم حول علاقة الحرية بالاشتراكية ، تاركين للرجعية فرصة الحياة أكثر مما تستحق ، وتاركين لها فرصة التضليل إلى حد ادعاء الاشتراكية ذاتها .
فلنمض مع التاريخ إلى غايته لنرى كيف يحدد لتا جدل الإنسان علاقة الحرية بالاشتراكية .
ـ 21 ـ
تتبعنا تطور الحرية ( غاية التاريخ ) ووصلنا بها إلى أزمتها في ظل النظام الرأسمالي .
ويمكننا بسهولة أن نلاحظ أن التطور كان يتم في حركة جدلية ، تثور المشكلة فيبدأ البحث عن حل ، وتقترح الحلول في شكل نظريات وآراء ومذاهب ، تتفاعل خلال الجدل الاجتماعي إلى أن يصبح الحل واضحاً من حيث مضمونه ، وإمكانيات تنفيذه ، فينفذ في الواقع ، سلميا ، او ثوريا ، تبعاً لموقف الرجعية ومقاومتها ، ويتقدم الإنسان خطوة يكسب بها حرية جديدة . وتنظم الحرية الجديدة إلى ما سبقها من حريات . وبهذا الحل تختفي المشكلة القديمة ، ويمارس الإنسان حرياته بما فيها من إضافة جديدة . ويتبين خلال الممارسة أنه في حاجة إلى مزيد من الحرية وان الظروف التي تمت وتجمعت تتحدى إرادته في موضوع جديد ، فيتطلع إلى المستقبل يتصوره خاليا من ذلك التحدي ، ويشكل مثله الأعلى ظروفا تناقض ظروفه وأكثر منها حرية . ولكن الماضي يقف في سبيل المستقبل ، ومن هذا التناقض تثور المشكلة ويبدأ البحث عن الحلول ، وتوضع النظريات ، وينقسم المجتمع إلى رجعيين وتقدميين ... وهكذا ، فالتطور مضى ويمضي في تلك الحركة الجدلية من الماضي إلى المستقبل ؛ من الحرية الجزئية إلى الحرية الأكثر شمولا . وقد علمنا جدل الإنسان أن التاريخ ثابت على غايته ، لأن التطور جدلي حتما ، ولان الجدل إضافة حتماً ، فالتاريخ لا يتراجع ولا يعود سيرته الأولى ، كما علمنا أن غايته الحرية دائما .
ومن هنا تتحدد العلاقة التاريخية بين الرأسمالية والاشتراكية ، ليست الاشتراكية الوجه العكسي للرأسمالية ، ولكنها نظام للحياة أكثر تقدما من النظام الرأسمالي لأنه أكثر منه حرية . لا وجه إذن للمقارنة بين الرأسمالية والاشتراكية ؛ لأن الاشتراكية أكثر شمولا إذ هي إضافة وتقدم . الاشتراكية حرية جديدة ، وبغير هذا لا تكون اشتراكية ، ولا تكون حلا حتميا لأزمة الإنسان في العهد الرأسمالي ، ولا تحقق دورها في التطور التاريخي . ومؤدى هذا أن يكون للإنسان في ظل الاشتراكية كل الحريات التي كسبها في تاريخه الطويل المرير . تكون له حريته من الرق التي كانت حلا لمشكلات العهد العبودي ، تضاف إليها حرياته المدنية والسياسية التي كانت حلا لمشكلات العهد الإقطاعي . ليست الاشتراكية إلغاء تلك الحريات حتى لو كانت سلبية ، فإن الحرية السلبية تحرر من قيود كانت مفروضة ؛ لأن التطور الجدلي لا بد أن يتجه الى الأمام ، أي أن يضيف ويكمل تلك الحريات لا أن يلغيها . ليست الاشتراكية إذن إلغاء حرية الملكية او إلغاء الحريات السياسية ، ليست الاشتراكية إلغاء بل إضافة . ذلك مكانها في التاريخ محدداً على ضوء غاية الإنسان واتجاه تاريخه .
وعلى هذا ، ليس تقدما ـ على أي وجه ـ إلغاء ما كسبه الإنسان من حريات بحجة الاشتراكية .
إذن ماذا تضيف الاشتراكية إلى حرية الإنسان ؟
ما مضمون الاشتراكية ؟
ـ 22 ـ
وقفنا بالتطور الجدلي للحرية عند الحريات السلبية : حرية الحياة لا تحقق للإنسان ضرورات الحياة من مأكل وملبس ومسكن وعلاج ودواء ، بل تكتفي بمنع قتله إن كان حيا ، فإن قتل أوقعت العقاب بالقاتل (وهل يجدي المقتول شيئا ؟) والإنسان " حر " بعد هذا في أن ينتحر أو يتشرد أو يمرض حتى يموت أو يجوع فيضعف حتى يموت أيضاً . وحرية الفكر لا توفر للإنسان أسباب العلم والمعرفة والثقافة ، ولكن تعني أن أحداً لا يمنعه من أن يفكر كما يشاء ( وهل يستطيع أحد أن يمنعه ؟ ) . وحرية العمل لا توفر للإنسان العمل الذي يريده ويتفق مع كفاءته ، ولكن تعني أن أحداً لا يسخره بدون أجر، ولا يمنعه أحد من ان يكون عاطلا . وحرية التعاقد لا تضمن للإنسان مصلحته التي تعاقد عليها ، ولكن تمنع القانون من أن يعدل العقد ولو كان فيه غبن . وحرية التملك لا توفر للإنسان الملكية الفعلية التي يمارس فيها حريته ، ولكن تعني أنه إن تملك شيئا فلا تجوز سرقته ، وفيما عدا هذا فهو حر في أن يملك أو لا يملك ، ولو كان لا يملك قوت يومه إلا إذا باع نفسه كما يفعل كثير من النساء والعاملين والمتعلمين . والحريات السياسية تعني أن يقول الإنسان رأيه ـ إن شاء ـ في اختيار جهاز إدارة الدولة ( الحكومة ) ولكن لا تعني أن تكون الدولة تحت سيطرته ، أو أن تتدخل الحكومة التي اختارها لتضمن حرياته ، لأن كل تلك الحريات السلبية كانت تحررا من تدخل الدول والحكومات .
كانت تلك الحريات السلبية حلا تقدمياً لمشكلة الحرية في عهد الإقطاع ، وبمجرد تحققها أضيفت إلى الظروف ، ثم بدأت - مع باقي عناصر الظروف - تطرح مشكلة جديدة .
فقبيل القرن التاسع عشر، وخلاله ، كانت الطبيعة ( أحد عناصر الظروف ) قد تحددت وتم اكتشافها ، كما تحددت - إلى حد كبير - إمكانياتها المتاحة تلقائياً ، قاصرة على أن تشبع حاجة الإنسان . فاتجه الناس إلى الإنتاج الزراعي والصناعي يطورونه ويزيدون منه ، لأنه الطريق الوحيد الذي يعوض الفارق الكبير بين حاجة الإنسان والإنتاج الطبيعي . غير أن العمل لا يكون مثمراً إلا إذا قام على أساس من العلم والمعرفة الصحيحة بقوانين الطبيعة . وقد عرف الناس من أمر الإنتاج الزراعي ما يسميه الاقتصاديون " قانون الغلة المتناقصة " ، ومؤداه أن ناتج الأرض من الزراعة لا يزيد كلما زاد ما يبذل فيه من جهد ، بل يقف عند قدر من الإنتاج تحدده القوانين الحتمية التي تحكم طبيعة الأرض ، فلا يزيد بعد هذا مهما بذل فيه من جهد . ويسمي الاقتصاديون ذلك القدر من الإنتاج الزراعي " الغلة الحدية " . وعرف الناس من أمر الإنتاج الصناعي ما يسميه الاقتصاديون " قانون الغلة المتزايدة " ، ومؤداه أن كل جهد فيه إنتاج جديد ، وكل مزيد من الجهد مزيد من الإنتاج إلى ما لا نهاية . وبهذا تحدد مصدر بناء المستقبل تحديدا علمياً : المحافظة على الثروة الطبيعية ، ثم الإنتاج الزراعي حتى الغلة الحدية ، ثم الإنتاج الصناعي مصدراً مفتوحاً بغير حد لمزيد من الحرية . في سبيل تلك الغاية حقق الإنسان " الثورة الصناعية " وانطلق ـ بعد أن تحرر من عبء الرجعية الإقطاعية ـ يصارع الظروف في كل مكان ، ويسخر الطبيعة لإرادته ليوفر من الإنتاج ما يحقق لحرياته مضمونها ، وقد نجح في هذا إلى حد كبير حتى أصبحت السلع المصنوعة المصدر الرئيسي لإشباع حاجات الناس في أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر على وجه خاص . وبهذا أصبح مصير كل الناس ـ المستهلكين ـ في سعيهم إلى إشباع حاجاتهم متوقفاً على الإنتاج وكميته واستقراره وشروط الحصول عليه . هنا بدأت المشكلة الجديدة وكانت ـ كما هي دائما ـ مشكلة حرية ، موضوعها ـ هذه المرة ـ الملكية الفردية لمصادر الإنتاج الصناعي ( وليس أدوات الإنتاج فقط ) . فباسم حرية التملك بما تتضمنه من حرية الاستعمال والاستهلاك والتصرف ، سيطر مالكو مصادر الإنتاج الصناعي على الناس وفرضوا عليهم إرادتهم .
نقول الناس ونعني أغلبهم . وأنه لمن الخطأ الفاحش الذي تؤدي إليه مناهج البحث الخاطئة ، ويكذبه الواقع ، أن يحصر ضحايا الرأسمالية في العمال الصناعيين ( البروليتاريا فقط ) وأن ينقلب الأمر إلى معركة خاصة بين فئتين تتنازعان السلطة ، تنتهي بأن تصبح البروليتاريا حاكمة وتصبح البورجوازية محكومة ، أو تتبادل الطبقات أماكنها كما قال ماو تسي تونج في " التناقض " وظن أنه قد حل بذلك مشكلة .
إن ضحايا الرأسمالية جبهة عريضة تضم أغلب الناس . فقد سيطر الرأسماليون أولا على مصادر المواد الخام اللازمة لصناعتهم ؛ وفرضوا إرادتهم ـ بقوة السلاح ـ على شعوب بأكملها ( بكل ما فيها من فئات رأسماليين وفلاحين وعمال وكتاب ... الخ ) . فرضت العبودية على شعوب بأكملها باسم الاستعمار فأحال المستعمرون حياتها خرابا ، وأكرهوها على أن تبقى أو أن تعود إلى مرحلة التخلف الأولى ، تجمع ثروات الطبيعة وتسلمها إلى السادة المستعمرين . أولئك أول ضحايا الرأسمالية الأوروبية وأن جهل الاشتراكيون " الطبقيون " ، شعوب من ملايين البشر في أفريقيا وآسيا وأمريكا .. هرستم أدوات الإنتاج في مصانع أوروبا قبل أن تكون أجور العمال الأوربيين على أدوات الإنتاج وساعات عملهم مشكلة . وسيطر الرأسماليون على الفلاحين فحولوا مزارعهم إلى مراع وغابات ( كما حدث في انجلترا مثلا ) لتزود مصانعهم بمواد خام إضافية ، وبأيد عاملة لا تملك إلا جهدها تبيعه لتأكل . وسيطروا عدى الصناعة والمنشآت الصناعية والنقل والتجارة ، فكونوا الاحتكارات تآمرا بين القلة ، للقضاء على منافسيهم مجردين إياهم من حرية المنافسة وحرية العمل ذاته . وسيطروا على العاملين المباشرين على أدوات الإنتاج ( البروليتاريا ) ففرضوا عليهم شروط العمل على الوجه الكريه الذي تحدثنا عنه في الفصل الأول من هذا الكتاب - وسيطروا على المتعلمين ورجال الدين والكتاب والفنانين وأحالوا كثيرا منهم أجراء صريحين أو مأجورين يسخّرون إنتاجهم) لمصلحة القادرين على إمدادهم بما يشبع حاجاتهم . وسيطروا على الحكومات والانتخابات والأحزاب والصحافة عن طريق الشراء أو الرشوة او اصطناع الأزمات . وسيطروا - فوق هذا - على مجموع الشعب بكل فئاته كمستهلكين ، يتحكمون فيهم ويعرضون إرادتهم حتى في أدق شؤون الحياة الشخصية عن طريق تحديد أنواع المنتجات وشروط الحصول عليها ، وهو ما يسمونه " التحكم في الأسواق" .
جبهة عريضة من البشر ، تضم العمال ، ولكنها أعرض من هذا بكثير ، أحالتها الرأسمالية إلى جبهة من العبيد .
كيف تسنى للرأسماليين أن يفرضوا سيطرتهم على هذا الوجه ؟
الندرة والحاجة .
فلو بلغ الإنتاج حدا من الوفرة يكفي حاجات الناس جميعاً ، ويفيض بحيث يتاح لكل إنسان أن يحصل على ما يكفي حاجته ، لما استطاع مالكو مصادر الإنتاج أن يفرضوا سيطرتهم على الناس وان يتحكموا في حياتهم ؛ لأن ما ينتج لابد أن يستهلك ، ومع الوفرة الكافية يكون القول الأخير في الإنتاج للمستهلكين لا للمنتجين . ولو أن الناس قادرون على أن يستغنوا عن حاجاتهم أو أن يحددوا تلك الحاجات ، لما استطاع مالكو مصادر الإنتاج أن يفرضوا عليهم إرادتهم ، لأن القول الأخير في منفعة الإنتاج يكون ـ حينئذ ـ للمستهلكين لا للمنتجين . كذلك تتحدد قيمة السلعة في النظام الرأسمالي بالندرة والمنفعة . وكذلك ينتج الرأسماليون بشرط ألا يصل الإنتاج إلى حد الكفاية ، ولو أغلقوا مصانعهم ودمروا إنتاجها . ويغرقون الأسواق بشرط ان يظل الناس في حاجة ، ولو بتحديد الأسعار على وجه يعجزهم عن أن يحصلوا مما هو مطروح فعلا على ما يشبع حاجتهم . الإنتاج مع المحافظة على الندرة ، والبيع مع المحافظة على الحاجة ، ليظل للإنتاج الرأسمالي قيمة ، تلك مصيبة الإنسان في الرأسمالية .
المهم ، أن الندرة والحاجة كلتاهما ذاتا طابع اجتماعي . فالندرة تعبير عن عجز المجتمعات في صراعها ضد الظروف عن ان تصل إلى عالم الكفاية من المنتجات المزروعة أو المصنوعة
. وهذا التخلف ـ وإن كان في استطاعة الإنسان أن يتخطاه ـ إلا أنه ، حيث يكون ـ في مرحلة معينة ـ وليد ظروف طبيعية وتاريخية لا يستطيع الإنسان أن يلغيها ، فهي ماضيه الذي يفلت من إرادته . والحاجة التي تحدد منفعة الإنتاج حتم على الإنسان بحكم القوانين الحتمية التي تحكمه كوحدة من المادة والذكاء ، لا يستطيع ان يتحرر منها إلا بإشباعها . وقد " استغل " الرأسماليون مرحلة الندرة التي لم تتجاوزها المجتمعات بعد ، وحاجة الناس المتجددة دائما ، في أن يفرضوا إرادتهم لأنهم مالكو مصادر الكفاية والشبع . وهذا ما يسمونه القهر الاقتصادي . ولقد استطاع الرأسماليون عن طريق القهر الاقتصادي ان يسلبوا كثيرا من الناس كل الحريات التي كسبوها من قبل حتى حرية المأكل والملبس والمسكن ، أي حرية المحافظة على وجودهم ذاته ، وبذلك عادوا بهم ـ كرها ـ إلى البربرية الأولى حيث كان الإنسان يسعى حين يسعى تلبية لنداء أمعائه بحثاً عن حريته من الطبيعة فيه ، حتى يتسنى للرأسماليين أنفسهم ان يحصلوا من الحريات على ما يصل إلى حد التحرر من عناء العمل . ذلك هو" الاستغلال " مشكلة الإنسان في العهد الرأسمالي ، حيث يستغل قلة من الناس ـ عن طريق القهر الاقتصادي ـ إمكانيات المجتمع وظروفه وحاجة الناس فيه ، ليحققوا لأنفسهم طوراً من الحرية ، تحول ندرة الإمكانيات دون أن يتحقق للناس جميعاً . أو كما يقال يسخّرون المجتمع لمصالحهم .
وذلك أيضا هو النقيض من الماضي : حريات سلبية لا تجد المضمون الذي يمارس الإنسان فيه حريته ، واستغلال لكل الإمكانيات التي تقدمها الظروف لحساب مالكي مصادر الإنتاج .
ما النقيض من المستقبل ؟
ظروف أكثر حرية .
ظروف فيها كل الحريات التي كسبها الإنسان ، يضاف إليها أن تتحول الحريات السلبية إلى حريات إيجابية ، أو حقوق . أن تجد الحريات مضمونها : أن تكون حرية الحياة حياة صحية آمنة من الخوف والجوع والمرض . وتكون حرية الفكر علما وثقافة متاحة بدون فقر، مزدهرة بدون إرهاب . وتكون حرية العمل عملا فعليا دائماً يختاره العامل فيه القادر عليه . وتكون حرية الإرادة والتعاقد طريقاً مضموناً إلى تحقيق الغاية من العقد . وتكون حرية التملك ملكية حقيقية يمارس الإنسان فيها حريته . وتكون الحريات السياسية إسهاما إيجابياً في الحكم والسيطرة على الدولة ... الخ . كل هذا في إطار من الجدل الاجتماعي : علم الجميع ، ورأي الجميع ، وعمل الجميع ، لمصلحة الجميع . لكل حسب إسهامه في الجدل الاجتماعي . لكل حسب عمله : علما ، أو رأياً ، او عملا . حرية ايجابية بدون استغلال .
هذا هو النقيض من المستقبل إنه الاشتراكية .
ـ 23 ـ
كيف يحل التناقض ويتحقق المستقبل ؟
الطريق الوحيد هو جدل الإنسان . التصدي الحاسم للظروف وإيقاف تطورها التلقائي وتغييرها . الإنتاج ، ثم الإنتاج ، ثم مزيد من الإنتاج . تحدي الطبيعة على أسس من العلم ، وتسخير إمكانياتها بتعبئة شاملة لكل الجهود لتوفير الإنتاج . لخلق مضمون الحريات السلبية خلقاً . ليصل الناس إلى عالم الوفرة الذي يتيح لكل إنسان فيه الموضوعات التي يمارس فيها حريته ، فيصيح أكثر حرية من ذي قبل ، لأنه - حينئذ - إن أراد فعل ، بعد أن كان يريد - وله حرية الإرادة ـ ولا يجد محلا لإرادته . بعد أن كان حرا ولا يجد موضوعا لحريته . والإنسان بما له من قدرة جدلية قادر على ان يحقق هذا المستقبل . غير أنه لكي ينجح يجب أن تكون حركته إليه قائمة على أسس علمية ؛ أي متفقة مع قوانين تطور المجتمعات . وقد عرفنا الجدل الاجتماعي من قبل ، وعرفنا الديمقراطية نظاما للجدل الاجتماعي لا يتم التطور عن غير طريقه . ثم عرفنا أن بداية الجهد الجدلي الناجح تكون من المشكلة التي يلتقي بها الماضي والمستقبل ، لا يتخطاها ليقفز إلى ما بعدها ، فهو عندئذ جهد فاشل . لهذا فإن الطريق إلى المستقبل الاشتراكي يجب أن يبدأ من المشكلة التي يطرحها النظام الرأسمالي يحلها قبل أن يمضي إلى بناء المستقبل . والمشكلة هي الاستغلال الرأسمالي والقهر الاقتصادي . لقد سلبت الرأسمالية المستغلة الناس ـ كرهاً ـ الحريات التي كسبوها ، فطرحت مشكلات كانت قد حلت ، وأكرهت الناس على أن يبدأوا من البداية ، أي أن يكافحوا الظروف الرأسمالية لمجرد التحرر من الجوع ، والمرض والموت . وبمجرد استئثار القلة الرأسمالية بإمكانيات الظروف الاجتماعية ، كل من عداهم من إمكانيات المحافظة على حرياتهم الأولى ، فأصبح جهد الناس منصرفاً عن بناء الحياة الاشتراكية ، أي عن كسب مزيد من الحرية . وأصبح التحرر من الاستغلال خطوة أولى إلى الاشتراكية . ولما كانت الملكية الفردية لمصادر الإنتاج بما تتضمنه من حرية الاستعمال والاستهلاك والتصرف هي سلاح المستغلين في عالم الندرة والحاجة ؛ فلا بد - لكي يتحرر الإنسان من الاستغلال - من أن يجرد المستغلون من مقدرتهم على الاستغلال ، والقهر الاقتصادي ، ولو أدى هذا إلى تجريدهم مما يملكون .
ذلك في المجتمعات التي نمت فيها الرأسمالية . أما في المجتمعات المتخلفة ، أو النامية ، فإن التخلف هو المشكلة الأولى ، والإنتاج هو الحل الأول . أما الاستغلال الرأسمالي الذي لم يقم بعد ، فثمة الفرصة الكبرى لمنع قيامه أصلا . البداية هنا من مشكلة التخلف ، والانطلاق إلى الاشتراكية مباشرة عن غير الطريق الرأسمالي . والسبيل الى هذا أن نطهر مصادر الإنتاج من المقتدرة على الاستغلال والقهر الاقتصادي ولو بتحريم ملكيتها ملكية فردية ، أو بالسيطرة عيها ، وهي في أيدي من يملكونها .
ألا يعني هذا تجريدهم من حرية التملك ؟
لا . فقد قلنا عندما تحدثنا عن الحريات في جدل الإنسان ان انحصار الحرية في الحركة الجدلية يحدد مجالاتها واتساقها في الزمان تبعا لترتيب الحركة الجدلية ذاتها ؛ ويقدم لنا أنواعاً من الحريات غير مختلطة بل محددة كل منها بالأخرى تحديدا مصدره قانون الجدل نفسه . فمثلا إذا قلنا إن الحرية للإنسان وحده ، وإن الإنسان جهاز الجدل ، أصبحت للإنسان حريات أساسية متصلة بوجوده ؛ لأن الإنسان الجدلي يجب ان يوجد أولا ، وان يحفظ له هذا الوجود حتى يستطيع أن يتطور . وعلى هذا يكون كل ما يعدم وجود الإنسان ، او يضعفه ، او يعطله ، إهدارا لحرية الإنسان . فالقتل ، والاعتداء على الجسم ، والمرض الجسدي ٠ أو العقلي ، والجوع ، إهدار صريح ، وإجرامي ، لحرية الإنسان في الوجود . ولما كان الوجود شرط الجدل ، فإن حرية الوجود شرط التطور، أي لها أولوية التحقق على أية حريات أخرى ... وحرية الجدل ذاتها منضبطة في ترتيبها بقانون الجدل . فحرية المعرفة شرط لحرية الرأي وتحدها ، وحرية الرأي مكملة لحرية المعرفة ولا تلغيها " . وقلنا " كل هذا حتمي . لأن حرية الإنسان في هذه الحتمية ، ولا حرية له فيما يخالف ما تقضي به القوانين العلمية . لهذا كان حتما ان تحدد الحريات على ما بيناه منضبطة في ترتيبها على الحركة الجدلية " .
ولما كانت الملكية واستعمالها واستهلاكها والتصرف فيها تابعة لآخر حركات الجدل (حرية العمل أو التصرف ) فإن مداها العلمي يقف عند حرية الوجود ، وحرية المعرفة ، وحرية الرأي . وبهذا لا يجوز لإنسان أن يستعمل حرية التملك استعمالا يسلب الناس إمكانيات الحياة والمحافظة عليها ، أو يهدد سلامتهم أو يضر صحتهم ، او يحرمهم من حرية المعرفة ، أو حرية الرأي . إن هذه حريات تقف عندها حدود حرية الملكية الفردية ، بحيث لا تعتبر بعد هذا حرية بل عدواناً . ولما كانت الحريات في المجتمع تنقلب حقوقاً أي مجالات للنشاط يحد بعضها بعضاً ، فإن تجاوز حق الملكية الفردية حدوده العلمية يحيله اعتداء فلا يصبح بعده مشروعاً . وبؤرة الفساد في النظام الرأسمالي أنه يسمح لحرية التملك بأن تتجاوز حدودها فتصبح استغلالا . وقد تجاوز الرأسماليون الحدود العلمية لحق الملكية الفردية ، فأسمينا تجاوزهم قهراً اقتصادياً واستغلالا ، ضحاياه جبهة عريضة من الشعوب ومن الناس تكاد أن تشمل الناس جميعاً ما عدا المستغلين أنفسهم .
لقد ظل علماء الاقتصاد الاشتراكيون ردحاً من الزمان يحاولون تبرير إلغاء الملكية الفردية أو تحديدها على أسس اقتصادية . وأظهر محاولة تلك التي حاولها ماركس عندما قال إن قيمة كل سلعة تتحدد بالعمل وحده ، ليصل من ذلك إلى فائض القيمة الذي يتراكم ليكون ملكية فردية ، ويبرر لنفسه إلغاءها لأنها حصيلة غير مشروعة ، تتضمن في ذاتها عنصر الاستغلال . ولقد فشلت كل النظريات في ان تنال من الملكية الفردية أو أن ترسم لها حدودا على أسس اقتصادية أو مادية بحته . ولم تفلت نظرية ماركس من هذا المصير ، فإن أحدا في العالم اليوم لا يقول إن قيمة السلعة تتحدد بمقدار ما فيها من عمل فقط ، أو إن كل ملكية فردية لأدوات الإنتاج تتضمن استغلالا . ففي كتاب " أسس القانون السوفييتي " ـ مثلا ـ أضاف الماركسيون هامشاً إلى مقال الأستاذ السوفييتي اكسنبونوك عن تأميم الأرض كإجراء اشتراكي قالوا فيها : " إن التجربة ، خاصة منذ الحرب العالمية الثانية ، قد أثبتت إمكان تطوير الزراعة على أسس جماعة اشتراكية دون تأميمها خاصة عندما تكون الطبقة المنتجة متمسكة بقوة بالأرض التي تملكها .
إن الأمر كله يصبح واضحاً عندما ننظر إلى الملكية الفردية على ضوء جدل الإنسان ؛ نستعمل المنهج في تحليل مضمون الحرية فنصل إلى أن الملكية الفردية ذاتها حرية ، وانها ذات حدود علمية وأن " الاستغلال " لا يدخل في مضمون تلك الحرية ، ونستعمل المنهج ذاته في تفسير التطور التاريخي ، قنصل إلى أن حرية التملك كسب تاريخي ، ذو حدود تاريخية وأن " الاستغلال " لا يدخل في مضمونها . عن الطريقين ـ ولكن طبقاً لذات المنهج ـ نصل إلى التقاء التدليل العلمي بالتدليل التاريخي ، على ان مشكلة الإنسان الخاصة والمميزة للعهد الرأسمالي مشكلة استغلال وقهر اقتصادي ، وليست مشكلة فردية ، وان حلها يكون بتحرر الإنسان من الاستغلال والقهر الاقتصادي وليس بإلغاء الملكية الفردية .
الاشتراكية إذن ، ليست إلغاء الملكية الفردية إطلاقاً ، ولا إلغاء الملكية الفردية لأدوات الإنتاج " لحساب الطبقة العاملة " . ولكن الاشتراكية تحرير الناس في المجتمع من الاستغلال ، عمالا كانوا أو فلاحين او غيرهم ، لتخلص جهودهم لبناء مجتمع الرخاء والحرية .
قد يؤدي هذا في التطبيق إلى مثل ما تنادي به الماركسية ، كإلغاء الملكية الفردية لأدوات الإنتاج . ولكن يبقى دائماً ذلك الفارق المهم في الأساس الفكري، وهو ان الإلغاء كان ضرورة تطبيقية للتحرر من الاستغلال والقهر الاقتصادي وليس لأن الملكية الفردية إطلاقا واجبة الإلغاء . وقد يبدو هذا الفارق دقيقاً في التطبيق الاشتراكي في بلاد نمت فيها الرأسمالية المستغلة ، ولكنه يبدو وضحا تماماً وقادرا على قيادة التطبيق الاشتراكي السليم في البلاد المستعمرة حيث تعني الاشتراكية ـ أولا ـ التحرر من الاستعمار والمحافظة على الوجود القومي قبل ان يصبح تملك مصادر الإنتاج لفئة أو لأخرى ، داخل الأمة الواحدة ، مشكلة . ويبدو واضحاً وقادرا على قيادة التطبيق الاشتراكي في البلاد المتخلفة اقتصادياً ، او النامية حيث قد تلعب الملكية الفردية دورا تقدمياً ، يؤكدها كحرية ، وحيت يقتضي التطبيق الاشتراكي الإبقاء عليها في حدودها العلمية والحيلولة دون أن تنقلب إلى استغلال ، أي منع نمو النظام الرأسمالي المستغل أصلا ، والاتجاه بالتطور إلى الاشتراكية رأساً . وقد استطاع الاشتراكيون العرب أن يجدوا لهذا تعبيرا في الإضافة الرائعة التي رفعوها شعارا للاشتراكية العربية : " سيطرة الشعب على أدوات الإنتاج " بدلا من " إلغاء ملكية أدوات الإنتاج " . وهو تعبير قوي عن الحرية كأساس للاشتراكية وغاية لها . وقد تصل السيطرة إلى حد الإلغاء، ولكن السيطرة أشمل وأكثر إيجابية - وهنا يضيء ذلك الفارق الفكري في الأساس ما وراء الشعار المرفوع ، حتى بالنسبة إلى ما يقتضي تحرر الإنسان من الاستغلال إلغاء ملكيته الفردية أو تأميمه . إذ نستطيع على ضوئه أن نعرف ما إذا كان التأميم إجراء اشتراكياً او غير اشتراكي ، وذلك بمعرفة من تؤول إليه ملكية مصادر الإنتاج التي ألغيت ملكيتها الفردية . إن آلت إلى العاملين المباشرين على أدوات الإنتاج ( البروليتاريا ) فطبقة بدلا من طبقة ، والاستغلال والقهر الاقتصادي ( الديكتاتورية ) مقيمان ، وتبادل مراكز العبودية ليس حرية جديدة . وان آلت الى الدولة الديكتاتورية ، فحلت إرادتها المستبدة محل إرادة الملاك المستبدين ، فالعبودية لم تتغير ، وليس هذا من الاشتراكية في شيء . وإن آلت إلى مجموع الشعب ، تمثله الدولة الديمقراطية ، فتلك إذن اشتراكية . وبهذا تتحدد غاية النظام الاشتراكي واتجاه الاشتراكية على وجه يتفق مع غاية الإنسان واتجاه تاريخه ، وتصبح بهذا وحده نظاما تقدميا . وبهذا يفسر لنا جدل الإنسان كيف أن إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ، أو تأميمها ، ليس دائها إجراء اشتراكياً ـ فقد يكون رأسمالية دولة ـ وان العبرة بأن تكون غايته تدعيم حرية الشعب وتحرره من الاستغلال .
ـ 24 ـ
من الذي يرشحهم قانون التطور التاريخي لبناء المستقبل الاشتراكي ؟
كل ضحايا الرأسمالية ، كل الشعوب المستعمرة . كل العمال والفلاحين والمثقفين والكتاب والفنانين ، الذين فرضت عليهم الرأسمالية ان يعيشوا على ما تقدمه لهم ، وألا يتطوروا إلا في الحدود التي يسمح بها الرأسماليون . كل الذين يعانون المشكلة ويتطلعون إلى حلها . كل أولئك قادرون على ان يتحرروا من التخلف والاستغلال ، وان يصارعوا ظروفهم ويحققوا بالإنتاج بناء المستقبل : الاشتراكية .
لكن الرجعية تفرض على جهودهم عبئا معطلا . والرأسماليون الذين استغلوا المجتمعات يستعملون مقدرتهم الاقتصادية في حماية النظام الرأسمالي وامتداده في المستقبل ومنع تغييره .
وهكذا تتحدد جبهة التقدميين وجبهة الرجعيين .
ولا بد ، لكي يتفرغ التقدميون لقهر الظروف وبناء الاشتراكية ، من شل حركة الرجعيين وتجريدهم من المقدرة على إعاقة التطور . في هذا الصراع السياسي الذي يثيره الرجعيون بمحاولاتهم إعاقة التطور إلى الاشتراكية ، يقف كل التقدميين جبهة واحدة في مواجهة الرجعية . غير ان تجميع التقدميين وتنظيمهم وقيادتهم مهمة منوطة " بالمثقفين الثوريين " كتاباً كانوا او عمالا أو فلاحين . أولئك الذين اجتمع لهم شرطان : الوعي والقدرة الثورية . وأيا كانت مرحلة الانطلاق فإن اتجاه التقدميين إلى الاشتراكية يكسبهم صفة الاشتراكين . وتكون مهمتهم الأولى قهر الرجعية وفرض سيطرة الشعب على مصادر الإنتاج ولو أدى لهذا الى " إلغاء " الملكية الفردية لبعض أو كل أدوات الإنتاج ليتحرر الناس من الاستغلال . غير أن الاشتراكية التي قد تلغي الملكية الفردية لتحرر الإنسان من الاستغلال ، إنما تفعل هذا لتشل مقدرة الرأسماليين على الوقوف في سبيل المستقبل ، ولتطلق للإنسان مقدرته الجدلية لينتزع مستقبله من ظروفه . ويبقى أمام الاشتراكيين بعد هذا أن يصارعوا ظروفهم إلى أن يتحقق عالم الرخاء الذي يوفر لكل إنسان ما يحتاجه من تلك الملكية الفردية التي ألغيت أول الأمر، تجردها الوفرة والديمقراطية من إمكانية الاستغلال والقهر، فيحتفظ الإنسان بها حرية مكسوبة يضاف إليها التحرر من الاستغلال حرية مكتسبة .
تلك هي الاشتراكية : مستقبل يحقق غاية الإنسان ، ويتسق مع اتجاه التاريخ إلى الحرية . تلك هي الاشتراكية ؛ حريات مضافة أخيرا إلى الحريات التي اكتسبت أولا . لهذا اخترنا عنوانا لهذا الفصل " الحرية أخيراً .." بدلا من " الاشتراكية " وإن كانت هذي تساوي تلك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق